لقد استطاع الغرب بعد تاريخ طويل من الصراع والهرج والمرج أن يحل هذه المشكلة وإن كان بنسبة معينة بمفهوم "العلمانية" التي تعني الفصل بين أمور الدنيا وأمور الدين. غير أننا يجب ألا ننسى أن العالم لم ينظر أبداً إلى "العلمانية" وكأنها نظام عقيدة أو أنها تستطيع حل جميع المشاكل، ولا على أنها الأساس الوحيد في هذا الصدد... لم ينظر إليها هكذا ولا يمكن أن ينظر. فهي تفسَّر مجرد صيغة للتفاهم، وتعد بمثابة ضمان لحرية الدين والعقيدة. والبلدان التي عدتها وفسرتها هذا التفسير لم يحدث فيها أي صراع بين الدين والعلمانية، بل سارا جنباً إلى جنب دون مشاكل. ولكن هناك بلدان جعلت من العلمانية وسيلة ضغط على الدين وقهر له، ولم يوضع في هذه البلدان أي تعريف علمي للعلمانية، ويبدو أن هذا الأمر ينبع من بُعد هؤلاء أنفسهم عن الدين، وكذلك من رغبة بعض المخابرات الأجنبية في إحداث فتن واضطرابات في ذلك البلد. لذا فالظاهر أن هذا الصراع بين الحكومة والدين سيستمر زمناً ما في تلك البلدان التي لا تزال تعيش في الظلام.
ولا شك أن من الضروري عدم تناسي دور خصائص الإسلام وطبيعته في هذا الأمر فهو عامل مهم في وقوع مثل هذا الصراع. فإن تمت محاولة التأليف بينه وبين مفاهيم غريبة عنه دون الأخذ بنظر الاعتبار خصائصه ومميزاته، وبذلت المحاولات لإخضاعه لتفسيرات غريبة عن روحه، واعتدي على سماويته تحت اسم التجديد والتطوير أو غيرهما من المسميات الباطلة ومن الهذيان فسيؤدي هذا إلى مشاكل عويصة في مستوى الإنسانية.
قبل كل شيء يجب أن نعلم أن الإسلام قد أقيم على أسس عقائدية قوية ومتينة ومترابطة فيما بينها، وهو نظام كامل في العقائد والأخلاق، وعلى حياة روحية مؤيدة بالعقل والوحي، وهو مفتاح للجنة وللحياة الأبدية يشبع حاجة الضمائر والقلوب، ومجموعة متكاملة من التعاليم الإدارية والاقتصادية النابعة من مصدر سماوي تحل المشاكل الفردية والعائلية والاجتماعية. إن تناسي كل هذا يعد خيانة له واعتداءً واضحاً على معتنقيه. وحتى لو تم إسكات أصوات معتنقيه بمختلف وسائل الضغط والإكراه، فإنهم سيظلون يدمدمون فيما بينهم بغضب، ولن يصفحوا عن أصحاب هذا الاعتداء والقهر والخيانة.
والحقيقة أن أوامر الإسلام المتعلقة بما جاء أعلاه ووصاياه وقيامه بتأمين السلام الاجتماعي، وتحقيق الحوار القائم على المسامحة واللين بين الأمم والشعوب يعد في غاية الأهمية من ناحية تحقيق الأمن العام في كل موضع ومكان يصل صوته إليه. والذين يهملون هذا الأمر اليوم ويتناسونه سيندمون غداً أشد الندم يوم لا ينفع الندم عندما يرون الأجيال وهي ممزقة الأوصال مثل كتاب تناثرت أوراقه ذات اليمين وذات الشمال.
وكم كنا نتمنى لو تم الأخذ بنظر الاعتبار تقاليد هذه الأمة وأعرافها وعاداتها ووضع الخطط والمشاريع على ضوئها في جميع المواضيع المتعلقة بالأمة وبمصالحها. كنا نتمنى لو لم يتم السعي لتخدير هذه الأمة العريقة بمذاهب واهية متهافتة. كنا نتمنى عدم وقوع أي ضغط أو قهر على بعضهم لمجرد ارتباطهم القوي بدينهم وديانتهم. وما أجمل لو كان كل فرد في هذه الأمة المباركة موقراً لحرية الوجدان والعقيدة محترماً لها.
كان لنا في وقت ما دين عظيم كالإسلام (وهو لا يزال موجوداً وإن كنا نعيشه بشكل ناقص). وهذا الدين هو لب وعصارة جميع الأديان السماوية وروحها... دين شامل وكامل وعالمي. ولا شك أن أهم جانب من جوانب شموله وكماله هو قبوله وإيمانه بجميع الأنبياء السابقين. وهو ينظر نظرة خاصة إلى جميع منتسبي هذه الأديان على أنهم "أهل كتاب" ويجعل لهم موقعاً متميزاً، ويعطي توجيهات معينة في حقهم. ولم يكتف بإعطاء موقع خاص لهم بل وضع كل هذه القواعد موضع التطبيق العملي إزاءهم.
لقد عامل الرسول صلى الله عليه وسلم منذ البداية منتسبي مختلف الأديان معاملة متسامحة جداً ولينة جداً وشجع أصحابه وتابعيه على القيام بالشئ نفسه ودعاهم إلى إيفاء حق كونهم أمة وسطاً (أمة مثالية). لقد استجاب المسلمون لهذه الدعوة (إن استثنينا قيام بعض ضيقي الأفق والوجدان في بعض العهود بتصرفات خشنة نابعة عن تعصب ضيق) واحترموا العقائد المختلفة للآخرين وفلسفاتهم، ولم يقوموا أبداً بأي عمليات إكراه ضد أي أحد بسبب فكره أو عقيدته أو دينه، ولم يكن باستطاعتهم أصلاً القيام بمثل هذه الأعمال لأن القرآن الكريم يذكر بصراحة "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" (البقرة: 256). وهكذا أشار إلى كيفية التعامل مع الآخرين، ولم يسمح للمسلمين بأي انحراف في هذا الموضوع.(/3)
أجل!.. إن الآية المذكورة أعلاه عندما تذكر بعدم وجود إكراه في الدين وتندد بالإكراه كانت توجه الأنظار إلى سلوك طرق الاستدلال في أمور الفكر والعقيدة والدين. كما أن البعض فسروا هذه الآية أيضا بأنه لا دين في الإكراه، أي أنه لا يوجد إكراه في الدين في أي أمر من الأمور. وقبل كل شيء فنحن عندما نتناول الدين بالتعريف نراه لا يستند إلى أي شكل من أشكال الجبر والقهر أو الإكراه، بل هو قائم على الاختيار الحر، بل يمكن القول استناداً إلى الآية الكريمة أعلاه أن الدين لا يكره أي إنسان على اعتناق أي دين أو أي فكر دنيوي، لأنه بعد أن تبين الرشد من الغي والحق من الباطل والخير من الشر والنور من الظلمات والهداية من الضلالة فإن القيام بأي نوع من الإكراه والقهر والإجبار يعد عدم توقير واضح للإنسان ولإرادته.
وحسب منطوق الآية "لا إكراه في الدين" فلم يستعمل في التاريخ الإسلامي أي جبر أو إكراه للدخول في الدين الإسلامي مع أن قبوله والدخول فيه يثمر سعادة مطلقة وأبدية. على العكس من هذا فإن الدين الإسلامي تعهد بصيانة الآخرين من الإكراه والقهر، وضمن حرية كل فرد في عيش دينه بكل راحة واطمئنان وتكفل بهذه الحرية. وعلاوة على هذا فقد عَدَّ الإكراه في الدين عدم احترام للإنسان ولروح الدين أيضاً. عده عدم احترام للإنسان لأنه مخلوق ذو إرادة حرة، وقيامه بفعل ما يرغب فيه من أهم ما يميزه عن المخلوقات الأخرى. وهو عدم توقير لروح الدين لأن الإيمان يستند إلى الإخلاص وإلى إذعان القلب عن طواعية. كما أن الإيمان والعمل إن لم يكونا مستندين إلى قبول القلب فلن يكونا مقبولين لدى الله تعالى.
أجل!.. إن الإيمان الذي يُجبر عليه الإنسان ويكره عليه لن يكون أيماناً حقيقياً، ولا يدعى من يحمله مؤمناً، بل يُعدّ منافقاً. ويكون عمله تظاهراً وزيفاً.
ثم إن الدين ليس نظاماً (System) يَنظر إليه الناس بكراهية لكي يقوم بإكراه الناس على قبوله. فهو نبع ومصدر للخير وللجمال ويتقبله الناس بكل حب. لذا فإن سلوك طريق الجبر وطريق إكراه الآخرين لقبول الدين بدلاً من تبليغه للناس وشرح المسائل الدينية بشكل حضاري يولد النفور منه. وهذا عدم احترام وعدم توقير للدين. وعندما يُذكِّرنا القرآن الكريم بأنه "لا إكراه في الدين" وأنه لا يقبل هذا فإنه يذكر في الآية نفسها بأنه "قد تبين الرشد من الغي"، إذن فإن تبليغ الدين وإيضاح الأدلة على صدقه يكون بإيراد الآيات الكثيرة المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، وإيراد بيانات وأقوال ورسائل الرسل الكرام وأقوال المرشدين الكبار من أبطال الإيمان، أي يكون بطريق الإقناع وإيراد الأدلة فهذا هو طريق الأنبياء وطريق الذين يطبقون الإسلام بشكل صحيح.
لقد فهم أجدادنا هذا الأمر فهماً جيداً، لذا سلكوا سبيل الإقناع وإيراد الأدلة عند تقديم دينهم وتوضيحه، ولم يستخدموا طرق القهر وإكراه الآخرين لقبول دينهم وعقيدتهم أبدا. لذا عاش الجميع كل حسب عقيدته واستطاعوا التعبير عن أنفسهم بكل طمأنينة ودون خوف، ولم تقابلهم في هذا الأمر أي مشكلة قانونية أو إدراية. لذا ففي مثل هذا الجو من التسامح عاش اليهودي والمسيحي وكل من اتخذ له عقيدة أو فلسفة ما دون أن يتعرضوا من ناحية الحرية الدينية والعقائدية لأي ضغط أو إكراه. فلم يُطْرَدوا من أوطانهم ومساكنهم، ولم يمثلوا أمام المحاكم الظالمة. لقد كان الناس أحراراً في اختيار دينهم، وتمت المحافظة على حياتهم وصيانتها ما داموا باقين على العهد ولم ينكثوا به، وما داموا يقومون بوظائفهم كمواطنين صالحين. وكما يحدث اليوم فإن الذين أخلّوا بعهودهم، ولم يؤدوا مسؤولياتهم كمواطنين، أو حاولوا تمزيق أوصال البلد، ورفعوا راية العصيان ضد النظام المشروع القائم، أو تورطوا في عمليات إرهابية وأفسدوا في الأرض بمختلف أنواع الفساد، وحاولوا القبض على الحكم عن طريق استعمال القوة الغاشمة ليظلموا الشعب... كل هؤلاء عوقبوا حسب جرائمهم وباسم القانون للمحافظة على أمن البلد وسلامته.
وكما يتصرف الإسلام هذا التصرف من ناحية الفكر والوجدان كذلك نراه لا يسمح أبداً بأي إكراه في مواضيع العبادة والمعاملات. وعلاوة على هذا فإن الإسلام يقضي بعدم التعرض في حالة الحرب لدين من قبل شروط المواطنة وتعهد بدفع الضريبة. بل قَبِلَ هؤلاء ولم يتدخل في ديانتهم. أما الذين أصروا على الحرب وغُلبوا فيها فقد أعطى لهم حق الذمي، واكتفى بأخذ ضريبة معينة منهم مثلما كان يأخذ الضرائب من مواطنيه، ولم يتدخل في حريتهم الدينية.
وكما تصرف في موضوع حرية العقيدة والوجدان مع الذين دخلوا تحت وصايته بملء حريتهم، تصرف بالشكل نفسه مع المغلوبين أمامه في الحروب وطبق عليهم القواعد نفسها، أي أعطى لهم حرية التصرف والسلوك بشرط عدم الإضرار بالدولة وبالأمة.(/4)
هذا التسامح الشامل والعميق في موضوع حرية الدين والعقيدة للإسلام لم يكن محصوراً فيمن دخلوا تحت حمايته من أهل الأديان الأخرى، بل راقب مدى تطبيق هذه القواعد والقيم في العالم أجمع، وهرع إلى نجدة المظلومين والمغدورين وساعدهم ومد يد المعونة للمحتاجين، وحاول إقامة العدل في كل مكان. والأكثر من هذا ان صراعه المادي كان مطبوعاً بطابع الحفاظ على الناس من الإكراه ومن استعمال العنف ضدهم. فقد وقف ضد إكراه الضمائر في كل مكان استطاع الوصول إليه، وهيأ الأساس لقبول الإيمان برضا القلب، وذلك بعقد الاتفاقيات أحيانا أو بالتدخل – عندما كان قادراً على ذلك – بمفرده لإنقاذ بعض الأمم المظلومة التي كانت تتعرض إلى إكراه وعنف لتبديل دينها أو فكرها أو فلسفتها خلاف رضاها، ومنع استعمال جميع أعمال الإجبار والإكراه ضدها، وجعلها حرة في اختيار دينها وطريقها في الحياة ونوع إدارتها، بشرط ألا تقوم بإيذاء الآخرين، وأصبح قوة ضامنة في هذا المجال. وقد أدى هذا إلى تأمين الأمن والسلام العام والطمأنينة للأمم المختلفة المنضوية تحت لوائه، وبتأمين احترام الرسالات التي بعث من أجلها الأنبياء، وقبل الآخرين بكل توقير، وكان هذا شيئاً مهماً للغاية.
إن ما يَعِدُه الإسلام للإنسانية من ناحية الحرية الدينية والوجدانية صريح وواضح جداً لكل عين... ويكفي هنا إلقاء نظرة عاجلة على التاريخ. إن الحرية الدينية والوجدانية التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم للأقليات الدينية المنضوية تحت رعايته وطُبِّقت بكل حساسية في عهد الخلفاء الراشدين، ولم ينحرف أحد عنها قيد أنملة. ثم روعيت هذه الناحية رعاية تامة في العهود التي تلت ذلك العهد. ففي العهد الأموي الذي تلا عهد الراشدين – عهد النور- وفي العهد العباسي وما بعده، وفي العهد العثماني قام الحكام المسلمون – إذا استثنينا حالات نادرة جداً – بتأمين حرية العقيدة للأقليات وحرية عيش هذه العقيدة وإقامة شعائرها دون أي موانع أو عقبات والسماح لها بتأسيس جمعيات وأوقاف مختلفة لتعليم أطفالها عقائدها والمحافظة على كيانها وتعمير بيوت عبادتها من كنائس وبيع وبناء الجديد منها. أي أن هذه الأقليات استفادت فائدة كاملة من جميع حقوق المواطنة، ولم يطلب منها أي شيء خارج رعاية القوانين والأنظمة السارية في البلد. وبعد العهد الأموي والعباسي يعد مسلمو الأندلس والعثمانيون أمثلة مشرقة في هذا الخصوص.
لقد أكسب هؤلاء المسلمون الغرب الشيء الكثير في مجال العلم والمعرفة، وفتحوا أمامه الطرق المؤدية إلى عصر النهضة، وكانوا من أوائل بناة محاسن المدنية وفضائلها، والمعماريين الأول لها. وقد سجل التاريخ لهم هذا الفضل. فقد عاشوا دينهم ولم يتعرضوا لدين أحد ولا للغته، وأظهروا إدارة لا تجد لها نظيراً إلا في أدب المدن الفاضلة (الاوتوبيا)، ولكن كم كان مؤلماً أنه عندما سقطت دولة هؤلاء الذين أغرقوا العالم في النور وتهدمت تعرضوا لسيوف الصليبيين وذبحوا ولم تُعط لأي فرد منهم حرية العيش في بلدهم. كما ارتكبت مظالم فظيعة في معظم البلدان الإسلامية – التي تعرضت للاحتلال- بدءاً من بلدان البلقان إلى بلدان شمالي أفريقيا والمغرب ومصر. فمقابل سماحة المسلمين وشهامتهم قامت القوات المحتلة بسحق أهالي المنطقة واستغلالهم ونهب خيراتهم والتدخل في شؤون إدارتهم حيث أقامت عملاء لها حكاماً على هذه البلدان، أو قامت بفرض الحصار عليهم ولم توقر على الإطلاق حرية الدين والعقيدة.
وأنا أعتقد أن كل هذه الأمور تشكل أمثلة واضحة وجيدة على الفرق الموجود بين هاتين الحضارتين في موضوع حرية الدين والوجدان. وأنا أعلم بأنه عندما نقوم بتقييم أناس عهد معين فلا فائدة من وضع عناصر جديدة للخصام، أو إثارة حساسيات جديدة. ولكن عندما نبين محاسن مدنية ما ومساوئ مدنية أخرى فمن الضروري تسليط الأضواء على الفروق بينهما، كما أن من الواجب علينا القيام بالتذكير بهذا الأمر عندما نرى أن الذين أساءوا وظلموا في العهود السابقة يقومون الآن بتكرار المظالم نفسها. وعندما نقوم بالتذكير بهذا الأمر فلا ندري هل يكون هذا مفيداً في جعل الظالمين من ذوي الأرواح البدائية والوحشية في الداخل والخارج الذين لا يقرون بحرية الفكر والوجدان يكفون عن هذا ويرتدعون أم لا. ولكني متأكد أنها مسؤولية لا بد من أدائها.
=========(/5)
حرية الرأي في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
ما أكثر الأصوات المؤيدة والمناصرة والداعمة التي ترتفع بحزم وقوة كلما أثيرت قضية تتعلق بالدين والقيم ، حيث نرى الناس – من كل الطوائف دون استثناء – يجتمعون في أضخم تجمع بشري للدفاع عن الثقافة والمثثقفين الذين تنتهك حرمتهم في عقر ديارهم ويمنعون من التعبير والإبداع الذي لا يجد له الشغل الشاغل للإعلام المرئي والمسموع ، هذا الإعلام الذي لا يكتفي بالدفاع عن ( المثقف ) بل إن بعض أحهزته تحضر – وعلى نفقتها الخاصة – ( مثقفين ) من خارج البلد ( وكأن الموجودين لا يفون بالغرض ) وذلك بهدف بحث مواضيع فكرية وإسلامية تمس العقيدة والشريعة الإسلامية وتؤدي إلى إثارة الفتنة بين المسلمين .
إن ما يلفت النظر في هذه القضية نقاط عدة منها :
1- أن أبرز من يقوم بهذه الأعمال هم علمانيون مهما كان انتماؤهم الطائفي ، وهم يسعون بجهد متواصل إلى أن " يكفّ المسلمون عن إسلامهم ويكفّ علماء الدين عن دراسة الدين والدعوة إليه وأن يكف المفكرون الإسلاميون عن استلهام الدين في مختلف شؤون الحياة ، ، لأنهم يخشون- كما يخشى العالم بأسره – من المدّ الإسلامي الذي أصبح بعد انهيار الشيوعية الخطر الأول الذي يهدد القُوى الغربية الذين يدافعون عن مصالحها في لبنان .
وهم من أجل تنتفيذ هدفهم التدميري هذا يستخدمون الوسائل المتاحة لهم كافة فيستضيفون الأشخاص الذين أجمع علماء الأمة على تكفيرهم ، ويتحدثون معهم في مواضيع فكرية لا يفقهها المتكلم ولا المحاور ولا حتى المُشاهد ، والهدف طبعاً لا يُخفى على المسلم البسيط الذي يدرك أن الحرب انواع وهي وإن انتهت على الأرض فهي لم تنته في مَيدان العقول والأفكار .
كما أن لرجال الأعلام أيضاً ضيوفاً من ( المثقفين )وضعوا دينهم جانباً وشمّروا عن سواعد أقلامهم وموهبتهم الروائية والشعرية للدفاع عن حرية الرأي والكلمة والإبداع مستخدمين كل وسائل السخرية والاستهزاء والتطاول على المقامات الدينية الإسلامية معتبرين ان الرأي الصادر عن العلماء هو رأي شخصي وليس حكم الإسلام .
2- أن من يتبجّح بالحرية دون إدراك لمعناها الأدبي والشرعي ولحدودها – إلا كونها تُطلق العِنان للجاهل والكافر على حد سواء- يخدع نفسه قبل ان يخدع الآخرين لأنه يريد أن يثبت أن ما يفعله هو دليل عقلانية وتنوير وإعمال الفكر ، بينما في الحقيقة إن ما يسعى إليه هو إطلاق العنان لغرائزه وأهوائه التي تقرّبه للبهيمية ، لذلك فهو يسعى لإيجاد ستار عقلي يبيح له هذا الفعل ، وقد أحسن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حين وصف الملحد بقوله : " إن المُلحد الذي يمارس أمامك حياة التحلل والإلحاد ليس مشدوداً إلى حياته بسبب فكر مجرد كما تظن ، ولكنه مشدود إليها بأهواء نفسية مستحكمة" .
وهؤلاء الملحدون الذين حرمهم الله عز وجل من الهداية وقال فيهم : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هُداها ولكن حقَّ القول مني لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين " السجدة ، 13.
إنما منحهم هذه المنزلة نتيجة ممارستهم لحريتهم في الاعتقاد الشخصي ، لأن الإيمان فعل قلبي ولا يمكن ان يكون بالإكراه ، لهذا قال عز وجل : " لا أكراه في الدين" البقرة،256 . وقال أيضاً : " ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تركه الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس ، 99.
إن الإيمان بالله عز وجل شرف وتكريم وهؤلاء لا يستحقون هذا الشرف لهذا حرمهم الله منه ، إلا أنه سبحانه وتعالى جعل حرية المعتقد عند هؤلاء مشروطة بعدم نشر الفساد بين المسلمين وعدم الاعتداء على حرمة هذا الدين .
لهذا فهناك فرق بين حرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير في الإسلام ، فحرية الرأي في الإسلام تستلزم شروطاً ومبادئ لا يمكن التغافل عنها منها :
أ- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية لا بد أن يكون صادراً عن مسلم عاقل يتمتع بالأهلية كما يتمتع بمقدرة ثقافية علمية ، فليس من حق أي انسان ان يتكلم في موضوع يجهل أبعاده .
ب- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية يجب أن يصدر عن المعنيين بالأمر، فليس من حق الإنسان ان يُدلي برأيه في موضوع لا يخصّه ولا يربطه به صلة مباشرة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " رواه الترمذي .
ج- أن إبداء الرأي يجب أن لا يتطاول على الإسلام والمقدَّسات الدينية للمسلمين ، لهذا فحرية إبداء الرأي يجب أن تخضع للقاعدة الفقهية الهامّة المستقاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاضرر ولا ضرار " .
إن العبث بالنصوص الشرعية المتمثلة في القرآن والسُّنة على وجه التحديد ، ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين بتذرعون بحرية التعبير أو البحث ، ويرّوجون لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النصوص ، أو نسبية الأحكام الشرعية ، أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره " .(/1)
3- أن مما يساهم بشكل غير مباشر في ازدياد هذه الموجة التهجّمية على الإسلام هو غياب الدَّور الذي أناطه الإسلام بكل مسلم ، الا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيما تتجمع ألوف الأصوات لدعم المنكر يختفي الصوت الذي يدافع ويبرر ويدعو ويرشد ، مما جعل الآخرين يتمادَوْن في غيهم لعدم وجود من يردعهم وقد استخدم احدهم مثلاً شعبياص عندما تهجم على مقام الإفتاء نعيده إليه هنا " يا فرعون من فَرعنَك ؟ قال : ما لقيت حدا يردني ".
ألا يكفي انتهاك حرمة القرآن سبباً للوقوف في وجه اعدء هذا الدين ؟ ألا يجب على كل مسلم نصرة هذا الدين بما أُتيح له من وسائل ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .
لماذا يريد المسلم اليوم ان يقفز إلى الاستنكار بالقلب ويتخلى عن باقي الوسائل التي لا تزال متاحة أمامه ؟
إن اعداء الإسلام يستخدمون سلاح اللسان ويتمسكون به ويقاتلون من أجله ، فلماذا لا يستخدمه المسلمون ليدافعوا عن أنفسهم وعقيدتهم ويسيتفيدوا من حرية الرأي التي يريد الآخرون احتكارها لنفسهم ؟
إن من أسباب فقدان النصر الجُبن والضعف وعدم التوكل على الله عز وجل ، قال سبحانه وتعالى : " ولينصرن الله من ينصره " الحج ، 40.
إن المسلم اليوم يتوكل على الله في حظوظه وشهواته ولا يتوكل عليه في نصرة دينه وإعلاء كلمته ، ولا يقوم بواجبه الديني في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يظنن أحد أن الجهاد يكون فقط بالسلاح بل إن " الجهاد بمفهومه الواسع يعني أي حركة إيجابية للمسلم ( وفق منهج الله ) يقاوم بها أي فكرة أو سلوك او نظام منحرف داخل نفسه أو داخل المجتمع ( المحلي والعالمي )" .
إن المسلمين اليوم لم يكتفوا بترك هذه السنن بل منهم مَن وقف في صَفّ الكفار والملحدين إما جهلاً بدينه أو جُبناً وتمسكاً بمصالح دنيوية وصل إليها ، وقد وصف ابن تيمية حال مثل هؤلاء بقوله : " كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس أمران بُغض الكفر وأهله وبُغض نَهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال ، وقد قال تعالى : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " الحجرات ، 15.
وقال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بامره والله لا يهدي القوم الفاسقين " التوبة ، 24.
وفي الختام نذكر بعاقبة تَرك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من أن يمسّنا عذاب الله الذي حذّر منه رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله : "والذي نفسي بيده لتامُرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُوُنه فلا يستجاب لكم " رواه أحمد .
د. نهى قاطرجي(/2)
حرية الرأي
هاني بن عبد الله جبير [*] 12/2/1427
12/03/2006
(كفل الإسلام حريَّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي والتعبير تعني : تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا، فيما يحقق نفع المسلمين، ويصون مصالح كل من الفرد والمجتمع، ويحفظ النظام العام، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق جل وعلا، فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يُغضب الله، أو يُلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويُخل بالنظام العام وحسن الآداب) (1).
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصِّل إليه، منها ما نص الشارع على عينه بإباحة أو تحريم، ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم اعتبارها، كوسائل الإعلام الحديثة .
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعٍ كبير لتناول الأطروحات، وتبادل الآراء، وتعاطي الحوارات، كما يشاهد ما يسلكه كل ذي رأي من وسائل للتعبير عمَّا في نفسه ليستشعر أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة.
والباحث الشرعي إذ يدرس أي نازلة أو يبحث في أي فكرة؛ فهمّه تنزيل الأحكام على الوقائع، ورائده تطلُّب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد استطلاع الواقع ونشدانه .
وفي هذه الأوراق القليلة نظرات عاجلة تبيّن ضوابط في هذا الموضوع؛ علَّها تكون مقدمة لدراسات أكثر جداً وتوسعاً .
* أولاً : قواعد ومقدمات :
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان الحكم الشرعي لها، وسأتناول هنا مقدمات أصول أربعة :
الأولى : مجالات إبداء الرأي .
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة، سواء كان متعلقاً بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة، فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعملبمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه، "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب: 36].
وهذا أظهر من أن يُستدل له ؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره . ومعنى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً و بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ؛ هو التحاكم إلى منهاج الله تعالى ورد الأمر إليه، ولذا نفى الله تعالى الإيمان عمن لم يستكمل هذا فقال: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" [النساء: 65].
وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو معنى الإسلام، فإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام لله والانقياد له، ومن لم يرد إليه الأمر لم ينقد له . ودين المسلمين مبني على إتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهي الأصول المعصومة التي لا يجوز تجاوزها أو الخروج عنها (2). وعلى أساسها توزن جميع الآراء والأقوال والأعمال (3). قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه" [الحجرات:1]، قال الحافظ ابن كثير في معنى الآية: [أي لا تُسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم ؟ قال: بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد ؟ قال: أجتهد رأيي. فضرب في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله" (4). فالغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدَّمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما - : ( "لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه": لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة". وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله تعالى على لسانه") (5).
وعلى هذا الهدي في الرد إلى الكتاب والسنة وعدم مخالفتهما مهما ظهر بالرأي والفكر مخالفتهما للمصالح ؛ سار سلف هذه الأمة .
قال أبو الزناد - رحمه الله - : "إن السنن لا تُخاصَم، ولا ينبغي لها أن تُتبع بالرأي والتفكير، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين ، ولكنه ينبغي للسنن أن تُلزم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه" (6).
ولذا كان مجال الرأي في الإسلام مجالاً محكوماً بالكتاب والسنة والإجماع ، فما قرر فيها فهو أصل معصوم لا يُخرج عنه .(/1)
وإذا أعمل الإنسان رأيه وقرر نتائج بناها على مقتضى المصالح أو غيرها وهي معارضة لكتاب الله وسنة رسوله ؛ فقد راغم الشرع ولم يقابله بالرضى والتسليم (7).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورّثها ولدها ومن معهم، فقام حَمَل بن النابغة الهذلي فقال : يا رسول الله ! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؛ فمثل ذلك يُطَل ؟ (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع" (9).
قال العلماء إنما ذم سجعه لأنّه عارض حكم الشرع ورام إبطاله، ولذا شبهه بالكهان الذين يروّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين (10).
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع ؛ فإن للمسلم أن يتخذ فيه رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي . وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر الله به وسكت عن طريقة تنفيذه، أو ما لم يرد به نص محكم . ولذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم أن (لا اجتهاد في موارد النص ) (11) ، وأن ما عارضالنص فاسد الاعتبار (12).
الثانية : صاحب الرأي .
ذمَّ الله تعالى من يقول بلا علم، فقال : "وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَيُفْلِحُونَ" [النحل:116] .
قال الشاطبي : "الاجتهاد في الشريعة ضربان : أحدهما المعتبر شرعاً ... والثاني غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه ؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض . وخبط في عماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره ؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل الله، كما قال تعالى : "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم" [المائدة:49] (13).
وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو في كل علم، فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير إتقان له .
وقد ذم الله تعالى من يتبع الظن: "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً" [يونس:36]. وجعل طاعة من يتبع الظن ضلالاً: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ" [الأنعام:116].
فلا بُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه ، وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد .
والله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [النحل:43]، وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به .
ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما يُسْتشارون فيه، قال ابن خويز منداد : ( واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعَلَّق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها ) (14).
فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به .
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه، ولذا ذكر الفقهاء أنه يُشرع الحَجْر على المتطبب الجاهل (15) ، فكذلك غير الطب يُمنع مَنْ لم يكن مؤهلاً من إبداء رأيه ؛ إذ لا يوثق برأيه .
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف، لكن ليس له أن يصف العلاج المركَّب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً .
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم بالشرع فقط .. وهكذا .
والسبب في هذا أن الرأي المعتبر هو المبني على العلم والتثبت، وأما ما لم يُبن عليهما فهو محض ظن لا يغني عن الحق شيئاً، ومعلوم أن للخيالات والأوهام رواداً لا يعبأ بهم في مجال الفكر، ومن هنا كان أهل العلم لا يعتبرون بكل خلاف حتى قيل :
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
وإذا أريد قياس الرأي ومعرفة مكانته استند الناظر إلى ما استمد منه ؛ هل هو العلم والتثبت، أو بني على المصالح الشخصية والعصبيات الجاهلية ومحض الهوى ؟
وقد قرر أهل العلم أدلة يُبنى عليها الحكم الشرعي، وطرقاً للاستدلال والترجيح فيها توصّل للمطلوب، وإذا راعى أهل العلم ذلك في الأحكام الشرعية ؛ فهو تنبيه على اعتبار المنهج نفسه في سائر معمولات الذهن، فلا بد أن تُبنى على دليل معتبر، ولا بد من مراعاة طرق الترجيح بين الآراء .(/2)
وكما يُشترط لإبداء الرأي : القدرة على ذلك، والتأهل له، واستناده على ما يعضده ؛ فإنه يُشترط فيه أيضاً : إرادة الحق والخير، وهذا من معنى الإخلاص وحسن الإرادة التي هي مناط خيريّة العمل وصلاحه وقبوله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : » وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما : أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد .. بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم : "إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ" [النجم:23]، ويجزمون بما يقولون بالظن والهوى، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، وكانوا ظالمين كالمغضوب عليهم، وجاهلين كالضالين .
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه ، وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه، وثَمَّ قسم آخر وهو غالب الناس، وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة ، فتجتمع الشهوة والشبهة .
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء، وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب « (16).
الثالثة : مراعاة مآل الرأي .
إنَّ إبداء الرأي الذي يستند لأصل ولا يخالف الشريعة، وإن كان في أصله مباحاً، قد ثبت الإذن بإبدائه بحسب الأصل، غير أنه في بعض الأحوال قد ينجر عنه في مآله من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة والعدل ، فتكون الآراء المباحة أو المشروعة مؤدية إلى خلاف مقاصدها .
ويحدث ذلك بسبب عدم التبصّر بمآلات التصرّفات والآراء والأقوال، أو سبب الباعث السيئ عند متعاطيها . وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً فإن مجرد مفسدة المآل، والنتيجة السلبيّة للرأي ؛ يجعل الرأي رأياً مذموماً واجب الكتمان .
فهذا معيار توزن به الآراء والاجتهادات، وهو مدى كون آثارها محقِّقة لمقاصد الشرع أو مناقضة له، قال الشاطبي : » لما ثبت أن الأحكام شُرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك ؛ لأنه مقصود الشارع فيها، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع ؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرعت لأجلها، فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات « (17).
ومن هنا نشأت قاعدة : ( سد الذرائع المفضية للفساد )، ومقتضاها تحريم أمر مباح لما يفضي إليه من مفسدة .
وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين دفعاً لمفسدة تحدُّث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه ؛ فرد من أمثلة هذه القاعدة .
وعليه ؛ فإنه لا يسوغ لصاحب رأي ولا لمفت أو مفكر أن يقرر رأياً مهما كان صواباً إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، أو كان مثيراً لفتنة .
فالذي ينتقد بعض كتب علماء أهل السنة، ويقرر أن فيها تقريرات غير معصومة ؛ فهو وإن قرر حقاً إن أظهر رأيه في زمن تشرئب فيه الفتن وتظهر البدع فقد ناقض هذا الأصل . وإذا حوّل إنسان دين الله تعالى ليكون وجهة نظر تُعرض إلى جانب وجهة نظر أخرى مخالفة ؛ فإنه، وإن تذرّع باستمالة المعارضين للإسلام، قد أعطى مُعارِض الشريعة شرعية وقدم مساواة مع الإسلام (18).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : » على المفتي أن يمتنع عن الفتوى فيما يضر بالمسلمين ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي كائناً من كان نصرة هواه بالفتوى وليس قصده معرفة الحق واتباعه « (19).
ومراعاة مآل الرأي يتضمن ملاحظة الوقت الذي يُبدي فيه الرأي، ومدى تعلّق أهل الفساد به، وهل يفهمه من خوطب به على وجهه أم لا .
وفي أخبار الصحابة وقائع تؤكد استشعار الصّحابة - رضي الله عنهم – لهذا الأصل، فعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : » إن فلاناً يقول لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً .
فقال عمر : إني قائمٌ العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم . قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس ؛ فأخشى أن تقول مقالةً يطير بها أولئك فلا يعوها، ولا يضعوها على
مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسُّنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعون مقالتك ويضعونها مواضعها . فقال عمر :
لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه . فلما قدم المدينة قام على المنبر فكان مما قال : فإني قائل مقالةً من وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومَنْ لم يعها فلا أحل له أن يكذب عليَّ « . ثم ذكر قصة بيعة أبي بكر (20).
الرابعة : لا يسوغ الإلزام بما هو من موارد الخلاف .(/3)
المسائل في شريعة الإسلام منها ما هو قطعي محكم ؛ فهذا ثابت الحكم لا يتغيّر بتغير الزمان والمكان، ومنها مسائل الاجتهاد وموارد الخلاف التي لم يحسمها نص قاطع، ولم يثبتها دليل ظاهر ؛ فليس فيها نص شرعي ولا إجماع قطعي ، فهذه يحكمها اجتهاد المجتهدين المؤهلين، فيختار المجتهد منها أظهرها عنده .
فأما القسم الأول : فإن الناس ملزمون بالسير على وفقها التزاماً للشرع ، واتباعاً له، ولا يسوغ مخالفته كما سبق .
وأما الثاني : فهي منوطة باجتهاد المتكلم متى كان أهلاً فيتكلم فيها بالبينات والحجج العلمية، لكنها ليست مورداً للإنكار ولا محلاً للمفاصلة .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عمن قلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد ؛ هل ينكر عليه أو يهجر ؟ فأجاب : » مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قَلّد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين « (21).
ومن هنا فإن كل رأي لم يستند بقاطع في الشريعة ؛ فإنه لا يسوغ لقائله أن يستبد به ويحتكر الصواب، بل ما دام قولاً لغير معصوم فالخطأ عليه وارد والخلاف سائغ والإنكار ممنوع .
صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعها بالقاهرة في 14/1/ 1411هـ البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإسلام، وتضمنت المادة الثانية والعشرون منه : (لكل إنسان الحق في التعبير بحريّة عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية، ولكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية) .
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
________________________________________
(*) القاضي بالمحكمة الشرعية بمكة المكرمة.
(1) تضمين من كتاب حقوق الإنسان في الإسلام، د / سليمان الحقيل، ص 54 .
(2) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/164 .
(3) مجموع الفتاوى، (3/157) .
(4) سنن أبي داود (3592)، سنن الترمذي (1327)، مسند أحمد (5/ 236)، مسند الطيالسي
(559)، قال ابن حجر في التلخيص (4/182) : (إسناده ضعيف)، وصححه الخطيب البغدادي في
الفقيه والمتفقه، (1/189) .
(5) تفسير القرآن العظيم، (4/206) .
(6) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/392) .
(7) انظر : بيان الدليل على تحريم التحليل، ص 250 .
(8) يُطَل : يعني يلغى ويهدر .
(9) صحيح البخاري، رقم (5758)، صحيح مسلم، رقم (1681) .
(10) إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد، مع حاشيته العدة، (4/332) .
(11) المادة الرابعة عشرة من قواعد المجلّة، وانظر : شرح القواعد الفقهيّة، للزرقا، ص 147 .
(12) آداب البحث، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (2/129) .
(13) الموافقات، (4/167) .
(14) تفسير القرطبي، (4/250) .
(15) القواعد النورانية الفقهية، ص 151، 152 .
(16) العناية شرح الهداية، للبابوني (8/186)، ونقل الاتفاق عليه .
(17) الموافقات، (2/385) .
(18) انظر : كلاماً للأستاذ محمد قطب حول (مؤتمر الإسلاميين والعلمانيين) في كتاب رؤية إسلامية
لأحوال العالم المعاصر، ص 246، ونظيره في كتاب كيف ندعو الناس، ص 43، 72 .
(19) مجموع الفتاوى، (28/198) .
(20) مسند أحمد رقم 391، وهو مختصر في صحيح البخاري، رقم .
(3445)، صحيح مسلم، رقم (1691) .
(21) مجموع الفتاوى، (20/257) .(/4)
حرير الإنسان وتأسيس الوعي العلمي
بقلم /عمر مناصرية
سورة الكهف من السور المكية التي يتفاعل معها المسلمون بشدة ، فهم يقرأونها كل أسبوع مرة ، وفي الحديث الشريف أن من قرأها مرة كل أسبوع كانت له نورا طوال ذلك الأسبوع ، وعندما نتأملها سرعان ما ندرك أن أهم ما تتميز به ، هي القصص : قصة أصحاب الكهف ، ومثل الرجلين والجنتين ، وقصة موسى مع العبد الصالح التي لم تذكر إلا في هذه السورة ، وقصة ذو القرنين التي لم تذكر أيضا إلا في هذه السورة . غير أن ما يلفت الانتباه إليها ، هو أنها تتناول موضوعا واحدا ، وهو تحرير الإنسان من رضوخه لسلطان الأشياء والظواهر والقيم التي يقع سجينا لها ، فتذهب بأعماله كلها ، ولا يلقى منها غير العذاب والنار.
________________________________________
ففي قصة أصحاب الكهف .نجد أن تجربتهم كلها قامت على هدف واحد ، هو تحريرهم من الزمن ، وتخليصهم من الأسر الذي يمثله على الإنسان ، حتى إذا تحرروا رأوا الحقيقة التي كافحوا لأجلها كاملة ، وهي وجود عالم غيبي ، فيه الجزاء والعذاب والنار والحساب .
________________________________________
ففي قصة أصحاب الكهف (من الآية 9 إلى الآية 26 ) .نجد أن تجربتهم كلها قامت على هدف واحد ، هو تحريرهم من الزمن ، وتخليصهم من الأسر الذي يمثله على الإنسان ، حتى إذا تحرروا منه رأوا الحقيقة التي كافحوا لأجلها قد انتصرت ، كما أصبحوا هم أنفسهم دليلا عليها ، حيث بعثوا ثانية بعد فترة زمنية طويلة ، لا يمكن للإنسان وفق مفاهيم الزمن الدنيوي أن يقاومها، وبالتالي فإن هناك زمنا آخر، فيه الجزاء والعذاب والنار والحساب ، وهي نفس المفاهيم التي كانت تثار حولها التساؤلات في مجتمع ذلك الزمان ، فالحقيقة إذن لا تموت ، سواء من جهة انتصارها عبر الزمن ، أو من حيث موضوعها الذي قامت للتأكيد عليه ، وهو هنا وجود زمن أخروي غيبي في مقابل الزمن الدنيوي، يؤول إليه الإنسان ، وتؤول إليه كل أعماله ، والزمن فقط هو الذي يمنع الإنسان من رؤية ذلك ، فيركن إلى ما حوله من الأشياء والشهوات والدنيا، ولا يستطيع النفاذ إلى ما وراءها من حكمة ومن حقائق أخرى تقلب حياته كلها .
إن بطء الزمن الدنيوي بالنسبة للإنسان يجعل من إمكان التحرر منه أمرا عسيرا وصعبا ، إلا إذا استطاع الإنسان على هدى من الله أن يدرك هذه الحقيقة ويؤمن بها ، ليس بصورة تقريرية ، ولكن بصورة يرتقي بها عن الزمن نفسه ، فتتحول أفعاله نتيجة ذلك إلى الغاية الحقيقية منها.لذلك بعد هذه التجربة مباشرة ، تذكر الآيات العالم الأخروي المستقبلي والجزاء الذي يكون فيه من حساب و من جنة أو نار ، كزمن حقيقي يجب على الإنسان أن تكون أفعاله كلها وحياته مستندة إليه .
________________________________________
ثم ثم في نفس السياق يضرب الله مثلا آخر عن الرضوخ الإنساني ، في مثل الرجلين الذين كان لأحدهما جنتين ، من الآية 32 إلى 44 ، فالجنتين تمثلان عملا دنيويا صرفا ، يسجن صاحبه ، ويضعه في أسره ، فيكف عن رؤية الحقيقة التي يريها له صاحبه ، فتصبح الجنتان تغطيان عينيه وتعميانها عن إدراك الحقيقة قراءة في سورة الكهف :تحرير الإنسان وتجاوز العقل اللاعلمي
________________________________________(/1)
ثم في نفس السياق يضرب الله مثلا آخر عن الرضوخ الإنساني ، في مثل الرجلين الذين كان لأحدهما جنتين ، من الآية 32 إلى 44 ، فالجنتين تمثلان عملا دنيويا صرفا ، يسجن صاحبه ، ويضعه في أسره ، فيكف عن رؤية الحقيقة التي يريها له مرارا صاحبه ، فتصبح الجنتان تغطيان عينيه وتعميانها عن إدراك الحقيقة : { وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا 36} فالمكان هنا هو الذي أسره ، ببهرجه وزينته وثمره ، فلم يعد يؤمن بالحقيقة ، لأن كل جهده انصرف إليه ، فلما هلكت :{ وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا 42 ..} فانهار ذلك العمل كله ، وأصبح حطاما، لا فائدة منه . ويخلص القرآن إلى نفس النتيجة ، ويعتبرها قانونا ، إذ يقول بعد ذلك : {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا 45 } وهذا المثل كثيرا ما يضربه الله في القرآن عن الحياة بصورة عامة، أو العمل الذي لا يقوم على قاعدة الإيمان ، وهنا يضربه مثلا للحياة ، لتوضيح النتيجة التي سيؤول إليها العمل الإنساني الذي لا يقوم على قاعدة التحرر ، إذ يصور الله الدنيا في شكل فاقد لقيمته ، (هشيما تذروه الرياح )، بعد أن كان سجنا للنفوس ، يمارس عليها سلطته ، ولهذا تمضي الآيات بعد هذا المثل مؤكدة على أهمية تجاوز السجن الدنيوي ، وما فيه من شهوات وملذات .إلى العالم الآخر الذي يمثل مستقر كل الأعمال وهذا من الآية 46 التي تقول : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } إلى الآية 59 { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} . ذاكرة الساعة والحساب والملائكة وخلق السماء والأرض ، ثم تذكر الصلف الإنساني وتعنته الذي يمنعه من الإيمان ، متمثلا في الجدل : { ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا 54 } .
ثم تنتقل الآيات للحديث عن قصة موسى مع العبد الصالح ، الذي آتاه الله علما ورحمة ، فتذكر في نفس السياق ، ضرورة أن يتحرر الإنسان من سلطان الرؤية الذاتية للأفعال والتصرفات التي تقوم أمامه أيضا كسجن يأسره ، فلا يرى الحكمة والغاية منها ،من الآية 60 :{ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا } إلى الآية 82 ، والقصة معروفة ومشهورة . حيث نجد موسى يتفاعل مع تلك الحوادث بانفعال واضح ، للتدليل على أن هذه الذاتية تمنع الإنسان من رؤية الحكمة ، وبالتالي، فهي مسجونة بنظرتها الجزئية الظرفية التي لا تستطيع الإدراك الكلي للأفعال والحوادث التي تجري في حياة الإنسان . فكما أن رجل الجنتين وقوم أصحاب الكهف، لم يستطيعوا أن يتحرروا ليروا ما خلف أوضاعهم من حقائق غيبية، وهو مثل عن الإنسان بشكل عام ، لم يستطع موسى أن يتحرر من سلطان نفسه لينفذ إلى ما وراء الفعل الإلهي من غايات وحكمة حاضرة ، فجاءت الاستجابات جميعا على نحو واحد ، وهو الخطأ المستمر والفشل الذريع في إدراك الحكمة من وراء الأفعال والأشياء والوجود بصفة عامة.
فالخطاب في هذه القصص والأمثال، يتجه إلى الحديث عن القدرة الإنسانية في تجاوز حالات الأسر التي تجد نفسها موضوعة فيها لأسباب كثيرة ، سواء نتيجة الزمن ، مثلما يقول الله تعالى في آيات أخرى كثيرة : {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }. أو نتيجة ثمرات الأفعال الإنسانية وعائداتها الدنيوية، التي تكرس منطق الرضوخ والركون إلى ما تجده أمامها ، فتقنع بها ، ولا تلتفت إلى الحقيقة التي تستتر وراء ذلك ، أو نتيجة الرغبة الإنسانية العارمة ، في تفسير الحوادث وفق أهوائها وما تراه حاضرا ، وليس وفق ما سيتحقق مستقبلا ، أي الذاتية .
________________________________________
وهنا تأكيد على أن إدراك هذه الحقيقة المهمة في حياة الإنسان ، أي التحرر من الزمن ، وفي نفس الوقت التحرر من الذاتية التي تفرضها النفس بنمطيتها الجاهزة ، يؤسس للوعي العلمي ، ويقود الفعل الإنساني في اتجاهاته الصحيحة نحو التمكين .
________________________________________(/2)
فالسورة تتحدث عن هذه السجون ، وضرورة التحرر منها ، لتعطي للفعل الإنساني كامل أبعاده وشروطه التي يستطيع على أساسها أن يكون فعلا صحيحا وذا جزاء أخروي ودنيوي معتبر ، ولهذا تبرز السورة تحقق ذلك في قصة ذي القرنين ، الذي ينجح فعلا في تأسيس تلك الحرية وذلك الوعي ، عبر اتخاذه الأسباب المنطقية في حركته كلها ، وينجح فيما فشل فيه رجل الجنتين ،من الآية 83 إلى الآية 97 ، فرغم أنه كان ذا ملك ممتد من المغرب إلى المشرق، إلا أنه كان مؤمنا ، فلم يسجنه ملكه، وكانت قدرته التقنية والعقلية هي طريقه إلى ذلك ، حيث استطاع أن يبني الردم . قال: { ما مكني فيه ربي خير ، فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما 95 } فهو قد تمكن بالفعل بطريقة تفكيره ومنهجيته من الحصول على نتيجة أفعاله . لذا يستطيع أن يجد للمشكلات حلا ، ويتصرف فيها على النحو الذي يريده ، ولذلك ، مكنه الله في الأرض ، وخاطبه قائلا : { ...قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا 86 }. فيجيب بما يدل على إدراكه لحقيقة الزمن الدنيوي ، وأن هناك مآلا للأعمال يوم القيامة. قال : {أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا 87 وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا 88 } .وعندما يصل إلى القوم الذين طلبوا منه بناء سد ، يفعل تلك العقلية السببية ، ويبحث عن حل علمي للمشكلة ، ويجده ويطبقه ، ويكون حلا نهائيا لها .
وهنا تأكيد على أن إدراك هذه الحقيقة المهمة في حياة الإنسان ، أي التحرر من الزمن ، وفي نفس الوقت التحرر من الذاتية التي تفرضها النفس بنمطيتها الجاهزة ، يؤسس للوعي العلمي ، ويقود الفعل الإنساني في اتجاهاته الصحيحة نحو التمكين .
ولتوضيح هذا لا بد من عقد مقارنة بين أصحاب الكهف وموسى وذو القرنين .
________________________________________
وفي نفس الوقت كان ذو القرنين متحررا من ذاتيته إذ أوتي مفهوم السبب والارتباط بين العلاقات و النتائج ، ولهذا تمكن من بناء الردم بصورة تقنية صرفة ، مازجا بين المعادن ، ومشكلا منها حلا للمشكلة ، والبناء والمزج تعبير عن إدراك الارتباط بين الأشياء وعلاقتها ببعضها
________________________________________
فأصحاب الكهف كانوا آية عن التحرر من الزمن الدنيوي ، لذلك دخلوا في تجربة ضد الزمن ، وأن الإنسان سيبعث ثانية ، وأن هناك ساعة وحسابا : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا21 } . أما موسى في تجربته ، فإنه كان يمتلك القدرة على التحرر من الزمن إذ كان نبيا ، غير أن وقوعه في ربقة النتيجة الآنية للفعل ،أي تفسيره الذاتي للأفعال وفق قيمه ، ونفاذ صبره بسبب عدم مقدرته على الإحاطة خبرا بالفعل أو الظاهرة { قال وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا 68 } ،حرمه من إدراك الحكمة والغاية من الفعل، والقصة كلها تدور حول التحرر من معايير الحاضر وقيمه ، رغم أنها قد تبدو قيما صحيحة في كثير من الأحيان ، بهدف رؤية المستقبل والتفاعل معه ، فلو أن موسى صبر كما أوصاه العبد الصالح ، لتمكن من تجاوز الرؤية الراهنة للفعل ، ومن ثم تجاوزه والاستمرار في التجربة لتأسيس الوعي بالمستقبل ، وهذا بعكس ذو القرنين الذي امتلك الخاصيتين والحريتين معا ، فقد كان متحررا من الزمن الدنيوي ، عبر إيمانه ، وذلك ما تشهد عليه الآية عندما قال جوابا عن استخلاف الله له { أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ، وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا } وفي نفس الوقت كان متحررا من ذاتيته إذ أوتي مفهوم السبب والارتباط بين العلاقات و النتائج ، ولهذا تمكن من بناء الردم بصورة تقنية صرفة ، مازجا بين المعادن ، ومشكلا منها حلا للمشكلة ، والبناء والمزج تعبير عن إدراك الارتباط بين الأشياء وعلاقتها ببعضها ، لإنجاز شيء ذي قيمة ، فهو لم يكن يمتلك الشيء ، لأنه وجده هناك لدى القوم ، ولكنهم لم يكونوا بقادرين على استخدامه إذ كانوا لا يفقهون قولا . ولكنه كان يمتلك العقلية التي تستطيع الربط والاستنتاج ، لما رأى السدين فأدرك أن السد ليس حلا ، ولكن الردم هو الحل .
وهنا يمكن أن نخلص إلى ثلاث أنماط من التجارب ، هي :
1 - تجربة أصحاب الكهف التي تأسست لتحرر الإنسان من عامل الزمن ، ولتربطه بمآله الأخروي ، ليستقيم العمل الإنساني في صورته الشاملة ، وهو ما نجده أيضا في مثل الرجلين ، والتجربة فيه تتجه للحديث عن الزمن الآخر الحقيقي ، فالحياة الإنسانية ، يجب أن تتأسس كلها على هذه الحرية ، والمشكلة تكمن في صعوبة إدراك هذه الحقيقة ، لأن الزمن يتحول إلى سجن حقيقي ، مالم يأت الغيب بآياته ، يدلل عليها ويوضحها .(/3)
2- تجربة موسى التي تأسست لتحرر الفعل الإنساني من أسره النفسي الذاتي، الذي يمنعه من رؤية الحكمة في الفعل المستقبلي .بتسلط الفعل الحاضر باتجاهاته وقيمه ومعاييره على النفس ،نظرا لاعتيادها عليها وألفتها لها ، حيث تصبح سلطة صارمة ، تقف في وجه التمكن من الرؤية المستقبلية الصحيحة، فموسى كان يريد أن يحاكم أفعال العبد الصالح وفق قيمه ومعاييره التي تنشأ عليها ، إلا أن تلك القيم في هذه الحالة وقفت حاجزا أمام موسى لإدراك الحكمة من وراء ذلك .
3- تجربة ذو القرنين ، التي تأسست لتحرير الإنسان من الأسر الطبيعي ، عبر تحقيق الربط بين الأسباب والظواهر وكشف العلائق الموجودة بينها ، للتغلب عليها وتوظيفها ، متجهة إلى الجزاء الدنيوي ، وإلى النجاح والفوز والتمكين ، وهو ما يعني التأثير الإنساني والفعل المبدع والحرية وإتباع الأسباب .والمشكلة التي تعترض هذا الفهم ، تكمن في صعوبة فهم العلاقات بين الظواهر ، أي تخلف العقل العلمي، كما حدث للأقوام الذين لا يفقهون قولا ، رغم أن كل المتطلبات لبناء الردم كانت متوفرة لديهم ، حتى جاء ذو القرنين الذي امتلك عقلية الربط والسببية ، فقام بتصنيع الردم .
وهنا نجد أن القصص تتحدث عن ثلاث أنواع من الحرية ، يجب أن يحوزها الفعل الإنساني ، حتى يأتي مستقيما ، وهي :
- الحرية الزمنية التي تتيح رؤية الزمن الأخروي ، والتي بدونها يرضخ الفعل الإنساني للخرافات كما في تعدد الآلهة ، أو للشهوات كما لدى رجل الجنتين.
- الحرية النفسية التي تتيح رؤية الحكمة المستقبلية في الفعل الحاضر، وبدونها يرضخ الفعل الإنساني إلى النتائج غير المنطقية التي يحدثها فعله ، أو من الممكن أن تأتي عليها الأفعال بصورة لا يريدها هو ، رغم أن في ذلك تحقق للرحمة .
- الحرية الطبيعية التي تتيح الاستفادة من الطبيعة واستثمارها ، عبر إدراك القوانين المتنفذة فيها ، والعلاقات التي تكون بينها ، وبدونها يرضخ الفعل الإنساني للطبيعة والخرافة، ويكون في أسرهما ، غير قادر على التغلب عليهما ، رغم أن كل شيء متوفر لتحقيق غاية التمكين .
إن كل حرية تؤسس للحرية التي بعدها ، فالتحرر من الزمن يقود مباشرة للتحرر من النفس ومن رؤيتها الضيقة للأشياء ، والتحرر من النفس هو الذي يمكن من التحرر الطبيعي ، وبدون التحرر الأول ، لا يستطيع الإنسان أن ينجز أي تحرر آخر ، وما حدث للغرب هو نكوص من التحرر الأول ، حيث بالوصول إلى التحرر العلمي ، تم الانقلاب على كل ما أنجز من تحرر آخر ، نفسي ، وزمني ، فأصبح متحررا طبيعيا ، غير أنه واقع في أسر الزمن ، فلم يعد يرى ما وراء الحياة والزمن الدنيوي من حكمة وغاية ،ولهذا يسعى جاهدا لتأسيس الحرية الأولى ، بالاستعاضة عنها بالفلسفات التي يبدعها ، والتي لا تستند إلى التحرر من الزمن ، ولكن إلى مقولات تحاول أن تأخذ مكانه وتصادره، وعندما يعجز عن ذلك ، يكف عن البحث عنه ، ويعود إلى الطبيعة يمارس عليها عنفه .
فالقصص كلها ذات هدف واحد ،وهي تريد التأسيس للحرية الإنسانية ، وتختتم بآيات عن الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا ، بحسبانهم أنهم يحسنون صنعا ، وبكفرهم بآيات الله ولقائه ، فلم يستطيعوا تجاوز الزمن الدنيوي ، ولا أسرهم النفسي باعتقاد الحسنى في أعمالهم ، فلذلك لا وزن لهم في الآخرة : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا104 . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم وزنا 105 } وكذلك : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا110 } .
هذه محاولة لقراءة سورة من القرآن وإعطائها وحدة ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.(/4)
حريّة البحث العلمي في الإسلام
بقلم : الأستاذ محمد رجاء حنفي عبد المتجلي
إن لكل فرد من الأفراد الحق في تقرير واعتناق ما يراه صحيحًا من نظريات العلم التي تتّصل بظواهر الكون ، من النبات ، والحيوان ، والإنسان.
والإسلام لم يحاول على وجه الإطلاق أن يفرض على العقول أيّة نظرية علمية معينّة بصدد الظواهر الكونية ، وكل ما يفعله في هذا الصدد هو حفز العقول ، وحثّ الهمم على النظر والتأمّل في آيات الكون ، واستنباط قوانينها العامة ، وأنها جديرة بالعبرة والبحث العلمي ، وذلك كاختلاف الليل والنهار ، وتتابع الفصول ، والشمس والقمر، وتناسل الحيوان والطيور والنبات ، وما إلى ذلك مما يتّصل بشؤون الحياة والكون ، يقول المولى – تبارك وتعالى– : ?أَوَ لَمْ يَنْظُرُوْا فِي مَلَكُوْتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيءٍ(1)? ، ويقول جلّ شأنه: ?وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ . وَجَعلْنَا فِيْهَا جَنَّاتٍ مِّنْ نَّخِيْلٍ وَّ أَعْنَابٍ وَّ فَجَّرْنَا فِيْهَا مِنَ العُيُونِ . لَيَأْكُلُوْا مِنْ ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيْهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُوْنَ. سُبْحَانَ الَّذِيْ خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَيَعْلَمُوْنَ . وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ . وَالشَّمْسُ تَجْرِيْ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذالِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ . وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّى عَادَ كَالْعُرْجُوْنِ القَدِيْمِ . لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِيْ لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَّسْبَحُونَ(2)?، ويقول الحق جل وعلا : ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُرْجِيْ سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه ثمَّ يَجْعَلُه رُكَامًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيْهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِه مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُه عَنْ مَّنْ يَّشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِه يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ(3)? .
وإن من القواعد التي قام عليها الإسلام النظر والاقتناع ، اللذان يكون من نتيجتهما المعرفة النظرية ، وقد قال علماء التوحيد : إن أول ما يجب على المكلّف هو النظر ثم تأتي بعده المعرفة .
وهذا هو الشأن بالأحرى فيما يتعلّق بالمذاهب والنظريات والأفكار التي ينتهجها الإنسان في حياته ويسير على أسسها ، وقد وصف المولى – تبارك وتعالى – المؤمنين بقوله : ?الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَه أُولئِكَ الَّذِيْنَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلائِكَ هُمْ أُوْلُوْ الأَلْبَابِ(4)? ، بالذين يحسنون اختيار المنهج الذي يتّبعونه يمتازون بالعقل والهداية ، ولاشك في أنهما من أفضل الصفات .
والعلم في الاعتبار الإسلامي هو نتيجة النظر والبحث والمشاهدة والتجربة التي تؤدّى إلى اليقين بالمعلومات ، ويشبه ذلك العلم الذي يأتي عن طريق الوحي الذي يصحبه الإيمان من المكلّفين ، لأن التصديق بالوحي متفرّع عن الإيمان ، فتكون له نفس نتيجة النظر والتجربة ، يقول المولى – تبارك وتعالى – في محكم آياته : ?وَلاَ تَقِفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(5)?، فإذا أهمل الإنسان سمعه أو بصره أو فؤاده ، ولم يستعملها في الوصول إلى الحقائق ، وركن إلى اتّباع ما لا ينبني على قاعدة علمية من الأباطيل والأوهام ، فإنه بذلك يكون قد خان أمانته وأبطل عمل القوى المدركة التي وهبه المولى – تبارك وتعالى – إياها ، واتَّبع الذين يخضعون للظنون والأهواء، فيكون مسئولاً عن ابتعاده عن طرق المعرفة الحقيقية وجريه وراء الهوى والخيال .
وبذلك يكون الإسلام قد أرشدنا إلى البحث والنظر للاهتداء إلى الحقائق ، وفتح أمامنا أبواب الحرية في هذا المجال .
وإذا كان الإنسان مؤاخذًا في اعتبار الشرع على إهماله حق نفسه في النظر والبحث العلمي ، فمن باب أولى لايجوز لأحد أن يمنع عنه أسباب العلم ، أو يحرمه من اتّخاذ الوسائل التي تمكّنه من الدرس والجدل والمناظرة والبحث والتجربة .
وإذا كان الإسلام يعتبر الفرد مسؤولاً عن البحث عن الحقائق العلمية وتخليص العلم من الشوائب التي تتنافى مع الرواية الصحيحة ، أو التجربة المشاهدة ، أو الفكر السليم ، إذا كان الأمر كذلك فقد فتح الإسلام باب العلم والمعرفة على مصراعيه أمام جميع الناس .(/1)
والإسلام حينما يحثّنا على العلم يبيّن لنا أن صاحبه يقترن ذكره بذكر المولى – تبارك وتعالى – وملائكته ، يقول جلّ شأنه : ?شَهِدَ اللهُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَهُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيْزُ الْحَكِيْمُ(6)? ، كما يبيّن لنا أن العالم لا يتساوى مع الجاهل ، يقول الحق – عز وجل –: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَيَعْلَمُوْنَ(7)? ، وصرّح بأن بين المؤمن الجاهل وبين المؤمن العالم درجات ، يقول تباركت أسماؤه: ?يَرْفَعِ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ(8)? .
يقول "البيضاوي" : "يرفع الله الذين آمنوا منكم بالنصر وحسن الذكر في الدنيا ، وإيوائهم في غرف الجنان في الآخرة" ، وقال في قول المولى –تبارك وتعالى– : ?وَالَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ? ، ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل ، فإن العلم مع علو درجاته يقتضي العمل المقرون به مزيد الرفعة ، ولذلك يُقْتَداى بالعالم في أفعاله ولايُقْتَداى بغيره ، وفي الحديث الشريف يقول المصطفى – صلوات الله وسلامه عليه–: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
يُعْناى الإسلام بتعليم القراءة والكتابة لتوسيع نطاق العلم والمعرفة ، وتدبّر المعاني والحكم التي ينزل بها وحي السماء ، يقول المولى تبارك وتعالى في محكم آياته : ?اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقَ . اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(9)? .
فهذه الآيات الكريمة شاملة لمعان عديدة في كلمات قليلة ، فقد ذكرت القراءة ورمزًا للكتابة بذكر القلم ، وأثبتت أن للوجود خالقًا وهو الله – عز وجل – ، وأشارت إلى قضية علمية ، وهي أن الإنسان قد خُلِقَ من علق ، كما دلّت على أن الإنسان لايزال يبحث ويكتشف ، وأنه سيظهر الجديد من العلوم على يديه مادامت هذه الحياة قائمة .
والإسلام وهو يدعو إلى التدبّر وأعمال الفكر يتوجَه بالخطاب إلى العقل البشري ، وهو يسوق الأدلّة ، ويوضّح الفائدة والحكمة في كل ما يأمر به، والأضرار والأخطار في كل ما ينهى عنه ، ليكون سلوك الإنسان في حياته عن حرية واقتناع ، وعلى ضوء من المعرفة ، حتى لايصبح أشبه ما يكون بآلة صمّاء .
وليس في القرآن الكريم أسرار أو رموز يكون حلّها أو كشف معانيها حكرًا على شخص معيّن ، أو طائفة معيّنة دون غيرها ، فهو يمتاز بالوضوح والصراحة ، لأن الغموض يجعل فهم الدين عسيرًا على الأفراد ، وقد جاء الدين لتثقيفهم وتهذيبهم ، كما أنه في هذه الحالة يمكّن طائفة من الناس من الاستئثار بمعرفة الرموز ، وجعل ذلك طريقًا للاستعلاء ، والتحكّم في نصوص الكتب السماوية، وهذا ما لا يريده المولى تبارك وتعالى ولا يرضى عنه، ولذلك لانجد في القرآن الكريم غموضًا أو ألغازًا ، فهو واضح كل الوضوح ، ميسّر للفهم والذكر والعمل، ولقد قال المولى – عز وجل – في هذا الشأن: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنِ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ(10)? .
والأمثلة على يسر القرآن الكريم ووضوحه كثيرة، ففيما يتعلّق بوجود الله – سبحانه جل شأنه– أتى القرآن الكريم بعدّة براهين على ذلك . وكلّها براهين عقلية ، يكفينا أن نذكر منها قوله –عز وجل–: ?أَمْ خُلِقُوْا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُوْنَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ بَلْ لاَّيُوْقِنُوْنَ(11)? ، فالعقل يفكّر فيدرك أنه لم يُوْجِدْ عن طريق الصدفة من غير إله خلقه ، كما أنه لم يُوْجِدْ نفسه ، والبشر هم أرقى الكائنات الحيّة ، ومع ذلك لم يوجدوا شيئًا منها ، فلابدّ إذن من وجود إله خالق للعالم ، خلق الوجود ونسقّه على هذا النظام البديع .
وفي مجال التوحيد ونفي تعدّد الآلهة بيّن أن وجود أكثر من إله واحد يؤدّي إلى التعدّد في نظام المخلوقات والتفاوت ، يقول الحق – جل وعلا–: ?مَا تَراى فِي خَلْقِ الرَّحْمانِ مِنْ تَفَاوُتٍ(12)? ، وتعدّد الآلهة ينتج عنه تعدّد مراكز النفوذ وتنازع الآلهة على النفوذ ، وهذا ما نفاه المولى – جل شأنه – بقوله: ?قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَه آلِهَةٌ كَمَا يَقُوْلُوْنَ اذًا لاَّبْتَغَوا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيْلاً(13)? ، ويقول تقدّست أسماؤه: ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَّلَدٍ وَّمَا كَانَ مَعَه مِنْ اله اِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُوْنَ(14)?.(/2)
ويبيّن القرآن الكريم أن الآلهة المزعومة التي يعبدها المشركون لم تشهد خلق السماوات والأرض ولا خلق نفسها ، يقول عزوجل : ?مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ(15)? ، ولن تستطيع هذه الآلهة أن تفعل شيئا ، ولا أن تخلق شيئا ، ولو كان المخلوق ذبابة ، يقول الحق – جل شأنه –: ?ياآ أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَه إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَنْ يَّخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَه وَإِنْ يَّسْلُبْهُمُ الذُّبَاب شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوْبُ(16)? .
ويبيّن – أيضا – أن الذين يدعون إلهاً من دون الله – عز وجل – أشبه بالعنكبوت تبني لها بيتًا ، وأضعف البيوت هو بيت العنكبوت ، يقول – جل شأنه – : ?مَثَلُ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوْا مِنْ دُوْنِ اللهِ أوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوْا يَعْلَمُوْنَ(17)? .
ولمّا ادّعى المشركون أن المولى – تبارك وتعالى– قد اتّخذ ولدًا، بيّن الله – عز وجل – فساد هذا الزعم، واستحالة أن يتّخذ ولدًا ، لأن الولد يحتاج إليه أبوه لمساعدته ومعاونته والخلافة عنه بعد موته ، والله – عز وجل – في غنى عن ذلك ، لأنه هو الحيّ الأزلي الأبدي، مالك الملك وهو على كل شيء قدير، يقول عزّ وجل : ?قَالُوْا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَه هُوَ الغَنِيُّ لَه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ اِنْ عِنْدَكُم مِّنْ سُلْطَانٍ بِهذَا أَتَقُوْلُوْنَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُوْنَ(18)? .
ولو كان للمولى – تبارك وتعالى – ولد لكان بالنسبة له أكثر من الشريك ، ولكان له نصيب في الخلق والأمر ، لأن الولد سرّ أبيه ، تعالى الله – عز وجل – عن ذلك علوًا كبيرًا .
وفي مسئلة البعث يوضّح القرآن الكريم أن الذي يقدر على البدء يقدر على الإعادة من باب أولى ، وأن هناك دليلاً ماديًا على إمكان احياء الموتى ، وهو أن المطر ينزل على الأرض الميتة فتحيا وتزهو بالنبات والأشجار والثمار والأزهار، ويبيّن أنه إذا لم تكن هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا تُجْزاى فيها كل نفس بما كسبت لكانت الدنيا مخلوقة عبثًا بدون هدف ، وهذا أمر لا يستسيغه المنطق السليم ، ولا تتقبّله العقول ، يقول الله – عز وجل – : ?قُلْ كُوْنُوْا حَجَارَةً أَوْ حَدِيْدًا . أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُوْرِكُمْ فَسَيَقُوْلُوْنَ مَنْ يُّعِيْدُنَا قَلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُوْنَ إِلَيْكَ رُءُوْسَهُمْ وَيَقُوْلُوْنَ مَتاى هُوَ قُلْ عَساى أَنْ يَّكُوْنَ قَرِيْبًا(19)?.
إن الواقع يشهد بأنه من المحتّم وجود دار أخرى بعد هذه الدار التي نحيا فيها ، للحساب والجزاء ، حيث لاتضيع الحقوق ، ولا يفلت أي مذنب من العقاب يوم القيامة ، يقول الحق – جلّ وعلا– : ?فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَه(20)? .
وَفي مجال العبادات التي شرعها المولى – تبارك وتعالى – قد بيّن لنا الحكمة منها ، والهدف الذي شُرِعَت من أجله ، فهي تصلنا بخالقنا عز وجل ، وتسمو بأرواحنا ، فالصلاة رباط دائم يصل بين العبد وربّه ، ووسيلة من الوسائل التي نتسعين بها على الشدائد ، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتجعل الإنسان هادئ النفس مطمئنّ القلب ، والزكاة تطهير للقلوب ونماء للمال ، وعطف على الفقراء والمساكين ، والصوم تعويد على التقوى وخشية المولى – تبارك وتعالى –، لأن من يترك المباح خوفًا من الله – عز وجل – ، فإنه أجدر أن يترك المحرَّم، والحج لشهود المنافع ولشكر المولى تقدّست أسماؤه على ما أنعم به من بهيمة الأنعام ، وما يعود علينا منها من منافع .
أمّا المشكلات التي تُوْجَدُ في المجتمعات فقد جاء القرآن الكريم لها بعلاج ناجع ، ونظام محكم ، تضمّنته آيات الزواج والطلاق ، والميراث وشؤون المال ، والحدود والقصاص ، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض ، والأمم بعضها ببعض ، والآيات في ذلك كثيرة جدًا في مختلف سور القرآن الكريم .
وأمّا الآداب السامية ، والأخلاق الرفيعة الفاضلة التي دعا إليها الإسلام ويدعو إليها على الدوام ، فقد أوردها القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة ، وهناك بعض آيات القرآن الكريم .
وأمّا الآداب السامية ، والأخلاق الرفيعة الفاضلة التي دعا إليها الإسلام ويدعو إليها على الدوام ، فقد أوردها القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة ، وهناك بعض آيات القرآن الكريم التي تجمع بين الإيمان والعبادات والفضائل ، وذلك كالآيات العشر الموجودة في أول سورة "المؤمنون"، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن هذه الآيات : "أُنْزِلَ علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة".(/3)
إن الإسلام اعتبر العقل من المصالح الضرورية التي لا يستقيم عمران الكون وازدهاره ورقّيه إلا بها. فكان حفظ العقل وصيانته ثالث المقاصد الضرورية التي عناها الإسلام بعد حفظ الدين والنفس ، وهو يطالب المتديّنين بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم ، ونهاهم عن تحكيم الهوى والعصبية في الكشف عن الحقيقة ، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه بما يكون فيه تحقيق مصلحة الأمة الإسلامية ، ورفع الحرج عن المسلمين، وإبعاد المفاسد عنهم .
وكلما خاطب الإسلام خاطب العقل ، وكلما احتكم احتكم إلى العقل ، وكل نصوصه تنطق بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة ، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل ، وإطفاء نور البصيرة .
والإسلام يعتمد كل الاعتماد على العقل السليم في كل أحكامه وجميع توجيهاته ، ويفتح أمامه آفاقًا بعيدة للتطلّع والاستطلاع ، ويكشف له جوانب الحياة للبحث والدرس ، وبدفعه دومًا إلى التجديد والابتكار ، وأطلق له حرية البحث .
* * *
الهوامش :
(1) الآية (185) من سورة الأعراف .
(2) الآيات (33، 34 ، 35 ، 36، 37 ، 38، 39، 40) من سورة يس .
(3) الآية (43) من سورة النور .
(4) الآية (18) من سورة الزمر .
(5) الآية (36) من سورة الإسراء .
(6) الآية (18) من سورة آل عمران .
(7) الآية (9) من سورة الزمر .
(8) الآية (11) من سورة المجادلة .
(9) الآية (1- 5) من سورة العلق .
(10) الآية (17) من سورة القمر .
(11) الآيتان (35 ، 36) من سورة الطور .
(12) الآية (3) من سورة الملك .
(13) الآية (42) من سورة الإسراء .
(14) الآية (91) من سورة المؤمنون .
(15) الآية (51) من سورة الكهف .
(16) الآية (73) من سورة الحج .
(17) الآية (41) من سورة العنكبوت .
(18) الآية (68) من سورة يونس .
(19) الآيتان (50 – 51) من سورة الإسراء .
(20) الآيتان (7 – 8) من سورة الزلزلة .(/4)
حزب البعث
1- التعريف بالحزب.
2- التعريف بمؤسسه:
ميشيل عفلق: مولده، ونشأته، ونشاطه، وفاته.
3- مقومات الحزب ودعائمه:
أ- الوحدة:
- مفهوم الوحدة.
- غاية الحزب من الوحدة.
ب- الحرية:
- مفهوم الحرية.
- مهزلة الحرية عند الحزب.
- بعض الحقائق عن هذه الحرية المزعومة من قتل وتعذيب وتصفية.
ج- الاشتراكية:
- مفهوم الاشتراكية.
- البعث والاشتراكية وجه واحد.
4- مبادئ حزب البعث:
المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها.
المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية.
المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية.
5- عقائد حزب البعث:
1. البعث حركة عقائدية.
2. البعث حركة نضالية.
3. البعث حركة ثورية.
4. البعث حركة جماهيرية.
5. البعث حركة قومية.
6. البعث حركة اشتراكية.
7. البعث حركة إنسانية.
8. البعث ثورة شاملة.
6 ـ دستور حزب البعث:
7 ـ العلاقة بين حزب البعث والعلمانية:
8 ـ العلاقة بين حزب البعث والشيوعية الماركسية:
9 ـ موقف حزب البعث من الإسلام:
10 ـ موقف الإسلام من حزب البعث:
11 ـ أقوال الشيخ ابن باز في النظام البعثي وحاكمه:
1- التعريف بالحزب:
حزب البعث: حزب قومي علماني، يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية؛ لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي. شعاره المعلن: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وهي رسالة الحزب().
وبعبارة أخرى: هي حركة قومية شعبية انقلابية تناضل في سبيل الوحدة العربية والحرية والاشتراكية().
ابتدأت هذه الحركة عام 1943م، ولكن على شكل تجمع دون وضوح فكري معين، أما تأسيسها الحقيقي فقد كان فعلاً عام 1947م وفي السابع من نيسان منه().
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة (1/474).
الحركات القومية العربية، لمنير محمد نجيب (ص34).
الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام، لمنير محمد نجيب (ص33).
1 ـ التعريف بمؤسس الحزب:
مؤسس الحزب هو ميشيل عفلق.
ولد سنة1331هـ / 1912م، ودرس في الثانوية الأرثوذكسية()، وأتم دراسة الحقوق والتاريخ في باريس ما بين سنة (1930م-1933م)، واطلع فيها على أعمال الكتاب والفلاسفة الأوربيين أمثال لنيتشه وماركس ودوستويفسكي وتولوستوي وبيرغسون وأناتول فرانس وأندريه جيد().
كان أستاذاً في التعليم الثانوي بدمشق، وسرعان ما برز بتحرره الفكري، ودخل معارك الأدب، وشارك في تأسيس (ندوة المأمون)، وساهم في إخراج مجلة (الطليعة) في السنوات الأولى من عمله التدريسي، بالتعاون مع الماركسيين سنة1934م()، ثم اتصل عن قرب بالنضال السياسي عن طريق طلابه، وأسس مع زميله صلاح الدين البيطار منظمة سرية باسم (شباب الإحياء العربي) أواخر سنة 1939م، والحرب الثانية في مطلعها، ثم أسسا (حزب البعث العربي) في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، وخاضا معاً منذ تلك السنة جميع المعارك السياسية في سورية، سواء مع القوى الأجنبية أو مع السلطات المحلية، وتعرّض للسجن والنفي.
تولى منصب وزارة المعارف في سورية سنة1949م، ونشأت صداقة قوية بينه وبين جمال عبد الناصر، بعد أن أمضى عدة أسابيع في مصر عام 1957م، وحلّ حزبه بعد إعلان الوحدة تلبية لأوامر عبد الناصر، لكنه سرعان ما انفصل الحزب عن الناصرية، وما أن أطلّ عام 1960م حتى اضطر إلى اللجوء إلى بيروت.
وتمكن رفاقه من تسلّم الحكم في كل من بغداد ودمشق عام 1963م، فبرز نجمه عالياً، لكنه اضطر إلى الاستقالة من أمانة الحزب العامة عام 1965م بعدما عارضه حزبيون من رفاقه.
وما أن وقع الانقلاب عام 1966م بقيادة البعث، حتى لجأ في آخر لحظة إلى لبنان بتاريخ 23/2/1966م، وبقي فيه حتى تموز 1968م وهو التاريخ الذي استولى فيه مؤيدوه مجدَّداً على السلطة في بغداد، فانتقل إليها، وتولى حتى مماته الأمانة العامة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، ينوب عنه فيها الرئيس صدام حسين().
وفاته: توفي قبل حرب الخليج في باريس بتاريخ 24 حزيران (يونيو)().
الأرثوذكسية من الطوائف المسيحية المشهورة. انظر: دراسات في اليهودية والمسيحية، للدكتور: محمد ضياء الرحمن الأعظمي (ص473).
انظر: حزب البعث تاريخه وعقائده، لسعيد الغامدي (ص12).
انظر: حزب البعث (ص13).
الأستاذ: قصة حياة ميشيل عفلق، لزهير المارديني (ص193-195)، بتصرف. وانظر: دليل الإعلام والأعلام (ص516).
انظر: تتمة الأعلام، لمحمد خير رمضان يوسف (2/196). وللمزيد من ترجمته ينظر: الأستاذ: قصة حياة ميشيل عفلق، وميشيل عفلق لذوقان قرقوط، و عفلق والبعث: نصف قرن من النضال لجوزيف إلياس، ودولة البعث وإسلام عفلق: حقائق تاريخية وقضايا معاصرة لمطيع النونو.
3ـ مقومات الحزب ودعائمه:
قال ميشيل عفلق: "إن التفكير في البعث العربية يقوم على ثلاث دعائم هي: الحرية، والاشتراكية، والوحدة العربية. فالتنظيم يقوم على أساس الجيل الجديد الذي يمثل الوعي وقوة النفس والإرادة والعقيدة.(/1)
والإيمان بالاشتراكية وحدها يتطلب الانفصال عن الأوضاع الرجعية، فكيف إذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمة هما الحرية والوحدة العربية؟!"().
أ- الوحدة:
- مفهوم الوحدة:
الوحدة في العقيدة البعثية أمر لا بد منه، ولا مفرّ من الوصول إليه من خلال الطابور الخامس في الأقطار العربية، وهم كل بعثي وقومي وعلماني وإباحي من الكتّاب والمثقفين والصحفيين وذوي المناصب، ممن يؤمن بفكرتهم ومنهجهم، أو يشاركهم في بعض المرامي والأهداف.
غير أن ما يطرحه البعث من أساليب لإيجاد الوحدة لا يتوقف عند هذا الحد، بل هناك أسلوب الانقلاب العسكري، وأسلوب الثورة المسلحة، وأسلوب التدخل العسكري البعثي المباشر؛ لإيجاد حكومات بعثية أو ضمّ الأقطار أو بعضها إليه، وأسلوب التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، وأسلوب إقامة الوحدة بين البلدان العربية على أساس علماني إذا كان للبعث فيها وجود من خلال أفراده أو مؤيديه ومناصريه وإن لم يكن حاكماً؛ لأن في ذلك تمهيداً واضحاً لمبدأ الوحدة تحت سيطرة البعث وحكمه().
يقول ميشيل عفلق: "الوحدة هي أعمق من كل شيء، وهي قادرة على أن تصحّح الأخطاء، وما هذا الإصرار والاستعجال في تحقيق خطوة عملية نحو الوحدة إلا دليل على حاجة الأمة إلى أن تشق طريق الوحدة لأنه طريقة القوة، والوحدة ما زالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها يناضل من أجلها، يتابع رسالته على الأسس الصحيحة على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب ما يطمح إليه... وما زالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها مناضل يخلق وعيها وينمي نضالها ويكافح عقلية التجزئة ورواسبها، والمصالح الآنية للتجزئة.
إن السبيل إلى جعل الوحدة وحدة شعبية اشتراكية ديمقراطية هو الإيمان بها وتبنيها والعمل لها لا الخوف منها وتركها للصدف والظروف. ولا يتم لنا بعث عربي حقيقي إذا لم توحّد جميع أقطارنا"().
وقال أيضا: "إن الوحدة هي شرط لازم للنضال الشعبي التحرري ضد الاستعمار وضد الاستغلال، فثورة الوحدة إن لم يتبناها الشباب العربي الثوري ويخلقوا فكرتها خلقاً وينمو وعيها ويُخلصوا لنضالها فإنها ستبقى مادة للتضليل، وبالتالي لن ينجح لا النضال التحرري ولا الاشتراكي.
إنها الوحدة الثورية في هذا العصر، وحدة تنهض على أكتاف الجماهير، وتمتزج بالنضال الاشتراكي"().
ويقول أيضا: "فكرة الوحدة العربية هي الفكرة الانقلابية بالمعنى الصحيح، لا يدانيها في انقلابيتها التحرر من الاستعمار على ما فيه من جدية وقسوة، ولا التحرر الاجتماعي الاشتراكي الذي يصدم في المجتمع أضخم المصالح وأقوى العادات والنظم"().
- غاية الحزب من الوحدة:
يقول ميشيل عفلق: "إن استكمال صورة البناء الاشتراكي للمجتمع لا يمكن أن يتم إلا في إطار الوطن الكبير، ولكن كل خطوة يسيرها القطر نحو البناء الاشتراكي هي خطوة نحو الوحدة العربية.
والوحدة العربية التي تتحقق من خلالها الاشتراكية العربية هي التي تسوغ للاشتراكي العربي أن يقول: (اليوم أكملت لكم اشتراكيتكم)"().
ب- الحرية:
- مفهوم الحرية:
كلامهم في المجال السياسي عام ومبهم ومتناقض، وواقعهم أبعد ما يكون عنها. أما في المجال الديني والاجتماعي فيصرحون بحرية التدين وحريّة المرأة().
يقول عفلق: "الحرية على كل اتساعها وأبعادها: التحرر من الاستعمار، ومن الأجنبي ونفوذه واستغلاله بكل أشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية"().
جاء في موسوعة العراق الحديث ما نصه: "إن النضال العسكري ضروري للحرية حتى ولو أدى ذلك إلى التدخل في أي بلد عربي يرزخ تحت أي سياسة غير السياسة البعثية"، وتقرر الموسوعة أن النظام البرلماني هو طريقة برجوازية ومناقضة للحرية، وأن الحكم الديني ـ الثيوقراطية ـ تخلف ورجعية().
وجاء فيها عن حرية المرأة: "إن المجتمع الاشتراكي هو وحده الذي يوفر ظروفاً موضوعية لتحرير المرأة على نحو سريع وجذري.
إن الحزب والسلطة الثورية يجب أن يعملا على مكافحة السلبية تجاه المرأة، وأن يعملا على تصفية آثار الأفكار الرجعية"().
ويقول ميشيل عفلق: "البعث العربي: حركة قومية تتوجه إلى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد، وتنظر إلى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام"().
إن حرية الاعتقاد ونظرة المساواة بين الأديان لديهم ليست إلا لنزع عقيدة الإسلام من نفوس المسلمين، لأن العرب ليس لهم ديانة إلا الإسلام، وإن وجدت بعض البثور النصرانية واليهودية فهي لا تشكل شيئاً بالنسبة لأعداد المسلمين. إنّ الإسلام هو المستهدف بهذا الكلام الكفري المناقض تمام المناقضة لصريح القرآن الكريم().(/2)
ويقول أيضا: "الرسالة العربية إيمان قبل كلّ شيء، ولا يعيبها هذا أو ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي أن الإيمان يسبق المعرفة الواضحة، وأن من الأشياء ما هو بديهي لا يحتاج إلى براهين ودراسات، إنه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة"().
إذن الحرية الاعتقادية للأمة العربية ينادي بها البعث إذا كان الكلام عن الدين والعرب ليس لهم سوى دين الإسلام، أما إذا كان الكلام عن العقيدة البعثية القومية الاشتراكية فإن حرية الاعتقاد والانتماء تتلاشى، ويصبح الكلام حينئذٍ عن الحتمية القومية والرسالة البعثية الخالدة، والقدر القومي الاشتراكي اللازم().
- مهزلة الحرّية عند الحزب:
جاء في المادة رقم (200) من قانون العقوبات العراقي، وهي خاصة بعقوبة القتل ما يلي:
- كل من ينتمي إلى حزب البعث الاشتراكي إذا أخفى عن عمد انتماءاته وارتباطاته الحزبية والسياسية السابقة.
- كل من انتمى أو ينتمي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي إذا ثبت أنه يرتبط أثناء التزامه الحزبي بأي جهة حزبية أو سياسية أخرى، أو يعمل لحسابها أو لمصلحتها [التعديلات التي أدخلت على المادة (200) من قانون العقوبات العراقي في عام 1974م].
- كل من كسب إلى أي جهة حزبية أو سياسية شخصاً له علاقة تنظيمية بحزب البعث العربي الاشتراكي، أو كسبه إلى تلك الجهة بعد انتهاء علاقته بالحزب بأي شكلٍ من الأشكال، وهو يعلم بتلك العلاقة().
- بعض الحقائق عن هذه الحرية المزعومة من قتل وتعذيب وتصفية:
مارس الحزب عملية القتل والتعذيب والسجن في أفراد الحزب نفسه، وفي الناس عامة.
قُتل 22 من رفاقهم وأعوانهم في الحزب وأكثر، وقد ورد أن أعداداً كبيرة من المدنيين الأكراد، من بينهم نساء وأطفال، مصابون بجروح نتيجة لهجمات كيميائية شنتها قوات الحكومة عام 1987م، وفي وقت سابق من هذا العام احتجزوا وأن الكثيرين منهم أعدموا في وقت لاحق، وفي شهر آذار مارس من هذا العام عدة مئات من الأشخاص ربما يبلغ عددهم أربعمائة شخص اعتُقلوا وهم في طريقهم إلى مدينة السليمانية سعياً وراء العلاج الطبي للجروح التي أنزلتها بهم القوات العراقية باستعمالها الأسلحة الكيميائية في منطقة قرداغ بمحافظة السليمانية، وأخذوا في معسكر تانجروا على مسافة 4 كيلومترات خارج المدينة، وأُعدموا رمياً بالرصاص في 2 نيسان أبريل.
وفي حادث آخر وقع في منتصف نيسان أبريل 1987م في أعقاب هجوم كيميائي على وادي باليسان في محافظة أربيل، نقل إلى مستشفيات أربيل للعلاج نحو 360 شخصاً من قرية شيخ وسانان أصيبوا بجروح نتيجة للهجوم.
وفي تشرين الأول أكتوبر 1985م ورد أن ما يزيد على 300 كردي قتلوا في مدينتي السليمانية وأربيل، وجرى صفهم وقتلهم رمياً بالرصاص، وأن آخرين دُفنوا أحياء أو فارقوا الحياة.
واعتُقل 15 طالباً وأُعدموا رمياً بالرصاص علانية في أربيل، ولدى منظمة العفو الدولية أسماء 46 كردياً، بينهم ثمانية أطفال، كانوا بين حوالي 150 سجيناً ذكر أنهم أعدموا في سجن أبو غريب في بغداد خلال اليومين الأخيرين.
وورد أن ما يربو على 6000 شخص، أعلبيتهم من المدنيين العزل، قتلوا عمداً على أيدي قوات الحكومة، كما وردت معلومات عن قتل مئات آخرين عمداً خلال عام 1987م، وكان كثيرون من هؤلاء ضحايا إعدامات خارجة عن نطاق القضاء.
وورد أن حوالي 400 مدني كردي بينهم نساء وأطفال أعدموا في 2 نيسان إبريل في معسكر تانجروا العسكري بمحافظة السليمانية، وقُتل عمداً ما يقدر عددهم بحوالي 5000 شخص في 16 و17 آذار مارس، وأُصيب آلاف غيرهم بجروح ناجمة عن هجمات بالأسلحة الكيماوية شنتها القوات العراقية على بلدة حلبجة بمحافظة السليمانية بعد دخول قوات المعارضة الكردية إلى البلدة.
وهناك أرقام كثيرة وإحصاءات مثيرة غير ما هو مذكور، وما خفي فهو أعظم، كان الضحية في تلك التصفيات أناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة().
قام صدام حسين بقتل 47 عالماً وداعية نشرت أسماؤهم في تقارير منظمة العفو الدولية، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز البدري من أهل السنة، واغتيل عدد كبير من العلماء الذين أرسلهم للتفاوض مع مصطفى البرزالي الزعيم الكردي، حيث أجبرهم على ارتداء ملابس مفخخة انفجرت فيهم، وقتلت عدداً كبيراً منهم.
أما التعذيب فلونٌ آخر من ألوان القمع، لقد جلب العراق من وسائل التعذيب في سجون ومعتقلات بلاده ما تقشعرّ لهوله الأبدان، وعرف عن جلاودته أنهم يلجؤون إلى الوسائل البشعة التالية:
1- ثقب الآذان بآلة كهربائية.
2- قطع جسد السجين نصفين بالمنشار الكهربائي.
3- إرغام السجين أو المعتقل على السير حافي القدمين على سلالم مغطاة بالزجاج المكسر حتى تنزف قدماه دماً غزيراً وعندما يصل المعتقل إلى آخر درجة من السلم يصعقه تيار كهربائي.
4- يضربون المعتقل أو المسجون بالأسلاك الكهربائية والأنابيب البلاستيكية، ويغطسونه في المياه القذرة، ويرشونه بالماء الحار ثم بالماء البارد.(/3)
5- يعلقونه بمراوح السقف ثم يطلقون التيار الكهربائي، ويكوونه بالسجائر المشتعلة والمسامير المحماة في النار.
6- يترك السجين لعدة أيام بدون طعام أو شراب ثم يقدمون له كوباً من الماء المثلج، فإذا هم بشربه لقي ضربة قوية تحطم الكوب الزجاجي على شفتيه وأسنانه، فتتحطم أسنانه ويمتلئ فمه بقطع الزجاج المكسور.
7- إحضار أقارب المتهمين من الزوجات والأخوات والبنات، واغتصابهن أمامهم، لكي يرغموا المتهمين على الاعتراف بما اقترفوه وما لم يقترفوه().
وقد أصدر صدام أوامره بإحالة الكثيرين من أساتذة الجامعات من أصحاب الأفكار المتحررة إلى التقاعد، ثم قدّمهم إلى المحاكمة، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة بعد طردهم من وظائفهم، وتحديد إقاماتهم، أو سجنهم لفترات طويلة.
وأصدر أوامره أيضاً بإغلاق مئات المساجد في العراق؛ لمجرد أن الشباب المسلم يلتقي فيها.
وأمر أيضاً بمحاربة الكتاب الإسلامي، وعدم السماح به في المكتبات العامة، وفي تعليل ذلك يقول سعدون حمادي: أسهل على الرقيب أن يمنع من أن يجيز؛ لأنه إذا منع مائة كتاب فإننا لن نحاسبه، ولكنه عندما يجيز كتابًا وتظهر فيه كلمة ممنوعة فيمكن أن تقوم القيامة().
ج- الاشتراكية:
- مفهوم الاشتراكية:
قال ميشيل عفلق: "القومي العربي يدرك أن الاشتراكية هي أنجع وسيلة لنهوض قوميته وأمته"().
وقال أيضاً: "حزب البعث العربي الاشتراكي اشتراكيّ يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعِثة من صميم القومية العربية؛ لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكانياته، وتفتح عبقريته على أكمل وجه"().
وفي المجال الاقتصادي قالوا: "حزب البعث العربي الاشتراكي اشتراكي يؤمن بأن الثروة الاقتصادية في الوطن ملك للأمة"().
يقول ميشيل عفلق: "فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط أساسي لبقاء أمتنا ولإمكان تقدمها"().
يترتب على ذلك مسخ حقيقة الإرث الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.
جاء في موسوعة العراق الحديث: "أما الإرث فإن اشتراكية البعث تعترف به لكونه يرمز للصلة الروحية بين الأجيال، مما يبقي على الجوّ النفساني الذي ألفه الإنسان وعلى روابطه العاطفية، وذلك يقوي الروابط الاجتماعية ويحفظ للعائلة تماسكها ويغذي جوها الروحي والاجتماعي، ولكنها ترى أيضاً أن الإرث يؤدي إلى ترسيخ تفاوت الفرَص أمام الأفراد، وإلى استمرار الطبقية من جيل إلى الجيل الذي يليه، وإلى الحصول على دخل بدون القيام بأيّ جهد، لذلك تحدّده بشكل صارم وتجعله في كثير من الأحيان رمزياً لمنع الأبناء من عيش البطالة والكسل غير المنتج والفساد، ونسبة الإرث المباح تحدّدها الدولة بقوانين تناسب الظروف، وهي على العموم تقتصر على وسائل الاستهلاك، ووسائل الإنتاج اليدوي التي يستطيع الابن وعائلته استعمالها بأنفسهم.
والخلاصة: يعترف بحق التملك وحق الإرث في حدود ضيقة جداً، لا تسمح بالاستغلال ولا تخل بانسجام المجتمع"().
- البعث والاشتراكية وجه واحد:
يقول ميشيل عفلق: "لو سئلت عن أسباب ميلي للاشتراكية لأجبت: إن ما أطمع به منها ليس زيادة في ثروة المعمل بل في ثروة الحياة.
إن الذي يظنّ الاشتراكية ديناً للشفقة مخطئ أيما خطأ، وما نحن رهبان نلوذ بالرحمة.
إذا سئلت عن تعريف للاشتراكية فلن أنشده في كتب ماركس ولينين، وإنما أجيب: إنها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت"().
في سبيل البعث، لميشيل عفلق (ص43) بتصرف.
حزب البعث، للغامدي (ص56).
في سبيل البعث (ص196).
في سبيل البعث (ص193).
في سبيل البعث (ص205).
في سبيل البعث (ص265).
حزب البعث (ص48-49).
في سبيل البعث (ص264).
انظر: موسوعة العراق الحديث (2/406)
موسوعة العراق (2/410).
في سبيل البعث (ص174).
حزب البعث للغامدي (ص51).
في سبيل البعث (ص105).
حزب البعث للغامدي (ص52).
انظر حزب البعث للغامدي ص53.
انظر: حزب البعث (ص28-34).
انظر: الموسوعة الميسرة (1/481).
الموسوعة الميسرة (1/480). وللاطلاع على المزيد من الجرائم المرتكبة انظر: حقوق الإنسان في العراق من تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، تقديم أحمد رائف.
في سبيل البعث (ص285).
الموسوعة (2/411).
موسوعة العراق الحديث (2/411).
في سبيل البعث (ص292).
موسوعة العراق الحديث (2/415).
في سبيل البعث (ص17-19).
4 ـ مبادئ حزب البعث:
المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها:
العرب أمة لها حقها الطبيعي في أن تحيى في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها، ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر.
2- الأمة العربية وحدة ثقافية، جميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي.
3- الوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته ومقدراته.
المبدأ الثاني: شخصية الأمة العربية:(/4)
الأمة العربية تختص بمزايا متجلية في نهضاتها المتعاقبة، وتتسم بخصب الحيوية والإبداع وقابلية التجدد والانبعاث، ويتناسب انبعاثها دوماً مع نمو حرية الفرد، ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية، ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفنّ مقدسة، لا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها.
2- قيمة المواطنين تقدر بعد منحهم فرصاً متكافئة بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أيّ اعتبار آخر.
المبدأ الثالث: رسالة الأمة العربية:
الأمة العربية ذات رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم.
ولهذا كان حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة، وهم يسعون ضمن إمكانياتهم المادية والمعنوية إلى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حرّيتها.
2- الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة الإنسانية ويغذونها، ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح().
الحركات القومية العربية (ص34-35).
5 ـ عقائد حزب البعث:
1- البعث حركة عقائدية:
والعقيدة عندهم هي حصيلة الدراسة العلمية للتاريخ للقوى الفاعلة فيه، وصاحب العقيدة مضطر إلى أن يطور عقيدته ـ أي قوانينه ـ مع تطور التاريخ.
فالبعث عقائدي، ولكنه ليس مذهباً جامداً.
البعث ينطلق من أن العالم بشكل عام والتاريخ بشكل خاص حركة دائبة.
والحركة هي نتيجة تصارع قوى، وليست مجرد تصاعد مستمر.
2- البعث حركة نضالية:
نضال البعثي نابع من وعيه للتاريخ، ومن كونه قوة فاعلة فيه، لا متفرجاً على أحداثه.
ونضاله عقائدي، بمعنى أن نضاله ليس أعمى، بل يسترشد بتجارب الإنسان الماضية، فيدرك غايات نضاله، ويدرك وسائل نضاله، ويستعملها، والنضال عندهم يعمّق معنى العقيدة ويوضّحها ويطوّرها.
وواجب الحزب الأول تنظيم الشعب، وتعبئته حول العقيدة التاريخية السليمة، واستنفار قواه وتحريكها ثورياً من أجل المشاركة الفعالة في الثورة.
3- البعث حركة ثورية:
الثورة هي رفض لوضع، وانفتاح على نقيضه.
والثورة تستهدف بناء مجتمع عربي موحد، تسوده علاقات اجتماعية تقدمية، ويختفي فيه الاستغلال الطبقي، وتتفتح فيه طاقات الجماهير.
من خلال ثورتها على وضع تاريخها تحقق ثورة في ذاتها، فتحقق ذاتاً جديدة، مبدعة خلاقة، منصهرة في حركة التاريخ.
4- البعث حركة جماهيرية:
كل ثورة لا تكون الجماهير أداتها ثورة ناقصة ثورة فوقية.
كل ثورة لا يكون الجماهير غايتها ثورة محرفة ثورة كاذبة.
5- البعث حركة قومية:
في النضال ضد الاستعمار الواضح الهوية يجب أن تتضح هوية المناضل.
يؤمن بوحدة الأمة، ووحدة اللغة والتاريخ والأرض كانت الأساس الذي بنيت عليه وحدة الأمة العربية.
6- البعث حركة اشتراكية:
الاشتراكية مصير حتمي.
الاشتراكية ليست مجرد نظام اقتصادي يتحقق في مستقبل الأيام، إنها قبل ذلك وعي على القوى الفاعلة في المجتمع، ووعي على مكان هذه القوى من المعركة القومية.
الإيمان بالاشتراكية إذن ليس إيماناً بالمستقبل، بل هو إيمان اليوم، إيمان في قلب المعركة.
7- البعث حركة إنسانية:
البعث حركة عربية لا عالمية، قومية لا أممية، ولكنه حركة تقدمية، ترفض الاستعمار، والتخلف فكرياً ونضالياً.
لذلك فالبعث يعي معنى التحالف الطبيعي بينه وبين جميع قوى الثورة والتقدم والاشتراكية في كل أنحاء العالم.
8- البعث ثورة شاملة:
الهدف الأساسي للبعث هو تحريك قوى التاريخ التقدمية في الوطن العربي تحريكاً ثورياً يحقق من خلال النضال ضد الاستعمار والتجزئة والتخلف.
خلق أمة عربية واحدة تضمها دولة عربية واحدة، في مجتمع اشتراكي متقدم، تستعمل فيه الجماهير كل طاقاتها، وتتمتع بحرياتها.
ومن هنا كان شعار البعث: وحدة، حرية، اشتراكية().
وملخّص عقيدة حزب البعث ما يلي:
1- يجعل حزب البعث الاشتراكية ديناً، والعلمانية اللادينية مسلكاً ومنهجاً.
2- يجعل حزب البعث الرابطة بين العرب رابطة الدم والقرابة واللغة والتاريخ والأرض، ويلغي تماماً رابطة الدين والتقوى بحجة أنها تمزق الأمة.
3- يدعو الحزب إلى تحرير الإنسان العربي من الرجعية والخرافات والغيبيات، ويريدون بذلك الإسلام.
4- يرى حزب البعث أن الحركات الإسلامية والمؤسسات الإسلامية والشخصيات الإسلامية والتي تدعو إلى تطبيق شرع الله والدول التي تحكم بالإسلام عقبات يجب التخلّص منها من أجل بناء المستقبل العربي.(/5)
5- يرى حزب البعث أن الوحدة العربية حقيقة حتمية لا بدّ من تحقيقها بالانقلاب والثورة والعدوان العسكري، والاحتواء التنظيمي للشخصيات السياسية والعسكرية المؤثرة، أو الشخصيات ذات النفوذ الثقافي والمكانة الثقافية، وبناء على حتمية الوحدة العربية عنده فإنه يرى أن الوحدة الإسلامية حلمٌ وهراء، وأسلوب عدائي ضد القومية العربية.
6- يرى حزب البعث أن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم وشخصياته البارزة إنما هم شكل من أشكال التعبير عن القومية العربية.
7- يرى حزب البعث أن الإسلام مجرد قيم روحية وشعائر عبادية لمن أراد ذلك.
8- يقول حزب البعث: إن العروبة هي ديننا نحن العرب من مسلمين وغيرهم؛ لأن العروبة وجدت قبل الإسلام والمسيحية، ويجب أن نغار عليها كما يغار المسلمون على قرآن محمد، والنصارى على إنجيل المسيح.
9- يترسم حزب البعث الخطوات الماركسية في الأفكار والممارسة، والخلاف بينهما أن الماركسية أممية، وأما البعث فقومي، وما عدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الفقري في فكر الحزب ومعتقده.
10- يرى الحزب أن الحدود بين أجزاء البلدان العربية يجب أن تزول، وتقوم دولة العرب الواحدة بحكومة واحدة على أساس بعثي، وعلى قيادة علمانية.
11- كان الحزب ولا يزال واجهة انضوت تحته كل الاتجاهات الطائفية المعادية للإسلام درزية ونصيرية وإسماعيلية ونصرانية، وأخذ هؤلاء يتحركون من خلال حزب البعث بدوافع باطنية، يطرحونها ويطبقونها تحت شعار الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية والثورية والتقدمية.
12- لافتة حزب البعث هي: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، ويعنون بالرسالة الخالدة أن الأمة العربية ذات رسالة تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وأنه مرة عبّرت عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة بالشعر الجاهلي، ومرة بعبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام لا يعدو أن يكون نبتة ظهرت في أرض القومية العربية().
ألف باء البعث، لمنيف الرزاز (3/149-162/ضمن أعماله الفكرية والسياسية) بتصرف.
حزب البعث (ص112-113).
6ـ دستور حزب البعث:
لم يكتف حزب البعث بطرح العلمانية مبدأ للحكم؛ بل جعلها مطبقة في دستوره، ونلاحظ في الدستور البعثي ما يلي:
1- انطلق الحزب في دستوره من منطلق كافر يتمثّل في العلمانية والاشتراكية.
2- انسلخ الحزب في دستوره من الإسلام تمام الانسلاخ.
3- مبادئ الدستور ليست مخالفة لشرع الله فحسب؛ بل مناقضة له تمام المناقضة().
وهذه مقتطفات من دستور الحزب:
المادة الأولى: العراق جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة، هدفه الأساسي تحقيق الدولة العربية الموحدة، وإقامة النظام الاشتراكي().
المادة الثانية عشرة: تتولى الدولة تخطيط وتوجيه وقيادة الاقتصاد الوطني بهدف:
أ - إقامة النظام الاشتراكي على أسس علمية وثورية.
ب - تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية().
المادة التاسعة والثلاثون: يؤدي رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والأعضاء أمام المجلس اليمين التالية:
أقسم بالله العظيم وبشرفي ومعتقدي أن أحافظ على النظام الجمهوري، وألتزم بدستوره وقوانينه لتحقيق أهدافه العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية().
حزب البعث (ص76).
العراقي الاشتراكي، للدكتور: مجيد خدوري (ص295).
العراقي الاشتراكي (ص299).
العراقي الاشتراكي (ص310).
7 ـ العلاقة بين حزب البعث والعلمانية:
يقول ميشيل عفلق: "الدين في الأوضاع الحاضرة هو الذي يخلق المشكلة، وهو الذي يساعد على بؤسهم وعبوديتهم"().
ويقول أيضاً: "المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشكلات في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهل حزبنا وأن يتهرب من إيجاد الحلول لها"().
وقال: "وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي أو يوهم بوجود التضادّ بين القومية وبين هذا التراث الروحي بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا أن لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية، فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة، أرجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً وصالحتهم مع ماضي أمتهم دون أن تجمدهم في هذا الماضي"().
وقال أيضاً: "فالدولة إذن تقوم على أساس اجتماعي هو القومية، وأساس أخلاقي هو الحرية.
إن هذه الدولة بهذا المعنى ليست إلاّ إمعاناً في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي"().
في سبيل البعث (ص122).
في سبيل البعث (ص125).
في سبيل البعث (ص192).
في سبيل البعث (ص175).
8 ـ العلاقة بين حزب البعث والشيوعية الماركسية:
لما فكر عفلق في تأسيس حزب البعث وجد أن رفاقه من الشيوعيين قد سبقوه في التأسيس والانتشار، وأنهم قد أصبح لهم من الوجود ما يحسب له حسابه، فما الموقف الفكري والعملي الذي اتخذه البعثيون من الشيوعيين فكراً وتنظيماً؟(/6)
الواقع يثبت أن البعث قد أخذ كثيراً من الأفكار الشيوعية ونادى بها وجعلها أساساً لعقيدة، وإن كان قد حاول أن يلوّن هذه الأفكار بلونٍ قومي، وأن يلبسها عقلاً عربياً فوق القبّعة الغربية.
وطبيعي أن يتبنى البعث هذه الأفكار الماركسية ويدعو إليها تحت صبغة أخرى غير الصبغة اللينينية السْتالينية"().
ذلك أن ميشيل عفلق يبتدئ تاريخه الفكري بماركس، كما يقول البعثيون، وأن البعثيين عندما يذكرون ريادة ميشيل عفلق في ندواتهم فإنهم كانوا يرددون: "إن تاريخ ميشيل عفلق الحقيقي هو تاريخه الفكري، لقد التقى على الانسجام والوفاق أخصب تيارات الفكر الإنساني من ماركس إلى نيتشه، ومن جيد إلى دستويفسكي وأهرنبورغ"().
ويمكن إجمال القضايا التي اشترك فيها البعث مع الماركسية فيما يلي:
1- العلمانية: وهي فصل الدين عن الحياة، وإن كان الماركسيون ينكرون الأديان أصلاً ويحاربونها صراحة، بينما يتبنى البعث أسلوباً آخر لمحاربة الدين الإسلام.
2- الجدلية الديالكتيكية.
3- الثورية.
4- الحتمية، لكنها عند الماركسيين أممية، أما عند البعث فهي قومية عربية.
5- الاشتراكية، وهي كذلك أممية عند أولئك، وقومية عربية عند هؤلاء.
أما في الممارسة فإن أوجه الشبه كثيرة جداً، وأظهرها الفتك والدموية بين أعضاء الحزب الواحد، والسفك المتواصل بين الرفاق، ومن أقرب الأمثلة إعدام صدام لرفيقه ووزير دفاعه حردان التكريتي وأعوانه.
وما حصل بين الرفاق الشيوعيين في عدن عام 1986م بين أنصار عبد الفتاح إسماعيل، وأنصار علي ناصر محمد.
ومن أوجه الشبه في الممارسات بين البعث والشيوعية الاضطهاد للشعوب التي يحكمونها، وانعدام الحرية في البلدان التي يتسلّطون عليها، بيد أن هناك أوجه افتراق بين البعثية والشيوعية().
حزب البعث (ص85).
الأستاذ: حياة ميشيل عفلق (ص88).
حزب البعث (ص86-87).
9 ـ موقف حزب البعث من الإسلام:
انتقد ميشيل عفلق الماركسيين في هجومهم على الدين؛ ذلك لأنه يرى أنه بالإمكان توظيف الدين لحساب مآربهم وأهدافهم.
يقول: "والفهم السطحي هو أن نستنتج بسرعة بأنه مادام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صفّ الواقع الفاسد، وليسوا في صفّ الثورة على الفساد؛ فإذن الدين من أساسه فاسد، ولا وجود له، ولا خير فيه، ولذلك يجب التخلّص من الدين؛ لأنه سلاح بيد الظالمين والمفسدين.
هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جداً، وهذه هي النظرة التي توقف عندها الشيوعية، ولذلك فالشيوعية ليست عميقة في كل نواحيها، ولو أنها في كثير من نواحيها جدّ عميقة"().
ويقول: "ونحن لا نرضى عن الإلحاد، ولا نشجع الإلحاد، ونعتبره موقفاً زائفاً في الحياة، موقفا باطلاً وضاراً وكاذباً، إذ إن الحياة معناها الإيمان، والملحد كاذب، إنه يقول شيئاً ويعتقد شيئاً آخر، إنه مؤمن بشيء مؤمن ببعض القيم، ولكننا ننظر للإلحاد كظاهرة مرضية يجب أن تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر إليه كشرٍ يجب أن يُعاقب، لأن الملحد إنسان متناقض، يدّعي شيئاً ويعمل خلافه، فالثورة على الدين في أوربا هي دين، هي إيمان بمثل وبقيم إنسانية رفيعة"().
ومن هذا المقال يتبين لنا ما يلي:
1- أن مراده بالإلحاد هو إنكار وجود الله، وعلى ذلك فالبعث يؤمن بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق المدبر للكون، هذا على أحسن التأويلات.
2- أن حقيقة الدين تتمثل في الإيمان بالمُثل والقيم الإنسانية الرفيعة ليس غير، وعلى ذلك فإذا تدين الإنسان بالعلمانية أو البعثية وهو يحمل قيمها ومُثُلها فهو مؤمن بدين، ولذلك قال عفلق بأن الثورة على الدين في أوربا هي دين وإيمان().
ويرى عفلق أن الدين عند العرب شيء أساسي، وغير عارض، وأنه يمتلك في حسّ العرب تاريخاً طويلاً وأثراً بعيداً، ولذلك أوجدوا له الحلول المفيدة بحيث لا يصطدم الحزب بالدين الإسلامي فيخسر كما خسرت الأحزاب الماركسية.
يقول عفلق: "المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشكلات في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا، وأن يتهربّ من إيجاد الحلول لها... هل الدين شيء ثانوي؟ إن الحزب لا يرى هذا، بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وأنه يمكن أن يتطور ويتبدّل في أشكاله وأن يتقدّم أو يتأخّر ولكنه لا يمكن أن يزول.
إذن؛ فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه... فنحن مع تبنّينا للنظرة السلبية إلى الدين، أي: رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعماً للظلم والتأخر والعبودية، نثق رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين. ونحن لا نجهل بأنّ نظرتنا هذه تتطلب من الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه النظرة الشيوعية"().
والإسلام الذي يريده الحزب باختصار:(/7)
1- يعتبر البعثيون الإسلام فترة من فترات القومية العربية، ومرحلة من مراحل تعبيرها عن نفسها، وأنه ليس سوى نبتة ظهرت في التربة القومية لتكون مشخصة لآمال وآلام العروبة().
يقول ميشيل عفلق: "هذه الأمة التي أفصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة إفصاحاً متعدداً متنوعاً في تشريع حمورابي، وشعر الجاهلية، ودين محمد، وثقافة عصر المأمون"().
ويقول: "لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ إنسانية"().
ويقول: "فرسالة الإسلام إنما هي خلق إنسانية عربية، إن العرب بنفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصية، إن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية"().
2- يعتقد البعثيون أن الإسلام مجرد قيم روحية، وإيمان وجداني، وشعور نفسي، ومُثُل عالية، وأنه يكفي الإنسان أن يؤمن بوجود الله، وأن تكون علاقته بالله علاقة فردية، كأن يصلي إذا أراد، أو يصوم أو يحج. أما أن يكون الإسلام حاكماً لحياة الناس وشؤونهم فتلك الجريمة الكبرى والرجعية والتخلف والظلامية().
يقول عفلق: "على المناضل العربي عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها أن يتذكر دوماً أنه مؤمن بالقيم الإيجابية والقيم الروحية"().
ويقول: "وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي أو يوهم بوجود التضادّ بين القومية وبين هذا التراث الروحي، بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا أن لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية، فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة، أرجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً، وصالحتهم مع ماضي أمتهم دون أن تجمدهم في هذا الماضي"().
3- يأخذ البعثيون من الإسلام ما يخدم عقيدتهم ويعين على نشرها بين المسلمين، تماماً كما فعلت حركات الزندقة المعاصرة كالقاديانية والبهائية، ويرون أن الإسلام قوة ضدّ الظلم والانحراف يمكن أن تستخدم هذه القوة في تأجيج الروح الثورية عند البعثيين أنفسهم، وعند عموم المسلمين، فهم من هذه الزاوية يعتبرون الإسلام قوّة ثورية ونضالية، وفق مفهومهم للثورة والانقلاب والنضال، ووفق مخططهم الساعي لاستخدام الإسلام في بثّ شعور الحماس والفاعلية في أوساط الناس().
يقول عفلق: "هل يفكر الشباب أن الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة على أشياء كانت موجودة ومعتقدات وتقاليد ومصالح؟! وبالتالي: هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم إلا الثوريون؟! وهذا شيء طبيعي؛ لأن حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة والآن وبعد ألوف السنين الثورة واحدة.
إن المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام هم أبعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل أن يكونوا فهموا الإسلام، ولذلك من الطبيعي جداً أن يكون أقرب الناس إلى الإسلام فهماً وتحسساً وتجاوباً هو الجيل الثوري"().
في سبيل البعث (ص119).
في سبيل البعث (ص121-122).
حزب البعث (ص88-89).
في سبيل البعث (ص125-127).
حزب البعث (ص90).
في سبيل البعث (ص106).
في سبيل البعث (ص107).
في سبيل البعث (ص145).
حزب البعث (ص92-93).
في سبيل البعث (ص129).
حزب البعث (ص192).
حزب البعث (ص95).
في سبيل البعث (ص117) بتصرف.
عاشرًا: موقف الإسلام من حزب البعث:
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
قال ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كلّ خير، الناهي عن كل شر، وعدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير"().
وقال أيضاً: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر؛ فكيف بمن تحاكم إلى (الياسق) وقدّمه عليها؟! ومن فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين"().(/8)
وقال ابن تيمية: "والإنسان متى أحلّ الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه؛ أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً، باتفاق الفقهاء"().
وقال أحمد شاكر: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء ولا مداورة، ولا عذر لأحدٍ ممن ينتسب للإسلام ـ كائناً من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها"().
وقال محمد بن إبراهيم: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربيٍ مبين في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]"().
وقال محمد حامد الفقي: "من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصرّ عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أيّ اسم تسمّى به ولا أيّ عملٍ من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها"().
وقال عبد العزيز بن باز: "إن الدعوة إلى القومية العربية والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بدّ إلى رفض القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة.
وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله"().
وقال أيضاً: "وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحدٍ من الناس الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال"().
تفسير القرآن العظيم (2/67).
البداية والنهاية (13/19).
مجموع الفتاوى (3/267).
عمدة التفسير (2/172-174).
تحكيم القوانين (ص1).
التعليق على فتح المجيد (ص406).
نقد القومية العربية على ضوء الكتاب والسنة (ص50) بتصرف.
مجموع فتاوى ومقالات (1/274).
11 ـ أقوال الشيخ عبد العزيز ابن باز في النظام البعثي وحاكمه:
قال رحمه الله: "إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تستنكر ما أصدرته الحكومة العراقية من القرارات الاشتراكية، وتضم صوتها إلى صوت علماء العراق وغيرهم من العلماء في إنكار النظام الاشتراكي، وتؤكد بأنه نظام كفري يصادم نظام الإسلام ويناقضه، وتنصح حكومة العراق بالرجوع إلى نظام الإسلام وتطبيقه في البلاد، لكونه أعدل نظام وأصلح تشريع عرفته البشرية، وهو كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية السليمة، وحل المشاكل الاقتصادية وغيرها، وإيصال حق الفقير إليه على وجه إذا أخلص المسلمون في تطبيقه.
والإسلام يحرم على المسلم دم أخيه وماله وعرضه، ويعطيه حرية التصرف الكامل في ماله في ظل الحكم الشرعي، وتصرح تعاليمه بأن ما يزعمه بعض الناس من أن النظام الاشتراكي مستمد من روح الإسلام زعم باطل، لا يستند لأي أساس من الصحة.
هذا وأسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم"().
وسئل رحمه الله السؤل التالي:
تراكض البعض في مبايعة طاغية العراق لمجرد أنه رفع بعض الشعارات الإسلامية، بالرغم من ماضيه القبيح في حربه للإسلام وفتكه بالمسلمين، وبالرغم من استمرار حاضره على منواله المعروف، فهل تقبل الشريعة الإسلامية مبايعة طاغية سفاح يعلن الكفر منهجاً له لمجرد مدحه لبعض شعارات الإسلام؟ وما رأي الشريعة فيمن بايع أو أيد أو ناصر هذا الطاغوت؟
فأجاب: "لا ريب أن مبايعة مثل هذا الطاغوت ومناصرته من أعظم الجرائم، ومن أعظم الجناية على المسلمين، وإدخال الضرر عليهم؛ لأن من شرط البيعة أن يكون المبايع مسلماً ينفع المسلمين ولا يضرهم.(/9)
أما حاكم العراق فهو بعثي ملحِد، قد أضرّ المسلمين بأنواع من الضرر في بلاده، ثم اعتدى على جيرانه، فجمع بين أنواع الظلم علاوة على ما هو عليه من العقيدة الباطلة البعثية، ولو أظهر بعض الشعارات الإسلامية، فالمنافقون يصلّون مع الناس، ويتظاهرون بالإسلام وذلك لا ينفعهم لفساد عقيدتهم، وقد أخبر الله عنهم سبحانه في كتابه العظيم بصفاتهم الذميمة وأخلاقهم المنكرة، وأخبر أن مصيرهم هو الدرك الأسفل من النار يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء:142-143]، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} [ النساء:145-146].
نسأل الله لحاكم العراق وأنصاره من الظالمين أن يردهم إلى الهداية، وأن ينقذهم مما هم فيه من الضلال، وأن يكفي المسلمين شرهم، وشر غيرهم، إنه خير مسؤول"().
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
مجموعة فتاوى ومقالات (7/394)، في برقية بعثها لفخامة الرئيس.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/387).(/10)
حزب الله يقاتل اليهود
محاولة للاستنتاج .. ولا تثريب.
د. لطف الله خوجه 4/8/1427
28/08/2006
مختصر الأحداث.
ما حزب الله ؟.
متى يقع الكفر؟.
هل نؤيد حزب الله ؟.
مختصر الأحداث.
حزب الله يقاتل اليهود.
حزب شيعي يتصدى لدولة إسرائيل.
يرميها بصواريخ الكاتيوشا، ذات التأثير الضعيف؛ حيث يطلق المائة، فلا تقتل إلا واحدا أو اثنين، وأحيانا لا شيء. وقد تتلف بعض الأبنية، وهي تثير الرعب في اليهود، وتشفي بعض ما في الصدور.
أما اليهود فإنهم دمروا لبنان، كما لم تدمر من قبل، وقتلوا المئات من: الأطفال، والنساء، والشيوخ، والضعفة، وشردوا مئات الآلاف من بلدانهم. والكل شاهد هذا.
فهذا القتال حقيقي، لا شك ولا ريب. والدليل: القتل، والدمار، والنزوح الجماعي.
اليهود يدعون أن قضيتهم عادلة؛ يقاتلون من أجل استرداد أسيرين أسرهما حزب الله.. بينما الوقائع تؤكد أنها حرب مبيتة، مخطط لها، ضحيتها شعب لبنان، وأرض لبنان، والمنطقة كلها.
وقف منها العالم مواقف:
- فمنهم المراقب المتفرج، الذي لا يأبه لما يحدث، فمنها دول كبرى، ومنها صغرى.
- ومنهم المشارك المعين، الممتنع والرافض إيقاف الحرب، المفشل لكل خطة في هذا الصدد.
- ومنهم المتأسف، يدعو لوقف الحرب، لكنه مكبل، لا يقدر على شيء.
- والمسلمون منصرفون عن الأمر، حتى إنهم لم يجتمعوا لأجل هذا البلد المسلم.
ثم إن كثيرا من أهل السنة، علماء وعوام، خرجوا مؤيدين، مساندين حزب الله، فكتبوا، وتظاهروا، ونددوا بالعدوان. وثمة منهم من أبدى رأيا معارضا في هذا الحزب؛ منع من تأييده، وحث على التنبيه على مخالفاته للإسلام والسنة، لاعتبارات: عقدية. تاريخية. واقعية.
هذه خلاصة هذا الحدث. وما يعنينا هنا هو: محاولة حسم هذا الخلاف، وتوضيح المواقف.
* * *
ما حزب الله ؟.
حزب الله طائفة شيعية:
- اثنا عشرية؛ نسبة إلى اثني عشر إماما من آل البيت، ينتسبون إليهم.
- إمامية؛ لقولهم بأن الإمامة ركن الدين.
- جعفرية؛ نسبة إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين.
أهل السنة يسمونهم: رافضة. وهم يرفضون هذه التسمية.
فهم في الاعتقاد موافقون لشيعة إيران، والمعروف السائد: أنه صنيعة إيران، وهي الممولة والموجهة له.
وهذه نظرة لجملة من أصول الاعتقاد عند الشيعة الاثني عشرية، التي لا يزالون يؤمنون بها:
أولا: الإمامة ركن الدين الأعظم.
الإيمان بالإمام جزء من عقيدتهم، وركن أساس من أركان الدين، ومن أصبح بلا إمام فهو ضال.
ويرون بطلان إمامة من تقدم عليا رضي الله عنه، وأنه كان الأحق بها نصا، لولا أنها سلبت بمؤامرة دبرها أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. كذا قالوا .!!.
ثانيا: تصورهم للإمام ووظائفه.
يعتقدون في الأئمة أنهم أشخاص غير عاديين، كانوا قبل العالم، أنوارا، ولهم ولاية تكوينية.
فالإمام مهيمن على شؤون الكون، ومجرياته، والكل خاضع له، ويعلم أمور الغيب، وهو معصوم من الخطأ، في كل أفعاله، وأقواله، ونتيجة لذلك: فإنهم يسألونه حوائجهم، ويستغيثون به في الكرب.
فاعتقادهم هذا في الأئمة أوقعهم في أعمال شركية، في الدعاء، وعند القبور، كما في النجف وكربلاء، وكما سمع الناس وشاهدوا في القنوات الفضائية، من استغاثة عوام الشيعة المهجرين في لبنان بالحسين وزينب، من إجرام اليهود الصهاينة.
والشيعة لا يخفون هذا، بل ينظرون له، ويبررون له، كما حدث وشاهد وسمع الجميع في مناظرات المستقلة، التي كانت عن التجديد، بين الشيخ عدنان العرعور وحسين الأسدي؛ الذي كان يشرعن ويحسن دعاء الحسين والاستغاثة به من دون الله تعالى.
ثالثا: قولهم بالتقية.
التقية معناها عندهم: كتمان الحق، وستر الاعتقاد، ومكاتمة المخالفين؛ أي عدم الإفصاح لهم.
هذا المبدأ أساس علاقتهم بأهل السنة بالأخص، ويروون فيه آثارا منسوبة إلى جعفر الصادق، كقوله:
- "تسعة أعشار الدين في التقية".
- "لا دين لمن لا تقية له".
- "التقية ديني ودين آبائي".
- "من صلى وراء سني تقية، فكأنما صلى وراء نبي".
رابعا: تحريف القرآن.
المعروف عنهم قولهم: أن القرآن محرف، أسقطت منه بعض السور، وكثير من الآيات في فضائل آل البيت، والأمر باتباعهم. وقد اتهموا الصحابة بفعل ذلك. وأن القرآن لم يجمعه كله إلا الأئمة، وأنه مثل هذا القرآن ثلاث مرات، ليس فيه منه حرف واحد. وقد ألف حسين بن محمد النور الطبرسي كتابا سماه: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب".
هناك فئة نفت التحريف منذ فترة مبكرة، في القرن الرابع والخامس، وهذا ما يردده المعاصرون، إلا أنهم لا يقولون بكفر من يقول بالتحريف؛ أعني كفر الفعل لا الفاعل. وهذا ما حمل جمعا من السنة على تلقي هذا النفي بكثير من الحذر، بل وعدم الاطمئنان في أحيان عديدة.
خامسا: تكفير الصحابة، ورد السنة.
ادعوا على الصحابة: أنهم اغتصبوا الإمامة من علي رضي الله عنه. وعليه فقد نصوا على تكفيرهم إلا جماعة، منهم: علي، وأبو ذر، وسلمان.(/1)
وطائفة من المعاصرين يجتنبون تكفيرهم، لكن يضللونهم. ففي كل حال عندهم: الصحابة ضالون.
وعليه: فإنهم يردون السنة؛ كونها جاءت من طريق الصحابة رضوان الله عليهم.
سادسا: مخالفتهم لأهل السنة.
هذه المخالفة مسطرة في كتبهم، ويكفي دليلا على أن المخالفة بين السنة والشيعة عقدية، أصلية:
- اتخاذ الشيعة بيوتا للعبادة غير المساجد، سموها بالحسينيات، يضاهون بها بيوت الله تعالى.
- واتخاذهم بقعا كالنجف وكربلاء، ضاهوا بها البيت الحرام حرمة، وشرفا، بل زادت، يحجون إليها، ويتخذونها أعيادا، ومناسك.
فهذه جملة من الأصول التي يخالف فيها الشيعة - وحزب الله من هذه الطائفة - أهل السنة.
وبها يتضح أن الخلاف كبير، وفي الأصول، وعلماء السنة متفقون على:
- أن القول بتحريف القرآن، كفر مخرج من الملة.
- وأن دعاء غير الله تعالى شيئا لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كفر مخرج من الملة.
- ونسبة تصريف الكون وتدبيره إلى مخلوق، كفر مخرج من الملة.
- وادعاء أن أحدا يعلم الغيب المطلق، كفر مخرج من الملة.
كما أنهم متفقون على:
- الترضي عن الصحابة جميعا، وتعديلهم، وأنهم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
- وأنه لا بيوت للعبادة غير المساجد، ولا يحج ولا يعظم سوى مكة، ثم المدينة والأقصى.
فهؤلاء إذن وقعوا في أعمال تخرج من الإسلام بالكلية، لكن المسألة المهمة هنا، هو:
- هل الشيعة كلهم وقعوا في هذه الأمور ؟.
- وهل الذين وقعوا أقيمت عليهم الحجة، حتى يكفروا بأعيانهم ؟.
* * *
متى يقع الكفر؟.
أما عن الأول:
فمن الصعب أن يقال: كل شيعي، هو يعتقد تلك المعتقدات.
إن ذلك لا يثبت إلا بمعرفة ما لدى كل شيعي:
- فالشيعة طوائف، قد تختلف فيما بينها، وإن اشتركت في أكثر الأصول.
- وأكثر الشيعة أخذوا تشيعهم وراثة. لا يدركون كثيرا من أصوله، وتفاصيله.
- ومن الشيعة من لا يؤمن بتلك المعتقدات أصلا، أو بكثير منها، إما فطرة، وإما لاطلاعه على فسادها، ومعرفته بالحق، لكنه يكتم إيمانه، خشية وخوفا.
ولذا فلا تثبت هذه المعتقدات لأحد منهم، إلا بإثباته على نفسه؛ بتصريح منطوق، أو مكتوب.
وبما أنه لم يحصل مثل هذا الإثبات والإقرار لكل فرد شيعي، فالقول الموافق لأصول الحكم على الآخرين: عدم الحكم على كل شيعي بنسبة تلك المعتقدات إليه، بمجرد انتسابه إلى طائفة الشيعة.
والموافق للأصول أيضا: الحكم على: الأفكار، والمعتقدات، والحزب والطائفة. من خلال: المؤلفات، والتصريحات، ونحو ذلك. التي تبين المذهب والاتجاه. فيقال: هؤلاء المنتمون لهذا الحزب، أو المنضوون تحت هذا اللواء.. هذه معتقداتهم.
فيكون حكما عاما، أما الخاص فيحتاج إلى زيادة فحص ودراسة. فالحكم على الأعيان بحكم ما: كالكفر، أو البدعة، أو الفسوق. لا يكون إلا بعد إقامة الحجة؛ بإثبات الشروط وانتفاء الموانع.
أما عن الثاني:
فالذي يمكن قوله: أنه ليس كل شيعي أقيمت عليه الحجة، لأسباب، منها:
1- تقصير أهل السنة في إيصال الحق إليهم.
2- تجهيل رؤوس ومشايخ الشيعة لعوامهم، وضرب نوع من الحصار العلمي عليهم.
3- تربية العامي منهم منذ الصغر على كره أهل السنة، حتى يتطبع به، بعد أن يفهّم زورا وافتراء أن أهل السنة يكرهون أهل البيت، ويعادونهم.
4- ربط المذهب الشيعي بتكتلات قبلية، أو اجتماعية، أو أسرية؛ ليتعذر على من عرف بطلانه الخروج عنه، خشية من منافرة تلك التكلات، وهذا لا يقوى عليه كل أحد، مما يولّد أناسا يبطنون السنة، ويظهرون التشيع.
فهم في الأعذار بين: جاهل جُهّل عمدا، ومن لبّس عليه فلم يعرف الحق، ومكره يكتم إيمانه.
وفي هذا الحال من الظلم تكفير كل واحد منهم، قبل معرفة ما لديه من قول وعذر.
فهم مسلمون من حيث العموم؛ لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون إلى القبلة، ويؤمنون بأركان الإسلام، والإيمان في الجملة ابتداء. فيثبت لهم بها اسم الإسلام.
أما ما يقعون فيه من الشركيات والكفريات، فقد يعذرون للموانع الآنفة، فالله تعالى رحيم لا يؤاخذ الناس بما جهلوا، أو ضلوا فيه عن غير عمد، أو أكرهوا عليه.
ومن أوجب الواجبات على أهل السنة: تبصيرهم بالحق، ونقض الشبهات التي تزرع في عقولهم، وإزالة تشويه السنة من نفوسهم.
* * *
هل نؤيد حزب الله ؟.
هذا السؤال لم يكن ليطرح لولا التباين بين السنة والشيعة في: المعتقد، والتاريخ، والمصالح.
والقسمة المتوقعة والواقعة هنا هي: التأييد، وعدم التأييد.
- فالقول بالتأييد يرتكز على مبررات:
الأول: أنها أرض إسلامية اعتدي عليها. والدفاع عن الأرض واجب.
الثاني: أنهم مسلمون؛ فهم يشهدون الشهادتين، وأهل قبلة. والمسلم له النصرة.
الثالث: أنهم ظلموا بالعدوان الإسرائيلي. والسعي في إزالة الظلم واجب.
الرابع: أنهم يقاتلون أكبر أعداء الإسلام والمسلمين. والتنكيل بالعدو مطلب.
الخامس: إفشال المخطط الصهيوني بإيقاع حروب بين أبناء المنطقة، بقصد الهيمنة.(/2)
- والقول بعدم التأييد يرتكز كذلك على مبررات:
الأول: التباين العقدي.
الثاني: صون دماء أهل السنة وأموالهم من عدوان الشيعة، إذا ما قدروا عليهم.
الثالث: إفشال المخطط الفارسي الصفوي للهيمنة على المنطقة.
وقبل الخوض في دراسة هذه المبررات واختبار ثبوتها من عدمه، من المطلوب تحديد مفهوم التأييد.
التأييد هو الدعم والمساندة، فالمعاني المحتملة للتأييد يمكن تقسيمها حسب ما يلي:
- أولا: التأييد الدفاعي. وذلك برفض العدوان، والسعي في إيقافه، وغوث المنكوبين.
- ثانيا: التأييد الصامت. وذلك بالسكوت عن المخالفات العقدية، والتجاوزات العملية.
- ثالثا: التأييد المثالي. وذلك بتمني انتصارهم، والدعاء لهم، ومدهم بالمال، والقتال معهم.
وبالنظر إلى هذه المعاني، فلو أخذنا مبررات المؤيدين، فإنها بمجردها، مسوغة، لا بل موجبة؛ فلا يطلب للتأييد أكثر من كون المؤَيد:
- مسلما، مظلوما، يقاتل عدوا للإسلام والمسلمين ينكل به، ويشفي صدور المجروحين.
- والأرض المعتدى عليها إسلامية خالصة.
- والمقصود إفشال خطط الصهيونية للهيمنة الكاملة على المنطقة.
وكل هذه المبررات موجودة في حرب حزب الله لليهود. فإذا حكمنا بالنظر إلى هذه المبررات مجردة، فالتأييد واجب.
ولو أخذنا مبررات المعارضين، فإنها أيضا بمجردها صحيحة، مسوغة، لا بل موجبة لعدم التأييد، فأي فائدة من تأييد يفضي إلى: التلبيس على الحق، وتشيع السنة، وتسلط الشيعة الفرس.
فأولها التباين العقدي، وهو ثابت كما تقدم بيانه، ومن قال غير هذا، فيحتاج أن يدرس كتب الشيعة والسنة عبر القرون، ومواقف بعضهم من بعض، ولوضوح التباين، فلا نحتاج أن نشغل أنفسنا بالرد على المنكرين؛ إذ إنكارهم الواضحات أمر معيب !!.
فالتباين العقدي مع التأييد يفضي إلى: التعمية عن الحق، وتشيع السنة؛ إذ التأييد والحالة هذه، قد يفهمه كثير من الناس على: أنه تصويب وشهادة بحسن المعتقدات. وربما جرهم ذلك إلى التشيع، خصوصا مع حالة الإعجاب ببطولات الحزب في قتاله اليهود.
وهذا منزع صحيح لعدم التأييد؛ إذ يجب بيان الحق، وصون السنة من التشيع.
وثانيا: عدوان الشيعة على السنة، كلما تمكنوا:
- كما يحصل في العراق، وهو معروف.
- وحصل في لبنان، لما حاصرت حركة أمل الشيعية، فقتلت آلاف الفلسطينيين في المخيمات.
- وكذلك اضطهاد السنة في إيران.
ويلحق بهذا المبرر مبرر آخر هو: المخطط الفارسي للهيمنة على المنطقة.
ففي مثل هذا الحال، المنطق والعقل يقول: ليس من الحكمة تأييد من إذا قدر عليك، لم يرع فيك حرمة نفس، ولا مال، ولا دين، ولا أرض، كما حصل للسنة بعد الثورة الإيرانية.
فمن المهم إفشال هذه الخطط للتسلط الفارسي، صونا للسنة في نفوسهم، وأموالهم، وديارهم.
وهذا أيضا منزع صحيح لرفض التأييد؛ لأنه من الإعانة على النفس، وذلك لا يجوز.
* * *
وهكذا هي المبررات صحيحة في نفسها. فإذا تقابلت تعارضت، فكيف العمل حينئذ ؟.
لا تحسم القضية إلا بالمقابلة، ثم الموازنة، ثم الترجيح. فإما أن يظهر قول على الآخر، فيكون هو الصواب، أو يتساويا، فحينئذ فالمسألة محل النظر والاجتهاد، لا يلام من نظر فاجتهد، فاختار أحدهما. فهذا حكم الترجيح؛ إذ الترجيح يكون بين الأقوال المتقاربة.
والسؤال المهم هنا؛ لمعرفة الراجح من القولين، هو: هل الأحوال المرتبطة بهذه الحادثة بعينها، تحقق مبررات المؤيدين أم المعارضين ؟.
- هل تأييد حزب الله يتسبب في: التلبيس على الحق، وتشيع السنة، وتسلط الفرس ؟.
- أم عدم التأييد هو المتسبب في: احتراب داخلي، يساعد على المخطط الصهيوني في المنطقة ؟.
للوقوف على الجواب، نرجع إلى مفهوم التأييد، ونستعرض أنواعه، ونسلط عليها أدوات الفحص والدراسة، لنرى ماذا يمكن أن تحقق من المصالح، وما يمكن أن تجلب من المفاسد ؟.
النوع الأول: التأييد الدفاعي.
أي الدفاع عن الضعفاء. فالتأييد بهذا المعنى هل سيفضي إلى شيء من المفاسد التي حذر منها المعارضون ؟.
هذا النوع يتضمن: رفض العدوان، والسعي في إيقافه، وغوث المنكوبين. وهذه أمور لا يختلف أحد على أنها حق لكل إنسان، مظلوم، حتى لو لم يكن مسلما. والظالم نفسه إذا عاد مظلوما فله النصرة، ولا يكون ظلمه مانعا، لقوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله..".
فتأييدهم بهذا المعنى هو المصلحة لا ريب، وهو الدعوة، والحكمة، والموعظة الحسنة. فنخرجها إذن من دائرة الخلاف، ونضعها في دائرة الاتفاق، ولننتقل إلى النوع الثاني.
النوع الثاني: التأييد الصامت.
وهو بمعنى السكوت عن معتقداتهم، وعن فعالهم بالسنة، والسكوت على قسمين: دائم، ومؤقت.
فأما السكوت الدائم، فهو تضليل عن الحق؛ فمتى يبين الحق مع سكوت دائم؟.
وقد أخذ الله العهد والميثاق على أهل العلم: أن يبينوا الحق للناس، وإلا عذبهم، فقال تعالى:(/3)
"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون".
"إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم..".
فهذا خلصنا منه، وهو منزع صحيح لرفض التأييد؛ إذ كان مداره عليه. فما القول في القسم الثاني؟.
القسم الثاني: السكوت المؤقت. وهو لمراعاة المصلحة، إن ترجحت بالسكوت.
ولا نظن في أحد من أهل العلم والفقه والرأي إلا موافقته على: أن السكوت المؤقت يحتاج إليه في بعض الأحيان، حتى مع الكفار. والنصوص في هذا المعنى كثيرة لا تخفى، قال تعالى:
"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة".
"من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم".
وفي ضوء ثبوت شرعية السكوت المؤقت عن بيان الحق، من حيث الأصل: فمن الجائز السكوت المؤقت عن أخطاء الشيعة، وأفعالهم، إذا ترتب عليه مصلحة تعود على المسلمين (= منع الاقتتال بينهم. كف العدوان. النيل من العدو اليهودي، تحرير الأرض الإسلامية، إفشال المخطط الصهيوني). أما إن ترتب عليه ضرر (= تضيع الحق، تشيع السنة، تسلط الفرس الشيعة) فقد يقال: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وحينئذ نرجع إلى تعارض الأدلة وتقابلها، لكن والحالة هذه:
هل يمكن أن يترتب ضرر على السكوت المؤقت ؟.
هذا سكوت غير مطلق، ولا دائم، فما يخشى من التعمية عن الحق منفي؛ إذ النقد لمعتقدات وأعمال الشيعة قائم قبل وبعد الحدث، وحتى في الأثناء، لمن ابتغى البحث في المظان من المؤلفات في الفرق والعقيدة. وبهذا يضمن بيان الحق، وصيانة السنة. مع التنبيه حين التأييد:
إلى أنه بالإجمال ثمة خلاف جذري عقدي بين الفريقين، ليس الوقت ملائم لتفصيله؛ إذ هناك ما هو أهم، وهو: كف العدوان، وإحباط مخطط تفتيت المنطقة.
وهكذا تصبح المسألة من هذا الوجه محل النظر والاجتهاد، بحسب ما يتأتى من مصلحة.
فالتأييد بهذا المعنى فيه مصلحة، وهو الأقرب، ومفسدته بعيدة نوعا ما، فلنخرج هذا النوع أيضا من دائرة الخلاف، إلى دائرة الاتفاق، ولننتقل إلى النوع الثالث.
النوع الثالث: التأييد المثالي.
وهو أعلى أنواع التأييد. فهل هذا النوع يفضي إلى شيء من المفاسد ؟.
هذا النوع يكون: بإعلان المساندة، وبالدعم المالي، وتمني النصرة والدعاء، والقتال. وإذا تذكرنا:
- أنهم مسلمون، وهم مظلومون، يقاتلون عدوا ينكلون به.
- والأرض إسلامية خالصة، والدفاع عنها واجب، بكل ما يستطاع.
- وثمة هدف لإيقاع المنطقة في حرب أهلية، ودينية، بقصد الهيمنة.
فكل هذه أسباب مشروعة للتأييد المثالي.
وقتال السنة إلى جنب الشيعة عدوا مشتركا ليس بجديد على التاريخ الإسلامي، فقد كان سيف الدولة الحمداني يقود الجيوش الإسلامية في حرب الروم، وهو شيعي إمامي. فالقتال هنا ليس لحساب جهة ما، إنما لأجل الأرض أنها إسلامية، حصل العدوان عليها. فلنذكر هذا جيدا !!.
وأما المفاسد التي يخشى منها، وهي: التلبيس على الحق، وتشيع السنة. فذلك يمكن الاحتماء منه بالطريقة التي ذكرت سابقا، وهي البلاغ، البيان، والدعوة. فهذه لا تنقطع أبدا، ولو توقفت لوقت.
وأما عن المخطط الفارسي، فهذا إن ثبتت صلته بهذا الحدث (الحرب بين حزب الله وإسرائيل)، فكذلك يدفع بالبيان، والبلاغ، وإيضاح الأمور بحقائقها؛ أي يكون العمل على أصعدة:
- تأييد المقاومة، لأنها تحمل كثيرا من أسباب التأييد.
- فضح المخطط الفارسي، وعدم السكوت عنه، وتحذير المسلمين منه.
- العمل المضاد؛ لإفشال هذا المخطط، مثل دعوة الدول السنية الكبرى أن يكون لها دور موازٍ للدور الإيراني؛ تأثيرا، وتخطيطا، ومنعة
حزب الله يقاتل اليهود
محاولة للاستنتاج .. ولا تثريب.
د. لطف الله خوجه 11/8/1427
04/09/2006
مخطط فارسي، أم صهيوني ؟.
تراشق !!.
نقد لا يوقد حربا.
مخطط فارسي، أم صهيوني ؟.
وجود مخطط فارسي للهيمنة في المنطقة أمر معروف لكل: مراقب، ومحلل، وسياسي.
فالإشارات والعلامات لا تخفى:
- بدءا باحتلال الجزر الإماراتية الثلاثة.
- ثم السعي لامتلاك السلاح النووي.
- إلى التدخل في العراق، ومحاولة صياغتها لتكون مقاطعة تابعة.
- واختراق سوريا ونشر التشيع فيها بشكل غير مسبوق.
- والقدرة على تحريك السلم والحرب في لبنان.
- ثم مناوراتها الاستعراضية في الخليج العربي.(/4)
كما لا يخفى على متابع، الخطة الخمسينية، التي صدرت عن الدوائر الإيرانية؛ للهيمنة والتسلط على منطقة الشرق الأوسط، وكل ما حدث بعد ذلك من تحركات إيرانية ، إنما يصب في صالح هذه الخطة وتنفيذها. فالثورة في حالة تصدير حتى هذا الوقت، لكن في صورة مغايرة للبدايات، حيث الشعارات الثورية، والحروب، والإثارة. هي اليوم تمضي في خطى أكثر تأثيرا، بعد أن تعلم قادة الثورة من الدرس، فقلبوا المعركة من نطاق الثورة إلى الفكر، والسياسة، والتخطيط البطيء الطويل.
والمخطط الصهيوني كذلك ثابت، لا يجهله أحد، فهو معلن بالقول وبالفعل:
- فدعوات الشرق الأوسط الكبير، والجديد.
- واحتلال أفغانستان والعراق تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.
- وتهديد سوريا المستمر، ومحاولة إخضاعها بالقوة.
- وضرب المقاومة في فلسطين ولبنان.
أمور تبين ما وراءها، فالصهيونية لها غرض الهيمنة المطلقة على المنطقة.
فالمخططان ثابتان، والسنة العرب بالأخص معنيون بهذه المخططات، التي تحاك ضدهم.
وليس المهم سرد تفاصيلهما، إنما معرفة أيهما المرتبط بهذا الحدث؛ الحرب بين حزب الله واليهود ؟.
فإذا أخذنا في الاعتبار سرعة رد إسرائيل، ودخوله الحرب مباشرة بعد أسر الجنديين، وتلقيه من الدعم التام والمساندة التامة من الولايات المتحدة الأمريكية، ودخول الأخيرة الحرب بصورة واضحة هذه المرة، بإفشالها كل المساعي لوقف إطلاق النار، كما حدث في مؤتمر روما ومجلس الأمن، بل وإصرارها العلني على مواصلة الحرب. ومهما كان من انحيازها لإسرائيل في السابق، إلا أنها لم تبلغ هذه الدرجة، فقد كانت هذه المرة في صورة الذي يقود المعركة، ويحرك الآلة العسكرية الإسرائيلية.
كل هذه دلالات على أن الحرب مبيتة، مخطط لها سابقا، اختير لها هذا التوقيت، واتخذت حادثة أسر الجنديين كذريعة مبررة.
وإذا أضيف لها الحرب التي سبقت ضد الفلسطينيين، بالذريعة ذاتها؛ تخليص الجندي الأسير، فبها يعلم أن المقصود هو: القضاء على كل أشكال المقاومة ضد إسرائيل، ووضع نهاية لها. لترتيب المنطقة من جديد، ضمن مشروع هيمنة صهيونية مطلقة.
وإذا انتقلنا إلى المقابل، فالسؤال الذي يرد هنا:
لم بادر حزب الله إلى أسر الجنديين في وقت، كانت فيه إيران تواجه معضلة إحالة ملفها النووي إلى مجلس الأمن، لتواجه عقوبات الحصار الاقتصادي، والسياسي، والعسكري..؟.
هل كان لأجل صرف الأنظار عن هذا المشروع زمنا، تستطيع فيه إيران إتمام مشروعها؛ ليصبح واقعا، تضطر الدول الكبرى للتعامل معه على هذا الأساس؛ لتعطى الوصاية على المنطقة، مقابل ضمانها مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
إن لإيران الدور الأول في بروز هذا الحزب، وبقائه. فهي الممد له بالعون والمال، والعتاد، والرجال أيضا، والحزب يرجع إليها، ويعتد بمرجعيتها.
ودخوله في هذه الحرب، مع حيازته لهذا الكم الهائل من الصواريخ، الجاهزة، فيه دلالة على استعداده لحرب قريبة، فهل كان على علم بأن إسرائيل ستبادر إلى الهجوم والقتال، ليعد عدته، أم كان يعد العدة ليجرها إلى حرب مشغلة ؟.
فالحدث قد يرتبط بهذا أو ذاك، وارتباطه بالأول أظهر، لعلانية التصريحات، ووضوح المواقف الأمريكية الإسرائيلية. وارتباطه بالثاني أخفى؛ لغموض الموقف الإيراني وحزب الله وعدم تصريحهم بطبيعة العلاقة بينهما في هذه الحرب.
وفي هذا المقام، يستحضر المعارضون الثورة الإيرانية، وما وقع فيها من نكث الشيعة بوعودهم للسنة، بعدما شاركوهم الثورة، وما تلاه من اضطهاد السنة، حتى إن طهران لا يوجد فيها مسجد واحد إلى اليوم. وقد فرح كثير من السنة بالثورة وأيدوها، قبل أن تتبين لهم أهدافها الثورية الفارسية.
وهم يخشون أن يكون هذا الحدث، وهذا التأييد تكرارا للصورة نفسها، دون اعتبار ولا اتعاظ.
والذي يبدو أن الحدثين مختلفين:
- فالثورة كانت انقلابا على الحكم، وأي مساندة للانقلابيين فإنها تعني تمكينهم من الحكم والسلطة، وهذا ما حدث بعد ذلك.
- أما هذا الحدث فليس انقلابا، بل أرض إسلامية اعتدى عليها الكافر، فدمرها وقتل المسلمين فيها، وهجر مئات الآلاف.
فاختلفت الصورتان، فلا يصح قياس هذا على هذا إذن.
فالتأييد غايته: غوث المظلوم، ودفع الظلم، والنكاية بالعدو، وإفشال المخطط الصهيوني، وتحرير الأرض. وهذا الهدف واضح، والمصلحة ظاهرة. أما التسلط الفارسي، فهو وإن لم يكن خافيا على أحد، فربطه بهذا الحدث خفي غير جلي، ويمكن تلافي المفاسد بخطوات أخرى، غير منع التأييد، كما مر سابقا.
وهكذا من خلال هذا التحليل والدراسة، نجد الجواب لكل دليل معارض:
- فالتأييد الدفاعي لا يختلف عليه أحد.
- والتأييد الصامت، يمكن بالصمت المؤقت.
- والتأييد المثالي، فلأجل الأرض الإسلامية، والمسلمين الضعفاء.
وما يخاف من المفاسد، يمكن دفعه بالعمل المضاد، ليس فقط بالامتناع عن التأييد، فهذا هو المنهج العملي في مثل هذه القضايا، وهذه هي المرونة في الحركة، والعمل، والإصلاح.
* * *
تراشق !!.(/5)
اختلف الناس في هذه القضية، وقال كل رأيه، ثم بدأ التراشق بين الطرفين ؟!!.
فالمؤيدون نعتوا المخالفين لهم: بأنهم في أوهام، لا يدركون أبعاد السياسة، مستغرقون في التحليل العقدي، لديهم تأزم نفسي، ينظرون بمنظار ضيق غير شمولي، يلجئون إلى التاريخ، لا يرون العالم إلا من خلال عقائدهم، وأنهم وحدهم على الحق.
وغير المؤيدين ينعتون المخالفين: بأنهم ما وعوا الدرس، ولم يتعظوا بما سبق، وما يحدث في العراق، وأن هذا من تمييع الحق، وتمكين الأعداء. وأنه كان الأولى بهم السكوت إذ لم يدركوا أبعاد المؤامرة.
ولو تريث الفريقان، لوجدا المبررات صحيحة من الطرفين.
وهي متقابلة، تحتاج إلى موازنة؛ لترجيح الصواب منها، وطرح الآخرى.!!!.
وحقيقة المشكلة لدينا: أن الترجيح يأتي دائما بالظن، لا بالدراسة، والتتبع، والفحص!!
ومن حاول الدراسة، فدراسته فردية، لا تقوم بها مؤسسات مختصة بالشئون السياسية، وهذا أمر يفتقر إليه أهل السنة، فلو كانت لديهم لجان ومؤسسات مختصة بدراسة السياسة الإيرانية خصوصا، والشيعة عموما؛ لأسعفت بدارساتها، حيال هذه الأحداث، الباحثين والعلماء، مما يمكّنهم أن يبنوا عليها حكما شرعيا مؤصلا، قريبا من الصواب، إن لم يكن الصواب نفسه.
لكن في مثل هذه الأوضاع المختلطة التي نعيشها، من غياب الهوية السنية، الجامعة لنشاطات السنة، المحققة لمصالحهم، فإن الجهود الفردية ستحل محلها. ترافقها مشكلة أخرى هي: عدوان الخائضين بعضهم على بعض، بالتسفيه، والطعن، والاستهجان، والاستخفاف، وكل ذلك ينافي أخوة الإسلام. وهكذا تجدنا في كل مسألة نازلة طارئة، نختلف اختلاف الخصوم والأعداء.
فلو أننا إذ فاتنا العمل والنشاط المؤسسي، تراحمنا فيما بيننا، فأظهرنا جدلا محترما:
- يتبع أصول الحوار وآدابه، بطرح الأدلة، وتتبع المستندات، ودراستها، وتحليلها، واعتبار ما يمكن اعتباره، وطرح ما يمكن طرحه.
- مستخدمين في ذلك أدوات الترجيح بمنهجية علمية، من: ثبوت دليل، وصحة دلالة، ومناسبة للواقعة، وقياس صحيح. واعتبار الزوايا الأخرى، من: سياسية، واقتصادية، وتاريخية..
- وكل داخل في الجدل لديه القدرة والاستعداد على إعادة النظر في رأيه. لا، بل الرجاء في أن يجد الحق عند صاحبه؛ ليعمل به.
لكان في هذا تعويضا عن الفراغ الكبير، الذي تركه العمل المؤسسي في بنية الحركة السنية، ولكان فيه بديلا عن العمل الجماعي، لكننا أبينا إلا أن نجعلها كما قال القائل: "حشفا وسوء كيلة"؟!!. فكل معجب برأيه، ولا يملك لأخيه إلا لسانا شديدا، شحيحا على الخير؟!!.
نحتاج إلى أن تعلم أصول الحوار، والبحث، والمناظرة، والجدل بالحكمة، والموعظة الحسنة. ولا أكاد أستنثي. فالكل، إلا القليل، وقع في هذا الخطأ.
* * *
- إذا أتى المؤيد بمبرر فيه: أنهم مسلمون. قال المعارض: لكنهم مخالفون في أصول من العقيدة.
- وإذا قال الأول: إنهم مظلومون. قال الآخر: لكنهم يعتدون ويظلمون السنة.
- وإذا قال: إنهم ينكلون باليهود. قال: لكن لهم مخطط للهيمنة.
وهكذا كل يذكر قضية صحيحة، يقابلها الآخر بأخرى مثلها. وليست نقطة الخلاف في هذه الأمور، إنما في المقابلة بينها، والموازنة، ثم الترجيح. فإن ثبت: أن تأييدهم ينفع فما المانع من تأييدهم ؟.
وإذا ثبت العكس: أن تأييدهم يضر، فلم نؤيد عملا فيه ضرر علينا ؟.
فكما رأينا المسألة، ليست محسومة ابتداء، كما جهد الفريقان على تصويره، بل هي مشروطة، والفقه كل الفقه، في إدراك هذا الشرط، إثباتا أو نفيا. فمتى ثبت الشرط، أو انتفى فعلى المخالف التراجع.
وهذا الكلام متعلق بهذا الحدث، وحكم الحدث المعين لا يعمم، وإن كانت أطراف الصراع هي نفسها، فإن وحدة الأطراف لا يلزم منها وحدة الحكم، وإلا لما جاز للمسلمين أن يحاربوا الكافرين تارة، ويصالحوهم تارة، ويهادنوهم تارة.
والحقيقة أن ترجيح أحد القولين على الآخر، فيه كثير من المغامرة، لغموض جوانب من القضية، وعدم توفر المعلومات الصحيحة، بصورة واضحة، لأسئلة حاسمة في الموضوع.
فلو أخذنا قضية الهيمنة الفارسية، وهي حقيقة في أصلها، وإنما البحث في ارتباطها بهذا الحدث، ففي ارتباطها تتعارض الأدلة وتتقابل؛ فالتأييد يقوم على نفي الارتباط، وأدلته ما يلي:
1- أنهم مسلمون، مظلومون، يقاتلون عدوا للإسلام والمسلمين.
2- أن الحزب والشيعة لم يكونوا يتوقعون هذا الرد من إسرائيل، ولو عرفوا ما أسروا؛ لتكون عقوبتهم: تدمير قراهم بالكامل، وتهجير أتباعهم كلهم إلا قليلا.
3- أنه من الواضح من إصرار أمريكا على استمرار إسرائيل في القصف والعدوان: أنها حرب مبيتة؛ لخلق منطقة جديدة، سموها شرق أوسط جديد.(/6)
فهذه إشارات وعلامات تنفي: أن تكون مخططا فارسيا. ومن ثم فلا خوف من أطماع إيرانية شيعية، وإن كان من مبررات عدم التأييد ما هو قائم (تضييع الحق، وتشيع السنة؛ إعجابا ببطولات حزب الله). فيبقى مبرر، ويسقط مبرر، ويمكن علاج المبرر القائم ببيان الحق بلطف ورفق، بالتأييد مع الأشعار أنه لأجل منع الظلم، ومنع الاحتراب بين السنة والشيعة، وليست شهادة على حسن المعتقدات، أو الثقة الكاملة.
وفي المقابل تقوم فكرة المعارض على تأكيد الترابط بينهما، وأدلته ما يلي:
1- أن الحزب والشيعة نالوا ثقة الناس، وإعجابهم، وهذا مكسب كبير لهم، فهذه الحرب أفادتهم كثيرا، ويمكن لهم أن يسخروها في مخططاتهم.
2- أن هذه الحرب صرفت الأنظار زمنا عن مشروع إيران النووي، التي هي ماضية فيه.
3- أنها فتحت جبهة جديدة، وثغرة في جدار دولة إسرائيل، وقد تضطر معها أمريكا لاحقا إلى التفاوض مع إيران وحزب الله لإيقاف الحرب؛ التي دمرت اقتصاد إسرائيل، وهجرت كثيرا من شعبها، وفق صفقة يكسب منها حزب الله موقعا أقوى في لبنان، وإيران موقعا أقوى في المنطقة، وهذا غير مستبعد في عالم لا يعرف إلا لغة القوة، وفي السياسة لا مانع من خضوع قوة كبرى لأخرى أضعف منها، إذا أدركت أن لها مصالح لا تتحقق إلا بنوع من الخضوع المؤقت، والولايات المتحدة تميل إلى الشيعة أكثر من ميلها إلى السنة، ولا يستبعد مثل هذا الحدث.
فهذه إشارات وعلامات تثبت مخاوف المعارضين للتأييد، وهي ليست محض خيال، فعلى المؤيدين أن يتأملوها مليا، ويدرسوها جليا.
والمهم هنا ليس الترجيح وحده، إنما أيضا التأكيد: على أن كل فريق عليه أن يفيد من الآخر، فالواضح أن كلا عنده شيء، ليس عند الآخر، فمن جمع جمع، ومن فرق تفرق.
* * *
نقد لا يوقد حربا.
بقيت الإشارة إلى مسألة طرقت ضمن أهداف المؤيدين، هي: أن بالتأييد نمنع الشحن الطائفي، والاحتراب بين المسلمين.
وبعيدا عن هذا الحدث الذي نحن بصدده، فهذه المسألة تحتاج إلى نظر وتأمل؛ فالمفهوم الواضح، الذي لا يراد غيره: أن نقد الشيعة وبيان مخالفاتهم، وأفعالهم يفضي حتما إلى احتراب بين السنة والشيعة.
وهذه نتيجة لا يسلم بها..!!.
فلو كان كل نقد عقدي يفضي إلى احتراب، لوجدتَ كافة فرق النصارى محتربة، وكافة فرق اليهود كذلك، وديانات الهند، وكذا الدول المتعددة الديانات. لكن ذلك لم يكن لازما، وإن كان حدث في وقت من الأوقات، إلا أنه لم يكن لمجرد الاختلاف، بل لأن هنالك عناصر كانت تحرض على الاقتتال. فعلم من ذلك: أن النقد العقدي والفكري المجرد من دون تحريض، سيقف عند مجرد النقد، والتخطئة، بل والتضليل. لكن لا يصل إلى الاقتتال والاحتراب، ما لم ينشأ عنصر يحرض على ذلك.
وهذا ما نريد قوله: نقد وتخطئة، لكن من دون تحريض على عنف، حتى ما دون القتل. فليس ثمة طريق للإصلاح، سوى البلاغ، قال تعالى: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين".
ومن العجيب: أن الذين يطالبون بالكف عن الكلام في معتقدات الشيعة نقدا، أو غيرهم، بدعوى الكف عن الشحن الطائفي، والاحتراب. تجدهم في مقام آخر: مدافعين عن حرية الرأي، وإبداء وجهة النظر في أفعال الآخرين، تصويبا أو تخطئة، بل وتضليلا، ما دام أنه لم يتجاوز إلى العنف.
يقولون هذا في كافة الأمور، فإذا ما جاءوا إلى الاعتقاد والدين، طالبوا بالكف، حتى لا تحدث فتنة، وكأن الفتنة لا تكون إلا مع النقد الديني، دون سائر النقود ؟!!.
والحق: أن الإنسان، والمسلم والسني من باب أولى، لا يحب القتل والقتال، والعنف والعدوان، ويدفعه ما استطاع، بكل الحيل والوسائل، كما أن كل مؤمن يحب الله تعالى، فهو لا يرضى أن يسكت عن ضلال الناس، بعد أمر الله تعالى له أن يبلغ الناس الحق، الذي تعلمه، وهو سائله عنه.
فهو يعمل على الجمع بين الأمرين: تبليغ الحق الذي معه، وإن أغضب ناسا وأسخطهم، رحمة بهم، وقياما بالحق الذي أوجبه الله عليه؛ وفي الوقت نفسه لا يتخذ هذا التبليغ والتصويب لأخطاء الآخرين ذريعة إلى التحريض على الاحتراب والقتال.
كلا، بل قدوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبلغ: الأمم، والأقوام، والأفراد دين الله تعالى، دون عدوان، أو قتال، إلا إن اعتدي عليه.
* * *
إن هذه المسألة شائكة، وقد جاء الخوض فيها بقصد الوصول إلى جواب، فكان هذا البحث المختصر، وعسى أن يكون قد أصاب، وتلك منة الرحمن على عبده، وإلا فالخطأ من الإنسان ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله برئيان من هذا القول، ويكفي أنه قد تقرر فيه:
أنه لا تثريب على من رجح الرأي الآخر، وقال به.
والله أعلم.(/7)
حسان بن عطية
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
-1-
أحمد الله تبارك وتعالى وأصلي وأسلم على خير أنبيائه محمد وعلى آله وصحابته ومن سلك نهجهم إلى يوم الدين.
من عباد الرحمن أعلام هذه الأمة الذين كان لهم شأن على طريق وجودها الذاتي، وإنماء لحياتها بالكثير الكثير من الضياء إيماناً ووعياً وصلاح نفس وقلب: الرجل الرباني، والإمام الحجة حسان بن عطية أبو بكر المحاربي مولاهم الدمشقي.. قيل: كان من أهل بيروت، وكانت وفاته في حدور ثلاثين ومائة.
كان عصر الرجل يموج بالكثير من الأفكار والتيارات، فلم يعجزه أن يكون على غاية الوعي في موقف المواجهة، وأن يكون عنواناً للاستقامة، والتقرب بالعبادة إلى الله زلفى.
كان يزين حياته وسلوكه العمل الصالح الدائب على المنهج النبوي الكريم في إطار من العلم والمعرفة التي تجعل من عبادة العابد عملاً بالعلم، وتزكية للنفس، وسيراً على طريقة السلف الذين اغترفوا من معدن النبوة، واستمسكوا بحبل الله المتين، وكانت خلائقهم النموذج القرآني فيما أدب به الإنسان، وحمله إلى طريق الجنة التي أعدت للمتقين.
أسند ابن عطية في روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك وشداد بن أوس، كما روى عن عدد من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، ومحمد بن أبي عائشة، ومحمد بن المنكدر ونافع وأبي الأشعث الصنعاني رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد شهد له بالفضل وصلاح العمل العديد من أعلام هذه الأمة الذين تسطر شهاداتهم بماء الذهب حتى قال الأوزاعي رضي الله عنه "ما رأيت أحداً أكثر عملاً منه في الخير" يعني حسان بن عطية.
ومن الوقائع التي ذكرها الأوزاعي ما جاء في قوله: كان حسان بن عطية ينتحي إذا صلى العصر في ناحية المسجد فيذكر الله حتى تغيب الشمس.
ولا شك أن كثرة الذكر كما أرادها الكتاب والسنة توصل صاحبها إلى الفلاح "واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون(1)" وآية ذلك أن تتفجر ينابيع الحكمة على لسان الذاكر الصادق الخاضع قلبه، لذا لم يكن بدعاً أن نرى ابن عطية رحمه الله يمدنا في هذا المجال بكلمات هي في أصالتها ونورها أشبه أن تكون من ميراث النبوة.
ففي شأن قيام الليل –وهو روضة المحبين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً- قال رضي الله عنه: "من أطال قيام الليل هان عليه طول القيام يوم القيامة".
وفي دعوته إلى الخشوع في الصلاة، وبيان ما يكون من الفارق بين الخاشع والغافل يقول: "إن القوم ليكونون في الصلاة الواحدة، وإن بينهم كما بين السماء والأرض. وتفسير ذلك: إن الرجل يكون خاشعاً مقبلاً على صلاته، والآخر ساهياً غافلاً".
وفي فهم صادق للترابط بين الإيمان والعمل، وأنه لا يجوز أن يفترقا، كان أجزل الله مثوبته لا يدع أن ينبه إلى موقف القرآن من هذه النقطة البالغة الأهمية، ومن ذلك ما رواه الأوزاعي قال: حدثني حسان أن الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل فقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون(2)) ثم صيرهم إلى العمل فقال: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً(3)).
ومن ذلك: تلك القاعدة النورانية التي أرساها في شأن الذكر والذاكرين الصادقين حين قال: (ما عادى عبد ربه بأشد من أن يكره ذكره ومن ذكره).
- 2 -
في حديث موصول عن هذا الرجل الرباني أود الإشارة إلى تلك المآثر التي ألمحنا إلى بعض منها في العدد الماضي من سلامة مواقفه في مواجهة الآراء المطروحة يومذاك، مجتزئاً بما ذكر عبد الملك بن محمد الصنعاني أنه سمع الأوزاعي يقول: "قدم علينا غيلان القدري في خلافة هشام بن عبد الملك" فتكلم غيلان وكان رجلاً مفوهاً، فلما فرغ من كلامه قال لحسان: ما تقول فيما سمعت من كلامي؟ فقال له حسان: يا غيلان إن يكن لساني يكل عن جوابك، فإن قلبي ينكر ما تقول. وحدث محمد بن كثير عن الأوزاعي أيضاً قال: قال حسان بن عطية لغيلان القدري: أما والله لئن كنت أعطيت لساناً لم نعطه، إنا لنعرف باطل ما تأتي به.
ألا ما أجمل أن يجتمع للمسلم العلم مع العمل، وما أكرم أن تكون العبادة على فقه في دين الله بالكتاب والسنة، ووعي لما يكون هناك من الآراء والأفكار التي تقتحم على العالم موطنه، وعلى العابد محرابه، وموضع تبتله.
وانظر إليه في تحديده لخصال هي فيض مخالطته للقرآن، ولحديث النبي عليه الصلاة والسلام، ذلكم قوله: (خمس من كن فيه فقد جمع الله له الإيمان: النصيحة لله ولرسوله، وحب الله ورسوله، ومن بذل للناس من نفسه الرضا وكفَّ عنهم السخط، ومن وصل ذا رحمه، ومن كان ذكره في السر كذكره في العلانية سواء).(/1)
هذا: وبقدر ما كان عاملاً بالسنة ناصراً لها، كان حرباً على البدعة والمبتدعين قال رضي الله عنه منذراً محذراً: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة". وفي جملة من أدعيته، وحسن تضرعه إلى مولاه، ما يكشف عن صفاء نفسه، وتذوقه حلاوة الإيمان وامتلاء قلبه خشية وحباً لله تعالى، ولمثل ذلك فليعمل العاملون. وصدق الله جل وعلا؛ إذ يقول في محكم كتابه: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون(4))..
لقد كان من دعائه إذا أمسى قوله: "الحمد لله الذي ذهب بالنهار وجاء بالليل سكناً، نعمة منه وفضلاً، اللهم اجعلنا لك من الشاكرين. الحمد لله الذي عافاني في يومي هذا، فرب مثلي قد ابتلي فيما مضى من عمري. اللهم عافني فيما بقي منه، وفي الآخرة، وقنا عذاب النار".
ومما كان يدعو به أيضاً ما روى الأوزاعي أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن تجعل غيري أسعد بما آتيتني مني. وأعوذ بك أن أتقوت بشيء من معصيتك عند ضر ينزل بي، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أقول قولاً أبتغي به غير وجهك. اللهم اغفر لي فإنك بي عالم".
وعلى كل ما كان يتسم به من الرحمة بعباد الله، والرأفة بهم، كان لا يعرف المهادنة مع الظلم والظالمين، وأوضح ما يكشف عن ذلك قوله: "يعذب الله الظالم بالظالم ثم يدخلهما النار جميعاً".
وفي خاتمة المطاف إنك واجد في حياة هذا الرجل نبعاً من العطاء الذي نحن اليوم بأمس الحاجة إليه، بعد أن أصاب النفوس ما أصابها من الجدب، وظاهرت الأمة عن أمر الله، وأصبح الإيمان عند كثير من الناس دعوى بلا دليل. وثالثة الأثافي: ما يرى الناظر في طول عالمنا الإسلامي وعرضه –في الأعمّ الأغلب- من ذلك الانفصال بين العلم والعمل، وبين العقيدة والسلوك.
ألا إن كل واحد من هؤلاء الربانيين حجة من الله على خلقه، في أن يستأنفوا الطريق فيلجموا هذه الأنفس عن الغي، ويقلعوا عن التفريط في جنب الله، ويخبتوا إلى ربهم ذاكرين قول الله تعالى: ]وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون(5)[.
وإنا لندعو الله تبارك وتعالى أن يكرم مثوى حسان بن عطية، وأن يعلي مقامه عنده مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين.
* مجلة حضارة الإسلام –السنة الخامسة عشرة- العدد الرابع –رجب /1394- آب/1974
(1) سورة الجمعة: 10
(2) سورة الأنفال: 2
(3) سورة الأنفال: 4،3
(4) سورة يونس: 62
(5) سورة الأعراف: 164/165(/2)
حسن البنا
صورة من الداخل
يحيى بشير حاج يحيى
الإمام الشهيد حسن البنا
يقول بعض الدعاة في وصف حقيقة الداعية:
إذا أردت أن تعرف صدق صاحب الدعوة فانظر إلى ثقة أهل بيته به، فإنهم أدرى بأحواله، وما غاب عن الآخرين منها لا يغيب عنهم.
وعلى هذا فلم يكن مستغرباً أن نسمع السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - تقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"كان خلقه القرآن".
كما أنه ليس عجباً أن نسمع السيدة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وهي تهدئ من روع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..!!
أردنا من هذه المقدمة أن نلقي الضوء على مقابلة أجرتها مجلة "لواء الإسلام" القاهرية مع السيدة ثناء حسن البنا إحدى كريمات الإمام الشهيد -طيب الله ثراه- نتلمس من خلالها صدق الداعية وصلاح الذرية من بعده، بعد أن تعهد البذرة الخيرة بالعناية والرعاية "وكان أبوهما صالحاً".
ماذا ننتظر من فتاة تبلغ الحادية عشرة من عمرها يوم استشهاد أبيها أن تحمل من ذكريات؟
تقول السيدة ثناء: عندما تحل ذكرى استشهاد والدي -رحمه الله- أشعر بالتقصير الشديد في خدمة الإسلام، فلقد قدم -رحمه الله- روحه في سبيل الله.. في سبيل الفكرة الإسلامية التي عاش لها ودعا الناس إليها، وقتل في سبيلها، فالموت - كما كان يقول - هو أسمى أمنية للمؤمن، وقد صدق الله فصدقه سبحانه، ونال الشهادة التي كان يتمناها، نسأل الله أن يجمعنا به شهداء في سبيله..
وأما صفات الإمام الشهيد كما تقدمها كريمته فقد جاءت كما يلي:
"كان -رحمه الله- هادئ الطبع، واسع الصدر، هيناً ليناً، لم أذكر أن صوته ارتفع مرة على أحد في البيت لأي سبب من الأسباب.. كان يعاون والدتي في بعض أعباء البيت، رغم انشغاله بأعباء الدعوة، وكان يقدر مجهود والدتي بالبيت دائماً، ولذلك كان يحضر لها شغالة لتساعدها في أعمال المنزل… كنا لا نحس فيه الغلظة أبداً، بل كان يغمرنا بالمودة والرحمة والعطف، ومع ذلك فقد كان يؤمن بسياسة العقاب، ولكن عقابه كان يتراوح بين إشاحة الوجه، أو إيماءة الرأس، أو إشارة باليد، وكان أقصى ما عاقبني به أن ضربني بالقلم الرصاص، فأذكر أنني ذات مرة عاملت الشغالة معاملة غير لائقة فأفهمني أن ما فعلته معها خطأ، لأنها أختي في الإسلام، وكان عقابه لي أن أمسك بقلم رصاص وضربني به على يدي وكان هذا كافياً جداً ليشعرني أنه غاضب عليّ، وكان درساً لي لم أنسه طوال حياتي..
وتضيف الأخت الفاضلة ثناء حسن البنا، وهي تنقل صورة أبيها المرتسمة في ذهنها، الموجهة لسلوكها، والمؤثرة في مسيرة حياتها:
"كان رحمه الله يجمعنا حوله ويعطينا المصاحف، ويقرأ علينا القرآن، ويطلب من وفاء وسيف الإسلام أن يتابعاه بحجة المراجعة، وكان يتعمد تقديم آية أو تلاوة آية شبيهة ليختبر مدى انتباههما إليه. ولم أفهم هذا الأسلوب التربوي إلا بعد أن اشتغلت بالتدريس، فقد يتعمد المدرس الخطأ أو النسيان ليختبر مدى استيعاب التلاميذ وانتباههم..
وعن اهتمامه بأهل بيته، وعدم تضييعه لمن يعول، رغم انشغاله بأمور الدعوة تقول كريمته:
"كان ملماً بكل صغيرة وكبيرة في البيت فكان يومياً يكتب مذكرة صغيرة بكل متطلبات البيت حتى يحضرها أو يكلف من يحضرها، وكان يعرف كل شيء يخص البيت لدرجة أنه كان يعرف موعد تخزين الأشياء كالسمن والبصل والثوم… وكان عند عودته ليلاً إذا وجدنا نائمين يطوف علينا، ويطمئن على غطائنا، ويقبلنا، بل يصل الأمر لدرجة أنه كان يوقظ أحدنا ويصطحبه إلى الحمام..
وعن الترويح عن أبنائه تقول السيدة ثناء:
وفي شهور الإجازة الصيفية، والتي كان يقضيها مع الإخوان في محافظات الصعيد والوجه البحري كان لا ينسانا أو يتركنا بلا رعاية، بل كان يصطحبنا إلى بيت جدي وأخوالي بالإسماعيلية لنقضي إجازتنا هناك، فنستمتع ونمرح حيث المزارع الخضراء والحدائق الغناء، وكان أخي "سيف الإسلام" يمارس رياضة ركوب الخيل، وبذا كان يعطينا -رحمه الله- حقنا في قضاء إجازة لطيفة وممتعة، وإعطاء الدعوة حقها بسفره إلى الصعيد في أشهر الصيف الحار..
رحم الله حسن البنا أباً وداعية، فقد كان صاحب مدرسة في التربية تركت آثارها في أبنائه وأبناء المسلمين.
-----------
الإمام حسن البنا يسبق عصره لخمسين عاماً
رؤية الأستاذ: عدنان سعد الدين
المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية
شاع في السنوات الأخيرة مصطلح (الإصلاح)، وتم تقديمه على أنه اسم مشروع غربي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على فرضه على ما يسمى بدول العالم الثالث.(/1)
ونسي أو تناسى الكثيرون أن الإصلاح هو مصطلح إسلامي ورد ذكره في القرآن الكريم "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت". ولدى دراسة معمقة في تاريخ الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، يتبين أنه كان رائداً من رواد الحركة الإصلاحية المعاصرة، وأنه وعلى الرغم من استشهاده في سن مبكرة، وفي ريعان الشباب، وقمة العطاء، طرح نظرات واجتهادات متقدمة جداً، وجدت ضرورة طرحها للأجيال الحالية في هذه المقالة المركزة والمكثفة.
من هو حسن البنا
إنه حسن بن أحمد عبد الرحمن الساعاتي المعروف بحسن البنا، ولد في قرية المحمودية من مديرية البحيرة في مطلع القرن العشرين الميلادي عام 1906. أكمل تحصيله الابتدائي والمتوسط في بلدته، ودرس بمعهد المعلمين في مدينة دمنهور، وتتلمذ على والده الشيخ أحمد عبد الرحمن، الرجل الصالح، والمحدث الكبير، صاحب شرح وتحقيق المسند لأحمد بن حنبل، وعلى عدد من الشيوخ، فأخذ من التصوف الزهد وتطهير النفس وتزكيتها، وتنقية القلب من العلل والشوائب، كما أخذ من السلفية الطريقة والاتباع مبرأة من الجمود والجفوة والتطاول على العارفين وذوي الصلاح، وعندما التحق بدار العلوم في القاهرة نال شهادتها وكان الأول بين طلابها.
في مدينة الإسماعيلية التي باشر مهنة التعليم في مدارسها، شرع بوضع الأسس في بناء كبرى الحركات الإسلامية عام 1928م الموافق 1347هـ، ولما يحصل على مكثه في الإسماعيلية عام واحد، إذ تضافرت عوامل عدة في تكوين شخصيته القيادية الفريدة فقد حباه الله تعالى عقلاً راجحاً، وذكاءً حاداً، وبديهة حاضرة، وقلباً كبيراً يسع المحسن والمسيء، وإحساساً مرهفاً، وذاكرة عجيبة، وفراسة تنظر بنور الله، وكان مفتاح شخصيته الزهد ونكران الذات، والخروج من سلطان الدنيا، وتحرره من التفكير بها، أو الاهتمام بشأنها أو متاعها. ذكر من دخلوا منزله أنهم شاهدوا صورة من الزهد تذكر بما كان عليه العارفون الكبار من أمثال الإمام أحمد بن حنبل(1).
لقد كانت تجربته المبكرة، ومشاهداته المثيرة عاملاً حاسماً في وضوح الرؤية، وتحديد الهدف لديه، فقد راعه ما رآه في أوساط الشيوخ من انقسام وصراع، واستفزته رؤية المعسكرات البريطانية جاثمة على صدر الوطن، وآلمه تفشي البؤس والفقر والحرمان في السواد الأعظم من المصريين لحساب المستعمر والملاكين الكبار والشركات الأجنبية، كما راعه تخاذل القصر والأحزاب السياسية أمام العدو المحتل، فشرع بوضع نظريات العمل الإسلامي، وأطلق الشعارات، وحدد الغايات، ورسم الخطط، وشرع في مخاطبة الشعب وتوعية الجماهير وبناء التنظيم، وهو دون الخامسة والعشرين، وكتب رسائله كالمتون في اختصارها ودقتها، فجاءت أعماله من حيث النضج والاكتمال في بدايتها مثلها في نهايتها.
كان رحمه الله يملك جاذبية لا تقاوم في ذلاقة اللسان، وسحر البيان، والاستشهاد بآي القرآن، فإذا بالإسماعيلية مركز القيادة للجيوش البريطانية المحتلة تصبح قلعة المقاومة، وحصن الجهاد، وموئل الأبطال من أمثال شيخ الفدائيين يوسف طلعت، وقائد المجاهدين محمد فرغلي رحمهما الله وأعلى مقامهما.
انتقل الإمام حسن البنا إلى القاهرة عام 1932 لتكون مقراً لقيادة التنظيم، وسرعان ما أثمرت حركته رحمه الله قطوفاً يانعة، فسددت لها حكومة حسين سري أولى الضربات فانتشرت في القطر المصري من أدناه إلى أقصاه، ودخلت بيوت المثقفين والموظفين والعمال والفلاحين، فعاجلتها حكومة السعديين برئاسة إبراهيم عبد الهادي بضربة قاسية عام 1948، فجاءت ردة الفعل اتساع دائرتها لتصل إلى الأقطار العربية، وعندما قررت حكومة جمال عبد الناصر القضاء المبرم عليها عام 1954 ورفعت قيادتها وعلماءها على أعواد المشانق، وأعربت جميع القوى الكبرى في العالم على لسان صحفها عن ارتياحها وسعادتها(2) كانت النتيجة وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى جميع أنحاء العالم، ودخولها القارات الخمس وانتشارها في أكثر من خمسين بلداً، وكذلك في أوساط الأقليات والجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا وجميع بقاع العالم.
لسنا بصدد دراسة شافية عن الإمام حسن البنا في هذه الكلمة، فهذا يحتاج إلى مجلدات، والرجل متعدد الجوانب والمواهب، بيد أن إلمامة سريعة عن شخصية وأفكاره، وبعد نظره في أمور كثيرة وخطيرة لا بد منها، باعتباره مؤسساً وقائداً لكبرى الحركات والجماعات الإسلامية في العصر الحديث.
حسن البنا واحد من العمالقة الكبار في هذا العصر، جدد للأمة الإسلامية دينها، وأحيا آمالها، وأيقظها من سباتها، وأسمعت صيحته أرجاءها، أسس كبرى الجماعات الإسلامية في القرن العشرين الميلادي (الرابع عشر الهجري)، وأنشأ جيلاً بل أجيالاً صلبة عازمة على التغيير والتحرير والنهوض الكبير، وانتقل بالعمل الإسلامي من حيز النظريات والفرضيات إلى سوح الجهاد والبناء، وأعطى من نفسه القدوة في العطاء والفداء، والإخلاص والتجرد ونكران الذات.
نظرات في منهاجه الإصلاحي(/2)
إن معظم الدراسات التي تناولت سيرة حسن البنا رحمه الله اقتصرت على سجاياه، وصفاته، وشمائله، وسيرته الذاتية، وقلما وقعت عيني على دراسة تتناول تجديده الديني وإصلاحه الاجتماعي، وفكره السياسي. وفي هذه المقالة أشير إلى نظرات ومواقف مهمة تلقي الضوء على شخصية الإمام، ومنهجه في الإصلاح، وسبقه في قضايا كثيرة تقدم بها على غيره من المفكرين.
1- حدد منذ وقت مبكر، دعائم عدة لدعوة الإخوان، فذكر منها أنها ربانية تستمد من هذه الصلة بالله، روحانية تسمو بها إلى طهر الإنسان، وأنها عالمية موجهة إلى الناس كافة (فالبشرية عائلة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء)(3).
2- عني رحمه الله بالإصلاح الاجتماعي بعد تأسيس الجماعة بوقت قصير، فبنى المساجد، وأنشأ المعاهد للبنين والبنات، وأقام الأندية، وأسس مقرات لحفظ القرآن الكريم، وشجع على الصناعات المنزلية والخفيفة للنسيج والسجاد، وشكل لجاناً للمصالحات ودفع الخصومات، وأخرى لجمع الصدقات وإسعاف المعوزين والفقراء، وهيأ للمرضى مستوصفات متنقلة…إلخ في أنحاء مصر، كالذي عرفه المواطنون وشاهدوه واستفادوا منه في الإسماعيلية وشبراخيت ومحمودية الدقهلية وغيرها(4).
3- دعا إلى الحرية السياسية بلغة لا ينقصها الوضوح، فقال: الحرية السياسية ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وإننا نعمل لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية كجزء من تعاليم الإسلام(5) والإسلام الحنيف يعلن الحرية ويزكيها، ويقررها للأفراد والأمم والجماعات بأفضل معانيها، ويدعوهم إلى الاعتزاز بها، والمحافظة عليها، يقول صلى الله عليه وسلم:"من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس مني"(6) ومن هذا المنطلق جاء رفضه جاء الهيمنة الأجنبية مهما كان الثمن، فقال: وقد وطنا أنفسنا على أن نعيش أحراراً عظماء، أو نموت أطهاراً كرماء(7).
4- أقر وجود الأحزاب السياسية بضوابط ومناهج معلنة، وامتدح كثيراً من رجالات الأحزاب، وقال: قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، ونحن لا نبخس الرجال حقهم، بيد أنه رحمه الله أخذ على الأحزاب أنها لم تحدد منهاجاً دقيقاً لما يريد من ضروب الإصلاح، وقال: إن هذه الأحزاب تعاقبت على الحكم فلم تأت بجديد، فالإمام البنا لم يرفض فكرة الأحزاب وحقها في الوجود والمشاركة السياسية، ولكنه أنكر واقعها، وانحرافها، وفشلها، وافتقارها إلى المنهج الإصلاحي الذي يخدم البلاد والعباد. وعندما عرف الإمام جماعة الإخوان بجملة من المزايا والصفات والمقومات، جاء منها كما قال رحمه الله: نحن حزب سياسي نظيف يجمع الكلمة، ويبرأ من الغرض (المنافع الخاصة) ويحدد الغاية، ويحسن القيادة والتوجيه(8). وفي نفس الاجتماع أكد على موضوع فلسطين وقال: إن مصر والعالم العربي والإسلامي يفتدي فلسطين (قلب العالم العربي، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
5- دعا الإمام البنا رحمه الله إلى الوحدة العربية بحماسة شديدة، وتحدث عن ميزات العروبة، وخصائصها، والقيم التي تحلت بها وعرفت عنها فقال: نحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجداً في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم(9).
وتحدث الإمام عن الوحدة العربية حديثاً يفيض في الحماسة والاقتناع، وربطه بالعقيدة وأصول الدعوة إلى الإسلام في مناسبات كثيرة، وفي فترات متفاوتة، كان واضحاً ما جاء في خطابه بالمؤتمر الخامس عام 1938م، فقال: ثم إن هذا الإسلام نشأ عربياً، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: إذا ذل العرب ذل الإسلام، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه.
وأحب هنا أن ننبه -يقول الإمام- إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة، كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان، ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية(10).(/3)
ثم أكد الإمام المرشد على هذا المعنى في المؤتمر السادس الذي تم عقده عام 1941 وجاء فيه: العروبة لها في دعوتنا مكانها البارز وحظها الوافر، فالعرب هم أمة الإسلام الأولى وشعبه المتخير، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب (الجماهير) العربية ونهضتها، فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبداً معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد، وجعلت من هذه الأقطار جميعاً أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للسلام ولخير العالم كله(11).
هذا هو رأي الإمام حسن البنا في العرب والعروبة والوحدة العربية، وأزعم أن أعضاء الجماعة في خارج مصر، ولا سيما في بلاد الشام -سوريا ولبنان والأردن وفلسطين- والعراق لو أخذوا برأي الإمام الشهيد حسن البنا، ورفعوا لواء الوحدة العربية ضمن المفاهيم التي حددها الإمام رحمه الله في هذا الشأن، لقطعوا الطريق على الحركات والأحزاب القومية التي جنحت بالعروبة جنوحاً ضاراً، عندما اشترطت للوحدة العلمانيةَ أو الماركسيةَ مضموناً لها، وأخذوا بكل ما يبعدها عن الإسلام ورسالته التي صار العرب بها خير أمة أخرجت للناس.
6- أما الشؤون الاقتصادية فقد سبق الإمام عصره بما يخصها خمسين عاماً على الأقل، فقد آلمه ما يعانيه المواطنون من فقر، ومرض، وبؤس، وجهل، واضطهاد، فأرسل صيحة مدوية حذر فيها من النتائج المترتبة على ذلك، والتي قد تفضي إلى سوء المصير، وقد شخص رحمه الله أحوال الناس، وما يعانونه من جوع وحرمان، في المؤتمر السادس عام 1941، فذكر أن دخل الفرد المصري في الشهر جنيهان، في الوقت الذي تبلغ تكاليف الحمار 340 قرشاً أي ضعف دخل المواطن على وجه التقريب(12)، وأن في مصر 320 شركة يملكها أجانب وغرباء وجاليات، بينما لا يملك المصريون سوى 11 شركة(13). ونادى رحمه الله بتأميم قناة السويس، فهي أرض مصرية حفرت بدماء مصر وجهود أبنائها، فيجب أن يكون لمصر حق الإشراف عليها وحمايتها وتنظيم شأنها(14). وفي مكان آخر من بحوثه ورسائله نادى الإمام بتأميم القنال صراحة، وعبر عن ذلك بقوله (تمصير القنال)، كما نادى بتمصير الشركات، وإحلال رؤوس الأموال الوطنية محل رؤوس الأموال الأجنبية كلما أمكن ذلك(15). والتحول إلى الصناعة فوراً، لأن ذلك من روح الإسلام(16).
وطالب في نفس البحث وفي هذه الرسالة باستقلال النقد (عن الاسترليني) واعتماده على رصيد ثابت من موارد مصر و ذهبها لا على أذونات الخزينة البريطانية وعلى أوراق لا قيمة لها إلا بالضمان الإنجليزي!
كما تحدث الإمام عن نظام الملكيات، فدعا إلى إعادة النظر في تملك الأرض، وطالب بتشجيع الملكيات الصغيرة، وتعويض ذوي الملكيات الكبيرة، حتى يشعر الفقراء أن لهم في الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه(17).
إن الإمام البنا لم يترك مناسبة، إنْ في المؤتمرات، أو الرسائل، أو المقالات، أو صحف الجماعة إلا دعا إلى تحرير الفلاحين والعمال والحرفيين من الظلم والاستغلال وسيطرة الشركات الأجنبية، وإعطائهم حقوقهم المجزية ليعيشوا هم وأبناؤهم حياة كريمة تكفل لهم التعليم والعلاج والرزق الحلال والكرامة الإنسانية كما نصت الآية الكريمة في كتاب الله تعالى:"ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".
7- وأخيراً -وليس آخراً- دعا الإمام إلى وحدة الكلمة، وجمع الشمل، ورص الصفوف، والتقاء الهيئات والمؤسسات والشخصيات على الأمور التي توحد ولا تفرق، وتجعل الشعب كله صفاً واحداً وكتلة متراصة كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأن يعذر الأخ أخاه، والجار جاره، والمواطن أبناء وطنه في أي خلاف ينشب بينهم كما كان يفعل الفقهاء الكبار والأئمة العظام، فأطلق رحمه الله كلمته الشهيرة التي ذهبت مثلاً، فقال: فلنتعاون على ما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
هذه ملامح عن شخصية الإمام، وشذرات من فكره الثاقب، ورأيه السديد، ونظره البعيد، وسبقه أبناء جيله في استشراف المستقبل، وهذا هو شأن الكبار والمصلحين، فرحمه الله وأعلى مقامه في عليين، وجزاه عن أمته وملته خير الجزاء وأحسنه.
* مفكر وكاتب إسلامي من سوريا
الهوامش
(1) سمعت هذا من الشيخ الداعية الدكتور مصطفى السباعي، ومن طبيب مصري، التقيته في مؤتمر انعقد في فندق انتركونتننتال بمكة المكرمة عام 1397هـ أي من حوالي ثلاثين سنة. وقد دخل غرفة نومه وهو مسجى بعد استشهاده قبيل دفنه رحمه الله.(/4)
(2) كنت طالباً في السنة الأخيرة بكلية آداب القاهرة عندما نفذ حكم الإعدام في قادة الإخوان المسلمين من أمثال المشرع الكبير عبد القادر عودة، وشيخ المجاهدين محمد فرغلي وإخوانهما، وكانت صحف القاهرة الأهرام والجمهورية والأخبار تنقل ما تكتبه الصحف العالمية في بلاد السوفيت وأوروبا وأمريكا من ابتهاجها وشماتتها بإعدام قادة وشيوخ الإخوان المسلمين.
(3) رسالة: دعوتنا في طور جديد، صدرت عام 1942، ص226 من كتاب مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، الطبعة الثالثة عام 1984، وكل ما ورد عن الإمام في هذه المذكرات مأخوذ عن هذه الطبعة.
(4) رسالة: هل نحن قوم عمليون 1353 هـ 1934، من مجموعة الرسائل.
(5) رسالة: المؤتمر الخامس عام 1941 ص213 من كتاب مجموعة الرسائل.
(6) مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي، ص308 من مجموعة الرسائل صدرت 1948.
(7) رسالة: المؤتمر السادس ص220 من مجموعة الرسائل صدرت عام 1941.
(8) كلمة الإمام في اجتماع رؤساء المناطق الذي عقده عام 1364هـ الموافق 1945 ص252 من كتاب مجموعة الرسائل.
(9): رسالة دعوتنا ص24 من مجموعة الرسائل (الطبعة الثالثة 1404هـ 1984م)
(10) رسالة: المؤتمر الخامس الذي ألقى فيه الإمام خطابه الجامع عام 1357 -1938م، ص142 من مجموعة الرسائل.
(11) المؤتمر السادس عام 1941 ص230 -231 عن مجموعة الرسائل.
(12) المؤتمر السادس ص208.
(13) المرجع السابق ص209.
(14) رسالة: اجتماع رؤساء المناطق عام 1945 ص261.
(15) رسالة: النظام الاقتصادي ص346 عن مجموعة الرسائل.
(16) المصدر السابق ص347 عام 1948.
(17) رسالة: النظام الاقتصادي ص349 عام 1948.
=========
أعلام الإخوان المسلمين ـ 1
ماذا تعرف عن حسن البنا
د.خالد الأحمد *
التعرف على شخصية الرجال العظام الذين تركوا بصماتهم على هذه الأمة ضروري ، من أجل تلمس آثاره ، والاستفادة من تجاربه ، فهو إنسان عاش في ظروفنا تقريباً
ولكنه أعطى أكثر مما نعطي بآلاف المرات ، فما سر ذلك !!؟
مولده() : ولد حسن البنا في اكتوبر (1906) بمحافظة البحيرة ببلدة المحمودية ، والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ، كان عالماً له عدة مؤلفات في كتب الحديث ، منها ( بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن ) ، ورتب مسند أحمد وشرحه ()، وإماماً ومدرساً في المسجد ، ومتمرساً في إصلاح الساعات ...
تعليمه :
أكمل حسن البنا أكبر أولاد أبيه تعليمه النظامي في الثامنة بكتّاب مدرسة الرشاد الدينية ، وكان معلمه الشيخ محمد زهران من المؤثرين فيه . كما حفظ القرآن على والده ...
التحق بالمدرسة الاعدادية في الثانية عشرة من عمره ، وانضم إلى أول جمعية دينية ، وكان معلمه الشيخ محمد عبد الخالق قد أسس ( جمعية الأخلاق الأدبية ) وكان هدفها إيقاظ شعور أعضائها إزاء المخالفات الخلقية ... ولم تمض فترة طويلة حتى صار حسن البنا رئيساً لها ..
توسعت الجمعية وصار اسمها ( جمعية منع المحرمات ) لتشمل سائر أنحاء البلدة ، وكانت ترسل خطابات سرية تحمل طابع الوعيد لمن يخالفون الأخلاق الاسلامية ...
وفي هذه الفترة شهد أول حلقة ذكر صوفية على الطريقة الحصافية ..وقرأ كل ماكتب عن مؤسس الطريقة والصوفية ...
أسس ( الجمعية الحصافية الخيرية ) وصار أميناً لها في الثالثة عشرة من عمره ، وكان من أهدافها مقاومة أعمال المنصرين ..
التحق بدار المعلمين الأولية بدمنهور وانكب على دراسة الإمام الغزالي يرحمه الله ...واستجابة لرغبة أساتذته وافق على استمراره في التعليم العالي بدار العلوم بالقاهرة عام (1923) وكان عمره ستة عشر عاماً ...
اعتاد البنا أن يعتز بتجاوزه حدود متطلبات برامجه الدراسية ، وصار يكثر من القراءة المستفيضة في السيرة النبوية والبطولات التاريخية ، والجهاد في سبيل الله ...
في العاشرة من عمره ،حمل الشرطة على تحطيم تمثال لامرأة شبه عارية في قارب نهري ...
دار العلوم بالقاهرة :
في القاهرة اتصل مع أتباع طريقته الصوفية الحصافية ، ولكن سرعان ماتبين له أنها غير مجدية ، فالتحق ب ( جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية ) ولكنها لم تشبع نهمه وشغفه بالإصلاح والدعوة إلى الله ...ولم تكن كافية لديه لمواجهة مشكلة الفجوة التي بدت له تفصل بين المسلمين وعقيدتهم وتعاليمها ...
ثم نظم مجموعة من طلبة الأزهر ودار العلوم الراغبين في الوعظ والإرشاد ، دخلوا المساجد واعظين ... ثم تبين له أن دخول المساجد لايكفي فدخلوا المقاهي ، وسافروا إلى القرى والمراكز خارج القاهرة ...يدعون المسلمين إلى الالتزام بدينهم ...
وآلمه ابتعاد الشباب المتعلم عن الحياة الإسلامية [ وظل هذه الموضة حتى نهاية عقد الستينات من القرن العشرين ] ، وطلب مشورة الكبار مثل محب الدين الخطيب ، وفريد وجدي وأحمد تيمور باشا ... وأخيراً حمل مخاوفه وآلامه إلى مشايخ جامعة الأزهر ، وانتقد بمرارة معارضتهم غير الفعالة واستسلامهم ( للتيارات التنصيرية والإلحادية ) ...(/5)
مدرس في الاسماعيلية :
انتهى من دراسته في دار العلوم في صيف (1927) وهو في الحادية والعشرين ، ولم يقبل الالتحاق بالبعثات إلى الخارج ، وقبل التعيين في السلك المدرسي بمصر ، كمدرس للغة العربية في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية في (19/9/1927) واستمر في السلك المدرسي حتى استقالته في عام (1946م) ..
كان يعلم التلاميذ في النهار ، ويعلم الاباء في الليل ...وكان من منهجه أن يخطب في الناس ، ثم يجمع من لاحظ عليه الاهتمام بخطبته في مكان آخر وأعداد قليلة يتابع معهم التربية والإعداد والتكوين ... وكان يرتاد المقاهي يبحث فيها عمن يستمع له ليبلغه دعوته ...
عمل مندوباً لمجلة الفتح التي أصدرها محب الدين الخطيب ، وزاد اهتمامه بجمعية الشبان المسلمين ...
تأسيس جماعة الإخوان المسلمين :
وفي شهر ذي القعدة (1928) اجتمع ستة أعضاء من أهالي الاسماعيلية يعملون في المعسكر البريطاني ، ومعهم الأستاذ حسن البنا وأعلنوا رسمياً افتتاح جمعية الاخوان المسلمين وكان هدفها في السنوات الثلاث الأولى زيادة عدد الأعضاء ، وبعد أربع سنوات انتشرت فروع الجمعية في بور سعيد ، والسويس ، وابي صوير ، وشبراخيت ، والقاهرة ..
نقل البنا إلى القاهرة ، وكان أخوه ( عبد الرحمن البنا ) يرأس جمعية النهضة الإسلامية ، وانضمت إلى جماعة الإخوان المسلمين ، وصارت قيادة الجمعية في القاهرة ...واختار نائباً له في الاسماعيلية ...
كان حسن البنا مدرساً في النهار ...ويتوجه إلى المركز العام في الصبح قبل المدرسة ليقضي بعض الأمور ، ثم يعود إليه بعد المدرسة ، وكان يحاضر في تفسير القرآن بين المغرب والعشاء لضيوف المركز من الفقراء الذين لم يتح لهم التعليم ...
انعقد المؤتمر الأول لجمعية الإخوان المسلمون في مايو (1933) ، وكان جل اهتمامه مناقشة النشاط التنصيري ووسائل محاربته ، وفي المؤتمر الثاني خلال العام نفسه خول المركز العام إنشاء مطبعة صغيرة للإخوان المسلمين ...واسست ( مجلة الإخوان المسلمين ) ..وبعدها ( مجلة النذير ) وقامت المطبعة بطبع كتب الرسائل ...
ثم كان المؤتمر الثالث في (1935) والرابع في (1837) ، وكان المؤتمر الخامس في (1939) ..
أنشات الجوالة التي بدأت في الاسماعيلية منبثقة عن التدريبات الرياضية ، ثم أنشئت الكتائب عام (1937) ....
أما المؤتمر الخامس فقد عني بالتكوين والإعداد والاختيار ...ووضح من خلاله أن الاسلام نظام جامع كامل بذاته وأنه الكلمة الأخيرة في كل مناحي الحياة وأن أحكامه مستمدة من الكتاب والسنة ...وإن الاسلام صالح لكل زمان ومكان ...وقال حسن البنا عن ذلك :
( دعوتنا رسالة سلفية وطريقة سنية وهيئة سياسية ومنظمة رياضية ووحدة ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية ) ... كما تطلع المؤتمر الخامس إلى مرحلة التنفيذ ...ووصف المؤتمر الخامس الجماعة بأنها هيئة سياسية ...
مع الضباط الأحرار :
كانت الصداقة بين البنا وعزيز المصري من المتانة بحيث حدت بالبنا على عرض وساطته عام( 1940 ) بين عزيز المصري ومجموعة من شباب ضباط الجيش المتذمرين الذين عرفوا فيما بعد بالضباط الأحرار ...
ويبدو أن أنور السادات أول من قابل البنا من الضباط الأحرار ، في أحد نوادي الضباط بمعسكر خارج القاهرة ، وكان مقرراً أن يقدم البنا خطاباً غير رسمي في حفل مولد الرسول r ...
وفي خريف (1940) قابل السادات عزيز المصري في عيادة الدكتور ( ابراهيم حسن ) الوكيل الثاني للإخوان ، وقد ناقش الاثنان محنة مصر تحت الاحتلال البريطاني واتفقا على أن لا أمل في شيء سوى انقلاب يقوم به الجيش ...
كان ( عبد المنعم عبد الرؤوف ) أحد الضابطين اللذين قبض عليهما مع عزيز المصري ، وكان صديقاً للسادات وعزيز المصري ، وبعد القبض على السادات (1942) صار عبد المنعم عبد الرؤوف ضابط الاتصال بين الجيش والإخوان ..ثم صار عضواً كاملاً في الجماعة ، واحتل مركزاً قيادياً في الصفوف الأمامية للضباط المتذمرين ...
الإخوان في حرب فلسطين :
في (25) ابريل (1948) سافرت الكتيبة الأولى من الإخوان المسلمين للجهاد ضد الصهاينة على أرض فلسطين ... وابلت بلاء حسناً شهد به اللواء ( محمد علي المواوي ) واللواء ( فؤاد صادق ) من كبار قادة الجيش المصري يومذاك ...ومن اشهر معاركهم ( التبة 86) و (عصلوج ) وغيرها ,...
وفي ديسمبر (1948) م حلت جماعة الإخوان المسلمين واعتقل المجاهدون في معتقلات سيناء ... بعد أن جلبوهم من ساحات القتال ضد الصهاينة ...
وفي (28/12/1948) اغتال ( عبد المجيد أحمد حسن ) النقراشي باشا رئيس الوزراء ، وانطلقت في جنازة النقراشي صيحات (الموت للبنا ) ..
. مع أن حسن البنا أعلن استنكار الحادث في كتاب مفتوح وجهه إلى وزارة الداخلية ...(/6)
وفي (12 /2/1949) تلقى حسن البنا استدعاء مجهولاً إلى المركز العام لجمعية الشبان المسلمين ، وعلى قارعة الطريق أطلق عليه الرصاص وهو يهم ركوب سيارة الأجرة ، توفي بعدها بدقائق في أحد المشافي القريبة ...يرجمه الله ... ولم يقدم أحد من الجناة إلى المحكمة إلا بعد ثورة (1952) .....(/7)
حسن الترابي.. حين يغرق في بحور السياسة!
مواقع أخرى*
أراد أحد هم أن يلخص رأيه في حسن الترابي فقال عنه: "إنه من أفضل المفكرين في العالم، ومن أسوأ السياسيين فيه كذلك".
ورغم ما في هذا الوصف من مبالغة واضحة فإنه الكلمة الافتتاحية الأنسب لفك شفرة حياة الرجل؛ ومن ثم فهم ومعرفة طبيعة وأبعاد هذه الشخصية التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس في عالمنا الإسلامي، وربما العالم كله طوال عقد التسعينيات المنصرم، كذلك تفهم واستيعاب ما انتهت إليه تجربته والتجربة الإسلامية عموما في السودان التي يصعب تصورها بشكل صحيح إلا من خلال إدراك العلاقة الجدلية بين الفكر والسياسة في حياة هذا الرجل.
البداية.. تدل على المسيرة
سافر لأوربا، وتنقل بين أكثر من بلد فيها، فنال الماجستير من جامعة لندن والدكتوراة من جامعة السوربون، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية حتى عده خصومه من الإسلاميين متغربا، وليس شيخا أصوليا.
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 لعائلة كبيرة في منطقة كسلا عُرفت بالعراقة في العلم والدين، فكان والده أحد أشهر قضاة الشرع في عصره، وأول سوداني حاز الشهادة العالمية. وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان؛ فتدرج في سلك التعليم حتى حصل على شهادة عليا في القانون. سافر بعدها لأوربا، وتنقل بين أكثر من بلد فيها، فنال الماجستير من جامعة لندن والدكتوراة من جامعة السوربون، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية حتى عده خصومه من الإسلاميين متغربا، وليس شيخا أصوليا.
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم لتبدأ محطته الفكرية والحركية الأولى، إذ جاءته فرصة تولي القيادة الفكرية والحركية للحركة الإسلامية بعد أن استقال "الرشيد الطاهر" المراقب العام للإخوان المسلمين من منصبه سنة 1964، وتحول إلى حزب الأمة ليصبح بعدُ نائبا للرئيس النميري!
الجانب المفكر!!!!!
والترابي المفكر (وليس السياسي) يعتبره الكثيرون المفكر الأول -في جيله- الذي استطاع على المستوى النظري بلورة رؤية فكرية متكاملة منفتحة على العالم. مقتربة من الواقع، قادرة على الاستجابة لتحديات العصر أيا كان تقييمنا لتفاصيلها على الرغم من أنه حينما حاول تطبيقها بنفسه جاءت أقل كثيرا مما توقع أشد خصومه!
والترابي في كتاباته أقل منه كثيرا في محاضراته وخطبه، يصفه من سمعوه -بمن فيهم خصومه- بأنه ذو شخصية آسرة، متحدث بارع، يجيد الخطابة، فصيح اللسان، سريع العارضة، قوي الحجة، واسع الثقافة، لديه القدرة على أن يخلب أذهان مستمعيه، ومع ذلك فإن كتاباته تُعدُّ -مقارنة بالكتابات الإسلامية التي صدرت متزامنة- على درجة من الأهمية بما تحمله من أفكار ونظريات تجديدية، حتى إن عبد الوهاب الأفندي في كتابه "ثورة الترابي: الإسلام والقوة في السودان" وهو يقرر أن الحركة الإسلامية لم تقدم في فترة السبعينيات أي كتاب له قيمة.. يستثني كتاب الترابي "الصلاة عماد الدين" الذي كان المحاولة الأولى -وإن وصفها بأنها محاولة خجولة- لإنتاج عمل أيديولوجي ذي قيمة!
ملامح مشروعه
لأفكار والآراء التي قدَّمها الترابي تحت نفس العناوين جاءت في معظمها مخالفة ومفارقة تماما لكل ما شاع واستقر في أوساط هذه الحركات بل ولدى المؤسسات الدينية
رغم أن المشروع الفكري للترابي يقوم على فكرة محورية أساسها تجديد الدين، وهو التجديد القائم على فهم الواقع والتغيرات والتجارب الإنسانية والتوفيق بين الثابت المطلق والمتغير النسبي، وهي نفس المنطلقات التي اتخذتها الحركات الإسلامية عنوانا لمشروعاتها الفكرية.. فإن الأفكار والآراء التي قدَّمها الترابي تحت نفس العناوين جاءت في معظمها مخالفة ومفارقة تماما لكل ما شاع واستقر في أوساط هذه الحركات بل ولدى المؤسسات الدينية الرسمية أيضا.
فالترابي لا يتردد في كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" عن الهجوم على الفكر الإسلامي ووسْمه بالإغراق في التجريدية، والخروج من التاريخ، والانفصال عن الواقع، ويعتبر أن هذا الفكر "القديم" كان استجابة لعصور مضت لم تعد موجودة الآن؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى تجديد شامل يتجاوز الشكليات والمظاهر التي افتتن بها المفكرون الإسلاميون المعاصرون؛ الذين لا يتردد الترابي في الهجوم عليهم ووصفهم بالقصور وضعف القدرة على التنظير والتفكير؛ مثلهم مثل بقية أبناء الحركات الإسلامية التي يطولها اتهام الترابي بالجمود والقصور الفكري، كما أن قادتها -في رأيه- أهل ثقافة وإدارة وسياسة أكثر منهم أهل علم وتفكر وتأمل، وهو ما قد يعني-وربما كان هذا المقصود- أحقيته بلقب المنظر والمفكر الأوحد للحركة الإسلامية؛ على الأقل في بلده السودان!
سقف التجديد.. سماء مفتوحة!(/1)
والتجديد عند الترابي يجب أن يمتد إلى كل جوانب الدين، فهو يدعو مثلا في محاضرته "قضايا فكرية وأصولية" إلى ثورة تجديدية شاملة للفقه الإسلامي الذي يصفه بالجمود والتقليد واستحضار القديم والامتنان به، وحصر الدين في تقاليد القدماء، ويعلن بلا مواربة ضرورةَ تجاوز الموروث الفقهي كله باعتبار أن التنقيب فيه لن يغني عن ضرورة إيجاد فتاوى جديدة عصرية.
وخط التجديد يمده الترابي على استقامته حتى يصل به إلى التجديد في أصول الفقه نفسها، والدعوة إلى بناء منهج أصولي جديد للاجتهاد بعد أن صار من غير الممكن للمنهج القديم الاستجابة لبناء المجتمع المعاصر وقد خالفه في دعوته لتجديد أصول الفقه علماء معتبرون وقدموا نقدا علميا لمنهجه.
تتجاوز آراء الترابي في قضية السنة النبوية في كثير من جوانبها التصور الأصولي السلفي المعاصر لها. فهو لا يعترف مثلا بخبر الآحاد كحجة في الأحكام، ويفرق بين الملزِم وغير الملزِم من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه ولا يعطيها كلها حد الإلزام، ويفرق أيضا بين ما ورد عن النبي كرسول ومشرّع وبين ما ورد عنه كبشر لا يلزمنا في شيء، ويطالب بإعادة النظر جملة في علوم الحدي
والمنهج الجديد -الذي يتصوره الترابي- متجاوز لكل التراث الإسلامي، ولا يحتاج -في رأيه- إلى أن نطلب له شاهدا من التاريخ أو سابقا من السلف. فالتراث الديني عند الترابي فيما بعد التنزيل (أي القرآن والسنة) كله من كسب المسلمين، ولا بد أن يتطور مع الأزمان تبعا لاختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية والمادية.
وتتجاوز آراء الترابي في قضية السنة النبوية في كثير من جوانبها التصور الأصولي السلفي المعاصر لها. فهو لا يعترف مثلا بخبر الآحاد كحجة في الأحكام، ويفرق بين الملزِم وغير الملزِم من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه ولا يعطيها كلها حد الإلزام، ويفرق أيضا بين ما ورد عن النبي كرسول ومشرّع وبين ما ورد عنه كبشر لا يلزمنا في شيء، ويطالب بإعادة النظر جملة في علوم الحديث، ويدعو إلى إعادة صياغتها مرة أخرى بعد تنقيح مناهج الجرح والتعديل ومعايير التصحيح والتضعيف.. ومن ضمن ما يقترحه في هذا الصدد إعادة تعريف مفهوم الصحابة، وعدم الاعتراف بقاعدة أساسية عند المحدثين تنص على أن كل الصحابة عدول؛ وهو ما أثار عليه ثائرة السلفيين حتى اعتبره بعضهم من منكري السنة النبوية، بل وألَّف أحد قيادات الإخوان بالسودان كتابا خاصا أسماه: "الصارم المسلول في الرد على الترابي شاتم الرسول"!!
من العلمانية.. على مرمى حجر
وكان الترابي أول من طرح -من بين الإسلاميين- فكرة إعادة صياغة الإسلام وتكييفه بحسب العادات والأعراف والسمات الخاصة بكل شعب بحيث يصبح الإسلام نسخا متباينة بحسب طبيعة هذه الشعوب مع الاحتفاظ بالقاسم المشترك الذي يوحد بين هذه النسخ، فتصبح بإزاء إسلام سوداني وآخر مصري وثالث أوربي... وهكذا.
ويدعو الترابي إلى تأسيس ما يسميه بالفقه الشعبي، وهو فقه لا تكون صياغته حكرا على من يسميهم برجال الدين، ولا يكون لهم فيه ميزة عن غيرهم من عموم المسلمين؛ إذ يكون الإجماع فيه إجماع الشعوب المسلمة وليس إجماع الفقهاء؛ وهو ما يعني أنه يعيد تعريف الإجماع وهو الأصل الثالث من أصول الفقه ليصبح إجماع الشعب (أو ما يطلق عليه الرأي العام وفطرة المسلمين) بديلا عن إجماع الفقهاء.
وللترابي جملة من الآراء الفكرية والفتاوى الفقهية تجعله في نظر البعض أقرب للفكر العلماني منه إلى الفكر الأصولي السلفي الذي دائما ما ينسب إليه. فهو في قضايا المرأة يتبنى خطابا أقرب إلى حركات تحرير المرأة والحركات النسوية المعاصرة في الغرب منه إلى الخطاب الإسلامي أو حتى الشرقي، حتى يصل فيه إلى التأكيد على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة حتى في أصل الخلقة!
يدعو الترابي إلى تأسيس ما يسميه بالفقه الشعبي، وهو فقه لا تكون صياغته حكرا على من يسميهم برجال الدين، ولا يكون لهم فيه ميزة عن غيرهم من عموم المسلمين؛ إذ يكون الإجماع فيه إجماع الشعوب المسلمة وليس إجماع الفقهاء
ويدعو إلى حرية المرأة في العمل والملبس (حيث يعتبر الحجاب خاصا بنساء النبي) والاختلاط.. وكان تنظيمه -الجبهة الإسلامية- أول تنظيم إسلامي يقبل الاختلاط حتى داخل بنيته التنظيمية!!
والمذهل أيضا أن الترابي -ذلك المنعوت بالأصولية!- كان من أوائل من قبلوا بمفهوم المواطنة والذي يعني المساواة بين أبناء الوطن الواحد دون التمييز بينهم على أساس ديني، بل وطبقه فعليا في أوساط الإسلاميين حتى قبل الاستيلاء على السلطة، إذ فتحت الجبهة الإسلامية عضويته لغير المسلمين، ونصت على ذلك في دستورها؛ وهو ما دفع تيارات إسلامية الأخرى إلى اتهامه بالخروج على أصول الإسلام وثوابت الشريعة باعتماده عقيدة المواطنة بدلا من عقيدة التوحيد.(/2)
كما كان الترابي من أسبق الإسلاميين إلى إعلان رفض حد الردة، بل ورفض أي عقوبة قانونية على من بدل دينه، واعتبر أن ذلك يدخل في باب حرية الفكر والاعتقاد.
أما في مجالات الإبداع والفنون فقد كان للترابي في رسالتيه (قيم الدين ورسالية الفن) و(نمارق إسلامية) جملة من الآراء غاية في التحررية، فهو يجيز بلا تحفظ كل أنواع الفنون طالما لا تؤدي إلى محظور أخلاقي، ويدعو إلى تصالح جماهير المسلمين مع الفن الذي يراه وسيلة للإصلاح والتغيير والدعوة إلى الله.
والترابي المفكر منطلق ومتحرر من كل قيد أو زمام؛ وهو ما جعله مثار صدمة وقلق دائم للجميع، خاصة الإسلاميين الذين كانت معظم خصوماته ومعاركه الفكرية معهم فطالته لائحة الاتهامات الشائعة: الماسونية، والإلحاد، وإنكار السنة، وإفساد النساء، والتحلل الأخلاقي.. حتى إن جماعة الإخوان المسلمين بالسودان -التي كان قائدا لها يوما ما- أصدرت بيانا نشر سنة 1988 تؤكد فيه أن الخلاف بين الإخوان والترابي خلاف في الأصول، ووصفه أحد الكتاب السلفيين بأنه يكرر ما فعله مارتن لوثر مع الكنيسة الكاثوليكية، ويؤسس لما أسماه بالبروتستانتية الإسلامية!
غير أن هذا لم يمنع -في الوقت نفسه- الكثير من الإسلاميين من النظر للترابي باعتباره مدرسة تجديدية إسلامية مستقلة بذاتها، حتى إن اللبناني "فتحي يكن" أحد القيادات الفكرية والحركية البارزة للإخوان المسلمين أقر بأن الترابي (بجانب الغنوشي وسيد قطب) مدرسة تجديدية مستقلة بذاتها من ضمن ما أسماه بالمدارس التجديدية للإخوان المسلمين!
السياسي.. الوجه الآخر
أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر "الحر" ليلعب دور مفكر "تحت الطلب" يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسيا حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية. وعبثا حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر وا
غير أن الترابي لم يقنع بدور المفكر الذي يفكر وينظر ويجتهد، ولم يقنع أيضا أن تقوم على أفكاره دولة (كما فعلت ثورة الإنقاذ)، ولم يقبل بدور المرشد والموجه والمنظر الذي يعلو على السياسة وإن احتفظ بدور فاعل فيها كما فعل آية الله الخوميني -مثلا- الذي ظل حاكما للعبة السياسية برمتها في إيران حتى وفاته دون أن يتورط كمرجع ومرشد ديني في صراع الفرقاء السياسيين، بل أراد الترابي أن يجمع بين الفكر والسياسة، فانتقل من دور المفكر "الحر" ليلعب دور مفكر "تحت الطلب" يفكر ويجتهد ليوظف أفكاره واجتهاداته لمشروعه السياسي، فبدا سياسيا حتى وهو يفكر ويجتهد، ليقدم المشروعية والعقلانية والغطاء الأيديولوجي لحركته السياسية.
وعبثا حاول الترابي أن يمسك العصا من منتصفها فيبقى المفكر والسياسي فيحفظ لنفسه مكانة متميزة بين أقرانه من المفكرين والسياسيين على السواء، فهو يتميز عن المفكرين بالسلطة التي هم على بعد مسافة منها إن لم يطلهم أذاها، ويفوق السياسيين بالفكر الذين هم أبعد الناس عنه، لكنه لم ينجح في هذه اللعبة طويلا، وغلب السياسي فيه على المفكر في آخر المطاف، وبدا للناس في الوجه الذي قد يقبلون به، ولكنهم لا يحبونه؛ فهو المناور الذي لا يستقر على رأي، ولا يلتزم بموقف، والثعلب المراوغ القادر على التلون باللون الذي يوصله لمراده، والانتهازي الذي يقتنص كل الفرص ويوظفها لمصلحته الشخصية، والبراجماتي الذي لا يتورع عن استخدام كل الوسائل والحيل التي تحقق له غايته، والميكيافيللي الذي تبرر الغاية عنده الوسيلة... فوقع في التناقضات وأضر -من حيث لا يدري- بأفكاره، وبدا أن هناك بونا شاسعا بين السياسي والمفكر في شخصية الترابي.
فالترابي الذي ملأ الدنيا حديثا عن أهمية الشورى واحترام رأي الشعب وإجماعه حتى في الأحكام الفقهية! ضرب عُرض الحائط بهذه النظريات والأفكار التي لم تتجاوز حدود قلمه ولسانه وكان في ممارساته السياسية مستبدا من الذين لا يحترمون آراء الآخرين أو اجتهاداتهم، ولم يعرف إلا رأيه واجتهاده فقط لدرجة أن مشكلته الكبرى مع زملائه من قيادات الحركة الإسلامية أنه كان دائم السخرية منهم، والاستهزاء بآرائهم التي تخالف رأيه، بمن فيهم علي عثمان طه الرجل الثاني في حركته الذي كان عرضة هو الآخر للسخرية والاستهزاء بشكل متكرر، وعلى الملأ، رغم أنه كان مرشحا -قبل انتقاله لمعسكر البشير- لخلافته في قيادة الحركة.. وكانت نتيجة ذلك إعلان قيادات الحركة الإسلامية رفضها لأسلوب الترابي، وتقديمها مذكرة للرئيس البشير -عُرفت بمذكرة العشرة- يطالبون فيها بتقليص سلطاته والحد من استبداديته، رغم أن كل هؤلاء القيادات كانوا من تلاميذه!(/3)
الترابي الذي ملأ الدنيا حديثا عن أهمية الشورى واحترام رأي الشعب وإجماعه حتى في الأحكام الفقهية! ضرب عُرض الحائط بهذه النظريات والأفكار التي لم تتجاوز حدود قلمه ولسانه وكان في ممارساته السياسية مستبدا من الذين لا يحترمون آراء الآخرين أو اجتهاداتهم، ولم يعرف إلا رأيه واجتهاده فقط لدرجة أن مشكلته الكبرى مع زملائه من قيادات الحركة الإسلامية أنه كان دائم السخرية منهم
والترابي الذي كان ينادي بضرورة اعتزال كل من يتجاوز الستين للعمل السياسي التنظيمي لإتاحة الفرصة أمام جيل الشباب، ظل مصرًّا -وكان قد قارب السبعين- على الاستحواذ على مقاليد السلطة بكاملها، ولم يتردد في التخلص من جيل كامل من القيادات الشابة في حركته؛ لأنهم تجرءوا وخالفوا بعض أفكاره وتوجهاته، وما زال متشبثا بمقاعد السلطة تحت دعوى أن ثورته لم تبلغ أهدافها بعد.. وما زالت في مرحلة البداية!
والترابي الذي بدأت علاقته بالرئيس نميري بالصدام الذي قضى بسببه 7 سنوات في السجن خرج ليعقد تحالفا معه صار بمقتضاه وزيرا للعدل!
وتدرج -وهو الإسلامي- في عضوية المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي حتى صار النائب العام للبلاد ثم المستشار الخاص للرئيس نفسه.. وكانت المفارقة أنه هو الذي استطاع إقناعه بعد ذلك بإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية سنة 1983.
والترابي السياسي لديه القدرة على اقتناص الفرص، واستغلال كل الأحداث والظروف لمصلحته، ولديه القدرة على الاختراق والتسلل وصناعة التحالفات غير الثابتة، وتبني وسائل وآليات مختلفة لتحقيق مآربه يروى -في أحد الحوارات التي أجريت معه- كيف استغل خطأ سب أحد الشيوعيين للرسول صلى الله عليه وسلم، في تعبئة الشعب السوداني كله في معركة ضد خصومه الشيوعيين انتهت بحل الحزب الشيوعي، وطرد أعضائه من البرلمان.
الترابي الذي كان ينادي بضرورة اعتزال كل من يتجاوز الستين للعمل السياسي التنظيمي لإتاحة الفرصة أمام جيل الشباب، ظل مصرًّا -وكان قد قارب السبعين- على الاستحواذ على مقاليد السلطة بكاملها، ولم يتردد في التخلص من جيل كامل من القيادات الشابة
والترابي الذي كان دائم الهجوم على مصر واتهامها باستعباد أهل السودان واستعمارهم والاستعلاء عليهم حتى استطاع في فترة وجوده بالسلطة الإضرار بالعلاقات الإستراتيجية بين البلدين، عاد بعد ذلك وغيَّر لهجته المتشددة فدعا إلى المصالحة والوفاق، وقال في حوار معه أجري بعد أزمته مع البشير: إن القاهرة هي أحب العواصم العربية إليه، وأقربها إلى قلبه!
نهاية.. رحب بها الجميع
وهكذا سارت سياسة الترابي، فكانت النهاية الطبيعية لهذا الصدام مع السلطة التي جاءت لتطبق وتحقق أفكاره على أرض الواقع بعد أن أصر على الاستحواذ عليها، وأن يكون الصوت الوحيد المسموع في السودان كله، وكان أول من انقلب عليه تلامذته وأتباعه الذين كانوا قبل ذلك تحت قيادته، وعلى رأسهم الرئيس عمر البشير الذي كان عضوا بالجبهة الإسلامية وقت أن قام بثورة الإنقاذ سنة 1989، وتولى مقاليد الحكم.
والآن.. لم يعد أكثر الناس تفاؤلا يتوقع عودة الترابي بعد أن صار عبئا ثقيلا يود الجميع التخلص منه؛ فالحكومة ترى أنه لا وجود للاستقرار مع الترابي، والمعارضة تفضل نار الحكومة على جنته، ودول الجوار تحمله مسئولية كل أزماتها مع النظام السوداني، والولايات المتحدة الأمريكية تعتبره الراعي الأول للأصولية في العالم، والحركات الإسلامية تعتبره خارجا عليه
ورغم نصائح المخلصين لم يقنع الترابي بأن يترك الساحة، ويعتزل السياسة، ويكتفي بدور المفكر المنصور الذي أمهله التاريخ حتى قامت على أفكاره دولة، وما زال رغم كبر السن وقسوة التجارب يأمل في أن يعود مرة أخرى إلى أضواء السلطة وبريقها بعد أن تعود البحث عن السلطة والسعي إليها حتى لم يعد يتصور نفسه دونها، وهو على ثقة من أن التاريخ سيعيد معه سيرته الأولى فيخرج من المحنة، ويعود إلى السلطة مرة أخرى. غير أن الوضع يبدو مختلفا تماما عما كان عليه مع الرجل الذي كانت لديه من الإمكانات والظروف المواتية ما يجعله أقرب أبناء جيله لأن يحمل راية التجديد في الفكر الإسلامي لولا بريق السياسة حين يخطف أبصار المفكر ويجذبه ويملأ عليه قلبه فيفسد عليه أفكاره، خاصة حين يصر على تحقيقها بنفسه!
والآن.. لم يعد أكثر الناس تفاؤلا يتوقع عودة الترابي بعد أن صار عبئا ثقيلا يود الجميع التخلص منه؛ فالحكومة ترى أنه لا وجود للاستقرار مع الترابي، والمعارضة تفضل نار الحكومة على جنته، ودول الجوار تحمله مسئولية كل أزماتها مع النظام السوداني، والولايات المتحدة الأمريكية تعتبره الراعي الأول للأصولية في العالم، والحركات الإسلامية تعتبره خارجا عليها، حتى الجبهة الإسلامية التي صارت قياداتها التاريخية تعتبره مرحلة لا يجب التوقف عندها كثيرا، وقبل ذلك وبعده: التاريخ الذي قضت سنته بذلك.
--------------------------(/4)
رأي خاص - بقلم حسام تمام عن موقع إسلام أون لاين.نت بتصرف(/5)
حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة ...
ضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق ( الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وأحصى كل شيء عدداً رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة فثابروا على طاعته واجتهدوا في عبادته إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيراً لهم وإن أصابتهم ضراء صبروا، فكانوا ممن قال الله فيهم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر:10]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا… أما بعد: فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقى الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. [البخاري 11/88،89 ومسلم أيضاً]. وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه فكانت سبباً في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات [البخاري 11/283]. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران، آية 102]. وقال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، آية: 99]. فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة وقد بين صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" [البخاري 11/417 ومسلم برقم: 2643]. وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلى بلاءً شديداً فأعجب الصحابة ذلك وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار" فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه سأنظر ماذا يفعل فتبعه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟" قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" وفي بعض الروايات زيادة "وإنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري ومسلم. وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [سورة المؤمنون آية 57- 61]. وقد كانت هذه حالة الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن وكان رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد" وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وكان يقول: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة قد أسرعت مقبلة ولكل واحدة منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". وقد كان موت الفجأة مذموماً في الإسلام لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة. وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: (وقلوبهم وجلة). وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ(/1)
المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [الترمذي برقم 2452]. لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء وأن يشتاق إلى لقاء الله فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" [مسلم برقم 2877]. لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات بل جعلوا علمهم بهذه الصفات من أعظم الدواعي على الاستمرار على المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع فقال جل من قائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) [سورة الحجر، آية 49-50]. وقال: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [سورة غافر آية 1-3]. قال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق. وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كانت له حسنات أخذ منها وإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئاته وطرحت عليه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز. أولاً: التسويف بالتوبة: والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور، آية: 31]. وكان صلى الله عليه وسلم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخرن يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة. روى الأغر المزني قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" [مسلم برقم 2702]. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له [ابن ماجة برقم 4250 وإسناده حسن]. ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة فإن أمامه زمناً طويلاً ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً ويلزم المسجد ويكثر القربات أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن. هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة. قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله. والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته كمثل قوم في سفر دخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل. أما المفرط فإنه يقول: كل يوم سأتأهب غداً حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم أما العاصي المفرط فإنه يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت… ثانياً: طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدعه الشيطان فيصور له أن أمامه عمراً طويلاً وسنين متعاقبة يبني فيها آمالاً شامخة فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الآمال وينسى الآخرة ولا يتذكر وإذا ذكره يوماً برم منه لأنه ينغص عليه لذاته ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أشد التحذير فقال: "إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا" [رواه ابن أبي الدنيا بسند ضعيف]. فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة وما فات لن يعود وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها صلى الله عليه وسلم حينما قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غنى مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [الترمذي برقم 2408 وقال: حديث غريب حسن]. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" رواه(/2)
البخاري 11/190-200]. وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له وسنتكلم عن ذلك بإيجاز: أ - أما ذكر الموت دائماً فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [الترمذي برقم 2409 وقال: حديث غريب حسن ورواه ابن ماجة برقم 4258]. وعن ابن عمر قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" [رواه ابن ماجة برقم 4259 بسند ضعيف مختصراً. ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/451]. ثم يفكر الإنسان في الموتى ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها وعلى عظامهم فبددها ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار ويتأهب بالأعمال الصالحة فإنها العملة النافقة في الآخرة… ب - أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويتملكون مخصصاته وتزوج نساؤه وينسى بعد مدة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم برقم 976]. ج - أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة إذ هو في حال حياته وقوته لا يستطيع أحد أن يقلبه ولا أن يدنو منه إلا بإذنه، وربما كان شديد البطش عظيم الهيبة وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به يقلبه الغاسل كيف يشاء. وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيع جنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد" رواه أحمد الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه. د -أما زيارة الصالحين فإنها توقظ القلب وتبعث الهمة فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعة لا غاية لهم إلا رضى الله ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف، وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: آية 28]. وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع أنجالس أقواماً يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف. ثالثاً حب المعصية وإلفها واعتيادها فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على قلبه وتستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء. رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة فكانوا يقولون له قل: لا إله إلا الله فيقول أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يغني [الجواب الكافي 96]. وربما أدركه الموت في المعصية نفسها فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من مات على شيء بعثه الله عليه" [رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي]. رابعاً الانتحار: فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له أن يتخلص به من هذه المشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصية وأسرع إلى غضب الله وقتل نفسه بدون حق وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى(/3)
الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهد رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفاً أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [البخاري 6/125 ومسلم برقم 111]. بشائر تدل على حسن الخاتمة نبه النبي صلى الله عليه وسلم على بشائر تدل الخاتمة إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألا طيباً وبشارة حسنة منها: 1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. 2- أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله قال تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) [سورة آل عمران آية 169-171]. 3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" رواه مسلم وأحمد، وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقّعته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" [مسلم برقم 1206]. 4- أن يكون آخر عمله طاعة الله فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة" [رواه أحمد 5/391]. 5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [رواه أبو داود برقم 4772 والترمذي برقم 1418و 1421]. 6- أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية وقد نبه النبي صلى اله عليه وسلم إلى بعضها فمنها: I- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [البخاري 10/156-157]. II- السل: روى راشد بن حبيش قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة" [رواه أحمد 3/289]. ج- داء البطن: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن مات في البطن فهو شهيد" [رواه مسلم برقم 1915]. د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصاحب ذا الجنب شهيد" وسيأتي بتمامه بعد قليل. 7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة" [رواه أحمد 4/201و 5/323]. 8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم" [الترمذي برقم 1063 وروى نحوه مسلم برقم 1915]. وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي]. 9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" [رواه أحمد 2/176 والترمذي برقم 1080 وقال: حديث غريب وليس إسناده بمتصل]. 10- عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة عن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين" [رواه الترمذي برقم 982(/4)
والنسائي 4/6 وسنده حسن]. خاتمة: وفي نهاية هذا اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سبباً في حسن الخاتمة وهي: 1- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو سبيل النجاة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران آية 102]. وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب. قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" [رواه احمد 5/331]. 2- المداومة على ذكر الله فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله نال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله" [المغني لابن قدامة 2/450]. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/5)
حسن الخاتمة
عبدالله بن محمد المطلق
دار الوطن
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحصى كل شيء عددا، رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة، فثابروا على طاعته، واجتهدوا في عبادته، إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيرا لهم، وإن أصابتهم ضراء صبروا فكانوا ممن قال الله فيهم: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببا في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه.
وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوما في عظمة من عصاه، فكانت سببا في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في عهد رسول الله من الموبقات. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا وأنتم مسلمون . وقال تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .
فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت: لتحصل الخاتمة الحسنة. وقد بين أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره، ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سببا في أن يختم له بخاتمة السوء، قال : { وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها }.
وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي أن رجلا من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله أبلى بلاء شديدا، فأعجب الصحابة ذلك، وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله : { أما إنه من أهل النار }. فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: أنا صاحبه،سأنظر ماذا يفعل، فتبعه، قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت، فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فرجع الرجل إلى رسول الله فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذلك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله عند ذلك: { إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار } وفي بعض الروايات زيادة: { وإنما الأعمال بالخواتيم }.
وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين هم باين ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين ما ءاتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون .
وقد كانت هذه حالة الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن) وكان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وكان يقول: ألا،إن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة قد أسرعت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
وقد كان موت الفجأة مذموما في الإسلام، لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله، فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة.
وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفا شديدا، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: وقلوبهم وجلة .
وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلا أمام عين العبد في كل لحظة، لأن الخوف باعث على العمل، وقد قال : { من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة }.
لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب اللاجاء، وأن يشتاق إلى لقاء الله، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، قال : { لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل }.(/1)
لكن كثيرا من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومعفرته، فاسترسلوا في المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك، فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع، فقال جل من قائل: { نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم }.
وقال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق. وقال بعض العلماء: من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا.
وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم، فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كان له حسنات أخذ منها، وإن لم يكن له حسنات أخذت سيئاته وطرحت عليه. وقد أخبر أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز.
أولا: التسويف بالتوبة:
والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيّها المؤمنون لعلكم تفلحون .
وكان ـ وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة، روى الأغر المزني قال: قال الرسول الله : { يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فأني أتوب في اليوم مائة مرة }.
وقد بين أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة، فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة، فإن أمامه زمنا طويلا، ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك، فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلا عليه أن يتوب توبة نصوحا، ويلزم المسجد ويكثر القربات، أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن.
هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة.
قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفا من سوء الخاتمة ومحبة لله، والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته، كمثل قوم في سفر دخلوا قرية، فاما الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهبا للرحيل. أما المفرط فإنه يقول كل يوم: سأتأهب غدا،حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا، فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم، أما العاصي المفرط فإنه يقول ربي ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت…
ثانيا: طول الأمل:
وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدع الشيطان أحدهم فيصور له أن أمامه عمرا طويلا وسنين متعاقبة، يبني فيها آمالا شامخة، فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الامال، وينسى الآخرة ولا يتذكر الموت، وإذا ذكره يوما برم منه، لأنه ينغص عليه لذاته، ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول أشد تحذير فقال: { إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا }.
فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها، واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر، فإن الانفاس معدودة والايام مقدرة، وما فات لن يعود، وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها حينما قال: { بادروا بالاعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس، أو غنى مطغ، أو مرض مفسد، أو موت مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر }.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: اخذ رسول الله بمنكبي فقال: { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } وكان ابن عمر يقول: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ). وكان ابن عمر يقول: ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ).
وقد أرشد رسول الله المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين، فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته، وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له، وسنتكلم عن ذلك بإيجاز:
أ ) أما ذكر الموت دائما فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في الاخوة، فيحمل على الاجتهاد في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية. وقد روى أبو هريرة أن النبي قال: { أكثروا من ذكر هادم اللذات }.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : { أكثرهم للموت ذكرا، وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة }.(/2)
ثم يفكر الإنسان في الموتى، ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها، وعلى عظامهم فبددها؟ ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار،ويتأهب بالأعمال الصالحة، فإنها العملة النافقة في الآخرة...
ب) أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب، فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة، ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحياء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق، وإغلاقه عليه بلبنات من طين، ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله، ويتملكون مخصصاته، وتزوجت نساؤه، وينسى بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت، يأمر فيطاع، وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي : { زوروا القبور فإنها تذكركم الموت }.
ج) أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة، وربما كان شديد البطش والهيبة، وقد صار بالموت جسدا خامداً لا حراك به، يقلبه الغاسل كيف يشاء.
وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يذهب الأول، والآخر لا عقل له، وكان عثمان إذا شيع الجنازة ووقف على القبر بكى، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على القبر؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: { إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد }.
د) أما زيارة الصالحين فلأنها توقظ القلب وتبعث الهمة، فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعات، لا غاية لهم إلا رضا الله، ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته، معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها، لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف. وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
وقيل للحسن: يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ أنجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك خوف.
ثالثا: حب المعصية وأُلفها واعتيادها:
فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي بها على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله، طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء: رجل كان يعمل دلالا في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة، فكانوا يقولون له: قل لا إله إلا الله، فيقول: أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال:
يارب قائلة يوما وقد تعبت *** كيف الطريق إلى حمام منجاب
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يغني،وربما أدركه الموت في المعصية نفسها، فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه، وقد قال : { من مات على شيء بعثه الله عليه }.
رابعا: الانتحار:
فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجرا، وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له يتخلص به من هذه الأمراض والمشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصيه، وأسرع إلى غضب الله، وقتل نفسه بدون حق.
وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله : { والذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار } وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: { شهد رجل مع رسول الله خيبر فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحه، فقيل له: يا رسول الله : الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي : إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة،فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله. ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر }.
بشائر تدل على حسن الخاتمة
نبه النبي على بشائر تدل على حسن الخاتمة، إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فالا طيبا وبشارة حسنة، منها:
1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت، فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة }.(/3)
2- أن يموت شهيدا من أجل إعلاء كلمة الله، قال تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين .
3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرما بحج، قال : { من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد }، وقال في المحرم الذي وقصته ناقته: { اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا }.
4- روى حذيفة قال: قال رسول الله : { من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام صوما ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة }.
5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله : { من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد }.
6- أن يموت صابرا محتسبا بسبب أحد الأمراض الوبائية، وقد نبه النبي إلى بعضها فمنها:
أ- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله : { الطاعون شهادة لكل مسلم }.
ب- السل: روى راشد بن حبيش قال: قال رسول الله : { قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، والسل شهادة }.
ج - داء البطن: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : { ومن مات في البطن فهو شهيد }.
د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي : { وصاحب ذات الجنب شهيد } وسيأتي بتمامه بعد قليل.
7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي أنه قال: { والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة }.
8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عز وجل }.
وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله : { الشهداء سبعة سوى المقاتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة }.
9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: { ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر }.
10-عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة بن الحصين أن رسول الله قال: { المؤمن يموت بعرق الجبين }.
خاتمة:
وفي نهاية اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سببا في حسن الخاتمة وهي:
أ- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي فهو سبيل النجاة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
وأن يحذر العبد أشد الحذر، فإن الكبائر موبقات، وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر، وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب.
قال : { إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود،وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه }.
ب- المداومة على ذكر الله، فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله، نال بشارة النبي حيث قال: { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة }.
وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي : أي الأعمال أفضل؟ قال: { أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله }.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/4)
حسن الظن بالله
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
من واجبات الإيمان وكمال التوحيد أن يحسن العبد المؤمن الظن بالله رب العالمين، وحسن الظن بالله مبني على العلم بالله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته العلى. العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة التوكل عليه ?... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...?[ الطلاق:3].
فإذا حصل للعبد العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله. وقد ينشأ حسن الظن بالله من مشاهدة العبد لأفعال الله جل وعلا وآثار صفاته، وكل ما كان القلب مدركاً لحقائق معاني أسماء الله وصفاته كان حسن الظن بالله هو الثمرة لتلك المعرفة وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني"
وفي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل".
وفي حديث عن أبي داؤود بن حيان : "حسن الظن من حسن العبادة"
فحسن الظن بالله من كمال الإيمان والتوحيد ومن حسن العبادة كما أن سوء الظن بالله من الجرائم والذنوب التي يقع فيها أهل الجهالات والجاهليات في القديم والحديث. ولذلك ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أساء الظن به وغضب عليهم ولعنهم، فقد ذكر الله تعالى عن المنافقين الذين يحرصون على الحياة، ويتهربون من تكاليف الإيمان والجهاد، الذين يشكون في حكمة الله وينكرون القدر، ولا يؤمنون بأن الأمور كلها لله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يكون في هذا الكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به قلمه وكتابه السابق، فما شاء الله كان ولابد، شاء الناس أم أبوا ، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس أو لم يشاءوه، ولذا فإن نفراً من المنافقين تخلفوا عن الجهاد في أُحد وقالوا لمن رزقه الله الشهادة من المؤمنين لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، أو الذين دارت بهم الظنون حينما وقع ما وقع من الهزيمة فقال جل وعلا فيهم: ?... وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ?[آل عمران:154].
فقد ذمهم الله بسبب ظنهم الباطل المتضمن الاعتراض على الله والتكذيب، هذا الظن السيئ بالله هو ظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق، لأنه غير ما يليق بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى وذاته المبرأة من كل عيب ونقص.(/1)
وقد ذكر الله عز وجل أن المشركين والمنافقين هم أصحاب الظنون السيئة بالله عز وجل وبدينه ورسوله وأوليائه ، حيث يظنون بأن الله سبحانه لا ينصر رسوله والمؤمنين وأنهم سيقتلون وأن أمرهم سيضمحل ويزول وذلك لكراهيتهم للحق والإيمان ولكثرة ما يرون من الأعداء الذين يحاربون الإسلام والقرآن والرسول فيظنون بالله الظن السيئ ، قال تعالى عنهم: ? وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ?[الفتح:6-7]. فقد قال بعض المنافقين حين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاهباً إلى عمرة الحديبية مع أصحابه رضوان الله عليهم أيظن محمد أنه سينجو من قريش، وإذا هادنته قريش فإن القبائل المحيطة به لن تتركه ثم من ورائهم قوى كسرى وقيصر. فقال سبحانه راداً على هذا الظن السيئ: ? وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... ?[الفتح: 7].
وقد بين الله تعالى في سورة الفتح هذا المعنى الذي يعتلج في صدور المنافقين والمشركين فقال: ? بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً?[الفتح:12-13].
فمن ظن بأن الله عز وجل يدير الباطل على الحق أبداً بحيث يضمحل الحق ويزول من الوجود فهذا ظن السوء بالله لأن من يظن ذلك ينسب إلى الله تعالى ما لا يليق بجلاله وكماله وبقوته، فإن حكمته وعزته، تأبى أن يذل حزبه وجنده وأن يكون النصر والظفر الدائم لأعدائه المشركين الكافرين. فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله جل جلاله.
ومن صور الظن السيئ بالله من يظن أن الله يترك الخلق سدى معطلين عن الأمر والنهي غير مكلفين بشرائع.
ومن ظن أن الله لا يجمع الخلق بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته وقد بيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن أن الله لا يعز جنده ولا ينصر أولياءه فقد ظن بالله ظن السوء ومن ظن أن قوى البغي والعدوان العالمية اليوم لن تنهزم وتزول وأن سيطرة الكافرين ستستمر على المسلمين إلى الأبد فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن أن التمسك بالدين وتنفيذ أحكامه تعصب وهوس لا معنى له يقوم به المتشددون وأن ذلك يجلب عليهم المصائب والكوارث دون طائل حيث ستغضب علينا أمريكا فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن بأن العزة والنصر والظفر تنال من غير الله عز وجل فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن أن الرغد المادي الذي يعيشه الكفار اليوم دليل على خلاصهم ورضى الله عنهم، وأن الفقر والحاجة التي تحصل للمسلمين دليل على أن الدين هو سبب ذلك وأنه لابد من التخلي عنه فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن اعترض على الله في قضائه وقدره وحكمته في تصريف الأمور وتدبيرها وتوزيع الأرزاق وإدالة الدول والحضارات وغيرها وفق سنته فقد ظن بالله ظن السوء .
ومن يصف الله عز وجل بالظلم والجور وغير ذلك من صفات النقص والعيب التي لا تليق بالله رب العالمين فقد ظن بالله ظن السوء.
ومن ظن أن الله يعامل الكافر والمؤمن والعاصي والطائع والمجرم والمحسن ويساوي بينهم في الجزاء فقد ظن بالله ظن السوء. قال سبحانه: ? أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ?[ القلم:35-36].
ومن ظنَّ أن الله عز وجل لا ينتقم من أعدائه فقد ظن بالله ظن السوء، فقد ورد في الحديث الشريف: "إن الله يملي للظالم لكنه إذا أخذه لم يفلته".
ومن استعظم ذنبه وظن أن الله لا يغفر الذنب العظيم إذا تاب منه فقد ظن بالله ظن السوء، قال تعالى: ? وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ?[الحجر: 56].
أيها المؤمنون أحسنوا الظن بالله، وأحسنوا العمل ، وابتغوا إليه الوسيلة بالإيمان والعبادة والطاعة والتمسك بدينه واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومجاهدة النفس والهوى في ذلك ومراغمة أعداء الله بدعوتهم وجهادهم، فإذا فعلتم ذلك فأبشروا برضاء الله ومعيَّته، ومن يكن الله معه فسيكون في عزة ومنعة ونصر قال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ...?[ العنكبوت: 69].
الخطبة الثانية:(/2)
حين يجهل البشر قدرة الله وعظمته، فإنهم لا يقدرون الله حق قدره، وبالتالي يقعون في ضلالات وانحرافات ويصفون الله بما لا يليق به سبحانه. وأكثر ما يكون ذلك في أهل الجهل والجفاء.. ولقد كان بعض الأعراب ممن قل علمهم وفقههم يقعون في شيء من الخطأ في حق الله فيرشدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعلمهم وينزه الله تعالى عن قولهم ووصفهم، فعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (سبحان الله سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). الخلق وما في أيديهم في ملكه يتصرف فيهم كيف شاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، لا العكس كما فعل الأعرابي ، ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبح الله كثيراً لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وتعالى ، وإن شأن الله أعظم وأكبر مما يظن الجاهلون.
إن أعراب زماننا اليوم ممن ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ممن جهلوا دين الله يقعون في منكرات من الأقوال والأعمال التي تنتقص الخالق جل وعلا.. ثم لا يتوبون ولا يستغفرون وإنما يبررون للمنكر والباطل ولا يقلعون عن جرائمهم ويهونونه وهو عند الله عظيم بل ويتظاهرون على الله، ويصطفون لمحاربته وهم الضعفاء المهازيل. هؤلاء الذين يفعلون هذا لم يعرفوا الله وإنما يجهلونه سبحانه.
والجهل وعدم المعرفة يوقع في الكفر والضلال قال تعالى: ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ?[الزمر: 67].
إن الملائكة وهم أكثر خلق الله وأعظمهم وأقواهم خاضعين لله طائعين منقادين له، إذا سمعوا الوحي إلى جبريل، يأمر الله به، سمعت الملائكة تجر سلسلة الحديد على الصفا، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كالسلسلة على صفوان"، ?... حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ? [سبأ:23 ] ، وإذا كان هذا حال الملائكة فكيف يليق بإنسان ضعيف حقير جاهل ظلوم أن يتطاول على الله، ويشتمه أو ينتقص من عظمته وجلاله أو يشرك به سواه، ويجادل ويخاصم في ربه الذي خلقه من العدم وغذاه بالنعم وإليه مرجعه ومآله: ? إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ?[ الغاشية:25-26].
ألا ما أظلم الإنسان وأحقره وما أضعفه وأهونه على الله ، إن الله تعالى حليم يصبر على أذى الكفار والفجار ويمد لهم ويمهلهم، لأنهم في النهاية عائدون إليه لا مفر، فأين تذهبون. ومن ينجيكم من عذاب الله ، لا شيء ينفع وينجي إلا الإيمان بالله والخضوع والإذعان لخالقنا جل في علاه وما عدى ذلك لا يجدي نفعاً ولا دفعاً يقول تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ?[آل عمران:91 ].
اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفقر ومن عذاب القبر لا إله إلا أنت اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح البخاري:باب: قول الله تعالى: ?... َيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ... ? [آل عمران: 28].الحديث رقم: (6970) عن أبي هريرة . وصحيح مسلم: باب الحث على ذكر الله تعالى. الحديث رقم:(2675) ، عن أبي هريرة .
صحيح مسلم: باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى، عند الموت: الحديث رقم:(2877) عن جابر رضي الله تعالى عنه .
(3)- سنن أبي داؤود 2/ 716، حديث رقم: 4993، وضعفه الألباني
صحيح البخاري: باب: قوله: ?وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد? /102/.الحديث رقم: (4409 ) عن أبي موسى رضي الله عنه . وصحيح مسلم: باب تحريم الظلم: الحديث رقم:(2583) عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه .
ـ مسند أحمد 2/ 94، حديث رقم: 5690، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح ورجاله رجال الشيخين غير هشام بن سعيد .
البخاري 4/1736، حديث رقم: 4424 .(/3)
حصائد ألسنتهم 24/2/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم أما بعد:
فإن ثمة موضوعاً مهماً جديراً بالطرح؛ لشدة حاجتنا إليه، ولخطورة النتائج المترتبة عليه،
ألا وهو «مكانة اللسان وخطورته».
فإن تلك الجارحة التي امتن الله بها علينا شأنها عظيم، وإن مما يدل على عظم أمرها ما حكاه الله _تعالى_ عن موسى _عليه السلام_ في قوله: "واحلل عقدة من لساني" وقوله: "ولا ينطلق لساني" وقوله عن أخيه هارون: "هو أفصح مني لساناً". ويقول الله _سبحانه_ ممتناً على عبده: "ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين".
وعندما نتأمل مثلاً حال المحروم من هذه النعمة _الأبكم_ فإننا ندرك عقلياً عظم هذه النعمة الإلهية.
هل يستطيع الأبكم أن يعبر عما في نفسه؟
إنه عندما يريد التعبير عن شيء فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه، ومع ذلك لا يشفي نفسه، ولا يبلغ مراده، وإن بلغه فبشق الأنفس.
إذن فنعمة اللسان من أجل النعم، ومن أكبر المنن الإلهية علينا.
فهل حافظنا عليها؟
هل استخدمناها في الخير وجنبناها الزور والوقيعة في أعراض الناس؟
إن النصوص تدل على خطورة أمر هذه الجارحة، وفداحة الخسارة الناجمة عن التهاون في حفظها، قال الله _تعالى_ في قصة الإفك: "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم". وقال _تعالى_ في المنافقين: "فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد"
وقال _تعالى_: "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم"، "وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى".
لذلك جاء الأمر بحفظ اللسان والتحذير من إطلاق العنان له: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً"، وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» ويقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث المتفق على صحته: «من يضمن لي بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة».
إن كثيراً من الناس - وخاصة الطيبين المستقيمين- يضمنون ما بين الفخذين ، وهذه نعمة عظيمة وفقهم الله _تعالى_ إليها.
ولكن..! هل نضمن ما بين اللحيين؟ هل يمر علينا يوم بدون أن نقع في عرض مسلم، عالماً كان أو غير عالم؟! ليحاسب كل امرئ نفسه؛ امتثالاً لقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» متفق عليه؛ وحذراً من الوعيد في مثل قوله _عليه الصلاة والسلام_: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» متفق عليه.
وما أحكم قول الشاعر:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه
وعثرته بالرجل تبرا على مهل
قال حاتم الأصم: «لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك؛ لاحترزت منه. وكلامك يعرض على الله _جل وعلا_ فلا تحترز»
وهنا أمر لا بد من إبرازه:
لئن كانت غيبة العلماء من أشد وأقبح أنواع الغيبة ، فإن هذا لا يعني أن لحوم غيرهم من الناس مباحة، بل هي محرمة كذلك قال _تعالى_: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" وقال _سبحانه_: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً".
وفي سنن أبي داود عن أنس _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» فكيف بالذي يقع في أعراض العلماء ؟ إنه والله انتهاك بشع.
ولابن القيم _رحمه الله_ كلام نفيس في هذا المعنى خليق أن يكتب بماء العيون؛ لأنه ينطبق بدقة على حال كثير من طلاب العلم، يقول: "وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول".(/1)
حصاد الأفلام
المحتويات
التعريف بالأفلام
تاريخ الأفلام في مجتمعنا
حجم انتشار الظاهرة
الآثار السيئة للأفلام
أولاً: الدعوة للشرك والكفر
ثانياً: إضعاف عقيدة الولاء والبراء
ثالثاً: تشويه الأحكام الشرعية
رابعاً: تشويه سير الصالحين والعلماء
خامساً: التأخر عن الصلاة وتركها
سادساً: انحراف الشباب وفسادهم
سابعاً: الفساد الأخلاقي
ثامناً: تدنيس الأعراض
تاسعاً: القضاء على مفهوم المنكر
عاشراً : القضاء على الآداب الشرعية
الحادي عشر: المعاصي المتراكمة
الثاني عشر: هدم الصلة الزوجية
الثالث عشر: وفود بعض القيم الهابطة والأنماط السلوكية الساقطة
الرابع عشر: التقليد والمحاكاة
الخامس عشر: انحراف الاهتمامات
السادس عشر: التأخر الدراسي
السابع عشر: الدعوة إلى السفر للخارج
الثامن عشر: الهم والتفكير
التاسع عشر: إضاعة الأوقات
العشرون: الانصراف عن القراءة والمطالعة
الحادي والعشرين: اعتياد السهر
الثاني والعشرون :: الأثر الاقتصادي
الثالث والعشرون : تعليم فن الجريمة
الرابع والعشرون: الأثر الأمني والسياسي
ما الحل؟
التعريف بالأفلام
في مطلع هذا الحديث نحتاج إلى أن نوضح ما مقصدنا بالأفلام التي نتحدث عنها؛ لأن كثيراً من الأخوة وجهوا انتقاداً لموضوع المحاضرة وبالذات في هذا التوقيت.
نعني بالفيلم: ذاك الفيلم التلفازي الذي يسجل، سواء أكان يعرض من خلال أجهزة الفيديو، أو من خلال شاشة التلفاز –سواء أكان من خلال البث المحلي أم من خلال استقبال البث المباشر.
وكثير من الاخوة انتقد الحديث عن الأفلام في هذه الفترة التي يواجهنا فيها خطر أوسع وأشد من هذه الأفلام ألا وهو البث المباشر، ولكن الحديث عن الأفلام جزء من الحديث عن حمى البث المباشر؛ لأن البث المباشر عبارة عن أفلام لكنها تبث بصورة أخرى، فهي غير خاضعة لما يسمى بالرقابة، ويستطيع أن يطلع عليها المشاهد ولو لم يكن عنده جهاز الفيديو.
تاريخ الأفلام في مجتمعنا
لم تكن بدايات الأفلام بصورتها الحالية، فقد كان البث التلفازي بما فيه من تمثيليات ومسرحيات يعرض مباشرة من الاستديو، واستمر هذا مدة من الزمن حتى كان عام 1956 م حيث اخترعت الأفلام التي تسجل البرنامج التلفازي قبل أن يعرض، وقد مرت بمراحل حتى تطورت إلى هذا التطور الملحوظ، فأسهمت في كساد سوق السينما العامة؛ نظراً لأن الأفلام تتمتع بمزايا أكثر، من حيث الوضوح وسهولة الاستخدام، والاستخدام الشخصي بصورة لا تحققها السينما.
وقد بدأ ورود الأفلام إلى مجتمعنا في مرحلة متأخرة نسبيًّا ، فقد ذكر في تحقيق نشرته جريدة الرياض في تاريخ 16/10/1403هـ أن بداية ورودها إلى مجتمعنا كان في عام 1397هـ، وصرّح مدير المطبوعات في ذلك الوقت بأنه يوجد في السعودية حوالي سبعمائة محل بيع وتأجير لأشرطة الفيديو منها (220محلاًّ في الرياض) و(195 محلاًّ في جدة) و(90 محلاًّ في الشرقية) و(35م محلاًّ في المدينة) و(40 محلاًّ في مكة) و الباقي وهي 120 محلاًّ موزعة على سائر المناطق .
هكذا ترى أنه في هذه الفترة القصيرة جدًّا انتشرت الأفلام انتشاراً واسع النطاق، وبعده أوقفت التصريحات الجديدة بالسماح لمحلات الفيديو.
حجم انتشار الظاهرة
وحتى نأخذ تصوراً عن حجم متابعة ومشاهدة هذه الأفلام يمكن أن نشير إلى بعض الدراسات التي أجريت في مجتمعنا عن متابعة الشباب للأفلام، ففي رسالة بعنوان (وقت الفراغ وشغله في مدينة الرياض) صدرت من جامعة الإمام محمد بن سعود توصل الباحث الذي أجرى دراسته على المرحلة الثانوية إلى أن 67% من أفراد العيّنة (الدراسة مطبقة على مرحلة ثانوية) يملك جهاز فيديو، والذي لا يملك جهاز فيديو لا يعني بالضرورة أنه لا يشاهد الأفلام، فهناك نسبة كبيرة ممن لا يملك جهاز فيديو يشاهد الأفلام عند أصدقائه، وهي قضية أخطر وإن كان كلا الأمرين في خطر ولكن جلوسه مع أصدقائه يعني أن الأصدقاء يتحكمون في نوعية الأفلام التي تُشاهد وتُختار، وقد يقصد صديقه اختيار أفلام معينة لتحقيق أغراض ومقاصد سيئة .
وكذلك أفاد 45.7% من أفراد العيّنة أنه يقضي وقته في مشاهدة الفيديو، وهذا يمثل نصف أفراد العينة .
وفي دراسة أجراها طالبان في المعهد العالي للدعوة (كلية الدعوة) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان(أثر الفيديو على متابعة برامج التلفاز) بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض توصل الباحثان إلى أن الذين لا يوجد لديهم جهاز فيديو هم 19% فقط و أن الذين لا يشاهدون أفلام الفيديو هم 10% فقط من أفراد هذه العيّنة، ومن هذا نستنتج أن عدد الذين لا يشاهدون أفلام الفيديو عُشر عدد الذين يشاهدونها وهي نسبة مؤلمة جدًّا.. ولعلك - أخي القارئ- أن تتصور أن كل الآثار والنتائج التي سنعرضها بعد قليل إن شاء الله ستنطبع بصورة أو بأخرى على هؤلاء الشباب الذين يشاهدون هذه الأفلام.(/1)
وهذه الإحصائيات قبل مجيء الأطباق الفضائية التي انتشرت في مجتمعنا، حتى إنك تجد أحياناً بيوتاً من الطين توجد عليها هذه الأطباق، وامتد اقتناؤها إلى محدودي الدخل وأصحاب الموارد المحدودة، حتى إنها أصبحت توجد في كثير من المناطق والقرى النائية للأسف.
وحسب معلومات قديمة يعود تاريخها إلى عام 1403هـ يوجد في الخليج خمسة ملايين جهاز فيديو وهذا العدد يفوق الأجهزة الموجودة في أمريكا، وفي فرنسا وبريطانيا وبلجيكا مجتمعة، أما في بلادنا فتُؤكد الأرقام أن أجهزة الفيديو قياساً إلى عدد السكان تعتبر من أعلى النسب في العالم إن لم تكن أعلاها على الإطلاق، ففي أمريكا يوجد ثلاثة ملايين جهاز أي بواقع جهاز واحد لكل مائة شخص، أما هنا فإن عدد الأجهزة مقارنةً بعدد السكان يصل إلى نسبة جهاز واحد لكل عشرين شخصا، أي أنها تزيد خمسة أضعاف عن مثيلاتها في أمريكا، وتزيد ثلاثين ضعفاً عن بلد متقدم تقنيًّا مثل إنجلترا، وللعلم فهذا التصريح رسمي لأحد المسؤولين في وزارة الإعلام نشر في عام 1403هـ.
هذه الأرقام مزعجة جدًّا ، وتصور لنا انتشار هذه الحمى الوافدة في مجتمعاتنا، والمشكلة أننا في التعامل مع هذه الظاهرة نكون أحياناً أسرى بيئتنا المحدودة ومجتمعنا المحدود؛ فقد يكون الإنسان ينتمي إلى أسرة محافظة ونزيهة، وعلاقته عادة في محيط العائلة وأقربائه والناس القريبين منه، فهو يتعامل مع عيّنة متحيزة -بالمصطلح الإحصائي- تمثل توجهاً معيناً، ويحكم على المجتمع من خلال هذه العيّنة ومن خلال هذا النموذج الذي يتعامل معه، وينسى أن هناك طبقات أخرى وفئات كثيرة تعيش واقعاً آخر وعالماً آخر، بل إن هناك العديد جدًّا من الأسر التي تملك في البيت أكثر من جهاز، وفي دراسة أجراها المجلس الأعلى للإعلام في عام 1403هـ يصرح د/ عبد الرحمن الشبيلي بقوله: "وجد في الدراسة أن حمى الفيديو تنتشر وتتفاعل وتتصاعد بازدياد بنسبة لا تقل عن 30% كل عام، كما بينت الدراسة أنه يصل للمملكة كل شهر ما يزيد على عشرة آلاف شريط وعلى كل حال فإن فكرة الدراسة لم تقم أصلاً على الحد من هذه الظاهرة أو إيقافها أو منعها ولكن للعمل على تنظيمها وتوجيهها الوجهة الصالحة المفيدة للمجتمع".
أما الأفلام الممنوعة، التي لا تجيزها الرقابة -مع العلم بأن كثيراً من المراقبين يجيزون بعض صور النساء التي تصل إلى نصف الفخذ أحياناً، وأحياناً تجاز بعض الأفلام إلى حد لباس البحر الذي يسمى(المايوه) إذا لم يتكرر هذا المشهد في الشريط أكثر من مرة أو مرتين- فلها انتشار واسع، فقد نشرت جريدة الجزيرة في تاريخ 3/6/1413هـ في صفحة الرسالة -وهي صفحة تصدرها الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قصة عن كيفية قبض رجال الهيئة بمدينة الرياض على محل يوجد به ألفا شريط ممنوع، وأحد الزبائن يحمل بيده الأولى شريطاً والثانية عقاراً للتنشيط الجنسي، لهذا الحد هذه الأفلام تسهم في زيادة الرغبة والشهوة الجنسية فلا يستطيع مثل هذا الشخص الذي يتابع ويشاهد مثل هذه الأفلام أن يقضي شهوته فيحتاج إلى عقار آخر يزيد من تنشيط أدائه الجنسي، ويسهم مثل هذا المحل في ترويج هذا العقار.
لا أريد أن أتحدث عن بعض الأرقام والإحصائيات المذهلة عن كمية الأفلام الممنوعة التي يقبض عليها فهي أرقام مزعجة، ولك أن تتصور أنه يمكن لأي شاب مراهق أن يحصل على مثل هذه الأفلام بصورة أو بأخرى، وهذه الأفلام الممنوعة تتمثل بصورة أكثر في الأفلام الجنسية المكشوفة كما يقال والتي تعرض فيها عملية الفاحشة بصورها ويُرَى الناس فيها كما ولدتهم أمهاتهم، و من الأشرطة الممنوعة التي قد يحصل عليها بعض الشباب تلك الأشرطة التي تدعو إلى الشرك والإلحاد والوثنية كما سيأتي عرض نماذج من ذلك عن شاء الله.
هذه المقدمة تعطينا صورة عن هذا الخطر الداهم وانتشاره، فإذا كان انتشار الأفلام وانتشار الفيديو بمثل هذه الصورة فكيف بعد بالبث المباشر واستقبال المحطات الفضائية لدول غربية؟ كيف تكون الصورة بعد ذلك، حينما لا يكون هناك مجال مطلقاً للرقابة؟
و بعد هذه المقدمة ننتقل إلى النقطة الأساسية والمهمة في هذا الموضوع ألا وهي:
الآثار السيئة للأفلام
وهي آثار كثيرة ومتنوعة، ومنها :
أولاً: الدعوة للشرك والكفر
و هو أخطرها، ويتمثل ذلك في عدة جوانب منها:
1-الدعوة لعبادة الأوثان والأصنام.
2- تعليم العبادات الوثنية.
3- الدعوة لعبادة القبور وشد الرحال إليها .
4- تشويه سير الأنبياء.
ومن أمثلة هذا الأثر الخطير: انتشار الأفلام التي تعرض سيرة موسى وعيسى بصورة وقحة والتي تنشر عقيدة تناسخ الأرواح.(/2)
وحتى لا أكون مبالغاً فهناك قائمة تضم 49فيلماً من الأفلام المقبوضة والتي فيها مخالفات تتعلق بالعقيدة وأكثرها مخالفات شركية، منها مثلاً فيلم هندي بعنوان (كِرِشْما كَالِي كَا)، و(كالي) اسم لصنم معبود عند الهندوس، وقصة الفيلم مبنية على ألوهية (كالي)، ومن ضمنها كذلك فيلم هندي بعنوان (مِنْتالي) وهي قصة عن العشق وتحث على شد الرحال إلى مقبرة (شاه حميد)، كذلك فيلم آخر هندي بعنوان (رات سَوْرِيا وِنْشي) ويدور حول قصة مبينة على أن الأرواح تنتقل من شخص إلى شخص بواسطة الكهنة والسحرة عندما يفعل البعض العبادات، وأيضاً فيلم (مِنْ مول فِيتْكِيال) وهذا فيلم تنصيري من إنتاج نصارى الكاثوليك وهي تزود المشاهد بمعلومات كافية عن كنيستهم المقدسة في (الفاتيكان) وما يقام فيها، ومنها فيلم بعنوان (نادْيُوتا) وهي قصة مبنية على الحب وعلى مذهب تناسخ الأرواح، ومنها أشرطة وخطب نصرانية وهي تشتمل على إثبات التثليث والدعاء والاستغاثة بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ومنها أيضاً أشرطة تقوم حول عبادة الصليب وعيسى عليه الصلاة والسلام، وأشرطة حول عبادة الأفاعي.
وتصل الوقاحة إلى حد أن يوجد فيلم يعرض قصة موسى _ عليه السلام _ وعلى غلاف الفيلم صورة يدعون أنها صورة موسى عليه السلام وبيده التوراة ويعرض في هذا الفيلم -باستخدام الأشعة-كيف أن الوحي جاء من عند الله عز وجل إلى موسى عليه السلام، ومن الوقاحة أيضاً فيلم يقبض عليه كثيراً يحكي قصة عيسى_ عليه السلام _ وهو فيلم جنسي ساقط داعر يمارس فيه الجنس بصور مكشوفة، وتعرض فيه صورة عيسى_ عليه السلام _ وناهيك عن الأفلام التي فيها صلب للمسيح عيسى_ عليه السلام _.
كل هذا الحديث وهذه الأفلام إنما هو حديث عن أفلام موجودة مقبوض عليها، وليس الحديث عن أفلام في الخارج، فكيف إذا كنا بعد ذلك نستقبل بدون رقابة ولا متابعة، كل مايعرض في محطات العالم ؟
ولك أن تتصور بعد ذلك خلفية هذا الشخص الذي يعتمد على التلقي من جهاز التلفاز وحده، ولايكاد يتلقى عطاءً تربويًّا من غير هذا الجهاز، وثقافته وقدراته مرتبطة بهذا الجهاز وحده، وسنشير إلى نماذج من آثار متابعة هذه الأفلام على الثقافة وعلى التفكير وآثارها التربوية.
ثانياً: إضعاف عقيدة الولاء والبراء
إن الكثير من هذه الأفلام يمثلها كفار، ويعرض هذا الكافر بصورة البطولة، أيّاً كانت هذه البطولة، وقد تكون هذه البطولة تحقيق شهوة جنسية، أو القدرة على التغرير بفتاة، أو القدرة على القيام بعملية جنسية، أو بطولة عسكرية أو غير ذلك.
فتصوَّر ذلك الطفل أوالمراهق بل حتى الرجل الكبير والمرأة، عندما يشاهدون مثل هذه الأفلام التي يعرض فيها صورة هذا الكافر على أنه بطل، تخيل أثر هذا الفيلم في القضاء على عقيدة الولاء والبراء التي هي أوثق عُرى الإيمان، والتي انطمست-للأسف- عند كثير من المسلمين نظراً لإهمالها وإهمال الحديث عنها والعناية بها، إضافة إلى ما ينتج عنها من تعظيم الكفار ومحبتهم.
تقول إحدى الكاتبات وهي د/كافية رمضان. في مقال في مجلة البيان الكويتية- وسأستشهد كثيراً بكتابات بعض الغربيين أو كتابات بعض المسلمين الذين لانوافقهم على منهجهم -: "بل إن المساهمة في تزييف الوعي تتضح في أفلام سوبرمان على سبيل المثال، على الرغم مما قد يكون فيها من فائدة؛ فالرجل الأمريكي الذي في هذا الفيلم قادرٌ على مالا يقدر عليه البشر، وهو يعرف مالا يعرفون، ولديه من القدرات مالا يملكون، وهو عادل وكريم ومدافع عن الحقيقة" ، ولاشك أن مثل هذه الصورة عندما تنطبع في ذهن الطفل يصعب عليه تغييرها والتخلص من أسرها.
ثالثاً: تشويه الأحكام الشرعية
ويتم ذلك من خلال جوانب كثيرة مما يعرض في هذه الأفلام، ولعل من أبرز الأحكام الشرعية التي شوهتها الأفلام: الطلاق، وتعدد الزوجات؛ فإن كثيراً من الأفلام العربية التي تعرض التمثيليات، بل حتى الإذاعة المسموعة تدور حول تعدد الزوجات والطلاق وغيرها، فينطبع في ذهن المشاهد والمستمع أن الإسلام ظلم المرأة وأهانها وأن الطلاق يعد ظلماً للمرأة وانتقاصاً لها، ولم يقتصر الأمر على هذا --وإن كان هذا عظيماً- بل تجاوزه إلى المناقشة في الدين والشرائع .
رابعاً: تشويه سير الصالحين والعلماء
ولعل ما سبق ذكره مما يعرض من صور للأنبياء ومشاهد لهم يكفي للدلالة على ذلك، تقول د/كافية رمضان في المقال المشار إليه آنفاً: "وأما الموقف من رجل الدين (وهذا المصطلح غير سليم) فيكفي أن يتابع كيف تظهر شخصية المأذون في معظم الأفلام العربية، فهو شخص غبي شَرِه يسهل خداعه، وهو لايهمه سوى البحث عن ملء معدته أو جيوبه".
ويجد من يتابع الأفلام الكرتونية أو غيرها أنه كثيراً مايصور الرجل الملتحي كرجل إرهابي يطلق النار، أو يقتل الناس أو يسرق أو غير ذلك من الصور التي يقصد من خلالها تشويه الملتزم بالإسلام وربط هذه الشعيرة بهذه السلوكيات التي يراها الطفل ويراها المشاهد.(/3)
خامساً: التأخر عن الصلاة وتركها
وهذا يُحْصَى من خلال انهماك المشاهد بمتابعة مثل هذا الفيلم، يقول أحد الطلبة الذين يشاهدون هذه الأفلام :"كثيراً ما أكون منهمكاً بمشاهدة الفيلم فلا أشعر أصلاً بوقت الصلاة، وأتأخر حتى أصلي الصلاة بعد خروج وقتها، وأحيانا أترك الصلاة بالكلية".
ولئن كان الناس يثقل عليهم أن ينصرفوا إلى الصلاة إلا مع وقت الإقامة وهم في مجلس عادي يتبادلون فيه الأحاديث ، فكيف إذا كان الإنسان مشدوداً بكل حواسه وجوارحه في مشاهدة هذا الفيلم الذي تمارس فيه أنواع ووسائل إثارة الغرائز؟ لاشك أن مشاهدة مثل هذه الأفلام ستشغله قطعاً عن الصلاة وستؤدي به إلى تأخير الصلاة عن وقتها فضلاً عن صلاة الجماعة.
وأيضاً من آثارها ما يتمثل في السهر عندما يجلس أمام الفيلم أو أمام المسلسل الذي يعرض في التلفاز فيتأخر في نومه، فيكون ذلك سبباً في عدم الاستيقاظ لصلاة الفجر.
سادساً: انحراف الشباب وفسادهم
قد لايقف تأثير الأفلام عند جانب واحد، بل يمتد ليؤدي إلى انحراف الشاب وفساده؛ ففي إحدى أعداد مجلة دار الملاحظة يذكر أحد الموقوفين في الدار أن سبب مشكلته تبدأ من خلال فيلم شاهده حتى قاده إلى أن يقع في الجريمة و يكون أحد نزلاء الدار.
وفي تحقيق أجرته جريدة الأنباء الكويتية أيضاً حول بعض هذه المظاهر، يذكر أحد هؤلاء الشباب أنه كان مع مجموعة من رفاقه فقام أحدهم بتشغيل فيلم وبدأ بعد ذلك مسلسل الانحراف والفساد.
و أحد الشباب كان طالباً يدرس عندي وهداه الله سبحانه وتعالى واستقام وبعد فترة لاحظت عليه أثر تغير وانحراف عافانا الله وإياكم، فقلت له:أريد أن أعرف السبب المباشر لتغيرك وانحرافك، فذكر لي أنه كان يجلس مع الشباب الصالحين الأخيار وانشغل عنهم وانقطع عنهم فترة معينة، ويقول كنت أجلس عند الباب فدعاني أحد أصدقائي في الحي من أصدقائي القدامى فدخلت عنده فشاهدت أحد الأفلام وبعد ذلك بدأ مسلسل الفساد والانحراف.
ليس من المستغرب أن يكون فيلم واحد مسؤولاً عن تدمير هذا الشاب بل مسؤولاً عن تدمير أسرة بكاملها؛ نظراً لأن ذلك الشاب يعيش شهوة متوقدة وعارمة و يعاني من وسائل الإثارة والإغراء، وتفتح أمامه أبواب قضاء الشهوة .
إلى افتقاد التوجيه وافتقاد النصح، فكثير من الناصحين لهذا الشاب آباءً أو مدرسين أو مربين وموجهين يعيش في بعد وغيبوبة عن الواقع، بخلاف كثير من صانعي هذه الأفلام ومعديها الذين يعرفون كيف يستثيرون الشباب لأي غرض كان.
سابعاً: الفساد الأخلاقي
يقول أ/عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية :"إن السينما التي حشرت في علب الفيديو لا تكرر الحب الجسدي في كل فيلم فقط، بل ترسم الطريق الملتوية لتحقيق الرغبات".
إن مساهمة هذه الأفلام في إشاعة الفساد الأخلاقي من البديهيات؛ فأنت ترى على رأس القائمة الأفلام الجنسية و هذه الأفلام تعرض الجنس بكل وقاحة أمام هذا الشاب المراهق والذي أحياناً قد لا يكون بلغ سن التكليف، وهناك الأفلام العاطفية وهي تؤدي إلى نتيجة أخطر من الأفلام الجنسية من وجهة نظر كثير ممن يتحدث عن هذه الأفلام.
الأفلام العاطفية هي تلك التي تتحدث عن الحب والغرام واللقاء، وتعرض المشاهد صورة العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة ويعيش الشاب ساعات عدة أثناء مشاهدة هذا الفيلم مشدوداً مع مثل هذه المشاهد التي تتحكم بغريزته وعاطفته.
وهناك الأفلام الفكاهية وكذلك البوليسية التي لا تخلو من المشاهد والإيحاءات الجنسية، تقول د/ كافية رمضان عن المشاهد الفكاهية: "فهذه لا تخلو من مشاهد الجنس أو الإيحاءات الجنسية، بل قد تدور أحداث الفيلم كلها حول محاولة الرجل دفع المرأة إلى الموافقة على ممارسة الجنس معه، أما الأفلام العاطفية أو الأفلام الجنسية فهي أصلاً تدور حول هذه القضية؛ فيكفي في استثارة الشاب فقط أن يرى صورة تلك الفتاة أو يسمع مثل ذلك الصوت المتغني المتكسر التي تتحدث به تلك الفتاة أو يتحدث به الرجل، ناهيك أيضاً عما يمارس من استخدام بعض وسائل الإغراء باستخدام المكياج، والعرض أحياناً من خلال غرف النوم أو من خلال مشاهد مؤثرة تنقل ذاك الطفل البريء أو ذلك المراهق إلى واقع آخر قد لا يكون والده يعلم عنه أو يراه".
وتسهم هذه الأفلام في تعليم العلاقات المحرمة، فإن الكثير من قصص هذه الأفلام تدور حول الحب بين شاب و فتاة وكيف بدأت قصة هذا الحب ؟وكيف تطور؟ ولهذا لا تستغرب إذا كنت تجد الكثير من الشباب يكتب على كتبه أو على دفاتره تعذبه وغرامه من حب فلان أو فلانة، ويتمثل بأبيات من الشعر تحكي معاناته من هذا الحب.
هذه العلاقات التي لم يكن يعرفها مجتمعنا كيف وفدت؟ سأعطيك صورة أخي القارئ مع الاعتذار من عرض هذه الصورة التي المؤلمة ولكنه واقعنا الذي نعيش فيه، فلا يصح أن ندس رؤوسنا في التراب.(/4)
ففي رمضان من إحدى السنوات الماضية قبض على فتاة مع أحد الشباب في خلوة محرمة، حيث شاهدت هذه الفتاة أحد هذه الأفلام فأخذت جهاز الهاتف واتصلت على أحد الشباب واتفقت معه على اللقاء، ومما يزيد في الشناعة أنها واعدته على أن تخرج مع والدتها لصلاة التراويح في أحد المساجد المزدحمة، ثم تخرج أثناء صلاة التراويح فتلتقي مع الشاب، ويزيد حجم المصيبة ما حدث عندما أتى الأب لمركز الهيئة، فظهر أن الأب لم يكن يعلم أن في البيت جهاز فيديو.
أكتفي بعرض هذا النموذج وحده لتعلم كيف أن هذه الأفلام تساهم في تركيز العلاقات المحرمة بين الفتاة والشاب، وتصور للفتاة أو الشاب أن تلك العلاقات المحرمة أمر يجب أن يكون بين الشاب والفتاة حتى ظهر ما يسمى بالحب النظيف والعلاقة النزيهة إلى غير ذلك من المصطلحات، بل صور ذلك الشاب الذي لا يملك علاقة محرمة على أنه يعاني من عقدة نفسية معينة أو يعاني من حالة شاذة وكذلك الحال بالنسبة للفتاة.
ثامناً: تدنيس الأعراض
أحد الآباء يشاهد أحد الأفلام الجنسية وليس بجواره إلا ابنته فيمارس مع ابنته بعض الصور التي يراها في هذا الفيلم حتى تتقدم تلك البنت بشكوى وتصل القضية إلى المحكمة الشرعية، و أب أيضاً يقوم بانتهاك عرض أم زوجته بسبب مشاهدة مثل تلك الأفلام.
ومن تأثير الأفلام أيضاً وقيادتها إلى مثل هذه النتيجة المؤلمة ما حصل لفتاة بعد أن قُبِض عليها اعترفت بأن هذا الشاب الذي معها قام بتدنيس عرضها تقول وهي تبكي: اذهبوا وانظروا إلى الأفلام التي عند أخي بعد ذلك تعذروني.
صورة أخرى فتاة بريئة ومغفلة تلتقي مع أحد الشباب ثم يقوم بتشغيل أحد الأفلام الجنسية فتنهار تلك الفتاة وتكون نتيجة أن يتناوب مجموعة من الشباب على تدنيس عرض تلك الفتاة.
أعرف أن هذه النماذج مؤلمة ومفزعة ولكنها عرضة للدخول إلى كل منزل يتهاون في مثل هذه الأمور، سواءٌ هذا الجهاز المسمى (الفيديو) أو جهاز استقبال القنوات الفضائية.
تاسعاً: القضاء على مفهوم المنكر
حيث يعتاد المشاهد في هذه الأفلام مشاهدة المنكر، فيتكرر مشاهدته لمشاهد التبرج، والاختلاط، والموسيقى، والغناء، والتدخين، والخمور، واعتياد المُشاهد مشاهدة مثل هذه المَشاهد يزيل من قلبه استقباح المنكر ومن ثم لا يستنكره، بل توجد عنده نفسية تطالب بتطبيق هذه الأمور في مجتمعه، فيتساءل لماذا تحصل هذه الأمور في مجتمعات أخرى ونحن محرومون منها ونعاني من التقييد والكبت؟ ولماذا لا تتاح لنا فرصة التعرف واللقاء بالفتيات؟ ولماذا لا تكون هناك فرص اختلاط؟ لماذا هذه القيود كلها؟
وأيّاً كان هذا الإنسان، الذي يتجرأ ويشاهد أفلام الفيديو والتلفاز فيسمع فيها الموسيقى، أو يشاهد فيها الصور المحرمة أو الاختلاط أو التبرج، أو أيّاً كانت تلك المنكرات فإنه لابد أن يضعف استقباح المنكر من قلبه، ولولا ضعف استقباح المنكر من قلبه أصلاً لما تجرأ على مشاهدة مثل تلك الأفلام.
عاشراً : القضاء على الآداب الشرعية
وأُشير هنا إلى نموذج واحد فقط، فمن الآداب الشرعية أن يستأذن الطفل عندما يدخل على والديه(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) فهناك أحكام خاصة بالاستئذان للطفل الذي لم يبلغ الحلم، وأحكام خاصة بالاستئذان للذين بلغوا الحلم، أما من خلال أفلام الفيديو أو التلفاز فلا مجال لهذا الاستئذان؛ لأنه سيرى في الفيلم غرفة النوم ويرى كل ما يحصل فيها، فحينئذٍ يُقْضَى على كمال هذا الأدب الشرعي، وعلى كثير من الآداب والأخلاق الشرعية.
الحادي عشر: المعاصي المتراكمة
إن المشاهد لهذه الأفلام لا يخلو من النظر المحرم، وتخيّل معي كم نظرة حرام سينظر إليها عندما يشاهد فيلماً واحداً، فما بالك عندما يشاهد أكثر من فيلم؟ ثم تخيل أثر هذه المعاصي على قلبه والطبع على قلبه، وتخيل عقوبة هذه المعاصي التي تعم المجتمع كله، (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لونشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم).ومن هنا فإنك لا تستغرب أن تجد القسوة التي رانت على قلوبنا؛ لأننا بين رجل يتجرأ على المنكر ورجل يشاهد ويعمل المنكر.
الثاني عشر: هدم الصلة الزوجية
وهذا الأثر يتم من خلال عدة جوانب:
الأول:أن الزوج سينظر إلى امرأة أجمل من زوجته، وحينئذٍ سيزهد في زوجته والزوجة كذلك ستنظر إلى شاب أجمل من زوجها، خاصة أن من يظهر على تلك الشاشات يحرص على إبراز نفسه باستخدام المكياج ووسائل الإثارة بصورة تثير المشاهد، وهذا بلا شك له أثر كبير على هدم الصلة والعلاقة بين الزوجين.
الثاني:إضاعة الوقت، فعندما يسمّر الزوجان أو أحدهما عيناه أمام التلفاز فإنهما لن يجدا وقتاً لتبادل الحديث بينهما، مما يزيد من الجفوة والفجوة بين هذين الزوجين فيصبحان يقضيان الوقت في صمت مُطْبِق منشغلين بالنظر إلى هذه الأفلام.(/5)
الثالث: إن هذا الزوج الذي يشاهد مثل هذه المشاهد ستموت الغيرة أو تضعف في قلبه، وهذا له أثره في ضعف وتوتر هذه العلاقة بينهما، ويؤدي إلى مشاكل اجتماعية قد تصل أحياناً إلى الطلاق وتفكك الأسرة.
الثالث عشر: وفود بعض القيم الهابطة والأنماط السلوكية الساقطة:
فالكثير من هذه الأفلام التي تعرض هي مستوردة من بلاد ومناطق كافرة، أو مسلمة لكنها تحمل قيماً بعيدة عن قيمنا الإسلامية، وتعرض أمام المشاهد وتتكرر بل قد يشاهد الصور التي تمثل تلك القيم أكثر مما يشاهدها في المجتمع، نتيجة لطول مشاهدته لتلك الأفلام؛ فتؤدي إلى وجود أنماط من السلوك والقيم غير المرغوبة لم تكن موجودة في المجتمع ولعل المتأمل في واقع الكثير من الشباب والفتيات يجد هذه الصورة واضحة، وفي رسالة علمية بعنوان ( أثر أفلام على متابعة برامج التلفاز بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض) أفاد 81% من أفراد العينة أنهم يشاهدون أفلاماً أجنبية، ولك أن تتصور كيف ستساهم هذه الأفلام في غرس القيم وأنماط السلوك الشاذة عند هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام؟
الرابع عشر: التقليد والمحاكاة:
ولعل من الصور الظاهرة لهذا الأثر قصّات الشعر والتي تتنوع على حسب القصة التي يقوم بها من يسمون بالأبطال، وأحيانا تجد أنها تنتشر هنا أكثر مما تنتشر هناك في تلك المجتمعات التي ولدت ووجدت فيها، فعندما يظهر نوع من أنواع قصّات الشعر أو موديلات الملابس، تجد أن الكثير من الفتيات أو الشباب يسارع في تطبيق ما رآه مباشرة.
في دراسة أُجريت في الكويت بعنوان (الآثار النفسية والتربوية للتلفاز والفيديو على الأطفال) اتضح أن 84% من الأبناء في مرحلة الطفولة يحبون تقليد الأبطال وكانت النسبة 75%من الأبناء في مرحلة المراهقة، ويرى 95% من الآباء والأمهات أن الطفل يحاول تقليد الأبطال الذين يعجب بهم في مسلسلات التلفاز، وعلى كل حال فكل نتائج الدراسات التي تجرى في الخارج لابد أن يكون لها أثر في مجتمعاتنا حيث نستقبل محطات كثيرة من أماكن متفرقة من العالم التي يرسلها العالم القريب والبعيد.
ووجه سؤال لبعض الأطفال: من يعرف شخصية تاريخية كانت مثالاً للبطولة والشجاعة؟ فأجاب أحدهم إنه (غراندايزر)، هل هذه الأفلام تركز عند الشاب أن البطل هو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو غيرهم من المصلحين والمجددين أم تغرس في قلبه أن البطل هو ذاك الرياضي أو الممثل أو الداعر أو الساقط أو فلان وفلان؟
وكثيراً ما يكون هؤلاء الذين ينغرس في بعض القلوب المريضة بطولتهم كفاراً، ولعل الكثير منكم يتذكر تلك النتائج التي جُنيت من عرض الفيلم الذي كان يدور حول بطولة رجل يسمى(ستيف) وكان الكثير من الأطفال يقلد مثل هذا البطل الأسطورة الذي يقفز من السقف ولا يتأثر حتى أنه حصلت حالات وفيات وحالات كسور بسبب ما قام به بعض الأطفال من تقليد مثل هذا البطل، وتبرز هذه الصورة في الأفلام الكرتونية مع أن آثار هذه الأفلام الكرتونية لا تقتصر على هذا بل تتعداه إلى غيره، وكنت أريد أن أتحدث عن الأفلام الكرتونية كعنصر من عناصر هذا الموضوع ولكن الوقت لا يتسع؛ لذلك آثرت تركها وعدم الحديث عنها.
الخامس عشر: انحراف الاهتمامات:
فإن هذا الشاب الذي يعيش طول وقته أمام هذه الشاشة لاشك أنها ستشكل اهتماماته، والتي كثيرٌ منها يدور حول الحب والغرام والعشق والعلاقات المحرمة، أو حول الرياضة والفن، أو أفلام المطاردات والأفلام البوليسية وغيرها من الأفلام، المهم أنها ستشكل لنا جيلاً من الشباب والفتيات يبعد أن يكون عنده اهتمام بالعلم الشرعي أو حفظ القرآن الكريم أو الدعوة إلى الله عز وجل أو الاهتمام بقضايا أُمته.
يقول عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية: "وإن المسألة هنا تتعدى في خطورتها معرفة أسماء الممثلين أكثر من معرفة أسماء الصحابة إلى التفريغ الداخلي الذي يسقط في الحماسة المتوجهة نحو الجهاد والمجد الإسلامي ليحل محلها الهوى الساذج وأحلام اليقظة بالأموال والترف والسفر وربما العبث وكأن الحياة لعب في لعب، ومعروف أن الحياة أبعد ما تكون عن ذلك وأن البقاء نفسه يقتضي قوة في العقل والثقافة والتزاماً بالدين و توهجاً واستعداداً للجهاد والجلاد فالأعداء يتربصون بنا من كل صوب، وهذه الأفلام أبعد ما تكون عن هذه التأثيرات".
السادس عشر: التأخر الدراسي:(/6)
ويتمثل ذلك من خلال وقت المشاهدة الذي يقضيه بعض الشباب في مشاهدة هذه الشاشة، أو الهم والتفكير الذي يستولي عليه، فهو يدخل في الفصل وذهنه هناك يفكر في تلك الصورة التي رآها ويفكر بذاك الفيلم الذي شاهده؛ فيعيش في عالم آخر غير عالم الدراسة، وفي دراسة قام بها بعض طلبة جامعة الملك سعود حول بعض الطلبة في المرحلة الثانوية في مدينة الرياض (يرى 58% من أفراد العينة أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى ضعف التحصيل الدراسي، ويرى 58% أيضاً أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى عدم وجود وقت كافٍ للمذاكرة)، وفي دراسة أجراها د/عبدالرحمن الشاعر على بعض الطلبة أيضاً في مدينة الرياض"يرى 42% من أفراد العينة أنها تعوق عن تقدمهم الدراسي ويرى 42% كذلك أنها تؤدي إلى إهمال الدراسة" وهذه الآراء من إجابات أفراد العينة أنفسهم، فقد يكون البعض تعوقه عن الدراسة لكنه لا يرى أنها تعوقه أو تؤثر عليه فهذه اعترافات ممن شاهدوا هذه الأفلام.
وفي دراسة أُجريت في الكويت اتفق معظم الآباء والأمهات بنسبة74% على أن التلفاز يشغل الطفل عن أداء واجباته المدرسية.
السابع عشر: الدعوة إلى السفر للخارج:
من خلال عرض المناظر في هذه الأفلام سواءً المناظر الطبيعية، أو مَشاهد الإثارة والإغراء التي تدعو الشاب بل الفتاة إلى أن يفكر بالسفر للخارج، وفي دراسة أجراها د/عبد الرحمن الشاعر أفاد 53.8% من هؤلاء الشباب أن مشاهدة الأفلام تؤدي إلى زيادة الشوق للسفر إلى الخارج.
الثامن عشر: الهم والتفكير:
يحدثني أحد الشباب الذين كانوا يشاهدون مثل هذه الأفلام فيقول :إنك تبدأ بالتفكير في هذا الفيلم منذ أن تبدأ في مشاهدته وحتى تنتهي، ويستمر معك هذا التفكير ولا ينتهي هذا التفكير إلا من الغد عندما تبدأ في مشاهدة الفيلم الآخر، فيعيش مُشاهد هذا الفيلم وهذه الشاشة طول وقته في هم وتفكير من تأثير الفيديو.
التاسع عشر: إضاعة الأوقات :
حيث إن كثيراً من الشباب يقضي ساعات طويلة في متابعة الأفلام فمنهم من يقضي من 4إلى 5 ساعات يومياً في مشاهدة الأفلام بل ذكر لي بعض الشباب أن أحد الشباب يجلس من صلاة الظهر إلى قريب من آخر الليل وهو يشاهد هذه الأفلام، فتخيّل هذا الوقت الذي سيضيع هدراً بل وزراً على الشاب و الفتاة من خلال مشاهدة هذه الأفلام.
العشرون:الانصراف عن القراءة والمطالعة :
والقراءة والمطالعة يحتاج إليها الشاب وتحتاج إليها الفتاة لتنمية الشخصية، في دراسة د/عبد الرحمن العيسوي على عينة من مشاهدي هذه الأفلام أفاد 64% أن التلفاز يشغل المشاهد عن القراءة.
الحادي والعشرين: اعتياد السهر:
حتى أصبح الإنسان الذي ينام مبكراً ويوافق هدي الرسول يذم على ذلك، وقد كان النبي يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، ومع ذلك فالناس يقولون بالمثل العامي :(إنه لا ينام بعد العشاء إلا الدجاج)، ولاشك أن من أهم أسباب السهر مشاهدة برامج التلفاز والفيديو، ناهيك عما يحدثه هذا السهر من التأخر عن الصلاة وإنهاكه و انشغاله في نفسه، فيأتيك الطالب في الفصل تحتاج أن تبذل جهداً مضنياً لإيقاظه من النوم، وعندما يستيقظ يبدأ يعيش في عالم آخر فيسترجع تلك الصور التي كان براها على شاشة التلفاز.
الثاني والعشرون :الأثر الاقتصادي:
ففي إحصائية لمصلحة الإحصاءات العامة تقول: في عام 1982م بلغت قيمة أجهزة الفيديو المستوردة إلى السعودية في ذاك العام (475,362,000)ريال وقيمة الأشرطة المستوردة (102,505,000)ريال أي أن المجموع (577.867.000)ريال يعني ما يزيد على نصف مليار، هذه قيمة أجهزة الفيديو والأشرطة في عام واحد، ناهيك عن الصيانة والاشتراك والتسجيل وغيرها من الأمور، أليس من إهدار طاقة الأمة أن يكون في مجتمع مثل هذا المجتمع المحافظ يصرف نصف مليار على هذه الأفلام في عام واحد؟ أتهدر طاقات الأمة بهذا الشكل والمسلمون يموتون جوعاً ويتضورون جوعاً، ويحتاج أحدهم لرغيف الخبز ويحتاج أحدهم إلى رصاصة أو طلقة واحدة ؟
في تحقيق أجرته مجلة الدعوة أفاد أحد المستهلكين أنه يصرف 70% من راتبه على شراء الأشرطة، وأفاد أحد أصحاب محلات الفيديو أن بعض الزبائن يسجل على حسابه آخر الشهر فالله المستعان.
الثالث والعشرون : تعليم فن الجريمة:
تسهم هذه الشاشة في تعليم أساليب وفن الجريمة مساهمة فعّالة، ويتنادى الآن من يسمون عقلاء الغرب إلى ضرورة الحد مما يعرض في الأفلام أو على شاشة التلفاز من البرامج التي تعلم الجريمة، و عقد مجلس العموم البريطاني جلسة في عام 1984م لمناقشة كيفية بيع وتنظيم الأفلام وذلك أن الإحصاءات البريطانية أثبتت أن معدل العنف و الجريمة ارتفع بشكل ملحوظ نتيجة انتشار أفلام الفيديو.
وفي دراسة في الكويت اتفق معظم الآباء والأمهات بنسبة قدرها 72% على أن التلفاز سبب لدى الكثيرين الاعتقاد بأن العنف أسلوب من أساليب التعامل مع الآخرين.(/7)
وفي دراسة أُجريت في سوريا حول بعض الأحداث الجانحين أفادت الدراسة أن 81% من هؤلاء كانوا يرتادون السينما، وقد اعترف 83% من أولياء الجانحين بأنهم يعتقدون بأن الأفلام السينمائية تركت أثراً سيئاً في سلوك أبنائهم، كما نشرت ذلك مجلة (الأمن والحياة).
ولنعرض صوراً من تلك الجرائم التي ارتكبت نتيجة مشاهدة الأفلام:
أ - في تونس قام طفل بشنق نفسه ليطبق ما رآه في أحد الأفلام كما ذكرت ذلك مجلة (الأمن والحياة).
ب - في مدينة بوسطن الأمريكية طفل عمره تسع سنوات رسب في جميع المواد فاقترح على والده أن يرسل علبة مسمومة من الحلوى للمدرسة، فسأله عن السبب وكيف تعلم ذلك فقال إنه أخذ هذه الفكرة من فيلم سينمائي.
ج - في فرنسا طفل عمره خمس سنوات قام بإطلاق الرصاص على جاره فأصابه بجروح خطيرة وأفاد بعد ذلك أنه تعلم حشو البندقية وإطلاق الرصاص من أحد الأفلام.
د- عصابة من الأحداث كونتها مجموعة من طلاب المرحلة الإعدادية في مصر قاموا بتخريب سبع مدارس، وكانت لغزاً محيراً لرجال الأمن حتى استطاعوا أن يقبضوا عليهم وكان هؤلاء بعد ما يقومون بالتخريب في المدرسة يكتبون على السبورة عبارة (البرادعي وإلى اللقاء في مدرسة أخرى). وأخيراً قبض عليهم واعترفوا بأنهم قاموا بذلك تقليداً لأحد المسلسلات التي شاهدوها.
بل إن هناك جرائم على مستوى أكبر فـ(براون) المختلس المعروف خطط لجريمته عقب مشاهدة أحد الأفلام، وخلال أربع وعشرين ساعة من عرض ذاك الفيلم تلقى البوليس خمس تهديدات بتفجير رحلات ومكاتب خطوط جوية.
إن هذه البرامج تقدم العنف والجريمة، وتشرح كيفية ارتكابها وكيف يخطط اللص للضحية وكيف يستخدم التهديد ويحصل على الفدية، ولهذا يقول (ستيف إنبانا) وهو أحد علماء النفس الغربيين:" إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفاز هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث".
ونعود الآن بعد عرض هذه النماذج المذهلة إلى مجتمعنا فنرى انتشار ما يسمى بالأفلام البوليسية و أفلام المطاردات و أفلام الكاوبوي وكل هذه الأفلام تسهم مساهمة فعالة في تعليم أساليب الجريمة والقتل والاحتيال، وهي تحظى بالنسبة العظمى من المشاهدة ، ففي الدراسة التي أشرنا إليها قبل قليل بعنوان(أثر الفيديو على مشاهدة التلفاز في مدينة الرياض) كان من النتائج أن 79% من الشباب يشاهدون الأفلام البوليسية، وفي دراسة أجراها مجموعة من طلاب كلية الآداب بجامعة الملك سعود وأشرنا إليها آنفاً حصلت الأفلام البوليسية على الترتيب الأول في المُشاهدة، وفي تحقيق أشارت إليه مجلة الدعوة ذكر أحد أصحاب محلات أفلام الفيديو أن أكثر الأفلام انتشاراً أفلام الكاوبوي والمطاردات والبوليسية والمباريات، ولابد أن تترك هذه الأفلام أثراً بصورة أو بأخرى فهي تعلم المجتمع ألواناً من أساليب الجريمة والاحتيال لم يكن يعرفها، ولا بد أن يتحول طائفة من هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام إلى مجرمين.
الرابع والعشرون: الأثر الأمني والسياسي:
حيث إنه تعرض في هذه الأفلام مشاهد لما يسمى بأعمال العنف والتخريب والمظاهرات والمشاهد السياسية التي لم يعتد عليها المجتمع، وهي تعرض وسيلة للتنفيس عن ما يجده المرء من مضايقة وما يطلبه، واستمرار المجتمع في مشاهدة مثل هذه الصور لابد أن يترك عنده أثراً سلبيًّا في تقليد هذه الأساليب مما يهدد المجتمع ببروز مخاطر أمنية لم يكن يألفها ولم يكن معتاداً عليها
بعد هذا كله سؤال يطرح نفسه ألا وهو
ما الحل؟
إنه يكفي أن أثير القضية أمامكم، ويكفي أن أصور لكم حجم هذه المشكلة التي أشعر أن الكثير ممن يدرك خطورتها لا يعطيها حجمها، ولهذا سأشير باختصار شديد إلى الحل الذي يمكن أن نقوم به نحن أنفسنا فأنا أخاطب الأخوة القراء والذي يعرف كل فرد منهم أنه لا يتجاوز أن يكون فرداً واحداً من أفراد المجتمع:
الأمر الأول: لابد من التفكير الجاد في الاستغناء عن جهاز التلفاز لأنه ربما قاد في المستقبل إلى أن يكون بوابة لأن يستقبل كل ما يعرض في المحطات العالمية؛ فالتلفاز بدون هذه القنوات العالمية خطير، فكيف إذا كان يستقبل كل المحطات العالمية، علماً بأنه الآن توجد بعض الأجهزة التي يكون فيها جهاز الاستقبال داخل جهاز التلفاز نفسه فلا يكتشفه الأب ولا الجيران، وبعد مرحلة كما قلنا ربما يستطيع المشاهد أن يشاهد من خلال جهاز التلفاز العادي كل محطات العالم.(/8)
الأمر الثاني: لابد من العناية بتربية الشباب والفتيات؛ حتى يتكون عندهم الرفض من أنفسهم نريد أن يتربى الشاب والفتاة على أنه لو وُجد عنده التلفاز ولو وُجد عنده الفيديو ولو وُجد عنده (الدش) فإنه يرفض مشاهدة مثل تلك المشاهد والصور، وحينئذٍ نوجد الحصانة عند هؤلاء، وهي مسؤولية ضخمة على عاتق الآباء والأمهات والخطباء والأساتذة والمدرسين وأهل التوجيه والرأي، لابد أن يدرك كل فرد مسئووليته، ولابد أن نقوم بجهد مكثف وواسع لتربية هؤلاء وغرس المناعة في نفوسهم وتربية الإيمان الذي يدعوهم إلى أن يرفضوا مثل هذه المظاهر ويحميهم حتى لو تيسرت لهم ويكون قولهم عند مواجهة الفتن: إني أخاف الله.
الأمر الثالث : تقديم البدائل المفيدة وعلى رأسها الشريط الإسلامي؛ بحيث يوجد في البيت مكتبة متكاملة من الأشرطة الإسلامية، سواءً الأشرطة التي تعالج قضايا اجتماعية أو قضايا المرأة، أو الأشرطة الموجهة للأطفال أو غيرها، فالاعتناء بهذه الأشرطة وتوفيرها في البيت يكون بديلاً عن مشاهدة تلك الأفلام.
كذلك أيضاً أجهزة الحاسب الآلي وتوفير هذه الأجهزة للشباب أو الفتيات مما يؤدي إلى إشغال وقتهم بشيء على الأقل لا يكون له أثره السلبي، إن لم يكن له أثر إيجابي في تعليم الشاب والفتاة علوماً ومعارف معينة يمكن أن يستفيد منها، وبالطبع يكون استخدام هذا الجهاز وفق ضوابطه الشرعية.
كذلك أيضاً الرحلات والنزهات المفيدة، فيأخذهم الأب إلى رحلات، و مناسبات و يصرف جزءاً من وقته لأهل بيته حتى لا يعانوا من الفراغ الذي يدعوهم إلى المطالبة بمثل هذه الأجهزة.
الأمر الرابع: ضرورة ملء أذهان الشباب والفتيات بالاهتمامات الجادة، فحين ينشغل الشاب والفتاة باهتمامات جادة مثل حفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي، والدعوة إلى الله والانشغال بقضايا الأمة فإنه لن يجد في قلبه مكاناً لمثل هذه التفاهات وهذه الصور والمشاهد الساقطة.
الأمر الخامس: إشغال وقت الفتاة بالذات في المنزل بالعمل الذي يملأ فراغها وقتاً وذهناً، والعجب من أولئك الآباء الذين يحضرون الخادمات في المنزل حتى تبقى تلك الفتاة فارغة، وحينئذٍ لا يكون أمامها إلا مشاهدة أفلام الفيديو ومشاهدة برامج التلفاز، فتكبر تلك الفتاة وتبلغ سن الزواج وقد لا تجيد إعداد الشاي أو إعداد أيسر أنواع الأطعمة، ولا تستطيع ترتيب أي أمر من أمور البيت؛ لأن هذه الأعمال تقوم بها الخادمة، فلماذا لا تُشغل هذه الفتاة بالقيام بأمور البيت، فيشغل وقتها ولا تجد بعد ذلك وقتاً لمشاهدة ومتابعة هذه الأفلام، و يكون هذا أيضاً وسيلة لإعداد الفتاة للقيام بأعمال المنزل.
الأمر السادس: ضرورة توسيع الدعوة العامة والتوعية بهذه القضايا، والحديث عن هذه القضايا وهذه المشاكل في كل المناسبات كالمناسبات العائلية، وفي الخطب، وفي المحاضرات، والكتب ودروس المساجد،و في المدارس، و نستعمل كافة القنوات والوسائل في التوعية بمثل هذه الجوانب الضارة والدعوة إلى التخلي عنها.
الأمر السابع: تبنّي برامج الأحياء وتوزيع الشريط الإسلامي بقوة، كأن يتفق أهل كل حي أو مسجد أو مدرسة أو جهة معينة على أن يقوموا بتنظيم برنامج لتوزيع الشريط الإسلامي، سواءٌ ما يعالج هذه القضايا أو غير ذلك مما يفيد الناس ويشغلهم عن هذه الأفلام، ويمكن أن يقتني هؤلاء جهاز نسخ والذي لا يتجاوز ثمنه ثمن الطبق الفضائي (الدش) الذي يشتريه كثير من أصحاب الدخل المنخفض.(/9)
حضارة الإنسيطانية الشيطإنسية
اسم الشيطان جاء لغويا من شطن أي انحرف عن الطريق
واسم الشيطان قرآنيا قسمة بين الإنسان والجن ( شياطين الإنس والجن )
معادية لله : الإلحاد + العلمانية
معادية للروحيات : الملائكة والروح والآخرة والغيبيات عموما
معادية للدين الصحيح : وصحة الدين مشروطة بتوجيهه للحياة الدنيا ، فيصبح من ثم مزاحما لها في السيطرة عليها ، وتم من ثم دخولها في نفق معاداة الإسلام
معادية للطبيعة المادية : باسم السيطرة على الطبيعة تم الدخول في نفق تدمير البيئة
معادية للطبيعة الحيوانية : باسم التطوير والسيطرة على الطبيعة تم الدخول في نفق السيطرة على الجينات الوراثية
معادية للطبيعة البشرية : باسم السيطرة على الطبيعة البشرية (الفطرة ): سحبته من إشباع حاجاته الأساسية ( الطعام + الزواج + الصحة + العلم ) حرمته منها : فلا تأمين لطعامه ولا لعلاجه ، ولا لتعليمه ، ولا لزواجه ، وجرته إلى اصطناع حاجات مشتقة من قاع الإباحية وحرية الجنس بتوجيه الجهاز الرأسمالي : السلطوي ، والاقتصادي والإعلامي فحرمته من الأصل ودوخته مع المزيف وحرمته من فهم مشكلته ، وقادته إلى الاستعباد باختيار مصطنع تديره المؤسسة الرأسمالية من وراء ستار
معادية للإنسان في انحيازها لعنصرية الرجل الأبيض ( انقسام العالم الإنساني إلى عالمين : االتقدمي للرجل الأبيض والنامي للرجل غير الأبيض ومحاصرة هذا الأخير في دائرته بعوامل تاريخية بدأت بالاسترقاق والإبادة والاحتكار والاستعمار وانتهت بالحصار والهيمنة والسيطرة
معادية للمرأة : في إجبارها على العمل باستثناء النخبة منهن ، باسم تحريرها أجبرتها على العمل لتتزوج ثم لتعيش ( أجر الرجل والمرأة معا = أجر الرجل سابقا )
معادية للأسرة : باسم التطور حطمت الأسرة الكبيرة ، وآلت إلى الأسرة الصغيرة ، ثم النووية المكونة من المرأة والطفل ، بلا حاجة للرجل من أجل الإنجاب ، أما الجنس فهو على قارعة الطريق
معادية للسامية : الهولوكست + طرد اليهود إلى محرقة فلسطين ( أطروحة روجيه جارودي لم تكن نفي المحرقة ولكن نفي العدد الذي أشيع عنها وتخفيضه من بضعة ملايين إلى بضعة مئات الآلاف ) وما عداؤهم للإسلام غير فرع من دعائهم للسامية يقول أرنست رينان المستشرق الفرنسي الشهير في خطاب افتتاحي في الكوليج دوفرانس حول تصنيف الشعوب السامية في تاريخ الحضارة ..( . الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الانتشار هو تدمير كل ماله صلة بالسامية الحقة : تدمير سلطة الإسلام الثيروقراطية ، لأن الإسلام لا يستطيع البقاء إلا كدين رسمي ، وعندما يختزل إلي وضع دين حر وفردي فإنه سينقرض . هذه الحرب الدائمة، الحرب التي لن تتوقف إلا عندما يموت آخر أولاد إسماعيل بؤسا ، أو يرغمه الارهاب ( !! ) علي أن ينتبذ في الصحراء مكاناً قصيا . )
معادية للفقراء : تحطيم الاتحاد السوفيتي ومطاردة الشيوعية لحساب الرأسمالية
معادية للحرية : الحرية هي حرية الرأسمالية دون سواها ، وعلى هذا الأساس تمت مصادرة الحرية عن كل خصوم الرأسمالية ، وهي متسلحة ضد خصومها : بلقمة العيش ، بالإعلام ، بالقوات المسلحة ، بشعار الحرية نفسه : فلا حرية لأعداء الحرية ، احتكرت الديموقراطية فلا حرية لأعداء الديموقراطية = حلقة مفرغة
معادية للقيم الثابتة باسم التطور
النتيجة : باسم العلم والعلم وحده تماهت مع الجن في قدراته " العلمية " المشهودة ، " انا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " ولكن في شطره الشيطاني ( الشطن : الانحراف )(/1)
حضارة العرب في صقلية وأثرها في النهضة الأوروبية
د. عبد الجليل شلبي
________________________________________
ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان، كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.
وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطاً، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب..
فتح صقلية..
كان قد مضى على صقلية ثلاث قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافاً سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظاً من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات وأبو محرز. وكان ابن الفرات متحمساً لهذا الغزو مستدلاً بالآية القرآنية: »فلا تهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلونَ والله معكم ولن يتركم أعمالكم«. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقىالفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان أيضاً محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس[1]، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.
استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشاً، ثم قال: »فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..« والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.
لم يكن فتح هذه الجزيرة هيناً ولا سريعاً، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجياً في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائياً إلا في العهد الفاطمي.
صقلية بعد الفتح..
صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية[2] التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.(/1)
ونوجر القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً.
وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.
أثر الفتح الإسلامي لصقلية
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.
كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان. فهناك –وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.
العهد العربي النورماندي
أطلق على هذا العهد اسم »العهد العربي النورماندي«.. ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.
وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدوا أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابة أولاً:
كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئاً بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكوممة تخالف الأخرى وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟
هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:
أولهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.
والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئاً كثيراً، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثماراً ناضجة وعلوماً قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمراً متجدداً.(/2)
وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: »إنها كانت نيفاً وثلائمائة مسجداً، وإنه عد في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفاً، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقياً وحسن مظهر.« كما ذكر: »أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي –الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به«، وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظاً من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية..
النورمانديون.. أنصار الثقافة العربية
ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).
لم يكن روجر الأول مثقفاً ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني علىنهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.
كان الإدريسي، صاحب كتاب »نزهة المشتاق في اختراق الآفاق« يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم »الروجري«. والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.
وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيباً بعد هذا أن يفد رواد الدراسة الاستشراقية من أوروبا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.
أما فريدريك الثاني – حفيد روجر الثاني – فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس – تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.(/3)
كان بعد حلمته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلات الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.
كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوروبية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.
الخلاصة
ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضاً على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الاسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى. وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشدج، وهذا عمل له قيمته، لأن أوروبا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوروبا.
ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إسبانيا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخاً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.
هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضاً، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها »تاريخ مسلمي صقلية«، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضاً في مؤاخذتهما به، أخذا عليهم تفرقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم كما أخذ مستشرقون منصفون أنهم بعدوا بسرعة عما لهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.
________________________________________
مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ
________________________________________
[1] انظر: »المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي – خطبة طارق بن زياد« في الفسطاط.
[2] انظر: »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في الفسطاط.(/4)
حضارة في طريق الانحلال
يلوك سماسرة الغرب عندنا نظرية " الحضارة الإنسانية " كجزء من خطتهم في إلحاقنا بالغرب وهم في الطريق إلى ذلك يعملون على محو خصوصية الدين الإسلامي عقيدة وحضارة
وهم ينشطون لذلك اليوم بشكل خاص لتمرير خطة تطوير التعليم في البلاد الإسلامية كما تسوقها الإدارة الأمريكية في قيامها على محو خصوصية الأديان والتركيز على فكرة تلاقي الحضارات في طريق ريادة الحضارة الغربية وهيمنتها
فقد تم اختيار مصر – كما جاء بجريدة الأسبوع بتاريخ 30 \6 \2003 - لتكون البلد العربي الأول لإحداث تغيير تدريجي في مناهج التعليم ثم تليها المملكة العربية السعودية، حيث طلبت واشنطن إلغاء تدريس المذهب الوهابي في المدارس السعودية وإلغاء المدارس السلفية هناك ويري الخبراء الأمريكان أن التغيير سيبدأ من المرحلة الابتدائية بحيث يتم تغيير محتوي المادة الدينية ليطلق عليها مادة 'الأخلاق والثقافة الدينية' بهدف إعطاء صورة إيجابية عن الفضائل الأساسية للديانات الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) والتأكيد علي دور كل الأديان في بناء الحضارة الإنسانية، علي أن يمتد التغيير إلي مناهج اللغة العربية خاصة فيما يتعلق بالنصوص والمطالعة الأدبية بعد أن لوحظ أن هذه النصوص بها بعض العبارات التي تحض على كراهية اليهود والأمريكان ، ثم يمتد التغيير إلى التاريخ وذلك بمحو الذاكرة التاريخية لدي التلاميذ والتي تذكرهم بانتصارات الأمة الإسلامية في المعارك والفتوحات الإسلامية ، وتصوير ذلك علي أنه سلوك دموي وغير حضاري وليست له علاقة بالبطولات التاريخية. وأن يتم بدلا من ذلك التركيز علي تاريخ الثورات العلمية في العالم ، والتركيز علي العادات والتقاليد العامة التي كانت سائدة في المراحل الأولي لحياة الإنسان ، ومدي تطور هذه العادات ، مع ترسيخ إيجابيات الحضارة الغربية ودورها الرائد عالميا .
وفي تأكيد رئاسي لهذا الاتجاه طالب بوش الإبن في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 23 \ 9\2003 ( بإضعاف الأيديولوجيات التي تصدر العنف في الشرق الأوسط ) في إشارة واضحة لعقيدة الجهاد في الإسلام ، لا يجرؤ على إطلاق مثلها بالنسبة لأيديولوجيته الأصولية المسيصهيونية القائمة على نبوءة القضاء على قوى الشر في معركة هرمجدون بفلسطين ، كما لا يجرؤ على إطلاق مثلها بالنسبة للكيان الصهيوني الذي يمارس قتل الأبرياء والمدنيين ويدمر المنازل على رءوس " المطلوبين " ، ويطرد الفلسطينين ، ويقرر قتل الزعيم ،انطلاقا من تعاليم التلمود والعهد القديم .
( وفي تأكيد رسمي لجدية الولايات المتحدة في التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة اعترفت إيلينا رومانسكي المسئولة عن مبادرة المشاركة والديمقراطية بوزارة الخارجية بأن الإدارة الأمريكية تسعى إلى تغيير المناهج التعليمية في الدول العربية .
وزعمت أن المبادرة التي طرحها كولين باول وزير الخارجية الأمريكية عن الديمقراطية في الشرق الأوسط تهدف إلي تغيير المناهج بما يؤدي إلي التخلص من الحقد والتحريض علي الكراهية والعنف في المنطقة علي حد قولها .
ونقلا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط قالت رومانسكي في تصريحات للصحفيين في أثناء زيارتها الحالية لقطر إن المنطقة والأجيال المقبلة ليست في حاجة إلي مزيد من العنف ، وأضافت أن الولايات المتحدة ستساعد دول المنطقة علي تغيير كل ما يدعو إلي تعميق الحقد والكراهية في المناهج التعليمية ـ علي حد قولها . )
ومع إقرار رومانسكي بصعوبة التدخل في النصوص الدينية ، مثل القرآن الكريم ، فقد
ذكرت ( أن الولايات المتحدة تسعي إلي تغيير المناهج التعليمية بما يؤدي إلي تكريس التسامح والإخاء بين شعوبها حسب تعبيرها .
وتجاهلت رومانسكي تماما أي حديث عن الصراع العربي ــ الإسرائيلي وانعكاساته علي المنطقة ، وزعمت أن المناهج التعليمية في العالم العربي هي المسئولة عن تراجع معدلات التنمية العربية ، وأن أي نظام تعليمي يسمح بمناهج تدعو صراحة إلي العنف والكراهية لن يكون قادرا علي إعداد أفراد قادرين علي التعامل مع العولمة والنظام العالمي الجديد ،،.) مفكرة الإسلام من الإنترنيت 22\9\2003(/1)
وبالطبع تجاهلت رومانسكي أن للحب بالضرورة وجها آخر يحميه من أعداء الحب ، وتجاهلت أنني لا يمكن أن أحب الحب إلا أن أكره الكراهية ، ولا يمكن أن أحب السلام إلا أنني أكره الحرب ، ولا يمكن أن أحب الغنى إلا أنني أكره الفقر ، وفي تراثنا أنه لو كان رجلا لقتلته ، ولا يمكن أن أحب الصحة إلا أنني أكره المرض ، ولا يمكن أن أكره المرض إلا أنني أكره السبب فيه ، ولو كان هو اليورانيوم المنضب ، أكرهه إذ يرمي أطفالي ، ليبعث بأكثر من مليون ونصف منهم في العراق إلى القبور ، وأكره البولدوزر الذي يهدم منزلي ليخرج منه " المطلوبين " في لغة الصهاينة ، ولا أنسى أن أكره من رماني به بأحدث الصواريخ أو بأحدث الطائرات أو بأحدث الآلات ، ، ولو كان هو أمريكا المحتكرة لمنتجات الدمار التي أنتجتها حضارتها : حضارة " أسلحة الدمار الشامل " ، التي ما ضربت بها غير شعوب الشرق ، حضارة " الكراهية " التي يزورونها باسم" "الإنسانية" ، وبالجملة فإنني لا يمكن أن أحب ما أحب إلا أن أكره ما أكره من ذلك كله ولو كان هو البرنامج التربوي الجديد ، وإلا أن أكره من يسوقه في بيتي وضميري منتهزا فرصة ضعفي ، ، ولو كان هو السيدة رومانسكي مسوقة البرنامج الكريه ، مع الاعتذار لشخصها الذي لا أراه في الميزان .
والتغريبيون لدينا يتذرعون في خطتهم لترويج هذا التخريب بإسقاط السيادة الوطنية باسم العولمة ، انطلاقا مما يسمى " الحضارة الإنسانية " ، وهم يفعلون ذلك دون أن يفصحوا – أو يعلموا – أنهم إنما يرددون كالببغاوات نظريات استعلائية غربية غاربة .
وترجع فكرة " الحضارة الإنسانية " إلى الفيلسوف الفرنسي " أوجست كونت " ( ) الذي استبدلها بالدين ، زاعما أن الدين إنما هو من مخلفات المرحلة البدائية أو الخرافية التي تطورت الإنسانية منها إلى المرحلة الميتافيزيقية على يد الفلسفة اليونانية ، ثم تطورت منها إلى " المرحلة الوضعية أو العلمية ، على يد النهضة الأوربية الحديثة ، هكذا في خط تاريخي واحد ممتد نظر إليه تحت وهم أن الإنسانية هي أوربا وأن أوربا هي الإنسانية ، وعند ما وجد أن الإنسانية لا تستغني بطبيعتها عن الدين زيف في كتابه الأخير شيئا سماه " ديانة الإنسانية " ضمن رؤية شاملة عما يسمى " الحضارة الإنسانية "
وترجع فكرة التطور المستمر في التاريخ إلى ما شاع بين الناس في أوربا في المائتي سنة الأخيرة ، - ومن ثم بين الببغاوات الشرقية - من " فكرة التقدم " العام ، وما تحمله من فكرة وجود مستقبل زاهر للبشرية دون حاجة إلى الإشارة إلى أية " حياة أخرى " ، وقد شاع ذلك بعد أن تيسر للناس تسخير العالم المادي لصالح الإنسان ، وتدعمت الفكرة بظهور " نظرية التطور" الحيوي عند دارون ثم الاجتماعي عند هربرت سبنسر .
يقول جون بانيل بيوري (1861 – 1927 ) صاحب كتاب " فكرة التقدم " الذي نشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 1882 ترجمة أحمد خاكي ص 6 ، 17 -
( أصبحت فكرة التقدم موضع إيمان في سبعينات وثمانينات القرن السالف ( التاسع عشر ) وربما آمن البعض بها في صورتها القدرية التي تصور البشرية سائرة في اتجاه مرغوب فيه مهما فعل الناس ، أو أغفلوا القيام به ، ) ص 292
وغاب عن الببغاوات ما ظهر فيما بعد في نفس البيئة التي ظهرت فيها فكرة التقدم أنها – أي هذه الفكرة – لا تتمتع بقوة القانون الطبيعي كقانون الجاذبية على سبيل المثال كما كانوا يظنون ، ولا هي نتيجة مستخلصة من وقائع التاريخ تفرض نفسها علينا كأشياء حتمية كما يقول تشارلز بيرد ( 1874- 1948 م ) - في التمهيد الذي قدمه لكتاب " فكرة التقدم "
وقصارى القول في نقد فكرة التقدم كما يقول بيوري في كتابه أنه ( تكون الحركة تقدما إذا كانت مرغوبة ، أو ربما اتجهت اتجاها غير مرغوب وبذلك لا تكون تقدما ، إن هذه مسألة خارجة عن نطاق الاستدلال العقلي وهي من المسائل المتعذر حلها في الوقت الحاضر على الأقل ) ص 30 ، و يذهب إلى أنه من الصعب أن نستخلص نتائج من تجارب الأربعة قرون التي تم التنقيب فيها بنجاح لنتوقعها كنتائج في غضون الأربعة أو الأربعة آلاف قرن التالية ، ( وهكذا يكون التقدم المتواصل افتراضا قد يصح وقد لا يصح ) ص31.
وينطوي مفهوم التقدم عند الفيلسوف الأمريكي الشهير وليم جيمس ( 1842 – 1910 م ) ( على عنصر من المخاطرة المستمرة ، فالتقدم عارض غير يقيني ، وهو في جوهره مسألة إرادة حيث يحسم الأفراد أمرهم ، ويعزمون على العمل بشجاعة لصالح معتقداتهم الأخلاقية ) ص 132 من كناب " فلسفة التقدم " لدافيد ومارسيل ترجمة د: خالد المنصوري نشر الأنجلو عام 1978 م(/2)
أما عن فكرة " الحضارة الإنسانية الواحدة " فيفصح الفيلسوف الألماني الشهير أزفلد اشبنجلر 1880 – 1936( كتاب عبد الرحمن بدوي نشر عام 1982 دار القلم لبنان ) عن بطلانها في كتابه الضخم الشهير " انحلال الغرب " وعنده أنه لا الحضارة إنسانية ممتدة بامتداد التاريخ ، ولا الحضارة الغربية صالحة للاستمرار في المستقبل القريب
فمن ناحية الأصل الأول يتبين أن ما يسمى الحضارة الإنسانية إنما هو حيلة يستخدمها الغربي ليتخذ ( من حضارته محورا ثابتا يدور من حوله التاريخ ، ومن حضارته الشمسَ المركزية التي منها ينتشر الضوء على كل الوجود ، محاولا أن يوهمنا أن تاريخا بعيدا حافلا بالأحداث ممتدا إلى عدة آلاف من السنين كتاريخ مصر أو الصين أو { الإسلام } يمكن أن يركز ويضغط في بضعة حوادث عارضة مشتتة ، بينما تاريخ قريب تافه الأحداث لا يكاد يمتد إلى عشرات قليلة من السنين كتاريخ نابليون ينتفخ ويتضخم كما تتضخم الأشباح فيبدو أحفل من التاريخ الأول بمرات و مرات )
أجل من حق هذا الغربي أن يهتم بتاريخه ولكن ليس من حقه أن يقيم على أساسه صورة للتاريخ العام يصدرها إلينا في برامجنا التعليمية والثقافية ، كما أنه ليس من حقنا نحن أن نبتلع أكاذيبه لمجرد انه يتربع على عرش القوة في العصر الحاضر
وقد ترتب على أكذوبة الحضارة الإنسانية أكذوبة أخرى ناتجة عنها : تلك هي القول بأن التاريخ العام يسير على خط أفقي ممتد يمثل " إنسانية " واحدة تتقدم باستمرار ، وقد حرص التغريبيون عندنا على دس هذه الأكذوبة في نسيج الثقافة العامة في البلاد العربية والإسلامية ليسهل عليهم بعد ذلك إقصاء الذاتية الإسلامية وإخراجها من مسار التاريخ والمجتمع والحضارة معا ، ، وفي هذا التيار انساق نفر من هؤلاء إلى الزعم بما أطلقوه من صياغات حالمة عن " تقدم الإنسانية " و" التطور " و" التنوير" و" حرية الشعوب " و" السيطرة على الطبيعة " والحداثة إلخ ص 98
ويدحض اشبنجلر هذه المزاعم بتقرير ما هو محل اتفاق من أن الحضارة ككل وجود حيوي : " كائن عضوي في زمانه وصورته ومدة حياته ، فلا يشك أحد أن شجرة من البلوط مثلا بعد أن بلغت من العمر ألف سنة فإنه لا يمكن أن تبدأ اليوم نفس النمو الذي بدأت به يوم أن نبتت " لابد للكائن العضوي من حد عنده يقف النمو ، وهذا الحد يتوقف على الصورة الباطنة " الذاتية " للنبات أو الحيوان ، أو التاريخ أو الحضارة ، الأمر الذي لا يسمح بالقول بحضارة إنسانية تستمر في سيرها في خط أفقي ممتد وتاريخ عام ، ص 99 وكما يقول جيتة " الإنسانية ؟ كلمة مجردة ، فلم يوجد مطلقا في يوم من الأيام إلا الناس ، ولن يوجد مطلقا غير الناس "
ومن هنا ينتهي اشبنجلر إلى خصوصية الحضارة ، أية حضارة ، وكونها كائنا عضويا ينتهي عند أجل ، و يضع مكان الصورة العامة للتاريخ مسرحا لعدد كبير من الحضارات العظمى ، تنمو كل منها بقوة كونية وروح خاصة ذاتية زرعت في بطن بيئتها التي هي بمثابة الأم لها ، وترتبط كل واحدة منها بهذه الروح من حيث ما سيكون لها طوال مدة وجودها من تنوع في الفكر أو العلم أو العاطفة أو الفن أو الحياة أو الإرادة أو الشعور ، ومن نضج أو ذبول ، ومن نمو وشيخوخة ، وموت أو فناء ص 100 .
هذه الدورة التي تمر بها الحضارة الغربية كما تمر بها كل حضارة وكما يمر بها كل كائن عضوي .. دورة مقفلة لا ارتباط بينها وبين الدائرة الأخرى التي توجد بجوارها أو التي وجدت بعدها أو قبلها ، فليس هناك تأثير متبادل حقيقي بأن يأخذ الكائن الحي شيئا أجنبيا عنه فيدخله في كيانه كما هو بل لابد له إذا كان يريد أن يأخذ شيئا من الخارج أن يحيله إلى طبيعته هو بأن يتمثله ثم يهضمه ، أو بأن يبدعه من جديد ، لأن طبيعة الكائن الحي تختلف عن الآخر كل الاختلاف . ص 127 ، وما يشاهد من تشابه في أسلوب التعبير عن حضارتين مختلفتين إنما هو وهم ، وتشابه في الظاهر، لا يتعدى إلى الجوهر ، لأن كل حضارة تعبير عن روح ، والروح تختلف بين الحضارة والحضارة الأخرى تمام الاختلاف : في جوهرها وأسلوبها وممكنات وجودها ص 128 . فإذا اشتركت العناصر المؤثرة في حضارتين تقبلت كل منهما هذه العناصر على نحو مباين كل المباينة للنحو الذي عليه تتقبل الحضارة الأخرى هذه العناصر، لأن كلا منهما لا تستطيع أن تهضم هذه العناصر إلا إذا أجرت عليها عملية معقدة طويلة من التحويل ثم التمثيل ثم الهضم أحالتها إلى طبيعتها ص 128 . أي أن تجري عليه الكثير من التغيير مما يجعله يفقد روحه الأصلية ( وكلما ازداد تمجيد المرء لمبادئ فكر أجنبي ازداد تشويهه لمعناه . فبين أرسطو عند اليونان وأرسطو عند العرب وأرسطو عند القوط في العصور الوسطى فارق لا حد له حتى لا يكاد المرء يجد فكرة واحدة مشتركة حقا بين هذه الصور الثلاث لأرسطو .(/3)
وبين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية هوة سحيقة من غير الممكن عبورها ) وكذلك الأمر بالنسبة للقانون الروماني : الذي تطرق إلى الحياة في كل من الحضارة القديمة وانتقل منها إلى الحضارة العربية ثم وصل إلى الحضارة الأوربية الحديثة : تحول إلى ثلاثة أنواع من التشريع لا رابطة بينها إلا في بعض الألفاظ والصيغ أما الروح فمختلفة أشد الاختلاف . ص 142
الحضارات إذن تقوم مستقلة عن بعضها البعض تمام الاستقلال – كأي كائن حي – كل منها تكون وحدة أو دائرة مقفلة على نفسها ليس بينها وبين غيرها من الحضارات غير منافذ من نوع خاص لا تسمح بنفوذ شيء لا يتلاءم وجوهر هذه الحضارة ، وما تسمح به لا تلبث أن تحيله إلى طبيعتها ، وما يتحدثون به عن وجود " حقائق أزلية " أو فتوحات أبدية " للعلم أو للفلسفة إن هو إلا من وهم الخيال . وما يحاولونه من دمج شخصية حضارية لحساب أخرى ما هي إلا محاولات عقيمة ، لا تنتج غير كائن مشوه أو القضاء عليه بالكلية ، أو هي تنتج ما يسميه اشيبنجلر " التشكل الكاذب " الذي يوجد في بعض التطورات الجيولوجية ، حيث طبق اشبنجلر هذه الظاهرة الجيولوجية على تكوين الحضارات فوجد أن هناك حالة مشابهة لها تماما تحدث حينما تنتصر حضارة قديمة على البقعة التي تولد فيها حضارة جديدة انتصارا يحول بين الحضارة الجديدة وبين التنفس والنمو الطبيعي ، فلا تستطيع هذه الحضارة الجديدة أن تنمي صور تعبيرها الخالصة ، ص144
وهذه في رأينا هي النتيجة البائسة التي سوف تلاقيها بعض صورالحضارة الغربية التي تحاول الانزراع ببعض قيمها السلبية في جسم الحضارة الإسلامية عندما تحاول الاستخفاف ببعض المقدسات الإسلامية ليتحول – على سبيل المثال - إلى رفض لمجموع الحضارة الغربية في كل صورها ، ، كما أنها هي النتيجة المؤسفة التي أخذت تلاقيها عندما تحاول زرع قشرة حضارية استهلاكية – في بعض مشيخات الخليج مثلا - بينما الباطن ما يزال يرزح تحت تقاليد قبلية موروثة مما قبل ظهور الحضارة أصلا ، كما أنها هي النتيجة المؤسفة عندما أخذت تحاول زرع مبدأ تداول السلطة عن طريق الانتخاب بينما الباطن ما يزال متخما بتقاليد الوراثة القبلية والفرعونية والملكية فإذا به يلوي ذراع " الجمهورية" المستوردة لتصبح وراثية تحت أعين " المتفرجين " .
ويؤكد اشبنجلر تباين المفاهيم الأولية في تصور كل من حضارة وأخرى : في الفن والتصوير والألوان ، والموسيقى وآلاتها ، و المباني وهندساتها، والطبيعة والفيزياء والكيمياء والعناصر ، والدين والألوهية والتوحيد والتسليم والإيمان ، والإلحاد ، والروح والنفس ، والذات والجسم والأخلاق والفضيلة والقيم ، والإرادة ، والفلسفة والميتافيزيقا ، ومصطلحاتها كالهيولى والصورة والجوهر والزمان والمكان والكتلة والحرارة والعلم ص 185 ( فليس العلم حقائق خالدة لا تتأثر بطبيعة واضعيها والحضارة التي نشأوا فيها ، فإنما العلم كالدين سواء بسواء ، يقوم على عقيدة آمن بها العلماء إيمانا ، لأنها صادرة عن روح الحياة التي يحيون فيها . إن كل علم يقوم على يقين باطن ، وكل الاعتراضات التي وجهتها العلوم الطبيعية ضد الدين تصيب هذه العلوم نفسها ) وإذا كان كل دين يقوم على عقيدة معينة فكذلك كل فيزياء تقوم على عقيدة فيها تعبير عن الرمز الأولي للحضارة التي صدرت عنها هذه الفيزياء ، فالفيزياء الغربية تقوم كلها على عقيدة واحدة هي القوة ، والقوة في الفيزياء الغربية كمية أسطورية لم تصدر عن التجربة العلمية ، وفرضتها فرضا ، فليس في غير هذه الفيزياء – أي الغربية - يتم التعبير بالعَرض بعد إزاحة الجوهر ، حيث نجد القوة المغناطيسية في المجال المغناطيسي تحل محل حجر المغناطيس ، وأن طاقة الإشعاع تحل محل الأجسام المشعة ، وأن كل الظواهر الفزيائية والحيوية هي صورة من الحركة قابلة للتحول بعضها إلى بعض ، وفي كل هذه التحولات تظل كمية العمل الميكانيكي ثابتة إلخ ص 210 –212- 220
فتاريخ كل حضارة إذن كتاريخ الإنسان أو الحيوان أو الشجرة سواء بسواء ، والثغرة التي يدخل منها ما يسمى التاريخ العام ينحصر في ترجمة حياة هذه الحضارات ، من حيث دورات الحياة المتشابهة التي تمر بها كل منها - كما يمر الأفراد - بين دورات خاصة بالطفولة والشباب والشيخوخة أو بالربيع والصيف والخريف والشتاء .
فللحضارات جميعا دورات تسير عليها ، فإذا استطعنا أن نعينها بالنسبة إلى واحدة استطعنا أن نعينها بالنسبة إلى بقية الحضارات ، كما يكون من المتيسر أيضا أن نتنبأ بما سيجري للحضارة الموجودة الآن على الأرض وهي الحضارة الأوربية الأمريكية
ويحدد اشبنجلر مراحل هذه الدورات أو هذا السياق الذي من خلاله يحكم بانحلال هذه الحضارة(/4)
إذ يمتد هذا السياق من المرحلة الأولى في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة تنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية ، ثم تنمو في تربة بيئة تظل مرتبطة بها ارتباط النبتة بالأرض التي تنمو فيها ، ثم تموت حينما تكون الروح قد حققت جميع ما بها من إمكانات : على هيئة شعوب ، ولغات ، ومذاهب دينية ، وفنون ، ودول وعلوم ، ومن ثم تعود إلى الحالة "الروحية الأولية الفطرية " ص 102
وتصل الحضارة إلى مرحلة الانحلال عندما تفقد قواها الحيوية ، إما باختناقها تحت تأثير روح أخرى أقوى منها وأخصب ، وإما لأنها بلغت غايتها وحققت صورتها النهائية ، ولم يعد في استطاعتها أن تعلو على الحد الذي وصلت إليه ، بأن حققت في الخارج كل ما تحتوي عليه من إمكانات باطنة ، عندئذ ينضب دمها ، وتتحطم قواها ، ويتحجر كيانها ، فتصبح " مدنية " بعد أن كانت " حضارة " . ولكن هذا لا يعني فناءها نهائيا ، بل تظل قادرة على البقاء ربما لقرون ، كما تبقى الشجرة التي استنفدت عصارتها سنوات طوالا ، تظل تمد فيها أغصانها التي أصبحت فريسة للسوس ، أو كما يبقى الشيخ في أخريات أيامه غير قادر على الإنجاب أو العطاء . ص 103
وإذا كانت الحضارة ككائن عضوي تمر بدورات : الطفولة والشباب والنضج والشيخوخة ، فيمكن القول بأنها باعتبارها كائنا زمنيا تمر بأطوار الربيع والصيف والخريف والشتاء ، ولكل دور من هذه الأدوار من الخصائص ما للفصول السنوية التي تناظرها من خصائص ، أو ما لأدوار حياة الإنسان المناظرة لها من خصائص ، فالحضارة الغربية ( الأوربية الأمريكية ) بدت في أول أمرها في فجر العصر الروماني القوطي حوالي سنة 900 م طفلة لم تشعر بعد بقواها ، ولكنها كانت تؤذن بنمو فذ سريع ، فزكت وترعرعت ، وهكذا رفت عليها روح الربيع ، فأشاعت فيها قشعريرة " الإبداع " والحياة المليئة ، وأصبح كل شيء يوحي بميلاد روح جديدة ، ص 104 وكلما نمت واقتربت شيئا فشيئا من صيفها تحددت ملامحها ، واستقرت خصائصها التي تعبر عنها ، فإذا ما وصلت إلى قمة تطورها وحققت كل ما فيها من إمكانات واستنفدت قواها الخالقة بدأت تدخل دور شيخوختها وانتقلت من حالة " الحضارة " بمعناها الدقيق إلى حالة " المدنية " : فينطفئ النور الذي كان متوهجا بها من قبل شيئا فشيئا ، ولا يرسل غير شعاع فيه من القوة الحقيقية أقل مما يدل عليه المظهر ، ثم تشعر روح الحضارة حينئذ بالحنين إلى طفولتها الأولى ، وأخيرا وبعد أن أصبحت منهوكة القوى خالية من العصارة قد نضب منها دم الحياة تفقد الحضارة الرغبة في الوجود 105 فتظهر فيها مشاكل الشك المتزايد في قيمة العلم ، وانحلال الفن ، وتضخم المدينة على حساب الريف ، وهبوط النسل ، ومشكلة الزواج ، والأزمات العنيفة في أوضاع العمال ، والنظم النيابية ، وموقف الفرد بإزاء الدولة ، ومشكلة الملكية إلخ ص 120
ويذهب اشبنجلر إلى أن روح الحضارة في أدوارها الأولى - ربيعها وصيفها - روح دينية وليس في مقدورها أن تكون غير دينية ، وإن كان في إمكانها أن تلهو بالدين عن طريق الفكر ، والإلحاد إنما يأتي كظاهرة مرتبطة بزمان محدود في تطور الحضارة تعبيرا عن عقلية استنفدت كل إمكانياتها الدينية وأصبحت فريسة اللاعضوي ( المادي ) ص 222 وهو يأتي في دور المدنية منذ ابتداء هذا الدور – أي دور المدنية – وينتسب إلى المدن الكبرى ، ولكل حضارة نوعها الخاص من الإلحاد ص 223 ، وثمة ظاهرة دينية أخرى تشاهد في كل الحضارات عندما تمر بنفس المرحلة في سيرورتها الخاصة : هي ظاهرة الإصلاح الديني ، ومعناها رجوع الدين إلى طهارة فكرته الأولى وصفائها ، ، وليس من الضروري أن تنتهي حركة الإصلاح الديني إلى قيام أديان جديدة ، وهي إذن حركة عقلية توجد في دور انتقال " الحضارة " إلى " المدنية " على وجه الخصوص أو قبل ذلك بقليل(/5)
(1) وهنا نصل إلى الظاهرة الأولى لانحلال الحضارة الغربية : من حيث إنه إذا بلغت المدنية آخر دور من أدوار نضوجها وأصبحت خارجة من التاريخ ظهرت فيها نزعة دينية جديدة ثانية يسميها اشبنجلر باسم " التدين الثاني " ، كما تستهويها حينئذ نزعة دينية صوفية غامضة يشوبها شيء من الجزع العقيم ص 105 - 106، واشبنجلر المتوفى عام 1936 كان يرى أن الحضارة الغربية لا زالت بعيدة عن هذا الدور ، إذ لم يشاهد انبعاث المسيحية الصهيونية في أوربا وأمريكا بوجه خاص بعد وفاته بوقت قليل ، وهو يصف هذا الدور بما يكاد ينطبق حرفيا على هذه الظاهرة الصهيونية المسيحية ، حيث يرى " أنها تمتاز بالتقوى الخالية من كل إبداع وكل طرافة " فلا شيء يَبنى ولا فكرة تُنمِّي، وكأن سحابة تخرج من البيئة مظهرة الصور القديمة الغامضة المترددة في أول الأمر ، الواضحة الصريحة قليلا فيما بعد " لأن الدين البدائي يعود من جديد فيغمر الشعور الديني كله ، ويفرض نفسه على الناس في صورة تجمع بين أخلاط عدة من الأديان البدائية الفطرية ، وتعود بعودته الفوضى الأولية التي تحيا فيها كل حضارة قذف بها خارج تيار التاريخ ، إلى حيث ترقد في ناووس الطبيعة اللاعضوية . ص 225
وإذا كان هذا الوصف لهذه الظاهرة يكاد ينطبق تمام الانطباق على المسيصهيونية الجديدة بما أحيته من التفسير الحرفي لنبوءات العهد القديم والعهد الجديد فإن اشبنجلر يضع بذلك في أيدينا العلامة الأولى على انحلال هذه الحضارة ، وبخاصة إذا ضممنا إليها قيام الكيان الصهيوني على أساس هذه النبوءات ، وأيضا إذا ضممنا إليها هرولة الاتحاد الأوربي أخيرا إلى الوقوف بالصف عندما نص في دستوره الجديد – بعد قرون من العلمانية - على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ، ويشكل أساس الهوية الأوربية ، وحيث قام الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان بالإشراف على هذه الصياغة بهذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية لما تؤدي إليه من إخلال بالهوية الأوروبية. . حسب تعبير الأستاذ أحمد عباس صالح في مقاله بجريدة الشعب في 5\7\2003
وكما جاء في النشرة اليومية لقناة الجزيرة بتاريخ 25\8\2003 : لقد شدد البابا يوحنا بولص الثاني ( اليوم ) مجددا مطالبة الكنيسة بأن يشير دستور الاتحاد الأوروبي إلى التراث المسيحي لأوروبا. وقال البابا خلال صلاة الأحد في مقره الصيفي بكاستيل غاندولفو على مسافة ثلاثين كيلو متر جنوب شرق روما "إن الكنيسة على قناعة بأن إنجيل المسيح الذي شكل عنصر لحمة بين الشعوب الأوروبية على مدى قرون، ما زال في يومنا هذا مصدر قيم روحية وأخوة لا ينضب".وأضاف أن الإقرار بذلك هو مكسب للجميع وأن اعترافا صريحا في المعاهدة (دستور الاتحاد الأوروبي) بجذور أوروبا المسيحية يصبح الضمانة الرئيسية لمستقبل القارة. وكان البابا قد دعا لتعديل مقدمة الدستور الأوروبي في أكثر من مناسبة بما لا يغفل الناحية الدينية للمسيحية
هكذا دسوا فينا العلمانية وبعد أن اطمأنوا إلى ما قامت به من تصفية دمائنا أعلنوها دينية : في الولايات المتحدة ، وأعلنوها دينية في الاتحاد الأوربي ، ومهدوا لذلك بأن أعلنوها دينية في الكيان الصهيوني
وإذا كان هذا التدين المفاجئ الزائف المكون من أخلاط من الأديان البدائية الفطرية – حسب تعبير شبنجلر ص 224- والذي يأتي في دور المدنية المتأخرة من أدوار الحضارة ظاهرة انحلال فيها حسب ما ذهب إليه فإنه يضيف إليه ظواهر أخرى تنبت أيضا في دور خريف الحضارة أو شتائها .
(2) إذ يتوقع اشبنجلر نهاية الحضارة الغربية من حيث ما وصلت إليه من سيادة الروح العلمية التي هي بطبعها لا تتفق مع روح الحضارة ، فروح الحضارة كروح الفنان سواء بسواء هي شيء يريد أن يتحقق ، أما الروح العلمية المنطقية المجردة من الإحساس فظاهرة متأخرة محدودة الأفق مؤقتة تنتسب إلى الأدوار الأخيرة الناضجة جدا في حضارة من الحضارات ص 86 ، وهو يقصد بكونها تنتسب إلى الأدوار الأخيرة الناضجة أنها تنتسب إلى دور الانحلال
(3) ويتوقع اشبنجلر نهاية هذه الحضارة من حيث حولت الوسائل إلى غايات
وقد تحقق ذلك فيما سماه مأساة سيادة العقل ، وهو يقصد بذلك البحث العقلي الدائم عن العلية أو السببيية ، إذ أن إدمان ذلك في سلسلة الأسباب يترتب عليه في المجرى الوسط أن يصبح كل سبب نتيجة ، وكل نتيجة سببا ، ثم يترتب عليه أن يصبح كل غاية وسيلة وكل وسيلة غاية ، ومن ثم تتحول الوسائل إلى غايات ص 287 ولعل أعنف صورة لهذا النوع من المآسي تلك التي نجدها في ميدان الاقتصاد .(/6)
ففي ميدان الاقتصاد تحول النقد المفترض كونه وسيلة إلى غاية ، ص 288 ، وبسيطرة النقد أصبحت الملكية ثروة تقدر بكمها لا بكيفها ، وليست مجموعة خيرات بل استثمارا لخيرات ، وتحول السوق القديم الذي كان في الريف مركز حياة إلى سوق مالي في المدينة يسكن فيه النقد ، وتتبادل فيه الأموال بطريقة تجريدية بواسطة الأوراق المالية ، وبعد أن كان التاجر وسيطا فحسب يصبح سيد الحياة الاقتصادية كلها ، ولما كان في الواقع مغتصبا للإنتاج لا صاحبه الأصيل نرى اعتماده في نجاحه الاقتصادي يقوم كله على المداهنة والمكر وتلفيق الأكاذيب ونشر الإشاعات ، ثم يرتفع النقد إلى مرتبة السيادة المطلقة حينما تنشأ المدينة العالمية ويصبح الاقتصاد اقتصادا عالميا يسوده النقد ، وبعد أن كان الإنسان ثريا لأنه قوي ، يصبح قويا لأنه ثري بالنقد 293 ، والشاهد في هذا التطور بوجه عام أن النقد بعد أن كان وسيلة لغاية هي الخيرات أصبح هو نفسه الغاية بل وغاية الغايات التي تقاس بها كل قيمة .
(4) ومثل هذا التطور نراه في شيء آخر هو الآلة ، التي كانت وسيلة - بل اسمها لا يدل على شيء آخر غير هذا - فأصبحت غاية استعبدت القوى الروحية التي أبدعتها
وللعجب فقد كان هذا التطور خاصا بالإنسان ، ذلك أن أسلحة الحيوانات المفترسة كلها أسلحة طبيعية أما قبضة يد الإنسان المسلحة بأداة ركبتها واختارتها فليست طبيعية بل صناعية ، ومن هنا بدأت بوادر التعارض بين الصناعة والطبيعة ، وبين سيطرة الإنسان وسيطرة الطبيعة ، وكل صناعة في الواقع قد قصد بها إلى تحدي الطبيعة ، وكان لابد من الكفاح مع الطبيعة ، وقد كان هذا الكفاح في الحضارة اليونانية من أجل التأمل { وكان في الحضارة العربية من أجل استخدام ما سخره الله أصلا للإنسان – وهذا ما لم يفهمه اشبنجلر بخصوص هذه الحضارة } وكان في الحضارة الغربية من أجل إخضاع الطبيعة للإرادة الإنسانية ، وهذا ما لم يحدث في حضارة من قبل سواء على مستوى الأمل أو على مستوى الإنجاز الفعلي ،
أخيرا حدث ذلك - جزئيا بالطبع - ولكن على نطاق واسع ، فقد صمم الناس والقادة في هذه الحضارة على النضال ضد الطبيعة ، وتوجيهها والسيطرة عليها ، مهما كلفهم ذلك من ثمن ، فاندفعوا في هذا التيار ينافسون الطبيعة حتى استطاعوا أن يبدعوا كونا صغيرا لا يخضع إلا لإرادة الإنسان هو الآلة ، ثم شهد التطور انقلابا هائلا في علاقة الإنسان بالطبيعة ، وذلك بفضل اختراع الآلة البخارية وما بعدها ، فإلى ذلك الحين كانت الطبيعة تؤدي خدمات أما الآن فقد وضع في عنقها النير ، وصارت كالإماء يقاس عملها بقوة الأحصنة البخارية ، وامتدت حمى النشاط إلى كل شيء ، فأصبحت كأنها قوة شيطانية زلزلت الأرض ، لكن إبليس ما لبث أن كشف عن نفسه في الآلة ، فثار هذا المخلوق على خالقه – مع التحفظ على هذا التعبير - واستعبده ، وكما ثار الإنسان من قبل على الطبيعة وحاول استعبادها فإن الآلة قد أصبحت غاية خالصة بعد أن كانت وسيلة ، وتحكمت النزعة الآلية في كل شيء في هذه الحضارة ، وخضع كل ما هو حيوي للآلة ، واستحال العالم الطبيعي إلى عالم صناعي قد خلا من الروح والحياة ، بل أصبحت المدنية نفسها – وهي المرحلة الأخيرة من الحضارة – آلة تفرض نفسها على كل شيء ، وأصبح التفكير بواسطة الأحصنة لا بالقوة الروحية ، وبعد أن كانت السيادة في الحياة الاجتماعية لطبقة النبلاء الممثلين للدم والجنس أصبحت في أيدي طائفة من أصحاب الأعمال الصناعية والمهندسين والصناع في المدن الكبرى ، وأصبحت قيمة الكم المعيار لكل شيء ، فزالت القيمة الفردية وفقدت الشخصية ، وصار الطابع المثالي للإنسانية هو طابع سائق الآلة المستعبد لها في الوقت نفسه، و قام التوتر شديدا بين مديري الأعمال ومنجزيها حتى أصبح يهدد بكارثة .فكان ذلك إيذانا بتمام الانحلال .(/7)
وكمثال يوضح قيادة الآلة للإنسان – وليس العكس – ما ذكره تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " ص 202 بقوله ( إن القرار الذي يعين موعد ومكان وكيفية إحداث تغيير تكنولوجي هو في الحقيقة قرار اجتماعي يؤثر في أنواع هائلة من القيم ، ومع ذلك فهذه القرارات تتخذ فيما يشبه الفراغ الاجتماعي ، فالتجديدات التكنولوجية تحدث بانتظام من أجل التسهيلات التكنولوجية ، دون أي وسيلة مقررة لتقدير نتائجها أو ضبطها ، أو على الأقل تخفيف أثر صدمة هذه النتائج ) ص 202: ( إن القرارات الخاصة بكيفية استعمال التليفزيون أو عدم استعماله قد اتخذها كلها تقريبا قوم ضاقت رقعة مسئوليتهم وانحصر أفق تفكيرهم ضمن بضع قيم قليلة منتقاة ، فالثوريون الحقيقيون هم المهندسون ، وهذا وإن كنا نقوله باعتزاز لكننا ننسى أن نضيف إلى ذلك أنه لو جاءنا هؤلاء على أنهم مخططون اجتماعيون لاعتبرهم الكثيرون منا طغاة ، فالمهندسون والصناعيون الذين يتخذون القرارات الخاصة بالتغييرات التكنولوجية يملكون قوة ضخمة تؤثر في نوع حياتنا وأحوالها ، مع أنهم لا يعرفون أنهم يملكون هذه القوة ولا يهمهم أن يستخدموها ، وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الكثيرين من الرجال والنساء يشعرون بأنهم في أيدي أشخاص يحركونهم كما يشاءون ، ولكنهم لا يعرفون هؤلاء الأشخاص ولا يمكن السيطرة عليهم ) ص 203
وبالأحرى لأن هؤلاء الأشخاص لا يدركون كنه ما يترتب على جهودهم من قرارات .
(5 ) وإذا كان لابد من اعتراف بعبقرية هذه الحضارة فعبقريتها الأكبر التي لا يشبهها فيها حضارة قط هي أن الحضارات التي بادت كان يأتيها دمارها – على حد علمنا - من حيث قصرت في الشروط التي نهضت بها ، ونحن هنا أمام ظاهرة متميزة : أمام حضارة يأتيها أمر الله من حيث مواصلتها الشروط التي نهضت بها ، وعلى الأخص في التقدم العلمي ( المتمرد على الدين ) :
إن التقدم فيما أصبح يسمى " هندسة العقول " تارة و" هندسة الشخصية " تارة أخرى كما يقول جون ج تايلور في كتابه " عقول المستقبل " ص 41-42 ترجمة الدكتور لطفي فهيم العدد 92 من سلسلة عالم المعرفة التي تصدر بالكويت : أصبح يبشر بتطورات يقول عنها : ( لاشك أنها سترى النور خلال القرن القادم { الواحد والعشرين } إذ سيكون ممكنا ظهور عرائس متحركة إنسانية بزرع أقطاب كهربية في المراكز الحركية للحاء المخ ، فإذا أمكن للمخرج أن يتحكم في النبضات الكهربية عن طريق الراديو إلى ممثل زرعت في رأسه هذه الأسلاك فإن مسرحا للعرائس المتحركة الحقيقية سيظهر إلى الوجود .. . ومن غير المعروف الآن ما ذا ستكون اتجاهات الناس نحو شخص زرعت في رأسه الأقطاب الكهربية ، ومع تطور الثورة العقلية قد تتغير آراء الناس ويقبلون على الأشخاص ذوي الأقطاب الكهربية المزروعة ويصبح قبولهم في المجتمع أمرا عاديا شأنهم شأن الأشخاص الذين عرف عنهم أنهم يتعاطون المخدرات )!! وسيكون من الممكن توجيه التنبيه الكهربائي لأجزاء معينة من لحاء المخ ليصبح الشخص عدوانيا ، أو وديعا ص 50 !! ولكي نجعله معتمدا على نفسه بعد ذلك لا يستدعي الأمر سوى تسليمه جهاز الترانزستور الذي يوصل التيار الكهربي وبه مفتاح " ضد العدوان " يضغط عليه عندما يحس بقدوم النوبة ، ومن الممكن إجراء عمليات استئصال لأجزاء من اللحاء يمكن بها أن يعيش المرء حياة هادئة !! ص 51 .
يقول المؤلف ( إن هذه التطورات تؤدي بنا إلى تصور رؤى مشابهة لما أورده جورج أورويل المؤلف الروائي الإنجليزي في روايته المعروفة " 1984" عن الناس المبرمجين ، إلا أن هذا يبدو غير محتمل لعشرات السنوات المقبلة ، وعلى أي حال فإن التغير لن يكون دائما ، ومع ذلك فقد تنشأ مشاكل قانونية إذا استخدمت هذه الأجهزة المصغرة في السلوك العدواني ، فلنفرض شخصا يعاني من نوبات عدوانية حادة فإذا سمح له بالاختلاط بالناس وهو يحمل مثل تلك الأجهزة فمن سيكون مسئولا إذا عطب الكومبيوتر أو غيره من المكونات وارتكب الرجل أو المرأة عملا إجراميا أو ارتكب جريمة قتل ؟ هل سيكون المسئول صناع تلك الأجهزة أو الجراح الذي قام بعملية غرسها أم الشخص نفسه ؟ وكيف نعاقبه على فعلته ؟ ) ص 54
ويقول ( يحمل المستقبل في طياته توسعا كبيرا للعقل وامتدادا للخبرات العقلية يفوق تلك التي يخبرها العقل في حالته الطبيعية ، فسيكون الإنسان في المستقبل أقرب بكثير إلى العرائس المتحركة … ويثور السؤال هل سيكون دمية حية أم سيكون أقرب إلى الآلة مما هو عليه الآن ؟ .. يبدو أنه سيسير في طريق التحول إلى آلة ) ص 43(/8)
يقول المؤلف : ( لقد حملتنا الثورة العقلية إلى بداية عصر هندسة الشخصية ، فمنذ فترة أمكن إدخال تعديلات كثيرة على الشخصية ، وهذه الشخصية التي يعتريها التغيير سواء المؤقت أو الدائم يمكن اعتبارها المقابل العقلي الثابت للمظهر الجسماني الثابت الذي يحفظ للشخصية شكلها المستمر من يوم إلى يوم ويضفي على الشخصية واحدية تميزه عن كافة البشر الآخرين ، وهذه الشخصية نفسها هي التي ينتابها التعديل بمختلف وسائل الثورة العقلية وهي تتم اليوم بنفس السرعة التي تؤدي بها جراحة التجميل إلى تغيير مظهر الشخص الجسماني الخارجي ) ص 57
فأية هندسة ؟ وأية شخصية ؟ وأية آلة بشرية سيتحول إليها الإنسان ؟ وأية مهزلة ؟ وهل من الممكن عمليا أن نتوقع أن يقوم المجتمع بتغيير بنائه الأخلاقي والجزائي استجابة لطموح علمي شديد التسارع أخذ يعمل أو يعبث في مجال ما يسمى " هندسة الشخصية " ، وليصبح أسيرا بعد ذلك بيد القائمين على هذه العمليات الجراحية والعقاقيرية من أطباء وعلماء لا ندري أية قيم يؤمنون بها أو يعملون في خدمتها غير شهوة التقدم العلمي التكنولوجي الذي يتحرك ثوريا بينما أن القيم هي بطبيعتها إذا لم تستقر فإنها تتلوث ؟
يقول فيرنر هايزنبرج عالم الفيزياء الشهير في كتابه " المشاكل الفلسفية للعلوم النووية " – ترجمة الدكتور أحمد مستجير إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1972 : ( الناحية الرهيبة في وجودنا الحالي – وأنا لا أذكر فقط المصادر الجديدة للطاقة التي سيطرت عليها الفيزيقا والتي يمكنها أن تجر إلى خراب لا يمكن تخيله - فهناك احتمالات جديدة للتدخل في الطبيعة تهددنا في حقول كثيرة ، ولو أنه من الصحيح أن الوسائل الكيميائية لتحطيم الحياة لم تستعمل في الحرب الماضية فلقد اكتسبنا في البيولوجيا أيضا كثيرا من التبصر في عمليات الوراثة ، وفي تركيب جزيئات البروتين الكبيرة ، حتى أصبحت إمكانية الإنتاج الصناعي للأمراض المعدية قائمة ، بل ربما كان هناك ما هو أكثر شرا ، فإن التطور البيولوجي للإنسان قد يوجه نحو طريق انتخاب معين ، وأخيرا فإنه من الممكن التأثير على الحالة الذهنية والروحية للناس ، وهذا قد يقود إذا أجري علميا إلى تخريب ذهني رهيب لكتل بشرية ضخمة ، إن لدينا الآن الانطباع بأن العلم يخطو على جبهة واسعة نحو منطقة يمكن أن يتوقف فيها فناء أو بقاء حياة البشرية كلها على عمل عدد قليل من مجاميع صغيرة جدا من الناس ، ولقد نوقشت هذه الموضوعات حتى الآن في الجرائد بشكل صحفي وعاطفي ، ولم يعرف الكثير من الناس للآن الخطر الرهيب الذي يتهددهم نتيجة للتطورات العلمية ) ص 122
(6) يقول الكاتب أبو خلدون في جريدة الخليج 6\9\1995تحت عنوان( اقتلونا ولكن بشرف : في 21 يوليو 1969 قدم الدكتور هنري كيسنجر بوصفه مستشارا لشئون الأمن القومي في إدارة نيكسون دراسة إلى الكونجرس الأمريكي بعنوان " النمو السكاني في العالم الثالث حطر على الأمن القومي للولايات المتحدة " وأخطر ما في هذه الدراسة التي ساهم في إعدادها برينت سكوكروفت في إدارة ريجان ، وكان مساعدا لكيسنجر في إدارة نيكسون هو أنها تقول : " عن طريق تحديد النسل والمجاعات والكوارث الطبيعية ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تخفيض العدد عن طريق الحروب والأوبئة "
والأخطر من ذلك ما نشره ليندون لاروش مرشح الرئاسة الأمريكية عن المستقلين في مجلة يصدرها بعنوان " إيسيكيوتيف "إنتليجنس ريفيو " من أن الولايات المتحدة طلبت من منظمة الصحة العالمية تطوير فيروس يساعد على تخفيض عدد السكان ، وكانت النتيجة أن دخل لاروش السجن لمدة 15 سنة .
وتزامن تقدم علم هندسة الجينات في الولايات المتحدة مع طروحات كيسنجر وسكوكروفت واتجاهات الكونجرس ، وفي تقرير قدمته هيئة العلاقات العامة إلى مجلس العموم البريطاني عام 1987 جاء أن العالم الأمريكي روبرت جالو لم يكن يقول الحقيقة عندما زعم أنه اكتشف فيروس الإيدز وإنما هندسه وراثيا .
ويقول التقرير أن روبرت جالو أدخل الفيروس مع لقاح الجدري الذي جرى إرساله إلى أفريقيا لكي يقال إن المرض أصله أفريقي ، كما جرى إدخال فيروس الإيدز مع لقاح التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الشواذ .
وفي شريط فيديو علمي موثق صدر عام 1987 الدكتور روبرت ستريكر : إن الفيروس الذي يسبب سرطان الدم لدى البقر وفيروس آخر اسمه " شيب فيسنا " الذي يصيب الخراف إذا دخلا نسيجا بشريا يتبادلان جينات معينة تحدث طفرة ينجم عنها فيروس مشابه لفيروس الإيدز ، وهذا مافعله روبرت جالو في مختبراته .
وياروبرت جالو وياكيسنجر ويا سكوكروفت ويا كل أمريكا اقتلونا ولكن بشرف )(/9)
تلك صرخة كاتب تبين كيف تتفاقم المشكلة من حيث إن كتلا بشرية كبيرة ومعها المسيطرون على الحكم كما يقول فرينر هايزنبرج ( تعمل بلا وعي وبتحامل أعمى ، فإذا ما أعطيناهم المعرفة العلمية فمن الممكن أن يتحرك العالم إلى موقع تصفه كلمات الشاعر شيلر : " الويل لمن يهبون نور السماء للأعمى ، إنه لا يلقي له ضوءا ، إنما يحرق الأرض والمدائن ويملؤها سوادا " ) ص 123 ، والأعمى هنا هو الحضارة التي قامت أصلا على العلمانية .
( 6 ) ولابد من أن نسجل هنا أنه لقد غاب عن اشبنجلر التنبؤ بما سوف تصير إليه خطة هذه الحضارة في السيطرة على الطبيعة من الكارثة البيئية التي تسير إليها الإنسانية سيرا حثيثا ، من حيث لا تستطيع لها دفعا ، وبحيث تؤدي إلى جعل كوكب الأرض – حرفيا - غير صالح لسكنى الإنسان ، وفقا لما يقرره خبراء البيئة والحضارة ، الأمر الذي نجده ملخصا جامعا فيما كتبه آل جور نائب رئيس الولايات المتحدة في التسعينيات في كتابه عن " الأرض في الميزان " ، وهذه هي الحفرة النهائية لقاع التدهور الذي تنجر إليه هذه الحضارة والتي تجر إليها البشرية معها .
تلك هي الأعراض الخطيرة المؤذنة بمقتل شبه حتمي ، تلك التي تعاني منها الحضارة الأوربية الأمريكية ، وهي أعراض بارزة واضحة يكاد المرء يلمسها بيديه ، انتبه إليها بعض المفكرين والفلاسفة والفيزيائيين الكبار ، إلى أن أودعها اشبنجلر في كتابه الضخم " انحلال الغرب "
لهذا تعالت الصيحات من كل مكان ضد الآلية ، وبأن النزعة الآلية في تصوير الوجود يجب أن ترفض ، أو أن تعدل بنزعة روحية على أقل تقدير ، فاتجه البعض إلى صور الحياة البسيطة ، ونادوا بالعودة للطبيعة ، وأخذوا يمارسون الألعاب الرياضية بدلا من الحركة الطبيعية التي تركت للآلة ، وأصبح منظر المدينة الكبرى يثير في نفوسهم كراهية وجزعا ، وانصرف أصحاب المواهب المبدعة إلى التفكير النظري ، ثم جاءت موجة هائلة من المذاهب التي يسودها اللامعقول والخوارق ، فطغت على الحياة الفكرية ، وشاعت روح اليأس
ولكن هذه الصرخات وتلك الصيحات تحولت إلى أصداء .
وفي تقديري انه إذا كان لابد من لصق وصف الإنسانية بهذه الحضارة فإنني استسمح اشبنجلر في أن نعطيه لها من حيث ما أعدته للجميع من دمار بمشروعها الحضاري التليد ، كما أنها استحقت وصف العبقرية مرتين : مرة لأن مقتلها يأتيها من موطن تقدمها ، ومرة من حيث إن هذه النهاية التي لم تحدث على هذا النحو لحضارة من قبل كامنة في كونها قد عاشت كحضارة خاصة ، ولكنها عندما انتهت جرت معها الجميع .
وأخيرا فهل هي أمراض قابلة للعلاج أو لإعادة التأهيل :؟
على العكس من ذلك فإن فلسفة اشبنجلر وصلت في نهايتها إلى أن العذاب الذي تعانيه هذه الحضارة الأوربية الأمريكية اليوم ليس عذاب أزمة طارئة لابد من أن تزول يوما ، وإنما هو عذاب كارثة هائلة بها سوف تنتهي مأساتها الطويلة الدرامية الرائعة - ص 305 – ككائن عضوي كان لا بد له من شيخوخة ظهرت ، ومن نهاية أشرفت .
وختاما فإنني أرجو ألا أكون قد أثرت غضب – وربما – حقد - التغريبيين في بلادنا دروايش هذه الحضارة ، وببغاواتها من أصحاب الأسماء الكبيرة والصغيرة ، فإن لم يكن ذلك كذلك فإنني أرجو ألا يكون غضبهم غيرة عليها بقدر ما هو خشية من انبعاث الحضارة التي قطعوا جذورهم عنها .(/10)
حضارة في قصاصات
بدون تعليق
الخليج 30 أكتوبر 1996
من كلمة خيري منصور
أوربا العجوز
أوربا ليست قارة طازجة كمقابل زمني لحضارات شائخة في العالم القديم ..إنها في الأعوام الأخيرة أصبحت ترتعد من مستقبلها وشيخوختها بخلاف آسيا وافريقيا .. إنها شيخوخة ديموغرافية ، بمعنى أن السكان الأصليين – ولو بالمعنى النسبي – معرضون للانقراض إذا استمرت النظم الاجتماعية على النحو الراهن .
آخر الأجراس المنذرة بهذا الخطر قرعته الجمعية الأوربية في " بروكسل " حين قدمت إحصاءات عن ضمور العائلة الأوربية وارتفاع أعمار الناس الذين يفضلون الحياة الحرة وعدم إنجاب على الزواج وتكوين الأسر .
وحسب توقعات الجمعية الأوربية فإن الربع الأول من القرن المقبل قد يعلن احتضار أوربا ، لهذا قدمت الجمعية توصيات .. بل وصفات علاجية تسترد من خلالها أوربا صباها ، وقد لا ترضى أصحاب النزعات العنصرية في القارة الشقراء. هذه الوصفة العلاجية تتلخص في فتح الأبواب للمهاجرين من القارات الأخرى استدراكا للبطالة القادمة لمن بعض العنصريين يقولون إن الأعراض الجانبية لهذا العلاج الديموجرافي ليبست أقل إخطارا من المرض نفسه ، لأن تهجين الأجناس قد يؤدي إلى خلل بنيوي في المجتمعات الأوربية .
لكن التهديد بالانقراض الكمي للسكان يفرض محاولات علاجية أشبه بتلك التي تجازف بالأعراض الجانبية لأنه اكثر من ثلث سكان القارة أعمارهم تزيد على الستين عاما ،والشباب إناثا وذكورا في تناقص مستمر ، وعدد الأطفال الذين سيتشكل منهم المستقبل في تناقص مستمر)
جريدة الشعب 28\ 7 \ 1995 تقول الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة بآداب المنوفية في مقالها :
( المسيرات التي ينظمها الشواذ بنوعيهما
أصبحت من اجل الحصول على مزيد من الحقوق الاجتماعية من التقاليد المتبعة في باريس منذ أربعة عشر عاما – بينما مازال ظهورهم في الأقاليم الفرنسية يمثل علامات اتهام ملفوظة – وقد تم في الاحتفال في هذا العام في فرنسا بالحركة المسماة مفخرة الشواذ في خمس مدن كبرى قامت بالإعداد لها مائة وخمس وعشرون منظمة من منظمات الشواذ وجمعياتهم وتفاوت حجم المظاهرات من بضع مئات في مرسيليا ونانت ورين ليصل عددهم إلى عشرين ألفا في باريس ، وذلك بخلاف مدينتي تولوز ومونبلييه
أما في الولايات المتحدة فيرجع تاريخ هذا الاحتفال إلى عام 1969 حينما قام الشواذ بمقاومة رجال البوليس رجال البوليس ليتحول الأمر إلى مظاهرة واعتصام لمدة ثلاثة ايام وكان ذلك بمثابة مولد الحركة المسماة " مفخرة الشواذ " أي فخر مقاومتهم لقوى المجتمع " الرجعية " وإعلان فرض ظهور المنحرفين من الأقبية و الحنايا المستترة لينبثقوا في وضح النهار .
وسرعان ما امتدت ههذ الحركة كالنار وسط الهشيم لتنتقل إللى مختلف إلى مختلف العواصم الأوربية في برلين وبوتسدام وبرشلونة ومدريد وأيدنبورج ولندن وكوبنهاجن وستوكهولم ..
وتعني هذه الحركة مولد جماعة أخطبوطية التركيب تتشابك أفرادها وجماعاتها عبر العالم الغربي والبلدان الخاضعة له مباشرة بغية فرض مزيد من الانحلال ، أو هو في الواقع بغية جعل كل ما هو شاذ ومخالف لسنن الله هو الذي يسود في العالم بل لقد امتد الفجر والفقدان لأية ضوابط إلى درجة سماحهم لأية ضوابط إلى درجة سماحهم لبعض المراهقين من الشبان والفتيات الصغار بالاشتراك في مسيرات في مدينة نيويورك وهم يحملون لافتات مكتوبا عليها " أطفال شواذ من آباء وأمهات شواذ "
ومن المخزي للضمير الإنساني أن نطالع ما ورد بمجلة " نوفيل أوسر فاتير " الفرنسية الصادرة في 22 من يونيو 1995 بالتفصيل الممل وعلى مدى تسع صفحات ما وصل إليه المنحرفون من سلطان في البلاد الأمريكية ن بحيث اصبحوا يكونون مركز ضغط لا يستهان به ، بعد أن اصبحت لهم جماعاتهم العلنية في المدن الكبرى ، بل أصبحت لهم أحياء بأسرها مثلما في مدينة سان فرانسسكو
وتعد واقعة حق الشواذ في الالتحاق بالجيش الأمريكي واقعة لها مغزاها
وإذا كان وجود هذه الفئة بدا مستترا في الجيش الأمريكي فقد بدأ بعض أعضاء الكونجرس هناك يعلنون عن هويتهم الشاذة وكذلك بعض الأبطال الرياضيين .. وسرت العدوى بين مختلف ليقوم بعض العاملين في قطاعات البوليس وجال التعليم والصحة وبعض المؤسسات الكبرى بالإعلان عن ميولهم الجنسية الشاذة
وقد نشرت جريدة لوموند الفرنسية الصادرة في 24 من يونيو 1995 مقالا عن مئات الآلاف من الشواذ الذين اشتركوا في تلك المسيرة السنوية …
إلا أن ذلك لا يعني أن الأمر قد استتب للشواذ نهائيا فمازالت هناك بلدان تعارض أو تحرم الشذوذ الجنسي … إلا أن قاضي مدينة دنفر بمقاطعة كولورادو أوقف إجراءات سن قانون بالتحريم " لعدم تماشها مع الدستور "(/1)
ورغم مثل هذه المعارضة فإن وجودهم يتزايد في المجال الثقافي والإعلامي ، ففي فرنسا تخصص لهم القناة الفضائية ط كنال بلوس " عشر ساعات يوميا بينما يتزايد عدد الصحف والمجلات الخاصة بهم في مختلف البلدان الأوربية حيث بدا سيل من الروايات الخاصة بحياتهم يغزو الأسواق ويطفح على الإنتاج السينمائي والتليفزيوني .
بل ويتسلسل إلى مجالات التعليم ليتصدر بعض المواد الجامعية من قبيل " نظريات الانحراف"! وكان المؤرخ جون بوسويل من أوائل الذين دخلوا هذا المجال بكتابه المعنون " المسيحية التسامح الاجتماعي والشذوذ الجنسي الذي صدر عام 1980 وكان قد تمكن قبل وفاته بقليل من الانتهاء من كتابه الاستفزازي – على حد تعبير المجلة الفرنسية – حول الزيجات المثلية غير أن الطاقة الكبرى تظل في إنشاء أقسام في الجامعات الأمريكية للدراسات السحاقية واللواطية ! ورئيسة أحد هذه الأقسام في جامعة في مدينة بركلي بكاليفورنيا هي كارولين دينشو أستاذ الأدب الإنجليزي في القرون الوسطى ، هي أيضا إحدى مؤسسات ومحررات المجلة الفصلية المعروفة باسم " اللواطيون والسحاقيات " التي تقوم أيضا بنشر الأبحاث العلمية الخاصة بهذا المجال الذي أصبح معروفا في الجامعة باسم " الدراسات السحاقية واللواطية والثنائية الجنسية وتجاوز النوع " )
وهذه العبارة الأخيرة تربطنا كما تقول الكاتبة بمؤتمر المرأة الرابع - الذي أقيم بعد كتابتها لما سبق - في سبتمبر في بكين
الاتحاد - أبوظبي - في 11 يونية 1990:
(جيل المراهقين في أمريكا -
يعاني من مشاكل جسمية وعاطفية تدفعهم نحو الجريمة والمخدرات والانحلال الخلقي
ذكرت دراسة اجتماعية نشرت في واشنطن أن جيل المراهقين الأمريكيين يعاني من مشاكل جسمية وعاطفية تجعلهم أقل شعورا بالصحة من آبائهم حين كانوا في نفس أعمارهم
وأوضحت الدراسة التي أعدها مجلس مكون من رؤساء المنظمات الحية والتجارية في أمريكا أن مئات الألوف من المراهقين من الجنسين في الولايات المتحدة يعانون من تفشي عادة تعاطي المخدرات وأمراض تناسلية ومشاكل عاطفية وحمل غير مرغوب به عند الإناث أدت بالكثير منهن إلى الرسوب في الدراسة والانتحار
وقالت الدراسة أنه لم يحدث من قبل أن شعر جيل المراهقين بالمشاكل الصحية وعدم المبالاة وعدم الاستعداد والتهيؤ لمرحلة الشباب والرجولة كالذي يحدث الآن في جيل المراهقين الأمريكيين
وأفادت الإحصائيات بان حوالي مليون مراهقة أمريكية أي ما يعادل واحدة إلى عشرة مراهقات في المجتمع الأمريكي يتورطن في حمل غير مرغوب فيه كل عام كما أن 2.5 مليون من المراهقين والمراهقات يصابون بأمراض تناسلية خطيرة نتيجة تفشي الإباحية
وأضافت بأن معدل الانتحار بين فئة هذا الجيل تضاعف منذ عام 1968 وأن 10% من الذكور المراهقين و 20% من المراهقات يحاولون كل عام الانتحار كوسيلة للتخلص من مشاكلهم الصحية والعاطفية والاجتماعية )
الخليج 21\4\1993
( ثلث الفرنسيين غير شرعيين
أوضحت إحصائية أجراها مركز الدراسات الوطني ونشرتها صحيفة " لوفيغارو" الفرنسية أن طفلا من أصل كل ثلاثة يولد في فرنسا خارج عقد الزواج .
وبينت الدراسة أن عدد عقود الزواج انخفض في العشرين عاما الماضية في حين ارتفع عدد ملفات الطلاق كما ارتفعت نسبة الحياة المشتركة دون زواج
وذكرت الدراسة أن عدد النساء اللاتي يقمن بتربية أولادهن وحدهن دون أب تضاعف إلى الضعف أي ما يعادل مليون امرأة في عام 1993 مقابل 500 ألف امرأة في عام 1968 )
الاتحاد 24\5\1990
( الخيانة الزوجية في أمريكا 35 % من النساء و 50% من الرجال
قال ثلاثة أزواج أمريكيين من بين كل أربعة أزواج شملهم البحث بشان مواقفهم تجاه الزواج أنهم متأكدون من أن زوجاتهم غير خادعات لهم على الإطلاق ، ولكن نحوا من 35% من النساء الذين تم استطلاع آرائهن قلن إنهن خدعن أزواجهن بالفعل .
وأظهرت الدراسة التي تنشر في عدد يونية من مجلة ايسكواير أيضا أن 50 % من الرجال الذين شملهم الاستطلاع قالوا : إن لهم علاقات مع نساء غير زوجاتهم .
في حين قالت 65 % من السيدات إنهن مقتنعات بأن ليس لأزواجهن علاقة مع أحد غيرهن )
الخليج 15\11\1992
( الطالب الأمريكي كذاب غشاش وسارق
أفادت دراسة استغرق إعدادها سنتين على تسعة آلاف طالب تتراوح أعمارهم بين 15و30 سنة أن طلاب المدارس الثانوية والجامعات الأمريكية يغشون ويسرقون ويكذبون أكثر من أي وقت مضى
وأضافت الدراسة التي نشرتها مؤسسة " جوزيف إند إيدنا جوزفسون " الأخلاقية الخاصة أن 61 % من الطلاب الجامعيين يعترفون أنهم غشوا في امتحان السنة الماضية
وأقر ثلث طلاب المرحلة الثانوية و 16% من طلاب الجامعات أنهم سرقوا خلال السنة الماضية ، واعترف أكثر من لثلث أخيرا بأنهم كذبوا في الطلب الذي قدموه للحصول على وظيفة ولم يكتبوا معلومات صحيحة في نموذج البيانات الشخصية . وقال 16% من طلاب الثانوية و 18% من طلاب الجامعات أنهم فعلوا ذلك .(/2)
وذكر رالف ويكسلر نائب رئيس المؤسسة أن " شبان اليوم لم يخترعوا الغش والسرقة والكذب لكنهم أجادوها " لكنه أضاف أن ذلك ليس خطأهم ، وقال : " إن اثنين في المائة على الأقل من التلاميذ في المجتمع الراهن واقعون في هذا الخطأ " وقال : " نحن في صدد إنشاء مجتمع يزدهر فيه الذين يغشون ، وبصراحة لا نستطيع أن نقول لهم إن الصدق هو الموقف الأفضل " )
الأهرام 3\12\1992
من كلمة الكاتب أحمد بهجت
( بين حضارتين :
تقول آخر إحصائية أن 168 دولة أبلغت منظمة الصحة العالمية عن وجود حالات إيدز بها ، ولكن الثابت ان العدوى موجودة في كل انحاء العالم ويبلغ عدد المرضى بوباء الإيدز 12 مليونا من الكبار بالإضافة إلى اكثر من مليون طفل أصيبوا بالمرض .
ومن المتوقع مع نهاية هذا القرن أن يبلغ عدد المرضى بالوباء 40 مليون نسمة )
الخليج 9\12\1992
( بدم بارد يبيعون الدم الفاسد
أول هذه الفضائح وأكبرها – من المكشوف حتى الآن – ما حصل في فرنسا خلال عامي 1984 و 1985 حين تم نقل دم ملوث بفيروس الإيدز إلى حوالي 1200 من مرضى النزاف الذين توفي منهم 250 شخصا
تجار الدم القاتل توسعوا إلى الأسواق الخارجية ومنها تونس والبرتغال والأردن .. إن المكشوف والمخفي يؤكدان أن تجارة الدم الملوث بالإيدز تكاد تصبح الوجه الأكثر رعبا لوباء العصر ، والخوف كل الخوف أن يكون العالم الثالث سوق هذه التجارة كما حصل ويحصل للتخلص من النفايات السامة )
الخليج 6\9\1995
من كلمة أبو خلدون
( اقتلونا ولكن بشرف
في 21 يوليو 1969 قدم الدكتور هنري كيسنجر بوصفه مستشارا لشئون الأمن القومي في إدارة نيكسون دراسة إلى الكونجرس الأمريكي بعنوان " النمو السكاني في العالم الثالث حطر على الأمن القومي للولايات المتحدة "
وأخطر ما في هذه الدراسة التي ساهم في إعدادها برينت سكوكروفت في إدارة ريجان ، وكان مساعدا لكيسنجر في إدارة نيكسون هو أنها تقول : " عن طريق تحديد النسل والمجاعات والكوارث الطبيعية ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تخفيض العدد عن طريق الحروب والأوبئة "
والأخطر من ذلك ما نشره ليندون لاروش مرشح الرئاسة الأمريكية عن المستقلين في مجلة يصدرها بعنوان " إيسيكيوتيف "إنتليجنس ريفيو " من أن الولايات المتحدة طلبت من منظمة الصحة العالمية تطوير فيروس يساعد على تخفيض عدد السكان ، وكانت النتيجة أن دخل لاروش السجن لمدة 15 سنة .
وتزامن تقدم علم هندسة الجينات في الولايات المتحدة مع طروحات كيسنجر وسكوكروفت واتجاهات الكونجرس ، وفي تقرير قدمته هيئة العلاقات العامة إلى مجلس العموم البريطاني عام 1987 جاء أن العالم الأمريكي روبرت جالو لم يكن يقول الحقيقة عندما زعم أنه اكتشف فيروس الإيدز وإنما هندسه وراثيا .
ويقول التقرير أن روبرت جالو أدخل الفيروس مع لقاح الجدري الذي جرى إرساله إلى أفريقيا لكي يقال إن المرض أصله أفريقي ، كما جرى إدخال فيروس الإيدز مع لقاح التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الشواذ .
وفي شريط فيديو علمي موثق صدر عام 1987 الدكتور روبرت ستريكر : إن الفيروس الذي يسبب سرطان الدم لدى البقر وفيروس آخر اسمه " شيب فيسنا " الذي يصيب الخراف إذا دخلا نسيجا بشريا يتبادلان جينات معينة تحدث طفرة ينجم عنها فيروس مشابه لفيروس الإيدز ، وهذا مافعله روبرت جالو في مختبراته .
وياروبرت جالو وياكيسنجر ويا سكوكروفت ويا كل أمريكا اقتلونا ولكن بشرف )
الأهرام 26\5\1990
من كلمة الأهرام
( تصدير الموت(/3)
تقوم دول المجموعة الأوربية بالتخلص من التبغ الذي يحتوي على نسب عالية من النيكوتين وتصديره إلى العالم الثالث بأسعار رخيصة وابتداء من عام 1993 ستتضاعف صادرات المجموعة ثلاث مرات ، بعد تطبيق القوانين الجديدة التي تحد من كمية النيكوتين في السجائر المباعة في أوربا ، وذلك بعد ارتفاع معدل وفيات المدخنين للتبغ بدرجة تهدد الصحة العامة للمواطنين في هذه الدول ، وهذه العمل الذي وصف باللاأخلاقية من قبل مسئول بمنظمة الصحة تتمركز حول إدراك سياسي اقتصادي بان العالم الثالث هو سوق كبيرة للنفايات الأوربية التكنولوجية والصناعية والزراعية والغذائية والصحية حيث يتم بيع ونقل وتوطين التكنولوجيا الملوثة والمدمرة للبيئة ، وبيع المبيدات والبذور الفاسدة والمؤثرة على صلاحية التربة الزراعية ، وإجراء التجارب على البشر والزرع فضلا عن الأغذية الفاسدة والأدوية التي تجعل من البشر حقلا لتجاربها ، ومثل هذه السياسات التي لا تكترث بصحة البشر والبيئة في جنوب العالم تكشف عن هذا الاختلال في الوعي الأوربي والغربي بانقسام العالم إلى شعوب بيضاء متحضرة تستحق كل الرعاية في صحتها ومستوى حياتها وبين شعوب ملونة لا وزن ولا أهمية تذكر لها ولا تراعى إزاءها أية قواعد أخلاقية أو قانونية أو تعاقدية ، وان المواصفات القياسية في الآلات والصناعات والسلع والخدمات لا تسري إزاء الإنسان الغربي الأبيض وانتهاكها إزاء إنسان الجنوب الملون مشروع ..
ويبدو أن سلوك المجموعة الأوربية سوف يمثل شكل ممارستها في العقد الحالي والعقود القادمة ، وهو تحويل الجنوب إلى مقبرة للنفايات الأوربية والغربية واليابانية . )
الاتحاد 13\6\1989
( 45 ألف طفل فرنسي يتعرضون لاعتداءات وحشية كل عام
وطبقا لتقرير نشرته جمعية الطفولة الفرنسية مؤخرا فإن 57 في المائة من الاعتداءات تقع على أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين وتسع سنوات غالبيتهم من الإناث وتؤدي هذه الاعتداءات إلى موت ما بين 300 و600 طفل سنويا
وأشار التقرير إلى أن أولياء الأمور هم " الفاعلون الأصليون " في 75 % من هذه الاعتداءات)
الاتحاد12\5\1989
( كبار السن يتعرضون للإيذاء في بريطانيا
حذر تقرير نشر في لندن من أن حوالي نصف ملون شخص عجوز في بريطانيا معرضون للاعتداء الجسماني أو العقلي ، وقالت جمعية طب الشيخوخة البريطانية أن إيذاء المدمنين في السن موجود لدى جميع الطبقات الاجتماعية من جميع الأعمار والشخصيات ، ولكنه بالرغم من انتشاره الواسع لا يلقى اهتماما من الجمهور . وقالت الجمعية التي تمثل 1500 طبيب لأمراض الشيخوخة أن الإيذاء يتخذ العديد من الأشكال بما في ذلك الاعتداء المباشر والحرمان من الطعام أو الدواء أو الاستفزاز )
الخليج 6\4\1993
( تشير الإحصاءات إلى أن اكثر من مليوني عجوز أمريكي يتعرضون للإيذاء ويتخلى عنهم أبناؤهم سنويا …
وأظهر استطلاع أجري مؤخرا أن نحو نصف المسنين الأمريكيين يتعرضون للإيذاء سنويا بتوجيه الكلمات النابية إليهم وينتهي بضربهم .. ويضطرون لدخول المستشفى نتيجة لذلك وغالبا ما يكون الأبناء هم المتسببون )
الأهرام 22\11\1988
من مقال للدكتور زكي نجيب محمود عن ملاحظات له أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي 1953-1954:
( وتصادف أن قرا صاحبنا في صحيفة يومية تصدر في البلد الذي كان يقضي يفه النصف الأول من مهمته – يتحدث الكاتب عن نفسه – خبرا عن محاكمة مواطن أبيض قتل مواطنا أسود في حانة ، ولنلحظ هنا أنه بينما يسمح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يسمح للسود أن يرتادوا أماكن البيض ، وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض نص العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه وفيه يقول مخاطبا المتهم ما معناه : لقد قضت المحكمة بسجنك سنتين لا لأنك قتلت رجلا أسود بل لأنك سمحت لنفسك أن تخالط السود ، فوصلت بذلك جنسين أراد الله لهما أن ينفصلا ) ويكتفي الكاتب بالتعليق بما علق به مدير الجامعة التي ذهب يعمل بها والذي سمع بالواقعة من كاتبنا بقوله : " لقد عوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم" !! دون أن يبين على أي شيء عوقب القاضي : على الحكم بسنتين ثمنا لقتل إنسان ؟ أم على نطق القاضي بسبب الحكم بهما ؟
تم إلحاقها بمقال عن العنصرية
الاتحاد 4\9\1989
( روايه " نيويورك مزبلة الأباطيل " للكاتب الأمريكي توم وولف
تعتبر سبة كبيرة في وجه نيويورك وأمريكا وتعرية فاضحة لمفاسد بلاد اليانكي والدولار وحرب النجوم ، ومع ذلك فقد تهافت الأمريكيون على شرائها بحيث بيع منها 1,2 مليون نسخة في أقل من أربعة اشهر
يقول المؤلف : وهي روايتي الأولى ولي عشرة كتب قبلها في السياسة والثقافة والاجتماع بالإضافة إلى أنني أمارس الصحافة منذ ربع قرن(/4)
كل الذي فعلته في هذه الرواية إنني رسمت صورة نيويورك كما هي . بكل ما فيها من تناقضات ومفارقات في عمارتها وشوارعها ومؤسساتها وناسها الممزقين بين الأبيض والأسود ، وبين الغني والفقير ، وبين رجل المجتمع والمخدرات والانحراف ، كل شيء في نيويورك عظيم ومدهش ولكن تافه ومزيف ، إنها مدينة المفارقات ، إنها فعلا مدينة الأباطيل ..
لقد تهافت النيويوركيون باندفاع لا مثيل له على شراء هذه الرواية لأنهم رأوا فيها أنفسهم ، المرآة التي تعكس بصدق وبدقة وبواقعية تفاصيل حياتهم اليومية وآفاقهم وهواجسهم وأفكارهم ، رأوا فيها صورتهم الحقيقية البشعة
لا حل لذلك لأن سر نيويورك وأمريكا أن تبقى هكذا ، بل هي لا تستطيع أن تكون إلا كما هي هكذا : عظيمة عظيمة وتافهة تافهة . مزبلة أباطيل من الطراز العالمي الرفيع ! )
تم إلحاقها بمقال عن العنصرية
الخليج 12\12\1995
من كلمة " أبو خلدون "
( روس بيرو رجل أعمال بارز من ولاية تكساس كان مشهورا في الأوساط الاقتصادية بأنه من أثرى أثرياء الولايات المتحدة ، وفي عام 2199 فاجأ الجميع بترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة كمرشح ضد بوش وكلينتون .. وبرنامج بيرو الانتخابي عبارة عن كتاب أصدره قبل مدة عنوانه " أمريكا ليست للبيع " .. إننا نواجه مشكلات اقتصادية قاتلة ، والذين يتحدثون عن عظمة أمريكا ينسون
أنها أكثر الدول عنفا ، وأن معدلات الجريمة ترتفع فيها إلى أقسام قياسية ، وينسون أن نظام التعليم في الولايات المتحدة هو أسوا الأنظمة في العالم " )
الاتحاد 18\5\1987
( الحرية في بلاد الديموقراطية
أقدمت ناظرة مدرسة جولدن هيلوك الثانوية في بيرمنجهام ماري ستيوارت على طرد طالبين وإعادتهما إلى منزلهما لقيامهما بالصلاة في موقف السيارات الخاص بالمدرسة
اكثر من نصف طلاب هذه المدرسة متعددو الديانات هم من المسلمين
ولم تتورع هذه الناظرة عن إبلاغ وسائل الإعلام البريطانية بأسلوب عدواني " أن الإسلام مضلل ولا أعتبر نفسي مسيحية إذا لم أومن بذلك " ؟ ) تم إلحاقه بمقال عن الحرية
الخليج 7\5\1996
من مقال الكاتب الإسلامي فهمي هويدي
( كفر روجيه جارودي بأكاذيب الدعاية الصهيونية وتصدى لفضحها فلاحقته اللعنة واستحق أن يحكم عليه بالسجن سنة .. بتهمة العداء للسامية ونفي الجرائم المقترفة ضد الإنسانية
…
باستثناء عدد محدود من المثقفين الشجعان الذين تضامنوا الذين تضامنوا مع جارودي فإن الجميع سكتوا على محاكمة الفيلسوف الكبير وفي المقدمة منهم منظمات حقوق الإنسان واتحادات الكتاب والهيئات العلمية والنخب السياسية
…
لم يكن جارودي أول الذين غامروا بتجاوز الخط الأحمر وتفنيد المزاعم الصهيونية المتعلقة بعدد الضحايا ومبالغات أفران الغاز وإنما سبقه آخرون فمنهم من ضاع مستقبله العملي ومنهم من قطع رزقه وأغلقت الأبواب في وجهه ، ومنهم من ألقي في غياهب السجون ..
فجيل السبعينات يذكر البروفسور روبير فوريسون أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة ليون الذي بحث طويلا مسالة غرف الغاز وحقق الروايات المختلفة بشأنها على لسان العائدين من معسكرات الاعتقال والمحاربين وانتهى من بحثه إلى أن مسألة غرف الغاز بدعة غير حقيقية اصطنعتها مخيلة العائدين الذين أرادوا أن يصوروا للناس هول ما رأوا … غير أن الرجل ما إن جهر برأيه حتى ثارت ثائرة الدوائر الصهيونية ولم تهدأ إلا بعد أن فصل من الجامعة وتم اغتياله أدبيا وأكاديميا
في الثمانينات تكررت القصة حين أعد أحد الباحثين اسمه هنري روكيه رسالة للدكتوراة حول موضوع غرف الغاز نوقشت في جامعة تانت واعتمدت الرسالة على تحقيق لشهادة أحد الضباط الألمان الذين استسلموا للفرنسيين ، وفي اعترافاته تحدث عن غرف الإعدام بالغاز القاتل وأساليبها في المعتقلات الجماعية النازية ، حقق روكيه هذه الاعترافات وكشف ما فيها من تناقضات ومغالطات وانتهى إلى التشكيك في وجود غرف الغاز ، ومن ثم في كل النتائج التي ترتبت على فكرة وجود مثل هذه المحارق ، حصل روكيه على الدكتوراة بتقدير جيد جدا ، وحين أجرى الرجل حوارا بثته الإذاعة تحدث فيه عن رسالته والنتائج التي توصل إليها قامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد أن ألغيت الرسالة وسحبت الدكتوراة ، من الباحث الفرنسي لأول مرة في تاريخ البلاد بقرار من وزير التعليم العالي ، ثم فصل الأستاذ الذي اشرف عليه من عمله !!(/5)
في ألمانيا تورط أحد قضاة مدينة هامبورج في عمل علمي مماثل إذ أصدر الرجل كتابا عام 1981 بعنوان " أسطورة أو شفيتز " ( اسم أحد معسكرات الاعتقال الشهيرة في بولندا ) وهو دراسة قانونية فند فيه كل المعلومات التي تم تناقلها عن المعسكر وقال إن القصة حافلة بالاختلاق والأغاليط ، تاحدث صدور الكتاب ضجة كبيرة في المانيا ، وأثار احتجاجات صاخبة من جانب اليهود ، وأسفرت ضغوطهم عن قرار اتخذته جامعة جوتينجن بسبب شهادة الدكتوراة التي كانت قد منحتها له ، وجاء في حيثيات القرار أن كتاب القاضي " انتهك الكرامة الإنسانية " ، ولم تكتف السلطات بذلك وإنما أصدرت أيضا قرارا بخصم 10% من مرتب القاضي منذ صدور الكتاب . ، ثم أغلقت ألمانيا باب الاجتهاد في الموضوع في وقت لاحق عام 1994 حين أقر البرلمان مشروع قانون فريد في بابه فرضته الضغوط الصهيونية ، ويتضمن بندا يعتبر إنكار وجود معسكرات إبادة اليهود جريمة يعاقب مقترفها بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.
في بريطانيا حملة مستمرة منذ عدة سنوات ضد الكاتب والمؤرخ ديفيد أرفينج الذي مابرح يؤكد بطلان مزاعم الصهيونية حول إبادة اليهود في أوربا فالتظاهرات المعادية تحاصر بيته في وسط لندن بين الحين والآخر ، وكتبه تجمع من الأسواق أولا بأول ، والجاليات اليهودية تتعقبه حيث ذهب ، حتى إنها استصدرت حكما بطرده من كندا التي دعي إليها لإلقاء محاضرة عامة ، وبعد وصوله اقتادته الشرطة وقامت بترحيله بعد أن أدانته المحكمة الكندية في تهمتي دخول البلاد بطريقة غير مشروعة ، وإصدار تصريحات مهينة لذكرى الموتى !! ، وبسبب موقفه ذاك حظرت أستراليا دخوله أراضيها وقضت محكمة ألمانية بتغريمه عشرة آلاف مارك .
في النمسا صدر حكم ضد الناشر جيرد هونسيك بالسجن لمدة 18 شهرا . لأنه نشر في مجلته " هالت " أن الغاز السام في معسكرات الاعتقال النازية لك يكن يستخدم إلا لإزالة الطفيليات والجراثيم من الملابس المتسخة ، وأنه لم يستخدم أبدا ضد الأشخاص ، وقد توصل إلى تلك النتيجة بعد دراسة استمرت خمس سنوات لمختلف الوثائق وإفادات الشهود . تمسك الرجل بوجهة نظره حين قدم للمحاكمة ، ولكن المحكمة قضت بأنه مذنب في 12 تهمة بخرق القانون النمساوي الخاص بتجريم نشاط النازيين الجدد ، والذي ينص على اعتبار نفي ارتكاب النازيين القدامى جرائم حرب جريمة بحد ذاته وبناء عليه قررت الحكم عليه بالسجن .
في الولايات المتحدة لم يصل الأمر إلى المحاكم لأن اليهود عالجوا الأمر بأنفسهم ، فلم تمر أيام معدودة بعد أن أعلن معهد إعادة دراسة التاريخ في كاليفورنيا عن إعادة دراسة موضوع غرف الغاز حتى هوجم مقره بقنابل حارقة أشعلت فيه النار واغلق الملف على الفور .
وحين تورط المؤرخ الأمريكي الدكتور " بوتز " وهو مدير معهد لدراسة التاريخ في " لوس انجلوس " وقال : عن مذبحة اليهود " مزعومة " وليس هناك دليل مقنع لإثباتها ، وتحدي أن يدفع مبلغ 50 ألف دولار لمن يستطيع إثبات أن يهوديا واحدا – فضلا عن ستة ملايين – قد أحرق في افران الغاز النازية . ما إن أعلن عن ذلك حتى شب حريق كبير في معهده ، تسبب في خسائر مالية بلغت 300 ألف دولار ، وأدى إلى إسكات صوت الرجل تماما .
المؤرخة الأمريكية كريستينا جيفري ارتكبت خطيئة من نوع آخر ، فحين طلب منها أن تبدي رأيا في أحد البرامج التعليمية المقترحة لتدريس الهولوكوست للصفوف الثانوية قالت في تقريرها أن البرامج يتبنى وجهة نظر واحدة " الرواية الصهيونية " وأما وجهة النظر الأخرى في قضية المذبحة يجب أن تذكر حتى يكون البرنامج متوازنا . وحين تسرب التقرير عوقبت السيدة جيفري على الفور بفصلها من عملها كمؤرخة بمجلس النواب الأمريكي ، ولم يغفر لها ما فعلت إلا بعد أن قدمت اعتذارا على شاشة التليفزيون " الإسرائيلي " عما بدر منها . وقالت إنه لم يخطر على بالها على الإطلاق أن تشكك في مسألة المحرقة وضحاياها !!
أما أشهر حوادث العام الماضي ( 1995 ) فكانت قصة مجلة ماركوبولو اليابانية التي نشرت عشر صفحات وصفت فيها عملية المحرقة بأنها أكذوبة لا أصل لها . الأمر الذي أثار عاصفة من الاحتجاجات الغاضبة من جانب اليهود في جهات الكرة الأرضية الأربع . وترتب على ذلك أن فسخت الشركات الكبرى عقود إعلانات الموقعة معها . وكانت فوكس فاجن الألمانية وميتسوبيتشي اليابانية في مقدمة تلك الشركات ، وقرر ناشر المجلة سحب النسخ الموجودة منها في الأسواق ، ثم قرر وقف إصدار المجلة التي كانت تطبع 200 ألف نسخة شهريا ، عندما اشتدت الحملة وقدم اعتذارا علنيا لليهود عن الإساءة التي لحقت بمشاعرهم .)
تم إلحاقه بمقال عن الحرية
جريدة الأهرام 27\4\1990
( الكارثة تقترب
والإنسان عدو نفسه(/6)
مع احتفال العالم كله بيوم " كوكب الأرض " هذا الأسبوع تعالت صرخات التحذير من كارثة مناخية مدمرة تهدد آلاف الملايين من البشر بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض ن وزيادة معدلات التلوث ، إلى درجة بالغة الخطورة . وبينما كان العلماء يصرخون من أن الوقت لم يعد في صالح البشر وأنه يتعين علينا جميعا أن نخوض " حربا عالمية " لإنقاذ الكرة الأرضية من دمار التلوث دخل ساسة الدول الكبرى في خلافات ومتاهات عميقة حول كيفية مواجهة هذه الأزمة .
وفي مؤتمرهم الذي عقد تحت إشراف الولايات المتحدة اتخذت الأزمة طابعا سياسيا عاصفا طغت عليه المصالح الاقتصادية والانتخابية . وانتهى المؤتمر – كما كان متوقعا – دون اتخاذ أية قرارت عاجلة أو طارئة للحد من السموم التي تهدد مناخ الأرض ورفضت أمريكا – رغم مسئوليتها وحدها عن حوالي ربع التلوث الصناعي في العالم - أن تقدم أية تعهدات أو تنازلات صناعية من شانها أن تؤثر على نموها الاقتصادي .
وفي ذات المؤتمر قال بوش – الأب – الذي كان يطلق عليه أيام الانتخابات اسم " رئيس البيئة " " إننا نريد حقائق علمية أولا .. نريد بحوثا دولية توضح لنا " الغموض " في هذا العلم .. إننا لا نستطيع أن نحسن المناخ على حساب نمونا الاقتصادي "
العلماء يريدون خفضا حادا في ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي ترفع درجة حرارة الأرض وذلك بما يتراوح بين 50 و 80 % ، وهذا يتطلب على أقل تقدير الخفض الجذري في استخدام السيارات ومعظم إمكانات الحياة الحديثة ، فهل يجرؤ أي زعيم سياسي على فرض مثل هذه الإجراءات ؟
إن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع 3 درجات مئوية ، فيذوب الجليد ، ويرتفع منسوب مياه البحار والمحيطات وتغرق الأراضي المنخفضة وربما دولا بأكملها .
وقد حذر العالم المصري مصطفى طلبة من أن شواطئ مصر والوجه البحري كله ليست بمنأى عن هذا الخطر ..
كما حذر الدكتور طلبة من أن التصحر والقحط سينتشر في الدول البعيدة عن المياه مما سيؤثر على الإنتاج الغذائي في العالم ، وسوف تموت الغابات والحيوانات التي لا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وستكثر العواصف والأعاصير ، فتقطع الاتصالات وتزيد من الكوارث الطبيعية ، وذلك علاوة على ما سيصيب الإنسان من أمراض مثل السرطان وفقدان المناعة وفقد البصر …
ويقول العلماء إننا دخلنا العد التنازلي للكارثة وان 50% من الضرر قد وقع فعلا خلال العقود الثلاثة الماضية وأنه في المستقبل القريب سوف تفقد 40 دولة احتياجاتها من الماء
وتظهر صور الأقمار الصناعية للمناخ في أوربا الشرقية كتلا كثيفة سوداء من الغازات والأتربة الصناعية تنتشر فوق مصانع ألمانيا الشرقية وتشكوسلوفاكيا وتغطي بولندا بأكلها ،وفي بولندا بالذات كل شيء مسمم : الجو والتربة والماء
وتتعرض أوربا الغربية أيضا وخاصة في المناطق السياحية بجبال الألب لأزمة بيئية نتيجة للأمطار الحمضية والتلوث النووي من تشرنوبل
وفي بريطانيا هناك نسبة تلوث عالية من الـ 1900 مصنع على أراضيها فأحد هذه المصانع يبعث ب ثمانية أطنان من ثاني أكسيد الكبريت يف الجو يوميا وه ما يزيد عشر مرات عن المعدلات المسموح بها
ووفقا لهذه التقارير فغن قارة أفريقيا لم تعد نصلح للحياة بسبب التلوث والجفاف وأن خمسين مليونا من البشر يعيشون في أراض متصحرة تهددهم المجاعات كل عام ، وأن القحط في أفريقيا ينتشر بمعدل 2,3 مليون متر مربع سنويا
ويقول تقرير أصدره مجلس السوفييت الأعلى أن شخصا من بين كل خمسة أشخاص بالاتحاد السوفيتي يتنفس هواء يحتوي على نسبة من الكيماويات الخطيرة تزيد عشر مرات عن الحد الأقصى المسموح به ، وان 600 مدينة سوفيتية نصحت مواطنيها بشرب المياه المعبأة
وفي الصين كلما هبت الرياح فوق المدن الصناعية انتشر دخان أحمر وأسود ليغطي الأراضي والسلطات هناك تواجه مشكلات رهيبة في مواجهة التلوث بإمكاناتها المحدودة .
وفي الولايات المتحدة مازالت الدولة تواجه مشكلات بيئية خطيرة ففي مائة مدينة يصل الدخان في الجو إلى نسب تزيد عن المسموح به ، مما يزيد من نسبة الإصابة بالسرطان ، كما أوقفت 2000 سفينة شحن في نهر المسيسبي بعد أن انخفض مستوى النهر عشرة أمتار
ويقول الباحثون إنه في العاصمة المصرية أصبح مجرد تنفس الهواء خطرا يهدد الحياة وهو لا يقل خطورة عن تدخين علبتي سجائر يوميا . )
الأهرام { مايو 1992}
( الكرملين يكذب : ممنوع الكشف عن تلوث الطعام بإشعاعات تشيرنوبل
قبل ست سنوات وفي شهر مايو 1986 وقعت كارثة تشيرنوبل الشهيرة – وبمناسبة ذكرى هذا الحادث الأليم كشفت صحيفة " ازفستيا " الروسية عن تفصيلات جديدة أوضحت أن الحزب الشيوعي قد طالب وسائل الإعلام ووزارة الصحة بعدم الإفصاح عن الحجم الحقيقي للكارثة وعدد الضحايا وما كان من وزارة الصحة إلا أن أعدت ثلاثة تقارير يختلف كل منها عن الآخر باختلاف الجهات التي اهتمت بهذه الواقعة .(/7)
وفي الثاني والعشرين من شهر أغسطس عام 1986 أصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي قرارا بعد إعدام المواد الغذائية التي تأثرت بالمادة الإشعاعية الناتجة عن انفجار محطة تشيرنوبل ومنها اللحوم والألبان ، وطالبت بخلطها مع المنتجات الصحيحة الأخرى بنسبة واحد لعشرة .. لذلك أمكن تسريب هذه المنتجات في الفترة ما بين 1986 – 1989 إلى الأفراد وقدرها 47 طنا من اللحوم و 2 مليون طن من الألبان الملوثة بالإشعاع في معظم الجمهوريات والأقاليم السوفييتية باستثناء موسكو .
وصرح أحد الخبراء في ذلك الوقت " بكل فخر " أنه قد أمكن تحصيل واحد وسبعين مليار روبل من بيع هذه المواد " الفاسدة " رغم الكارثة ، وتشير الصحيفة إلى أن الاقتصاد الروسي كان سيتحمل ما بين 180 إلى 200 مليار روبل في حالة عدم تسريب هذه المواد الفاسدة للبيع والتجارة بالإضافة إلى تحمل نتائج الانفجار الذي وصف بأنه يماثل انفجار ثلاثمائة قنبلة ذرية مثل التي ألقيت على هيروشيما
وتقول صحيفة الفيجارو الفرنسية التي نشرت تقارير زميلتها الصحيفة الروسية أن مثل هذه الحقائق لم يكن مقدرا لها الظهور إلا بعد سقوط الحزب الشيوعي وأمكن الاطلاع على الملفات السرية التي كانت تخفي حقائق كثيرة )
الأهرام 4\12\1991 : من كلمة الكاتب أحمد بهجت في " صندوق الدنيا "
( الحرب البيولوجية
سألت الدكتور محمد صادق صبور أستاذ الأمراض الباطنية بجامع عين شمس عن حقيقة الحرب البيولوجية ومتى بدأ الإنسان في استخدامها فقال :
لعل أول استخدام للأسلحة البيولوجية جاء حوالي 300 سنة قبل الميلاد أثناء الحروب بين الفرس والرومان عندما كانت الجيوش تلوث مياه الآبار الصالحة للشرب قبل انسحابها
وجاء ذكرها في العصور الوسطى عندما كان الروس يقذفون أجسام ورءوس المرضى فوق أسوار المدن التي يحاصرونها ويستعصي عليهم دخولها لنشر الأوبئة داخل هذه المدن المحاصرة
وتبدا المرحلة الوسطى من الحرب البيولوجية عام 1763 وتمتد حتى 1925 ، فقد عثر على خطابات كتبها ضابطان فرنسيان مع قائدهما البريطاني أثناء قتالهم للهنود الحمر عام 1763 ، وكان المقاتلون من سكان أمريكا الأصليين قد أوشكوا على دحر الغزاة الأوربيين ن وفي هذه الخطابات يستأذن الفرنسيان لتلويث البطاطين والمناديل ببثور المصابين بالجدري وتركها في الخيام قبل انسحابهم منها ليدخلها المقاتلون من الهنود الحمر ويحصدهم الجدري ، وقد أعطى لهم قائدهم الإنجليزي الإذن للقيام بهذا العمل ، وهذه الخطابات محفوظة بالمتحف الأمريكي الذي أنشأته الجمعية الأمريكية الميكروبيولوجية بواشنطن منذ عشر سنوات ، وتعتبر أقدم الوثائق بهذا المتحف
وقد استخدم الأمريكيون نفس هذه الوسيلة في حربهم ضد الإنجليز سنة 1776 في حرب التحرير وتأسيس الولايات المتحدة ، وفي عام 1915 استخدم الألمان ميكروب الكوليرا ضد القوات الإيطالية
وأثارت هذه الأسلحة السخط بين الأوربيين وقرروا حظر استخدام الأسلحة البيولوجية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووقعوا معاهدة جنيف سنة 1925 ولم توقعها أمريكا
بعد ذلك بدأت المرحلة الحديثة من الحرب البيولوجية )
الاتحاد الأماراتية 16\4\1981
( طائرات حربية وسفن مسلحة لتهريب المخدرات
عصابات المافيا تتسلح بأحدث الأسلحة ..
إلى جانب الاغتيالات وعمليات الاختطاف المستمرة والنهب والسرقات المسلحة التي تعصف بمجتمعات الغرب الأوربي فإن ظاهرة تعاطي المخدرات وخاصة في أوساط الشباب صارت تشكل خطرا حقيقيا يواجه تلك المجتمعات ويهدد بنيتها بالتصدع والانهيار ..
إن تلك العصابات تمتلك الطائرات والسفن الحربية وأجهزة الرصد والمراقبة الحديثة هذا إلى جانب الإعداد والتدريب والتسليح الكامل لأعضائها الذين يقومون بتلك المهمة الخطرة في مواجهة أجهزة الأمن ن وفرق مكافحة المخدرات المختلفة التي تعترض طرقهم . )
الخليج 16\11\1992
من مقال : إبراهيم محمود علي \ دبي
( حقائق مذهلة حول زراعة المخدرات في كولومبيا
تعتبر دولة كولومبيا مثالا صارخا على خطورة المخدرات على الصعيد الدولي …
المخدرات بملايين الأطنان وأثمانها بالمليارات ومزارع شاسعة للكوكايين ومصانع وقصور ويخوت وجيوش نظامية وأساطيل وطائرات ومطارات خاصة وشبكة اتصالات وكتائب تدعي فرق الموت مدربة على الاغتيالات ولا يعييها الوصول حتى لأكبر رأس ، وقد قتل كارلوس جالان وهو مرشح للرئاسة فقد أطلق عليه وابل من الرصاص وهو يلقي خطابا وسقط مضرجا بدمه أمام آلاف المستمعين ، ولا تعجز هذه العصابات عن تجنيد أكبر رأس أيضا فقد كان رئيس بنما السابق متورطا في تجارة المخدرات … وهناك عدد كبير من الطائرات الخاصة ببارونات المخدرات تقوم بنقل الكوكايين من كولومبيا إلى الولايات المتحدة وأوربا ويقودها أمهر الطيارين في العالم ..(/8)
وبارونات المخدرات توفرت لهم من الإمكانيات ما لا يتوفر لدول ذات سيادة وتفوق ثرواتهم ميزانيات دول غنية .. ويعمل في خدمتهم ستون ألف مقاتل وعشرة آلاف مزارع وخمسة وعشرون ألف عامل في معامل الكوكايين وخمسة آلاف عامل في الكوكايين بالإضافة إلى خبراء مختصين في الشئون العسكرية والاتصالات والصيدلة والزراعة والهندسة الوراثية .
والأراضي المزروعة بالمخدرات تفوق مساحتها مساحة بعض الدول …
وطابور العملاء يشمل الوزراء والمرشحين للرئاسة وضباط الجيش والشرطة والجيش والمخابرات …
وتجار السلاح يزودون الحكومة بأسلحة فاسدة وبارونات المخدرات بالأسلحة الجيدة …
وفي إسرائيل أكثر من 800 شركة تتولى تصدير الأسلحة الإسرائيلية إلى السوق السوداء بالإضافة لتصدير المدربين العسكريين إلى أعمال الإرهاب وحرب العصابات …
وغذا تجرا احد على الإبلاغ عن بارونات المخدرات فالانتقام الكولومبي في انتظاره ، وهو تعريف شائع يعني : أن فرق الموت تقتل الذين ابلغوا عنه ، بعد ان يقتلوا بالترتيب : أمه ثم اباه ثم أبناءه ، ثم إخوته ، ثم أقاربه .
ولكل جريمة تسعيرة كتسعيرة السلع الاستهلاكية ،وإذا كان السجين من رجال البارونات يخرج من السجن بمكالمة تليفونية فالشرطة يقبضون رواتب شهرية من البارونات ، وإذا لم يكن السجين من رجال البارونات ولا يملك ثمن خروجه فقد تذهب أمه أو أبوه لاستعطاف أحد البارونات فيتصل البارون ويأمر بإخلاء سبيله وتقييد المبلغ المطلوب على حساب البارون ..
وقد حلت زراعة الكوكا محل زراعة البن في جزء كبير من المزارع الكولومبية والولايات المتحدة تستورد الاثنين ، وقد سئل مزارع عن سبب زراعته الكوكا بدلا من البن فقال : إنني أصدر كمية من الكوكايين بخمسمائة دولار ونفس الكمية من البن بدولار واحد فأيهما أزرع .
وفي تصريح رسمي لدونالد هاملتون رئيس مكافحة مخدرات أمريكا اللاتينية في واشنطن قال المسئول الأمريكي : إن بارونات الكوكايين أقاموا قواعد لهم في أسبانيا ، وهولندا ونقلوا أحد معامل تصنيع الكوكايين إلى أسبانيا ، وذلك لتوزيع الكوكايين في أوربا وهم الآن قادمون إلى الشرق الأوسط وخاصة دول الخليج . )
الأهرام 1992 { في اليوم السابق على مناسبة الاحتفال بمرور 45 عاما على صدور قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين }
( المجتمع السري لإرهاب المافيا .
المافيا اسم يطلق على عصابات الجريمة المنظمة التي ظهرت في صقلية وإيطاليا لأول مرة عام 1657
وبدأت هذه العصابات في الانتشار وذيوع صيتها منذ ذلك الحين وحتى الآن ، وإن كانت على هذا المدى الزمني الطويل تطورت واتخذت أشكالا وصورا غير تقليدية لتصبح وفقا لوصف التحقيق الواسع الذي أجرته مجلة الاكسبريس الفرنسية أخطر ما يواجه الأمن الفرنسي بصفة خاصة والأوربي بصفة عامة
وتكشف المجلة بالوقائع والخرائط الحجم المتضخم الذي بلغته هذه العصابات والتي تعد في الواقع عائلات تنتمي بعضها لبعض بحكم صلة النسب والقرابة ، وتمتد هذه العائلات من صقلية إلى الولايات المتحدة إلى أمريكا اللاتينية إلى كندا مرورا بالدول الأوربية لتكون شكلا هندسيا أخطبوطي الأضلاع حيث وفقا لدستور هذه العائلات يتم تبادل المعلومات والمصالح والتسهيلات وتيسير العمليات الإجرامية التي تشمل كل أنواع الجرائم تجارة الأسلحة والمخدرات والاغتيالات والرقيق الأبيض .
وترى المجلة أن نفوذ هذه العصابات أصبح من الخطر بمكان إلى حد بلغ أن يتولى المناصب والمواقع الحساسة إما أعضاء منهم أو شخصيات تم شراء ولائها ، وارتبطت مصالحها بمصالح هذه العصابات
وفي تطور شديد الغرابة تؤكد المجلة أن نفوذ عائلة من عائلات المافيا الشهيرة والتي تبلغ 142 عائلة على رأسها عائلة كوسا نوسترا الصقلية – وصل إلى حد شراء مساحات شاسعة من أراضي صقلية واتخاذها على شكل قلاع يتم فيها تدريب وإعداد أعضاء العائلة الجدد من الصغار وحديثي السن تحت سمع وبصر البوليس والسلطات الإيطالية حيث نغض الطرف عن هذه الأنشطة الإرهابية بعد أن أحكمت هذه العائلة سيطرتها على مقدرات الأمور إما بالاغتيالات لكبار القضاة ورجال النيابة أو السياسيين وإما بالرشوة وتجنيد صناع القرار لحسابها.
وعن هذا المجتمع السري يوضح التحقيق أن هذه العائلات معدة بحيث تدار بقوة الدفع الذاتي في حالة الغياب المؤقت أو الدائم برئيس أو زعيم العائلة .
وأن هذا المجتمع ذو تسلسل في الشخصيات وأدوار محفوظة ومرسومة بدقة وعناية وأن هذا المجتمع يعد كيانا شديد التماسك يتحرك في إطار من الدقة والإحكام حيث لا يترك شيئا للمصادفة أو الاختيار .
وأن الصغار يعدون منذ نعومة أظفارهم على الطاعة والولاء والامتثال للأوامر والاستعداد للقيام بالمهام التي توكل لهم ، وان ذلك الإعداد يتم في إطار قواعد صارمة حتى لا تتعرض العائلة للانقلاب في حالة اختفاء أي فرد بسبب القتل أو الاعتقال .(/9)
والتطور الذي كشف عنه هذا التحقيق هو أن الجيل الجديد من عصابات المافيا لم يعد من القتلة والمجرمين التقليديين بل إن معظمهم من خريجي جامعات هارفارد وإكسفورد وغيرهما من أكثر الجامعات احتراما ويحصلون على شهادات في مختلف التخصصات تمكنهم من الوصول إلى أعلى المواقع والمراكز وذلك التطور يسير جنبا إلى جنب مع المسار التقليدي لهذه العائلات للسيطرة على مقدرات الدول اقتصاديا وماليا عن طريق شراء البنوك ، والشركات والمصانع الكبرى مما يتيح لهم حركة توجيه المسار الاقتصادي لهذه الدول . وبالتالي السيطرة السياسية التي تسمح لهم بإسقاط الحكومات أو على الأقل إرهابها .
واشهر الأمثلة التي قدمها التحقيق حول عائلة نوسترا التي انتقمت من أحد أعضائها بعد خيانة لها بأن أبادت أسرته من أطفال وأعمام وأخوال وكل من هو على صلة نسب بهذه الأسرة ، حيث بلغ عدد ضحايا هذه العملية الانتقامية 46 فردا وطفلا ، ثم قامت بقصف المنازل والأحياء التي كانت تضم هذه الأسر في اعنف عملية إرهابية تقوم بها عائلة مافيا في خلال العامين الماضيين.
وفي ظل هذا التنامي المخيف لهذه العائلات من ذات الصلات المتشابكة والمعقدة على امتداد دول العالم التي دخلت في نطاقها تركيا اقتنت هذه العائلات احدث أنواع التكنولوجيا من أجهزة التنصت والتجسس وأحدث أنواع الأسلحة ، والجديد والمذهل في عالم الإرهاب ، وبذلك تحولت من عصابات تقليدية إلى عصابات عالية الكفاءة والتدريب ، مستعدة لمواجهة أي حرب ضدها ، وتتصاعد المخاوف في ظل هذه القوة الكاسحة لهذه العصابات بعد أن أصبح وجودها في داخل فرنسا وألمانيا وسويسرا وهولندا وجودا لا يستهان به والتي لم يعد من الممكن تطويقها خاصة مع اقتراب يناير 1993 حيث تفتح الحدود بين دول أوربا الاثنتي عشرة بمقتضى اتفاق توحيد أوربا ورفع حواجز الحدود .
إن جيل عائلات المافيا الجديد صار من الشخصيات البارزة أو على الأقل على صلات متميزة مع الشخصيات الحساسة ، وأصبحت سيطرتهم أمرا لا يقبل الشك أو النكران .)
الخليج 11\11\1997
( كينيدي .. زير نساء وصل إلى السلطة بمساعدة المافيا
كشف كتاب جديد عن حياة الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي أنه كان على صلة بعصابات المافيا اتي ساندته للوصول إلى السلطة ، كما أنه كان شرها للغاية نحو النساء ، وزعم الكتاب " الجانب المظلم لكيلموث " لمؤلفه الصحافي الأمريكي سيمور إم هيرش ان المافيا هي التي رجحت فوز كينيدي في انتخابات الرئاسة عام 1960 ، وبمجرد وصوله لكرسي الرئاسة رفض شقيقه المحامي روبرت كينيدي فتح باب التحقيقات في الأدلة التي قدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي " إف . بي.آي " حول وقوع تلاعب في نتائج الانتخابات الرئاسية لكن أبرز ما زعمه المؤلف – الذي حصل على جائزة بوليتزر للصحافة – حول علاقات كينيدي هو تعرفه على صديقة " جيانكا " أحد زعماء المافيا . وكان الشقيق الأكبر لكينيدي جوزيف هو الوسيط في الاتصال بالمافيا وهو الذي أقنع الممثل فرانك سيناترا بأن يلعب دور الوسيط بين جون كينيدي وزعيم المافيا جيانكا خلال حملة الرئاسة عام 1960 )
الأهرام في 17\11\1992
( صيحات الغضب في كنيسة انجلترا : منصب القسيس للرجال فقط
توالت ردود الفعل الغاضبة من قبل الجناح المحافظ في كنيسة انجلترا إثر القرار التاريخي الذي اتخذته يوم الأربعاء الماضي بالموافقة على أن يصبح من حق النساء تولي منصب القسيسين ، وذلك منذ المرة الأولى منذ انفصالها عن البابوية في روما في أواخر القرن السادس عشر ، ولقد حذر الجناح المحافظ الذي خسر التصويت على هذا القرار بفارق ضئيل للغاية من أن هذا القرار يهدد وحدة الكنيسة بحيث إنها من الممكن ألا تصبح ممثلة لكل انجلترا ، ولقد بدأت مظاهر الشقاق تطفو على السطح بالفعل حيث هدد عدد من قادة الكنائس الرئيسية بالانفصال عن الكنيسة الأم التي تضم مختلف الكنائس في المملكة المتحدة )
الاتحاد – وربما الخليج – 21\12\1997
( ازدهار تجارة الرقيق في اوربا
اهتم تقرير أعدته نائبة أوربية بعض الجهات بالوقوف وراء تصاعد ظاهرة المتاجرة بالرقيق في بلدان الاتحاد الأوربي
وذكر التقرير أن حجم هذه التجارة وصل إلى خمسمائة ألف فتاة وامرأة يجلب معظمهن من دول الاتحاد السوفيتي السابق
ورفعت النائبة عن حزب العمال البريطاني سوزان واديكسيت إلى البرلمان الأوربي تقريرا عن ذلك يبين تصاعد حجم تجارة الرقيق خلال سنة واحدة فقط بمقدار الضعف تقريبا علما أن الحجم الفعلي لهذه الممارسة لا يزال خفيا
ونظرا إلى كون العقوبات المفروضة على تجارة المخدرات أقسى بكثير من تلك التي يتعرض لها المتاجرون بالرقيق يتحول عدد متزايد من العقوبات الدولية إلى التجارة بالرقيق
وقد رفع نواب المجلس الأوربي بعد مناقشة هذه المشكلة طلبا إلى وزراء الداخلية والعدل في دول الاتحاد الأوربي من أجل اتخاذ الإجراءات الملحة والكفيلة بكبح جماح المتاجرين بالرقيق )(/10)
تم إلحاقه بمقال العنصرية
الأهرام { مايو 1992}
( الشمال الغني يشتري الأطفال من ألبانيا وكمبوديا ورومانيا
تم تهريب أكثر من مائة ألف طفل روماني خارج الحدود من خلال شبكات متخصصة في تلك التجارة غير الإنسانية مستغلة الأوضاع المتردية في البلاد ن هؤلاء الأطفال اتجه معظمهم للولايات المتحدة وكندا وأوربا الغربية والغريب والمؤلم في نفس الوقت أن العديد من هؤلاء الرضع تم بيعهم مقابل بضائع وأجهزة مثل الثلاجات وأجهزة الفاكس .
وتضع كل من حكومتي ألبانيا وكمبوديا نموذج رومانيا وما حدث لأطفالها من عمليات تهريب وبيع خلال العامين الماضيين عقب ثورة عام 1989 نصب أعينها .
أما دول امريكا اللاتينية فإنها ما زالت تعاني من تلك الظاهرة غير الإنسانية وبشكل مخيف حيث يتم اختطاف الأطفال من ذويهم وشحنهم كالحيوانات ليباعوا للشمال الغني ) تم إلحاقه بمقال العنصرية
الأهرام 17\2\1990
( سويسرا تغسل اكثر بياضا
كتاب جديد بعنوان " سويسرا تغسل اكثر بياضا " لمؤلفه جان زجلر أستاذ علم الاجتماع بجامعة جنيف والنائب السابق في البرلمان السويسري أثار ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والاقتصادية الأوربية نظرا لما يكشفه من دور للبنوك السويسرية في غسيل الأموال المخدرات الواردة من جميع أنحاء العالم ويؤكد أن سويسرا أصبحت عاصمة غسيل أموال المخدرات في العالم والتي يقدر المؤلف ارباحها بخمسمائة مليار دولار
ويقول زجلر أن البنوك السويسرية تقبل سنويا مليارات الدولارات الناتجة عن تجارة المخدرات وتخرج هذه الأموال بعد ذلك في صورة استثمارات عقارية في باريس ونيويورك أو تظهر في بورصات طوكيو ولندن وشيكاغو ، كما تستخدم في فتح اعتمادات طويلة الأجل لشركات دولية كبرى فوق مستوى الشبهات
ويشرح الكتاب التواطؤ الواضح للقائمين على البنوك السويسرية حيث تقبل هذه البنوك في حساباتها ملايين الدولارات يحملها أشخاص مجهولون في حقائب سفر يدخلون بها إلى البنوك فتقبل هذه الأموال السائلة دون سؤال عن مصدرها .. بل إن البنوك السويسرية الكبرى لها أفرع بصالات الترانزيت في مطارات مدن سويسرا الكبرى مما يتيح إيداع أية مبالغ في هذه البنوك قبل المرور بالجمارك أو حتى بشرطة الميناء الجوي . )
الخليج 30\12\1995
( غسيل الأموال على أجندة الهموم الدولية
750 مليار حجم تجارة الممنوعات
… وخطورة هذه الأموال أنه في تحركها تحت واجهات مشروعة " شركات ومرافق خدمات " تخلق تحالفا سريا بين أرباب الجريمة المنظمة وبعض قطاعات المال والأعمال . ..
إن صور الجريمة المنظمة ومنها غسيل الأموال أصبحت تكتسب شرعية دولية في ظل التقدم الهائل الذي تشهده الآن النظم المالية والمصرفية والألكترونية العالمية .. )
الخليج 26\12\1995
( ثمن الطفل الروسي جهاز كمبيوتر
تأتي روسيا على رأس الدول التي تتزايد فيها جرائم بيع الطفل ذكرت ذلك صحيفة " أرجو مينتي آي فكتي " الروسية أمس الأول ونقلت الصحيفة عن ف . تيرغينيا رئيس قسم الطفولة بوزارة الخدمة الاجتماعية قولها إن عيادات الولادة الخاصة التي ظهرت في أوائل التسعينات كانت تبيع الأطفال لمن يرغب في التبني مقابل مائة ألف روبل للطفل وأن هناك حالات كثيرة كان المسئولون في هذه العبادات يقدمون الأطفال التي تمتنع أمهاتهم عن أخذهم عقب الولادة كهدايا ثم ظهرت بعد ذلك الشركات التي تبيع الأطفال لمن يرغب في تبنيهم في الخارج
وذكرت الصحيفة الروةسية أنه تم في مدينة ساراتوف وحدها بيع سبعين طفلا رضيعا ، وفي فوردنيج يبلغ الحد الأدنى لسعر الطفل المباع لأمريكيين 160 ألف دولار في حين باعت شركات أطفالا إلى أمريكيين مقابل أجهزة ألكترونية وكمبيوتر
وقالت الصحيفة إن المؤسسات الصحية تلجأ في بعض الأحيان إلى إيهام الوالدين بأن الطفل في حالة صحية الأحيان إلى إيهام الوالدين بأن الطفل في حالة صحية خطيرة حتى يتركاه بمستشفى الولادة ثم تقوم هذه المؤسسات ببيع الأطفال بعد ذلك .. مشيرة إلى أن أطباء إيطاليين اكتشفوا حالات التزييف بعد الكشف على الأطفال الذين بيعوا إلى إيطاليين ومعهم شهادات طبية بأنهم في حالة صحية خطرة لكن الكشف أثبت أنهم في حالة جيدة .
وأضافت الصحيفة أن عملية البيع تنتهي باستخدامهم كعبيد وفي ترويج المخدرات فيما يتم إجبار الفتيات على ممارسة البغاء ) تم إلحاقه بمقال العنصرية
الاتحاد 28\12\1989
( حكاية رجل سرقوا عينيه(/11)
سافر الفنزويلي فرويلين جيمينز 43 عاما إلى عاصمة بلاده كراكاس باحثا عن عمل ونزل ضيفا على بعض أصدقائه وفي المساء ذهب إلى حانة قريبة وشرب كثيرا إلى أن غاب تماما عن وعيه وفي الصباح وجد نفسه في مركز لرعاية المشردين وعندما أفاق من سكرته تحسس وجود عصابة على عينيه وهنا ناداه أحد الأشخاص بصوت ودود أنها عملية بسيطة وستكون بخير ونصحه بعدم نزع العصابة .. ولكن أحد أصدقائه وكان من العاملين في المركز أبلغه بالنبأ المحزن وقال له لن تبصر أبدا لقد نزعوا عينيك من محجريهما وبسرعة نزع فرويلين العصابة عن عينيه ولكن كانتا بدون مقلتيهما وصرخ لقد سرقوا عيني وانفجر باكيا ..
ويشار في هذا الصدد إلى أن تجارة الأعضاء البشرية تشهد رواجا كبيرا في دول أمريكا الجنوبية وتديرها عصابات منظمة ولها من القوة والنفوذ بحيث تستطيع إسقاط الحكومات ، والفارق الوحيد في حالة فرويلين أنه صرخ ووجد من يسمعه ، أما الآخرون فتعج بهم الطرقات)
الخليج 10\12\ : 1993 من تحقيق منى الحسيني
( تنظيم المجاعة في أوكرانيا .
هلاك أكثر من سبعة إلى عشرة ملايين نسمة عام 1933 بسبب المجاعة التي نظمها ستالين ضد شعب أوكرانيا
لفهم الأسباب الحقيقية للمجاعة فقد اضطر الاتحاد السوفيتي خلال الأعوام من 1930 –1933 إلى تصدير كميات هائلة من الخبز للحصول على العملة الصعبة الضرورية لتصنيع البلاد كطريق وحيد للنهوض باقتصادها .
…
لقد سرد بالتسكي- رئيس الدائرة السياسية للحزب الشيوعي الأوكراني – في سجنه بعض أسرار المجاعة قائلا : " كانت الدائرة السياسية الرئيسية تقوم بتسجيل إحصائيات الموتى جوعا .. فقد بلغ عددهم خلال الأشهر الأربعة الأولى مليونين و420 ألف نسمة وعدد آكلي لحوم البشر 2500 حالة . أما من إبريل 1933 فصاعدا توقفت عمليا الإحصاء لأنها أصبحت عمليا مستحيلة ، ولم تستطع الدائرة السياسية الرئيسية بكل العاملين بها أن تلاحق تسجيل الوفيات . فمنذ بدايات إبريل 1933 حتى نهاية العام شهدت أوكرانيا أبشع أيام تاريخها . لقد عاش السكان على ما تسنى لهم إخفاؤه من الخبز عن السلطات ، ثم شرعوا في التهام الكلاب والقطط والعصافير والجرذان ، وكانت أعداد غفيرة تزحف على بطونها للبحث عن البطاطس والشمندر في الحقول التي كانت مغطاة بالثلوج حتى ذلك الوقت .
جمعت رائيسا سوكولوفسكايا في كتابها " مجاعة عام 1933 ذكريات من بقوا على قيد الحياة بعد المجاعة ، وتقول الكاتبة في حديث خاص للخليج : " بدأ الأطفال يموتون بشكل جماعي ثم تلاهم المرضى والمسنون ، ثم أعداد غفيرة ، حتى بدا كأن الشعب الأوكراني كله سينتهي أثره . كان الناس ينقرضون بكامل عائلاتهم فلا يبقى منهم أحد . وكانوا في البداية يفقدون عقولهم من الجوع ثم ينتفخون …"
وطبقا للإحصائيات " المتحفظة " بلغ عدد ضحايا المجاعة في أوكرانيا عام 1933 سبعة ملايين و 200 ألف نسمة ، وهناك تقديرات أخرى تشير إلى عشرة ملايين نسمة .
ولعله من المهم أن نعرف أنه لم تفقد دولة من الدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية هذا العدد المروع من السكان المدنيين إنما فقدته أوكرانيا بسبب الرقيق ستالين .
…
والسؤال هو : هل كان من الممكن وقف المجاعة وبخاصة بعد أن أصبح واضحا للسلطات السوفيتية أن عناصر الكولاك والعناصر الأخرى غير الكادحة والقرى في اوكرانيا قد قهرت؟ ولو من أجل الحفاظ على البشر كقوى عاملة وعلى تنظيم نظام الكلخوزات ؟
نعم كان هناك من الخبز في مستودعات الاتحاد السوفيتي ما يكفي ، وطوال فترة المجاعة كان الاتحاد السوفيتي يصدر الحبوب إلى الخارج …..
لقد كانت الجثث مبعثرة في شوارع أوكرانيا ، لأنهم عشرة ملايين إنسان ، فأين سيخفيهم القائد ولو منع الحديث عنهم ؟ ، وبرغم بشاعة الوضع إلا أن ديكتاتورية ستالين حققت هدفها فلم يظهر سطر واحد في أي صحيفة من صحف الاتحاد السوفيتي عن المجاعة التي حولتها وسائل الإعلام إلى حماس الكلخوزات السوفيتية في العمل والانتصار ضد الأعداء الطبقيين الكولاك!!)
الأهرام 14\4\1990
( بعد خمسين عاما .. موسكو تعترف بقتل 15 ألف بولندي
لأول مرة منذ 45 عاما اعترف الاتحاد السوفيتي أمس بمسئوليته عن مذبحة كاتين التي راح ضحيتها خمسة عشر ألف ضابط ومواطن بولندي وقد ذكر راديو موسكو في إذاعته لهذا الاعتراف الصريح أن قوات البوليس السري السوفيتية هي التي ارتكبت هذه المذبحة في عام 1940 في منطقة كاتين بغرب الاتحاد السوفيتي … وكانت السلطات السوفيتية تصر في الماضي على أن القوات النازية هي التي ارتكبت هذه المذبحة )
الأهرام 25\1\1990
( بعث القوميات يتحدى أمريكا(/12)
يؤكد الكاتب الصحفي الأمريكي ويليام باف في كتابه الجديد " صحوة العالم القديم نحو نظام عالمي جديد " : إن الامبراطورية الأمريكية مثلها مثل الاتحاد السوفيتي مهددة في الوقت الحالي بالانهيار السريع حيث إنها لم تكن سوى ثمرة تسرع ومحاولة اقدم عليها الأمريكان نتيجة إحساس متزايد بعظمة حضارتهم وقوميتهم ..
فالهزات العنيفة التي تعرضت لها الولايات المتحدة بداية بحرب فيتنام ثم الثورة الإسلامية في إيران وتدهور العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية دليل قاطع على تزايد الشعور القومي في تلك البلاد . وظهور نظريات ومعتقدات جديدة تتواءم مع العقائد والثقافات التي تتميز بها كل أمة على حدة مما يتناقض في الوقت نفسه مع الرؤية الأمريكية التي تقوم على أساس اتباع المثال الأمريكي .. ) تم إلحاقه بمقال عن القومية
الخليج 12\12\ 1995
( عباقرة ولكن لصوص
بعض العباقرة الذين يتحدث العالم عن عبقرياتهم بما يشبه الانبهار لم يكونوا عباقرة على الإطلاق وإنما أناس عاديون سرقوا عبقريات غيرهم ونسبوها لأنفسهم وبدوا أمام الناس في جلود غير جلودهم ، وثياب غير الثياب التي يرتدونها .
وحتى الآن ما يزال الناس يعتقدون أن صموئيل مورس هو الذي اخترع إشارة مورس التي تحمل اسمه ، بينما يقول المؤرخون أن مورس لا علاقة له بهذه الإشارة التي فتحت أمام العالم عصر اللاسلكي ومخترعها هو مساعده ألفريد فيل .
وقد كافأ مورس مساعده فيل بتعيينه في منصب قيادي في عالم الاتصالات لكي يضمن سكوته
وعندما حاول مورس تسجيل اختراعه في أوربا والحصول على براءة اختراع ، وجد صعوبة في ذلك ، فقد اكتشف أن الأوربيين سبقوه إلى الاختراع بسنوات . وأن السير تشارلز ويتسون وشريكه ويليام كوك يمتلكان شبكة التلغراف في لندن منذ عام 1840
ويقول المؤرخون إن تشارلز ويتسون ساهم في تطوير الفونوغراف الذي يعتقد الناس أن توماس أديسون اخترعه عام 1877 .. أما المخترع الحقيقي للفونوغراف فهو ليون سكوت دومار تينفيك الذي ابتكر جهازا أطلق عليه اسم الفونوغراف ولم يكن هذا الجهاز يعمل بإبرة وإنما وكل ما هنالك هو أن أديسون استغل علاقته في مكتب تسجيل الاختراعات وسجل الاختراع ، باسمه ، ولم يستطع دومار تينيفيك أن يفعل شيئا
ونفس اللعبة لعبها اديسون بالنسبة للمصباح الكهربائي .. ويقول المؤررخون إن المصباح الكهربائي من اختراع شخص بريطاني اسمه السير جوزيف سوان ، وقد توصل إليه عام 1878 ويقول المؤرخون إن أديسون سمع بخبر هذا الاختراع وسارع إلى إنشاء شركة للتصنيع الكهربائي وبدأت الشركة بالعمل في أكتوبر 1880 أي قبل شهر واحد من حصول سوان على ترخيص لإنشاء شركته التي أطلق عليها اسم " شركة سوان للمصباح الكهربائي " وسجل الاختراع باسمه، ولو عاد أديسون وسوان إلى الحياة هذه الأيام لشعرا بالذهول من الثورة التي أحدثها المصباح في حياتنا وسلوكياتنا
ويقول المؤرخون إن أليشاجراي وليس جراهام بل هو الذي اخترع جهاز الهاتف ، وعندما ذهب إلى تسجيل اختراعه في مكتب براءات الاختراعات وجد أن ألكسندر جراهام بيل سبقه إليه بثلاث ساعات .
ويقول المؤرخون إن الكسندر جراهام بل كان يسعى في مختبره إلى تطوير جهاز كهربائي للصم وتشاء الصدف أن يسكب بيل بعض الأسيد على الجهاز دون قصد منه ، فنادى على مساعده جراي يلتمس منه المساعدة فسمع جراي صوت بيل عبر قطعة من المعدن موصولة بمغناطيس مثبت بشريط إلى زجاجة الأسيد التي سكبها بيل . )
الخليج 31\1\1994 : من مقال إلياس سحاب
( اخلاقيات القرن العشرين
.. لكن نظرة تحليلية استرجاعية للمحطات الرئيسية في القرن العشرين تؤكد أن هذا القرن بالذات قد انتج علاقة عكسية بين التقدم العلمي والتقدم الحضاري – الأخلاقي ، حتى يمكننا أن نقول إن أحداث القرن العشرين قد جاءت تؤكد أنه كلما حققت البشرية تقدما علميا يتيح لها مزيدا من السيطرة على قوى الطبيعة راحت تمارس زهوها بهذه السيطرة على حساب القيم في حركة انحدار خلقي إلى أسفل .(/13)
….لقد ابتكرت الحضارة الغربية الحديثة … سلوكا في الحياة الفردية والاجتماعية والبشرية الدولية جوهره التزييف الكامل لكل القيم النبيلة والرفيعة التي راكمتها الحضارة البشرية العامة منذ اقدم العصور وحتى يومنا هذا ، أي منذ بدأ الإنسان أول مرحلة في الترقي والتمدن ، وصولا إلى القرن العشرين ، وهو سلوك يغلب الشكل على المضمون ، ويقيم معيارا لقياس حضارة أي فرد وأي مجتمع وأي شعب قوامه الشكل الخارجي للسلوك بغض النظر عن جوهر هذا السلوك ، بل حتى لو كان جوهر هذا السلوك مناقضا لكل القيم والمثل الحضارية ، فليس مهما أن تقتل إنسانا ، المهم أن تكون عندما تمارس عملية القتل نظيف الجسد والملابس هادئا مبتسما رقيق الخطو ، ولا بأس من أن تكون مرتديا لقفازات حريرية ، والأفضل أن يكون المسدس الذي تقتل به كاتما للصوت ، حتى لا يزعج صوته أحدا ، فإذا أمنت لنفسك كمل هذه المظاهر الحضارية الشكلية فأنت إنسان متحضر . صحيح أنك قاتل ولكنك قاتل متحضر .
….
وما قصص المافيا والفساد والرشوة وتجارة السلاح الدولية وتجارة المخدرات سوى نماذج صارخة وحية على هذه الأزمة ، وما قصص جمعيات الرفق بالحيوان التي تزدهر في مجتمعات أيديها ملطخة بجرائم سياسية جماعية يذهب ضحيتها مئات الألوف من البشر .. سوى تعبير آخر عن هذه الظاهرة
ويمكننا على سبيل المثال أن نتخيل عدد ومستوى الجرائم التي يمكن أن تحاكم بها الدولة البريطانية أمام محكمة الحضارة الإنسانية – لو وجدت هذه المحكمة – لو وجه إليها المدعي العام في هذه المحكمة لائحة بالاتهامات عن كل مأساة فردية أو جماعية نتجت عن مسئولية بريطانيا السياسية والأخلاقية والقانونية في تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية .)
الخليج 21 سبتمبر 1992
من مقال الدكتور عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة
( أمريكا : وهم الخارج وحقيقة الداخل
أمريكا هي الآن القوة العظمى الوحيدة باعتراف الأصدقاء والأعداء ، المنبهرين والمنتقدين .
العالم يعيش اللحظة الأمريكية ، وأمريكا تمارس سيطرة وزعامة مطلقة على المجتمع الدولي وعلى النظام العالمي الجديد أو القديم ….
إن أمريكا التي تبدو قوية كل القوة من الخارج هي أيضا التي تبدو ضعيفة كل الضعف من الداخل . أمريكا تبدو عظيمة من الخارج لكنها تبدو متهالكة ومتضعضعة من الداخل ، أمريكا التي يتوهم البعض أنها القوة الوحيدة القادرة على حفظ الأمن والسلام في العالم هي أمريكا العاجزة عن توفير الأمن والأمان والاطمئنان في الداخل . أمريكا القوية لدرجة الاستفزاز في الخارج تبدو بائسة كل البؤس ولدرجة الاستغراب في الداخل …إن أمريكا بقدراتها النووية الراهنة قادرة أن تدمر الكرة الأرضية وكل ما عليها ست مرات متتالية ، فهي تملك أكثر من 25 ألف رأس نووي ولا زالت الدولة الوحيدة التي تنفق سنويا 280 مليار دولار على إنتاج وتطوير الأسلحة بكل أشكالها وأنواعها { اليوم صارت أربعمائة مليار ، أي أكثر من مجموع ما تنفقه دول أوربا مجتمعة } …
هذه القوة العسكرية والنووية التي لازالت تفرض زعامة أمريكا في الخارج لا تعني شيئا في الداخل بل إن هذه القوة تنمو على حساب تراجع أمريكا من الداخل . ..
تراجع أمريكا يولد الرعب في الداخل خاصة وأن الأرقام أخذت تؤكد تراجع أمريكا من المركز الأول إلى المركز الثاني والثالث والرابع وإلى العاشر والعشرين وأحيانا إلى المركز ال 36 بين الدول وخاصة بين الدول الصناعية في مجالات الصحة والتعليم والاقتصاد والموارد البشرية والإنتاجية وسلسلة أخرى من المؤشرات الحيوية لتقدم وتأخر الدول
وتقول الأرقام والبيانات وخاصة الأرقام والبيانات الرسمية الأمريكية أن أمريكا أصبحت تستهلك أكثر مما تنتج .. ولم تكن أمريكا هكذا قبل عشرين عاما . وأمريكا مديونة للخارج بأكثر من إجمالي أصولها بالخارج .. أمريكا تعاني أكبر عجز في العالم والذي تجاوز 400 مليار عام 1991 . أما إجمالي ديون أمريكا فقد حطم كل الأرقام القياسية واصبح يزيد على ثلاثة آلاف مليار دولار أي حوالي ثلاثة أضعاف إجمالي الديون المترتبة على كل دول العالم الأخرى المتقدمة منها والنامية مجتمعة .
هناك اليوم أكثر من 15 مليون عاطل عن العمل ، أي بنسبة 8 % من إجمالي القوة العاملة ، وهذه النسبة هي الأعلى بين كل الدول الصناعية .
64 ألف مليونير يعيشون في أمريكا ن ونصف إجمالي عدد أصحاب البلايين هم من أمريكا ، هذا الغنى الاقتصادي ليس جديدا على أمريكا ن الجديد اقتصاديا هو أن أمريكا أيضا فقيرة ، بل هي بمقاييس الفقير من أفقر الدول الصناعية والمتقدمة ، حيث يبلغ عدد الفقراء أمريكا 30 مليون فقير حسب تعداد عام 1990 ، إن عدد أغنياء أمريكا في تزايد وعدد الفقراء في تزايد ويتضاعف عددهم بمعدلات أكبر من تزايد الأغنياء ..(/14)
إن قلة تدرك عمق تراجع أمريكا الصحي والطبي إلى المراكز المتأخرة حتى بمقاييس الدول المتخلفة . إن أمريكا هي الآن الدولة رقم 14 من حيث معدل عمر الفرد في العالم ، اليابان هي الدولة الأولى من حيث معدل عمر الفرد الذي يصل إلى 79 سنة ، مقابل 75 سنة بالنسبة لعمر الفرد في أمريكا ، كذلك تراجعت أمريكا إلى الدولة رقم 13 من حيث الإنفاق العام على الصحة ، وهي الدولة الأولى في العالم من حيث عدد المصابين بالإيدز ، ومن حيث المصابين بمرض القلب ، ومن حيث المصابين بالسرطان
تراجع أمريكا في التعليم هو أكثر دلالة من تراجعها في الطب والصحة ، كانت أمريكا ولوقت قريب الأولى في التعليم ، أما الآن فقد أصبحت " أمة في خطر " كما أكد تقرير التعليم الذي رفع للرئيس الأمريكي مؤخرا ، ويوجد 23 مليون أمريكي لا يعرفون القراءة والكتابة إضافة إلى أربعين مليونا آخرين يقرءون بصعوبة ولا يجيدون الكتابة أصلا . وقد تراجعت أمريكا إلى الدولة رقم 17 من حيث الإنفاق العام على التعليم . إن التراجع في التعليم ربما هو أهم مؤشر ليس على التراجع الراهن ، بل على تراجع أمريكا في المستقبل وخلال القرن القادم ، ولا يبدو أن لدى أمريكا القدرات ولا الإمكانيات لوقف هذا التراجع في التعليم .
وخلال السنوات العشر الأخيرة أصبحت أمريكا هي الأولى في العالم من حيث استهلاك المشروبات الكحولية والأولى في العالم من حيث الإدمان على المخدرات حيث تستهلك 80% من إجمالي المخدرات في العالم ، ويتعاطى 60% من الشباب في أمريكا المخدرات بشكل منقطع أو دائم ، إن الاستعمال المكثف للمخدرات يتسبب في خسارة قدرها 60 مليار دولار سنويا للاقتصاد الأمريكي .
خلال عقد الثمانينات ارتفع بشكل ملحوظ عدد حالات الطلاق وأصبحت أمريكا الدولة الأولى من حيث عدد الأسر الأحادية
حالات القتل والاعتداء والسرقة والاغتصاب والغش في تزايد مذهل والسجون الأمريكية فاضت بالمجرمين وزاد عدد السجناء 3 ملايين سجين في عام 1991، ويحمل 85 % من الشعب الأمريكي سلاحه الخاص للدفاع عن نفسه ، وأصبح 50 % من الشعب الأمريكي يقع ضحية لتفشي الجريمة
وأمريكا هي الدولة الأولى في العالم من حيث عدد الاغتيالات الذي ارتفع إلى 22 ألف حالة اغتيال خلال عام 1991
كذلك أصبحت أمريكا هي الدولة الأولى في العالم من حيث حالات الاغتصاب .. بحيث إن 21% من كل النساء في أمريكا يتعرضن للاغتصاب ، وبخاصة في الجيش المدن الأمريكية تعاني من الإفلاس والتلوث والازدحام والإجرام والاختناق
عن كاليفورنيا وهي في حد ذاتها سابع أكبر وأضخم اقتصاد في العالم واقتصادها بحجم اقتصاد فرنسا .وهي تعاني حاليا من تدني الخدمات وترهل الإدارة وتفاقم المشكلات العنصرية ومن انحلال أخلاقي متفاقم ، وتعيش أعلى نسبة بطالة وإجرام وتعاطي مخدرات و شذوذ بين كل الولايات ، ويفكر سكانها بتقسيمها إلى ثلاث ولايات مستقلة بعضها عن بعض ، وقد أنهت المخطط العام للانقسام ، وهي تضع الآن اللمسات الأخيرة على اتفاقيات الحدود والمعاهدات الاقتصادية ، وهو مؤشر للمستقبل بالنسبة لأمريكا … )
الشعب الألكترونية
من مقال هشام الناصر بعنوان ( قراءة في مقال هيكل 3 ) بتاريخ سبتمبر 2003
عن القيم التي تم بها تكوين الولايات المتحدة
(- البداية كمستعمرة إنجليزية، ثم الانفصال أو قل الإستقلال (1776م)، <<والشيء الظريف انه قد جاء إعلان الاستقلال الذي نادى بالحرية والمساواة ، بوصف الهنود بالمتوحشين الذي لا يعرفون الرحمة ، والمعروفين بحبهم لإشعال الحروب ، وارتكاب المجازر >>
2 - جورج واشنطن (1779)، يكلف جيشه بتدمير مجتمع وحضارة قبائل الايروكواس، وهما مجتمع وحضارة متقدمان نسبيا بمقاييس هذا الزمن.
3 – أول دستور للأمريكان في عام (1789م)، ولم تكن تتجاوز 13 ولاية.
4 – بداية التوسع كان فيما حولها (بالقارة الأمريكية الشمالية)، وتمكنت من ضم العديد من المناطق الخارجية، وهيمنت علي الجزء الأكبر من القارة ومعظم مصادر الثروات الطبيعية.
5 – (1800 – 1835) تاريخ إبادة الهنود الحمر، وفيها تم القتل الجماعي للقبائل ثم تهجير الباقيين من حوض المسيسبي، في ظروف تهجير وإسكان أشبه بعمليات التهجير الهتلرية (جاءت لاحقا في الحرب العالمية الثانية). والجدير بالذكر أن المقاومة الهندية المسلحة لم تتوقف إلا بعد ارتكاب مجزرة وونددني عام 1890.
6 – بداية الإحساس بالقوة والتحدي تمثل فيما يسمي (بمذهب مونرو - 1823)، وهو إعلان الرئيس "مونرو" الهيمنة التامة علي بلدان القارة الأمريكية، شاملة اللاتينية، (حق الحماية المنفردة وحق التدخل في شئون دول القارة)، وتحذير الدول الأوربية من أي محاولة للتدخل (والإشارات واضحة لأسبانيا وانجلترا وفرنسا).
7 – الحرب الأهلية (1861 – 1865)، وتقدر الخسائر بأكثر من نصف مليون قتيل، الوحدة الدامية .. مازالت ذكراها في مخيلة التاريخ والأمريكان!!(/15)
8 – ولاية ماكنلي (1897 –1901)، ثم تيودور روزفلت (1901 – 1909)، شملت الحروب ضد (الإمبراطورية الأسبانية)، والاستيلاء علي مستعمراتها (كوبا، بورتريكو، الفلبين)، وترسيخ مبدأ مونرو، <<وعن هذه الفترة كتب أ. وايت الصديق الحميم لروزفلت قائلا: انه عندما استسلم الأسبان في كوبا وقمنا بالاستيلاء على بورتوريكو والفلبين انتقلت أميركا إلى الطريق المؤدية إلى الزعامة والهيمنة العالمية>>
9 – الحرب العالمية الأولي (1914 – 1918)، لم تهب أمريكا لنجدة الحلفاء الأوربيين إلا بعد أن أوشكت الحرب علي نهايتها (1917)، وأُنهكت القوات المحاربة تماما، ولم تبذل جهدا كبيرا لنيل ميراث الإمبراطورية العثمانية أو القيصرية الروسية أو الألمانية، وأكتفت بأطنان الذهب، من اتفاقيات التعويض بمؤتمر فرساي، تمهيدا لجولة لاحقة آتية !!!!! (نظرة استقراء من مقدمات دراسة صراع الإمبراطوريات القديمة في ذلك الوقت، وحال المستعمرات). وكمعلومة إضافية، فإن فرنسا تكبدت مليون ونصف قتيل، وألمانيا أكثر من مليون وسبعمائة ألف قتيل، أما خسائر الأمريكان فلم تتعد بضع العشرات من الألاف. واشتراكها كان رمزيا، ورغم هذا حصدت من التعويضات ما فاق الأخريين، ومن ذهب خالص لا أشياء عينية!!
10 – فترة الرخاء الاقتصادي، (1920 ـ 1933)، تواكب مع نمو نشاط عصابات المافيا المتآمرة مع أجهزة الشرطة من خلال قانون منع الخمور الذي صدر عام 1919، والذي ازدهرت من خلاله الحانات غير القانونية، والملاهي وبيوت الدعارة السرية ونشاطات مهربي الخمور.
11 - إجراءات كبح الهجرة إلى الولايات المتحدة، (1921 ـ 1924)، وازداد نشاط عصابات الكوكلاكس كلان، ناشرة الرعب من جديد في مناطق الجنوب.
12 - لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في يونيو 1944، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في يناير 1944، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير. (لاحظ التماثل مع ما سبق أن فعلوه في الحرب العالمية الأولي ، مذكورة بالنقطة رقم 9) - <<من فظائع الأمريكان: قصف مرعب على التجمعات السكانية المدينة، أثناء أعمال الإنزال، راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين . قصف درسدن 135 ألف قتيل مدني، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا>>
13 – عام 1945، هاري ترومان يصدر أوامره بإلقاء القنبلة الذرية علي هيروشيما، وفي أعقابها نجازاكي، مقتل وتشويه مئات الألاف من المدنين، إضافة للحيوانات وحتى الحشرات، وتدمير المباني والبنية التحتية واستمرار أخطار الإشعاع لسنوات طوال، رغم أن اليابان كانت قد هُزمت بالفعل في المعارك التقليدية، وكان الإمبراطور الياباني يتباحث بالفعل مع بعض الدول الوسيطة حول الاستسلام. <<في تصريحات وتحليلات لاحقة، أتضح أن الغرض الأساسي كان يتمحور حول إرهاب المعسكر الشرقي!!، وإبراز القوة النووية الأمريكية للعالم أجمع>>
14 – ومازلنا مع ترومان، حيث صادق علي تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 على أساس إنها دولة قائمة على التسامح والعيش المشترك بين اليهود والمسيحيين والمسلمين. لكنها تحولت إلى دولة طائفية عرقية لا شيء فيها للمسلمين والمسيحيين. <<الاختيار الأمريكي لإسرائيل لتكون مندوبة (عميلة) لها بمنطقة الشرق الأوسط، له قصة طريفة بطلها فرانكلين روزفلت وثلاث من زعماء ألمنطقه (مصر، السعودية، تركيا)، نأمل سردها في مقالات قادمة>>
15 – مَثلَ إلقاء القنابل الذرية (المحدوة نسبيا بمقاييس هذه الأيام – توازي 20 ميجا طن TNT)، علي هيروشيما ونجازاكي، نقطة تحول في الفكر السياسي الأمريكي وعقيدته القتالية، وذلك بكونه استخداما للقوة المفرطة كاسحة التدمير، لسرعة إنهاء الصراع، وحفظ أرواح الجنود الأمريكان، والقضاء الجذري علي الخصم مما يعيق عملية (العودة للأصل) Recovery، في غياب خطورة الانتقام أو الرد بالمثل !!، وقبول المجتمع الدولي (ظاهريا) للتبرير الأمريكي – عن خوف أو تواطؤ!. وبذلك انطلقت الآلة العسكرية بالاستخدام المُفرط للقوة المُدمرة للعدو والآمنة لها !!، بإتباع أسلوب القصف الجوي والصاروخي (دون التحام مباشر) وبكافة أنواع أسلحة التدمير الشامل (البيلوجية، الكيماوية، النووية والشبة نووية)،
ومن الأمثلة (بدول العالم خارج المنطقة):
كوريا (1953)، وجواتيمالا (1954)، واندونيسيا (1958)، وكوبا (1959)، والكونغو (1964)، وبيرو (1965)، ولاوس (1966)، وفيتنام (1961ـ 1973)، وكمبوديا (1969)، وجرينادا (1983)، والسلفادور (1983)، ونيكاراجوا (1984)، وبنما (1989)، والصومال (1993)، ويوغوسلافيا (1999)، وأفغانستان (2001).
أما الدول العربية، أو قل دول المنطقة الشرق أوسطية، فكان (حظها) كالآتي:(/16)
أ - الدعم التقني لما يُسمي بالحرب الإلكترونية (وكانت حديثة في تلك الأيام، ولا نبالغ إن قلنا أنها كانت تُماثل استخدام السلاح النووي علي اليابان) للقوات الإسرائيلية في حرب (1967) – السفينة ليبرتي، والمعامل الإلكترونية الجوية الطائرة ( بواسطة طائرات ستراتكوزر العملاقة).
ب – الدعم اللوجيستي لإسرائيل في حرب (1973)، وفتح مستودعات الأسلحة والذخائر (منطقة أوربا والمتوسط) لتعويض خسائرهم ولتحقيق التفوق الكمي والنوعي علي القوات العربية (مصر وسوريا)، إضافة لدعمهم بالطيارين (تحت ادعاء أنهم متطوعون يهود)، والأخطر هو معلومات استطلاع الأقمار الصناعية ونتائج تحليلها والتي مكنت العدو الإسرائيلي من إحداث (ثغرة الدفرسوار).
ج – غزو ريجان للبنان (1983)، ثم هروبه كالجبان، بعد العملية الفدائية والتي قامت بها فتاة عربية لبنانية!!.
ء – ليبيا (1986)، إيران (1987)، السودان (1998).
هـ – حرب العراق الأولي (1991 – 2001)، ثم الغزو والاحتلال (2003). اهـ )
الخليج 13\10 ( ؟؟ )
من مقال الدكتور محمد عبد الله الركن
(مع التطور التقني والعلمي الهائل الذي تسارع في العقود الأخيرة من القرن العشرين فإن أعدادا كبيرة من الغربيين بدأت تتجه إلى السماء بحثا عن ملجأ أو مخرج من الهوة السحيقة التي تردت فيها الشخصية الغربية
فالالتحاق بمجموعات جادة أو عبثية والانضمام على مجموعات تنسب إلى مذاهب شرقية وثنية لها تفسيراتها الفلسفية المفرطة في الرمزية والتصوف أو مجموعات نصرانية متطرفة في تفسيراتها للعقيدة النصرانية والكتاب المقدس ما هو إلا ردة الفعل التي بدأ الجيل الجديد من شباب الغرب في ممارستها تجاه الحياة الدنيوية المادية التي غرق فيها جيل الستينات والسبعينات …
والولايات المتحدة مرتع خصب لمثل هذه الأفكار والمحاولات الغيبية التي أثرى من ورائها العديد من المشعوذين ، ولقد أفردت مجلة النيويورك الأمريكية في عددها الصادر في 15 سبتمبر أيلول 1997 صفحة لاستقصاء المحاولات التي بذلها المتنبئون الأمريكيون لتحديد موعد نهاية العالم وبدء يوم القيامة . وتتلخص هذه التنبؤات – حسب الصحيفة والمقال – في المواعيد التالية : ( نزول عيسى عليه السلام بين مارس عام – 1843- ومارس عام 1844 ) - ( بداية معركة ارمجدون : 1874 - 1918 ) ( هبوط إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لقيادة العالم1920 - 1925) - 1940- 1975-2000 – 2006 ، ومن كثرة التوقعات والتنبؤات الفاشلة التي مرت في التاريخ الغربي خصوصا الأمريكي أعد الدكتور جي جوردون ميلتون – أستاذ الديانات بجامعة كاليفورنيا بسانتا بربارا كتابا سماه " موسوعة نهاية العالم " يلاحق فيه تلك التوقعات والتنبؤات على مر العصور ، ومن أطرف ما أورده ميلتون في كتابه أن طائفة دينية ذكرت لأتباعها بعد فشل نبوءتها بانتهاء اجل العالم بأن النهاية قد حلت ولكننا لم نلاحظها !!. )
الخليج 15\ اكتوبر 1995
من مقال للسيد إبراهيم محمود علي \ دبي بعد أن عدد إيجابيات هذه الحضارة :
( هذه واجهة الصورة بيد أن الخلفية مفزعة وقاتمة قاتمة
فالحضارة الغربية حضارة مثقلة الضمير .. قامت على جسر من الجثث .. ونهر من الدم .. وجبل من الجماجم لثلاثة قرون خلت
فقد دخل كولمبوس إلى القارة الأمريكية مسلحا بالمدافع والبارود وبكل أطماع الإنسان الأوربي وغروره ، وقامت البولدوزرات بإنشاء حضارة غربية في العالم الجديد .. جارفة في طريقها الهنود الحمر أصحاب البلاد الأصليين . ولم تقف أطماع الرجل الأبيض عند حد ,,اصل الغزاة الأوربيون زحفهم جنوبا ، ودخلوا آسيا ، وأفريقيا ، وبدأ عهد الاستعمار والنهب المنظم ، والسرقات الموصوفة لثلاثة قرون متصلة ن واصبح جنوب العالم مسرحا لأكبر عملية سطو مسلح في التاريخ ، وتحول العالم الثالث إلى وكالة من غير بواب ، وتحولت ثرواته إلى مال سائب ، وتحولت شعوبه إلى أقنان ، يزرعون القمح ولا يأكلونه ، ويحصدون البن ولا يشربونه ، ويقطفون القطن ولا يرتدونه ، ويصيدون اللؤلؤ ولا يتقلدونه ، وينتجون النفط ولا يستهلكونه ، ويصدرون العاج ولا يستخدمونه .
وظلت العلاقة بين الاستعمار ومستعمراته كالعلاقة بين العلقة والدم ، وبين الذئب والشاة ، وبين المرابي والمدين ، وظلت الهوة بين العالم الأول والثالث تتسع بوتيرة لانهائية ، واستمرت المعادلة بين الشمال والجنوب ككفتي الميزان كلما ارتفع سكان الشمال إلى أوج الحضارة والغنى انحدر سكان الجنوب إلى حضيض التخلف والفقر .(/17)
والديموقراطية في الغرب ليست ديموقراطية مطلقة ولكنها محددة ومفصلة على مقاس السلطة ، والحربة هناك هي حرية القول لا حرية الفعل ، وحرية التعبير لا حرية التغيير ، ففي الدول الديموقراطية الغربية تستطيع لأن تكتب كل شيء دون أن تغير أي شيء ، ففي حديقة هايدبارك هاجم ألوف الخطباء الاستعمار وظلت بريطانيا دولة استعمارية إلى يومنا هذا ، ولا تزال هونج كونج مستعمرة حتى كتابة هذه السطور . وهاجم ألوف الكتاب والخطباء والمفكرين الاستغلال والرأسمالية والعنصرية والطبقية وظلت هذه الأمور قائمة وراسخة في المجتمع الغربي . فاية حرية هذه وأية ديموقراطية ؟
وأية حضارة تلك التي تلقي بملايين الأطنان من القمح في البحر ، حتى لا يهبط سعره ، مما يدل على أن سعر القمح أهم من حياة ملايين الجياع في مشارق الأرض ومغاربها .
إن الحرية في الغرب للاستهلاك المحلي فقط ، ففي بلادهم ينادون بالحرية للمرأة ، أما في مستعمراتهم فيصادرون حرية الرجل .
والقانون الغربي يحظر قتل شخص ويتجاوز عن قتل مئات اللوف في هيروشيما وفي يوم واحد . وهذا القانون يحظر سرقة ثوب ويتجاوز عن سرقة كل حقول القطن في العالم الثالث ، ويحظر سرقة حلية ويمر مر الكرام على سرقة كل مناجم الذهب في جنوب أفريقيا ، وكل مناجم الحديد في بقية مستعمراتهم .
أما عن قواعد الذوق والأتيكيت فحدث ولا حرج ، فالجنتلمان الأوربي لا يفتح خزين ملابسه دون استئذان رغم أنهم فتحوا خزائن العالم الثالث على مصاريعها ونهبوها دون حسيب أو رقيب ، ولا يدخلون حتى بيوتهم دون استئذان رغم أنهم دخلوا جنوب العالم من أطرافه الأربعة واستعمروه لثلاثة قرون من الزمان . ولا يغادرون مطمعا دون أن يدفعوا قائمة الحساب رغم انهم غادروا العالم الثالث بعد قرون من السرقات الموصوفة دون أن يدفعوا قائمة الحساب . وقوانين النظافة تحظر إلقاء النفايات في الشارع ولا بأس من إلقاء النفايات النووية في العالم الثالث .
والتطور الصناعي سلاح ذو حدين ، فقد اخترع الغربيون مالا يحصى من المنتجات الصناعية لخير البشرية ورفاهيتها وفي الاتجاه المضاد اخترعوا أدوات التدمير والقنابل النووية والانشطارية والفوسفورية والفراغية والارتجاجية ، وقنابل النيوترون التي تقضي على الإنسان وتبقي على الأبنية مما يدل على أن الإنسان لا قيمة له في عرف حضارة الأسمنت والخرسانة .
وجين نضع الحضارة الغربية تحت المجهر وتتمعن فيها على الصعيد المادي والمعنوي نجد أن هذه الحضارة قد قدمت للإنسان الغربي كل احتياجاته المادية أما الجانب المعنوي فقد سقط سهوا أو اسقط عمدا والاعتبارات الأخلاقية لا محل لها من الإعراب
وحين يتحول المجتمع إلى غابة ويتحول أفراده إلى قطيع من اسماك القرش كل واحد ينشب أنيابه في لحم الآخر بأنانية مطلقة النظير ، ويصبح العالم حلبة سباق لا يعيش فيها إلا الأسرع والأقوى والأطول نفسا وتنقطع الصلات الإنسانية وتنفصم عرى كل الروابط ويزول التراحم والبر وصلة الرحم ويقطع الرجل ذوي رحمه ويعق أبويه ، ويتنازل عن كل القيم ويدوس على كل المثاليات والفضائل في سبيل مصالحه المادية يغدو الكون جحيما ، يستحيل الإنسان إلى وحش شعاره أنا ومن بعدي الطوفان
وفي هذا المجتمع العابث المنساق إلى حتفه يصل الإنسان إلى حافة اليأس ، وليس أدل على ذلك من الارتفاع المذهل في معدلات الجريمة والجنون والانتحار والإدمان ، ويذكر أن أعلى نسبة للانتحار في أوربا تقع في أكثرها ازدهارا كالدول الاسكندنافية ، وهذا المؤشر الخطير يكشف عن بداية وعي الإنسان الغربي بعبثية وجوده واستحالة تحقيق حياة هانئة للإنسان بالمعادلة المادية وحدها )(/18)
حضارتنا في عيون الغربيين / د.عبد المعطي الدالاتي
"لا يمكن أن نجد ديناً يحتل العلم والمعرفة فيه محلاً بارزاً كما كان الأمر في الإسلام"
- كونستان جيورجيو –
تميزت الحضارة العربية الإسلامية بغايتها الربانية ، ورؤيتها الإنسانية ونزعتها العالمية ، ونظرتها الشمولية ، وفكرتها الوسطية ، وصبغتها الأخلاقية . وهذه الحضارة هي الوحيدة في التاريخ التي وصلت الدنيا بالآخرة ، وربطت السماء بالأرض ، وآخت بين العقل والقلب ، ومزجت المادة بالروح ، وأرضت الفرد والمجتمع ، ووازنت بين الحقوق والواجبات ، وجمعت بين الواقع والمثال .. لقد وحّدت بحق بين الثنائيات ، وأخرجت منها شراباً خالصاً سائغاً للشاربين .
وفيما يلي أنقل شهادات غربية منصفة في حضارتنا انتُزعت من أقلام مفكرين غربيين درسوا الإسلام فراعهم جماله ، وأعجبتهم مبادئه ، ولكنهم لم يُنزلوا قناعاتهم من سماء العقل إلى أرض القلب ، ولم يسقوها بماء الوجدان ، فلم تنمُ غراسها ولم تثمر !
وفشلوا في أن يحوّلوا الاقتناع بالحق إلى اعتناق له ، والإعجاب بالإسلام إلى عقيدة تجري في العروق ، نعم لم يبقَ أمامهم إلا ضربة معول واحدة كي يصلوا إلى النبع الثّر الزلال ، فلم يفعلوا ..
حاموا وهم الظّماء حول الماء ولم ينهلوا !!
وإنما أعرض أقوالهم لأولئك المهزومين أمام الغرب ، الذين لا يشربون الكأس الرويّة إلا إذا كانت بيد غربية ! ولا يجرعون الدواء إلا من تلك الصيدلية !!
على أن بعض هذه العبارات كانت في سياقها شَرَكاً نُصب للعقل المسلم ، ولا حرج علينا – أظن – إن لقطنا الحبة ، ومزقنا الشبكة ، وطرنا بسلام .
يقول المؤرخ الإنجليزي (ويلز) : "كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط ، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما سارت هو الإسلام … ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية ، وقوانين اجتماعية ، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ ، وإذا طُلبَ مني أن أحدّد معنى الإسلام فإني أحدده بهذه العبارة " الإسلام هو المدنية"(1).
وتقول المستشرقة زيغريد هونكه في كتابها القيم : (شمس الله تسطع على الغرب) : "إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء ، والتي بدأت من اللا شيء لهي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني… وإن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها ، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها ، وتدعونا أن نقف متأملين : كيف حدث هذا ؟! إنه الإسلام الذي جعل من القبائل المتفككة شعباً عظيماً ، آخت بينه العقيدة ، وبهذا الروح القوي الفتي شق العرب طريقهم بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة وضع أساسها الرسول بنفسه … أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد ؟! والواقع أن روجر بيكون أو جاليليو أو دافنشي ليسوا هم الذين أسسوا البحث العلمي .. إنما السباقون في هذا المضمار كانوا من العرب الذين لجأوا – بعكس زملائهم المسيحيين – في بحثهم إلى العقل والملاحظة والتحقيق والبحث المستقيم ، لقد قدّم المسلمون أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم … وإن كل مستشفى وكل مركز علمي في أيامنا هذه إنما هي في حقيقة الأمر نُصب تذكارية للعبقرية العربية …
وقد بقي الطب الغربي قروناً عديدة نسخة ممسوخة عن الطب العربي ، وعلى الرغم من إحراق كتب ابن سينا في مدينة بازل بحركة مسيحية عدائية ، فإن كتب التراث العربي لم تختف من رفوف المكتبات وجيوب الأطباء ، بل ظلت محفوظة يسرق منها السارقون ما شاء لهم أن يسرقوا"(2).
وعلى مدى الكتاب كانت المؤلفة تعقد المقارنات بين منهج العرب المسلمين في البحث العلمي وبين ما كان عليه العقل الغربي من تسطّح فتقول : "اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية في أوربة التي كانت ترى أن من الكفر والضلال القول بأن الأرض كروية ، فمعلم الكنيسة لاكتانتيوس يتساءل مستنكراً: أيعقل أن يُجنّ الناس إلى هذا الحد ، فيدخل في عقولهم أن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض ، وأن أقدام الناس تعلو رؤوسهم؟!!"(3).
قلت : منذ ألف عام توصل فقيه الأندلس الإمام ابن حزم إلى الجزم بكروية الأرض منطلقاً من القرآن الكريم ومن التنظيم المطّرد لمواقيت الصلاة في محيط الأرض… وقد بسط ذلك في كتابه الموسوم (الفصل بين المِلل والنِّحَل) .(/1)
ويقول العلامة بريفولت : "ما من ناحية من نواحي الازدهار الأوربي إلا يمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ، وإن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات مبتكرة ، بل إنه مدين بوجوده ذاته … ولم يكن بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوربة المسيحية ، وهو لم يَملّ قط من التصريح بأن اللغة العربية وعلوم العرب هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق(4).. ولقد انبعثت الحضارة الإسلامية انبعاثاً طبيعياً من القرآن ، وتميزت عن الحضارات البشرية المختلفة بطابع العدل والأخلاق والتوحيد ، كما اتسمت بالسماحة والإنسانية والأخوّة العالمية"(5).
ويقول المفكر ليوبولد فايس : "لسنا نبالغ إذ قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه ، لم يُدشّن في مدن أوربة ، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة"(6).
"نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة ، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري ، بينما كنا مثالاً للهمجية"(7).
ويقول الكاتب الفرنسي أناتول فرانس في كتابه (الحياة الجميلة) : "أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة ، ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي"
"حين نتذكر كم كان العرب بدائيين في جاهليتهم يصبح مدى التقدم الثقافي الذي أحرزوه خلال مئتي سنة ، وعمق ذلك التقدم ، أمراً يدعو إلى الذهول حقاً ، ذلك بأن علينا أن نتذكر أيضاً أن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمئة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية ، وفي الإسلام لم يُولّ كل من العلم والدين ظهره للآخر ، بل كان الدين باعثاً على العلم ، وإن الحضارة الغربية مدينة للحضارة الإسلامية بشيء كثير إلى درجة نعجز معها عن فهم الأولى إذا لم تتم معرفة الثانية"(8).
ويقول المسيو سيديو : "لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربة من تحجر العقل ، وشل التفكير ، وجدب الروح ومحاربة العلم والعلماء ، ويذكر التاريخ أن اثنين وثلاثين ألف عالم قد أُحرقوا أحياء ! ولا جدال في أن تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر ، بل كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك العصور المظلمة ، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ، ومنح مخالفيه في العقيدة كل أسباب الحرية كما فعل الإسلام"(9).
"لقد ديست بالأقدام تلك المدنية العظيمة في الأندلس ! ولماذا ؟ لأنها نشأت من أصول رفيعة ، ومن طباع شريفة ، نعم من رجال الإسلام . إن المدنية الإسلامية لم تتنكر يوماً للحياة"(10).
ويقول العلامة جورج سارتون :
"المسلمون عباقرة الشرق ، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية ، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة ، وأكثرها أصالة وعمقاً ، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري(11)… لقد بلغ المسلمون ما يجوز تسميته =معجزة العلم العربي+" .
وتقول الدكتورة لويجي رينالدي : ".. لما شعرنا بالحاجة إلى دفع الجهل الذي كان يثقل كاهلنا ، تقدمنا إلى العرب ومددنا إليهم أيدينا لأنهم كانوا الأساتذة الوحيدين في العالم"(12).
ويقول البروفسور غريسيب ، مدير جامعة برلين : "أيها المسلمون ما دام كتابكم المقدس عنوان نهضتكم موجوداً بينكم ، وتعاليم نبيكم محفوظة عندكم ، فارجعوا إلى الماضي لتؤسسوا المستقبل"(13).
ويقول المستشرق درايبر : "ينبغي أن أنعي على الطريقة التي تحايل بها الأدب الأوربي ليخفي عن الأنظار مآثر المسلمين العلمية علينا ! إن الجور المبنّي على الحقد الديني ، والغرور الوطني لا يمكن أن يستمر إلى الأبد"(14).
ويقول روم رولان : "تفرد العلم الإسلامي بأنه لم ينفصل عن الدين قط ، والواقع أن الدين كان ملهمه وقوته الدافعة الرئيسة ، ففي الإسلام ظهر العلم لإقامة الدليل على الألوهية" .
ويقول رينان : "ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد؟ إن فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوربة المتعجرفة"(15).(/2)
ونختم بنقول من كتاب (حضارة العرب) لغوستاف لوبون يقول : "إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية ، فلقد كان العرب أساتذتنا … وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب ، فهم الذين مدّنوا أوربة مادة وعقلاً وأخلاقاً ، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه … إن أوربة مَدينة للعرب بحضارتها … والحق إن أتباع محمد كانوا يذلّوننا بأفضلية حضارتهم السابقة ، وإننا لم نتحرر من عقدتنا إلا بالأمس ! وإن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين … فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان … ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة … "(16).
إن القفزة الحضارية الهائلة التي سجّلتها أمتنا الإسلامية ، يمكنها أن تعود ، وأن تتكرر من جديد ، بشرط واحد هو أن نريد بإذن الله ، فالإمكان الحضاري الذي تهبنا إياه القيم المعصومة في الكتاب والسنة والسيرة ، ليس ببعيد على من يريده ويسعى إليه ، وقد بدأت تتفتح أزهار الانتصار العاطفي للإسلام في ضمير الأمة ، ولم يبقَ إلا أن تتعمق جذور الوعي كي تثمر هذه الأزهار . ويقع عبء التوعية أولاً على كاهل النخبة المخلصة المتخصصة المؤتَمنة على إيصال صوت نبيها إلى العالم … وهؤلاء هم (أولو الألباب) الذين مزجوا الحق بالصواب ، والذين باعوا أعمارهم وجهودهم وطاقاتِهم لله تعالى ، فربحوا مرتين إذ البضاعة منه والثمن ! "إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم بأنّ لهم الجنة"(17).
وإن الحضارة في صعود ، إذ كانت النخبة المبدعة المؤمنة هي التي تقود ، ومن بعد النخبة يأتي دور الأمة ، ليقوم كل مسلم بدوره في عملية النهوض الحضاري وإن أول عمل حضاري في تاريخ الإسلام وهو بناء المسجد ، قد شاركت فيه عزائم كل المسلمين ، بقيادة نبيهم الأمين ، وكذلك الأمر في حفر الخندق إذ كان الصحابة كلهم على أمرٍٍ جامع ، وإن الحضارة لن تنجم إلا عن تجمع آلاف الجهود الصغيرة النافعة ، والنهر المتدفق هو قطرات ماء تآخت ثم وجدت طريقها .
إن على كل مسلم أن يقوم بدوره في عملية البناء الحضاري للأمة ، وإن كل مسلم مدعوّ إلى نزهة القمم ، فعليه أن يُنَزِّه نفسه عن وهدة السفوح . فأمام المسلم اليوم خياران : إما أن يسعى إلى تغيير نفسه ليتغيّر العالم ، وإما أن يُغيّر اسمه .
ربنا هب عوامنا العلم ، وعلماءنا العمل … وعاملينا الإخلاص ، وهب مخلصينا السداد والتميز في النجاح .
* * *
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح"
-----------------------
(1) عن (الإسلام والمبادئ المستوردة) د. عبد المنعم النمر (84) .
(2) (شمس الله تسطع على الغرب) ص (148 – 269 – 315 – 354) .
(3) نفسه ص (370) .
(4) (بناء الإنسانية) رويلت بريفولت نقلاً عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي ، مجلد4 ص(710) .
(5) عن (أخطر ما تواصى به المسلمون عبر الأجيال) أنور الجندي (16) .
(6) (الإسلام على مفترق الطرق ) محمد أسد (40) .
(7) هنري شامبون عن (الإسلام والمبادئ المستوردة) د.عبد المنعم النمر (84) .
(8) المستشرق روم لاندو في (الإسلام والعرب) ص(9-246) .
(9) نقلاً عن كتاب (هكذا كانوا … يوم كنا) د. حسان شمسي باشا (83) .
(10) الفيلسوف نيتشه عن ( ظلام من الغرب) للعلامة محمد الغزالي (140) .
(11) نقلاً عن (هكذا كانوا يوم كنا) د. حسان شمسي باشا ص(8) .
(12) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي – مجلد 7 ص(141) .
(13) عن (هكذا كانوا يوم كنا) د. حسان شمسي باشا (9) .
(14) عن (تشكيل العقل المسلم) د. عماد الدين خليل (94) .
(15) عن (مقدمات العلوم والمناهج) أنور الجندي ( 8 / 173) .
(16) (حضارة العرب) غوستاف لوبون ص(26 – 276 – 430 – 566) .
(17) قرآن كريم (سورة التوبة – 111) .(/3)
حضارتنا ليست للبيع ... ... ...
إن تاريخنا الإسلامي هو أفضل تاريخ عرفته الأرض·· عبر مساحة التاريخ المدوَّن !! وهذه الحقيقة تتجلى عندما ننظر إليها في سياق بشريته، (فهو تاريخ بشر)··· وعندما ننظر إليه بالجملة، لا بالوقوف المتربص الحاقد عند نقطة معينة ، ففي حياة كل إنسان ـ عظيماً أو عادياً ـ هفوات·
والتاريخ هو حياة مجموع البشر أو الناس الأحياء، وليس رصداً لتاريخ أوهام أسطورية··· بل هو تاريخ ناس واقعيين ··· عاشوا على الأرض، وكانت لهم أشواق روحية، وغرائز بشرية!!·
وعندما ننظر بهذا التقويم الموضوعي، فسنجد أن عصر الرسالة والراشدين (1 ـ 14هـ)، هو أفضل عصور التاريخ البشري على الإطلاق، ولا يساويه إلا حياة الأنبياء عليهم السلام، وقد تقترب منهم حياة حواريي الأنبياء من الدرجة الأولى·
ولم يحظ أي نبي بهذا الجمع العظيم الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينيه··· وكان القمة المثلى للحضارة الإسلامية!·
فلما جاء الأمويون (14 ـ 231هـ)، لم ينقطع هذا التاريخ لأن عام (14هـ) لا يعني موت كل الصحابة، فبقى عصر الأمويين يرشح بهؤلاء العظماء، وانحصر الخلل في بعض النواحي القومية والسياسية، وكانت الحياة الدينية والاجتماعية في القمة··· بل في هذا العصر تمت أعظم الفتوحات التي قام بها الشعب المسلم تحت قيادة بني أمية عن رضا وطواعية·
فلما جاء العباسيون (231هـ ـ 656هـ)، مضت الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والتشريعية، بقيادة الشعب المسلم في مجراها الطبيعي ، فنهرُ الحضارة الدافق لا يخضع للتحولات السياسية بقيام دولة أو سقوط أخرى·
وقد وقع العباسيون في خطأين:
أولهما: حركة الترجمة إلى العربية من دون ضوابط كافية، ومن دون حركة ترجمة مضادة تنشر العقيدة الإسلامية في العالم···
وثانيهما: إشغال الأمة بفتنة خلق القرآن، واستعمال العنف والقسوة، وترك الحبل على الغارب للمعتزلة المنهزمين أمام المقولات الفلسفية!!·
لكن العباسيين نشروا الحضارة الإسلامية، وامتدت في عهدهم حركة سلمية دعوية لنشر الإسلام! إذ إن فتوحات بني أمية العسكرية والسياسية لم تعنِ دخول الناس في الإسلام فوراً، فالإسلام لا يؤمن بالإكراه، فكان العصر العباسي هو الذي نشر الإسلام بواسطة الأمة الداعية، لا الدولة الراعية·
ثم إن الحكومة العباسية وقفت ـ بصرامة ـ ضد الحركات الباطنية كالبرامكة، والخرَّمية، وحسبها أنها صمدت في وجه المد الفاطمي الذي نجح في الاستيلاء على المغرب ومصر·· كما أنها استوعبت السيطرة الشيعية البويهية على الحكم، بحيث بقيت السيطرة البويهية سيطرة سياسية، لا باطنية!!·
وجاء الزنكيون، والأيوبيون، والمماليك·· ثم جاء العثمانيون، الذين عاشوا خمسة قرون حتى سقطوا سنة 1924م، فكان للجميع بعض السلبيات، لكنهم قدموا للإسلام أعظم الخدمات، وصدوا عنه أشنع الغارات!!·
ومازال الإسلام ـ بفضل هؤلاء الأسلاف ـ موجوداً إلى الآن، يصارع المحن، ويمتص المؤامرات الخبيثة، ويفلت بالمسلمين ـ تحت رايته الخفاقةـ من مرحلة الاستعمار العسكري والسياسي الأوروبي إلى مواجهة الغزو الفكري الصليبي والصهيوني، ثم إلى مرحلة الصحوة الإسلامية، وما تواجهه، الآن من صعوبات ومؤامرات عالمية·
لكن الإسلام يمتد إلى كل قارات الأرض بفضل الأمة الداعية، وينتصر حتى مع الهزائم السياسية والعسكرية، كما انتصر أيام التتار··· وسيشق المسلمون طريقهم بإذن الله، وستخفق راية الإسلام ـ مهما كانت السحب داكنة ـ فالإسلام هو الحل الوحيد للبشرية·· وليس للمسلمين وحدهم، وهو قدر الله الغالب، والأمل الوحيد الذي لا أمل في إنقاذ البشرية من دونه!·
هذا التاريخ الصامد··· وهذ الإسلام الفاتح·· وهذه الحضارة المثلى التي صهرت الجوانب الوجدانية، والعقلية، والروحية، والفردية، والاجتماعية، في بوتقة واحدة، وحققت للإنسان إنسانيته، فكانت مشرق النور، روحاً وعقلاً لكل الدنيا لأكثر من عشرة قرون·
هذا التاريخ، وهذه الحضارة، هل يجوز أن نبيعهما رخيصين في عصور تصطنع الأمم فيها لنفسها تاريخاً، وتتوهم لنفسها حضارة!!·
وهل يجوز أن يبقيا مطعناً لسهام أصحاب النحل الباطلة والنزعات الشاذة، والمحنَّطين في كهوف أحداث معينة، لا يريدون أن يتحولوا عنها ليمدوا الطرف، ويوسعوا الصدر، ويتعاملوا مع البشرية بالمقياس الملائم للطاقة البشرية·
بم سنمضي في مجالات صراع الأمم، وحوار الحضارات؟
إن أسلافنا هم أجدادنا، ولا نستطيع أن ننسلخ عنهم إلا إذا كنا قد قررنا أن نفقد هويتنا··· فالاسم وحده لا يدل على صاحبه، ولا يعتمد في سجلات التاريخ!!·
وإن حضارتنا هي قسماتنا الحضارية التي نتميز بها ونحن نصنع حضارتنا المعاصرة التكنولوجية والإنسانية··· فهي التي تدل علينا، وتؤكد أننا شريحة خاصة من البشر، ولسنا عبيداً تابعين، قد ضاعت ملامحهم .. ·(/1)
وكما أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً هم ـ بعد إمام الدعوة، ورسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم، قدوتنا وعظماؤنا، فكذلك ننظر إلى من جاء بعدهم·· فهم دونهم، لكنهم أزكى منا، وقدوتنا··· فهم من خير القرون، ومن الصحابة والتابعين، ومن الأسلاف المجتهدين، مصيبين كانوا أو مخطئين·· وكذلك نربي الأمة على الانتماء لحضارتها وصُنَّاعها والاعتزاز بهم، دون أن نقدسهم أو نرتفع بهم إلى درجة العصمة··· فلا عصمة لأحد بعد رسول الله، خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام·
والويل لأمة تتربص بتاريخها أو تشوهه أو تكبِّر لحظات الضعف فيه، أو تمضي في طريقها من دون معالم تستلهمها من حضارتها·
إنها ـ عندئذ ـ أمة ضائعة، تائهة، قد ضلت الطريق!!
إن تاريخنا، وحضارتنا، ليسا للبيع، وإن مؤرخينا ومفكرينا المنتمين الواعين بسنن الله في التقدم، يجب أن يجندوا أنفسهم للذود عن هذا التاريخ، وهذه الحضارة، وأن يحسنوا ـ كذلك ـ توظيفهما للانبعاث الحضاري العصري المنشود .
كاتب المقال: د. عبد الحليم عويس
المصدر: الشبكة الإسلامية
...(/2)
حضور دورات لدى خبراء أمريكان
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 8/1/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا كنتُ طبيباً فهل يحل لي أن أدخل دورة لأتدرب لدى الأمريكان على العمليات الجراحية الحديثة التي كنا منقطعين عنها؛ لأعالج إخوتي المسلمين؟ وكذا إذا كنت شرطياً فهل يحل لي أن أتدرب على الأساليب الحديثة لمكافحة الجريمة؟ علماً أن التدريب هذا من قبل خبراء أمريكان، وهل مرتبي يعتبر مالاً حلالاً؟ علماً أن واجبي هو خدمة مجتمعنا المسلم -والله يشهد-.
الجواب
نعم، يجوز لك أيها الأخ الكريم أن تدخل دورات طبية لدى الأعداء الأمريكان إذا كان متاحاً لك، وتريد من تعلمك في هذه الدورة معالجة إخوانك المسلمين، أو استذكار معلوماتك الطبية التي انقطعت عنها من زمن، كما يدل عليه سؤالك، وكذلك لو كنت عسكرياً، ودخلت دورة يقيمها الأمريكان لمكافحة الجريمة، إذا كنت تريد حفظ الأمن واستتبابه في بلدك، وكل ما يأخذه المتدربون من رواتب أو مكافآت ومزايا أثناء الدورات التدريبية جائز وحلال، ما دام القصد شريفاً، وهو التعلم ونفع المسلمين بما تعلمته، والقاعدة الشرعية تقول: (الأمور بمقاصدها)، لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" رواه البخاري(1)، ومسلم(1907) من حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وفي الحديث: "الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" رواه مسلم(2699) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أما التعامل مع الكافر بالبيع والشراء وسائر المعاملات والتعلم على يديه مما ينفع المسلمين ولا يوجد عندهم فهو جائز، فقد استعار النبي – صلى الله عليه وسلم- من صفوان بن أمية يوم حنين،وكان صفوان مشركاً استعار منه مائة درع عارية مضمونة، انظر ما رواه أبو داود (3562)، وأحمد (27089) من حديث صفوان بن أمية –رضي الله عنه- واستعان مرة بالمشرك ومرة رده ومنعه، وقال: "إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" رواه أحمد
(15336) من حديث خبيب بن إساف –رضي الله عنه-، وفي إحدى غزواته – صلى الله عليه وسلم- جعل فكاك الأسير من المشركين أن يعلم الكتابة عشرة من المسلمين، انظر ما رواه أحمد(2217) من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- وهذه الأفعال تدل على أنها خاضعة للسياسة الشرعية، والمصلحة العامة للمسلمين، وما دام تعلمك العمليات الجراحية، أو مكافحة الجريمة لغرض شريف هو نفع المسلمين ودفع الأذى عنهم ففعلك جائز، ولو كان التدريب والتعليم من قبل الكفار المستعمرين. والله أعلم.(/1)
حب ووفاء
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
حَنَانَيْك ! ما أَحْلى الوَفَاءَ وعِطْرَهُ ... ... إِذا نَشَرَتْهُ مُهْجَةٌ وسَرَائِرُ
وما أَجْمَلَ الأيَّامَ زهْوُ عَطائِها ... ... حَنانٌ وأَشْوَاقٌ زَهَتْ وبَوَادرُ
وما أَحْسَنَ الدُّنْيَا إِذَا الحُبُّ نَفْحَة ... ... يَمُوجُ بهَا بِرٌّ غَنيٌّ وطاهِرُ
وما أَعظَمَ الحبَّ الغَنيَّ ، ونبْعُهُ ... ... يَقينٌ وإِيمانٌ جَلَتْهُ المآثِرُ
هو الحُبُّ نَبعٌ لا يَغيضُ فتَرْتَوي ... ... نُفُوسٌ وتُروَى لهْفَةٌ ومَشاعِرُ
هو النّبْعُ : حُبُّ الله ، حُبُّ رَسُوِلِهِ ... ... إِذَا صَحَّ روَّى الكونَ والنّبْعُ زَاخِرُ
فَتُرْوَى بِهِ خُضْرُ الرِّياضِ وَوَرْدَةٌ ... ... وتُرْوَى بَوادٍ بعدها وحواضرُ
وتمْضِي به حُلْوْ النَّسَائم والنَّدى ... ... ويَنْشُرُه في سَاحِرِ اللّحْنِ طائِرُ
*** ... * ... ***
حَنَانَيْك ! هذا الحبُّ بِّرٌّ ورَحْمَةٌ ... ... ولُحْمَةُ أَرْحَامٍ نَمَتْ وأواصِرُ
وصُحْبَةُ إِخْوانٍ تَدُومُ مَعَ التُّقى ... ... وعَدْلٌ مَعَ الإِنْسَانِ مَاضٍ وقادرُ
وأَجْمَلُهُ بَيْتٌ عُرَاهُ مَوَدَّةٌ ... ... لَهَا سَكُنٌ حانٍ عَلَيْهِ وناشِرُ
تُظلِّلُهُ الأَنْداءُ رَيّاً ورَحْمَةً ... ... ويَحْفَظُه خَيرٌ مِنَ الله عَامِرُ
تَمُوجُ به الأَنْوارُ بَيْنَ رِحَابِهِ ... ... فَتَنْشَأُ فِتيانٌ به وحَرائِرُ
شَبابٌ أَشِدّاءٌ كأَنَّ وجوهَهم ... ... من النُّور صُبْحٌ مَشْرِقُ الأُفْقِ ظاهِرُ
وتُتْلَى به الآيَاتُ نُوراً وحكمةً ... ... فتنشأ فِيه حانِياتٌ نَوَاضِرُ
*** ... * ... ***
هي الأُمُّ يَرعَى لَهْفَة الشَّوق بَعْلها ... ... وبيتاً وأَجْيالاً رَعَتْها المَفَاخِرُ
هو الأَبُ قوَّامٌ مَعَ الرشْدِ بَذلُهُ ... ... ولِلأبِ حَقٌّ بالقِوامَةِ ظَاهِرُ
ويَجْمَعُهُمْ في البَيْتِ حُبٌّ كَأَنَّه ... ... رَفِيقُ النَّدى ظِلٌّ هِنيءٌ ووافِرُ
هو الحُبُّ أَشواقٌ هُناكَ ولَهْفَةٌ ... ... يموجُ بِهَا قَلْبٌ وفيٌّ وَخَاطرُ
نَقِيٌّ كأنْفَاسِ الصَّباحِ ، رَفِيفُه ... ... غَنِيٌّ كَدَفْقِ النُّور ، في القَلْب عَامِرُ
كَأَنّ فَتِيتَ المِسْكِ مِنْه ، أو أنَّهُ ... ... من الْعَبَقِ الفَوّاحِ ورْدٌ وزَاهِرُ
كأَنّ النّسيم الحُلْوَ خفْقُ حَنينه ... ... ورفُّ النَّدَى مِنْهُ غَنيٌّ وناضِرُ
هو البيْتُ ! إِن أَعْدَدْته كان أُمَّةً ... ... لها في مَيَادينِ الحَيَاةِ البشائِرُ
*** ... * ... ***
مَضَينَا نَشُقُ الدّربَ شَقّاً ونعتَلي ... ... صُخُوراً ونمضي دُونَها ونُغَامِرُ
يَعَضُّ عليْنا الشوكُ تَدْمي به الخُطا ... ... وتَدْمي به أَكبَادُنُا والنَّواظِرُ
يَقودُ خُطانَا مِنْ هُدَى الحقِّ دِينُنَا ... ... وأفئِدةٌ تُجْلَى به وبَصَائِرُ
وعَهْدٌ مَعَ الرَّحْمن أَبْلَجُ نورهُ ... ... تَدَفَّقَ فانْزاحَتْ بِذاك الدّياجِرُ
*** ... * ... ***
تدورُ بِنَا الآفَاقُ حَيْرَى يَروعُهَا ... ... دماءٌ على سَاحَاتِهَا ومَجَازرُ
فتلك دِيارُ المُسْلمين تَواثبَتْ ... ... ذئابٌ عَليْها أو وُحُوشٌ كَواسِرُ
تُمزِّقُ أرضاً أَو تُمزِّقُ أُمَّةً ... ... وأَشلاؤُها في الخافقين تَنَاثَرُ
تَنوَّعَتِ الآلام : أحْزَانُ أُمَّةٍ ... ... وأَهواءُ قومٍ لوَّثَتْهم مَعَايِرُ
فكم غَادَرَ الدّرْبَ السَّويَّ أَخُو هوىً ... ... يُطاردُ أشْبَاحَ الهَوىَ وهو سَادِرُ
وظَلَّ على العَهْدِ النَّقيِّ أَجِلَّةُ ... ... لآلئُ مِنْ صَفْو الوَفَاءِ جَواهِرُ
*** ... * ... ***
حنانَيْك ! هذا الدَّرب نحْملُ دُونَهُ ... ... رسَالَةَ تَوحِيد جَلَتْها المقادِرُ
سنَمْضي بإذن الله نُوفي بِعَهْدنا ... ... مَعَ الله مَهْمَا رَوَّعَتْنَا المخاطِرُ
يُضيء لَنَا نُورُ اليَقِين سَبيلَنَا ... ... فَتَنْزاحُ عَنَّا غُمَّةٌ وعَوَاثِرُ
هُوَ الحُبِّ مِنْ نَبْعِ الصَّفَاءِ رُوَاؤه ... ... تَمُوجُ بِه أَحْناؤنا والضمائِرُ
فهذا جَمَالُ الحُبِّ هذا جَلالُه ... ... رَعَاهُ وزكَّاهُ الجِهادُ المثابِرُ
فما العُمْرُ إلاَّ رَوْضَةُ وغراسها ... ... جِهادٌ غَنيُّ بالعطاءِ وناشرُ
*** ... * ... ***
حَنَانيكِ ! كَمْ جُرح ضَمَدتِ وأنَّةٍ ... ... مَسَحْتِ وهَمٍّ في الفؤادِ يُدَاورُ
وكَمْ كَان مِنْ رأي رشيدٍ بَذَلِتِه ... ... فأطْلَقَه ُ قَلْبُ ذَكيُّ وخَاطِرُ
وَكمْ لَيْلَةٍ قد بِتُّ أَرعى نَجْومها ... ... فيطْرُقُني هَمّ وهَمُّ وآخَرُ
فَشَارَكتني همّي حَناناً وحكْمِةً ... ... وقُمنا بِذكر الله تُجلى الخَوَاطِرُ
ضَرَعْنا إلى الرَّحمن سِرّاً وجهرةً ... ... فَقَلبٌ يُنَاجِي أو لِسَانٌ يُجِاهِرُ
فَزَعْنا إِلى أَمن الصلاة وأَمْنُها ... ... خُشوعٌ وهاتِيكَ الدّمُوع المواطِرُ
مَضينا نشُقُّ الدَرْبَ والصَّخْرُ دونَنَا ... ... وأَشواكُهُ ، والله حَامٍ وناصِرُ(/1)
ومَنْ يتَّقِ الرَّحمن يَنْجُ ومَنْ يَخُنْ ... ... مَعَ الله عهْداً لَمْ تَدَعْهُ الفواقِرُ
ولا يَصْدُقُ الإيمَانُ إِلاَّ إِذا جرى ... ... هواه لِيَرْعَى الحقَّ والحقَُّ ظاهِرُ
وَهَذا جَلالُ الحُبِّ يَمضي به الفَتى ... ... فَتُرْوَى به الدُّنْيا وتُرْوَى الضّمائِرُ
*** ... * ... ***
الثلاثاء
4/12/1414هـ
25/5/1993م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان مهرجان القصيد .(/2)
حرية العقيدة وحرية الرأي
بين الدقة والوضوح وبين التفلت والغموض
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
اعتاد عدد غير قليل من المسلمين أن يستخدم مصطلحات عامة لا يرافقها تحديد ووضوح ، ثم تتحول هذه المصطلحات إلى شعار لا يحمل الدقة كذلك ، ولا المنهج ، ثم ينتشر بين الناس حين يلامس رغبة في النفوس أو مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم من ضغط وحيرة وآمال مضطربة ، فيصبح الواقع كله يعيش في أجواء من الشعارات والتعبيرات العامة خالية من النهج أو تحديد الدرب والمسار ، وتطوى قضايا الأمة في خضم الشعارات دون بلوغ هدف أو تحقيق غاية .
إن انتشار هذه الظاهرة من المصطلحات العامة يوحي بعدم وجود نهج أو خطة واضحة في أذهان مختلف القطاعات .
ويزداد الأمر سوءاً حين تصبح هذه المصطلحات العامة قاعدة لتحديد موقف أو اتخاذ قرار أو إصدار اجتهاد وفتوى ، ويصبح هذا الموقف أو القرار أو الاجتهاد مصدراً لاضطراب أوسع أو خلافات وشقاق .
ومن أبرز الأمثلة على هذه المصطلحات العائمة " حرية العقيدة وحرية الرأي " وقد دأب على استخدام هذه المصطلحات بعض دعاة المسلمين وانتشرت بين الناس على أنها مطلب حضاري ينادون به . ماذا تعني "حرية العقيدة " ، وماذا تعني " حرية الرأي " ، وكيف تُمارس وتُطبق ؟! .
اعتقد أنها مصطلحات وافدة من الغرب العلماني الذي يقوم على تصورات خاصة مغايرة للإسلام ، ولو رجعنا إلى الكتاب والسنة لا نجد مثل هذه التعبيرات. ولو رجعنا إلى أئمة الإسلام في العصور التي كان يحكم فيها الإسلام لا نجد مثل هذه التعبيرات لقد جاء الكتاب والسنة في غاية الدقة والوضوح والتفصيل في استعمال التعبيرات والمصطلحات ، وتعلم أئمة الإسلام هذه الدقة والوضوح فيما يستخدمونه من مصطلحات أو فيما يستحدثونه .
جاء الإسلام ليدعو إلى عقيدة واحدة ودين واحد ، وحمَّل الإنسان مسؤولية اختيار الإيمان والتوحيد والإسلام أو سواه ، ولكل اختيار نتيجة في الدنيا والآخرة ، الإسلام يدعو الناس كافة إلى الإسلام ، وفرض القتال والجهاد من أجل ذلك ، ونفر من الكفر ومن أي دين غير الإسلام ، وأنذر الكافرين بعذاب شديد ، وجعل النار مصير من يموت منهم على الكفر ، مع ابتلاء شديد في الدنيا ، ووعد المؤمنين بالجنة لمن صبر والتزم ، ووعد الصادقين العاملين المجاهدين بالنصر .
هذا الذي يدعو إليه الإسلام ، فهل تعبير حرية العقيدة الذي يطلقونه اليوم يحمل هذه المعاني ، أو هل هذا الذي يدعو إليه الإسلام يماثل " حرية العقيدة " . الإسلام ينظر إلى الكافرين وغير المؤمنين الصادقين أنهم يتساقطون في النار ، في نار جهنم ، هذه حقيقة أكيدة ويقين بالنسبة للإسلام ، فهل يعقل أن يترك الناس ليتهاووا في جهنم ؟! إذن لماذا بعث الله الرسل على مدى الزمان وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولماذا شرع القتال والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا .
دين الله :
الإسلام جاء ليجتث الكفر من الأرض ولينشر الإسلام دين الله . دين جميع الرسل والأنبياء ، الدين الذي لا يقبل الله غيره ، فهل يُعقل بعد ذلك أن ينادي الإسلام ويقول يا أيها الناس خذوا أي عقيدة تريدون وأي دين ترغبون فلا بأس في ذلك !! (( إنْ الدين عند الله الإسلام )) [ آل عمران :19] . ! ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) [ آل عمران : 85 ] .
هنالك فرق كبير بين أن يُحمّل الله كل إنسان مسؤولية اتخاذ قرار اختيار دينه وعقيدته ، بعد أن يكون رسله قد أبلغوا الرسالة كاملة ، وأنذر من خالف بعذاب الدنيا والآخرة. وبشر الصادقين بخير الدنيا والآخرة. وبين أن يترك الأمر في حرية عائمة مائعة ، تغري الناس بالكفر والفتنة والفساد أكثر مما تغريهم بالإيمان والإسلام .
فارق كبير بين حرية اختيار العقيدة والدين والحرية التي تغري الناس بالكفر والفتنة :
ليست القضية من حيث المبدأ انفلات حرية العقيدة ولا الدعوة لها ولا سن القوانين من أجلها إن القضية بالنسبة للإسلام أعظم من ذلك بكثير وأخطر من ذلك بكثير ، إنها تتمثل في النقاط التالية :
أولاً : إنقاذ الإنسان من هلاك محقق وعذاب في جهنم شديد إذا مات على الكفر .
ثانياً : تهيئة الأجواء التي تعين على الإيمان والتوحيد والإسلام ، وترغيب الناس بهذا الحق واليقين ، وإخراجهم من الفتنة والضلال والباطل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
ثالثاً : سد أبواب الفتنة والضلال والكفر ، والفساد والأهواء والشهوات المتفلتة ، واتخاذ الأسباب اللازمة لحماية فطرة الإنسان ، الفطرة التي فطر الله الناس عليها لتكون منطلق الإيمان والتوحيد ، قادرة على استقبال رسالات الأنبياء والدين الواحد .(/1)
رابعاً : إن هذه القضية بلغت أهميتها وخطورتها أن أصبحت أساس الأمانة التي حملها الإنسان وأبتها السموات والأرض والجبال . وأشفقن منها ، إنها الأمانة التي يكون الإنسان بها غير ظالم ولا جاهل ، وبتركها يصبح ((ظلوماً جهولاً )) [ الأحزاب 72 ] ! وهي الأمانة التي يقوم عليها معنى العبادة التي خلق الله الإنسان لأجلها والخلافة التي جعلت له ، والعمارة التي أمر بها .
وعلى هذه الأسس تصاغ الشعارات والمصطلحات ، وتسن القوانين ، وتوضع مناهج التربية والبناء ، وتقوم العلاقات بين المؤمنين وغيرهم .
وثيقة الرسول مع يهود :
يذكر بعض المسلمين هذا التعبير على النحو التالي : " لقد تضمنت الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة أوضح صورة للتعايش والتعاون كما يسعى إليه الإسلام ، فقد تضمّنت حرية العقيدة وحرية الرأي … " !
ولو رجعنا إلى نص الوثيقة لوجدناها تختلف عما ذكر اختلافاً واسعاً . فهي أولاً ليست وثيقة كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة وحدهم ، إنها مع أهل يثرب وقبائلها كلها ، ولنستمع إلى ما تقوله الوثيقة : " هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم "! ثم ذكرت الوثيقة المهاجرين من قريش ، ثم قبائل يثرب ثم اليهود ، ثم تذكر الوثيقة العلاقات ، ولنستمع إلى ما تنص عليه الوثيقة في بعض فقراتها :
ألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه .
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسعيه ظلم أو إثماً أو عدواناً أو
فساداً بين المؤمنين ، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن .
وأن ذمة الله واحدة . يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس .
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه .
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وأمن بالله واليوم الآخر أم ينصر محدثاً أو يؤويه وأن
من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة . ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد .
ونصوص أخرى تفصّل في العلاقات والمسؤوليات والحقوق لا تجد فيها نصاً مبهماً أو عائماً أو متفلتاً .
جميع النصوص تقوم على القواعد التي ذكرناها ، والتي تبين أهمها ونذكّر به حتى لا تختلط الصورة والتعبيرات :
فالوثيقة تنص بشكل صريح حاسم على أن الحكم في المدينة لدين واحد فقط هو الإسلام ، هو لله ولرسوله .
وتنص كذلك على أن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وأنه لا يقتل مؤمن مؤمناً بكافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن ، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه ، فالمؤمنون إذن أمة واحدة تربطهم الموالاة التي تجعلهم أمة واحدة من دون الناس . والولاء والموالاة علاقة شرعها الله للمؤمنين ورابطة تقوم عليها أخوة الإيمان .
فالحكم إذن للإسلام ، والإسلام هو أحسن هدي وأقومه ولا يُنصر كافر على مؤمن ولا يقتل مؤمن بكافر ، إنها تعبيرات محددة واضحة مفصلة لا تترك أمراً عائماً .
وعندما جاء النص : " وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. " جاء النص مرتبطاً بسائر النصوص مبنياً عليها لا ملغياً لها ، فاليهود أمة والمؤمنون أمة ولكنهم كلهم بحكمهم الإسلام وكل ما اختلف فيه مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وجميع من في يثرب يحمل مسؤولية الدفاع عنها وحمايتها من خلال الشروط والأسس التي ذكرناها .
وشرع الله للمسلمين أن يكون أهل الكتاب أهل ذمة يرتبطون مع المؤمنين بمواثيق وعهود يصبحون بها قوة لتنصر الإسلام والمؤمنين لا لتحاربهم ، لهم دينهم وليس لهم أن يحكم دينهم أو لا أن ترد الأمور إليه ، لهم أن يتبعوا فيما بينهم أحكام دينهم ، وليس لهم أن يدعوا لها وأن ينشروها ، فذلك حق المؤمنين الذين هم على أحسن هدي وأقومه .
وان من يعادي الإسلام ويحاربه فعلى اليهود نصرة المؤمنين . في مثل هذه التفصيلات الأساسية التي ذكرنا بعضها يأخذ أهل الكتاب حرية عقيدتهم ويظل المؤمنون يدعونهم إلى الإسلام لينقذوهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
أما الكافرون من قريش وغيرهم ، وقريش أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم قربى ونسب ورحم ، لكنهم حاربوا الله ورسوله فانقطعت حمية النسب إلا في أن يدعوا إلى الإيمان والإسلام ، وتعلن الوثيقة قطع الصلات معهم ، وبوادر الحرب معهم وتدعو إلى محاربتهم والتميز عنهم ولا تعطيهم أي حقوق ، ولا تُقرهم على كفر أبداً ولا تعطيهم حق الدعوة إلى كفرهم ولا نشر مذهبهم وأفكارهم وآدابهم .
وكذلك شأن كل محدث والمحدث هو الذي يُحدث شيئاً مخالفاً للإسلام الذي يحكم المدينة كلها ، ويخضع له كل من فيها ، هذا المحدث لا حقوق له ، ولا يحل نصره ولا إيواؤه ، ولا مساعدته ومن يفعل ذلك فعليه لعنة الله .(/2)
فهل هذه الشروط كلها توحي بأن نقول إن الإسلام يدعو إلى "حرية العقيدة " بهذا التعبير المتفلّت والمصطلح العائم ؟
إذا أردنا أن نبلغ دين الله . الإسلام . فلنبلغه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما كان يبلغه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار .
حين نستعير مصطلحات من الشرق والغرب ، ثم نلصقها بدين الله ، وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، نكون قد ارتكبنا خطأ جسيماً ، فالإسلام حين قال : (( لا إكراه في الدين )) ، لم يتركها عائمة وإنما قال معها : ! (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) [ البقرة : 256-257 ]
وقبلها جاءت آية الكرسي : (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه لا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض و يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ))
[ البقرة : 255 ]
دعوة إلى التوحيد :
دعوة إلى الإسلام والتوحيد صريحة جلية حاسمة ، قبل (( لا إكراه في الدين )) ، ودعوة كذلك صريحة جلية حاسمة ، مع إنذار شديد للكافرين وبشرى للمؤمنين بعدها .!
(( لا إكراه في الدين )) تعبير يختلف عن تعبير " حرية العقيدة " يختلف معنى وصياغة وشروطاً ((لا إكراه في الدين )) تعني أن الله لا يقبل من عبد ادعاء الإيمان تحت ضغط الخوف أو المصلحة الدنيوية وهو يبطن خلاف ذلك . إن الله يقبل من عبده إيمانه وإسلامه حين يصدر عن قناعة ويقين وهذا يعني أن الله يريد من المؤمنين أن ينهضوا ليبلغوا رسالة الله وحقيقة الإيمان والتوحيد ودين الإسلام بلاغاً صادقاً واضحاً دقيقاً ، لا أن يبلغ كل إنسان هداه وتصوراته الخاصة ويطوي نصوص الكتب والسنة ، أو يبلغها محرفة أو ناقصة أو غير واضحة ولا يرى الإسلام على أساس ما عرضناه أن للكافر أن يدعو إلى كفره في ظل دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله ، ولا أن لأهل الكتاب أن يدعوا إلى دينهم في قلب دولة الإسلام التي يحكمها منهاج الله .
يعطي أهل الكتب حرية الإقامة في أرض الإسلام على ألا يسعوا إلى أن يسود معتقدهم ، وألا يحملوا السلاح على المسلمين ، وألا يناصروا عدواً للإسلام ، والمسلمين سراً ولا جهراً ، وأن يرضوا بحكم الإسلام ولا يتآمروا عليه .
وعلى المسلمين أو يكونوا يقظين ، فإن وجدوا منهم خيانة يؤخذ الخائن أو الخائنون بذنبهم ويعاقبون ، ويخرجون من أرض الإسلام إذا خُشي استمرار خيانتهم وتأمرهم .
هذا الذي تبينه لنا الآيات والأحاديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار رضي الله عنهم ، فإن ابتلي المسلمون بالوهن والذل وغلب عليهم أعداؤهم ، فلا يحملون الإسلام وشرعه وفقهه نتائج تهاونهم وعجزهم ، ولا يلوون الآيات والأحاديث ليسوغوا المذلة والهوان . فأعداء الله يعرفون الإسلام وحكمه فيهم ، فإن كتمنا حقائق الإسلام نخسر رضاء الله أولاً ونصرته ، ونخسر ما كان يمكن أن نناله من هيبة في أعين الكافرين وأهل الكتاب ، حين يرون أننا غيرنا وبدلنا . وأننا بدأنا نتبع ما تشابه من الأمور شأن من في قلوبهم زيغ .
إن أساس الدعوة الإسلامية هو البلاغ المبين البلاغ الذي يبلغ رسالة الله ليعذر الناس أنفسهم بين يدي الله يوم القيامة . فلا يتغير الدين مع تغير الواقع ، فالدين حق لكل زمان ومكان . ونجد فيه الحلول لكل واقع كما وجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . دون الخروج عن الحق المطلق في الكتاب ولا سنة ودون تحريف النصوص ودون اتباع ما تشابه منه .
لقد أخذ ضغط الواقع المنحرف اليوم يشتد على بعض المسلمين حتى أصبح منهم من يسهل عليه إعطاء رأي ليؤمن مصلحة دنيوية ثم يلصق دعواه بالإسلام .
إن التقوى أهم أسباب النصر وإن خشية الله أهم عنصر في التقوى ، وإن العلم وحده إذا ضعفت فيه التقوى ، فقد قوته الإيمانية في الميدان .(/3)
ومصطلح أخر كثر ترداده بين المسلمين اليوم ، ينادي به المنتسبون إلى الإسلام ، فالإسلام أعظم رسالة في الأرض تحض على التفكير وتدعو له ، وأعظم رسالة تحرر عقل الإنسان من أغلال الهوى والشهوات ومصالح الدنيا الآثمة ، إن مصطلح "حرية الرأي " مصطلح عائم متفلت أعطى الفرصة لأعداء الله ليطعنوا الإسلام والمسلمين أكثر مما أعطى المسلمين الفرصة لبيان حقائق دينهم ، إن الإسلام الذي يحض على التفكير ويدعو إليه ليحترم الرأي الذي يصدر عن إيمان ووعي مع الحجة والدليل ، مع صدق النية وإخلاصها لله مبرأ من الهوى ، نابعاً من العلم الحق لا من الظن والتخمين ، فالإسلام لا يستخدم مثل هذا التعبير "حرية الرأي" ولكن يدعو المسلم ليقول رأيه جلياً واضحاً ، ملتزماً بالشروط الإيمانية التي فصلها منهاج الله ، دون أن يعتبر أن رأيه وحده هو الحق إلا إذا كان الرأي نصاً من الكتاب والسنة ، وجاء عرضه مطابقاً لحاجة القضية والواقع ، جامعاً لكل الأدلة التي تنفي الشبهة وتشرق بالصدق والحق ، لا يماري فيه بعد ذلك إلا ممار أو مجادل أو منافق ، إن الحق يحمل معه دائماً إشراقته ، والباطل يحمل عتمته وظلامه والقلب المؤمن يهتدي إلى الحق ويميزه من الباطل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في مجلة المجتمع ـ العدد (1387) ـ 4 ذو القعده 1420هـ ـ 8/2/2000م .
...(/4)
حوار حول حوار الأديان
مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي
في مجلة اليمامة : حول "حوار الأديان"
...
...
يديره الأستاذ عبد المحسن القباني
... ...
...
حول حوار الأديان
تديره مجلة اليمامة في باب : " مواجهة "
· نشطت في الآونة الأخيرة الجهود والمساعي لإقامة " حوار الأديان " وظهرت آراء متباينة داخل المؤسسات الإسلامية إما مؤيدة أو معارضة لهذا الحوار ، أين تقف من ذلك ؟
حوار الأديان مصطلح جديد يحمل ظلالاً مختلطة عائمة . فلابدّ من تحديد معناه ، مسيرته ، وأسلوبه ، وهدفه وغايته ، قبل تحديد موقف أو إعطاء رأي .
هل المسار والهدف تقريب " الأديان " بعضها من بعض ، الأديان التي يعتبرونها أدياناً مختلفة ؟! ثم يتلو ذلك إجراءات على الواقع تمثل هذا التقارب ؟!
هذا الحوار أرفضه ويرفضه الإسلام !
هل الحوار يهدف إلى استدراج المسلمين ليتنازلوا عن بعض قواعد دينهم أو تحويرها أو زعزعة إيمانهم بأن الإسلام كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الدّين الحق الذي لا يقبل الله غيره ؟ !
هذا الحوار أرفضه ويرفضه الإسلام !
فإذن لماذا الحوار ؟! وهل هناك حوار يقبله الإسلام ؟! نعم ! هنالك حوار جادّ واجب على المسلم أن ينهض إليه لأنه تكليف من عند الله . إنه حوار لتبليغ رسالة الله كما أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ولا تبديل ولا تنازل إلى الناس كافّة . وقد حفظ الله هذا الدين الحق وتعهَّد بحفظه وحفظ نصوصه حتى يُغلَقَ باب التحريف الذي حصل عند اليهود والنصارى ، كما نصّ على ذلك القرآن .
نحن أمة نحمل أمانة نوفي بها عبادةً خُلقْنا لها ، ونوفي خلافةً جُعِلت لنا ، وبهذه الأمانة والعبادة والخلافة أُمِرْنا بعمارة الأرض بحضارة الإيمان والتوحيد بدلاً من الحضارة المادية ، حضارة الإيمان والتوحيد التي توفّر كل معاني النمو والقوة في عبادة صادقة لله .
وأصبحت هذه المهمة مسؤولية الأمة المسلمة التي أخرجها الله لتكون خير أُمَّةٍ أُخرِجت للناس لتحمل خير رسالة للبشريّة كلها . وعندما يتخلّى الإنسان عن هذه الأمانة يصبح ظلوماً جهولاً ويصبح كالأنعام أو أضل سبيلاً .
إن الوفاء بهذه المهمة والأمانة هي القاعدة التي تحدّد علاقة المسلمين بغيرهم .
ولا نجد في القرآن والسنة والسيرة إلا حواراً حول الدعوة والبلاغ والبيان . وللإيجاز أشير إلى بعض الآيات الحاسمة في ذلك : النحل : 125 ، آل عمران : 58 ـ 71 ، المائدة : 67، العنكبوت : 46 ـ 52 ، وآيات وأحاديث كثيرة تبيّن هذه الحقيقة . فنجد الحوار واضحاً حاسماً ، حتى إذا انتهى يأتي قوله سبحانه وتعالى :" .. فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ، أو قوله سبحانه وتعالى : " .. فإن تولَّوا فإنّ الله عليم بالمفسدين " ! ففي ميزان الإسلام لا يوجد عند الله إلا دين واحد ، مهما ادعى الناس من ديانات . فالأنبياء والمرسلون كلهم ومن آمن بهم وتبعهم كانوا مسلمين مؤمنين بهذا الدين الحق الواحد ، وجاءت الآيات الكريمة تنصّ على ذلك ، وتنصّ على أن الدين عند الله الإسلام ، وأن الله لا يقبل من أحد إلا الإسلام . فهذا هو دين نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وعيسى وسائر الأنبياء . وقد فصّلتُ هذا الأمر في كتابي " حوار الأديان دعوة أم تقارب أم تنازل " . وأذكر هنا مثلاً واحداً من الآيات الكريمة توضح أسلوب الحوار وهدفه :
(( الحق من ربّك فلا تكُن مِنَ المُمترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين . إن هذا لهو القصصُ الحق وما من إله إِلا الله وإِن الله لهو العزيز الحكيم . فإِن تولوا فإِن الله عليم بالمفسدين . قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إِلا الله ولا نشركَ به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدُوا بأنَّا مُسلمون . يأهل الكتاب لِمَ تُحاجُّون في إبراهيم وما أُنزِلت التوراتة والإنجيل إِلا من بعده أفلا تعقلون ))
[ آل عمران : 60 ـ 65 ]
وتبليغ الدعوة والحوار من أجلها له قواعد وأساليب ووسائل فصّلها كتاب الله ، ولكن الحوار يظل بالحكمة والموعظة الحسنة ، حتى ينتهي الحوار !
يمكن أن يقوم حوار غير حوار الأديان . حوار سياسي ، حوار مصالح دنيوية ، حوار لتخفيف الحروب ... !
· فكرة حوار الأديان يحيط بها الكثير من الغموض والشكوك .. فما هو أصل هذه الفكرة وما أهدافها ؟(/1)
اعتقد أن " حوار الأديان " للتقارب أو للتنازل انطلق مع أجواء الوهن وحالة الضعف والهوان الذي يمر به المسلمون في العصر الحديث ، بعد أن هجر الملايين من المسلمين كتاب الله حتى امتد الجهل الكثير : " وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " [الفرقان :30] . ولم يكن هجر القرآن بعدم دراسته وتدبره فحسب ، وإنما كان بعدم رد الأمور إلى كتاب الله والسنة من ناحية ، وبتأويل غير سليم من ناحية أخرى . وكثرت الاجتهادات ، كما نقرؤها في بعض الصحف والمجلات ، دون أن تحمل الحجّة البيّنة من الكتاب والسنة ، كما أمِرْنا بذلك .
لا شك أن دول أهل الكتاب قد ملكوا سلطاناً اليوم وعدّة وسلاحاً لا يملكها المسلمون . وحمل هؤلاء على المسلمين حملات إجراميّة ممتدة في التاريخ ، بالإضافة إلى مناهج الكيد والمكر والغزو الفكري الذي امتدّ كثيراً في أرض المسلمين وواقعهم ، حتى أصبح من بين المنتسبين إلى الإسلام من هم دعاة لتلك المذاهب الفكرية ومناهج المكر ، في هزيمة نفسيّة واضحة صاحبت الهزائم العسكريّة والفكرية .
وسبب آخر ، أننا لم نستطع أن نقدِّم الإِسلام للعالم بصورته المشرقة الأمينة ، وإنما نظر الغرب فرأى منا التمزّق والتناحر والجهل والتنافس على الدنيا ، ثم رأى هزائمنا واحدة بعد الأُخرى ، فاستعلى واستكبر أكثر وأكثر . ومن بين التصريحات المزخرفة المغرية ، كانت تنطلق عمليات الإبادة والفتك بالمسلمين ، في تناقض واضح بين القول والعمل !
وقد صرّح نيكسون في كتابه " نصر بلا حرب " عداءه الواضح للإسلام واعترف بأنه ليس من مصلحتهم الدخول مع الإسلام في حرب ، ولكن يمكن أن يحرفوا اتجاه العاصفة . وفي كتابه " اغتنام الفرصة " أوضح أنهم يريدون إسلاماً جديداً يصاغ صياغة جديدة ، وفوكاياما في كتابه " نهاية التاريخ والرجل الأخير " أبدى عدم قبوله الإسلام واعتبر الديمقراطية الأمريكية هي التي تسود . من خلال هذه النفسيات وما تحمل من كره وحقد ظاهر أو مخفيّ ، كانت لهم محاولات استدراج المسلمين بوسائل متعددة للانحراف عن دينهم .
فأصل الفكرة محاولة أولئك حرف المسلمين عن دينهم ، وواقع المسلمين في أجواء الضعف والهوان والعجز .
ولا ننكر أنه بالرغم من أجواء الضعف أثبت الإسلام ثباته وشدة مراسه في مناطق كثيرة في الأرض ، بجنود تدافع عن دينها مهما كانت ضعيفة إلا أنها صابرة ما صدقت .
· هل ترى بأن " حوار الأديان " جزء من حملة التشويش الثقافي على الفرد المسلم ؟ ألا ترى أنه تنازلٌ عن معتقد سواء كان تنازلاً جزئياً أو كلياً ؟
نعم ! إنه أولاً يوهم المسلم بأن الإسلام يقرّ بأن هنالك أدياناً من عند الله يمكن أن تتحاور . وهذه مغالطة كبيرة . فعند الله دين واحد هو الإسلام لا يقبل الله من أحد غيره :
(( إن الدين عند الله الإسلام ... )) [ آل عمران : 19]
(( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ... )) [ آل عمران : 85 ]
فهو تشويش للتصور الإيماني ، وتشويش علمي ، وتشويش ثقافي ، كل ذلك يدفع إلى فتن وزيادة ضعف .
ولقد أخذ الحوار أسلوباً آخر حين حمل مصطلحاً جديداً : " حوار الحضارات " بدلاً من حوار الأديان . وقد يكون الحوار استدراجاً وقد يكون تخديراً !
والذي أودّ أن أقوله هو أن الحوار يمكن أن يدور بين الناس في مؤتمرات وندوات وحلقات ، إلا أن ما يجري في الواقع لا علاقة له بذلك . تمضي سياسة القويِّ كما تمليه مصالحه ، ويُترك الحوار والشعارات ليتلهّى بها أصحابها .
· لماذا نرفض الحوار وديننا الإسلامي ونصوص القرآن تشجع الحوار ؟
لماذا نرفض " هذا الحوار " ... ؟ أيُّ حوار يعنيه هذا السؤال ؟ !
وديننا الإسلامي ونصوص القرآن لا تُشَجع إلا حواراً واحداً يوفي به المسلمون الأمانة التي حملوها ، والعهد الذي أخذه الله منهم ، حوار الدعوة وتبليغ رسالة الله كما أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم . ففي سورة آل عمران مثلاً ، عندما ينتهي الحوار الواضح الحاسم يأتي قوله سبحانه وتعالى : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "
نعم للحوار الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم !
نعم للحوار الذي يسعى بأن تكون كلمة الله هي العليا !
نعم للحوار الذي يبلّغ الحق من عند الله ولا يتنازل عن شيء منه ولا يقترب من الباطل
ولنذكر بعض الآيات الكريمة لتذكرنا :
" فاستقمْ كما أُمِرت ومن تاب معك ... " [هود : 112]
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون " [هود : 112 ، 113]
وأتساءل لماذا يصرُّ بعضهم على " حوار الأديان " ولا يدعون إلى حوار بيْن المسلمين أنفسهم ؟ ! أليس هذا أولى .
ولقد أوضحت " لماذا نرفض " بصورة أوسع في إجابة السؤال الأول .
نشر الحوار في العدد 1710، يوم السبت 15يونيه 2002م .
...
...(/2)
حوار حول الانتفاضة
مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي
في مجلة الأسرة : حول "الانتفاضة"
...
...
أجرى الحوار : د. أحمد العمير
... ...
...
حوار د. عدنان النحوي :
هل " الانتفاضة " توفر مسوغا
لتمرير الحلول الخفية ؟ !
تطورات الأوضاع في فلسطين المحتلة تشير إلى تغير نوعي في مسار الصراع وفي مفرداته . فبعد أن كانت الأحداث تشير إلى المضي قدماً في تنفيذ مشروع السلام " المزعوم " تفجرت أحداث الأقصى لتخلط الأوراق وتثير العواطف وردود الأفعال ، وتوقف عجلة السلام بطريقة مسرحية مثيرة ، وتعيد المنطقة مراحل إلى الوراء وإلى أبجديات الصراع الأساسية .
تُرى لماذا سارت الأحداث بهذه الصورة ، وكيف يمكن للمسلم الواعي أن يقرأها ويتعامل معها ؟! وكيف نستطيع أن نبدأ مرحلة جديدة في تاريخ أمتنا بإذن الله ، نؤثر في الأحداث بوعي وإدراك،ونوجهها لتكون في صالحنا ووبالاً على أعدائنا .
هذا وغيره من الأسئلة حملناه إلى الدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي، وهو من مواليد صفد سنة 1346هـ الموافق 1928م. تلقى تعليمه العام في فلسطين وتخرج من دار المعلمين بالقدس . وعمل سنوات في التدريس ، وتابع دراسته بعد ذلك في مصر ونال درجة البكالوريوس في هندسة الاتصال الكهربائية ، والماجستير والدكتوراه من أمريكا ، والزمالة من إنكلترا . وعمل في وزارة الإعلام بالرياض مديراً للمشاريع الإذاعية ، واستقرت حياته في الرياض . وقد تلقى العلوم الشرعية منذ طفولته ومع نشأته ، فأسرته أسرة علم وفضل . وقد ألف الكثير من الكتب في الفقه والدعوة وقضايا العالم الإسلامي الفكرية وأحداثه وفي الأدب . وله العديد من الدواوين الشعرية والملاحم ، وترجمت بعض كتبه إلى الإنجليزية والتركية و الأوردية .
· من خلال متابعتكم للأحداث القائمة ، فضيلة الدكتور، كيف تنظرون إليها في ظل زيارة شارون للمسجد الأقصى ، الزيارة التي فجرت الأحداث ، وجرت تحت الحراسة الرسمية ، أعفوية هي أم مفتعلة ؟
ـ أفضل أولاً أن أبدأ بمقدمة قصيرة . إن ما يجري الآن بتصوره العام هو نتيجة حتمية طبيعية لمرحلة سابقة ، والمرحلة السابقة نتيجة طبيعية لما قبلها ، وهكذا . ذلك أن الأحداث كلها تمضي على سنن لله ثابتة ، وقضاء حق ، وقدر نافذ ، وحكمة غالبة . ولكن من يغفل عن هذه السنن الربانيّة تبدو له الأحداث مفاجئة ، ومن يتدبر سنن الله في النصر والهزيمة يرى العبرة والموعظة .
إن الله عز وجل وعد المؤمنين بالنصر على الكافرين . فإذا لم يتحقق النصر فلن يكون ذلك ظلماً من الله سبحانه وتعالى ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون . والله يقضي بالحق والذين من دونه لا يقضون شيء . إذاً يجب أن ننظر في أنفسنا . فمعركتنا الأولى ليست مع اليهود أو غيرهم ، إِنها مع أنفسنا فإذا انتصرنا في هذه المعركة الأولى ، وعدنا إلى الله عودة صدق وبعنا أنفسنا لله لا نشرك به شيئاً ، وعرف الله فينا ذلك ، فعندئذ يمكن أن نطمئن إلى نصر الله ونثق به ، مهما كانت الصعوبات والعوائق . إذا كان خوفنا الحقيقي من الله ، فلن نخاف الأعداء وإذا أوفينا عهدنا مع الله ، فسيوفي الله عهده لنا .
ثانياً : هل لقاءات كامب ديفيد الأخيرة انتهت دون أي اتفاق على الإطلاق ؟! فمن مجريات الأحداث الحالية ، واستعراض تجاربنا في تاريخ قضية فلسطين وغيرها من قضايا العالم الإسلامي ، يظل هنالك احتمال لوجود اتفاق . لقد اعتدنا في مراحل هذه القضايا أن تكون الحلول المعلنة تهدف إلى استهلاك الوقت ، أو إشغال الناس . أو تخديرهم ، ثم يفاجأ الجميع بحلًّ لم يعلن عنه ، ولم يطلع عليه إلا أهله ومدبروه . أعلن في تاريخ قضية فلسطين عشرات الحلول التي لم تنفذ ، وكان الحل المدبر والمقرر والمخفي هو خروج أهل فلسطين من بلادهم على تلك الصورة المفاجئة بالنسبة لنا ، والتي كانت مخطّطاً لها ، ووظفت وسائل كثيرة وقوى عديدة لتنفيذها .
وقياساً على ذلك ، فزيارة شارون للمسجد الأقصى لم تكن تصرُّفاً فردياً منه ، بل كانت تدبيراً خططت له دولة اليهود المعتدية وغيرها ، بدليل أن حرك باراك ألفي جندي أو أكثر إلى القدس قبل أن يتظاهر أحد ، تحت ادعاء حماية شارون . ولقد أعلن شارون عن تصميمه على الزيارة قبل أيام من وقوعها ، وجاء تصريح من الجانب الفلسطيني أن هذه الزيارة استفزاز ولن تمر دون رد ، ولن يُسكْتَ عنها . وكان هناك زيارات سابقة متنوعة من اليهود سُكِتَ عنها ! فما الذي حدث الآن ؟!
ربما تكون دولة اليهود العلمانية تجد بعض الصعوبات في الساحة الداخلية من بعض القوى . والسلطة الفلسطينية تجد نفسها في موقف صعب أمام الرأي العام الإسلامي . وربما وجدت أطراف أخرى نفسها في موقف صعب كذلك ، فأصبح الجميع يبحثون عن مخرج . وربما نال هذا البحث جانباً غير قليل من المفاوضات . ولعلهم وجدوا أنه لا بد من أحداث توفر التمهيد للحل المرتقب المخفي الذي يعلمه أهل الشأن الذين خططوا له .(/1)
· هل تقصدون أن إثارة هذه الأحداث قد تمثل مسوغاً لقبول المنطقة بالحلول الصعبة ؟
ـ يمكن أن نضع الآن احتمالات بل واجبنا أن نضع كل الاحتمالات وندرسها . ربما توفر الأحداث فرصة لحكومة اليهود لإقناع الأحزاب الدينية وغيرها بنوع من الحلول . ولابد أن نتذكر ما جرى في محادثات كامب ديفيد الأولى ، حين قال " مناحيم بيجن " لكارتر والحاضرين ما يفيد بأن اليهود صارعوا آلاف السنين ليعودوا إلى "أرضهم " ، ولن يسمحوا بأكثر من سلطة فلسطينية تابعة للدولة اليهودية . وزير خارجيتهم اليوم يقول لن نسمح بسلطة فلسطينية أو إسلامية على المسجد الأقصى ، وآخر يقول اليوم : جئنا لنبني الهيكل على جبل الهيكل .
نحن المسلمين مررنا بمسلسل رهيب من التنازلات عن حقوقنا منذ القرن التاسع عشر . وكان أول هذا المسلسل وأخطره أن تنازلنا عن شعار الإسلام ، ورفعنا شعار العروبة ، وغنَّينا هذا بالأناشيد وحَفَّظناها للأطفال : بلاد العرب أوطاني .. فلا دين يفرقنا ، ثم أصبح النشيد : فلسطين ، ثم قطاع غزة والضفة ، والآن يدور الصراع على القدس ، ثم على جزء منها ، ثم على المسجد الأقصى أو جزء منه ، إلى أين سينتهي هذا المسلسل ؟
· عفواً ! هل الأحداث ستوفر المسوغ للجانب اليهودي أم العربي أيضاً ؟
ـ أعتقد أن هذه القضيّة أو هذا السؤال يجب أن يوجّه لجميع المشتركين في البحث عن مخرج . وأرى أن هذه الأحداث الجارية على أرض فلسطين اليوم ، الشعب الفلسطيني يجابه المعركة العسكرية وحده بالحجارة مقابل الدبابات والصواريخ والطائرات والمدافع والسلاح الفاتك ، إن هذه الأحداث إذا حسمت عسكرياً بالهزيمة للجانب الفلسطيني ، يتضاعف شعوره بخذلان العالم الإسلامي له ، فقد تُعطي الأحداث عندئذ نوعاً من أنواع التطبيع المذل . كيف يكون شعور الذي يقاتل وحده بالحجر ، ثم يسمع التصريح تلو التصريح من هنا وهناك بأنهم لا يريدون القتال ، ويُتَّهم بعض من عبَّر عن رغبته بالقتال بالجنون ، وربما أعلن بعضهم توبته عما أشيع عنه ! والسؤال الهام : ما هو أثر هذه الهزيمة النفسية على طفل الحجر وفتى الحجر وشيخ الحجر وامرأة الحجر . لقد علق بعضهم أليس اليهود أرحم من العرب والمسلمين ؟! وإذا أضيف هذا كله إلى الحصار الشديد الخانق على الفلسطيني ، حتى كأن الدروب كلها سدت أمامه ، فماذا سيكون تأثير ذلك ؟! وإذا أضيف هذا إلى حالة الجوع والفقر والخوف ، بين الدماء والجثث ، وبين الذل والهوان والإحباط ، فماذا نتوقع أن تكون النتائج ؟! سلوا علماء النفس ؟! أو سلوا الذين خططوا لهذه الأوضاع ماذا يريدون ؟! ويجب أن نلاحظ أن الخذلان لم يكن من جانب العالم العربي والإسلامي فحسب ، وإنما من جانب العالم كله . وتقف أمريكا منحازة إلى اليهود بشكل مفضوح مخالف لكل ما تدعيه من مبادئ ، وتقف قوى النظام العالمي كأنها مساهمة في تدبير هذه الجريمة المروعة !
· لكن مع وجاهة هذا الاحتمال ، فكثيراً ما يثير بعضهم أننا نعول على نظرية المؤامرة في التحليل ، فقد يقول قائل حتى لو كان الأمر كذلك فلماذا يفتعلون الأحداث بمثل هذا الحجم الذي قد يخرج عن السيطرة ويثير عليهم المشكلات ؟!
ـ نعم يمكن أن تكون الاحتمالات متعددة . ولكن الذي عرضته انطلقت فيه من واقع حقيقي ، ومن ربط للأحداث والقرائن ولا مجال فيه للخيال أو الظن ، وربما كان الواقع أسوأ مما عرضته وتركت السؤال ليجيب عليه رجال المسؤولية ، وعلماء النفس .
أما الادعاء أو الاتهام بتضخيم نظرية المؤامرة فغريب عجيب ! نعم ! سمعنا مثل ذلك . وهو اتهام خاطئ ، وربما يكون قائله أحد أطراف المؤامرة ، يريد من المسلمين أن يظلوا في خدر وغفلة حتى ينفذ الأعداء أطماعهم . المؤامرة حقيقية واقعة ، أخبرنا بها الله ورسوله ، وحدثنا عنها التاريخ الطويل في الأندلس والهند وشمال أفريقيا والبلاد الإسلامية كلها ، والحروب الصليبية ، وسقوط الخلافة . من أخرجنا من فلسطين وأقام دولة معتدية لليهود ؟! أهذه الأحداث كلها ليست مؤامرة ؟! إذا لم تكن مؤامرة ، فكيف تكون المؤامرة إذن ؟! .. نظرية المؤامرة تعني أن العدو له أهداف ومطابع ، وهذا واضح لا يمكن إنكاره ، ثم إن العدو يخطط بمهارة لتحقيق أهدافه الإجرامية ، ويمضي في تنفيذها ، وهذا واقع جلي ، وتعني أننا نفاجأ بتخطيطه ، وهذا واضح ، وأننا نحن ليس لدينا خطة ولا نهج تجمع الأمة عليه لتقابل مخطط الأعداء الذين اجتمعوا عليه .
مازلنا نعالج قضايانا بردود الفعل والارتجال والشعارات والصراخ والمظاهرات ، والقصائد والمقالات ! أين الخطة والإعداد ؟! . نعم ، لقد أنفقنا أموالاً طائلة ، وصببنا دماء كثيرة . فأين ضاع ذلك كله ، ولماذا منينا بالهزيمة تلو الهزيمة .(/2)
يقول الكثيرون إن قضيّة فلسطين قضيّة إسلامية ! ولكن هذا القول لم يتجاوز الشعار . إن العالم الإسلامي مغيب عن القضية ، وإن القضية في الميدان أصبحت قضية إقليمية أو وطنية ، ولم يعد للإسلام دور عملي ، دور يجمع الأمة الممزقة المتناثرة ! صب الكثيرون عواطفهم ، والعاطفة لا تكفي لمجابهة مخططات المجرمين في الأرض .
إن الإسلام يفرض أن يكون كل مسلم مقاتلاً مستعداً للمعركة أبداً ، وإن الله فرض علينا أن نعدَّ ما نستطيع من قوة ومن رباط الخيل ، على أن يبلغ هذا درجة ترهب العدو ! فأين الإعداد . إن الله فرض علينا أن نكون أمة واحدة ، فأين الأمة الواحدة ، وأين من يسعى لها ، وكثير من القوى تزيد تمزّق الأمة !
أما عن قولك لماذا يفتعلونها بمثل هذا الحجم ، فنعم ربما لا يريدونها كذلك ، ولكن تأتى العواطف والزخم الجماهيري مع الاستفزاز الصهيوني المقابل ، فيجعل من الصعوبة التكهن بأبعاد التطورات . والأطراف الفاعلة في القضية والممسكة بأوراقها تحاول أن تحاصر الأحداث وتوجهها بما يخدم أهدافها . ولكنهم على أي حال بشر يخطئون ويصيبون ، ولا يقيمون في تخطيطهم ومكرهم أي وزن لقضاء الله وقدره .
غير أن الله قد جعل من سننه أن يبتلي عباده وأن يرخي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . فمشكلتنا ليست في "عبقرية " الأعداء ، ولا نعتقد أنهم لا يخطئون . مشكلتنا في ضعفنا نحن . فضعفنا يبرر قوة العدو ، وغفلتنا تظهر عبقريته ، وما هو بعبقري ! وفيهم الفساد والفجور والظلم وكل ما يغضب الله ، ولكنها حكمة الله ، وهو أعلم بحالهم وبحالنا . ونحن علينا أن ننهض لمسؤولياتنا كما يأمرنا الله !
· ولكن ألا يمكن أن يكون هذا التجاوب العاطفي من شعوب العالم الإسلامي والبسالة من الشباب الفلسطيني حمية لدينهم وأرضهم ، سبباً من أسباب الخير للأمة ، وأما آن الأوان للمسلمين أن يكون لهم دور فاعل لقلب خطط الأعداء وبالاً عليهم ؟!
ـ كل شيء محتمل إذا توافرت ظروفه وشروطه . ونحن نؤمن إيماناً يقيناً بأن المسلمين سيحاربون اليهود ويغلبونهم ويقول الحجر : يا مسلم ، يا عبد الله ، هذا يهودي تعال فاقتله . ونلاحظ هنا أن الحجر يقول : يا مسلم ! يا عبد الله ، لا يقول يا فلسطيني ، يا غزي ، يا سوري ! وكذلك سينال شرف هذا النصر وأجره أولئك الذين سيحققونه في مقبل الأيام . أما نحن أبناء اليوم فسيحاسبنا الله على ما نفعله اليوم ، ويعطينا الثواب أو العقاب على عمل اليوم ، وعلى عملنا نحن ، لا على عمل الأجيال المقبلة . فلا داعي أن نجعل من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم سبباً للاسترخاء ، وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه البشرى سبباً لجمع الأمة وإطلاق الحوافز الإيمانية وعدم الركون إلى الذين ظلموا .
أما التجاوب العاطفي فله آثاره الإيجابية ، حيث يوحي بأنه مازال هنالك قلوب تنبض . ولكنَّ له في الوقت نفسه أثرا سلبياً ، حيث عادت هذه المظاهرات ، ثم هدِأت كما هدأ غيرها خلال القرن العشرين ، وهي لا تملك نهجاً ولا خطة ولا عدة . والأمة مفرقة ممزقة ، وكل بلد أُغرق بمشكلاته الكبيرة ! إن الطريق مازال غير مفتوح أمامها .
لكن أود التأكيد هنا على انه لا يعقل أن نتصور معركة بين حجر وبين دبابات وصواريخ وطائرات يمكن أن ينتصر فيها الحجر إذا اقتصرنا عليه ، هذا مخالف لسنن الله تعالى في الخلق ولا يمكن أن نقبله أو نخطط له .
· لكن عذراً شيخنا الفاضل ، هل نفهم منكم أن الحكمة والعقل يقضيان بترك هذه المواجهات في الداخل ؟! وبماذا توجهون الفلسطينيين وبقية العالم الإسِلامي ؟
ـ كلا ! إن المعتدى عليه سيرد على المعتدي بفطرته . حتى إن الكافرين يهبون ليدافعوا عن أنفسهم ! فأبناء فلسطين هبوا ليدافعوا بكل ما يملكون ، فلم يجدوا إلا الحجر . فلا يعقل أن نقول لهم : لا تدافعوا عن أنفسكم ! هذه سنن طبيعية في الناس عامة . ولكن المشكلة ليست هنا ، والحديث يجب أن يوجه ليس لمن يدافع عن نفسه ، ولكن إلى من دبر هذه الأحداث إن كانت مدبرة أو إلى المسلمين عامة الذين غفلوا هذه السنين الطويلة ، فكأنهم ساهموا بطريقة غير مباشرة في ما يجري الآن .
ولكن أنبَّه إلى أنَّ الأحداث الجارية قد تفتح المجال لبعض المجرمين كي يوجَّهوا الأحداث لغير مصلحة الفلسطينيين بخاصة والمسلمين بعامة .
وأوصي أبناءنا وإخواننا في أرض فلسطين بأن يخلصوا نياتهم لله ، ويجعلوا معركتهم في سبيل الله ، فإما نصر وإما شهادة ولقاء الله ، وأن يصدروا عن مشورة ورأي وتدبير .لا عن عواطف و انفعالات بدون تدبير مدروس . ونوصي العالم الإسلامي أن يفيق من غفوته ، وينهض إلى مسؤوليته . وإن الأحداث في فلسطين ، إذا استمر الفلسطينيون فيها وحدهم ، قد تنتهي إلى إخماد العمل ، أو إلى سلسلة جديدة من التنازلات ، أو إلى خطر حقيقي لا وهم فيه ، يهدد العالم العربي ، والعالم الإسلامي !(/3)
نحن حين نمدُّ إخواننا في الميدان في فلسطين بالمال والدعاء والمشورة ، فإننا نؤمن في الوقت نفسه أن هذا وحده لا يكفي ، ولا يحسم الأمر لصالح المسلمين . إنّها لحظات خطيرة في تاريخ المسلمين . لا يكفيها رأي رجل واحد فقط ، ولكنها تحتاج إلى أمة تكون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص .
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " .
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته .
نشر في العدد : 9رمضان 1421هـ .(/4)
حقُّ الهِرَّة
( من الشعر الحُرّ )
في الغربِ حقوقٌ للإنسان
و هنالك أقوامٌ حُرَّة
لا يخشَ الإنسان الغربي
أن يُعلِنَ في الدنيا كُفره
أو يَكرَع من كأسٍ سُكرَه
يحفظُه حقُّ الإنسان
و هناك لجانٌ منتشرة
تدعوكَ لِرِفقٍ بالحَيَوان
و تُطالِبُ في جَلَدٍ و تَفان
بحقوق الكلبةِِ و الهِرَّة
أمَّا إنسانُ سراييفو
و كذاك طفولة كوسوفو
و شعوب الفاقة و الحرمان
يتهدَّدُهُم مِدْفَعُ قاسِفْ
و لمُعظَمهم جَرحٌ نازف
إذ ليسَ لهم حقُّ الإنسان
أو حقُّ بهائِمَ مُجترَّة(/1)
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي
...
...
أجرى الحوار محمد شلال الحناحنة
... ...
...
(نشر الحوار في العدد (228 ) يناير 2003م)
نشأ الأديب الإسلامي الدكتور عدنان علي رضا النحوي في بيئة خاصة ساعدت على صقل ثقافته ونضج تجربته الشعرية، فأهله من أهل العلم والقلم والأدب، وأجداده من القضاة المبرزين وكان الشعر الملتزم بالإسلام روحاً ومنهجاً ممتداً في عائلته عبر تاريخها الطويل … زودته رحلاته الواسعة بنشاط علمي وأدبي كوّن لديه زاداً ثقافيّاً متنوّعاً مبنياً على أسس علمية ودراسات جادة. حفظ كتاب الله ودرس الصحاح ومعظم السنن وكثيراً من كتب الفقه والأدب والتاريخ … اطلع على جوانب متعددة من آداب الشعوب، وقد جمع بين العلم والأدب فهو مختصّ في مجال هندسة الاتصالات الكهربائية … وما زال يرفدنا بأدب حيٍّ ملتزم بقيم الإسلام. له أكثر من ثمانين كتاباً في الفكر والدعوة إلى الله والأدب، وقد التقته ( الفرقان ) أخيراً في العاصمة السعودية لتقطف هذا الحوار من خلال لقاء مفعم بالصراحة والصدق … صدق نظرته الثاقبة، ورؤيته الأصيلة للنهوض بفكر الأمة وأدبها.
* من أين يستمدّ أدبنا الإسلامي أبعاده الإنسانية ؟!
إنَّ أوّل مصدر للأدب الملتزم بالإسلام هو منهاج الله ـ قرآناً وسنّةً ولغةً عربيّة ـ ولا يوجد لدى البشريّة كلّها منهج يربط الإنسانيّة الصادقة مثل منهاج الله.
ومنهاج الله غذاء ممتدّ لا ينقطع، يمدّ المؤمن بكلّ ما يحتاجه بهداية الله وإذنه، ليحافظ المؤمن على فطرته السويّة التي فطره الله عليها ليلتقي الناس على الحقّ، لقاءً يحفظ حقوق الإنسان في الأرض كلّها، بأمانة وعدل. ولذلك كان من أول حقوق الإنسان وأهمها حماية الفطرة التي فطره الله عليها. وهذا الحق أهملته جميع اللجان المختصة بحقوق الإنسان، وجميع المبادئ إلا الإسلام الذي رعى هذا الحق حقّ الرعاية.
ولا ننسى أن الأدب ليس عاطفة فحسب، وليس فكراً، ولكنّه تفاعل الفكر والعاطفة حين تشعل الموهبة تفاعلهما في لحظة تنمو على كلّ منهما شحنات من زاد الواقع وميادينه المختلفة، كما فصلت ذلك في أكثر من كتاب حول : قانون الفطرة، أو الفطرة ودورها في ولادة النص الأدبي وغير ذلك.
المفهوم الإنساني مضطرب في واقع البشريّة اليوم، حيث حولوا الحريّة إلى تفلّت الجنس وادّعوا أنها حريّة إنسانية، وحولوا حاجة الإنسان إلى الرغيف وحصروها فيه ليدور الأدب حوله فقط، وحصروا العدالة في حماية المصالح الخاصة للمجرمين في الأرض وسموا ذلك مظهراً إنسانياً. أما الإسلام ( المنهاج الرباني )، فيرتفع بالحريّة والحاجات الإنسانيّة، والعدالة وحقوق الإنسان إلى أسمى آفاقها الصادقة الأمينة وأوسعها.
ولقد أخطأ بعض أدبائنا حين أخذوا بعض المعاني الإنسانيّة عن الغرب فانحرفوا بالأدب إلى ميادين الحداثة والبنيوية والتفكيكية والأسلوبية، إلى ميادين مزّقت الإنسان وجعلته وحشاً مفترساً يغطي وحشيته بشعارات كاذبة ضللت الكثيرين.
ويأخذ الأدب الملتزم بالإسلام معاني إنسانيته في ميدان التطبيق من فتوحاته العظيمة التي تفرّدت في التاريخ البشري بأنها هي وحدها التي نشرت معاني الحقّ والإنسانيّة دون أن تلتفت إلى نهب الشعوب وسرقة خيراتها كما تفعل الدول الرأسمالية والشيوعية، فليس في التاريخ البشري كلّه حروب مشرقة الحق والخير والإنسانية إلا حروب الإسلام يقودها الأنبياء والمؤمنون بهم، حتى تأخذ ذروة سموها في فتوحات جنود محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
ويأخذ الأدب الإسلامي إنسانيته من الأديب المسلم، الملتزم بالإسلام إيماناً وعلماً ويمارسه، الأديب الذي طهّر نفسه من العصبيّات الجاهليّة وارتقى بنفسه إلى أفق الإنسانية يحمل لها نهج الإيمان والتوحيد وقواعد الإسلام.
الأديب الذي صفت فطرته وسلمت، وصدقت عزيمته وانطلقت، فصدقت كلمته طيبة خالصة لله، لا يتاجر بها ولا يهبط إلى نزعات الهوى ومصالح شهوات الدنيا.
* نشرت عدة ملاحم شعريّة منذ مدة. لكن هناك من يطرح أنَّ الملاحم الشعريّة لدينا ما زالت تفتقر إلى الفنية الجمالية، ما ردّك على ذلك ؟!
للحكم على نصّ أدبيّ فنيّ لا بد أن نتفق أولاً على " الميزان "، على " المنهج "، وعلى " النظرية "، على أسس ينهض عليها الحكم. فإذا اختلف الميزان والمنهج والنظرية اختلف الحكم تبعاً إلى ذلك. فلا بدّ من تحديد مفهوم الجمال ومفهوم الملحمة.
لقد حددت أنا أسس الجمال الفني وعناصره والعوامل التي تبنيه بتفصيل جيد. واختلفت بذلك اختلافاً جذرياً عن نظريات الجمال الغربية وفصّلت هذه وتلك وقارنت بينهما. والمؤسف المؤلم جداً أن بعض أدبائنا ما زالوا يأخذون بنظريات الجمال المادية الغربية الرأسمالية والشرقية الشيوعية، تلك النظريات التي تسخّر الجمال لخدمة مصالح المجرمين في الأرض.(/1)
وكذلك بالنسبة للملحمة فإني رفضت رفضاً كاملاً الملحمة الوثنيّة الموروثة عن اليونان وغيرها، وبيّنت العناصر التي تقوم عليها تلك الملاحم من وثنيّة واضحة كلّ الوضوح وأساطير وفتنة ممتدّة. وعرضت نظرية جديدة للملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام وشرحتها، ثمَّ قدّمت نماذج تطبيقية على ذلك تؤكد عناصر الجمال الفني المطلوبة في الأدب كما أومن بها، إلا أنه ما زال بعض أدبائنا يتمسكون بمفهوم الملحمة الوثني، ولا سيّما من حيث الطول، فكأن الملحمة ملحمة بطولها وعرضها وليس بمحتواها. إنهم يصرّون هنا على الشكل، وهم الذي يريدون أن نترك القديم كلّه لنجدد ونطوّر على أن يكون ذلك في أدبنا نحن المسلمين، في ديننا ولغتنا، فإذا تعلّق الموضوع بالوثنيّة اليونانيّة أو غيرها تمسكوا بالقديم شكلاً ومضموناً، وسقط في هذه الفتنة المكشوفة عدد من المسلمين وأدبائهم.
يريدون التطوير والتحديث والنموّ فإذا قدّمنا النظرية الإيمانية للجمال تململوا، وإذا قدمنا نظرية جديدة في النقد والأدب والملحمة والأسلوب ثاروا وضجوا وقالوا لِمَ التجديد ؟! التجديد والنموّ عندهم هو التجديد العلماني.
وحين تخضع الملامح التي قدمتها إلى قواعد الجمال الحقيقية فسنجدها إن شاء الله غنيّة بكلّ معاني الجمال الفني بكل المعايير إلا معايير الحداثة والبنيوية والتفكيكية وأمثالها. وربما كانت غنيّة بالجمال حتى في معاييرهم، حين يحسون بإشراقة الجمال ويدركون منابعه الغنيّة، ولكنهم يخفون الحقّ الذي يدركونه، كبراً وفتنة.
* الحداثة في منظورك الإيماني ماذا تمثّل ؟!
لقد أجبت على ذلك بالتفصيل في ثلاثة كتب مورداً النصوص ثم الحجّة القاطعة من الكتاب والسنة حتى أُسقط في يد الحداثيين، وهرع بعض المؤمنين ليصوروا بعض الصفحات ويوزعوها في مرحلة كانت المعركة حامية الوطيس. وتناولت بعض الصحف هذه الكتب، وكذلك بعض الأدباء، بالتقدير الكريم.
وأوجز رأيي بصورة حاسمة فاصلة : إنَّ الحداثة بجميع مذاهبها تقوم على فكر خارج عن الإسلام محارب له، يصُدُّ عن سبيل الله، وقد حاول بعض الأدباء المسلمين أن يوجدوا ما أسموه " حداثة إسلامية " فردّ الحداثيّون أنفسهم عليهم : "الحداثة حداثة لا علاقة لها بالدين، تؤخذ كلّها كما هي أو تترك كلّها ".
وأعود وأقول : إن الحداثة ومذاهبها فتنة انسلّت إلى أقدام بعض المسلمين وقلوبهم وصبّت في عروقهم الخدر حتى لم يعودوا يشعرون بهول الجريمة التي ترتكبها الحداثة في واقع المسلمين اليوم.
والحداثة امتدّت في واقعنا إلى جميع الميادين :
الفكرية، الأدبية، السياسية، الاقتصادية، الخلقية، الاجتماعية، ولا ننكر أنها أثرت في واقعنا لسببين :
أولاً : ضعف المسلمين وجهل عدد غير قليل من الأدباء بالإسلام، حتى إنَّ بعضهم لا يكاد يفتح كتاب الله مرة في الأسبوع أو الشهر أو أكثر. والذين يعون إسلامهم زيّن لبعضهم الشيطان تلك الحداثة فسقطوا فيها.
ثانياً : الغزو الجامع الشامل لبلادنا : عسكريّاً وفكريّاً وإعلاميّاً وأدبيّاً. تفاعل السّببان معاً : فكان التأثير بكلّ أسف مؤذياً وقويّاً. وما زالت الحداثة وأشكالها تلقى الدعم والتأييد من بعض المسلمين ومن المستويات المختلفة والقوى الظاهرة والباطنة.
الحداثة صورة من صور العلمانية، تحمل نهجاً يمضي على مراحل لتحقيق أهدافها، مع كلّ مرحلة تحمل زخرفاً يسقط في فتنته بعض المسلمين، والحداثة حين تتمثل في الأدب تجعل له فكراً يتردد هنا وهناك بأسلوب ماكر لا ننكر براعته، يوقع في حبائله بعض المسلمين، وذلك على مراحل لمحاربة اللغة العربية خطوة خطوة كأسلوب الشيطان حين يستدرج ابن آدم. وحين يصيبوا هدفين في وقت واحد، أخذوا بنشر الشعر الذي يسمونه حراً، منثوراً أو بالتفعيلة، ويقول بعضهم إذا أخذ المسلمون بشعر التفعيلة يمكن أن نهزّ إيمانهم بالقرآن لنبيّن لهم أنه شعر كذلك. فشعر التفعيلة أخطر على اللغة العربية وعلى الإيمان من المنثور، وكلاهما خطر!
الحداثة في منظور إيماني تمثّل خطراً حقيقياً على الفكر واللغة، يجب دفعه مهما اتخذ من وسائل الزخرف والفتنة والإغراء، وهذا واجب على كلّ مسلم.
ومن المؤسف أنه مهما اختلفت وجهات نظر الحداثيين ومذاهبهم، فإنهم صف واحد أمام المسلمين ودينهم وأدبهم ولغتهم يدعم بعضهم بعضاً، لا يعطّل ذلك عصبيّات جاهليّة، ولكن المسلمين يُضعف جهدهم تمزّقهم وغلبة بعض العصبيّات الجاهلية والأهواء الفرديّة(/2)
حفل زفافٍ في الأقصى
بقلم : د. وسيم فتح الله
يقولون إنك عازمٌ على الزواج وأنك تبحث عن العروس، فأتعجب من اقتحامك جبهات الحرب الضروس، ألم يكن العزم منك على الزواج أكيداً، فمن سيكون مع العروس إذا ما صار العريس شهيداً...
من أنت أيها اللاهث وراء محبوبته، من أنت أيها المُعرض عن بنات عشيرته، هل أنت الذي قد خطب الحورية، ألهذا تستعجل لقاء رب البرية، فقل لي بربك من أنت يا من تتزين لك القدس في عرس الشهادة، من أنت يا من تستعجل الموتَ بُعيد الولادة، وتأبى نفسك الأبية إلا أن تطهر ساحة العرس من رجس بني صهيون، فإذا بجسدك يصب دماءه سجلاً من عبق المسك لتنتشي أرض الإسراء بالطهارة من جديد، ولتعلن روحُك انطلاقتها إلى عالم السماء، مخلِّفةً وراءها ذكرى الشهادة؛ خضاباً وأشلاء...
من أنت حتى تتأهب لك مواكبُ السماء، لتتناول الجسدَ بحنوط الجنة وتستقبلَ روحَك طيورُها الخضراء، حتى إذا وصلتَ تاقت نفسُك للعودةِ مِن جديد، أي جنسٍ من البشر أنت، وكيف كانت صناعةُ هذا الشهيد... هل كان ترابُ الأقصى هو الإكسير، أم كان السرُّ في أنّات الضمير، أحقاً هي قضيةُ وطنٍ وتراب، أو مبادئ إنسانية يزعمون وسراب، فكيف إذاً نحتفلُ مع فجرِ كل يومٍ جديد، وفي كل زاوية من الدنيا بعرس الشهادة وميلاد الشهيد... كلا، ليس السرُّ فيك وحدك يا أقصى، فمواكبُ أعراسِ الشهادة اليوم لا تُحصى، في كل يومٍ في كل زاويةٍ من الدنيا تنطلق زفةٌ جديدة، يُجندِلُ شهيدُنا فيها أهلَ الكفر يزلزلهم زلزالاً شديداً، ويمضي مع حوريته يعتمرُ تاج الوقار، ويبقى المتاجرون بعِرض القدس يجرون أذيال الخيبة يتمرغون في الصغار، مبادراتٌ مساوماتٌ مفاوضات، كلها ماتت ولكنّ شهيدَنا ما مات...
السر إذن في آياتِ الأنفال، في سورة التوبة وسورة القتال، نعم ليس السرُّ فيك يا أقصى بل في معنى الشهادة، الذي حوَّله القرآن من حبٍ للوطن إلى عبادة، ليست الهندسةُ إذن أسلاكٌ وعبوات، وليس الإبداع في اختراق أسوارٍ ودفاعات، بل هي تطليقةٌ بائنةٌ للدنيا تقمع في نفسك الشهوات، تقول للدنيا بأَسرها ليس الشهيدُ بميت ولكنه أسيرُ الملذات، ليست الهندسةُ إذن إلا سيلاً عارماً من مُحِبِّي الشهادة، يتدفقون من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ليرفعوا هامَهم بعزٍ قائلين: نحن الذين تمنى منزلتَنا إمامُ الغرِّ المحجَّلين...(/1)
حوار على باب المنفى
شعر : أحمد مطر
* لماذا الشِّعْرُ يا مَطَرُ ؟
- أتسألُني
لِماذا يبزغُ القَمَرُ ؟
لماذا يهطِلُ المَطَرُ ؟
لِماذا العِطْرُ ينتشِرُ ؟
أَتسأَلُني : لماذا ينزِلُ القَدَرُ ؟!
أنَا نَبْتُ الطّبيعةِ
طائرٌ حُرٌّ،
نسيمٌ بارِدٌ ،حَرَرُ
محَارٌ .. دَمعُهُ دُرَرُ !
أنا الشَجَرُ
تمُدُّ الجَذْرَ من جوعٍ
وفوقَ جبينِها الثّمَرُ !
أنا الأزهارُ
في وجناتِها عِطْرٌ
وفي أجسادِها إِبَرُ !
أنا الأرضُ التي تُعطي كما تُعطَى
فإن أطعَمتها زهراً
ستَزْدَهِرُ .
وإنْ أطعَمتها ناراً
سيأكُلُ ثوبَكَ الشّررُ .
فليتَ ( اللاّتَ ) يعتَبِرُ
ويكسِرُ قيدَ أنفاسي
ويَطْلبُ عفوَ إحساسي
ويعتَذِرُ !
* لقد جاوزتَ حَدَّ القولِ يا مَطَرُ
ألا تدري بأنّكَ شاعِرٌ بَطِرُ
تصوغُ الحرفَ سكّيناً
وبالسّكينِ تنتَحِرُ ؟!
- أجَلْ أدري
بأنّي في حِسابِ الخانعينَ، اليومَ،
مُنتَحِرُ
ولكِنْ .. أيُّهُم حيٌّ
وهُمْ في دوُرِهِمْ قُبِروا ؟
فلا كفُّ لهم تبدو
ولا قَدَمٌ لهمْ تعدو
ولا صَوتٌ، ولا سَمعٌ، ولا بَصَرُ .
خِرافٌ ربّهمْ عَلَفٌ
يُقالُ بأنّهمْ بَشَرُ !
* شبابُكَ ضائعٌ هَدَراً
وجُهدُكَ كُلّهُ هَدَرُ .
بِرملِ الشّعْرِ تبني قلْعَةً
والمدُّ مُنحسِرُ
فإنْ وافَتْ خيولُ الموجِ
لا تُبقي ولا تَذَرُ !
- هُراءٌ ..
ذاكَ أنَّ الحرفَ قبلَ الموتِ ينتَصِرُ
وعِندَ الموتِ ينتَصِرُ
وبعدَ الموتِ ينتَصِرُ
وانَّ السّيفَ مهما طالَ ينكَسِرُ
وَيصْدأُ .. ثمّ يندَثِرُ
ولولا الحرفُ لا يبقى لهُ ذِكْرٌ
لدى الدُّنيا ولا خَبَرُ !
* وماذا مِن وراءِ الصّدقِ تنتَظِرُ ؟
سيأكُلُ عُمْرَكَ المنفى
وتَلقى القَهْرَ والعَسْفا
وترقُبُ ساعةَ الميلادِ يوميّاً
وفي الميلادِ تُحتضَرُ !
- وما الضّرَرُ ؟
فكُلُّ النّاسِ محكومونَ بالإعدامِ
إنْ سكَتوا، وإنْ جَهَروا
وإنْ صَبَروا، وإن ثأَروا
وإن شَكروا، وإن كَفَروا
ولكنّي بِصدْقي
أنتقي موتاً نقيّاً
والذي بالكِذْبِ يحيا
ميّتٌ أيضَاً
ولكِنْ موتُهُ قَذِرُ !
* وماذا بعْدُ يا مَطَرُ ؟
- إذا أودى بيَ الضّجَرُ
ولمْ أسمَعْ صدى صوتي
ولمْ ألمَح صدى دمعي
بِرَعْدٍ أو بطوفانِ
سأحشِدُ كُلّ أحزاني
وأحشِدُ كلّ نيراني
وأحشِدُ كُلّ قافيةٍ
مِنَ البارودِ
في أعماقِ وجداني
وأصعَدُ من أساسِ الظُلْمِ للأعلى
صعودَ سحابةٍ ثكْلى
وأجعَلُ كُلّ ما في القلبِ
يستَعِرُ
وأحضُنُهُ .. وَأَنفَجِرُ !(/1)
حوار موقع الشبيبة الإسلامية المغربية "
...
...
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
س1 : ما هو تقويمكم لأوضاع المسلمين الحالية ؟!
لقد سبق أن قدَّمتُ عدة دراسات عن واقع المسلمين اليوم، ولكن أُوجز ذلك قدر الإمكان.
هنالك خلل واضح في التصوَّر الإيماني والتوحيد، حيث نُسِي العهد مع الله، واضطربت معاني الولاء والموالاة وحدودها، وغلب الجهل بالكتاب والسنّة على الملايين من المسلمين، فساء فهمهم للواقع من خلال المصالح الدنيوية والأهواء لا من خلال ردِّه إلى منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ. وبسبب هذه العوامل الثلاثة برز الخلل الرابع في الممارسة في مختلف الميادين الاقتصادية والسياسية والتربوية والاجتماعية والأدبيَّة.
ونتج عن ذلك كلّه خلّو النشاط من نهج وخطة لتقابل ما يتطلبه الواقع من مواجهات مناهج مرسومة ومكر مبيَّت وأعداء متربّصين. فحلَّت بنا الفواجع التي نراها بما كسبت أيدينا، لأنها كلّها قدر حقٌّ من الله، والله لا يظلم، والله يقضي بالحقِّ.
س2 : ما هو تقويمكم لأوضاع الحركات الإسلامية المعاصرة ؟!
آخر كتاب أصدرته : " تمزّق العمل الإسلامي بين ضجيج الشعارات واضطراب الخطوات "، وقبله كتيّب : " المسلمون بين الواقع والأمل " كان نصيحة أقدِّمها للحركات الإسلامية والمسلمين بعامة.
أعتبر أنَّ تمزَّق العمل الإسلامي على صورته الراهنة إثم كبير ومعصية لله، في مخالفة صريحة لنصوص محكمة من الكتاب والسنَّة. لقد تقطَّعت أهمَّ رابطة بين المسلمين، الرابطة الربَّانيَّة، رابطة أُخَّوّة الإيمان، من خلال العصبيات الجاهلية المتنوعة : العائلية والإقليمية والقوميّة والحزبيّة، العصبيات التي حرَّمها الإسلام وتمسَّك بها كثير من المسلمين. وبسبب ذلك اضطربت الأفكار والخطوات، وتسلّل بين المسلمين شعارات ومبادئ مخالفة للإسلام، أخذ المسلمون يحاولون تزيينها وإخفاء سوءاتها بطلاء وأصباغ من الإسلام، يحرَّفون بها آيات وأحاديث.
س3 : ما هي الثوابت والمتغيَّرات التي ينبغي مراعاتها من الحركات الإسلامية المعاصرة عند ترتيبها لأولويات العمل الفعَّال المنتج ؟!
الثوابت هي التي ثبَّتها الله في محكم كتابه، والمتغيَّرات هي الاجتهادات أو بعضها مما هو جهد بشريّ يَثْبُتُ بمقدار ثبات الحجة والبيِّنة التي قام عليها الاجتهاد من الكتاب والسنة وثبات ارتباطها بالواقع، وتتغيَّر بتغيُّر الواقع وتوافر الحجة الجديدة للواقع الجديد من الكتاب والسنة أيضاً مع وعي الواقع، دون فساد تأويل أو انحراف بالآيات والأحاديث. ولذلك أضع من البداية القاعدة التالية بدلاً من القاعدة السابقة التي انتشرت بين المسلمين :
" يجب أن نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الاختلاف فيه ".
فالتعاون أو الاختلاف مرهون بأمر الله بنصوص الكتاب والسنة، وليس متفلِّتاً مع الرغبات والأهواء، ولا متروكاً لاجتهاداتها.
إننا نجابه اليوم أخطر لحظة مرَّت على المسلمين في تاريخهم كلّه، والخطر آخذ بالازدياد والاتساع، والفتنة آخذة بالامتداد، والعقاب والعذاب بين يدي الله محكم في منهاج الله. ولذلك أدعو إلى ما أُسمّيه : " لقاء المؤمنين " ليس لقاءً إداريّاً شكليَّاً، ولكنُّه لقاء نهج وخطة وأهداف مسيرة، حتى تقوم الأمة المسلمة الواحدة في الأرض.
ومن أجل ذلك لا بدَّ من قاعدة يلتقي عليها المؤمنون، وهذه القاعدة هي النهج المفصل والنظرية العامة، والمناهج والنماذج، والأهداف المحدّدة، والوسائل والأساليب التي يمكن أن تتطور من خلال الممارسة الإيمانية في الواقع، على أن يكون ذلك كله نابعاً من منهاج الله ملبيَّاً لحاجة الواقع.
ومن أجل ذلك أُقدِّم النهج والنظرية والأهداف وغير ذلك في دراسات مفصَّلة، لتكون حجة علينا يوم القيامة أو لنا.
إذا لم يلتق المؤمنون المتقون الصادقون الذين يريدون الدار الآخرة على نهج محدد نابع من منهاج الله ملبٍّ لحاجة الواقع، فلن نستطيع الإفلات مما يكاد لنا.
الثوابت من أجل ذلك : صفاء الإيمان والتوحيد وصدقهما عن وعي وعلم، الكتاب والسنة وتدبرهما تدبراً منهجيَّاً مستمرَّاً مع الحياة، وإتقان اللغة العربية معهما، ليُبنى على ذلك فهم الواقع وإقامة النهج والنظرية العامة والأهداف.
وأهم الثوابت اليوم على ضوء ما سبق : لقاء المؤمنين المتقين على النهج المحدد والقاعدة المتينة لتمضي المسيرة على صراط مستقيم، وليقوم الثابت الآخر وهو وجوب التعاون، فيما أمر الله التعاون فيه.
س4 : العلمانيون ( الحداثيون ) في ظاهر الأمر تياران … فما مآل هذين التيارين ؟!
لا أرى العلمانيين والحداثيين تيارين. هما تيار واحد، فملّة الكفر واحدة، وقد تختلف الأساليب لبلوغ أهداف ثابتة. مَنْ يُعْلن احترام الدين ويدعو إلى فصله عن السياسة كاذب في إعلانه أو مخادع، وكافر في دعوته إلى فصل الدين عن السياسة.(/1)
أما مدى نجاح العلمانية والحداثة في محاولة استئصال الدين مع اختلاف الأساليب يعتمد أولاً على المؤمنين أنفسهم. فلن يستطيعوا أن يبلغوا شيئاً مادام المؤمنون صفَّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وأمة واحدة، كما أمرهم الله أن يكونوا.
فمن خلال الفرقة والتمزَّق يتسلل هؤلاء بأساليب مكرهم التي تتبدَّل بين لين حيناً، وخداع حيناً آخر، وبين حرب وإهلاك وإفساد.
إن مجاملة هؤلاء بما يخالف منهاج الله محاولة تسبّب لنا خسارتين كبيرتين:
الأولى : خسارة عون الله ورضاه ومدده، والثانية : نزع مهابتنا من صدورهم حين يرون أننا نتنازل عن حقٍّ ورسالة.
لا يملك المسلمون اليوم، إذا أرادوا النجاة إلا أن يجهروا بدينهم كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم وتبليغه للناس كافة وتعّهدهم عليه، بدلاً من الانشغال هنا وهناك في قضايا يقصد بها الإلهاء، وقد استهلكت طاقة المسلمين وأوقاتهم.
إنَّ تبليغ دعوة الله أمر فرضه الله على الأمة المسلمة كلّها بعد النبوّة الخاتمة. وهو من أهمِّ الثوابت في الإسلام، إلا أنَّ التبليغ يجب أن يتمَّ عن نهج وخطة ومراحل، ومتابعة مستمرّة، وبذل كبير.
لقاء الصادقين المتقين، على قاعدة ونهج متكامل، وبناء الجيل المؤمن، والمضيّ على صراط مستقيم، إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنّة.
س5 : ما هي في رأيكم سبل مواجهة الأمة المسلمة لموجة الاستضعاف …؟!
لا أعتقد أن هناك سُبُلاً أبداً. إنما هناك سبيل واحد بيّنه الله لنا وفصَّله، ونهى عن السبل الأخرى.
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
[ يوسف : 108 ]
( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون )
[ الأعراف : 3]
(وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلّكم تتقون )
[ الأنعام : 153 ]
ولقد جعل الله صراطه مستقيماً حتى لا يضلَّ عنه، وجعله واحداً حتى لا يُخْتَلف عليه، وبذلك يجتمع المؤمنون كلهم صفاً واحداً. ولنذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين تلا الآية الكريمة ورسم خطاً ليدلَّ على الصراط الواحد المستقيم وخطوطاً جانبية وقال : على رأس كل سبيل شيطان يدعو إليه.
لا أرى سبيلاً آخر للنجاة غير ما بيّنه الله لنا وأمرنا باتباعه حتى ينزل النصر علينا إن نحن صدقنا.
وحتى يتم ما ذكرته في الإجابة على هذه الأسئلة الخمسة أرى أنه لا بدّ من أن نغيّر ما بأنفسنا حتى نطمئنَّ أنها على طاعة ورضا واستقامة إنها مجاهدة النفس !(/2)
حيفا من الشاطئ الغربي في عكا
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
حَيْفَا ! فَدَيْتُكِ مَا أَبْهَى مَغَانِيْكِ
وَكَمْ يَطِيْبُ الهَوى في ظِلِّ نَادِيْكِ
مَا الحُسْنُ إلاَّ كِتَابٌ أَنْتِ أَسْطُرُهُ
أَوْ أَنَّهُ قُبْلَةٌ قَرَّتْ عَلى فِيكِ
مَا أَنْتِ إلاَّ عَرُوسُ البَحْرِ مِنْ قِدَمٍ
عَلَوْتِ كِبْرَاً فَمَالَ البَحْرُ يغرِيكِ
لَمْ يَهْوَ غَيْرَكِ مِنْ شَتَّى عَرَائِسِهِ
فَخَفَّ نَحْوَكِ في هَمْسٍ يُنَاجِيكِ
سعَتْ عَرَائِسُهُ تُهْدِي تَهَانِيهَا
وَمَا عَرَائِسُهُ إلاَّ جَوَارِيكِ
هلاَّ رَضِيتِ ! فَكَمْ أَلْقَى جَوَاهِرَهُ
عَلَيْكِ لَيْلاً وَكَمْ شَعَّتْ لآلِيكِ
حَبَاكِ مِنْ قَلْبِهِ حَبَّاتِهِ كَرَمَاً
وَلَمْ يَنَلْ غَيْرَ لَثْمٍ مِنْ أَيَادِيكِ
تُبْدِينَهَا في الدُّجَى وَاللَّيْلُ لَيْلُ هَوَى
لَيْسَتْ لَيَالي الهَوَى إلاَّ لَيَالِيكِ
وَبِتِّ حَالِمَةً ! إِنَّ الهَوَى حُلُمٌ
وَقُمْتِ نَاطِقَةً رَقَّتْ مَعَانِيكِ
1946م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان الأرض المباركة(/1)
حفريات في ذاكرتي (الحلقة الأولى)
د. عبدالعزيز الرنتيسي * 22/5/1424
22/07/2003
أينما وليت شطر ذكرياتٍ مرت بخيرها وشرها وحلوها ومرها؛ وجدت أن المعاناة الناجمة عن احتلال فلسطين تصبغ كل شيء في حياتنا كشعب فلسطيني، وأجدني مضطراً إلى العودة إلى أحداث من تلافيف الماضي البعيد، التي حتماً ستسلط بعض الضوء على حجم الكارثة التي حاقت بالشعب الفلسطيني، الذي لم يكن له من ذنب إلا أنه شعب فلسطيني مسلم، وقد غلف اليهود جرائمهم بحق شعبنا المعذب على أيديهم بغلاف توراتي أسطوري، ولقد حفرت بعض المآسي أخاديد عميقة في الذاكرة؛ فلا يمكن نسيانها، ومنها:
مذبحة خان يونس على يد اليهود عام 1956
في عام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر احتل الصهاينة قطاع غزة، وارتكبوا مجازر بشعة كعادتهم، ولكن هذه المرة في مدينة (خان يونس) حيث كنت أقيم في مخيمها منذ أخرجت مع أسرتي من قريتي (يبنا) التي تقع بين (اسدود) و (يافا) وأنا ابن ستة أشهر؛ لأجد نفسي في معسكر (خانيونس) للاجئين الفلسطينيين، لقد ارتكبت المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، حيث كان اليهود يقتحمون البيوت ويقتلون كل من فيها من رجال أمام أزواجهم وأبنائهم، وكان لي عم يدعى "حامد الرنتيسي"، ولم يكن لأبي أخوة غيره، ولقد اقتحم اليهود بيته كما اقتحموا بيوت الجيران، وكان يجلس مع زوجته وأبنائه، فصوبوا عليه السلاح، فما كان من ابن عمي "موفق" ابن التسع سنوات إلا أن ألقى بنفسه على والده، ولكن القتلة اليهود لم يكترثوا لهذا المشهد، ولم يترددوا في إطلاق رصاص بنادقهم؛ فقتلوا الوالد وأصابوا الطفل بجراح متوسطة في ساعده، وبعد أن اقترفوا جريمتهم تلك انتقلوا إلى البيت المجاور بيت آل "السعدوني" حيث كان أربعة إخوة، فأمروهم بالوقوف ووجوههم إلى الجدار، ثم أطلقوا عليهم الرصاص فحصدوا أرواح ثلاثة منهم، وقفز الرابع فوق الجدار فأصابوه في قدمه، ولكنه تمكن من الفرار ليبقى شاهداً على المجزرة حتى يومنا هذا، وهو السيد "خميس السعدوني".
لقد قتل الصهاينة في مذبحة (خان يونس) بدم بارد 525 فلسطينياً، جميعهم من المدنيين الأبرياء، ولقد تعفنت جثثهم في شوارع المخيم، وكان الأمر لا يطاق. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
الفقر الذي عاشه الفلسطينيون إحدى جرائم الاحتلال
لقد كنا في وطننا نعيش حياة كريمة ميسورة؛ بيت جميل في (يبنا) لا زال قائماً حتى يومنا هذا وقد ولدت فيه، وبستاناً واسعاً يحيط بالبيت من كل جانب، ولكن الصهاينة الذين اغتصبوا الوطن وشردوا أهله وضعونا بين فكي الفقر يطحننا طحناً، مما اضطر أخي الذي يكبرني مباشرة إلى أن يترك دراسته ليتعلم حرفة يستطيع من خلالها الإنفاق علينا، وكان الوالد قد توفي عام 1962؛ ليصبح أخي رب الأسرة، ولكن دخله من هذه الحرفة وهي "الحلاقة" كان زهيداً جداً، فأخذ يرنو إلى الذهاب إلى السعودية وهو ابن العشرين من العمر عله يجد عملاً ينقذنا به من براثن الفقر، وفي عام 1964 عقد العزم على السفر، وفي هذا العام كنت أشق طريقي إلى الثانوية العامة؛ فخرجنا لوداعه بعد صلاة الفجر مباشرة نسير على أقدامنا متجهين إلى محطة القطار، وبينما نحن نسير إذا بالوالدة -رحمها الله- تقول لي: يا بني أعط حذاءك لأخيك؛ حتى لا يذهب إلى السعودية حافي القدمين، وأما أنت فسيرزقنا الله، ونتمكن من شراء حذاء لك قبل بداية العام الدراسي -الذي كان فعلاً على الأبواب-، وقد فعلت وأعطيت أخي الحذاء الذي كنت قد اشتريته من الأحذية المستخدمة بملاليم قلائل، وعدت إلى البيت حافياً.
الاحتلال والضريبة المضافة(/1)
لقد دمر الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة البنية التحتية للشعب الفلسطيني، وانصب اهتمام العدو على نهب ثروات هذا الشعب واستنزاف اقتصاده بالرغم من الضعف الشديد في البنية الاقتصادية للشعب الفلسطيني، ففضلاً عن أن مرتبات الموظفين الفلسطينيين في مختلف الوظائف لا تصل إلى ثلث مرتبات نظرائهم من اليهود مع أن الظروف المعيشية واحدة، إلا أن العدو الصهيوني كان يفرض ضرائب باهظة على الفلسطينيين، من بينها ضريبة الدخل، وكذلك الضريبة المضافة التي تصل إلى 18% من مجمل الدخل، ولقد لاحق العدو الصهيوني العديد من الأطباء عام 1981 بهدف استنزافهم ضريبياً، مما اضطررنا معه كقيادة منتخبة للجمعية الطبية العربية الفلسطينية والتي كانت بمثابة "نقابة الأطباء" إلى إعلان الإضراب العام عن العمل؛ فلا نستقبل إلا حالات الطوارئ، ولقد خضنا إضرابنا الطبي ضد الضريبة المضافة، ثم اتسع الإضراب ليشمل نقابة المحامين، وجمعية المهندسين، وبلدية (غزة)، وبلدية (خان يونس)، وباقي الجمعيات والبلديات، وتحول الأمر إلى انتفاضة شعبية استمرت لمدة ثلاثة أسابيع، وقد سقط فيها شهيدٌ واحد وعددٌ من الجرحى، ثم تحركت الضفة الغربية بإرسال الوفود وإصدار بيانات الدعم والتأييد، وكادت أن تتسع رقعة الإضراب لتشمل الضفة أيضا، ولكننا بعد ثلاثة أسابيع اضطررنا لوقف الإضراب بقرار ذاتي دون إلغاء الضريبة المضافة، وذلك رأفة بالوضع الصحي للشعب الفلسطيني، ولقد واصل الأطباء تحديهم من خلال قيامنا بجمع تواقيعاتهم على مذكرة يرفضون فيها دفع الضريبة المضافة، وأثناء الإضراب اتخذ العدوالصهيوني قراراً بفرض الإقامة الجبرية عليّ، مما حال بيني وبين ذهابي إلى مقر الجمعية الطبية في مدينة (غزة) لعدة أيام، وذلك لأنني كنت مقيماً في مدينة (خان يونس).
وبعد فترة زمنية تصل إلى العام تقريباً بدأت ملاحقتي من قبل الصهاينة الذين يعملون في الضريبة المضافة، حيث استدعيت إلى مقر الضريبة وطلب مني دفع المستحقات فرفضت ذلك؛ فقاموا بعدها بمداهمة عيادتي الخاصة واستولوا على جميع محتوياتها، وأخذوا يساومونني على دفع الضريبة أو أنهم سيقومون ببيع العيادة في المزاد العلني، وكانت محتويات العيادة أغلى ثمنا من الضريبة المطلوبة، ولكني رفضت لمبدأ القضية، فرفض الضريبة في واقع الأمر يعتبر رفضاً للاحتلال، ولو تمرد الشعب الفلسطيني عن دفع الضريبة وطور الأمر إلى عصيان مدني؛ لضاق الاحتلال بذلك ذرعاً، ولقد حاول الصهاينة بعد ذلك الذهاب إلى بيتي لأخذ ما يمكن أخذه من ثلاجة وغسالة وتلفاز، ولقد حضروا إلي وقت دوامي في عيادتي الخاصة، حيث استمر عملي بها دون إعادة إعدادها بأجهزة وأثاث ذي قيمة، وطلبوا مني الذهاب إلى البيت فرفضت؛ لأنهم لم يكونوا على علم بعنوان البيت كرجال ضريبة، وقلت لهم متذرعاً: "لن أسمح بالذهاب إلى البيت حتى تحضروا إذناً من الشرطة بتفتيش البيت"، ولكنهم والحمد لله رفضوا، وكان هدفي إخلاء البيت من أجهزة منزلية يمكنهم أخذها، واقتادني الجند إلى سيارة خاصة بالضريبة بينما هم ساروا خلفها بسيارتهم العسكرية، وأخذوا يسألون عن بيتي في الأحياء الراقية في مدينة (خان يونس)، ولم يخطر ببالهم أنني أسكن في بيت متواضع في المخيم، وكانوا يطرقون أبواب البيوت ويسألون الناس عن بيتي فيقول لهم الناس: "لا نعرف أين يقع بيت الدكتور"، وبينما هم يبحثون في الشوارع استوقفوا شاباً كان يسير على قدميه في السابعة عشرة من عمره تقريبا، وهذا الشاب كان جاراً لي فسألوه أين منزل الدكتور الرنتيسي؟ فنظر الشاب فرآني معهم؛ فقال لهم: "لا أعرف المنزل"، فحاولوا إرهابه؛ إلا أنه أبي أن يدلهم على المنزل، وبعد ساعتين من البحث عن البيت تبادلنا خلالها الشتائم ذهبوا بي إلى الشرطة، وهناك احتجوا لدى مدبر الشرطة متهمين إياي بأنني أعطل عملهم، فقلت لمدير الشرطة هذا قول غير صحيح؛ لأنني طلبت منهم أن يحضروا إذناً من الشرطة فرفضوا، وسأل مدير الشرطة مسؤول الضريبة: هل طلب منك ذلك؟ فقال له: نعم، فلامه على عدم استجابته، وبينما نحن كذلك إذ همس في أذني شرطي فلسطيني من (خان يونس) قائلاً: "أن البيت قد تم تنظيفه"، وهنا قلت لمدير الشرطة: إذا أذنت لهم فلا مانع لدي من الذهاب إلى البيت، وفعلاً ذهبنا إلى البيت وعادوا بخفي حنين، ثم بيعت العيادة في المزاد العلني، وقدر الله -سبحانه- أن يشتري محتويات العيادة رجل فاضل وهو ابن الداعية والمحسن الكبير الحاج "صادق المزيني"، فلما علم أنها لي اتصل بي، ورد محتويات العيادة إلي، وأقسم أيماناً مغلظة ألا يأخذ المبلغ الذي دفعه للمزاد، وفعلاً لم يأخذ شيئاً رغم إلحاحي الشديد؛ فجزاه الله من كريم خيراً.(/2)
ثم فوجئت باستدعائي للمحكمة العسكرية، وذلك بتهمة استنكافي عن دفع الضريبة المضافة، ولقد أكدت أمام القاضي العسكري رفضي دفع الضريبة المضافة لقوات الاحتلال، وطعنت في شرعية المحكمة، وبعد ثلاث جلسات حكم القاضي علي بدفع الضريبة بالإضافة إلى عقوبة تمثلت بدفع غرامة مالية خلال شهرين أو الاعتقال لمدة ستة أشهر بدلاً من الغرامة، وانقضت المدة الزمنية ولم أدفع الغرامة، وعندها قاموا باستدعائي إلى مركز الشرطة ومساومتي على أن أدفع مبلغاً رمزياً لكي لا أعتقل، وكانوا يخشون أن يحرض اعتقالي على التمرد على دفع الضريبة، فكان همهم كسر إرادتي ولو بتقليص المبلغ إلى شيء رمزي، ولكني رفضت مما اضطرهم إلى اعتقالي بعد إعطائي مهلتين إضافيتين للتفكير ولكن لم يتغير رأيي، ودخلت المعتقل وتعرفت هناك على شباب مسلم مجاهد قد شكلوا نواة لحركة إسلامية في معتقلات العدو، فالتقيت في غرفة رقم "6" قسم "ب" بالمجاهد (جبر عمار) والمجاهد (محمد نصار) وغيرهم من الإخوة الأفاضل، وبعد دخولي المعتقل حاولوا مراراً أن يثنوني عن موقفي لكي أغادر إلى البيت، ولكني رفضت، وقد سمحوا لوفود من الجمعية الطبية بزيارتي بهدف إقناعي بدفع المبلغ إلا أني أبيت ذلك، وفوجئت في اليوم التاسع بالإفراج عني، وعندما خرجت اكتشفت أن الجمعية الطبية قامت بدفع الغرامة المالية دون إذن مني.
الاحتلال وكلية التمريض
لقد عمل الصهاينة على إفساد مهنة التمريض في قطاع غزة، وكان ضابط ركن الصحة يحرص على تعيين مدراء أقسام التمريض ممن اشتهروا بأخلاقهم الهابطة إلا ما رحم الله، ولقد فكرنا في إنشاء كلية التمريض في الجامعة الإسلامية، وكنت والدكتور "محمود الزهار" من وراء هذه الفكرة، ولكن الأمر لم يرق لليهود الذين لا يريدون أن ينهض التمريض نهضة أخلاقية قيمية، فبدأت المعركة التي استمرت خمسة وأربعين يوماً، بدأت باستدعائنا من قبل مكتب الحاكم العسكري الصهيوني كل في مدينته، فبينما كنت أقيم في (خان يونس) كان الدكتور (الزهار) يقيم في مدينة "غزة" ليطلبوا منا عدم فتح هذه الكلية، وعندما قوبل هذا الطلب بالرفض القاطع، أرسل العدو الصهيوني قوة عسكرية لتحاصر عيادتي الخاصة في (خان يونس) وكذلك عيادة الدكتور (الزهار) في (غزة)، ويستمر الحصار طوال ساعات العمل، وأثناء الحصار كانوا يرهبون المرضى ويطالبونهم بإظهار البطاقات الشخصية، ومن لم يكن حاملاً بطاقته الشخصية كالنساء مثلاً؛ يردونه ويمنعونه من دخول العيادة، وبما أنني طبيب أطفال فمعظم الحضور كانوا من النساء بأطفالهن، فكانوا يردونهن وأطفالهن رغم أن عدداً كبيراً منهن كان يأتي من مدن أخرى كمدينة (رفح) مثلاً، أو من قرى بعيدة نسبياً عن (خان يونس)، وعند نهاية الدوام في العيادة كنت أركب سيارتي عائداً إلى المنزل؛ فتقوم القوة العسكرية المحمولة بسيارة عسكرية ناقلة للجنود بمتابعتي حتى أصل البيت، ورغم أنني كنت أشعر بضيق لا يعلمه إلا الله؛ إلا أنني والدكتور (الزهار) لم نستسلم، وبعد حوالي الشهر من هذه المضايقات اليومية استدعيت من قبل الحاكم العسكري الذي قال لي بأن هذه المضايقات لن تتوقف إلى أن تغلق كلية التمريض، فقلت له بأنني لا أريدها أن تتوقف، فيكفيني أن الناس وهم يرون ما تفعلون بي يرفعون أكفهم قائلين اللهم انصر الدكتور عليهم، وبعد قولي هذا توقفوا لمدة ثلاثة أيام شعرت خلالها أن كابوساً قد أزيح عن صدري، ولكنهم عادوا ثانية إلى ما كانوا يقومون به من مضايقات؛ فكانت عودتهم أشد هماً وكرباً إلا أننا صبرنا حتى فشلوا في حملتهم وانتهت دون أن يحققوا هدفهم، ولا زالت كلية التمريض قائمة حتى يومنا هذا والحمد في ذلك لله وحده.(/3)
ومن عجائب القدر أن ضابطاً يهودياً كان يعمل في شرطة (خان يونس) قد مرضت ابنته، وعالجها داخل الكيان الصهيوني ولكن لم يُكتب لها الشفاء، فنصحه ضباط الشرطة الفلسطينيون الذين يعملون معه أن يذهب بها لعيادتي الخاصة قائلين له ليس لهذا الأمر إلا الدكتور "الرنتيسي"، وعندما وصلت إلى مدخل عيادتي في ذلك اليوم رأيت ضابطاً صهيونياً شرطياً يقف على قارعة الرصيف المقابل للعيادة، فقلت في نفسي ربما تريد الشرطة الصهيونية أن تنضم إلى عملية الحصار التي يقوم بها الجنود، خاصة أنه كان يقف وحده أي لم تكن معه طفلته، ولكن بعد قليل دخل العيادة موظف مسؤول في دائرة إصدار البطاقات الشخصية في الداخلية وهو فلسطيني من عائلة كبيرة في (خان يونس)، وأخبرني أن في الخارج ضابط شرطة صهيوني ابنته مريضة، ولقد عالجها لدى أطباء صهاينة ولكن عبثاً، فقلت له ألم تر كيف يحاصر الجنود العيادة ويحرمون أطفال المسلمين من العلاج؟ فكيف أعالج أطفالهم في الوقت الذي يحرمون فيه أطفالنا من العلاج؟! ورفضت بشدة، وألح علي إلا أنني أبيت، فخرج ولكن لم يكن راضياً، وبعد حوالي نصف الساعة جاءني ضابط فلسطيني يعمل في الشرطة وهو رجل دمث الخلق ومواظب على الصلاة في المسجد الذي أصلي فيه، وطلب مني أن أعالج الطفلة فرفضت؛ فألح علي فأبيت، فأقسم ألا يخرج من العيادة حتى أعالجها، فلم أستطع المقاومة، وقلت له اذهب فأحضرها ولا تحضر والدها معها، وقدر الله أن يكتب لها الشفاء في أقل من 24 ساعة والحمد لله، وبعد خمسة وأربعين يوما توقف الجند عن الحصار فجأة، وانتصرت الإرادة وانكشفت الغمة وبقيت كلية التمريض والحمد في ذلك لله وحده.
الاعتقال الأول
كنت أحد قياديي حركة الإخوان المسلمين السبعة في (قطاع غزة) عندما حدثت "حادثة المقطورة"، تلك الحادثة التي صدمت فيها مقطورة صهيونية سيارة لعمال فلسطينيين فقتلت وأصابت جميع من في السيارة، واعتبرت هذه الحادثة بأنها عمل متعمد بهدف القتل مما أثار الشارع الفلسطيني، خاصة أن الحادثة جاءت بعد سلسلة من الاستفزازات الصهيونية التي استهدفت كرامة الشباب الفلسطيني، خاصة طلاب الجامعات الذين كانوا دائماً في حالة من الاستنفار والمواجهة شبه اليومية مع قوات الاحتلال، وقد خرجت على إثر حادثة السير المتعمدة هذه مسيرة عفوية غاضبة في (جباليا) أدت إلى سقوط شهيد وعدد من الجرحى، فاجتمعنا نحن قادة (الإخوان المسلمين) في قطاع غزة على إثر ذلك، وتدارسنا الأمر واتخذنا قراراً هاماً يقضي بإشعال انتفاضة في قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني، وتم اتخاذ ذلك القرار التاريخي في ليلة التاسع من ديسمبر 1987، وقررنا الإعلان عن "حركة المقاومة الإسلامية " كعنوان للعمل الانتفاضي الذي يمثل الحركة الإسلامية في فلسطين، وصدر البيان الأول موقعا بـ "ح.م.س." هذا البيان التاريخي الذي أعلن بداية انتفاضة سيكتب لها أن تغير وجه التاريخ بإذن الله، وبدأنا الانتفاضة انطلاقاً من المساجد، واستجاب الناس، وبدأ الشعب الفلسطيني مرحلة من أفضل مراحل جهاده، ولقد كنت مقيماً في مخيم "خان يونس" في ذلك الوقت.
وفجأة بعد منتصف ليلة الجمعة الخامس عشر من يناير 1988 -أي بعد 37 يوماً من اندلاع الانتفاضة- إذا بقوات كبيرة جداً من جنود الاحتلال تحاصر البيت، بعض الجنود تسوروا جدران فناء البيت، بينما عدد آخر منهم أخذوا يحطمون الباب الخارجي بعنف شديد، محدثين أصواتا فزع بسببها أطفالي الصغار، وقد كانوا في غرفة مجاورة لغرفتي، فنهضت على الفور من الفراش، وخرجت من غرفة النوم لأتترس ببابها كي أمنع الجند من الدخول إلى الغرفة، ولما حاول ثلاثة من الجنود اقتحام الغرفة عنوة وحاولوا الاعتداء علي لإبعادي عن بابها دخلت معهم في اشتباك بالأيدي جرح على أثره أحد الجنود، وهنا ارتفع صوت الضابط وهو يأمرهم بالابتعاد عن الغرفة والإقلاع عن الاشتباك، ثم طلب مني ارتداء ملابسي ففعلت، وخرجت معهم فعصبوا عيني وكبلوا يدي من الخلف بعنف شديد تورمت على أثره يداي، وفقدت الإحساس في أجزاء من يدي لمدة زمنية طويلة، وكان ضابط الأمن الصهيوني الملقب بـ(أبي رامي) -وهو اسم أمني حركي- يعاني من جنون العظمة، فبعد اعتقالي تناقل الناس فيما بينهم أنني ضربت "أبا رامي" ضرباً مبرحاً؛ فكان يتحرك في الشارع برفقة جنوده المدججين بالسلاح ويقول للناس: انظروا إليَّ؛ فأين آثار الضرب وأنتم تزعمون بأن الدكتور قد ضربني؟.
والواقع أنه كان بعيداً عندما اشتبكت مع الجنود، ولم يشارك في العراك!.
كرامات في المعتقل(/4)
كنا في المعتقل الصحراوي في النقب وذلك عام 1988، وكنا في فصل الصيف حيث الحرارة الشديدة، وفي آخر ليلة من رمضان استيقظنا لتناول السحور فإذا بالحرارة لا تطاق، وشعرنا بأننا أمام يوم صعب، وانتظمنا في صلاة الفجر، وصلى بنا إماماً طالبٌ من طلاب الجامعة الإسلامية، وقد حباه الله سبحانه صوتاً نديا في تلاوة القرآن، وبعد القيام من ركوع الركعة الثانية رفع إمامنا أكف الضراعة باكياً يدعو الله ونحن نؤمّن من خلفه، وألهمه الله فقال في دعائه: "اللهم سق إلينا الغمام، واسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"، وألح في الدعاء وكان الواحد منا يقول في نفسه: "ومن أين سيأتي الغمام في يوم من أيام الصيف كهذا اليوم، وفي مكان صحراوي كصحراء النقب؟!"، وتنفس الصباح، واشتعلت الأرض، إن دخلنا الخيام فكأنها حمامات شمسية، وإن خرجنا من الخيام شعرنا كأن جهنم تحيط بنا من كل جانب، وما هي إلا لحظات بعد ارتفاع الشمس قليلاً؛ فإذا بغيمة تتهادى من بعيد لتستقر فوق المعتقل مظللة جزءًا من خيام المعتقلين فلم نصدق عيوننا، ثم تبعتها أخرى، ثم جاء الغيم تباعاً حتى ظلل المعتقل كاملاً ومساحة حوله، فكنا نشاهد على الأرض حدود ظلال الغيوم من حولنا وبعدها تبدو أمام ناظرينا شمس تلفح سطح الأرض، ثم تساقط المطر، وتساقطت معه دموع المعتقلين الذين اعتبروا ذلك آية ورحمة من الله سبحانه!، وخرجنا على الفور من الخيام وأخذت أدعو الله ويؤمّن المعتقلون من خلفي، ثم تناوب الأخوة الدعاء والحمد والتسبيح، تغمرنا فرحة استجابة الله لدعائنا في صلاة الفجر.
ثلاثة أشهر في زنزانة انفرادي
العقلية السادية الصهيونية أو جنون العظمة(/5)
في عام 1991 كنت في معتقل النقب أقضي حكماً إدارياً لمدة عام، وكان المعتقلون منذ افتتاح هذا المعتقل عام 1988 حتى الوقت محرومين من زيارات ذويهم، ومع إلحاح المعتقلين واحتجاجاتهم المتكررة بدت هناك استعدادات لدى إدارة المعتقل بالسماح للأهل بالزيارة، وقام مدير عام المعتقل وهو صاحب رتبة عسكرية رفيعة ويدعى "شلتئيل" بطلب عقد لقاء مع ممثلي المعتقلين، ولقد اجتمع ممثلون عن مختلف الفصائل في خيمة من خيام المعتقل في أحد أقسامه لتدرس الأمر قبل انعقاد اللقاء مع الإدارة، وأحب المعتقلون أن أرافقهم وقد فعلت، وأثناء لقائنا في الخيمة سمعت بعض الشباب يحذر من "شلتئيل" ويضخم من شأنه ويخشى من غضبه، فشعرت أن له هيبة في نفوس بعض الشباب، وهذا لم يرق لي، ولكني لم أعقب بشيء، ثم جاءت حافلة في يوم اللقاء لتقلنا إلى ديوان "شلتئيل"، وأخذت وأنا في الحافلة أفكر في استعلاء هذا الرجل وهيبته في نفوس الشباب وكيفية انتزاع هذه الهيبة من نفوسهم، ولقد وطنت نفسي على فعل شيء ما ولكني لا أعلمه، ولكن كان لدي استعداد تام أن أتصدى له إذا تصرف بطريقة لا تليق، ووصلت الحافلة، ودخلنا ديوانه، فكان عن يميننا داخل القاعة منصة مرتفعة حوالي 30سنتيميتر عن باقي الغرفة، وعليها عدد من الكراسي، وعن شمالنا كانت هناك عدة صفوف من الكراسي معدة لنا، فجاء رؤساء الأقسام المختلفة وجميعهم من الحاصلين على رتب عسكرية في الجيش، ومن بينهم مسؤول أحد الأقسام قد كان في الماضي نائب الحاكم العسكري لمدينة (خان يونس) وكان يعرفني مسبقا، وكان نائب "شلتئيل" أيضا يجلس على المنصة مع رؤساء الأقسام، وجلس المعتقلون الممثلون لكافة الفصائل على الكراسي المعدة لهم وجها لوجه مع رؤساء الأقسام، تفصلنا عنهم مسافة لا تزيد على مترين، ولقد جلست في الصف الأول في الكرسي الأول الأقرب إلى باب الديوان، ثم بعد وقت قليل دخل "شلتئيل" وكان رجلاً طويل القامة ضخم الجثة؛ فالتفت بطريقة عسكرية إلى المنصة وأشار بيده يدعوهم إلى القيام له فقاموا، ثم التفت إلينا بطريقة عسكرية وأشار بيده فوقف الشباب وبقيت جالساً، وكان هذا اللقاء هو اللقاء الأول بيني وبينه فلا يعرفني، فاقترب مني، وقال: لماذا لا تقف؟، فقلت له: أنا لا أقف إلا لله، وأنت لست إلهاً، ولكنك مجرد إنسان، وأنا لا أقف إلى البشر، فقال: يجب عليك أن تقف، فأقسمت بالله يميناً مغلظاً ألا أقف، فأصبح في حالة من الحرج الشديد ولم يدر ما يفعل، حاول التدخل أحد قادة فتح في المعتقل وهو العقيد "سامي أبو سمهدانة" ليخبره أنني إذا قررت لا أتراجع؛ فرفض الاستماع إليه وأصر على موقفه، ولكني أبيت بشدة، فقال نائبه يادكتور هنا يوجد بروتوكول يجب أن يُحترم، فقلت له: ديني أولى بالاحترام ولا يجيز لي الإسلام أن أقف تعظيماً لمخلوق، فقال: وما الحل؟ قلت إما أن أبقى جالساً أو أعود إلى خيمتي، فقال "شلتئيل": عد إذاً إلى خيمتك؛ فخرجت من الديوان ولم يخرج معي إلا الأخ المهندس "إبراهيم رضوان" والأخ "عبد العزيز الخالدي"، وكلاهما من حماس، وبعد أيام قلائل كان قد مضى على اعتقالي تسعة أشهر ولم يتبق إلا ثلاثة أشهر فقط للإفراج عني، فإذا بهم يستدعونني ويطلبون مني أن أجمع متاعي وهذا يعني في مفهوم المعتقلات ترحيل ولكن لا ندري إلى أين، وكانت تنتظرني حافلة، فما أن ارتقيتها حتى وجدت كلا الأخوين فيها وقد أحضروا من أقسامهم؛ فأدركت أنها عقوبة ولا يوجد عقوبات سوى الزنازين، وانطلقت بنا الحافلة إلى معتقل "سبعة" حيث توجد خمسون زنزانة، وما أن وصلنا حتى تسلمنا مسؤول الزنازين ويدعى "نير" الذي أخبرنا وهو ممتعض بأننا معاقبون بوضعنا في زنازين انفرادية لمدة ثلاثة أشهر، وتبين لنا فيما بعد أن سبب امتعاضه اعتباره أن العقوبة كانت لأسباب شخصية، أي أنه لم يرق له أن ينتقم"شلتئيل" لنفسه بهذه الطريقة، خاصة أن أقصى عقوبة من العقوبات اليومية الروتينية لا تصل إلى سبعة أيام، ولذلك لم يكن سيئاً في استقبالنا كما يفعل مع الشباب، وربما أن السن والدرجة العلمية لعبت دوراً في التأثير عليه، وأخذنا إلى الزنازين المخصصة لنا، كل في زنزانته وحيداً، وكنا نخرج يومياً لمدة ساعة ما عدا يوم السبت في ساحة محاطة بالأسلاك الشائكة حيث الدورة والحمامات، لأن الزنازين لم تكن بها دورة مياه ولا حمام، وبدأنا رحلتنا مع القرآن، أما أنا فأراجعه بعد أن من الله علي بإكمال حفظه من قبل عام 1990 حيث كنت والشيخ (أحمد ياسين) في زنزانة واحدة في معتقل "كفاريونه"، وأما المهندس فبدأ بحفظ القرآن في الزنزانة، وكان رجلاً ذكياً جداً ويجيد العبرية بطلاقة، وقد تمكن من حفظ القرآن قبل انقضاء الثلاثة أشهر، والحمد لله رب العالمين.
من الطرائف التي حدثت في رحلتنا مع الزنزانة
عندما يستجاب الدعاء(/6)
لقد أحاط الصهاينة المعتقل بخيامه وزنازينه بمكبرات صوت وضعت على أعمدة، من فوائدها سماع نشرة الأخبار، وإن كان ذلك من مذياع العدو الصهيوني الذي ينقل بعض الصورة أو ينقل الصورة مشوهة، إلا أننا كنا نتعرف على بعض ما يجري خارج أسوار المعتقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، خاصة أننا حرمنا من زيارة الأهل، وأما من شرور مكبرات الصوت أنها معظم الوقت تنقل إلى مسامعنا أغاني صارخة، مصحوبة بموسيقى صاخبة، مما كان يؤذي مسامعنا إذا قمنا إلى الصلاة أو أخذنا في مراجعة القرآن، خاصة أن الصوت كان يعبر من نوافذ الزنازين إلى داخلها فيحدث ضجيجاً هائلاً لا نستطيع معه النوم ولا التلاوة، فما كان منا إلا أن فزعنا إلى الدعاء كي يخلصنا الله من هذه المكبرات، وما هي إلا أيام قلائل وبينما كنت واقفا مع المهندس "إبراهيم" في الساحة خارج الزنزانة أثناء الساعة المقررة لنا، وكنا نصغي إلى نشرة الأخبار، فإذا بمدير هذا القسم من المعتقل يشاهدنا، فسأل "نير" ونحن نسمعه ماذا يفعل الدكتور والمهندس، قال له "نير": يستمعون إلى نشرة الأخبار، فغاظه ذلك وقال له: اقطع أسلاك مكبرات الصوت المقابلة للزنازين ظناً منه أننا سنأسف لذلك وأنه سيؤلمنا، ففعل "نير"، واستجاب الله دعاءنا، وأراحنا من الضجيج، مع العلم أننا كنا نتمكن من سماع الأخبار عن بعد من خلال مكبرات الصوت في الأقسام المجاورة.
وذات يوم سمعنا صراخاً ينطلق من إحدى الزنازين، فنظرت من نافذة الزنزانة، لعلي أرى مصدر الصوت فإذا بأحد الحراس واسمه "عمير" يخرج من إحدى الزنازين ويقوم بتمثيل أمام "نير" كيفية ضرب الشاب في الزنزانة، لقد كان مزهواً وهو يمثل الدور مما أثار مدامعنا، لقد كان الشاب يصرخ ويستغيث ولا نستطيع أن نفعل له شيئا، ثم قدر لنا أن نرى هذا المشهد الذي قام به "عمير" وهو لا يعلم أننا نراه، فانصرفت لأصلي ركعتين ودعوت الله أن ينتقم من "عمير"، وفوجئت بعد ذلك مباشرة أن "عمير" قد تغيب لعدة أسابيع، وظننا أنه قد تم نقله، ولكنه جاء بعد ذلك وفي مشيته عرج، فسألته هل بساقك ألم؟ فقال: لا ولكن هناك شيء برأسي، وهذا يعني ورما خبيثا في المخ، فحمدت الله على استجابته للدعاء، ولا غرابة في ذلك والرسول -صلى الله عليه وسلم يقول- "اتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب".
ومن يُهن الله فما له من مكرم
لقد مضت الثلاثة أشهر، وجاءت الليلة الأخيرة في المعتقل، وفي بعض الزنازين الغير ملاصقة لزنازيننا كان عدد من العملاء الذين فروا من المعتقل وسلموا أنفسهم لإدارة المعتقل بعد أن انكشف حالهم للمعتقلين، وفوجئت في آخر ليلة بمجيء "نير" إلى زنزانتي ليقول: يا دكتور سيتم غداً الإفراج عنك، ثم قال: لقد طلب مني "المفوكسين" - وهو مصطلح كان يطلقه المعتقلون على العملاء- أن يسلموا عليك؛ فماذا تقول؟، ففكرت قليلاً وجال بخاطري أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقلت: لعل موافقتي بالسلام عليهم توقظ ضمائرهم؛ فيحدثوا توبة، فقلت له: موافق، فتغير وجهه وقال: يا دكتور هؤلاء "زبل" كيف تسلم عليهم؟، فقلت بعفوية: لعل الله يهديهم، فقال: تفضل، وفتح باب الزنزانة حيث كان يتحدث إليّ من كوة في الباب، وخرجت لنسير حوالي أربعين متراً -المسافة بين زنزانتي وزنزانتهم-، وفجأة توقف "نير" في منتصف الطريق وقال: يا دكتور هؤلاء "مفوكسين"، هؤلاء "زبل" كيف تسلم عليهم؟ ولكني عزمت فمضى حتى إذا وصلنا إلى زنزانتهم فتح كوة صغيرة في أعلى الباب، وطلب منهم أن يمدوا أيديهم للتسليم عليّ ففعلوا، ثم طلبوا منه أن يدخلني عندهم وكانوا من النصيرات، وهنا لم يترك كلمة سيئة في القاموس إلا قالها لهم رافضاً فتح الباب، ثم عدت إلى زنزانتي لأغادر المعتقل في الصباح بعد أن أمضيت عاماً كاملاً بدون محاكمة في اعتقال يطلق عليه "اعتقال إداري".
مع الشيخ أحمد ياسين(/7)
في معتقل غزة المركزي استيقظت ذات يوم، وكان آخر يوم في شهر رمضان على رؤية؛ فأخذت أقصها على الإخوة في غرفة رقم "3" قسم "ب"، وقلت لهم لقد رأيت أني أركب حافلة متجهة صوب الشمال، وبينما أقص عليهم الرؤية إذا بصوت الميكروفون ينادي قائلاً :"عبد العزيز الرنتيسي عليه أن يلملم أمتعته وينزل إلى ساحة السجن"؛ ففعلت، وإذا بهم يأخذونني إلى سجن "الرملة" حيث يوجد قسم الانتظار والعبور من معتقل إلى آخر، ومدينة الرملة تقع بالنسبة إلى قطاع غزة في اتجاه الشمال، وقسم المعبر هذا كان تحت الأرض، وهو عبارة عن صف طويل من زنازين ضيقة تنتهي إلى غرفة جعلوني فيها، وفي صباح اليوم التالي صباح عيد الفطر وجدت نفسي في الغرفة وحيداً، فأخذت بالتكبير للعيد ثم صليت العيد منفرداً، وانتابتني مشاعر غريبة جداً، فهذه هي المرة الأولى التي أصلي فيها العيد وحدي، وقد كنت أسمع أصوات إخواني في الزنازين وهم يكبرون ولكن لا أراهم، ثم أخرجوهم ليصلوا العيد في الفورة وبقيت في غرفتي المعزولة عنهم وحيداً، وبعد يومين تم نقلي إلى سجن "كفار يونا" المطل على مفترق "بيت ليد" حيث زنزانة الشيخ "أحمد ياسين"، ولأن الشيخ لا يستطيع أن يحرك يداً ولا قدماً حيث يعاني من شلل رباعي؛ فإنه دائما بحاجة إلى اثنين من المرافقين على أقل تقدير، وعندما ارتقيت سيارة نقل السجناء التقيت بالأخ الفاضل المهندس "نزار عوض الله"، وقد أحضر من أحد المعتقلات ليكون شريكي في خدمة الشيخ، وفي غرفة الاستقبال في سجن "كفار يونا" التقينا بالأخوين الحبيبين: "يحيى السنوار"، و "روحي مشتهى"، اللذين أنهيا مرافقتهما للشيخ وسينقلان إلى سجن آخر، وبعد إتمام الإجراءات صعدنا إلى زنزانة الشيخ ومعنا شرطي، وصدمت عندما وصلت باب الزنزانة، وذلك لأن الباب كان موصداً بالمزلاج وفوق ذلك عليه ثلاثة أقفال، فقلت للشرطي: الشيخ لا يستطيع الحركة، فلماذا كل هذه الأقفال؟ فقال: إنها الأوامر،( نعم إنها الأوامر البلهاء حقاً!)، ودخلنا على الشيخ وكان لقاءً حاراً جداً وممتعاً، وبدأنا رحلتنا مع الشيخ، وقد توليت إطعامه وحمامه وكل شيء من أمور حياته، فهو لا يستطيع أن يساعد نفسه حتى في حك جلده، وقد عكفنا في هذه الفترة بالذات على إتمام حفظ القرآن، وقد وفقنا الله لذلك والحمد لله.
كانت إدارة المعتقل تسمح لنا بالخروج إلى ساحة مغلقة في كل يوم ساعتين تسمى "الفورة"، فيتمدد فيها الشيخ مستنداً بظهره إلى الجدار، بينما كنت وزميلي الذي تم تغييره حيث أحضر الأخ "نصر صيام" -بدلاً من المهندس- نتمشى في الفورة، وكانت هذه الفورة في أوقات أخرى من اليوم تستخدم من قبل سجناء جنائيين من يهود وفلسطينيين، وكانوا لا يهتمون بالنظافة مما أدى إلى امتلاء الفورة بالبراغيث، فذات يوم اكتشفت أن حشرات تقفز على ملابسي؛ فأخبرت صاحبي فوجدته يعاني من نفس الشيء، وقد تبين لنا أنها براغيث، فذهبت إلى الشيخ أنظر حاله فلم نجد برغوثا واحداً على ثيابه، وشكونا الحال إلى إدارة المعتقل ولكن عبثاً، واستمر الوضع قرابة الأسبوعين عندما نصل إلى الفورة تقفز إلينا البراغيث بأعداد كبيرة، فقد كنت أقتل منها يومياً قرابة العشرة براغيث، والعجيب أنها كانت على مدى الأسبوعين لا تقترب من الشيخ، فسألته مداعبا ترى ما السبب، فقال إنها تبحث عن السمان، فضحكت، وقلت له: بل صدها الله عنك؛ لأنه يعلم أنك لا تستطيع حك جلدك، فضحك الشيخ وضحكنا.
ومن عجائب هذه الفترة التي امتدت أربعة أشهر ونصف أنه في يوم الجمعة كنا نستقبل أهلنا في زيارة عائلية، حيث يحضرهم الصليب الأحمر في سيارة خاصة، وفي أحد أيام الجمعة تم استدعاؤنا لزيارة الأهل، وهناك في مكان الزيارة فوجئت أن أهلي لم يحضروا بينما حضر أهل الشيخ وأهل الأخ "نصر"، فمضى وقت الزيارة وهو نصف ساعة بطيئا جداً، حيث إن أهل الشيخ وأهل زميلي كانوا يجاملونني على حساب زيارتهم، وأخذت أذهب بعيداً في التفكير مسائلاً نفسي عن سبب تأخرهم، وبدا عليَّ أثر الهمِّ، وعدنا من الزيارة إلى الفورة، فقال لي الشيخ: ما بالك مهموماً؟، فقلت له: لا أدري سبباً لتأخرهم، فهم لم يتأخروا يوماً من قبل، فقال: وهذا أمر يستحق الاهتمام؟ فقلت: ولم لا؟ فقال: اعتبرهم ماتوا، فقلت له: أنا لا أستطيع ما تستطيعه، وتركته وانتحيت جانبا في إحدى زوايا الفورة بعيداً عن الشيخ، ورفعت كفي ضارعاً إلى الله، وقلت: "اللهم إن كنت راضياً عن خدمتي للشيخ فطمئني على أهلي" فوالذي فطر السماء والأرض إذا بشرطي يناديني ويداي مرفوعتان؛ ليقول: تعال للزيارة فقد حضر أهلك، والذي زاد في دهشتي أن هذا الشرطي لم أره من قبل، فإذا به ونحن منطلقون إلى الزيارة يقول لي: "اهتم بالشيخ"، وكأن الله ألهمه أن يقول ذلك كي أعلم أن زيارة الأهل كانت استجابة للدعاء.(/8)
ومن الطرائف التي حدثت في هذه الفترة أنه بينما كنا ننقل الشيخ ذات يوم إلى الفورة، قابلنا وجهاً لوجه على الدرج أحد السجناء الجنائيين اليهود، وكان يرافقه أحد عناصر الشرطة، فما كان من السجين إلا أن التقط يد الشيخ أحمد ياسين وقبلها، ثم قال لي: فعلت ذلك لإغاظة الشرطي والشرطي يسمع، وهؤلاء السجناء رغم أنهم يهود إلا أنهم كانوا يحقدون على إدارة السجن، ولذا كانوا يتعاطفون معنا لأن عدونا وعدوهم واحد، وهو إدارة السجن.
وبعد حضوري إلى هذا المعتقل بيومين، صرخ عليَّ أحد السجناء اليهود، ويدعى "يعقوف" قائلاً باللغة الإنجليزية عليك أن تأخذ حذرك، فلم يحضروك عند الشيخ إلا ليتنصتوا عليكم، فلا تتحدثوا في أمور يمكن أن تؤدي إلى مخاطر، واعلموا أنهم ربما وضعوا لكم أجهزة في الزنزانة أثناء وجودكم في الفورة، فشكرته على ذلك.
ومن الطرائف التي حدثت في هذه الفترة أن شرطياً يهودياً رآني أحمل القرآن وأتصفحه، فسألني يا دكتور: ماذا في كتابكم؟ فقلت أموراً كثيرة، قال: ماذا يقول أنكم فاعلون بنا؟، قلت له يقول: إننا سنذبحكم بعد أن تتجمعوا في بلادنا، فقال: متى يكون ذلك؟ فقلت له: لا أدري، ربما يكون خلال أربعين سنة، وكنا في عام 1990م، فأخذ يحسب ثم همهم قائلاً: "ليس مهماً، بالتأكيد سأكون ميتا"، فقلت له وماذا تقول التوراة؟ فقال: نفس الشيء فتجمعنا هنا نهايته الذبح، ثم استدرك قائلاً ولكن عندما نفسد، فقلت: سبحان الله كأنكم لم تفسدوا بعد؟!.
ومن الطرائف أيضاً أن محامينا كان يزورنا باستمرار، وكان يجلس معنا على انفراد في غرفة معدة لزيارة المحامين، فقال لنا ذات مرة: هل يسمحون لكم بشراء المشروبات الغازية مثل الكوكاكولا؟ فقلت له: لا، فقال: إذاً سأحضر لكم في الزيارة القادمة ثلاث علب من الكوكاكولا، وفعلا في الزيارة التي تلت الوعد أحضر في حقيبته ثلاث علب من الكوكاكولا، ففتح الشنطة، وقال: ها قد أحضرت، فقلت له: دعنا نشربها الآن، فقال أخشى أن يراكم الشرطي، قلت: إذاً نأخذها معنا إلى الزنزانة، فقال أخشى أن يتم تفتيشكم، فقلت لها نخفيها في عربة الشيخ فهم لا يفتشونها، فقال أخشى أن يكتشفوا العلب الفارغة في القمامة، فقلت دعنا نستأذن من الشرطي، فقال أخشى أن يضيقوا عليَّ في الزيارات القادمة، وفي النهاية تركنا ومعه الكوكاكولا، وكان هذا المحامي من أكثر المحامين خدمة للسجناء، ولا أريد أن أذكر اسمه خشية ألا يروق له تدوين الحادثة في المذكرات.
وبعد أربعة أشهر ونصف ودعت الشيخ، وتم نقلي إلى سجن "الرملة" ومنها إلى سجن "المجدل" لأقضي هناك آخر أيام الاعتقال، حيث قد كان الحكم سنتان ونصف، وكنت قد أمضيت المدة، ولم يتبق إلا تسعة عشر يوماً قضيتها مع الحبيب الشهيد الدكتور "إبراهيم المقادمة"!.(/9)
حفظ الأمومة واحترامها
د.محمد إقبال
شعر: الفيلسوف د. محمد إقبال
ترجمة: عبد الوهاب عزام
نغمات المرء عزف iiالمرأة
كست الذكران ربات iiالحجال
عشق الحق رباه iiحجرها
الذي قد بهر الكون iiسناه
جهل القرآن جهلاً iiمسلمُ
إنما الأم علينا iiرحمة
رأفة المرسل في iiرأفتها
ومن الأم علت iiأقدارنا
لفظة الأمة فيها نكت
إنما الأمة من وصل الرحم
قال خير الخلق ، وهو الحجة ii:
كشفت بالأم أسرار iiالحياة
وبها في نهرنا يعلو العباب
هذه الغرة بنت iiالقرية
حية العين ، كهام المقول
ألم الأم عليها iiيثقل
أمرنا يحكم من iiآلامها
إن تهب من حجرها iiللأمة
والتي رقت وخفت محملا
شع نور الغرب في فكرتها
قطعت أوصال هذي iiالأمة
إن حريتها أصل iiالبلاء
ليلها ما ضاء فيه iiنجمها
ليتها لم تنم في روضتنا
* * *
أنجم التوحيد في غيب iiالأبد
لم تُسَيّب بعد من قيد iiالعدم
جلواتٌ في دجانا iiتضمر
قطرات لم تزن زهر iiالربى
إنما تنبت هذه iiالزهرات
أيها العاقل ! مال iiالأمة
إنه أولادها ملء iiالأمل ...
... هو من محنتها في iiعزة
إن ثوب العشق من نسج الجمال (1)
ذلك اللحن حواه iiصدرها
قرن الطيب إليها والصلاه (2)
قد رآها أمةً لا iiتعظم
وإلى الرسل لديها iiنسبة
سير الأقوام من iiصنعتها
وبسيماها بدا مقدارنا (3)ii
أترى فكرك فيها يثبت ii؟
دونه أمر حياة لا يتم
تحت رجل الأمهات iiالجنة
بخلال الأم تسيار iiالحياة
ويدوم الموج فيه iiوالحباب
عبلة الجسم وغفل iiالسحنة
دون تعليم وصقل الصقيل (4)
وجهها يعرب عما iiتحمل
صبحنا يشرق من إظلامها (5)
مسلماً حقاً عظيم iiالنجدة
باطن المرأة فيه عطِّلا (6)
وترى الثورة في iiمقلتها
حين طاشت عينها بالنظرة
إن حريتها فقد iiالحياء
لم يطق أعباء أم علمها (7)
ليتها تغسل من حلتنا
* * *
مضمرات ليس يحصيها iiعدد
لم تقيّد بعد في كيف iiوكم
في ظلام الكون عنا iiتستر
وزهور لم تفتها iiالصبا
ناضرات في رياض iiالأمهات
ليس من عقيانها والفضة
في ذكاء ونشاط وعمل
تحفظ الأم إخاء الأمة
وقوى قرآننا والملة
الهوامش :
(1) إكبار الرجل المرأة وحبها يدعوانه إلى الإقدام والعمل ، وكذلك تهديه المرأة وتلهمه .
(2) إشارة إلى الأثر : حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة .
(3) المقدار هنا القدر أي مستقبل الناس مكتوب في سيما الأم .
(4) كهام المقول : عيية اللسان . عينها خفرة ولسانها قليل الكلام ز
(5) تعاني الظلام في أيامها ليشرق صبحنا . أي نسعد بشقائها .
(6) صدفت عن الحمل والوضع .
(7) لم يضئ في ليلها نجم : لم يولد لها ولد .(/1)
حفظ الضروريات الخمسة
محاسن الإسلام من خلال حفظه للضروريات الخمس
مقدمة:
ـ تعريف المحاسن.
ـ الضروريات الخمس:
1- الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس.
2- ترتيب الضروريات.
3- طرق المحافظة على الضروريات.
الفصل الأول: محاسن حفظ الدين:
1) العمل بالدين.
2) الحكم بالدين.
3) الدعوة إلى الدين.
4) الجهاد في سبيل الله.
5) رد البدع والأهواء.
6) إقامة حد الردة.
الفصل الثاني: محاسن حفظ النفس:
1) تحريم الاعتداء على النفس.
2) سدّ الذرائع المؤدية للقتل.
3) القصاص في القتل.
4) العفو عن القصاص.
5) تحريم الانتحار.
6) إباحة المحظورات للضرورة.
الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل:
1) جعل العقل مناط التكليف.
2) تحريم ما يفسد العقل.
أ- مفسدات حسية.
ب- مفسدات معنوية.
3) عقوبة شرب المسكر.
الفصل الرابع: محاسن حفظ النسل والعرض:
1) الترغيب في تكثير النسل.
2) الترغيب في النكاح.
3) التحذير من التبتل والرغبة عن النكاح.
4) تحريم قتل الأولاد وإجهاض الحوامل.
5) الوعيد الشديد على نفي النسب أو إثباته على خلاف الواقع.
6) تحريم الزنا وإيجاب الحد فيه.
7) تحريم اللواط وإيجاب الحد فيه.
8) تحريم القذف وإيجاب الحد فيه.
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده.
2) الحث على الكسب.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام.
4) تحريم إضاعة المال.
5) أداء الحقوق إلى أهلها.
6) حماية الأموال من السفهاء.
7) الدفاع عن المال.
8) توثيق الديون والإشهاد عليها.
9) ضمان المتلفات.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها.
مقدمة:
- تعريف المحاسن:
قال الجوهري: "الحُسْن: نقيض القبح، والجمع محاسن على غير قياس، كأنه جمع مَحْسَن".
وقال ابن سيده: "وليس بالقوي، قال سيبويه: هو جمع لا واحد له، ولذلك إذا أضاف إليه قال محاسني".
قال: "والمحاسن في الأفعال: ضد المساوئ".
- الضروريات الخمس:
قال الشاطبي: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين... ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل".
وقال الغزالي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ورفعها مصلحة.
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح".
1- الأدلة على مراعاة الضروريات الخمس:
أ- من الكتاب:
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:151، 152].
ففي هذه الآيات تظهر العناية بحفظ هذه الضرورات ظهورا جليا واضحا.
فقد جاء في حفظ الدين نهيه سبحانه عن الشرك به، وجاء في حفظ النفس قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ} [الأنعام:151]، وقوله تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} [الأنعام:151]، وجاء حفظ النسل في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، ومن أعظم الفواحش الزنا الذي وصفه الله بأنه فاحشة في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32]، وجاء حفظ المال في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}، وقوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، وأما حفظ العقل فإنه يؤخذ من مجموع التكليف بحفظ الضرورات الأخرى؛ لأن الذي يفسد عقله لا يمكن أن يقوم بحفظ تلك الضرورات كما أمر الله، ولعل في ختام الآية الأولى: {ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] ما يدل على ذلك.(/1)
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً * وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:23- 38].
جاء ما يدل على حفظ الدين في مطلعها في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}.
وجاء حفظ المال في قوله: {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} وقوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا}.
وجاء حفظ النفس في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ}.
ب- من السنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال عبد الله قادري: "وقد سمى صلى الله عليه وسلم الاعتداء على هذه الأمور موبقاً أي مهلكاً، ولا يكون مهلكاً إلا إذا كان حفظ الأمر المعتدى عليه ضرورة من ضرورات الحياة".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك.
قال عبد الله قادري: "فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على حفظ هذه الضرورات، وهي حفظ الدين في قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} وحفظ النفس في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وحفظ النسل والنسب والعرض في قوله: {وَلاَ يَزْنِينَ} وقوله: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وحفظ المال في قوله: {وَلاَ يَسْرِقْنَ}".
ج- استقراء أدلة الشرع:
قال الشاطبي: "فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد".
2- ترتيب الضروريات:(/2)
قال ابن أمير الحاج: "ويقدم حفظ الدين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين، ثم يقدم حفظ النفس على حفظ النسب والعقل والمال لتضمنه المصالح الدينية لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس، ثم يقدم حفظ النسب لأنه لبقاء نفس الولد إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النسب، فينسب إلى شخص واحد فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها، ثم يقدم حفظ العقل على حفظ المال لفوات النفس بفواته حتى إن الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات ويسقط عنه التكليف، ومن ثمة وجب بتفويته ما وجب بتفويت النفس وهي الدية الكاملة، ثم حفظ المال".
3- طرق المحافظة على الضروريات:
قال الشاطبي: "والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً لكن بواسطة العادات.
والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم".
الصحاح (5/2099).
المخصص (2/151).
الموافقات (2/17-18).
المستصفى (2/482).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 16- 17).
الإسلام وضرورات الحياة (ص18- 19).
أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (2615)، ومسلم في الإيمان (89).
الإسلام وضرورات الحياة (ص20).
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في الحدود (1709).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 21).
الموافقات (1/31).
التقرير والتحبير (3/231).
الموافقات (2/18- 20).
الفصل الأول: محاسن حفظ الدين:
1ـ العمل بالدين:
أوجب الله تعالى حداً أدنى يحفَظ به هذا الدين على كل فرد من أفراد المسلمين، وهو فرض العين الذي لا يسقط عن أحد ما دام قادراً على إقامته قدرة عقلية وقدرة فعلية وذلك مثل أصول الإسلام والإيمان.
قال شيخ الإسلام: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادةً محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله بها مخلصاً له الدين وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس".
وهناك حد أدنى من المحرمات حظرها الله تعالى على كل فرد فهي محرمات عينية مطلوب من كل فرد اجتنابها، وهي المحرمات التي حظرت لذاتها لما يلحق الفرد والمجتمع من الضرر بسبب ارتكابها كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وغيرها، فإنه يحرم على كل فرد من الأمة أي محرم منها إلا ما اضطر إليه مما لا حياة له بدونه مما يمكن تناوله كأكل الميتة، وقد رتب الله تعالى على امتثال أمره واجتناب نهيه السعادة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، كما رتب على عصيانه الشقاء في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].
قال ابن كثير: "فاستثنى من جنس الإيمان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ} وهو أداء الطاعات وترك المحرمات".
2ـ الحكم بالدين:
قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105].
قال ابن السعدي: "الحكم هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام".
وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزلَ اللَّهُ}.
قال ابن كثير: "أي: فاحكم ـ يا محمد ـ بين الناس، عربهم وعجمهم أميِّهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم".
قال الشيخ عبد الله قادري: "إن المراد بحفظ هذا الدين أن يؤدي غرضه في الأرض، أن يحكم تصرفات البشر، أن يقضي لصاحب الحق بحقه ويرد على صاحب الباطل باطله. إن الناس يعتدي بعضهم على بعض في هذه الضرورات التي لا حياة لهم بدونها، ويعتدون على دينهم وعلى نسلهم وعرضهم ونسبهم وعقلهم ومالهم ونفوسهم، وليس هناك مبدأ من المبادئ الموجودة في الأرض قادر على حفظ هذه الضرورات حفظاً يكفل لهم الحياة السعيدة إلا هذا الدين، فالحكم بما أنزل الله ضرورة من ضروريات حفظ الدين".(/3)
3ـ الدعوة إلى الدين:
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
قال ابن جرير: "أي: ومن أحسن ـ أيها الناس ـ قولاً ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك؟!".
وقال تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون".
قال شيخ الإسلام: "إن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]، وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجي الذين ينهون عن السوء، وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد".
4ـ الجهاد في سبيل الله:
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال:39].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة، يعني: حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان".
وقال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصلاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراًً} [الحج:40].
قال ابن سعدي: "وهذا يدل على حكمة الجهاد؛ فإن المقصود منه إقامة دين الله أو ذب الكفار المؤذين للمؤمنين البادين لهم بالاعتداء عن ظلمهم واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله وإقامة الشرائع الظاهرة".
وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].
قال ابن كثير: "أي: وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه".
قال شيخ الإسلام: "ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد، كتاب يهدي به وحديد ينصره، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض، والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين".
5ـ رد البدع والأهواء:
عن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه سلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
قال النووي: "وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات".
وظهور البدع له مضار على الدين نفسه، مثل خفاء كثير من أحكامه وتشويه جماله، والأول سبب من أسباب اندراس الشرائع، والثاني سبب من أسباب الإعراض عنها وعدم احترامها، ويتجلى هذا في بدع أهل الطرق وغيرها، مما يصوِّر الدين تصويراً يأباه ما للدين من جمال وجلال، وكثيراً ما تنشر البدع وتأخذ مكانة الدين من النفوس، وتصير هي الدين المتبع عند الناس، وبقدر ذيوعها يكون اندراس الدين، وهذا هو الطريق الذي اندرست به الشرائع السابقة وانحرف عنها المتدينون.
6ـ إقامة حد الردة:
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)).(/4)
قال شيخ الإسلام: "وأما المرتد فالمبيح عنده (يعني عند أحمد) هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه".
الإسلام وضرورات الحياة (ص31).
مجموع الفتاوى (7/314).
تفسير القرآن العظيم (4/585) وانظر: الإسلام وضرورات الحياة (ص 32).
تيسير الكريم الرحمن (ص 199).
تفسير القرآن العظيم (2/105).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 40) بتصرف يسير.
جامع البيان (11/109).
تفسير القرآن العظيم (1/398).
مجموع الفتاوى (28/306- 307).
جامع البيان (2/200).
تيسير الكريم الرحمن (ص 489).
تفسير القرآن العظيم (4/315).
مجموع الفتاوى (35/36).
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح جور (2697)، ومسلم في الأقضية (1718).
شرح صحيح مسلم (12/16).
البدعة: أسبابها ومضار (ص 57) محمود شلتوت، بواسطة علم أصول البدع ص 287 لعلي حسن عبد الحميد.
أخرجه البخاري: كتاب استتابة المرتدين والمحاربين، باب قتل المرتد والمرتدة (6922).
مجموع الفتاوى (20/102).
الفصل الثالث: محاسن حفظ العقل:
1ـ جعل العقل مناط التكليف:
قال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً".
وإذا كان العقل هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية فإن حفظه إذاً ضرورة لا غنى عنها ولا تستقيم حياة الناس بدون ذلك.
2ـ تحريم ما يفسد العقل:
مما يدل على عناية الشريعة الإسلامية بحفظ العقل أنها حرمت كل ما من شأنه إفساد العقل وإدخال الخلل عليه، وهذه المفسدات على قسمين:
أ- مفسدات حسية:
وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقاً من عدو ولا خيراً من شر، فيختل كلامه المنظوم، ويذيع سره المكتوم، وهذه المفسدات هي الخمور والمخدرات وما شابهها.
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:90، 91].
قال سيد قطب: "إن غيبوبة السكر بأي مسكر تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولاً بالله في كل لحظة مراقباً لله في كل خطوة، ثم ليكون بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء، والفرد المسلم ليس متروكا لِذاته ولَذَّاته، فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة، تكاليف لربه وتكاليف لنفسه وتكاليف لأهله وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها، وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف، وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظاً لهذا المتاع فلا يصبح عبداً لشهوة أو لذة، إنما يسيطر دائماً على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره، وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه.
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار، والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق، ويريد من الناس أن يروا الحقائق وأن يواجهوها ويعيشوا فيها ويصرفوا حياتهم وفقها ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام... إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة، أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ووهن العزيمة وتذاوب الإرادة، والإسلام يجعل في حسابه دائماً تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة والإدمان، وهذا الاعتبار كاف وحده من عمل الشيطان مفسد لحياة الإنسان".
فالخمر من أعظم أسباب التعدي على الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحمايتها، فكم حصل بسببها من سفك للدماء المحرمة وانتهاك للأعراض وإتلاف للأموال وإفساد للعقول وتفويت لمصالح الدين، ومنشأ ذلك هو اختلال العقل المدرك القائد للإنسان إلى مصالحه.
ب- مفسدات معنوية:(/5)
وهي ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها من أنشطة الحياة، فهذه مفسدة للعقول من حيث كون الإنسان قد عطل عقله عن التفكير السليم الذي يوافق الشرع، فعقله من هذه الحيثية كأنه فاسد لا يفكر، بل كأنه معدوم بالمرة.
لذا نعى الله في كتابه على الكفار حيث عطلوا عقولهم عن التفكير في آيات الله القرآنية وآياته الكونية، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحق، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
قال ابن سعدي: "سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع، وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، بل هم أضل من الأنعام".
فالعقل إن لم يجعل مطية للوصول إلى فهم كلام الله وكلام رسوله والتدبر في خلق الله وبديع صنعته فإن وجوده كعدمه، فيجب تسخير العقل في الوصول إلى الحق والمحافظة عليه من كل دخيل أو مذهب هدام أو نحلة باطلة تغير مفهوماته الشرعية.
3- عقوبة شرب المسكر:
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين.
قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ".
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر".
وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين".
الإحكام في أصول الأحكام (1/138- 139).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 112).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص237).
في ظلال القرآن (2/977).
مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 223، 229) بتصرف.
تيسر الكريم الرحمن (ص 584).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 243- 244).
صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779).
المغني (12/497).
مراتب الإجماع (ص133).
مراتب الإجماع (ص133).
الفصل الرابع: محاسن حفظ النسل والعرض:
1ـ الترغيب في تكثير النسل:
عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)).
قال الطيبي: "وفيه فضيلة كثرة الأولاد لأن بها يحصل ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من المباهاة".
قال المناوي: "لا ينتظم أمر المعاش حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما، ولا يتم كلاهما إلا بأسباب الحفظ لوجودهما وذلك ببقاء النسل، وقد خلق الغذاء سببا للحيوان، وخلق الإناث محلا للحراثة، لكن لا يختص المأكول و المنكوح ببعض الآكلين والناكحين بحكم الفطرة، ولو ترك الأمر فيها سدى من غير تعريف قانون الاختصاصات لتهاوشوا وتقاتلوا وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق، بل أفضى بهم إلى الهلاك فشرح الله قانون الاختصاص بالأموال في آيات نحو المبايعات والمداينات والمواريث ومواجب النفقات والمنكاحات ونحو ذلك، وبين الاختصاص بالإناث في آيات النكاح ونحوها".
2ـ الترغيب في النكاح:
قال الإمام البخاري: "باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء} [النساء:3]".
قال الحافظ: "ووجه الاستدلال بالآية أنها صيغة أمر تقتضي الطلب، وأقل درجاته الندب فثبت الترغيب".
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
قال النووي: "وفي هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، وهذا مجمع عليه".
قال الغزالي في بيان فوئد النكاح: "الفائدة الأولى وهو الأصل وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس".
3ـ التحذير من التبتل والرغبة عن النكاح:(/6)
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا.
قال الحافظ: "والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية".
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أماَ والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
قال الحافظ: "وقوله: ((فليس مني)) إن كانت الرغبة بضرب من التآويل يعذر صاحبه فيه فمعنى ((فليس مني)) أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى ((فليس مني)) ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه".
هذا بالنسبة لمن ترك النكاح تبتلا وانشغالاً بالعبادة، فأما من تركه لعدم القدرة البدنية أو المالية فبين العلماء حكمه كما يلي.
قال ابن قدامه: "القسم الثالث: من لا شهوة له؛ إما لأنه لم يخلق له شهوة كالعنين، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه ففيه وجهان:
أحدهما: يستحب له النكاح.
والثاني: التخلي له أفضل؛ لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره ويضر بها ويحبسها على نفسه ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه، والأخبار تحمل على من له شهوة لما فيها من القرائن الدالة عليها".
4ـ تحريم قتل الأولاد وإجهاض الحوامل:
قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}.
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31].
قال القاسمي: "{إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} لإفضائه إلى تخريب العالم، وأي خطأ أكبر من ذلك".
وقال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ} الآية [الممتحنة:12].
قال ابن كثير: "قوله: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ} هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتلَه وهو جنين كما يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه".
وقد أوجب الشرع الضمان على من قتل جنيناً في بطن أمه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بغرة عبدٍ أو أمة.
وعن المغيرة بن شعبة عن عمر رضي الله عنه أنه استشارهم في إملاص المرأة، فقال المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة، قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به.
قال ابن تيمية في الجواب عن قضية امرأة تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب أو شرب دواء: "يجب عليها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة غُرة: عبد أو أمة، تكون لورثة الجنين غير أمه".
وينبه هنا إلى أن إسقاط الحمل على نوعين كما يأتي.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: "أما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام بلا ريب؛ لأنه قتل نفس محرمة بغير حق، وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وإن كان قبل نفخ الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، ومنم من قال: يجوز ما لم يكن علقة، أي: ما لم يمض عليه أربعون يوماً، ومنهم من قال: يجوز ما لم يتبين فيه خلق إنسان، والأحوط المنع من إسقاطه حينئذ إلا إن مضى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع.
الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه، بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع، فهذا جائز بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم ولا على الولد ولا يحتاج الأمر إلى عملية".
والإجهاض له آثار على النسل، فمن ذلك:
1) هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة.
2) ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض.(/7)
3) حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي عدم الإنجاب مستقبلاً.
5ـ الوعيد الشديد على نفي النسب أو إثباته على خلاف الواقع:
قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءابَاءهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وَمَوالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
قال ابن كثير: "أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي: عوضاً عما فاتهم من النسب".
وقال الشوكاني: "صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء".
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار)).
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر)).
وعن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما كلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالحنة عليه حرام)).
قال الحافظ: "وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره".
قال بعض الشراح: "سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله، كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره".
6ـ تحريم الزنا وإيجاب الحد فيه:
قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32].
قال ابن جرير: "وساء طريق الزنا طريقاً، لأنه طريق أهل معصية الله والمخالفين أمره، فأسوِئ به طريقاً يورد صاحبه نار جهنم".
قال ابن سعدي: "ووصف الله الزنا وقبحه بأنه كان فاحشة أي: إثما يستفحش في الشرع والعقل والفطر، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها، وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد".
وقد أوجبت الشريعة الحد في هذه الجريمة.
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
قال شيخ الإسلام: "وأما الزاني فإن كان محصناً فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي ورجم الغامدية وغير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاماً بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".
ومن مقاصد الشريعة في تحريم الزنا:
1) تحقيق العبودية لله تعالى والاستقامة على شرعه.
2) تطهير المكلف من الذنوب والآثام وردع غيره من الوقوع فيها.
3) حماية الفرد والمجتمع.
7ـ تحريم اللواط وإيجاب الحد فيه:
قال شيخ الإسلام: "وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك، والصحيح الذي اتفق عليه الصحابة أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية قال: (يرجم)، ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعه فيه، فرُوي عن الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه، وعن غيره قتله، وعن بعضهم أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهذه رواية عن ابن عباس، والرواية الأخرى قال: يرجم، وعلى هذا أكثر السلف، قالوا: لأن الله رجم قوم لوط، وشرع رجم الزاني تشبيهاً بقوم لوط، فيرجم الاثنان، سواء كانا حرين أو مملوكين، أو كانا أحدهما مملوكاً والآخر حراً إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ".
8ـ تحريم القذف وإيجاب الحد فيه:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
قال ابن كثير: "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات".
والقذف كبيرة من الكبائر المنصوص عليها.(/8)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال الحافظ: "في الآية بيان كون القذف من الكبائر بناء على أن كل ما توُعِّد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حدٌّ فهو كبيرة وهو المعتمد، وبذلك يطابق الحديث الآية المذكورة، وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء".
ولذا شرع الله تعالى الحد في هذه الجريمة حفاظاً على أعراض المؤمنين والمؤمنات.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء".
وقال أيضاً: "فأوجب على القاذف إذا لم يقم البنية على صحة ما قال ثلاثة أحكام أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة، والثاني: أنه ترد شهادته أبداً، والثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس".
قال شيخ الإسلام: "ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصناً بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا هو الحر العفيف".
فالقذف فيه جناية على الرجل والمرأة المتَّهمين، وعلى أسرتهما وأقاربهما، وعلى المجتمع بأسره، وفيه طعن في نسب الولد الذي اتهمت أمه بالزنا، لذا جاء الشرع بتحريمه وإيجاب الحد فيه صيانةً لشرف الفرد والمجتمع.
أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1784).
شرح الطيبي على المشكاة (6/226).
فيض القدير (3/242).
صحيح البخاري في كتاب النكاح (9/5) مع الفتح.
فتح الباري (9/6).
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع الباءة فليتزوج)) (5065).
شرح صحيح مسلم (9/172).
إحياء علوم الدين (2/75)
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء (5073).
فتح الباري (9/21).
أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح ( 5063).
فتح الباري (9/8).
المغني (9/343).
محاسن التأويل (10/224).
تفسير القرآن العظيم (4/379).
أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة (6904)، ومسلم في كتاب القسامة (1681).
الإملاص: قال ابن الأثير: "هو أن تزلق المرأة الجنين قبل وقت الولادة" النهاية (4/356).
أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب جنين المرأة (6905).
مجموع الفتاوى (34/161).
رسالة في الدماء الطبيعية ضمن مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (11/332 ـ 333).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص 276).
تفسير القرآن العظيم (3/514).
فتح القدير (4/261).
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، (3508)، ومسلم في الإيمان (61).
أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3508).
أخرجه البخاري في الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه (6768)، ومسلم في الإيمان (62).
أخرجه البخاري في الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه (6768)، ومسلم في الإيمان (63).
فتح الباري (6/625).
فتح الباري (12/56).
جامع مع البيان (15/80).
تيسير الكريم الرحمن (ص 456).
أخرجه مسلم في كتاب الحدود (1690).
مجموع الفتاوى (28/333)بتصرف يسير.
حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب ص 42 وما بعدها.
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4462)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1457)، وابن ماجة في الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط (2561)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3745).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4463)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3746).
مجموع الفتاوى (28/334-335).
تفسير القرآن العظيم (3/287).
أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب في المحصنات (6857)، مسلم في كتاب الإيمان (146).
فتح الباري (12/188).
تفسير القرآن العظيم (3/275).
تفسير القرآن العظيم (3/275).
مجموع الفتاوى (28/342).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 103-104) بتصرف وزيادة يسيره.
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".(/9)
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".(/10)
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".(/11)
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).(/12)
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".(/13)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:(/14)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.(/15)
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].(/16)
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".(/17)
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:(/18)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).(/19)
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".(/20)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:(/21)
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".(/22)
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).
الفصل الخامس: محاسن حفظ المال:
1) المال مال الله استخلف فيه عباده:
قال تعالى {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد:7].
قال ابن جرير: "أي: أنفقوا مما خولكم الله من المال الذي أورثكم عمن كان قبلكم فجعلكم خلفاؤهم فيه".
قال القرطبي: "فيه دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة".
فالذي يقع في يده المال وهو يعلم أن المالك في الأصل هو الله وأنه مستخلف فيه فلا ينفقه إلا فيما يرضيه ولا يجمعه إلا من حيث يرضيه، وأن أي تصرف يخرج عما يرضي الله في المال يكون تصرفاً غير مشروع. إن الذي يعلم ذلك ويلتزم بإذن الله في جمع المال وإنفاقه هو الجدير بحفظه، بخلاف الذي يغنيه الله ولا يشعر بهذه القاعدة فإنه يتصرف في المال تصرف السفيه وهو جدير بإضاعة المال وإن ظن أنه يحفظه.
2) الحث على الكسب:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
قال ابن جرير: "وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض".
وقال ابن كثير: "أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم".
وقال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
قال ابن كثير: "أي: مسافرون يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر".
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
قال النووي: "فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات بالحطب والحشيش النابتين في موات".
وقال ابن حزم: "وأجمعوا أن اكتساب المرء من الوجوه المباحة مباح".(/23)
وقال ابن مفلح: "يسن التكسب ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية، نص عليه في الرعاية".
إن الفرد لا يجب عليه أن يمشي في مناكب الأرض طالباً للرزق، بل يباح له ذلك إلا أنه إذا ترك السعي في طلب الزرق وترتب على ذلك فقره واضطراره إلى سؤال الناس واستجدائهم كان آثماً ووجب عليه حفظ ماء الوجه بطلب الرزق الحلال بكسب يده ما دام قادراً على ذلك، أما ترك الأمة كلها للمكاسب فإنه لا يجوز؛ لأنه خلاف مقصود الله من عمارة الأرض، فالسعي في طلب المال مشروع، وهو وإن كان مباحاً بالجزء فإنه ضرورة بالكل.
3) التزام السعي المشروع في الكسب واجتناب الكسب الحرام:
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
قال ابن كثير: "يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يده إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيَبالحرام فأنى يستجاب لذلك.
قال النووي: "فيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصَه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)).
قال القرطبي: "وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام لأنه غير مملوك من المتصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، فلو قبلت منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من وجه واحد وهو محال، لأن أكل الحرام يفسد القلوب فتحرم الرقة والإخلاص فلا تقبل الأعمال".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومعنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب، لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب: الحلال لأنه صفة الكسب".
4) تحريم إضاعة المال:
قال تعالى {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26، 27].
قال عبد الله بن مسعود: (التبذير في غير حق وهو الإسراف).
وقال ابن عطية: "التبذير إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح".
وقال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ} [الأعراف:31].
قال ابن عباس: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة).
قال ابن السعدي: "فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفاق".
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع هات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
قال النووي: "وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه فساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس".
وقال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل فوات الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.
فالحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه:
الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعاً فلا شك في منعه.
والثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعاً فلا شك في كونه مطلوباً بالشرط المذكور.(/24)
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذّ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفاً وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف، والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف؛ لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، وقال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال إ.هـ وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وتبعه النووي، والذي يترجح أنه ليس مذموماً لذاته لكنه يفضي غالباً إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور".
5) أداء الحقوق لأهلها:
وله أمثلة كثيرة منها:
1ـ أداء الزكاة إلى مستحقيها:
قال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية [التوبة:60].
قال ابن كثير: "بين تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، فجزأها لهؤلاء المذكورين".
قال ابن قدامة: "ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايا وإصلاح الطرق وما أشبه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} و(إنما) للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه".
2ـ أداء الديون لأصحابها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريدها أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها اتلفه الله)).
قال ابن بطال: "فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزه عنها وحسن التأدية إليهم عند المداينة، وقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل".
وجاء الشرع بتحذير القادر على أداء الدين من تأخيره وجعله ظالماً بالتأخير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم ومن اتبع على مليّ فليتبع)).
قال ابن المنذر: "هذا الخبر يدل على معان منها: أن من الظلم دفع الغني صاحب المال عن ماله بالمواعيد".
وقال ابن بطال: "وفيه ما دل على تحصين الأموال".
3ـ تعريف اللقطة:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بها وإلا فاستنفقها))، قال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب))، قال: ضالة الإبل؟ فتمعَّر وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)).
واللقطة هي المال الذي يجده المرء ساقطاً لا يعرف مالكه، فالواجب على واجده أن يعرفه ويعرف الوعاء الذي حفظ فيه من كيس ونحوه، وكذا العلامات التي يتميز بها، ويحفظ هذا المال عنده سنة كاملة يعرف به في المجامع العامة كالأسواق وأبواب المساجد ونحوها فإن جاء من يدعيها وذكر وصفها تاماً أداه إليه.
ولها أحكام أخرى كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
6) حماية الأموال من السفهاء:
قال تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء:5].
قال ابن كثير: "ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياماً، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها".
قال ابن سعدي: "السفهاء جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه ونحوها، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، ولأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً، بأن يعدوهم إذا طلبوها أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبراً لخواطرهم".
7) الدفاع عن المال:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
قال النووي: "فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلاً أو كثيراً".
قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذه الأبواب ليريك أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله، فإن كان شهيداً إذا قتل في ذلك كان إذا قتل من أراده في مدافعته له عن نفسه لا دية عليه فيه ولا قود".
8) توثيق الديون والأشهاد عليها:(/25)
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ} [البقرة:282].
قال ابن كثير: "هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها".
وقال القرطبي: "لما أمر الله تعالى بالكتب والإشهاد وأخذ الرهان كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم وهذا الفعل مذموم منهي عنه".
9) ضمان المتلفات:
قال ابن قدامة: "فمن غصب شيئاً وجب عليه رده... فإن تلف لزمه بدله لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]؛ ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها من المالية، فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت القيمة في قول الجماعة".
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل والمتقوم بالقيمة.
وفي لزوم الضمان على المتلف لمال غيره ضمان من التعدي على الأموال والاستهانة بها، لأن الإنسان إذا علم أنه بغصبه أو بتفريطه في حفظ الوديعة ونحوها من أموال الناس يضمن مثلها أو قيمتها عند تعذر المثلية فإن ذلك يدعوه إلى التحرز والعناية والحفظ والانتباه وعدم الغفلة عنها، فتحفظ بذلك الأموال من الضياع.
10) تحريم السرقة وإيجاب الحد فيها:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:138].
قال ابن جرير: "يقول جل ثناؤه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا ـ أيها الناس ـ يده".
قال ابن كثير: "وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أُخر، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح".
قال القاضي عياض: "صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرق كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البنية عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها، وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
جامع البيان (11/671).
الجامع لأحكام القرآن (17/238).
الإسلام وضرورات الحياة (ص133).
جامع البيان (12/169).
تفسير القرآن العظيم (4/424).
تفسير القرآن العظيم (4/468).
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (1471).
شرح صحيح مسلم (7/131).
مراتب الإجماع (ص 155).
الآداب الشرعية 3(/265).
الإسلام وضرورات الحياة (ص 135، 156) بتصرف.
تفسير القرآن العظيم (1/210).
قال النووي: بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1015).
شرح صحيح مسلم (7/100).
أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في كتاب الزكاة (1014).
المفهم (3/59).
فتح الباري (3/327- 328).
جامع البيان (15/73) ـ دار الفكر.
المحرر الوجيز (3/450).
جامع البيان (5/472).
تيسير الكريم الرحمن (ص 287).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب ما ينهى من إضاعة المال (2408)، ومسلم في كتاب الأقضية (1715 ).
شرح صحيح مسلم (11/11).
فتح الباري (10/422) بتصرف يسير.
تفسير القرآن العظيم (2/378).
المغني (4/125).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أدءها أو إتلافها (2387).
شرح ابن بطال على البخاري (6/513).
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب مطل الغني ظلم (400)، ومسلم في كتاب المساقاه (1465).
انظر: شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/415).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/416).
أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب ضالة الإبل (2427)، ومسلم في كتاب اللقطة (1722).
الإسلام وضرورات الحياة (ص178).
تفسير القرآن العظيم (1/462).
تيسير الكريم الرحمن (ص164).
أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480)، ومسلم في كتاب الإيمان (226).
شرح صحيح مسلم (2/165).
شرح ابن بطال على صحيح البخاري (6/607).
تفسير القرآن العظيم (1/345).(/26)
الجامع لأحكام القرآن (3/417).
المغني (7/361).
الأشباه والنظائر للسيوطي (2/2).
مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص302).
جامع البيان (4/569).
تفسير القرآن العظيم (2/57).
شرح صحيح مسلم للنووي (11/181).(/27)
حفظ القرآن من التحريف
امتاز القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية بكفالة الله عز وجل له وحفظه من التحريف والتغيير ، فقال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9) قال أهل العلم : حَفِظَه الله من أن يزاد فيه أو ينقص منه ، ولولا أن الله سبحانه تولى حفظه بنفسه لأصابه ما أصاب الكتب قبله من التحريف والتبديل ، إذ أوكل الله حفظها إلى من أنزلت عليهم قال تعالى { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء } (المائدة: من الآية44) والحكمة من تفضيل القرآن بهذه الميزة العظيمة ، كونه خاتم الكتب السماوية .
وقد هيأ الله له من أسباب الحفظ ما لم يهيئه لغيره من الكتب ، فمن تلك الأسباب ما فعله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه من جمع القرآن في الصحف ، وذلك لما كثر القتل في القرّاء يوم اليمامة وخشي ضياع القرآن بضياع حفظته ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري .
ومن أسباب حفظه أيضا ما قام به الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بموافقة جميع الصحابة من جمع الناس على مصحف واحد جمع فيه القراءات الثابتة ، ثم بعث به إلى الآفاق ، وأحرق ما سواه ، بعد أن ظهرت بوادر الاختلاف .
ومن أعظم أسباب حفظ القرآن الكريم ما يسره الله عز وجل من تسهيل حفظه في الصدور حتى أقدر على حفظه الصغير والكبير والجاهل والمتعلم والعربي والعجمي لا يختص بحفظه أحد دون أحد ، قال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر:32) .
ومن جميل ما يحكى مما يعد شاهدا حيا على حفظ الله لكتابه وصيانته له من أن تعبث به أيدي البشر أن يهوديا دخل على المأمون في مجلسه فتكلم فأحسن العبارة ، فلما انتهى المجلس دعاه المأمون فقال إسرائيلي ؟ قال نعم ، فدعاه إلى الإسلام ، ورغبه بالعطايا ، فقال : ديني ودين آبائي ثم انصرف ، فلما كان العام المقبل حضر فتكلم في الفقه فأحسن فقال المأمون أو لست صاحبنا قال نعم قال فما سبب إسلامك ؟ قال انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني ، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها البيعة فاشتريت مني ، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت وأدخلتها الوراقين فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها ، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ فكان هذا سبب إسلامي .
فمن هنا كانت قضية حفظ القرآن محسومة في ذهن كل مسلم ، مُسلَّمة عند كل مؤمن ، وقد نص العلماء على أن من ادعى حصول النقص أو الزيادة في كتاب الله فقد كذب الله في خبره وذلك كفر .
وصدق الله إذ يقول : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت:42) وبالله التوفيق .(/1)
حفظ النسل من خلال التنشئة والرعاية (1 / 5)
د. فريدة صادق زوزو 8/5/1426
15/06/2005
توطئة:
تستمد الأحكام التفصيلية للمحافظة على النسل وإعداده للاستخلاف من الشريعة الإسلامية، وإن كانت طرق رعاية الأولاد وتربيتهم قد جبل عليها الإنسان بفطرته؛ إلا أن الشارع الحكيم أسس قواعد وحدد ضوابط تقوم عليها الرعاية في كل زمان ومكان، تماشيا مع الفطرة، وتصحيحا للطبائع القبيحة، مثل ما كان في الجاهلية من قتل البنات، "وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت" [التكوير: 8]، فهذا طبع ينافي الفطرة السليمة في حب الأولاد سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، ومثله ما جاء عن قتل الأولاد عموما، قال تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق" [الإسراء: 31].
وهذه الضوابط مما استوعبتها النصوص التالية؛ في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" [التحريم: 6]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول"(1) .
فهذه النصوص تبين قواعد الرعاية والحفظ بما يقوِّم صحة وصواب التربية على الأسس القرآنية والنبوية؛ وهذه الضوابط لا يمكنها أن تؤدي دورها في غياب المحضن الأسري الذي يجمع أفراد العائلة الواحدة؛ الذين جمعهم عقد زواج شرعي بين الأب والأم، وتحقق المقصد الأصلي بالتناسل، وقد قال تبارك وتعالى:"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" [النساء: 1]، فالنسل هو خلف الزواج.
وبوجود الأسرة وتعدد الأفراد فيها، تتحدد وظيفة كل فرد في هذه الأسرة، حقوقا وواجبات، بما يحقق التكامل الذي يتكفل بالنسل رعاية وتنشئة. هو الذي سيتضح في هذه الدراسة بمبحثيها؛ حيث يعرض المبحث الأول لأهمية الكيان الأسري في الرعاية والتنشئة الاجتماعية عموما، ويتخصص مجال الدراسة في المبحث الثاني في طرق كفالة اليتيم في غياب الأسرة، وقد اخترت هذا النموذج لما ورد فيه من تفصيل في آي القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا التفصيل الذي نستمد منه أهم قواعد الرعاية والتي نعتمدها كنموذج عام يسترشد به في مجال التربية والرعاية، وهو ما سأحاول تطبيقه مع رعاية ذي العاهة الذي لم تفصل طرق رعايته بالكيفية الأولى، سوى ما استنبط من مقاصد الشارع الحكيم؛ مثل مقصد الرحمة، ومقصد السماحة والتسامح، ومقصد المساواة وغيرها.
المبحث الأول: التنشئة والرعاية الأسرية
المطلب الأول: وظائف الأسرة ودورها في حفظ النسل.
تتأسس وظائف الأسرة على عقد الزواج والمقاصد التي ينبني عليها، " فالسبيل الأول لتكوين الأسرة هو نظام الزواج"(2) ، ففي قوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم:21] تبيان للقواعد الروحية المُؤَسِسَة للكيان الأسري، بالسكينة التي تظلل على الزوجين، والمودة والرحمة التي تجمعهما ما طالت الحياة بينهما.
وبإيجاد النسل يكتمل البناء الأسري، كما يبينه الخالق تبارك وتعالى في قوله: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين" [الأعراف: 189]. حيث يعدّ مجيء الأولاد الانتقال بالأسرة إلى عهدها الذهبي، وهو "عهد الاستقرار والفهم الصحيح للحياة الأسرية، والإدراك المباشر لمسؤولياتها"(3) ، مما يتطلب تغيرا في مسؤوليات الزوجين، من فردين إلى مسؤولين على رعاية وتنشئة نسلهما.
وقد حددت وظائف كل من الزوجين بما يتفق وخصائص الرجل والمرأة في الآية الكريمة في قوله تعالى: "ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير" [البقرة: 233]، كما يتبين ذلك أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"(4) .(/1)
فالشارع الحكيم يحرص على رعاية النسل داخل الأسرة، فهذا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" (5) يؤكد حقيقة ثابتة وهي أن الطفل يولد وهو لا يفقه شيئا في هذا الوجود، "والأسرة هي النظام الاجتماعي الوحيد الذي يأخذ على عاتقه مسؤولية تحويل الحيوان الإنساني الصغير إلى مخلوق آدمي"(6) ، حيث يختلف صغير الإنسان عن غيره من الصغار في نموه البطيء، وشدة احتياجه إلى من يرعاه على الأقل حتى سن الخامسة الرعاية الجسدية والصحية، أما التنشئة الاجتماعية والتي يقصد بها "تلقين الطفل اللغة والعادات والتقاليد وآداب السلوك وقواعد الدين والعرف، وهي الجسر الذي يصل بين الفردية الخالصة والمجتمع"(7)؛ فهي تطول حتى يلمس الوالدان مقدرة نسلهما على التفاعل الاجتماعي، والتكيّف مع الحياة بالصورة الصحيحة.
وهكذا تتعدد وظائف الأسرة (8) بين إنجاب الأولاد الشرعيين، ثم رعايتهم منذ الولادة والعناية برضاعهم وحضانتهم،كما سيتبين لاحقا، والإنفاق عليهم في الملبس والمعيشة عموما، ليأتي بعدها دورهما المشترك عندما يكبر؛ بالتربية للمحافظة على الفطرة السليمة، وتنمية قدرات الأولاد المتعددة، وتهيئتهم استعدادا للتفاعل مع المجتمع.
وهذا لقمان الحكيم ينصح ابنه كما يذكر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: "يا بنيَّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وأصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، ولا تصعر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور، وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" [لقمان: 17-19].
فهذه النصائح هي مفتاح التعامل الصحيح مع أفراد المجتمع لتنشئتهم تنشئة بنّاءة، فهذه القواعد هي التي تبني الإنسان الفعال؛ الذي تهيئه الأسرة للاستخلاف وعبادة الله تعالى، وأن يكون ممن ينشد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكثروا أتباعه يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا العمل الصالح؛ هذا العمل الذي لا ينشأ من فراغ، بل إن التربية على الأخلاق والمبادئ الإسلامية هي قوامه وعمدته.
ورغم كون حق النسل في انتسابه لأبويه من الطبائع المجبول عليها لدى الإنسان، فإن الشارع قام بتقويمها وتحديد ضوابطها، لما لها من أهمية في قيام الكيان الأسري، "فحفظ النسب الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل إلى الرأفة والحنو على نسله"(9) .
وتتحدد أسس الرأفة والحنو برضاعة الوليد وحضانته في السنوات الأولى (من الميلاد إلى الصبا)، ورعايته وتربيته في السنوات التالية التي ينشأ فيها ويترعرع، حيث "يقوم الآباء بأداء هذا الواجب الضروري؛ إما بمقتضى وازع الفطرة الإنسانية الذي يغني عن القوانين والسلطان، وإما بوازع الدين الذي يزع النفوس عن التهاون بحدود الشريعة، وإما بوازع السلطان صاحب القهر والصولجان"(10) .
فرعاية النسل، والحفاظ عليه حتى يبلغ أشده ويقوم بأداء واجبه اتجاه خالقه، وأمته، تتحقق داخل المحيط الأسري؛ لأن الأسرة هي الكفيلة بتهيئة المناخ الذي يحقق مصالح النسل في حفظه ورعايته وتربيته وتنشئته، ومن ثمة تتحدد للأسر(11)ة وظائفها، الأمر الذي بيّنته نصوص الشريعة في مثل قوله تعالى: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" [البقرة:233]، وذلك تحديدا للوظيفة الأولى للأب في توفير الرزق والكسوة، وهذه وظيفة الأب الأولى، أما وظيفة الأم فقد تحددت في مثل قوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" [البقرة:233]، وقوله تبارك وتعالى: "حملته أمه كرها ووضعته كرها" [الأحقاف: 15]، وقوله تعالى: "حملته أمه وهنا على وهن" [لقمان: 14]، فوضحت هذه الآيات الكريمة المهام الرئيسة للأم والمتمثلة في الحمل والرضاع والحضانة؛ حيث تعد الرضاعة والحضانة قاعدتين أساسيتين للتربية عموما؛ لأن الطفل يولد وهو لا يقوى على شيء، قال تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا" [النساء: 28]، وقال تبارك وتعالى أيضا واصفا مراحل حياة الإنسان: "الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير" [الروم: 54]. هذا الضعف لا يمكن للإنسان وهو وليد أن يدفع به عن نفسه؛ فلا يقوى على ذلك إلا بمعونة والديه اللذين تكفلا بذلك شرعا وعرفا، بل وعادة.(/2)
هذه هي المقاصد الأصلية للرعاية والتربية؛ أين ينتقل الطفل من المراحل الأولى إلى مراحل القوة ليقدر على ردّ جميل والديه برعايتهما وهما كبيران مصداقا لقوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" [الإسراء:23- 24]، وهنا تظهر المقاصد التبعية لرعاية وحفظ النسل، بما يعود على الوالدين، فقال تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه" [الأحقاف: 15].
ولهذه الغايات ارتأيت بدأ الحديث عن وظائف الأسرة عموما، وبحث وظيفتي الرضاعة والحضانة تخصيصا وتفصيلا في المطالب اللاحقة، لما لهما من أهمية في رعاية النسل في بداية حياته داخل كيان الأسرة، وخارجه عند انفكاك عرى الزواج والبناء الأسري، فإن حق النسل يبقى ثابتا، لا يتغير ولا يتبدل.
ونلحظ أن الفقهاء -في كتب الفقه الإسلامي- ركزوا اهتمامهم على مباحث الرضاع والحضانة والنفقة خصوصا، غير مفصلين في مبحث التربية والتعليم، لأن موضوع التربية عموما ليس من المباحث الفقهية البحتة، وإن كان ذا صلة قوية غير مباشرة بمباحث حقوق النسل في الشريعة الإسلامية (12). والحقيقة أن هذا الأمر راجع إلى كون الرضاع والحضانة دعامة وأساس رعاية المولود والعناية به، فالمولى تبارك وتعالى أول ما دعا إليه هو قوله تعالى: ]والوالدات يرضعن أولادهن[، فبالرضاع ينمو المولود ويكبر وإلا فالموت مصيره، إذا لم يجد العناية في أيامه الأولى، وتستمر الرضاعة والحضانة للمولود حتى لو انفصل الزوجان، وانحلت عرى الزواج بالطلاق، خاصة وأن في انحلال عقد الزواج ظهور مخاصمات بين الزوجين، فلم يدع الشارع الحكيم هذه المخاصمات تؤثر في حقوق النسل المشروعة، حيث قال: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده" [البقرة: 233]، فحقوق النسل باقية في كل الأحوال؛ و لهذا غلّب الفقهاء حق الولد على حق الأم في الرضاع والحضانة كما سيأتي، رعاية لمصلحة الولد، وتقريرا لحقوقه الدائمة.
________________________________________
(1) رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، كتاب: النكاح، باب: "قوا أنفسكم وأهليكم نارا"، رقم: 5188. أنظر: البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري،ج 9/ ص254.
(2) السمالوطي، الدين والبناء العائلي، ص 195.
(3) الخشاب، مصطفى: دراسات في الاجتماع العائلي، ( بيروت: دار النهضة العربية، 1985)، ص 81.
(4) رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه، في كتاب النكاح، باب: المرأة راعية في بيت زوجها، رقم 5200، أنظر: البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج12/ ص296.
(5) أخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب:6، أنظر: مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16/ص 207.
(6) الخولي، الأسرة والحياة العائلية، ص 46.
(7) الخشاب، دراسات في الاجتماع العائلي، ص 86.
(8) الخولي، الأسرة والحياة العائلية، ص61؛ الخشاب، دراسات في الاجتماع العائلي، ص 81؛ السبيعي، عدنان: سيكولوجية الأمومة، ط1، (دمشق: الشركة المتحدة للتوزيع، 1985)، ج1/ 86؛ شكري، الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأسرة، ص165.
(9) ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 162.
(10) العالم، المقاصد العامة للشريعة، ص 440
(11) ولا يهم أن مصطلح " الأسرة" لم يأت له ذكر في القرآن الكريم أو السنة النبوية؛ بل إن معانيه مؤسس لها في أحكام الزواج وقواعده؛ فإن البناء الأسري تبع لعقد الزواج حال وجود النسل؛ وهل في تفصيل أحكام الطلاق وما في سياقها إلا إيضاح لطرق انفكاك عرى الأسرة وانحلال العقد الذي بنيت عليه، فلا أسرة دون زواج، ولا نسل خارج إطار الزواج، وقد قال ابن عاشور" ولا جرم أن الأصل الأصيل في تشريع أمر العائلة هو إحكام آصرة النكاح ثم إحكام آصرة القرابة ثم إحكام آصرة الصهر، ثم إحكام كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث" . ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 155.(/3)
(12) هو موضوع اختص بالبحث فيه التربويون، أنظر: علوان، عبد الله ناصح: تربية الأولاد في الإسلام، ط21، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، 1992)؛ جبار، سهام مهدي: الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، ط1، (صيدا: المكتبة العصرية، 1997)؛ طعمة، صابر: منهج الإسلام في تربية النشء وحمايته، ط1، (بيروت: دار الجيل، 1994)؛ عثمان،حسن ملاّ: الطفولة في الإسلام مكانتها وأسس تربية الطفل، ( الرياض: دار المريخ، 1982)، اسماعيل، محمد عماد الدين: الأطفال مرآة المجتمع، كتاب رقم 99 من سلسلة عالم المعرفة، ( الكويت: مطابع الرسالة، 1986)؛ قنطار، فايز: الأمومة، كتاب رقم 166 من سلسلة عالم المعرفة، ( الكويت: مطابع السياسة، 1992)؛ سويد، محمد نور عبد الحفيظ: منهج التربية النبوية للطفل، ط5، (بيروت: مؤسسة الريان، 1414هـ/ 1994م).
التفكير الإبداعي في المناهج الدراسية
لمقررات الفقه وأصوله[2/3] (1)
د/ فريدة زوزو (2) 24/11/1425
05/01/2005
وأما ترغيب التفكير الإبداعي في نفوس الطلاب فيتأتى من خلال:
علاقة المدرس والطالب:
لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن المدرس في الجامعة هو آخر مدرس يتعلم على يديه الطالب، وهو يفترق عن المعلم في المدرسة الابتدائية، هذا لأنه أول معلم، وبالتالي فإن أهداف المدرسة تختلف عن أهداف الجامعة باعتبارها المدرسة الأخيرة، ولأنه " ينظر إلى مؤسسات التعليم الجامعي باعتبارها المراكز الأساسية للبحث العلمي؛ فالمدرسون في هذه المؤسسات يتحملون أمانة العلم تبليغا وتعليما ونشرا، لكن عليهم أن يتحملوا هذه الأمانة إبداعا وإنتاجا" (3).
ومن هنا كان على الأستاذ في الجامعة أن يتبع جملة من الأمور حتى ينتج طالبا حافظا مستوعبا، يملك أدوات الإبداع لا الحفظ فقط، ويحول الطالب السلبي إلى طالب إيجابي فعال من خلال السؤال أو النقاش، وإشراكه في محور الدرس استثارة له نحو التساؤل المجدي.
ونأخذ هنا مثالا، عند تدريسنا لمادة الفقه المقارن والتي لا يحبها أكثر الطلبة، لماذا؟ لأنها تعتمد أكثر شيئ على حفظ الأدلة الكثيرة والمختلفة بين المذاهب الفقهية، فهذا المذهب يستند على دليل من الحديث النبوي، والمذهب الآخر يفنده بحديث نبوي آخر، ليجد الطالب نفسه في معركة سيوفها هي نصوص الوحي نفسها. وكان الأولى بالمدرس أن يستعمل هذه المادة في بيان أهمية التفكير النقدي، عند النظر في دليل الخصم، بأن ينتقد بدليل أقوى حجة، استعراضا للأدلة القوية، ودحضا للأدلة الواهية؛ حتى يمكن الاستفادة حقا من كتب ومفردات الفقه المقارن، ومنه بيان سمو الشريعة الإسلامية وغناها بالآراء الفقهية في المسألة الواحدة، مما يُرفع به الحرج عند تعذر العمل بالحكم الشرعي الأصلي.
ولا يمكن هنا التغافل عن الجانب التربوي لهذه المادة مثلا؛ إذ يتعلم الطالب من هذه المادة كذلك نبذ التعصب المذهبي والتقليد، وهو خلق عالٍ، فلا يزود المدرس الطالب بالعلم والمعرفة فقط، بل يزوده كذلك بالأخلاق والخلال الحميدة، والسلوك القويم، فالطالب الجامعي قد وصل في الجامعة لآخر مرحلة من مراحل التربية والتنشئة التي ابتدأت في البيت منذ أن كان رضيعا، فعلى المدرس أن يدرك هذه المسألة ويضعها في الحسبان، من أجل أن يساهم في إعداد الفرد الصالح الفعال أولا، وتكوين الفقيه المجتهد ثانيا، فمن الأمور الواجب اتباعها:
أ- طريقة التدريس في كسب انتباه الطالب:
جرت العادة أن يجلس الأستاذ ثابتا على كرسيه متحدثا وشارحا للدرس من أوراق موزعة بين يديه، أو من خلال النظر والتقليب لصفحات كتاب مفتوح أمامه؛ في الوقت الذي يكون فيه الطالب إما يتثاءب أو يتململ على كرسيه أو يرسم على أوراقه...الخ.
تعد هذه الطريقةُ الطريقةَ التقليديةَ في تدريس العلوم الشرعية وتسمى (طريقة التلقين)، وتعتمد على التلقين والتكرار، وهي وسيلة مهمة وفعالة في الحفظ في السطور والصدور، بحيث يستوعب الطالب الدرس في ذهنه، ولكن إذا طُلب منه إعادة شيئ أو استفسره المدرس عن مسألة، فإنه لا يعرف الإجابة ؛ فهي طريقة تشوبها بعض السلبيات مثل: عدم مراعاة الفروق الفردية بين الطلبة؛ حيث أن أعدادهم كبيرة جدا مما يعسر معه العناية بأفراد الطلبة فردا فردا، كما أنها تخلو من تجاوب الطلبة معها، حيث أنهم يتلقوا فقط، ولم يستثاروا أبدا لسؤال أو حل إشكال.
إضافة إلى ذلك، فإنها طريقة لا تجذب انتباه الطالب في هذا العصر، وهو الذي أصبح فكره مشغولا بأمور خارجة عن الدرس، فليس الدرس هو غايته وهدفه. فلقد أصبح الطلاب يأتون للدرس جبرا، ولأن التعليم إجباري على كل الأفراد، وبالتالي يأتي الطالب وذهنه معلق بمشتهيات وملذات غير الدرس الممل، وهنا وجب الحديث عن أسباب تدني الدافعية للتعلم والدراسة لدى طلابنا، وهو موضوع شائك يحتاج إلى بحث تربوي مستقل.(/4)
ومن الضروري هنا أن تتنوع طرق التدريس بعد أن عرفنا أن طريقة التلقين ليست الطريقة المجدية في هذا العصر بالذات، عصر المعلوماتية، وعصر التكنولوجيا، وعصر السرعة في كل شيء، وكان لابد من الاستعانة بطرق أخرى أكثر فاعلية، وأيسر تعاملا مع الطلاب، وهنا أخص بالذكر بعضا من هذه الطرق مثل:
استعمال تقنية المعلومات والتي من شأنها أن تضفي على الدرس حيوية واهتماما متزايدا من قبل الطلاب، كما أنها تيسر على المدرس تجميع المعلومات الكثيرة في مساحات قليلة بطريقة مبسطة جذابة، تجلب انتباه الطالب كل حين. وتكمن أهمية هذه الوسائل كما يقول د/ أحمد محمد زكي (المتخصص في مجال التقنية):" في استثارة اهتمام التلميذ وإشباع حاجته للتعلم، وتشرك هذه الوسائل جميع حواس المتعلم، مما يؤدي إلى ترسيخ المعلومة وحسن ترتيب واستمرار أفكار التلميذ، وكذلك تنمي قدرة المتعلم على التأمل ودقة الملاحظة واتباع التفكير العلمي..." (4).
ناهيك على تسهيلها استيعاب الدرس الذي يتيسر فيه الشرح بطريق الصور مثل مناسك الحج، ودروس فقه السيرة، ومناطق الغزوات، التي تسهل دراستها على خرائط معدّة لهذا الغرض، فالطالب في هذا المساق مثلا وهو ينظر في الخريطة إلى طول المسافة بين مكة والمدينة المنورة، طريق هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم يسهل عليه تصور الدرس وفهمه واستيعابه.
كما يمكن أن تساهم تقنية المعلومات في حساب مقادير الزكوات خاصة الحديثة منها مثل أنصبة الأسهم والسندات وعروض التجارة عموما بطريقة حسابية ميسرة، ومثلها أنصبة الورثة في علم المواريث وغيرها.
طريقة المناقشة: وتحبذ هذه الطريقة أن تمارس مع مجموعات وفرق صغيرة من الطلبة عددهم بين (10-15) فيكون محور الدرس موضوعا للنقاش الدائر بين المدرس والطلبة، وفيها يمكن الاستعانة ببعض الكتب الجانبية المساعدة على استثارة التفكير والسؤال عند الطالب، وهي طريقة تعين كذلك على فهم الموضوع من طرق متعددة وبالتالي تنمية قدرة الطالب على استيعاب الدرس من أحد الطرق الميسرة عنده. وهي طريقة تستعمل في حصص المناقشة.
تنويع الأنشطة داخل الفصل: أي أن المدرس يحاول تغيير جو التدريس إلى طرح سؤال، أو دعوة طالب لمناقشة مسألة، أوالكتابة على السبورة، أو استعمال تخطيط الشجرة. كما يجدر أن يتحلى المدرس بروح الدعابة والمرح أحيانا بإلقاء مزحة يستثير بها صمت وهدوء الطلبة، كما ينبغي كل حين التنبيه على أهم محاور الدرس، والخيط الجامع للدرس حتى لا يضيع الطلاب بين تفريعات الدرس ناسين جوهره.
طريقة الوحدات: والغاية من هذه الطريقة الربط بين معلومات المنهج في المادة الواحدة، أو في مواد مختلفة متعددة، حول هدف نظري واحد؛ فالزكاة مثلا- إذا درست على منهج المواد المنفصلة- تدرس دراسة جافة ضحلة، تتناول أوقات وجوبها، ومقاديرها، ومصارفها، إلى غير ذلك، ولكنها كوحدة يمكن أن تدرس من اتجاهات أقوى حيوية وأعظم تأثيرا، مثل: الزكاة ومشكلة الفقر، الزكاة والتنظيم الاقتصادي، الزكاة والتعاون، المضاعفات السيئة لمنع الزكاة...الخ (5).
ب- التمثيل بحيثيات ومستجدات الواقع المعيش:
حركة المجتمع والواقع الاجتماعي واقع متحرك غير ثابت، فهو أحيانا يحتكم إلى الشريعة الإسلامية ، وفي أحيان أخرى يبتعد عنها، لينجرف مع التيارات المستحدثة.
والأستاذ في درسه يدرس المنهج المقرر، واضعا خلفه واقعه الذي يعيش فيه؛ وهنا تكمن إشكالية التمايز عند الطالب، بين ما يتلقاه في الدرس وبين واقعه، فهما يسيران في اتجاهين متعاكسين، وهنا وجب على المدرس أن يربط مادة درسه بالواقع المعيش، بـ:
* إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام.
* ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.
* معالجة المسائل والتحديات المعاصرة بالنظر الفقهي الشرعي (مجالات الطب والسياسة والمعاملات الاقتصادية، وغيرها).
* الانطلاق من الواقع بتحدياته، ومعالجتها معالجة شرعية؛ فهذا المنهج سيساعد الطالب والأستاذ نفسه على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته.
* ويوضح الأستاذ أهمية ذلك في نهضة الأمة، ويحث الطالب على أن يكون عضوا فاعلا.
فلا يمكن عزل الطالب عن واقعه الذي يعيشه، وخاصة أن مقررات الدراسات الشرعية الحالية تعتمد على أمرين اثنين:
- أولهما التأصيل النظري للأحكام الشرعية المستوحى من القرآن والسنة، من دون ربطها بما يسود المجتمع من مخالفات لهذه الأحكام، أو محاولة إدراج صورها الحديثة لتأصيلها شرعيا .
- وثانيهما التمثيل بالأمثلة والفروع الفقهية القديمة، التي يصعب على الطالب فهمها ناهيك عن فهم الدرس والقاعدة المعتمدة، وما يأتي المثال في الأصل إلا لأجل أن ييسر فهم الدرس!.
مكامن تجديد الأمثلة بما يناسب العصر:
إضافة لما سبق التطرق إليه لبعض الأمثلة في الفقه المعاصر ومادة الفقه المقارن، فهذه أمثلة أخرى من:(/5)
- مادة فقه المعاملات : وخذ لذلك مثالا، فعند شرحي لدرس البيوع المنهي عنها للغرر الواقع فيها نمثّل بـ: "لا يجوز بيع البعير الشارد والعبد الآبق، والسمك في النهر والطير في السماء، واللبن في الضرع"، وغيرها كثير كثير من الأمثلة التي لم تتغير منذ قرون طويلة، وقس على ذلك الأمثلة في الدرس الأصولي فهي هي، كما دَرستها أنا في الجامعة وكما أُدرسها الآن للطلبة، وكما سيُدرسها طلبتي في المستقبل لطلبتهم... وهكذا.
وقد يصعب على الأستاذ استحضار أمثلة وتطبيقات جديدة من الواقع لأن الأستاذ نفسه عاجز عن استيعاب ومحاولة مزج التنظير مع التطبيق.
- ومن أمثلة التجديد في الدرس الأصولي:
لابد من ربط الدرس الأصولي بالواقع المعيش، في إنزال الأحكام الشرعية منازلها بعد تحقيق مناطها، حيث يعد الواقع أحد عناصر تحليل وتحقيق مناطات الأحكام. ومحاولة الاستفادة من العلوم الحديثة في مجال تفسير وفهم بعض النصوص الشرعية.
إذ سيساعد هذا المنهج على الالتحام بالمجتمع والاندماج في مؤسساته، فلا ينغلق الأصوليون على أنفسهم في مباحث تجريدية نظرية هي لعلم الكلام والفلسفة أقرب.
ولا يمكن عزل المنهج الأصولي عن واقعنا الذي نعيشه، فالمباحث الحالية، وهي في ذاتها قديمة، وتعتمد على الأمثلة القديمة التي لم ولا تتغير في أي كتاب أصولي قديم أو حديث، وخذ لذلك أمثلة في درس " السبب": القتل العمد سبب لوجوب القصاص، وفي درس "الإجماع"، من الإجماعات إعطاء الجدة السدس، وفي درس " الرخصة والعزيمة": من أمثلة إباحة ترك الواجب: الفطر في رمضان للمسافر، وغيرها.
ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية لعلم أصول الفقه ومفرداتها، بما جدّ في الواقع من مسائل، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة، ولو أمكن " تحديث الأمثلة في كل الموضوعات مع ربطها بالتطبيق القضائي المعاصر" (6).
- ومن أمثلة مادة " القواعد الفقهية":
مادة القواعد الفقهية والتي تعتبر من أجل العلوم التي أبدع فيها علماؤنا لأهميتها،كما قال الإمام القرافي" قواعد كلية فقهية كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه...وهي قواعد عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه وشرفه.." (7)، فأساسها مبني على عمل الفقهاء على جمع الفروع الفقهية المتناثرة تحت محدد وضابط جامع لها، بغرض إيجاد رابط لفروع كثيرة متشابهة موصولة مع بعض، فقد قال الإمام السيوطي بعد الثناء على الفقهاء:" ولقد نوعوا هذا الفقه فنونا وأنواعا، وتطاولوا في استنباطه يدا وباعا. وكان من أجل أنواعه: معرفة نظائر الفروع وأشباهها، وضم المفردات إلى أخواتها وأشكالها، ولعمري إن هذا الفن لا يدرك بالتمني، ولا ينال بسوف ولعل ولو أني.." (8).
إلا أنه يستشكل على المدرس في هذا العصر البحث عن أمثلة جديدة، فتجده عاجزا عن الإتيان بذلك، لأنه وللأسف غير مطلع على مستجدات العصر التي كثيرا ما تكون مخزنة في الأبحاث الأكاديمية، والمقالات العلمية في المجلات، وعلى شبكة الأنترنيت، والتي تستدعي استقراءً لها كما استقرأ علماؤنا الأجلاء في القديم نوازلهم.
وهنا يجد الأستاذ نفسه بدل أن يشرح القاعدة الفقهية الأم، يشرح الأمثلة المستعصية على أذهان الطلبة، لأنها أمثلة من زمان غير زمانهم، وهنا علامة استفهام كبيرة ؟!
فكيف بمادة قُصد من وضع مساقها ومفرداتها وتدريسها للطلبة أن تساعدهم في اكتساب الملكة الفقهية، وهي المقصد الأساسي من وضع هذا العلم، تعمل بعكس هدفها في عدم استيعاب الطالب لأمثلتها ناهيك عن القاعدة الأصل؟
فالمدرسون لا يبذلون الجهد الكافي في البحث والاستقصاء عن تطبيقات عملية لموادهم لأنهم هم أنفسهم حرموا من معرفتها سواء في مرحلة تعليمهم المدرسي أو الجامعي.
لذا فإن مجهوداً إضافياً يعد أمراً ضرورياً ومطلوب من قبل المعلمين لكسر الجمود الموجود في الكتب المدرسية، وليخرجوا التعليم من?الحفظ والاستذكار ?إلى?الإقناع? والتطبيق (9).?
ومن هنا تظهر أهمية مراجعة المقررات الدراسية ومفرداتها بما جدّ في الواقع من مسائل فقهية أو حديثية أو تفسيرية وغيرها، لمواجهة التحديات والشبهات المثارة كل حين وبصور متغايرة. وهو أمر ليس بالعسير إذا ما تكاتفت جهود الباحثين من كل تخصص في الدراسات الشرعية بغرض استقراء المستجدات وأدلتها، والتي كثيرا ما تعتمد على مقاصد الشريعة وقواعد الفقه والتفسير المقاصدي للآيات والأحاديث الشريفة، وهو مما سيساعد على تنمية البحث العلمي وتطوير مناهج تدريس الدراسات الشرعية في جوانب متعددة تعدد الاستقراء المبحوث عنه.
ج- تحفيز الطالب على التفكير والبحث العلمي:(/6)
بعد أن يتلقى الطالب الدرس ويحفظه استيعابا وفهما، نخطو نحو تدريبه على ملكة السؤال والاستفسار، ليتعمق الفهم بالنقاش وضرب الأمثلة. فلو بقيت المعلومات دون تحليلها أو استنطاقها لتحولت إلى جثة هامدة لا تغني من يحملها في شيء سوى إرهاقه بحملها واسترجاعها، أما التفكير الناقد فإنه يحول هذه المعلومات إلى طاقة خلاقة تسهم في تكوين العقلية العلمية المستنيرة التي يستطيع صاحبها أن يتعامل مع مفردات الواقع ومتطلبات الحياة بمرونة واضحة وبقدرة على التحليل و الاستنتاج و الفهم والاستيعات تساعده على الحياة الراقية و السلوك المتطور (10).
وهو الأمر المرجو والمقصود من التعليم والتربية عموما، "ولا شك أن الهدف المتوخى من العملية التدريسية؛ لا يتمثل في حشو أذهان الطلبة بالمعلومات، وإن كانت مفيدة، فليس المتوخى أن يتخرج طلاب الفقه أوعية للمعلومات... غير أن الهدف الأهم الذي يجب أن تتجه إليه العملية التدريسية في الفقه، إنما هو بناء الشخصية الفقهية للطالب، وتنمية ملكات الاستنباط والبحث الفقهي عنده، واكسابه القدرة على التفكير العلمي السليم، المبني على منهجية فقهية واضحة، قادرة على المحاورة والمناظرة" (11).
ولأن التحديات والمتغيرات كثيرة ومعقدة فإن الاحتجاج العقلي من شأنه أن يزيل الغبش عن ذهن الطالب، والمعروف في عرف الدراسات الشرعية أنها دوما تتجه إلى التأصيل النصي من القرآن والسنة فقط، ويأخذ الاحتجاج العقلي مساحة ضيقة، لا يفهمها الطالب بسهولة. فالاستدلال بالحجة العقلية أمر في غاية الأهمية بعد الاستدلال بالنص وتعليم الطلاب ذلك مهم جدا، لأنه "وفي ظل ازدياد الشبهات العقلية أصبح ضروريا العناية بالحجة العقلية في عرض مقرر العلوم الشرعية بشكل أكثر فعالية" (12).
ومن أهم الوسائل المساعدة على إدراك الطلاب فن الإبداع إكثار المدرس من السؤال، بحيث تكون الأسئلة الكثيرة المتتابعة المتتالية مدخلا للدرس، وليس بالضرورة أن تتم الإجابة عن كل الأسئلة آنيا وفي أثناء إلقاء الدرس، وهنا وجب تطويرما أسماه د/ جمال بادي " أسلوب ضرب الأمثلة" (13).
فالمهم أننا عَلَّمنا الطلبة طريقة السؤال وطريقة الوصول للمعلومة المطلوبة عن طريق سؤال مباشر أو غير مباشر. ويمكن هنا الاستعانة بما يسميه التربويون "الابتكار بالاستثارة"، بحيث تكون مهمة المدرس استثارة الطلاب عن طريق طرح بعض التعليقات القصيرة المثيرة، وذلك من أجل استدعاء الآراء والأفكار الجديدة (14).
وهنا سيكون دور المدرس كالمدرب والمراقب والمستشار أحيانا أخرى؛ أي أن دوره لا يكمن في صب المعلومات صبا، وإنما يوجه الطلاب نحو المعلومات، ويشرف على توجيههم الوجهة الصحيحة، وتدريبهم على روح التساؤل، وتشجيعهم على ذلك.
أي يتم عرض المحتوى على أساس:
* عرض الموضوع على هيئة مشكلة أو تساؤل يثير اهتمام التلاميذ وتفكيرهم لتحقيق أهداف تدريس العلوم .
* إتاحة الفرصة لهم مع المعلم لوضع الفروض المناسبة لحل المشكلة (15).
د- تأهيل الطالب عمليا:
يأخذ المدرس في عين الاعتبار أن طالب الدراسات الشرعية مثله مثل طالب في التخصص التقني الذي يدخل المختبرات يوميا، فطالب الدراسات الشرعية وإن كان لا يدخل إلى هذه المختبرات في أيام دراسته فإنه لا محالة داخلها في واقع حياته، على اعتبار أنه سيكون قاضيا شرعيا أو مدرسا أو إماما خطيبا، أو فقيها مجتهدا، أو فردا عاديا في مجتمعه، ولكنه غير عادي بالنظر إلى تخصصه الذي يتطلب منه إلماما بعلوم الشريعة وتفريعاتها، فهو سيُستفسر كل حين عن مسألة فقهية أو فتوى أو معنى حديث، أو معنى آية، وهو هنا في مركز المفتي والمجتهد بين أهله وجيرانه وأفراد بلدته الصغيرة، "ومن مظاهر القصور والخلل والتقصير الواضح البيّن أن يواجه طالب الشريعة الذي يرى نفسه مختصا في الحديث أو العقيدة أو التفسير بمسائل من الحياة تتصل بالحلال والحرام عمليا، ثم يعتذر عن عدم قدرته على التعامل معها لأنه مختص بالعقيدة مثلا وليس بالفقه" (16).
وهنا يحضرني مثال مهم وهو أن إحدى زميلاتي وهي خريجة معهد الدعوة والإعلام والتي لم تدرس من مواد الفقه إلا القليل القليل، حدث أن تزوجت إماما وهو الأمر الذي استدعى أن كثيرا من نساء المدينة يزرنها بغرض الاستفتاء والسؤال، فتجد نفسها حائرة لا تعرف ماذا تقول، والسبب أنها خريجة كلية الدعوة والإعلام، ولم تدرس من الفقه وعلومه إلا النزر القليل!
وهنا تظهر الحاجة إلى دراسة فن الترجيح والمناظرات والجدل العلمي، التي حفل بها تاريخنا الإسلامي، فندرب الطلبة على فن المناظرات والاستدلال المقابل للاستدلال المضاد، فإن هذا الفن معناه وجوب استحضار الحكم ودليله بصورة آنية، وذلك يتطلب حفظها وفهمها واستيعاب أهميتها ومكانتها وموضعها بين المسائل المعروضة حتى يتأتى استحضارها وهذا أحد فنون التفكير الإبداعي الذي يتدرب الطلاب عليه في الدرس النظري ثم التطبيقي.(/7)
فهذه العلوم تعد أعمالا تحتاج إلى فنون تطبيقية مثل فن الخطابة المتماشي مع الأحداث اليومية، وعلم القضاء الذي يحتاج إلى تطبيق وتمثيل للمحاكم ومجالس القضاء التي تحتاج معرفة فن الترافع ومحاججة الخصم بالحجة والبيان ...الخ.
|1|2|
________________________________________
(1) أصل هذا البحث ورقة بحثية ألقيت في المؤتمر الدولي: (الإسلام والمسلمون في القرن الواحد والعشرين: الصورة والواقع)، كوالالمبور، مركز بوترا للتجارة العالمية، 4-6/8/2004م.
(2) كلية الشريعة والقانون، جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.
(3) فتحي حسن ملكاوي، البحث التربوي وتطبيقاته في الدراسات الإسلامية في الجامعات، إسلامية المعرفة، السنة8، العدد 30، خريف 1423هـ/2002م، ص 85.
(4) توظيف تقنية المعلومات في تدريس العلوم الشرعية، ندوة" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية"، جامعة ملايا، 7-8/2/2004، ص3.
(5) فتحي حمودة بيومي، التربية والطرق الخاصة بتدريس العلوم الإسلامية، ص 54، نقلا عن د/مروان قدومي، طرق تدريس الفقه الإسلامي، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، تحرير: د/ هايل عبد الحفيظ داود، ط1/ 2000م، الزرقا: جامعة الزرقا الأهلية، ص 197.
(6) ص 10.
(7) القرافي، الفروق، دار المعرفة، ج1/ ص3.
(8) السيوطي، الأشباه والنظائر، دار الفكر، ص2.
(9) أيمن أبو عذية، فليعلموا لماذا يتعلمون :تطبيقات العلوم في الحياة - مادة للطلبة الموهوبين، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين، ص 1.
(10) محمد إسماعيل محمد اللباني، التفكير الناقد ودوره في التعلم الفعال، ص22.
(11) ماجد الجلاد، المفاهيم الإسلامية وأساليب تدريسها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص 424.
(12) جمال بادي، تطوير أساليب تدريس العلوم الشرعية، ندوة" نحو صياغة حديث لمقررات الدراسة الشرعية"، جامعة ملايا، 7-8/2/ ، ص2.
(13) جمال بادي، مرجع سابق،2004، ص5.
(14) محمود محمد علي ، تنمية مهارات التفكير، ط1/ 2002م، جدة: دار المجتمع للنشر والتوزيع، ص104.
(15) عادل أبو العز أحمد سلامة، عن تصور مستقبلي لمناهج العلوم في مرحلة التعليم الأساسي في ضوء متطلبات العصر، ورقة مقدمة للمؤتمر العلمي العربي الثالث لرعاية الموهوبين والمتفوقين 19 – 21 تموز 2003م، 19 – 21 جمادى الأولى 1424هـ، فندق هوليدي إن/ عمّان ص17.
(16) محمد سعيد حوى، ما الذي نريده من طالب الشريعة فقها، بحث مقدم للمؤتمر الثاني لكلية الشريعة، جامعة الزرقا الأهلية، الأردن، 18-19 ربيع الثاني 1420هـ/ 31/7-1/8/ 1999م، ص114.
حفظ النسل من خلال التنشئة والرعاية (2 / 5)
د. فريدة صادق زوزو 22/5/1426
29/06/2005
المطلب الثاني: الرضاعة
أولا: حكم الرضاعة.
استنبط الفقهاء حكم الرضاعة من خلال النظر في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، في قوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير" (البقرة: 233).
ففعل (يرضعن) مضارع إلا أنه جاء ليدل على الأمر، وهذه إحدى صيغ الأمر التي تأتي بالجملة الخبرية، قال الرازي: "والخبر قد يقام مقام الأمر، وبالعكس؛ والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر يدل على وجود الفعل، كما أن الخبر يدل عليه أيضا، فبينهما مشابهة من هذا الوجه، فصح المجاز"(1) .(/8)
فالآية الكريمة وإن جاءت في جملة خبرية إلا أنها قامت مقام الأمر، "للمبالغة في تقريره"(2)، حيث أمر المولى تبارك وتعالى الأمهات أن يرضعن أولادهن؛ لأن الرضاعة حق الولد أوجبه الله له بنص القرآن ،وهو أمر دل على الوجوب في الرأي الراجح؛ كما سيأتي بيانه في آراء الفقهاء؛ بعد اختلافهم هل الأمر في الآية جاء على سبيل الندب أم الوجوب؛ فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الإرضاع واجب على الأم حفظا للولد، وإبقاءً له، وهذا في حال عدم وجود من يرضعه غيرها ؛ أو أن الطفل لا يقبل بغيرها، حال قيام الزوجية ، وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور(3) والحنابلة(4) والشافعية(5)، وأما الحنفية فقد قرروا أنه واجب عليها قضاءً في الحالات السابقة، لقوله تعالى: "لا تضار والدة بولدها" (البقرة: 233)، وفي الحالة العامة هو واجب ديانة(6). أما إن كانت الأم مطلقة بائنا، أو كانت ناشزا؛ فإن الراجح أن يُعطى لها أجر ذلك لقوله تبارك وتعالى: "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، وأتمروا بينكم بمعروف، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى" (الطلاق:6)؛ ولأن الرضاع يلزم الأب من النفقة الواجبة لولده(7)، فليس له إجبار الأم على ذلك، وقوله تعالى: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن" "يبين أن أجرة الرضاعة ليست أجرة خالصة، أي ليست عوضا خالصا؛ بل هي مؤونة ونفقة"(8).
ويذهب محمد رشيد رضا إلى أن الرضاعة حق للأم، كما هو واجب عليها(9)، في قوله: "الظاهر أن الأمر للوجوب مطلقا، فالأصل أنه يجب على الأم إرضاع ولدها؛ إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه. ولا يمنع الوجوب جواز استئجار الظئر عنها مع أمن الضرر؛ لأن هذا الوجوب للأمن لا للتعبد.. وكان الذي يتبادر إلى ذهني أن المقصود من الجملة أولا وبالذات هو أن من حقوق الوالدات أن يرضعن أولادهن وما المطلقات إلا والدات، فيجب تمكينهن من إرضاع أولادهن المدة التامة للرضاع"(10)، وهو قول ابن رشد أيضا(11).
ثانيا: حكمة الرضاعة ومقاصدها.
الأحكام الفقهية التي بنى عليها الفقهاء مباحثَ باب الرضاع جاءت لتؤكد أهمية الرضاعة فهي مقصد قائم بحدّ ذاته، ناهيك عن المقاصد التبعية له؛ وإلا فلا معنى لتشريع أحكام الرضاع المختلفة .
أولاً- المقاصد الأصلية للرضاعة:
لا يشترط أن تكون مدة الرضاعة تمام العامين؛ لأن " الحولين " في الآية جاءت نصا في الرضاع الناشر للحرمة في الزواج، غير أنه في هذه المدة تظهر حكمته تعالى ومقصده في جعل الرضاع مانعا من موانع الزواج المؤبدة؛ " لأن جزء المرضعة وهو اللبن صار جزءاً للرضيع باغتذائه به"(12). فهي المدة التي يأخذ فيها الوليد كل حاجته الغذائية التي تدعمه وتقوي جسمه بما يبني ويؤسس لما بعدها، حيث إن وزن الطفل من الولادة إلى سن العامين يتضاعف أربعة أضعاف (من 3 كلغ- 12 كلغ) في المتوسط، وفيها يكتمل النمو الطبيعي لأجهزة الجسم(13)، كما يؤكد على ذلك الطبيب النشواني مفصلا ذلك بقوله " أما نمو الأطفال الرضع منذ الولادة وحتى نهاية السنة الثانية من العمر فسريع نسبيا، ويترافق مع تطورات عديدة في كافة أجهزة الجسم، خاصة الجهاز العصبي والحواس المعروفة، وفي هذه الفترة يتعلم الطفل الوقوف والمشي بعد الحبو، ويتطور لغويا بحيث يتمكن من تأليف جمل صغيرة معبرة قبل نهاية السنة الثانية، وتبدأ معالم شخصية الطفل بالتبلور والظهور"(14).
وهنا يكمن المقصد الأصلي للرضاعة. فرضاعة الوليد والتقامه لثدي أمه هي الطريقة المثلى الكفيلة بتغذيته وتحصينه من الأمراض، فبعد أن كان جنينا في بطن أمه يتغذى من دمها الذي يصله عن طريق المشيمة، فإنه بعد خروجه للدنيا تواصل أمه مهمتها في تغذيته وكفايته الغذاء الذي يتطلبه جسده وبخاصة في الشهر الأول، وهنا تأتي أهمية اللبأ الذي يرضعه الوليد في الأسبوع الأول، ففائدته وقيمته الغذائية عالية(15)، وكأن الوليد مازال يسكن في رحم أمه، وبعدها يتحول إلى الحليب المعتاد ذي الخصائص المتميزة كذلك(16).
ويبقى الطفل ينهل من معين الحليب حتى يبلغ أشده في تمام السنتين، وبعدها يكون قد تعود على الغذاء الخارجي، وانتهت مشكلة التسنين بظهور الأنياب بين الشهر السادس عشر (16) والشهر السابع عشر (17)؛ فإنه من المؤذي حقا أن يمنع الطفل من الرضاعة وهو في دور انبثاق الأسنان ونموها؛ حيث إن التسنين يتزامن مع حدوث اضطرابات في الجهاز الهضمي، والقي والإسهال(17).(/9)
كما تبين الآية القرآنية مقصدا آخر في التنصيص على الحولين، في قوله تعالى:"لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"؛ وهذا المقصد يتمثل في تحديد الشارع الحكيم لمدة الرضاعة حتى لا تضر الأم ابنها بعدم إرضاعه، أو فطامه، لسبب من الأسباب، أو يضره الوالد بمنع أمه من القيام بذلك؛ "ولما كان من الناس من يستعجل الفطام، وربما يكون ذلك ضارا بالولد، حدّ الله له حدا تغلب السلامة عنده وهو حولان كاملان"(18)؛ فإذا غلبت السلامة جاز للوالدين الاتفاق على فطام الوليد، وهذا الاتفاق يمثل مظهرا مصغرا من مظاهر مبدأ الشورى في الإسلام، في قوله تعالى: "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، "والقرآن يرشدنا إلى المشاورة في أدنى أعمال تربية الولد، ولا يبيح لأحد والديه الاستبداد بذلك"(19).
وبالرغم من أن الوليد بعد الشهر السابع يستطيع أن يأكل الغذاء الصلب المعتاد، فإنه لا ينقطع عن ثدي أمه بل يبقى مرتبطا به، تحكمه في ذلك مقاصد أخرى هي المقاصد التبعية للرضاعة.
ثانياً- المقاصد التبعية للرضاعة:
المقاصد التبعية العائدة للوليد:
في الوقت الذي ترضع فيه الأم وليدها فإنه ينهل كذلك من الحب والحنان اللذين يرافقان عملية الرضاعة إلى تمامها، فالطفل بالرضاعة يتعلم أحاسيس الحب والحنان والعطف ويعيشها، وهنا تبدأ أولى مراحل التربية والتعليم؛ خلافا لما يعتقده كثير من الناس حين "يظنون أن تربية الطفل وتنشئته على الأخلاق الفاضلة تبدأ في السنة السادسة، أو السابعة من عمره وهذا غير سليم، فإن تربيته وغرس الصفات الحميدة في نفسه يبدأ في أول يوم من ولادته"(20)، حيث يتعلق الطفل بأمه معبرا لها عن مدى حاجته لها، لا يبغي من وراء ذلك سوى التعبير عن حب طفولي تعجز لغته عن التعبير بها، فيعبر عنه بالالتصاق بها وبجسدها(21).
وهنا تأتي أهمية اختيار الظئر المناسبة للرضيع؛ فإنها مع إرضاعه وتغذيته الحليب، تغذيه كذلك بالأخلاق وأساسيات التربية التي يأخذها الوليد منهاجا وأساسا لما بعدها، حتى قيل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسترضعوا الورهاء (23) " (22)، ورغم الاختلاف في صحة الحديث إلا أن معناه وارد، وليس معنى العدوى هنا العدوى الحقيقية في المرض، بل قصد بها التخلق بصفات المرضع، فإن "اللبن نسبة" كما قال سيدنا عمر بن الخطاب، "الرضاع يغير الطباع"، و" الغاذي يشبه المغتذي"(24)؛ فليست الرضاعة عملية ميكانيكية تقوم بها الأم أو المرضع بطريقة آلية حتى يأخذ الوليد كفايته وتنتهي؛ بل إن العملية لها مقدمات هي الاحتضان، والتقبيل، والملامسة، واللعب مع الطفل حتى يركن، ثم تكون الرضاعة، وخلالها تلاعب أصابع الرضيع ثدي المرضع وأجزاء جسدها الذي يصله، ويسمع دقات قلبها هل يفيض حبا وحنانا، أم أنه جامد ميّت. والأطباء يثبتون أن الرضيع يتأثر بالحالة النفسية التي تكون عليها الأم المرضع،كما أن الحليب يقلّ بحسب تعب وعصبية المرضع.
المقاصد التبعية العائدة للأم:
تعد الرضاعة الطريق الذي تكسب به الأم أجرا وثوابا عند الله تعالى بعد ثواب الحمل والوضع، قال تعالى: "حملته أمه وهنا على وهن" (لقمان: 14)، وقوله تبارك وتعالى: "حملته أمه كرها ووضعته كرها" (الأحقاف: 15)، فتأخذ الوالدة المرضع على عملية الرضاعة - وهي الأمر الفطري الجبلي- أجرا عند الله؛ كما لا يخفى ما للرضاعة من أهمية في مساعدة الأم النفساء على استعادة قوتها، حيث إن عملية الإرضاع تسهل انقباض الرحم، وعودته إلى حجمه الطبيعي، فتتخلص النفساء من الدم بسرعة كبيرة(25)، خلافا لما هو شائع إذ "تحسب الجاهلات أن الإرضاع يسبب لهن الضعف والوهن، مع أن الرضاعة تحدث تحسنا في الحالة الصحية، وتبعث النشاط في وظائف الهضم للاستزادة من المواد الغذائية"(26).
ثالثا: حق الرضاع وواجب الدولة.
تماشيا مع منهج البحث في دراسة مفهوم الحفظ على مستوى الأفراد، ثم على مستوى العموم؛ فإنه لمن الأهمية أن نذكر بعض الجوانب من دور الدولة في إجراء حقوق الأفراد، والمحافظة على أداء الواجبات. وقد روى نافع عن ابن عمر أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان لا يفرض للمولود حتى يطعم، ثم أمر مناديا فنادى "لا تعجلوا أولادكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام"(27)، بعد أن لاحظ أن الناس يستعجلون في فطام أولادهم ابتغاء الحصول على حق الطفل من بيت مال المسلمين، لأنه كان قد أمر بفرض عطية للفطيم. فهاهو يرى عاقبة ما أمر به، في الاستعجال على فطام الرضع، مما يرجع بالسوء عليهم في عدم أخذهم حقهم وكفايتهم من الرضاعة، مقابل مبلغ المال، فتدارك الأمر.(/10)
ونلحظ مظهرا آخر من مظاهر إجراء هذا الحق في العصر الحديث، ما شرعته الحكومات في قانون العمل؛ حيث يقر للعاملة المرضع حقها في ساعة الرضاعة يوميا غير وقت الاستراحة العامة، وهو أحد الحقوق المكفولة للرضيع إذا كانت أمه موظفة وعاملة؛ فتنص المادة 165 من قانون العمل السعودي ومثله الجزائري "تنص على أنه يحق للعاملة عندما تعود لمزاولة عملها بعد إجازة الوضع أن تأخذ بقصد إرضاع مولودها الجديد فترة للاستراحة أو فترات لا تزيد بمجموعها على الساعة في اليوم الواحد، وذلك علاوة على فترات الراحة الممنوحة لجميع العمال"(28).
________________________________________
(1) الرازي، المحصول، ج2/ص 34.
(2) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج2/ ص409.
(3) الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج2/ ص509-525؛ ابن رشد، بداية المجتهد، ج2/ ص42؛ ابن جزي، القوانين الفقهية، ص223؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3/ ص160. وذهب القرافي إلى إجبار ذات الزوج على رضاع ولدها إلا أن يكون لا يرضع مثلها لشرفها، وتأخيره عليه السلام الغامدية حتى إذا أرضعت ولدها حينئذ رجمها؛ فدل ذلك على تعينه له. أنظر: القرافي، الذخيرة، ج4/ ص270.
(4) ابن قدامة، المغني،ج7/ ص 612 _ 627؛ ابن تيمية، فتاوى ابن تيمية، ج34/ ص66.
(5) الشربيني، مغني المحتاج، ج5/ ص 187؛ ابن حجر، فتح الباري، ج9/ ص505.
(6) ابن عابدين،حاشية ابن عابدين، ج3/ ص211، 618.
(7) ومن هنا يمكننا فهم سبب إدراج الفقهاء الحديث عن الرضاعة في باب النفقة كما عند الحنابلة والشافعية والحنفية، وبعض المالكية، أما بعضهم الآخر فقد أدرجها في باب حقوق الزوج على الزوجة. أنظر: ابن قدامة، المغني: كتاب النفقة؛ الخطيب الشربيني، مغني المحتاج: كتاب النفقات؛ ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، كتاب النفقة، مطلب في إرضاع الصغير؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي: كتاب النفقة؛ ابن جزي، القوانين الفقهية: كتاب النكاح، باب: النفقة؛ ابن رشد، بداية المجتهد: حقوق الزوج على الزوجة. أما كتاب الرضاع فهو عند جميعهم يخص الحديث عن الرضاع الذي ينشر الحرمة.
(8) أبو زهرة، الأحوال الشخصية، ص 402.
(9) وبنحوه قال القرطبي ، وعن ابن العربي في قوله تعالى ]والوالدات يرضعن أولادهن[ اختلف الناس هل هو حق لها أم هو حق عليها؟ واللفظ محتمل؛ لأنه لو أراد التصريح بقوله عليها لقال" وعلى الوالدات إرضاع أولادهن حولين كاملين"، كما قال: ] وعلى المولود له رزقهن[ ". ابن العربي، أحكام القرآن، ج 1/ص 204؛ أنظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3/ص 161.
(10) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج 2/ص 409- 410.
(11) ابن رشد، بداية المجتهد، ج 2/ ص43.
(12) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، ج 5/ ص123.
(13) النشواني، محمد نبيل: الطفل المثالي – تربيته وتنشئته ونموه والعناية به في الصحة والمرض- ، ط1، ( بيروت: مؤسسة الرسالة ، 1987)، ص 174.
(14) النشواني، الطفل المثالي، ص 173.
(15) حيث يحتوي اللبأ أو الصمغة على الكولستروم Colostrum ) ) الذي ينبه أمعاء الطفل وينظفها مم يجب التخلص منه في الأمعاء، ويكون للجهاز الهضمي خير مطهر، وهذه المادة غير موجودة في المرضع التي تأتي لترضع الطفل بعد مدة طويلة من ولادتها؛ وهو يتضمن من البروتين والفيتامينات والأملاح المعدنية وخمائر الهضم مما يفوق مثيلاتها في لبن الأم. أنظر: وصفي، محمد: الرجل والمرأة في الإسلام، ط1، ( بيروت: دار ابن حزم، 1997) ، ص 286؛ النشواني، الطفل المثالي، ص 18؛ المحيسري، عبد السلام: مع الله في جسم الإنسان، ط1، (عمان: دار البشير للنشر، 1992)، ص 58-59.
(16) لا ينكر أحد خصائص وقيمة حليب الأم الغذائية : فهو الذي يحتوي على الأجسام الضدية ، وتركيبه من البروتينات والسكريات والدهون والفيتامينات بنسب تناسب حاجة الوليد ، ومما يلائم قدرته على الهضم، إضافة أنه معقم ودرجة حرارته ملائمة ، إلى غيرها من الفوائد التي يعددها الأطباء . أنظر: النشواني، الطفل المثالي، ص 17؛ المحيسري، مع الله في جسم الإنسان، ص 60- 61؛ موسى، عبد الله إبراهيم: المسؤولية الجسدية، ط1، ( بيروت: دار ابن حزم، 1995)، 309؛ شوبل، حسين: الأمومة الرسالة السامية، ط1، (الرياض: دار الرفاعي، 1984)، ص 140.
(17) وصفي، الرجل والمرأة في الإسلام، ص 287-288.
(18) الدهلوي، حجة الله البالغة، ج 2/ ص146.
(19) رشيد رضا، تفسير المنار،ج 2/ص 414.
(20) الماوردي، أبو الحسن: كتاب الرضاع، تحقيق: عامر سعيد الزيباري، ط1، (بيروت: دار ابن حزم، 1996)، ص 4 من مقدمة المحقق.
(21) Tan Joo Lee, The Mother and The Baby, 14 edition, ( Bounty Services Sdn Bhd, July 1999), P 14.(/11)
(22) ورهاء: من الوره؛ الخرق في كل عمل، وقيل الحمق. وَرِهَ: حَمُقَ، والنعت أوره وورهاء. ومنه توره في عمله بمعنى لم يكن فيه حذق. أنظر: ابن الأثير، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، ط2، (دار الفكر، 1399هـ/ 1979م)، مج5/ ص177؛ الفيروزابادي، القاموس المحيط، ج4/ ص295.
(23) رواه الطبراني في المعجم الصغير. أنظر: الطبراني، المعجم الصغير، ط1، (دار الفكر، 1981)، ج1/ص 52.
(24) راجع هذه الأقوال: ابن سلامة، مصطفى بن محمد: الرضاعة، ط1، ( القاهرة: دار أم القرى، 1996)، ص 71.
(25) النشواني، الطفل المثالي، ص 17؛ شوبل، الأمومة الرسالة السامية، ص 141.
(26) وصفي، الرجل والمرأة في الإسلام، ص 286.
(27) ابن العربي، أحكام القرآن،ج 4/ص 290.
(28) عبد نايل، السيد: الوسيط في شرح نظامي العمل و التأمينات الاجتماعية في المملكة العربية السعودية، ( الرياض: مطابع جامعة الملك سعود، 1417هـ)، ص 156.
حفظ النسل من خلال التنشئة والرعاية (3/5)
د. فريدة صادق زوزو 12/6/1426
18/07/2005
المطلب الثالث: الحضانة.
تعتبر الحضانة مكملا لحق الرضاع، فالشارع الذي أوجب على الأم إرضاع ولدها، بالضرورة أوجب أن يكون تحت رعايتها وحضانتها وقت الرضاع، وعند النزاع وانفكاك عرى الأسرة خصوصا، "فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها"(1) في المدة التي لا يستغني فيها الوليد عن أمه في العادة، إلى أن يشب فيتخلى عن حضنها إلى محضن التربية الاجتماعية، فبعدها تقوم الأسرة مجتمعة بدورها في تربية النشء ورعايته؛ "والمتيسر من الوالدة أن ترضع وتحضن، فيجب عليها ذلك، والمتيسر من الوالد أن ينفق عليه من طوله، وينفق عليها"(2).والعلة في تقديم الأم على الأب في الحضانة لأنها" أعرف بالتربية، وأقدر عليها، وأصبر وأرأف، وأفرغ لها"(3)؛ وإلى التعليل نفسه ذهب القرافي في قوله" ولما كانت الحضانة تفتقر إلى وفور الصبر على الأطفال في كثرة البكاء والتضجر من الهيئات العارضة للصبيان ومزيد الشفقة والرقة الباعثة على الرفق بالضعفاء والرفق بهم، وكانت النسوة أتم من الرجال في ذلك كله قد مَنَّ عليهم"(4).
واختلف الفقهاء في طبيعة الحضانة كما اختلفوا في الرضاع هل هو حق للمرأة أم حق عليها؟ أي هل الحضانة حق للصغير؟ أم حق للأم؟ أم حق لهما معا؟ وهذا السؤال، الغرض من طرحه ما يترتب عليه من تبعات؛ فإذا كانت الحضانة ومثلها الرضاع حقاً للمرأة، فليس للأب جبرها عليها؛ فتسقط بالتخلي عنها.
أما إذا كانت حقا للصغير فمن الواجب عليها حضانته إلزاما، تقوم على شؤونه، فترضعه وترعاه، وتغذيه وتربيه حتى يستقل بنفسه في المأكل والملبس، وبعدها يساعدها الأب في تربيته وتنشئته النشأة الاجتماعية التي تكفل له الخروج للحياة، وممارسة النشاط فيها، بعد أن تكون عائلته قد زودته بأهم قواعد التعامل الاجتماعي.
وجاءت مباحث الفقهاء في موضوع الحضانة تخدم المحافظة على النسل، وتحرص على إلقاء الضوء على أهم معالم وقواعد الرعاية، فبحث الفقهاء : طبيعة وحكم الحضانة، وشروط الحاضن، ومتى تسقط الحضانة، وغيرها من المباحث التي روعي فيها مصالح النسل، وما يخدمه؛ فتفصيلات موضوع الحضانة لم ينص عليه تنصيصا، بل لاجتهاد الفقهاء الباع الكبير في تحديد معالم هذا الموضوع استنباطا وفهما وقياسا، اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم ] أنت أحق به ما لم تتزوجي[ للمرأة التي جاءته وقالت له: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني فأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :] أنتِ أحق به ما لم تنكحي[(5)، وقياسا على ما جاء في آية الرضاع ]لا تضار والدة بولدها[.
مذاهب الفقهاء في مسائل الحضانة والتعقيب عليها:
لم يختلف الفقهاء كثيرا عند تعريفهم الحضانة والمحضون؛ فهي عند المالكية"حفظ الولد والقيام بمصالحه؛ والمحضون هو من لا يستقل كالصغير؛ فتستمر حضانته في الذكر إلى البلوغ على المشهور، وفي الأنثى إلى دخول الزوج بها"(6).
وتوسع الشافعية في تعريف الحضانة فهي حفظ من لا يستقل، وتربيته، وتنتهي في الصغير بالتمييز.أما بعده إلى البلوغ فتسمى كفالة(7).
وقد اتفق الفقهاء(8) عدا الحنابلة على عدّ الحضانة حقا للحاضن (الأم)، استنادا لما قرره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم المتقدم في قوله: ]أنتِ أحق به[، أما الحنابلة فعندهم أن "كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك. ومعنى هذا أنها حق للمحضون". والقول بأن الحضانة حق للحاضن أي أن الأم لا تجبر عند إسقاطها والتخلي عنها.
غير أنه يثار سؤال في هذه المسألة :(/12)
عند تخلي الأم عن الحضانة، وعدم تقدم حاضن آخر، فما هو مصير الأولاد ؟ وهل يصح إجبار من له الحق في الحضانة من العصبات مثلا، رغم عدم طلبه ذلك، هل يصح إجباره على أخذها؟ ومن يجبره؟
- ومما اتفق عليه الفقهاء أيضا سقوط حضانة الأم بزواجها استنادا لنص الحديث المتقدم؛ إضافة إلى ما ورد عنهم من تعليل للحديث، كون المرأة تشتغل عن الحضانة بحقوق الزوج(9)؛" ولا أثر لرضى الزوج الأجنبي لأنه قد يرجع فيتضرر الولد"(10). إلا أنهم اختلفوا في عودتها بعد طلاقها، فالحنابلة(11) والحنفية (12)والشافعية(13) على القول برجوعها لها خلافا للمالكية(14).
ويرجع الإمام ابن قيم الجوزية سبب اختلافهم إلى اختلافهم في فهم المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: ]ما لم تنكحي[ هل هو تعليل أم توقيت، "فإن قيل اللفظ تعليل عادت الحضانة بالطلاق لأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها. وإن قيل للتوقيت: أي حقك من الحضانة موقت إلى حين نكاحك، فإذا نكحت انقضى وقت الحضانة؛ وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في سقوط الحضانة بالتزوج غير هذا"(15). والاتفاق حاصل على عدم سقوطها بزواجها من محرم للمحضون.
وهنا أيضا يطرح سؤال: ألا يمكن للأم أن تحضن ابنها عند موافقة زوجها الثاني، حتى وإن كان غير محرم للولد؟ فإن العمل في العادة جارٍ على حضانة الأم لأبنائها (سواء الواحد أو الثلاثة) عند زواجها ثانية؛ وهو ما تؤكده الآية الكريمة ]وربائبكم اللاتي في حجوركم[ (النساء: 23)، فإن الوصف (في حجوركم) يحكي على غالب الأمر(16)، فهل في هذا الفعل مخالفة لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهل الحديث يخالف الآية؟
- وأما اتفاقهم على سقوط الحضانة لسفر الحاضن فليس عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث أو فعل أو تقرير؛ والقاعدة العامة في المسألة أن الولي أو الحاضن إذا أراد السفر سفر نقلة، ففي كلتا الحالتين الولي أولى بالمحضون.
وفي تعليل هذه القاعدة ذهب الحنابلة إلى تعذر الولي من تأديب وتعليم ابنه(17)، وذهب الشافعية إلى التعليل بحفظ النسب فإنه يحفظه الآباء، أو رعاية لمصلحة التأديب والتعليم كما قال الحنابلة، ولسهولة الإنفاق(18).
واجتهادات الفقهاء في هذه المسألة بنيت على العرف والعادة؛ والسؤال المطروح: أفلا يضر بالصغير والحاضن أن يسافروا سفر نقلة لمجرد أن الوالد استوطن بلدا آخر، وما الحال مع سفره خارج البلاد، وهل تبقى مسافة القصر هي الحاكم في سقوط الحضانة عند تعدي هذه المسافة؟ هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يثار حول مسألة إسقاط الحضانة لسفر الأب أو الحاضن، ومن الأسئلة المهمة ما طرحه د/ جسام علي سالم الشامسي(19) في دراسته لمسألة الانتقال بالصغير المحضون، حيث قال: "المشكلة التي تثار عندما ينتقل الولي سفر نقلة إلى منطقة داخل الدولة وتبعد مسافة (ما يقدر بأربعة برد(20) أي ما يجوز القصر في الصلاة والفطر في نهار رمضان) فهل هذا الأمر يقاس على مسألة الحضانة وانتقال الحاضن إلى بلد الولي ليحضن طفله فيه رغم أن القصر في الصلاة والفطر في نهار رمضان من المسائل التوقيفية التي جاء فيها حكم نص شرعي.
وهذا من المسائل العملية والعرفية التنظيمية والتي تتغير بتغير الزمان والظروف والأوضاع الاجتماعية والتقنيات الحديثة… بسهولة الانتقال والمقدرة على الاتصال"(21)، وقد نقل الدكتور الشامسي عن الأستاذ مصطفى الزرقا كلاما في الموضوع نفسه ما ملخصه" أن الفقهاء إن قرروا هذا الاجتهاد كان لهم من طبيعة عصرهم وأقطارهم ما يبرر وجهة نظرهم في السفر… أما الآن وقد يسر العلم الانتقال السريع المريح فوجب أن تبنى الأحكام اليوم على هذه الاعتبارات بحيث تراعى مصلحة الصغير وحق الأبوين معا"(22). فما هي أحكام السفر التي تسقط بها الحضانة؟ وهل يصح ابتداءً أن يكون السفر من مسقطات الحضانة؟
هذه الأسئلة المطروحة تحتاج إلى إجابة مختص ونظر فقيه، حتى لا يتقول في أحكام الشريعة بغير علم.
________________________________________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،ج 3/ ص160.
(2) الدهلوي، حجة الله البالغة، ج 2/ص 145.
(3) ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، ط13، (بيروت: مؤسسة الرسالة/ الكويت: مكتبة المنار الإسلامية، 1986)،ج5/ص 438.
(4) القرافي، الفروق، الفرق الثامن والسبعون والمائة، ج3/ ص 206.
(5) رواه الحاكم في كتاب الطلاق، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد. أنظر: الحاكم، المستدرك، ج 2/ص 207.
(6) ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 223.
(7) الشربيني، مغني المحتاج، ج5/ ص 191.(/13)
(8) فعن ابن رشد" أن الحضانة حق للحاضن على المشهور وعلى ذلك لو أسقطها مستحقها سقطت. وهي للأم لقوله صلى الله عليه وسلم:] من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة[ ولأن الأمة والمسبية إذا لم يفرق بينها وبين ولدها، فأخص بذلك الحرة"، ابن رشد، بداية المجتهد، ج2/ ص43. أنظر أيضا: ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 224؛ ابن عابدين، رد المحتار، ج3/ ص 555؛ النووي، منهاج الطالبين، ج3/ ص 452.
(9) ابن قدامة، المغني، ج9/ص 139؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج2/ ص529؛ الشربيني، مغني المحتاج، ج5/ 196.
(10) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، ج5/ 196.
(11) ابن قدامة، المغني، ج9/ ص 140.
(12) ابن عابدين، رد المحتار، ج3/ ص 566.
(13) الشربيني، مغني المحتاج، ج5/ 197.
(14) ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 223.
(15) ابن القيم، زاد المعاد، ج 5/ص434- 452.
(16) (في حجوركم) قيد أُظهر به الغالب الأعم، وحكاية لواقع الحال؛ إذ الغالب أن أبناء الزوجة يكونون في حجر أزواج أمهاتهم. وهذه الآية يأخذها الأصوليون كمثال وشاهد على عدم الأخذ بمفهوم المخالفة في حال كون القيد خرج مخرج الغالب الأعم، أو الأكثري. قال الآمدي " اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم الغالب، لا مفهوم له، وذلك كقوله تعالى: ]وربائبكم[ فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق إنما كان لأنه الغالب، إذ الربيبة إنما تكون في الحجر"، الآمدي، الإحكام،ج 3/ ص93.
(17) ابن قدامة، المغني، ج9/ص 141.
(18) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، ج 5/ 201.
(19) هو رئيس قسم المعاملات بكلية الشريعة والقانون، بجامعة الإمارات العربية المتحدة.
(20) البرد =أربعة فراسخ، والفرسخ = ثلاثة أميال، والميل= 4000ذراع، والذراع = 24 أصبعاً، والذراع = 46.2سم. فأربعة برد (4 برد)= 16 فرسخاً = 88.704 كلم، أي ما يعادل 89 كلم تقريبا. أنظر: الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج2/ ص321.
(21) الشامسي، جسام علي سالم: "إشكالات في بعض مناحي مركز المرأة بين النظر والتطبيق"، مقال بمجلة المجلس الإسلامي الأعلى الجزائري، العدد الثالث، 2000، ص 140.
(22) مصطفى الزرقا، مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد، ص 304؛ نقلا عن الشامسي، إشكالات في بعض مناحي مركز المرأة، ص 141.
حفظ النسل من خلال التنشئة والرعاية (4/5)
د. فريدة صادق زوزو 12/7/1426
17/08/2005
المبحث الثاني: رعاية وتنشئة اليتيم وذي العاهة
المطلب الأول: مرتكزات رعاية وتنشئة اليتيم وذي العاهة.
ترتكز رعاية اليتيم والطفل ذي العاهة في الشريعة الإسلامية على قواعد الرعاية الأولى لأي طفل كما تقدم، ومن الأحكام العامة تنشئة النسل، ثم تليها الرعاية والتربية الخاصة التي خُص بها اليتيم وذو العاهة في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ والتي تنبني على مقصد الرحمة، أحد أوصاف الشريعة، وقواعد التكريم الرباني للإنسان عموما؛ ليشب اليتيم وذو العاهة فردين فاعلين، عاملين، مؤهلين للقيام بدورهما في المجتمع، وغير ناقمين على بني جنسهما.
والذي دعاني للبحث في مسائلهما؛ أن اليتيم ضعيف عاجز عن النظر في أمور نفسه ومصالحها، لا أب يحوطه بالرعاية أو ينصره، ولذا خصه الشارع الحكيم بتفصيل أساليب التعامل معه، بكفالته حتى يقدر على مواجهة أعباء الحياة عندما يرشد، وعندها لا حاجة لوصي أو قيم، فرُشده يكفل له دخول غمار الحياة،كما قال تعالى: ]فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم[ (النساء: 6).
وأما ذو العاهة فإنه عندما يتلقى الرعاية في الصغر فلن يلاقي صعوبات في التعامل الاجتماعي، وفي الانخراط في العمل والمهن. والدور في ذلك يرجع لوظيفة الأسرة والمؤسسات الاجتماعية الخاصة بهذا الدور والمؤهلة للقيام به، باعتمادهما على طرق التربية الخاصة(1).
أما أن يُنادى بإباحة ما يسمى "بقتل الرحمة"، أو "قتل وإسقاط أو إجهاض الجنين المشوه"، وخاصة في الأوساط الطبية، فهو مما ينافي مقاصد الشارع الحكيم في وجود هذا الصنف من الناس، حيث قال تعالى: ]وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا[ (الفرقان: 20). واتفاق العلماء قائم على تحريم أي قتل بدون حق، مصداقا لقوله تعالى: ]ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق[ (الإسراء: 33)، والحق :هو ما يتعلق بموجبات القتل والقصاص، ففي التخلص من ذي العاهة أو إسقاطه من بطن أمه وهو جنين، قتل للنفس كذلك، فهو إنسان حي،كامل، ولا تُنْقِصُ أهليته الناقصة من إنسانيته، خاصة بعد أن يكون عمره 120 يوما، أما قبلها فإن العلماء بين قائلين بالإباحة المطلقة، وبين المتوقفين، وبين محرمي أي نوع من الإجهاض في أي عمر. وهو ما سنراه لاحقا.
وبين هذا وذاك يبقى لذي العاهة والمريض الحق في الحياة التي أكرمه الله تعالى بها. وأما الموت فهو أمر الله يصيب به الله من يشاء ، أنّى شاء.
أولاً: قواعد التكريم الرباني للإنسان.(/14)
الناس متساوون في الإسلام، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا فضل لغني على فقير، فلا فضل لأي إنسان كان على فقير أو لقيط أو ذي عاهة، "كل ميسر لما خلق له"(2)؛ وكل بقدر طاقته وقدراته يحقق العبادة المرجوة، واليتم ليس نقيصة لا يُقدر بها على الاستخلاف وعبادة الله تعالى، ومثله ذو العاهة لا تنتقص عبادته لعاهته ، ولا ينتقص أجره وثوابه عند الباري تعالى، بل بالعكس فقد أسقطت عنه بعض التكاليف الشرعية التي لا يقدر عليها بسبب نوع العاهة، وهو ما تبيّنه الآية الكريمة ]ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج[ (النور: 61) حيث قال ابن عاشور في تفسيرها: "تنفي هذه الآية الحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، والحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالإكمال، ويقتضي العذر أن يقع منهم، فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو؛ وأعظم تكليف سقط عنه هو الذّب عن بيضة الإسلام والجهاد في سبيل الله"(3).
ولو كان اليتم عارا أو خسة، لما جعل الله سبحانه وتعالى نبيّه وأشرف خلقه كذلك، ولو كانت العاهة نقيصة لما عاتب العلي القدير نبيّه على ابن أم مكتوم الضرير، قال تعالى: ]عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزّكى أو يذكر فتنفعه الذكرى[ (عبس:1- 4)، فالتكريم الرباني جاء عاما، والناس متساوون في حق الحياة، وحق الوجود؛ لأن العلي القدير هو الذي تكرم على عباده فخلقهم لغاية عبادته، ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ (الذاريات: 56)، فالحياة عبادة متصلة، تتحقق بها رسالة الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وكرمهم على سائر الخلق، حيث قال تعالى: ]ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا[ (الإسراء:70). وهذا التكريم الرباني شامل لكل أصناف وأجناس الناس، المهم هو تحقيق الوظيفة الوجودية لهم، فحق الحياة لأي إنسان مرتبط بعبادة المولى تبارك وتعالى.
ثانياً: مقصد الرحمة والتكافل الاجتماعي.
من القواعد التي انبنت عليها شريعة الإسلام مبدأ الرحمة، وهو الذي يكفل لأفراد المجتمع الواحد التكافل بينهم بما يحقق مقاصد الحياة في العيش الكريم لكل فرد منهم؛ فإذا ما ابتلي فرد باليتم، أو بعاهة جسدية أو خلقية فإن سائر أفراد المجتمع سيقفون إلى جانبه رعاية وكفالة، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ]ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى[(4)، وقوله أيضا ] المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا[، ثم شبك بين أصابعه(5)، إذ لا يمكن بحال التخلي عنهم، وتركهم يعانون الوحدة، فيعتزلون بأنفسهم عن الناس، حيث تعمل عقدة النقص عملها الفاعل في الحقد على الناس والنفور منهم، والانطواء على النفس؛ وحتى لا يحدث هذا، فإن الشارع الحكيم وهو الرحيم بعباده، حث المسلمين على التحلي بهذا الخلق الرباني، والذي وصفت به الشريعة كذلك(6)، فعن الرسول صلى الله عليه وسلم ]الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم أهل السماء[(7)، وبيّن عليه الصلاة والسلام عاقبة الذي لا يرحم، فجاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ]من لا يرحم لا يرحم[(8)، كما قال صلى الله عليه وسلم: ]لا تنتزع الرحمة إلا من شقي[(9)، والشقي هو الذي يحتقر اليتيم، ويسخر من ذي العاهة، ولا يقوم بواجبه نحوهما عطفا ورحمة، ناهيك عن الاحترام لكونهما مكرمين من الخالق تبارك وتعالى. فهذا هو الشقي، وهذه هي عاقبته، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ]إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب[(10)، وهو القائل في تحذيره للسيدة عائشة رضي الله عنها وهي أم المؤمنين؛ فقد قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا (تعني أنها قصيرة) فقال عليه الصلاة والسلام: ]لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته[(11)، ومصداقا لقوله تعالى الذي وصفهم بالظالمين إذا لم يتوبوا: ]يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون[ (الحجرات: 11).(/15)
ولا يقف الحد عند الرحمة باليتيم والإحسان إليه بالعطف والشفقة، بل يتعداهما إلى ما هو أعلى وأصلح؛ فإن اليتيم ومثله ذي العاهة أحد لبنات المجتمع ودعائمه، فهم طاقة بشرية واجتماعية واقتصادية؛ فإذا ما بقوا على سلبيتهم ونفورهم من المجتمع، فإن ذلك مدعاة إلى اهتزاز البناء الاجتماعي؛ ومن ثم فإنه من الضروري تجاوز التعامل معهم بمنطق الشفقة والعطف، والإحسان إلى محاولة تنشئتهم وتأهيلهم اجتماعيا قدر الإمكان، بما يحوّلهم إلى قدرات إيجابية وفاعلة في تنمية مجتمعهم(12). وإن التكافل الاجتماعي الذي يبادر به أفراد مجتمع ما نحو اليتامى وذوي العاهات، في إعطائهم كامل حقوقهم المفروضة شرعا، ينتج عنه اندماجهم الفعال والإيجابي بعملهم وكدّهم خدمة للمجتمع، وقيامهم بمسؤولياتهم كل قدر طاقته، مما "يمنحهم السلام النفسي والسكينة والاطمئنان القائم على احترام إنسانية الإنسان"(13)، فيتحولون من أفراد عالة على ذويهم ومجتمعاتهم إلى أفراد ذوي فعالية، يخدمون مجتمعهم بقدر ما أتيح لهم.
ثالثاً: قواعد رعاية وتنشئة النسل.
من القواعد العامة لرعاية النسل تُستخرج بعض قواعد الرعاية الخاصة لفئة الأيتام وذوي العاهات. فاليتيم الذي فقد أباه فقد النصرة والسند، وهو فاقد للمربِّي والمعلم، وبفقدان الأب يتزعزع المحضن الأسري الذي يقدم لليتيم الرعاية المتكاملة، والذي يكفل له الخروج للمجتمع بعد أن يكون قد تعلم قواعد التعامل الاجتماعي؛ إلا أن اليتيم "وقد كان أبواه يربيان فيه روح الائتلاف بالجماعة التي يعيش فيها، إذ أنهما بفيض الحنان والعطف الأبوي كانا يثيران فيه نوازع الرحمة بغيره، إذا لم يستعض عن ذلك بالكلاءة الرحيمة العاطفة ممن يتصلون به خرج نافرا من الناس… فكان حقا على المجتمع أن يحميهم، وينمي عواطف الألفة فيهم بالمودة"(14). وكان لزاما أن يجد اليتيم الرعاية والتعهد الخاص مما يخرجه من دائرة النفور من الناس، والحقد عليهم، وحتى لا يسلك طريق التشرد والانحراف أو العنف. فإذا ما تُعهد بالرعاية فإنه ينشأ إنسانا صالحا مطيعا، غير يائس أو حاقد على يتمه؛ مثله مثل غيره من البشر، بل هو أحسنهم، فهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم عاش يتيما، ووجد الرعاية من جده وعمه، ثم تلقفته الرعاية الربانية، فكذلك اليتيم، فهو الذي نزلت في حقه ما يفوق الاثنين وعشرين (22)آية – كما سيأتي ورودها لاحقا – تركزت حول حث الشارع الحكيم المسلمين على رعايته، وكفالته وتربيته، والإحسان إليه، وعدم الحط من شأنه . وآيات أخرى تبين حقوق اليتيم على كافله والقيّم عليه فيما يخص التصرف في ماله، وزواجه، وإرثه، فهذه الآيات مجتمعة ترسم ضوابط رعاية اليتيم وكفالته، بما لا يدع مجالا للحط أو الانتقاص من قيمة اليتامى. كما لا يخفى ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو القائل: ]أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين[ وأشار بإصبعيه، يعني السبابة والوسطى(15).
________________________________________
(1) "تواضع علماء التربية على استخدام مصطلح التربية الخاصة للدلالة على بعض مظاهر العملية التعليمية المستخدمة مع غير العاديين الذين يشملون فئات الإعاقة العقلية والتخلف الدراسي والانحراف الخلقي والعيوب الكلامية والإعاقة السمعية والإعاقة البصرية والإعاقة الجسدية، بالإضافة إلى الموهوبين". أحمد، لطفي بركات: الرعاية التربوية للمعوقين عقليا، (الرياض: دار المريخ، 1984)، ص9؛ يضاف لأصحاب التربية الخاصة المرضى بأمراض مزمنة، مثل: السكري، والقلب، والصرع. أنظر: أحمد، مصطفى حسن و أحمد، عبلة إسماعيل: الإعاقات البسيطة الحسية والبدنية والتعامل معها، ( مطابع الأهرام، 1991)، ص6؛ مرسي، عبد العظيم شحاتة: تربية الطفل المعوق، ط2( القاهرة: مكتبة النهضة العربية، 1979)، ص 10.
(2) أخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب: 1. مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16/ ص197.
(3) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج18/ ص 299.
(4) البخاري،كتاب: الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: 6011، البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج10/ ص436.
(5) البخاري ، كتاب: الأدب، باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضا، رقم: 6026؛ البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج10/ ص449؛ وأخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: 17. مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16/ص 139.
(6) في الرحمة والرحماء ألف الصالحي، شمس الدين محمد بن علي بن طولون: كتاب الأربعين في فضل الرحمة والرحماء، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، ط1، ( بيروت: دار ابن حزم، 1995).
(7) الحاكم، المستدرك، 4/ 159؛ ورواه أبو داود، في باب: في الرحمة، رقم: 4920، أبو داود، سنن أبي داود بشرح عون المعبود، ج13/ ص285.
(8) البخاري، كتاب الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله، رقم: 5997، البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج10/ ص426.(/16)
(9) رواه أبي داود، في كتاب الأدب، باب: في الرحمة، رقم: 4921، أبو داود، سنن أبي داود بشرح عون المعبود، ج13/ ص287؛ والترمذي في أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في رحمة المسلمين، الترمذي، سنن الترمذي بشرح عارضة الأحوذي، ج8/ ص110.
(10) البخاري، كتاب: الرقاق، باب: حفظ اللسان،. البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج11 /ص308
(11) أخرجه أبو داود في كتاب : الأدب، باب: في الغيبة، رقم 4854، أنظر: أبو داود، سنن أبي داود بشرح عون المعبود، ج13/ ص221.
(12) أنظر: إبراهيم، سعد الدين: "قضية المعوقين في الوطن العربي: الملامح والمعالجة"، المستقبل العربي، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، السنة 4 العدد 34، 12 / 1981، ص 37 وما بعدها.
(13) الجراجرة، عيسى: ريادة الإسلام في تفهم خصوصية عالم الأطفال، (عمان: دار ابن رشد، دار الكرمل، 1988)، ص105.
(14) أبو زهرة، محمد: تنظيم الإسلام للمجتمع، ( القاهرة: دار الفكر العربي)، ص 51.
(15) أخرجه البخاري، في كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس، رقم 6005. البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج10/ ص436؛ وأخرجه مسلم، في كتاب: الزهد والرقائق، باب: 3، مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، ج18/ ص113؛ وأخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح، الترمذي، سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي، ج8/ ص 106. واللفظ له.
حفظ النسل من خلال التنشئة والرعاية (5/5)
د. فريدة صادق زوزو 19/7/1426
24/08/2005
المطلب الثاني: قواعد رعاية اليتيم.
تنقسم نصوص الشريعة التي رسمت معالم منهج رعاية اليتيم وكفالته، إلى نصوص الرعاية العامة، ونصوص الرعاية الخاصة.
أولاً- نصوص الرعاية العامة:
وتتميز نصوص الرعاية العامة بِحَّثِ المسلمين على كفالة اليتيم والإصلاح من شأنه، وعدم تركه مقهورا بين الناس، يحطوا من شأنه، ويستهزئوا منه ومن حاله؛ فبيّنت هذه الآيات معالم وضوابط رعاية اليتيم، والطريقة المثلى لتنشئته النشأة الاجتماعية المثلى، التي تعينه على اجتياز محنة اليتم، والخروج للمجتمع كفرد فاعل، لا يحقد على بني جنسه، ولا يسلك سبيل الانحراف أو العزلة.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين" (البقرة: 83)، وقوله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" (البقرة: 177)، وقوله عز وجل: "يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم" (البقرة : 215)، وقوله تعالى: "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" (البقرة:220)، وقوله تعالى أيضاً: "وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه" (النساء:8).
وقد حذر العلي القدير من عاقبة ظلم اليتامى، وعدم العطف عليهم والإحسان عليهم بما رزقهم الله من نعمة المال، فإن الفقر ابتلاء، وقد يبتلى ظالم اليتيم بتيتم أولاده، قال رب العزة: "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا معروفا" (النساء: 9)، وقال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل" (النساء: 36)، وقوله تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" (الإنسان:8).
فهذه آيات جامعة لمعاني التكافل الاجتماعي في الإسلام، بحيث لا يتغافل عن حق أي فرد من أفراد المجتمع، بما أثبته لهم الشارع الحكيم.
يضاف لها الآيات التي تحرم الحط من شأن اليتيم، وقهره، بما يتنافى والأخلاق الإسلامية المؤسسة لقواعد التكافل الاجتماعي، قال تعالى في هذا الشأن: "وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، كلا بل لا تكرمون اليتيم" (الفجر: 16-17) وجاء في تفسير الآية أن "ترك إكرام اليتيم على وجوه. أحدها : ترك بره، وإليه الإشارة بقوله "ولا تحاضون على طعام المسكين". والثاني: دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله "وتحبون المال حبا جما" أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم" (1).
ومن الآيات في السياق نفسه قوله تعالى: "وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة" (البلد: 12-15)، وقوله تعالى: "فأما اليتيم فلا تقهر" (الضحى : 9)، وقوله تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم" (الماعون: 1-2)، "وحاصل الأمر في دَعِّ اليتيم أمور (أحدها) دفعه عن حقه وماله بالظلم و(الثاني) ترك المساواة معه، و(الثالث) يزجره ويضربه ويستخف به"(2).
ثانياً- نصوص الرعاية الخاصة:(/17)
لم تصرح الآيات الكريمة نصا على كافل اليتيم، غير أن للمصطفى صلى الله عليه وسلم حديثا في هذا المجال فقد قال: "من قبض يتيما بين المسلمين إلى طعامه وشرابه، أدخله الله الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنبا لا يغفرله"(3) ، وقال أيضا: "أنا وكافل اليتيم في الجنة"(4)، وقيل أن كفالة اليتيم "واجبة في الأصل على ذوي الأرحام والأقرباء، وأما الدولة فإنها لا تلجأ إلى الرعاية إلا عند الحاجة"(5)، وهو ما يتبين بدلالة إشارة النص في الآيات الكريمة التي سبقت، عندما تقرن بين الإحسان لذوي القربى واليتامى، "فالمتصرفون في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم"(6). فإنه من الأولى أن يضم اليتيم إلى أحد بيوتات المسلمين بدلا من أن يعيش في دور الأيتام، لما سينشأ عنه من عواقب نفسية وخيمة، وهو ما يظهر جليا عند رؤيتنا لأيتام المؤسسات الخاصة برعاية اليتامى، "وقد وجد أن أطفال دور الأيتام كانوا معاقين بدنيا واجتماعيا وعاطفيا، إذا ما تمت مقارنتهم مع الأطفال الآخرين، ويتعاظم هذا الفرق على نحو ثابت ومؤكد مع نمو الأطفال"(7).
أما الآيات الكريمة المخصصة لرعاية اليتيم فقد أرشدت كافله إلى منهاج التعامل معه في عظام الأمور بخاصة، وهي أمور المال، والنكاح؛ لأن هذين الأمرين مما تكون ولاية الأب عليهما، فإذا ما فقد اليتيم أباه فقد الولاية والوصاية، لذلك ذهب العرب إلى أن اليتيم هو من فقد أباه؛ لأنه فقد من يدفع عنه، والذي فقد أمه عدِم الحضانة، وقد تنصر الأم، لكن نصرة الأب أكثر(8).
ومن هذه الآيات قوله تعالى: "وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا عظيما" (النساء :2)، وقوله أيضا: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" (النساء: 3)، وقوله تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم" (النساء: 6)، وقوله تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" (النساء: 10).
ومن الآيات أيضاً قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" (الأنعام: 152)، ونفسها (الإسراء: 34)، وقد جاء الحث والحض على حفظ مال اليتيم في آية المحرمات بسورة الأنعام في قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" (الأنعام: 151)، والتي ابتدأت بتحريم الشرك بالله، وتحريم قتل النفس، ودعت إلى حفظ النسل، وحفظ العرض، ثم دعت إلى حفظ المال، وجاء ذكر حفظ مال اليتيم ابتداءً، وفي هذا التقديم غاية جليلة كما ذهب لذلك الإمام ابن عاشور حيث قال في تفسير الآية " من المحرمات التي ترجع حفظ قواعد التعامل بين الناس لإقامة قواعد الجامعة الإسلامية، ومدنيتها، وتحقيق ثقة الناس بعضهم ببعض… وابتدأها بحفظ حق الضعيف الذي لا يستطيع الدفع عن حقه في ماله، وهو اليتيم"(9).
وفي أمور الزواج قال تبارك وتعالى: "ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب الله لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما" (النساء: 127)، ودعا الشارع الحكيم إلى عدم غبط حقوق اليتيمات، في مهورهن خاصة، فمما جاء عن السيدة عائشة قولها: " أنهم نُهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كنّ قليلات المال والجمال"؛ وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها"(10).
المطلب الثالث: قواعد الرعاية والتربية الخاصة لذوي العاهات.
لم تعد تربية ذوي العاهات تأخذ الطابع العام للتربية فحسب، بل إن الأبحاث النفسية والطبية أخذت تنحو منحى جدّياً في إيجاد قواعد عامة وأخرى خاصة يسترشد بها الآباء في تربية أبنائهم المعاقين، على اختلاف نوع إعاقتهم؛ السمعية أو البصرية أو الكلامية، أو العقلية؛ إذ إن ولادة طفل يعاني من الإعاقة الجسدية أو العقلية قد يغير جذريا حياة الأسرة. ولا يكفي تشجيع الأهل على المساهمة الفعالة في تربية الطفل المعوق، فالأسرة تحتاج إلى الدعم الكبير، وذلك بتحضيرها وإعدادها للتدخل المناسب لمساعدة طفلها المعوق وتربيته داخل إطار الأسرة(11).
فللأسرة الدور المهم والكبير في التربية ليواجه الأطفال إعاقاتهم "بعيدا عن المواقف الإحباطية، والصراعات النفسية، مما يحقق الاستقرار النفسي والاجتماعي، ويؤكد الثقة في أنفسهم"(12). هذه الثقة التي تدفعهم إلى الاستقلال النسبي عن الاتكالية والاعتماد المطلق على الأهل، مما يؤهلهم لخوض غمار التمهين والعمل. فلم تعد تربية المعاق تبغي تكييفه مع أفراد أسرته فقط، بل إنها تنشد تفعيل قدراته اجتماعيا، واقتصاديا، ليصبح طاقة منتجة.(/18)
وفي الحقيقة إن تربية المعوقين لا تختلف عن تربية الأطفال الأسوياء، فإن أهدافهما واحدة، إلا أن الذي يميز التربية الخاصة عن العادية هو التقنيات اللازمة لتربية المعاقين، أو بالأحرى الأطفال ذوي الحاجات الخاصة، بما يتوافق وإعاقتهم؛ بحيث تهدف التربية الخاصة إلى تحقيق التوازن في أمرين مهمين بالنسبة للمعاق؛
أولهما: تغيير السلوك العدواني المميز للمعاق إلى سلوك مسالم متزن غير قلق.
ثانيها: تحويل المعاق من فرد عالة على أسرته إلى طاقة فعالة منتجة. ولتحقيق ذلك يتطلب الأمر قواعد معينة طويلة المدى، تبدأها الأسرة مع معاقها، وتنتهي بالمؤسسات الاجتماعية التربوية الخاصة بتأهيل المعوقين سلوكيا، ودراسيا، وأخيرا مهنيا؛ وذلك بالاعتماد على:
تكييف ذي العاهة مع نفسه ابتداء، ليجد ممارسة الحياة اليومية أمرا عاديا، في لبسه، وأكله بنفسه؛ ويكون ذلك بإزاحة كل المعوقات التي تحول دون توافق الطفل مع نفسه.
وتكييفه للتعامل مع الناس، من خلال تدريبه على آداب التنشئة الاجتماعية، والأعراف العامة للمجتمع، فيتكيّف بسهولة مع أفراد أسرته، ويندمج في مجتمعه، فلا يجد صعوبة في التفاهم معهم، مما يمكن أن يسبب له توترا يؤدي به للانعزال والانطواء.
تنمية قدراته المتبقية له من الإعاقة بما هو ميسر لها، في معاونته على اكتساب الخبرات والمهارات، وتأهيله للعمل بقدر ما يستطيع، مثل النجارة، والحرف اليدوية ( صناعة الأحذية، الفخار، السلال…)، وإصلاح الأثاث والساعات، وأعمال الطباعة… الخ(13).
تعد هذه القواعد أبرز ما كتب في مجال رعاية المعاقين؛ من أجل تطوير قدراتهم السليمة وتنميتها، في تعويضها للجزء المفقود أو المعوق، بأساليب خاصة عرفت بـ"التربية الخاصة" . ولأن مجال البحث ليس مجالا اجتماعيا أو نفسيا بل أصوليا مستنداً إلى مقاصد الشريعة، ارتأيت التعريف بهذه القواعد والإشارة إليها بشكل موجز، بما يتوافق مع أهداف البحث، لمعرفة مدى الاهتمام الذي يلقاه المعاقون، وطرق رعايتهم، والتي تستمد أصولها من إنسانيتهم، ومن مبدأ الرحمة بهذا الصنف من الأفراد؛ وإذا كان الأمر كذلك مع علماء التربية، فالأولى بالمجتهد في المسائل الفقهية أن لا يستبيح "إجهاض الأجنة المشوهة" بما لا يتوافق مع مقاصد شريعتنا، وأحكام ديننا.
________________________________________
(1) الرازي، تفسير الفخر الرازي، مج 16/ ج31/ ص173.
(2) الرازي، تفسير الفخر الرازي، ج32/ص 112.
(3) أخرجه الترمذي في: أبواب: البر والصلة، باب: ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته، الترمذي، سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي، ج8/ ص106.
(4) سبق تخريجه.
(5) علوان، عبد الله ناصح: التكافل الاجتماعي في الإسلام، ط4، (حلب: دار السلام للطباعة والنشر، 1984)، ص 62؛ أنظر أيضا: علوان، تربية الأولاد، ج1/ ص147.
(6) ابن عاشور، التحرير والتنوير،ج 4/ ص218
(7) السبيعي، سيكولوجية الأمومة، ج1/ ص272.
(8) ابن العربي، أحكام القرآن، ج1/ ص154؛ ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج4/ص 219.
(9) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج8/ ص 162.
(10) ابن العربي، أحكام القرآن، ج1/ ص310. أنظر أيضا: صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب: النكاح، باب: إذا كان الولي هو الخاطب، رقم 37، البخاري، صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج9/ ص188؛ وفي كتاب: التفسير، باب: ]وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى[، رقم : 4574، ابن حجر، فتح الباري، ج8/ ص239؛ وأخرجه مسلم ، في كتاب: التفسير. أنظر: مسلم، صحيح مسلم مع شرح النووي، ج 18/ص 154.
(11) قنطار، الأمومة (نمو العلاقة بين الطفل والأم)،ص 185.
(12) أحمد، لطفي بركات: الرعاية التربوية للمعوقين عقليا، ص 96
(13) أحمد، لطفي بركات: الرعاية التربوية للمعوقين عقليا، ص9-44؛ أحمد، لطفي بركات: تربية المعوقين في الوطن العربي،ط1، (الرياض: دار المريخ، 1981)، ص 70؛ مرسي، عبد العظيم شحاتة: التأهيل المهني للمتخلفين عقليا، ( القاهرة: مكتبة النهضة العربية)، ص 13، 100؛ أبو فخر، غسان عبد الحيّ: التربية الخاصة للأطفال المعوقين، ( دمشق: مطبعة الاتحاد، 1992)، ص31 وما بعدها.(/19)
حفظ كتاب الله بين القواعد الأساسية والطرق العمليّة
إلى كبار السن ... (الإسلام اليوم) تقدم الطرق المثلى لحفظ كتاب الله
إبراهيم الزعيم 1/10/1426
03/11/2005
كثيراً ما سُئلت عن الطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم، وكنت دائماً أجيب السائل من خلال تجربتي المتواضعة في حفظ القرآن الكريم، إلى أن جاءت الفرصة اليوم لأوثق هذه التجربة من خلال هذا التحقيق الذي نقدمه للقارئ العزيز من خلال شبكة (الإسلام اليوم)، وليعذرني صغار السن؛ إذ إنني أخص في المقام الأول كبار السن، سواء كانوا رجالاً أونساء، فالصغار يجدون من يحفّظهم في المدارس والمساجد، لكن الكبار الذين انشغلوا بأمور الحياة - أعانهم الله - لا يجدون في الغالب من يفعل معهم ذلك.
قواعد أساسية وخطوات عملية
لاشك أن إنجاز أي عمل يتطلب توفر قواعد أساسية لإتمامه، وحفظ القرآن عمل، وهذا العمل حتى يتم على أكمل وجه لابد من توفر عناصر أساسية في الحافظ تسبق عملية الحفظ، وهي:
1 - النية الخالصة، بمعنى أن يكون وجه الله تبارك وتعالى هو المبتغى بهذا العمل.
2 - العزيمة الصادقة التي يجب أن تحوّل الأقوال إلى أفعال، فإذا كنت فعلاً تتمنى حفظ كتاب الله كما تقول ويقول الكثيرون، وتردّد مثلهم هذه الكلمة "نفسي أحفظ القرآن"، فعليك بالعمل.
3 - الدعاء الدائم.
4 - إلغاء مقولة: "راحت علينا"، ومقولة: "عقلي قفّل"، التي يرددها الكثيرون من الكبار، صحيح أنه قد يكون الحفظ في الكبر صعباً، لكن إذا لم تستطع حفظ كتاب الله كاملاً، فليس أقل من أن تحفظ أجزاء منه.
بعد أن عرفنا هذه القواعد الأساسية، ننتقل إلى الخطوات العملية التي ترافق عملية الحفظ، والمتمثلة فيما يلي:
1 _ اختر(اختاري) الوقت الأنسب للحفظ، وأفضل الأوقات للحفظ بعد الفجر أو عند السحر أو بعد المغرب.
2 _ حدد(حددي) وقتاً للحفظ يتم الالتزام به، ويُستحسن أن تعد جدولاً يشمل برامج يومك ويبين مواعيدها.
3 _ اختر(اختاري) المكان الأنسب، وأفضل الأماكن بيوت الله، وهذا بالطبع للرجال، أما المرأة فتحفظ في بيتها.
4 _ لا تتعجل(لاتتعجلي) في الحفظ، فقد كنت أحفظ في كل يوم صفحة واحدة على الأغلب، مع أني كنت أستطيع حفظ أكثر من ذلك، وذلك لأني أحببت أن أسير على قاعدة "قليل دائم خير من كثير منقطع"، وفي هذا إشارة أيضاً إلى أنه ينبغي أن تعرف قدراتك وتسير وفقاً لها.
5 _ استغل(استغلي) كل دقيقة في وقتك، فبعد حفظ المقدار المحدد راجعه في السيارة، وبين الآذان والإقامة وبين المحاضرات -إذا كنت طالباً-، أو في وقت الاستراحة إذا كنت موظفاً أو عاملاً.
6 _ ليكن المصحف - ذا الحجم الصغير- دائماً في جيبك أو قريباً منك لمراجعة ما حفظت، ولتحفظ حينما تشعر بالرغبة في ذلك.
7 _ إذا شعرت بأنك غير قادر(قادرة) على الحفظ في ساعة ما فلا تواصل(تواصلي) الحفظ، بل انتقل(انتقلي) إلى أي عمل آخر للترفيه عن نفسك، ثم عاود(عاودي) الحفظ بعد ذلك.
طرق الحفظ
في بعض مراكز التحفيظ تُطبق طريقة حفظ سطر سطر؛ إذ يحفظ الطالب سطراً واحداً ثم يحفظ السطر الثاني فيكررهما معاً، ثم يحفظ الثالث فيكررها جميعاً، وهكذا إلى أن يُتمّ الصفحة، وذلك بالطبع مع استخدام الصوت المرتفع؛ لأن استخدام حاستي السمع والبصر أحرى للحفظ، كما أن هناك طريقة أخرى طبقتها على نفسي وتتمثل في تلاوة الصفحة كاملة، ثم تقسيمها بالنظر إلى نصفين، ويتم ترديد النصف الأول إلى أن يتم حفظه، ويُطبق ذلك على النصف الثاني ثم تُقرأ الصفحة كاملة، بالإضافة إلى طريقة تكرار القراءة.
إيجابيات الكبار
وفي سؤال وجهته للدكتور عبد الرحمن الجمل - الأستاذ المشارك في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة، ورئيس دار القرآن الكريم والسنة- حول ما إذا كان هناك طرق يُفضّل أن يتبعها الكبار في الحفظ أجاب: "لا مانع من أن يسلك الكبار الطرق التي يسلكها الصغار في الحفظ؛ فالطرق هي الطرق، لكن الأمر يحتاج إلى تركيز".
وحول الإيجابيات التي يتمتع بها الكبير، وهي ما تميزه عن الصغير، والتي يمكن أن تمثل دافعاً للكبير لحفظ كتاب الله وتثبيته قال:
_ الكبير مدرك أكثر للأجر المترتب على حفظ القرآن الكريم.
_ الإخلاص وطلب الأجر من الله، وهذا غير متوفر عند الصغير.
_ الالتزام مع مجموعة يحفظ معهم ليشجع بعضهم البعض.
_ الرجوع إلى التفسير، بحيث يستطيع الكبير من خلاله ربط الآيات بعضها ببعض، وربط نهايات الآيات.
_ إلزام نفسه بحفظ معين يومياً.
_ التركيز على المتشابهات، وذلك من خلال قراءة الكتب التي تناولت هذا الموضوع، مثل كتاب: البرهان في متشابه القرآن، ودرة التنزيل وغرة التأويل، بالإضافة إلى أن هناك مجموعة كتب للدكتور فاضل السامرائي في هذا المجال.
_ الكبير قادر على اختيار الشيخ الحافظ والمتقن.
_ الكبير أقدر على أن يقرن الحفظ بالعمل، وهو ما يرسخ الحفظ.
_ اللجوء إلى الله على الدوام لطلب العون والتوفيق.
إذا هبت ريحك فاغتنمها(/1)
كنت مصراً على أن أثبت ما ذكرته في بداية موضوعي من أن حفظ القرآن ليس مرتبطاً بسن معينة، وأن الكبار في السن قد يحفظون كتاب الله إذا وُجدت عندهم العزيمة لذلك، فبحثت إلى أن اهتديت إلى ضيائي السوسي - الذي حفظ القرآن وعمره 38 عاماً - فسألته عن الطريقة التي اتبعها في الحفظ فقال: لم اعتمد طريقة محددة، مشيراً إلى أن الطريقة الوحيدة التي سار عليها هي طريقة تكرار القراءة؛ إذ حافظ على قراءة الجزء اليومي دون انقطاع، وذلك منذ ما يزيد على عشرة أعوام، إلى أن وصل إلى مرحلة يقرأ فيها طرف الآية فيستمر في القراءة غيباً ولا يحتاج إلا لتثبيت فواصل الآيات "نهاية الآيات"، ثم اعتمد أسلوب ترديد الربع اليومي الذي يريد حفظه، وبالفعل حفظ القرآن الكريم على ثلاثة مراحل:
الأولى: مرحلة السجن وحفظ فيها (15) جزءاً خلال أربعة أشهر.
الثانية: مرحلة الإبعاد وثبّت فيها الأجزاء الخمسة عشر وحفظ خمسة أخرى، وذلك خلال تسعة أشهر.
الثالثة: حفظ الأجزاء العشرة الأخيرة خلال ستة أشهر، بالإضافة إلى التثبيت الكامل، وكان ذلك في البيت، وتزامن مع مزاولته لمهامه الطبيعية في العمل والبيت.
ويقدم السوسي -الذي أتم الحفظ قبل سبعة أعوام من الآن- نصيحته إلى كل من رغب في الحفظ فيقول: "لا تيأس، فللنفس عزمات، فإذا هبت ريحك فاغتنمها، هناك فترات صفاء لابد أن تُستغل في الحفظ؛ لأن النفس تفتر، وهذا طبيعي لكن لابد من الاستئناف من جديد".
تجاوزن الأربعين
وحتى لا يقول قائل: "هذه التجربة تجربة رجل، والأمر عسير على النساء" أو "هذه حالة نادرة"، قررت البحث عن تجارب أخرى لأناس آخرين خاضوا التجربة، فكانت المفاجأة عندما أُبلغت بوجود حافظات للقرآن الكريم في أحد المساجد بمدينة غزة، فزرت المكان على الفور، والتقيت بالسيدة يسرى - التي حفظت القرآن الكريم وعمرها أربعون عاماً- فحدثتني قائلة: لقد كانت البداية في دورة الأحكام التي أخذتها، ثم بعد ذلك بدأت بالحفظ، والتحقت بمشروع "100 حافظة خلال عام" الذي أطلقته دار القرآن الكريم والسنة، مضيفة: "وبفضل الله مَنّ الله عليّ بحفظ كتابه الكريم".
وحول ما إذا كان صحيحاً ما يدّعيه البعض بأن كبار السن لا يستطيعون الحفظ. قالت: هذا غير صحيح؛ فالإنسان إذا نوى على شيء فسيعينه الله، مشيرة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه الوحي، وهو في الأربعين من عمره، وكثير من الصحابة حفظوا القرآن وهم في سن متأخرة.
كما التقينا بسيدة أخرى رفضت ذكر اسمها - وهي في الستينيات من عمرها- وقد شارفت على إتمام الحفظ، فكانت نصيحتها لكل من أراد الحفظ:
- إخلاص النية لله.
- العزيمة الصادقة.
- كثرة الدعاء في الليل أن يمن الله عليك بهذه المنة العظيمة.
- المداومة على التكرار.
- عدم التكلم في لغو الحديث؛ لأن المرء بذلك سينسى ما يحفظ.
- الإكثار من فعل الخيرات؛ لأن أبواب الطاعات تسهل عليك حفظ القرآن.
صوّر ورقة المصحف
ولكن ماذا لو لم يكن لديك -أخي القارئ- أو أختي القارئة وقت للحفظ، وخاصة في شهر رمضان بسبب الأعمال المتراكمة عليك، مع أن الأصل أن يُخصص وقت للحفظ كما أسلفنا، لكن إن كنت تعاني من هذه المشكلة فما هو الحل؟ لا تحزن(لاتحزني)؛ الحل موجود بإذن الله تعالى، فما عليك إلا أن تنفذ(تنفذي) التالي:
_ صوّر(صوّري) ورقة المصحف المقرر حفظها، ولتكن أمامك في مكان عملك: على (طبلون) السيارة، على المكتب، في المطبخ، شريطة أن تكون في مكان يسهل على العين النظر إليه.
_ انظر(انظري) إليها مراراً.
_ ضع(ضعي) الشريط في المسجل، واستمع(استمعي) إلى نفس الصفحة، وبذلك تفعّل حاستي السمع والبصر.
_ كرر(كرري) النظر والاستماع مرات عدة، ثم في المساء لن يأخذ حفظ هذه الصفحة معك أكثر من خمس دقائق.
في الختام أقول: إن حفظ كتاب الله - تبارك وتعالى- ليس أمراً صعباً، إنه يسير على من يسّره الله عليه؛ لذلك ما عليك إلا أن تخطو الخطوة الأولى، وتختار(تختاري) بعد ذلك أي الطرق التي ذكرت تناسبك أكثر، وإن أردت أي استشارة فنحن بين يديك.(/2)
حق الآباء في أموال الأبناء
السؤال :
هل لوالدي الحق في أن يأخذ من مالي بحاجة أو بغير حاجة ؟ و ما حكم الشرع إذا كان يأخذ من مالي و يعطي لإخواني ؟ و هل الأم و الأب في الأخذ من مال أبنائهم سواء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الله تعالى أوصى بالآباء خيراً ، و أوجب لهم على أبنائهم حقوقاً معنوية ( كتوقيرهما ، و التلطف في مخاطبتهما ، و عدم التأفف منهما ) و ماديَّة ( كالنفقة بالمعروف على الموسر ) .
قال تعالى : ( و قَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلا إيَّاهُ و بِالوَالِدَيْن إحساناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ و لا تَنْهَرْهُمَا و قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيْماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و يجمع بين الحق المعنويِّ و الماديِّ للآباء على الأبناء وُرُود النصِّ بأنَّ لهم حقٌّ ثابت في أموال أبنائهم ، حيث إنَّ حصولهم على هذا الحق و تمكينهم منه واجب ماديٌّ على الأبناء ، و جعلُ ذلك لهم بمثابة الكسب الحلال الذي لا ينازعون في أخذه ، و لا فضلَّ و لا منَّةَ لأحدٍ فيه عليهم يترك أثراً معنوياً حسَناً في نفوسهم .
لذلك قضت الشريعة الغراء بأن للأب أن يأخذ من مال ابنه مقدار حاجته بكرامةٍ و عزة نفس لا يتبعها أذىً و لا منَّة ، كيف و هو ـ في ذلك ـ إنَّما يأكل مِن كَسبِه الطيب ، و يأخذ من حقِّه الثابت .
فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله إنَّ لي مالاً و وَلداً ، و إنَّ أبي يريدُ أنْ يجتاحَ مالي . فقال عليه الصلاة و السلام : ( أنت و مالك لأبيك ) .
و روى أبو داود و ابن ماجة في سننهما بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : إنَّ لي مالاً ، و إنَّ والدي يحتاج إلى مالي ، قال : ( أنت و مالك لوالدك ، إن أولادكم من أطيب كَسْبِكُم ، كلوا من كَسْبِ أولادكم ) .
قلتُ : و لا فرق بين الأب و الأم في أن لكل منهما الحق في أن يأخذ من مال ولده ، لما رواه أبو داود و ابن ماجة و النسائي بإسنادٍ صحيح عن عمارة بن عمير ، عن عمَّته ، أنها سألت عائشة رضي الله عنها : في حجري يتيم أفآكل من ماله ؟ فقالت أم المؤمنين : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إنَّ من أطيب ما أكل الرجل من كَسْبِهِ ، و ولَدُه مِن كَسْبِه ) .
أمَا وقد تقرر ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن بعضَ أهل العلم ذهبوا إلى أن للأب الأخذ من مال ولده بدون قيدٍ أو حدٍّ ، لحاجته و فوق حاجته ، سواء رضي بذلك الابن أم لم يرضَ .
قال الشوكاني رحمه الله في شرح حديث أم المؤمنين رضي الله عنها : ( يدل على أن الرجل مشارِكٌ لولده في ماله ، فيجوز له الأكل منه سواء أذن الولد أو لم يأذن ، و يجوز له أيضاً أن يتصرف به كما يتصرف بماله ، ما لم يكن ذلك على وجه السَرَفِ و السَفَه ) . [ نيل الأوطار : 5 / 391 ] .
و اعتُرِض على من ذهبَ هذا المذهب بما رواه الحاكم بإسنادٍ صححه ، و قال : هو على شرط الشيخين ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن أولادَكم هبةُ الله لكم ، يهب لمن يشاء إناثاً ، و يهب لمن يشاء الذكور ، فهم و أموالهم لكم إذا احتجتم إليها ) .
و هذا الحديث صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة و الإرواء لا على شرط الشيخين ، و قال معقباً عليه :
و في الحديث فائدة فقهيية هامة قد لا تجدها في غيره ، و هي أنه يبين أن الحديث المشهور : ( أنت و مالك لأبيك ) ، ليس على إطلاقه ، بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء ، كلا ؛ و إنما يأخذ ما هو بحاجة إليه ) .
قلت : و العقل و الاعتبار يشهدان لمذهب تقييد حق الأب في مال ابنه بمقدار الحاجة لا غير ، إذ لو كان معنى قوله : ( أنت و مالك لأبيك ) على ظاهره و إطلاقه لاستحق الأب الاسئثار بمال ولده بعد وفاته لا يشركه فيه غيره من الورثة ، و لكانت عليه زكاته في حياته إن قصَّر في أدائها الولد ، و ليس الأمر كذلك .
قال ابن الهمام الحنفي بعد ذكر حديث عائشة المتقدم : ( و مما يقع بأن الحديث يعني أنت و مالك لأبيك ما أُوِّلَ أَنَّهُ تعالى وَرَّثَ الأبَ مِنْ ابنِهِ السُدُسَ مَع وَلَدِ وَلَدِهِ ، فلو كان الكل ملكَه لم يكن لغيره شيء مع وجوده ) .
قال ابن قدامه رحمه الله : و للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه و حاجته بشرطين :
أحدهما : أن لا يجحف بالإبن ، و لا يأخذ ما تعلقت به حاجته .
الثاني : أن لا يأخذ من مال أحد وَلَدَيْه فيعطيه لآخر؛ لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى . فإذا وُجِد الشرطان جاز الأخذ ) . [ الكافي : 2 / 471 ] .(/1)
فليتق الأبناء و الآباء ربَّهم فيما أعطَوا و ما تَرَكوا ، و لا يجاوِزَّنَّ أحدهم حدودَ ما شرعَه الله تعالى له ، فإنه ( من يعص الله و رسوله و يتعدَّ حدوده يدخله ناراً ) ، ( و من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه أنيب .(/2)
حق الصغيرة المزوجة بغير إذنها في الخيار بعد البلوغ
السؤال :
هل للصغيرة الغير بالغة إذا زُوِّجَت من قبل أبيها أو جدها حق الخيار بعد بلوغها ؟
إذا كان الجواب بالنفي ، فلماذا لا يكون لها الخيار إذا كانت لا ترضى بزوجها و لا تحبه ؟
و هل هناك من الأئمة و السلف من يعطي حق الخيار بعد البلوغ للصغيرة المزوجة من قبل أبيها أو جدها قبل بلوغها ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الحكم عن المسؤول عنه يختلف بحسب الحالة التي تمَّ عليها عقد على الصغيرة ، و فيما يلي أشير إلى ثلاث حالاتٍ ذَكَرَها أهل العلم ، و ما ذهبوا إليه في حكم كلٍّ منها على وجه الإيجاز :
• الحالة الأولى : إذا تمَّ تزويج الصغيرة من قِبَل أبيها أو جدِّها ( و إن علا ) فإن النكاح صحيح لازم قبل البلوغ و بعده ، و ليسَ لها حق الخيار ، إلا إن كان التزويج من غير كُفءٍ ، أو وَقَع فيه غبنٌ فاحشٌ في الصَّداق ، لا أعلَم في ذلك خلافاً بين العلماء .
قلتُ مذكِّراً : ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنَّ الصغيرة لا يزوِّجُها إلا الأب ، و عند الشافعي يزوجها الأب أو الجد حصراً ، فإن لم يكُن لها أبٌ و لا جدٌّ فليس لغيرهما من الأولياء تزويجها حتى تبلُغ و تُستأمَر ، لما صح في سنن أبي داود و غيره من حديث ابن عباس و أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( تُستأمر اليتيمة في نفسها ؛ فإن سكتت فهو إذنها ، و إن أبت فلا جواز عليها ) ، و الاستئمار لا يكون إلا بعد البلوغ .
• الحالة الثانية : إذا كان ولي الصغيرة في النكاح غير الأب و من في حكمه من الأجداد فإن التزويج لا يصح إذا كان من غير كفءٍ ، أو وقعَ فيه غَبنٌ فاحشٌ في المهر .
• الحالة الثالثة : إذا كان ولي الصغيرة في النكاح غير الأب و من في حكمه من الأجداد ، و كان الزوج كفؤاً للمعقود عليها ، و أصدَقَها صداق المثل أو خيراً منه ، من غير ظُلمٍ و لا غَبْنٍ ، فللعلماء في هذه الحالة مذهبان :
أوَّلُهُما : أنْ لا خيار للزوجة بعد البلوغ ، لأن تزويجها على هذه الصفة و هي بالغٌ صحيح لما فيه من الإنصاف و البرِّ بها ، فلزم أن يكون كذلك قبل البلوغ أيضاً – هذا قولهم – و هو مذهب جمهور العلماء ، و القاضي أبي يوسف من الحَنَفِيَّة ، و اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً .
و ثانيهما : أنَّ لها الخيار بمجرَّد البلوغ ، فإن شاءت أمضت العقد ، و إن شاءت فسخته ، و بهذا قال الإمام أبو حنيفة ، و تلميذه محمد بن الحسن رحمة الله عليهما ، قياساً على الأَمَةِ فإنها تخير إذا أعتقت و هي مزوجة و الجامع بين الحالتين حدوث ملك التصرف .
و هذا مذهب ابن عمر و أبي هريرة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، و ذكره ابن تيميَّةَ قولاً عن الإمام أحمد .
و عليه تجب مبادرة المرأة إلى حق الخيار بمجرد البلوغ ، لأنَّ هذا الحق لا يستصحب مدى الحياة ، بل يسقط برضاها بالزوج تصريحاً ، أو بالسكوت الدالِّ على الرضا ، و لذلك حسُنَ التنبيه .
و الراجح من القولين هو ما ذهب إليه الجمهور لعدم وجود دليل يصلح الاعتماد عليه في القول بتخيير الزوجة بعد البلوغ في إجازة العقد أو فسخه ، و لضعف القياس الذي استدل به من حكم بتخييرها من السادة الحنفيَّة ، فضلاً عن المفاسد المترتبة على ذلك ، من إسقاط حق الأولياء ، توهين أواصر النكاح ، و تعريضه للفسخ بغير مقتضٍ ، و الله أعلم و أحكم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/1)
حق المسلم على المُسلم
( خطبتا الجمعة في مسجد دَبلِن بإيرلندا اليوم الثاني من شوال 1423 هـ الموافق للسادس من ديسمبر ـ كانون الأوّل ـ 2002 م )
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم - و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد فيا عباد الله !
أوصيكم و نفسي بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم و بال عصيانه و مخالفة أمره ، و أذكركم و نفسي بحقوقه و حقوق خلقه ، التي افترَضَها الله تعالى في كتابه و على لسان نبيه .
إن ديننا الذي ارتضاه الله تعالى لنا منهجاًَ رَشداً يجمع بين الحقوق و الواجبات ، و لا يذهب فيه سدى شيء من الصالحات ، و لا ريب في أن الحقوق تجب على العباد بإيجاب الشارع الحكيم ، أما في حقه تعالى فلا شيئ يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه تفضلاً منه و منة .
و من جوامع الكلم و فصل الخطاب في بيان مجمل الحقوق و أوجب الواجبات ما رواه الشيخان و غيرهما و اللفظ لمسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت ردف رسول الله صبى الله عليه وسلم ليس بيني و بينه إلا مؤخرة الرحل فقال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدري ما حق الله على العباد ؟) قال : قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يُشركوا به شيئاً ) ، ثم سار ساعة ، فقال : ( يا معاذ ) قلتُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدرري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( أن لا يُعذبَهُم ) .
الناس ما عقَلوا لله عباد *** حتى و إن جهلوا يوماً و إن حادوا
يحدوهمُ أملٌ في نيل مغفرة *** في يوم محشرهم لله إن عادوا
ما دام مرتكزاً إفراد بارئهم *** في أصل فطرتهم و الدين توحيدُ
عباد الله !
إن توحيد الله تعالى بما أوجب توحيده به من أفعاله و أسمائه و صفاته و عبادة خلقه أوجب الواجبات ، و أهم المهمات التي عليها مدار الفوز و النجاة ، في الحياة و بعد الممات ، و لهذا كثر النكير على من وقع في الشرك المنافي لتوحيد رب البريات ، و آذن الله تعالى المشركين بالإياس من المغفرة و دخول الجنات .
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا } [ النساء : 116 ] .
و من عدله المطلَق سبحانه و تعالى أن لا يُضيع شيئاً من حقوق العباد حتى يقتص لصاحبها أو يرضيه برفع درجاته أو تكفير سيئاته ، فما ربك بظلام للعبيد ، و لا يرضى الظلم بين العبيد ، بل يقول لمن دعا على ظالمه : ( و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين ) كما روينا بإسناد حسن عن خير البشر .
فإن برئت ذمتك من التفريط في جنب الله ، و سلمت من الوقوع في الشرك بالله ، فحذار حذار من الاستطالة في حقوق العباد أو التقصير فيما أوجب الله عليك صرفه لهم ، فإنك موقوف و محاسَبٌ عن كل اقتراف ، أو مجانبة للحق و الإنصاف .
روي في المسند عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( الدواوين عند الله عز و جل ثلاثة ؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئاً ، و ديوانٌ لا يترك الله منه شيئاً ، و ديوانٌٌ لا يغفره الله ؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عز و جل : و من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة . و أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسَه فيما بينه و بين ربه ، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها ، فإن الله عز و جل يغفر ذلك و يتجاوز إن شاء ، و أما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظُلمُ العباد بعضَهم بعضاً : القصاص لا محالة ) .(/1)
نعم يا عباد الله ! إن حقوق العباد لا يستهين بها إلا غر مغبون ، جاهل بالعواقب و الخواتيم ، أما من اصطفاه الله و تولاه ، و وفقه لما فيه رضاه فلا يفرط في شيء منها ، و أقلها ما جاء التأكيد عليه في السنة تخصيصاً ، و هو حق المسلم المتعين الأداء على المسلم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( حق المسلم على المسلم خمس رد السلام و عيادة المريض و اتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس ) متفق عليه .
و في رواية في صحيح مسلم : ( حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعُده ، و إذا مات فاتبعه ) .
و في رواية مسلم هذه زيادات و قيود هامة في التعامل بين المسلمين ، أولها زيادة حقوق المسلم عدداً ، و في هذا دلالة على أن العدد المذكور يفيد مراعاة حال السائل و ليس الاقتصار على ما ذكر .
و ثانيها الأمر بالسلام مطلقاً على من يلقاه المسلم من المسلمين ، و ليس مجرد رد السلام على من ابتدأه به ، لما لإفشاء السلام في إشاعة المحبة و الألفة بين أفراد المجتمع ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) .
و ثالثها إيجاب إسداء النصيحة لمن يحتاجها من المسلمين ، لأن الدين النصيحة ، و من النصيحة الواجبة مناصحة المبتدع و الرد على المخالف بما يرده إلى الحق و لا يزيده نفرة منه ، و بعداً عنه ، و قد دأب السلف على مناظرة المخالفين في أصول الدين و فروعه ، و أطرهم على الحق أطراً بالحجة و البيان ، لا غير ، و ما مناظرات إمامَي السنة و أهلها في زمنيهما أحمدَ بن حنبل و أحمدَ بن تيمية إلا معالم في الطريق ترد على من يفر من المخالف إلى القذف و التشهير متذرعاً بآراء آحاد العلماء في عدم مناظرة المبتدعة رغم شذوذ هذا القول و مخالفته لما عليه جمهور السلف قولاً و فعلاً .
و رابع ما يستفاد من هذا النص الشريف : تقييد إيجاب تشميت العاطس بحمده لله تعالى ، فإن قال بعد عطاسه : الحمد لله . قيل له : يرحمك الله وجوباً على الكفاية ، و يتعين عليها بعدها أن يدعو لنفسه و لمشمته بما جاء في السنة كقوله : يهدينا و يهديكم الله و يصلح بالكم .
عباد الله !
إن حقوق إخوانكم من أهل القبلة عليكم لازمة ما دامت فيكم عين تطرف ، و لا تنتهي إلا باتباع جنائزهم بعد مماتهم فأدوا إليهم حقوقهم ، و اسألوا الله حقوقكم .
و ما دام الحديث عن حقوق العباد قائماً فمن المناسب الإشارة إلى ما أقره رسول الله صبى الله عليه وسلم قبل الهجرة و طبقه بعدها عملياً من أخوة الإسلام بين أبنائه و التآخي بين المسلمين فـ ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ) كما ثبت بذلك الحديث في الكتب الستة .
و أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب ، و رابطته أوثق من رابطة الدم ، و لا مسوغ شرعاً للتبجح بالمصطلحات المبتدعة حديثاً من قبيل الأخوة في الوطنية أو القومية أو غيرهما من الدعوات الجاهلية .
و حذار من الانحراف بالانجراف وراء من يعد النصارى اخوة له ، بدعوى أن الله تعالى وصف بعض أنبيائه بأنهم إخوان لبني قومهم كما في قوله تعالى : { و إلى مدين أخاهم شعيباً } و قوله سبحانه : { و إلى عاد أخاهم هوداً } ، مع أنهم يغفلون عن أن الله تعالى لم يصف الأقوام بأنهم إخوة للأنبياء ، و إثبات الصفة ليس إثباتاً لما يقابلها كما هو معلوم عند أهل اللغة .
و من العجب أن نعد الصليبيين إخوةً لنا ، في الوقت الذي نغفل فيه أو نتغافل عن الأخوة الحقة التي تربطنا بأبناء ديننا و ملتنا ، و أهل قبلتنا ، في فلسطين و غيرها من بلدان المسلمين ، فنسلم إخواناً و نخذل آخرين ، يقبعون في سجون الغزاة المجرمين ، مع أن من حقهم علينا أن نقوم بواجب النصرة و الإمداد لهم .
أين نحن من أقوال أئمة السلف ، و هداة الخلف و قد أجمعوا على وجوب استنقاذ الأسير و فك العاني :
قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد ذكر الأسرى المستضعفين : إن الولاية معهم قائمة , و النصرة لهم واجبة بالبدن بألا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك , أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم , حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو , و بأيديهم خزائن الأموال و فضول الأحوال . اهـ .
و قال ابن تيمة : فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات .
فالله الله يا أمة الإسلام في إخوانكم ، إرعوا شؤونهم ، و أعطوهم حقوقهم ، و حذار من أن يكون في قلوبكم غل للذين آمنوا .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل(/2)
أقول قولي هذا و استغفر الله الجليل العظيم لي و لكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
الخطبة الثانية
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله ، و خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، و شر الأمور محدثاتها ، و كل محدثة بدعة ، و عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ، و من شذ شذ في النار .
أمّةَ الإسلام !
لا نزال حديثي عهد بشهر رمضان الذي ي أفل نجمه قبل يومين ، و سرعان ما بردت الهمم برحيله ، و عادت أحوال الكثيرين منا إلى ما كانت عليه قبل دخوله ، و كأن الله لا يعبد إلا في رمضان ، و هذه أمارة للخذلان و دلالة على الخسران ، لأن رب رمضان هو رب شعبان و شوال و سائر الشهور .
فلنبادر يا عباد الله إلى تصحيح مساراتنا ، و ليشد بعضنا على أيادي بعض بالتذكير و المناصحة و الإعانة على طاعة الله .
فاتّقوا الله يا عباد الله ، و تزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه ، و صلّوا و سلّّموا على نبيّه و آله و صحبه و من والاه ، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم ، إذ قال ربّ العالمين : ( إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما )
اللهم صلّ و سلّم و بارك على عبدك ، و رسولك محمّد ، و على آله و صحبه أجمعين .
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb(/3)
حقا إنّ شانئك هو الأبتر!
بدرية العبدالرحمن 2/2/1427
02/03/2006
أعلم كم أرهقْتُكم بالكتابة حول الأزمة الإسلامية الدنمركية.. وأعلم بالمقابل أنها حديث الساعة الذي لايكاد يخلو مطبوعة ولا منتدى إنترنت منه..لدرجة قد (ملّ) الأغلب من الحديث عنها وحولها..
أنا شخصياً لا أريد الحديث عن شيء آخر غير الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم... ليس فقط لأنه موضوع جاهز للكسالى أمثالي..ولكن أيضاً لأنه حدث (متواصل) قد فتح شهيتي للثرثرة والتعليق والتفكير، كما لم لم تكن مفتوحة من قبل..
البارحة فقط كنت أقرأ خبراً مفرحاً ومبهجاً نشره موقع (إسلام أون لاين) حول موجة استنكار لإهانة الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام ..لا تبدأ هذه المرة من دولنا الإسلامية، وإنما من ممثلي الكنائس المسيحية على اختلافها في العالم أجمع...ليقولوا: إن ماحصل ضد الإسلام لم يكن إلا وصمة عار في جبين الشانئين والمتعصبين..
فقد أصدر المجلس الاوروبي لزعماء الأديان بياناً (رسمياً) عبّر فيه عن استيائه مما حصل جاء فيه: "ونشجب إساءة استخدام حرية التعبير لسبّ كل ما هو مقدس لدى المؤمنين.. إن سلسلة الرسومات الهجومية على النبي محمد هي إهانة بالغة لحوالي (1.3) مليار مسلم.. نحن نسلم بحق حرية التعبير كركيزة أساسية للديموقراطية، وحقوق الإنسان دون مثل هذه الإساءات".
وأبلغ منه ما نقله الموقع عن نائب بطريرك الكاثوليك في مصر (يوحنا قلته) قوله: "إن مسيحيي الشرق يعرفون جيدًا حجم ومكانة الرسول الكريم". وأكد على أن الرسومات المسيئة للرسول هي إهانة وُجّهت للمسيحيين في العالم وليس للمسلمين فقط، مشيرًا إلى وجود تيار إلحادي في الغرب "يدعو إلى قيام حضارته بسقوط المقدسات وإهانة الأديان".
إضافة إلى عاصفة من الاحتجاجات والبيانات وقّع عليها رجال الدين المسيحي في نابلس وتركيا.. تثير ليس فقط إعجابنا وحماسنا للروح النزيهة والشريفة التي دفعتهم لمثل هذا الموقف النبيل... ولكن تثير مزيداً من التساؤلات حول توقّف كثير من (ربعنا) المسلمين عند مثل هذه الحادثة وحديثهم عنها بأنها واقعة يجب ألاّ تُعطى أكبر من حجمها، وألاّ يتعامل معها المسلمون بهذه الحساسية!!
المسألة حين ترى (مسلماً) يتعامل مع حادثة استفزاز للحميّة الدينية بهذا القدر من اللامبالاة فإنك تدرك وجود خلل مؤسف في تصوّر بعض المسلمين لقيم الحرية وقيم العالم الجديد..
لست بحاجة لتكرار ما تحدّثت عنه في مقالات سابقة من أن اللادينيّة هي ما يمكن أن يفسد علينا صفو عالمنا القادم.. وأن البهتان الذي تقوم به حين تتعدى على المقدّسات أمر سيجر ويلات لاطاقة لنا بها..
اللادينية حين تتوشح رداء عربياً كما في بعض سخافات القوم هنا وهناك، وحين تريد أن تستحيل إلى حركة سياسية تستبعد الدين من أجندتها، وتريد أن تتحرر من الدين ومن تخلّفه وويلاته التي جرها على الشعوب (زعمت)..
حين تفعل اللادينية ذلك فإنها تصبح أمراً يستدر السخرية بشكل لايُطاق..
ليس فقط لأن الشعوب العربية والإسلامية شعوب متدينة بالفطرة، ولايمكن تخيّلها بمعزل عن دين الله تعالى الذي ارتضاه لها...ولكن أيضاً لأن وجود اللادينيين في الأغلب مرتبط ببرنامج كوميدي متكوّن من التهكّم والهجوم على المقدّسات والتشكيك اللاواعي في جذور المقدّس في العقل المسلم...
أي إنه موقف حاقد...أو مهووس يريد الظهور والتمرّد بطريقة مفلسة..والإفلاس بهذا الشكل موقف يستدر الشفقة...ليس موقفاً فكرياً معتدلاً يستحق الاحترام..
إن هذه الوقفة التي يقفها المسيحيون معنا هي التي لابد أن يفقه اللادينيون منها أن الخلفية الدينية في عقل كل الشعوب (والإسلامية منها خاصة) أمر لايمكن تجاهله..وأن فطرة الله التي فطر الناس عليها ليست جيناً وراثياً يمكن تعديله في مختبر علمي ملحد..!!
أمر آخر يمكننا قراءته وهو كيف أمكن للآخر المسيحي الذي طالما ارتبط تعصّبه (الديني الصريح) في عقل المسلم بملايين الضحايا بامتداد تاريخنا الإسلامي كان آخرها في حرب البلقان الطويلة ..كيف أمكنه أن يكون نزيهاً ومتسامحاً في النهاية ليعلن موقفاً فكرياً استثنائياً جداً وواضحاً؟!
لم يكن الأمر صعباً هذه المرة أن يعلنوا مبدأهم حول الاحترام وحول التعايش...للدرجة التي تضمن إحدى البيانات التعبير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه (نبي الإسلام)..
جاء في البيان الذي أصدره ممثلو ست كنائس رئيسة في تركيا: "كأبناء النبي إبراهيم، نشجب عدم احترام محمد نبي الإسلام الذي نحبه ونتعاون معه، ونحن نصلي مع إخواننا المسلمين ليحكم الحب الإلهي الأرض".
هل ستكون حملة البيانات النزيهة هذه المرة بداية لعهد جديد يبدؤه المسلمون مع المسيحيين، وموقفاً جديداً تماماً هو نفسه موقف: (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولانشرك به شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله...)[آل عمران:64]؟(/1)
هل سيبدأ السلام والحوار الديني..يبدؤه المسلمون من داخلهم في طوائفهم المتعددة ...يبدؤونه مع الآخرين لتكون كلمة الله هي العليا..؟ هل ستبدأ حملة للسلام والتحاور الديني أخيراً من أزمة أثارها الشانئ الأبتر (اللاديني) ليؤدي إلى آخر ماكان يتمناه؟ وهو حوار ديني متسامح؟
بأبي أنت وأمي يارسول الله...أرادوا أن ينتقصوك ويزدروا دينك وإيمانك، فلم يزد ذلك أمتك إلا رشداً..(/2)
حقائق عن الغزو الفكري للإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك مجموعة من الحقائق التي تكشفت أخيراً بعد أن انهارت مخططات التغريب والغزو الثقافي في العالم الإسلامي وبعد أن أوشكت جولة هذا الباطل تسربل بالعلم والبراعة واللمعان الخاطف أن تنطفئ وتنهار.
وكان حقاً علينا أن نتعرف على هذه الأمور حتى لا تخدعنا مرة أخرى حين يحاول النفوذ الأجنيب أن يغير جلده أو يعاود خداعه أو يحاول تجديد أساليب مكره.
ونحن نعرف أن هذا النفوذ الأجنبي الذي يحاول أن يحتوي أمتنا وفكرنا هو مجموعة من المؤتمرات التي يحكيها النفوذ الأجنبي والصهيوني والماركسي، وأنه بدأ بصيحات متعددة:
هي صيحة لويس التاسع وصيحة غلادستون وصيحة كرومر، وصيحة اللورد اللنبي وصيحة كامبل وهي صيحات خمس يجب أن نعيها ونتعرف عل هدفها.
أم لويس التاسع فإنه بعد أن هزم في الحملة الصليبية السابعة التي تحطمت أمام المنصورة وأقتيد وهو قائدها أسيراً حتى يفتدي نفسه وسجن في بيت لقمان.
هذا الرجل المهزوم الأسير كتب في مذكراته يقول: "لقد تبين لنا بعد هذه الجولة الطويلة أن هزيمة المسلمين عن طريق الحرب مسألة مستحيلة لأنهم يملكون منهجاً محكماً يقوم على الجهاد في بيل الله ومن شأن هذا المنهج أن يحول دون هزيمتنا عسكرياً ولذلك فإن على الغرب أن يسلك طريقاً آخر، هو طريق الكلمة، الذي يقوم على نزع الفتيل من هذا المنهج وتفريغه من القوة والصمود والبسالة، وذلك عن طريق تحطيم مجموعة من المفاهيم بتأويلها أو التشكيك فيها".
هذه الوصية كانت أساس الخطة التي قام بها الغرب من بعد عن طريق إنشاء مؤسستي التبشير والاستشراق وإثارة الشبهات حول مفهوم الإسلام الأصيل الجامع دنيا ودولة وعقيدة وشريعة وأخلاقاً، ومن ثم كانت محاولات الاستشراق تدور كلها حول تحويل الإسلام إلى دين لاهوتي عبادي منفصل عن الحياة منتزع من ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية.
ولما كان القرآن هو مصدر هذا المنهج الرباني الأصيل الذي ما هزم المسلمون إلا عندما تغافلوا عنه أو حاولوا التماس غيره فإن صيحة غلادستون في مجلس الهموم البريطاني كانت تمثل حقيقة الفهم الاستعماري الإنجليزي – وإنجلترا إذ ذاك إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس – حين وقف وهو ممسك بالمصحف يقول: "إنه لا أمل في إخضاع المسلمين ما دام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
وكان هذا إشارة مضاعفة للعمل على إثارة الشبهات حول القرآن وعقيدته وشريعته على النحو الذي عرفناه من قراءة تاريخ التبشير والغزو الثقافي.
ثم جاء كرومر الذي أمضى ربع قرن كامل وهو الحاكم الفعلي لمصر ليبني – كما قال في تقاريره الرسمية ومذكراته – جيلاً جديداً من المتفرنجين الذين يوالون الحضارة الغربية والحاكم الأجنبي ويقبلون التعامل معه ويؤمنون بأن هذه البلاد لا تنجح إلا إذا سارت في طرق الحضارة الغربية.
وكان من ثمرة عمل كرومر: لطفي السيد الذي أعلن عداءه للعروبة وللإسلام وللعالم الإسلامي ودعا إلى الإقليمية المصرية الفرعونية. وطه حسين الذي قال: أننا يجب أن نأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها وخيرها وشرها وما يحمد منها وما يعاب.
ثم جاءت صيحة أشد نكراً هي صيحة اللورد اللنبي: الذي كانت دولة بريطانيا قد خدعت العرب بوعود إنشاء دولة عربية إذا هم عاونوهم في الحرب العالمية الأولى فلما فعلوه كان جزاءهم احتلال بلادهم.
فاحتل الفرنسيون سوريا ولبنان واحتل الإنجليز الأردن والعراق وفلسطين وظهر وعد بلفور الذي أعطى اليهود وطناً قومياً في فلسطين.
ثم جاء اللورد اللنبي ليقف ويقول: اليوم انتهت الحروب الصليبية. وهو يعني أن الجيوش التي هزمت وآخرها بقيادة لويس قد عادت بعد ثمانمائة سنة مرة أخرى إلى هذه البلاد منتصرة ومنهية للحروب الصليبية على نحو آخر.
وإذا كانت هذه الخيوط يمكن أن تعطي المثقف المسلم صورة حقيقية للخلفيات لواقعنا في مواجهة النفوذ الأجنبي فإن هناك قصة أخرى وصيحة أخرى للوزير كامبل وزير خارجية بريطانيا 1907 م.
فقد توصل هذا الرجل إلى أن الحضارة الغربية وهذا النفوذ الاستعماري الضخم للدول الغربية قد دخل في مرحلة الأفول ولكنه أراد أن يجمع علماء العالم ومفكريه ومؤرخيه لوضع خطة تقول:
إذا كانت هذه هي نهاية الحضارة الغربية فمن الذي سيخلف بريطانيا والغرب، فأعلن المؤتمرون: أن المسلمين هم المستخلفون لأنهم أهل المنطقة أولاً، ولأن لهم من عقيدتهم منهج محكم يمكنهم من استعادة بناء الحضارة الإسلامية، هناك جرى التفكير حول خطة للحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من امتلاك هذه الإرادة وتأخير هذه الجولة ما أمكن وجرى البحث حول السبيل الذي يمكن الغرب المنهار بحكم انتهاء جولته من استبقاء نفوذه وتأخير قيام النهضة الإسلامية في بلادها، قال دهاة السياسة ودهاقين الاستبداد والاستعمار:(/1)
عليكم أن تغرسوا جنساً غريباً عن هذه الأمة في المنطقة الواقعة بين أفريقيا وآسيا حتى يحول دون امتدادها ويفصل بينها، هنالك تقدم اليهود وقالوا: نحن العنصر الغريب العازل.
ومن هنا بدأت مؤامرة الصهيونية في فلسطين وإلى يوم آخر بعيد.
هذا هو منطلق اليقظة الإسلامية إلى معرفة التحديات التي تواجه الأمة، فإذا أضفنا إليها مثلاً تقرير اللورد كرزون ضعيف ما دام العامة يتعلمون اللغة العربية الفصيحة لغة القرآن كما في الوقت الحاضر ولا يتعلمون اللغة العربية الدارجة لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني واليوناني الحديث إلى اليوناني القديم وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها فإذا لم تؤخذ هذه الاحتياطات يستمر الجيل الجديد مثل سابقه غير حاصل لخدمة وطنه وتظل عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
هذا هو الاتجاه الواضح للنفوذ الأجنبي نحو القرآن واللغة العربية والهدف هو قطع اللغة الحية عن القرآن ومن ثم يصبح مجهولاً ويقرأ بقاموس وتموت العربية ويموت القرآن ويذهب الإسلام.
هذا القرآن هو الذي أزعجهم، رمى به غلادستون وقال عنه كرومر أنه يؤخر التقدم ودعا كرزون إلى العامية وجاء بعد ذلك ماسينون ليدعو إلى الكتابة بالحروف اللاتينية.
وتوالت نذر التغريب وتجمعت سحبه في أفق الفكر الإسلامي لاحتوائه والقضاء على ذاتيته وخصائصه، فقالوا نابليون أيقظ الشرق، وكذبوا فإن الذي أيقظة الشرق هو محمد بن عبد الوهاب وصالح المؤمنين الذين ارتفعت صيحتهم بالعودة إلى المنابع.
وعمل الغزو الفكري في ميدان الثقافة والتعليم حتى أن 50 ألفاً من أبناء المحظوظين يتعلمون بمدارس الإرساليات كل عام ويملأون عقولهم وقلوبهم بمفاهيم مسمومة مغلوطة صاغتها قوى متآمرة من المستشرقين والمبشرين والماسون والعلمانيين والوثنيين لهدم هذه القوة التي تقف في وجه الفكر البشري الضال كله وهي الإسلام.
وقد صنع النفوذ الأجنبي تلك المحاولة الخطيرة التي أسموها التغريب والتي استهدفت تحطيم مقومات الإسلام الأساسية وإثارة الشبهات حول مقومات الفكر الإسلامي التي تتمثل في الأصول الأساسية:
القرآن والسنة وهما منهج الإسلام في بناء المجتمع وقد اتهم الدين بالجمود والعجز عن متابعة الحضارات وهو مصدر التقدم في العالم.
اللغة العربية بإعلاء شأن العاميات والحروف الأعجمية وإتهامها بأنها لغة عاجزة عن الاستجابة للتطور إذ أنها لغة دينية.
سيرة الرسول وتاريخ الإسلام بإثارة الشبهات حول وقائعه.
الحضارة الإسلامية وإنكار فضلها على الحضارة المعاصرة واتهامها بأنها حضارة غير أصيلة وإسقاطها في مجال تطور الحضارة الإنسانية.
الأدب العربي وإخضاعه لمقاييس جديدة واحدة تجرده من أصالته الإسلامية.
التراث الإسلامي والغض من قدرة ومحاولة إحياء الجوانب المتصلة بالفكر الشعوبي والوثني والفكر الصوفي الفلسفي.
التاريح الإسلامي ومحاولة تزييفه وإثارة الشبهات حوله واتهامه بأنه مليء بالثغرات.
كذلك جرى العمل على الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم أو بناء مجتمعهم على أساس إسلامي وذلك بإثارة الثغرات القومية والإقليمية والتشكيك في العقيدة وإيجاد الفرق والنحل الهدامة، وتركيز المفاهيم العلمانية والمادية وصرف الأمة عن وجهتيها التي سارت عليها أربعة عشر قرناً والقضاء على خصائصها ومحو مآثرها وتحقير ماضيها وإفساد حاضرها، وخلق جديد منهزم مفتون بالغرب وأباطيله ومفاهيمه.
ولا ريب أن أولى مطالبنا هي الأصالة الفكرية: هذه الأصالة القادرة على فرز كل ما لا يتلاءم مع روح التراث وترك كل ما هو دخيل ثم الدرة على الانفتاح على الفكر الإنساني والتطور العلمي في يقظة ووعي كاملين بحيث نأخذ الوسائل وحدها لا تستطيع أن تقدم شيئاً ذا بال أو تعطي إضافة بناءة صحيحة إذا لم تكن مرتبطة بالأصالة وبوجود الأمة وحقيقة رسالتها وهدفها، وإن التطلع إلى التقدم العلمي والتكنولوجي لن تكون له فائدة إيجابية إذا لم يصدر عن إيمان أكيد بجذور الأمة الأولى الحقيقية وأن يتحرك في داخل إطار فكرها وقيمها. كذلك فإن الحوار مع الفكر العالمي يجب أن يتم في داخل إطار "الأمانة" التي تحمل لواءها الأمة الإسلامية للبشرية كلها دفعاً إياها إلى الحق وحجزاً لها عن الشر.
إن أبرز معالم الإسلام هو التكامل بين أعماق القلب ومجرى الفكر، وإقامة مبدأ التعاون بديلاً لمبدأ الصراع، وتقدير لقاء الأجيال بوصفه أصدق من صراع الأجيال والاعتقاد بأنه ليس بين الإنسان والطبيعة صراع ولكنها محاولة سيطرة واهتداء إلى النفع بها.
ولا ريب أن السنة الجامعة هي البوتقة الناصعة التي انصهرت فيها كل الثقافات والنحل والدعوات التي طرحت في فلك الفكر الإسلامي فاستصفتها السنة وحررتها من شبهاتها وأخذت عصارتها الطيبة فضمتها إلى كيانها.(/2)
فالسنة هي النهر الكبير والمذاهب والفرق روافد منه وقد صهرت السنة خير ما في الكلام والاعتدال والتصوف والتشيع في مضمونها الجامع الذي يستمد حقيقته ووجوده من المفهوم القرآني الأصيل.
وقد وقف الإسلام أمام الفكر اليوناني الوافد كما وقف أمام غنوص الشرق، موقف العداوة والبغضاء كاشفاً عن وجوده الخلاف بين ذلك كله وبين مفهوم التوحيد الخالص.
كذلك فقد رفض الإسلام التطور على حساب الأصالة.
ورفض التقدم على حساب التضحية بالجذور والقيم الإسلامية.
كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي ولم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم، وليس في المناهج والأيديولوجيات شيء لامع إلا وعند المسلمين ما هو مثله أو خير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات وهو في الفكر البشري انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.
إن العودة إلى المنابع هي صيحة المسلمين في كل أزمة وكلما أدلهمت الأحداث وأحاطت الأزمات، كانت دعوة الغزالي وابن حنبل وابن حزم وابن القيم وابن عبد الوهاب.
وفي ضوء هذا كله نجدنا في حاجة إلى استيعاب الحقائق الآتية:
أولاً: إن انطلاق المسلمين والعرب على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم بدون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق ونقطة البدء ونقطة النهاية: هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع.
وعلى المسلمين اليوم أن يفهموا الإسلام فهم الصدر الأول له وهو أصح فهم: قوة خالقة من وراء الإنسان والإنسان مستخلف في الأرض عن الله الخالق مسئولية، وجزاء وتعاليم أخلاقية تطبع الحياة والحركة والمجتمع. الإنسان فرد ولكنه جزء من المجتمع.
ولا يزال الجسم الإسلامي يرفض العضو الغريب ولا يزال الكيان الإنساني يرفض الجسم الغرب.
العقيدة وليست اللغة هي علامة بقاء الجماعة فإذا زالت العقيدة زالت الجماعة وانحلت وانقرض وجودها.
كان التأويل من أخطر الأسلحة التي استعملت النصوص تفسيراً يخرجها من مدلولاتها الأصلية إلى مدلولات منحرفة ولقد حذر القرآن من هذا الخطر.
ثانياً: نحن ندرس الفلسفة ولكن نعتقد أن الفكر الفلسفي ليس هو الفكر الإسلامي ونؤمن بأن الفكر الإسلامي قرآني المصدر.
نحن لا تهزنا صور البريق وخاصة براعة البيان إلا إذا كان صاحبه يصدر عن منطلق القرآن وهدي الإيمان ويخشى الله ويبتغيه.
وقد يكون هناك نظريات لامعة تخدع العقل أو تعجب البسطاء وهذه نحذرها لأنها ليست إلا من هوى النفس ومطامع الذات.
ثالثاً: قطع الإسلام الامتداد الفكري والثقافي بين ما قبل الإسلام وبعده: قطعه عن العرب أولاً ثم عن كل مكان ذهب إليه وقد ذهب إلى قلب آسيا وأفريقيا فنزعها تماماً من عبودية ألف سنة لليونان والرومان ثم قطع امتداد العبودية الفرعونية والفارسية والقيصرية للإنسان وقطع امتداد الوثنية في العالم كله وأطلق العقل البشري من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد ورفعه إلى اعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة.
إن الثقافة التي قدمها اليونان والرومان والتي استمرت ألف سنة قبل أن يجيء الإسلام قد تلاشت تماماً بعد أقل من قرن من دخول الإسلام وقام على الزمن حقيقة واقعة هي الانقطاع الحضاري.
عندما تشتد المحن والأزمات على المسلمين أن يعودوا إلى المنابع الأولى وأن يلتمسوا أصول الإسلام قبل ظهور الخلاف من أصوله القرآنية وأن تؤمن بأن كل ما انحدر إلينا من الماضي ليس إسلاماً كله فكثير منه وضعه شعوبيون وفلاسفة وملاحدة وأن بين الحق والباطل هوى النفس والظن فإذا تغلب الهوى استخدم العقل لتبرير الفاسد من الأمر والتمس الرخص وفارق العزائم وآثر السلامة على المعاناة.
رابعاً: ليس الإسلام ديناً روحياً ولا مذهباً مادياً، ولكنه يجمع بين المعنويات والماديات في تناسق عجيب. وهو حين يرفض روح النسك بمفهوم الرهبانية واعتزال الحياة يرفض في نفس الوقت روح التحلل والإباحية والانطلاق بغير قيود ويقيم نظام الحياة في المجتمع في إطار من الضوابط والحدود يحول بينها وبين الارتطام والانهار.
خامساً: طبع الإسلام حياة العرب والمسلمين في الماضي ولا يزال يطبعها وسيظل يطبعها إلى مئات السنين ولذلك فإن كل حركة فكرية أو اجتماعية في التاريخ الحديث تتجاهل هذا الواقع البديهي فهي تتجاهل الإطار الطبيعي الذي يجب أن ينشأ ضمنه والأساس العملي الذي يجب أن تستند إليه، إنه يجب أن يكون في داخل الإسلام لا خارجه.
سادساً: جاء الإسلام ظاهرة مستقلة عن فعل البيئة. وكذلك جاءت النبوات فهي لم تخضع للتفسير المادي للتاريخ ولم تكن ذات علاقة بردود فعل لظروف الحضارات أو أحوال الأمم (ويخطئ من يقول أن الإسلام جاء بعد أن ضعفت الروم والفرس) أو أنه جاء نتيجة انقلاب في نظم الانتاج أو انبثاقاً من واقع اقتصادي.
ولا يمكن تفسير حروب الإسلام وفتوحه تفسيراً اقتصادياً أو القول بأنها كانت من أجل الفقر أو رغبة في الحصول على المغانم.(/3)
لقد أسقط الإسلام منطق التفسير المادي للتاريخ الذي يحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في نظام الانتاج وعلاقاته.
لقد جاء الإسلام من البداية مقرراً المساواة في الغرض وضمان حد الكفاية للفرد وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع.
سابعاً: ليست هناك صلة بين المذاهب الاجتماعية والحقائق العلمية: الحقائق العلمية لا تثبت إلا في المعامل أما المذاهب الاجتماعية فهي نظريات من صنع عقول أو تخطئ وتصيب.
ثامناً: لقد كان الإسلام عاملاً أساسياً في كل حركات التحرر التي قامت بها الشعوب المستعبدة في عصرنا وقد انطلقت النضالات الوطنية من تحت رأيه الجهاد في سبيل الوطن وكان الإسلام في هذه النضالات رمزاً للمقاومة الروحية والثقافية ضد الاحتلال والاستعباد.
تاسعاً: لقد انحسرت تلك الموجة الضالة التي حاولت أن تلتقط النصوص من السنة أو التراث لدعم وجهة نظر الغزو الثقافي.. وتبين أن كثيراً من النصوص التي أريد بها تأييد الديمقراطية أو الاشتراكية أو تحديد النسل ليست صحيحة.
عاشراً: فليحذر المسلمون اليوم وهم على الطريق لامتلاك أدوات الحضارة المادية وتراثها التكنولوجي والعلمي والميكانيكي أن تستوعبهم هذه الحضارة او تحتويهم في إطار الفكر الغربي الانشطاري للعناصر وعليهم أن يبدأوا من نقطة التوحيد والإيمان بالإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
حادي عشر: إن بدايات النصر ومطالع الفجر يجب أن لا تخدع المثقفين وتخلق فيهم طمأنينة زائفة مستسلمة أو تصرفهم عن المثابرة والإصرار على تأكيد الخط الرباني الصحيح وتوسيد الطريق القرآني الأصيل وتثبيت الخطأ على الطريق المستقيم إلى الغاية الكبرى.
ثاني عشر: بالرغم من كل الضربات التي وجهت للمسلمين خلال القرن الرابع عشر فإن عددهم قد تضعفت إلى أن بلغ المليار على امتداد الكرة الأرضية كلها.
لقد تأخرت التجربة الإسلامية لتستعلن بعد أن فشلت كل التجارب يئس المصلحون العلمانيون.
ثالث عشر: لقد أصبح المسلمون يملكون الطاقة والثروة والتفوق البشري وهم على أبواب استيعاب تكنولوجيا العلم بحيث يستطيعون استغلال مساحات واسعة من الأراضي وقدرات هائلة لم تستغل بعد، لقد جاء دور عالم الإسلام بعد أن نضبت آبار الغرب وثرواته ومصانعه التي عملت بخامات المسلمين أربعة قرون أو يزيد، وسوف تكون حضارة الإسلام متميزة بطابع العدل والرحمة والإخاء الإنساني، إن المسلمين اليوم ينتقلون من عصر اليقظة إلى عصر النهضة مروراً بمرحلة الرشد والأصالة والحفاظ على الشخصية والتماس المنابع.
رابع عشر: لا نقول قدمت أفغانستان: الفارابي وأين سينا أو قدمت فارس: الغزالي وأبو حنيفة: فالحقيقة أن الإسلام هو الذي قدمهما. وعندما يتحدث الكتاب عن الفوارق بين العقليات الفرنسية والإنجليزية والألمانية بينما هي مسيحية الأصل نجد أن للمسلمين عقلية واحدة موحدة في بلاد المسلمين جميعاً تشهد أصولها من التوحيد وجماع الروح والمادة.
خامس عشر: في مجال الدعوة إلى الحوار يجب الحذر فإن المسألة مرحلية والرأسمالية هي المسيحية. وإنهم يأخذون المسلمين ليكونوا (ردياً) للمسيحية في محاربة الشيوعية. والمعروف أن عداء المسلمين عداء قديم. ولكنها محاولة للاستفادة من الإسلام لخدمة الرأسمالية.
سادس عشر: أربع شخصيات ليست هي شخصيتنا الحقيقية:
المصرية الفرعونة، العربية قبل الإسلام، اليونانية، الأوروبية الحديثة.
سابع عشر: من الخطأ وصف الإسلام بأنه ثورة، ذلك أن الإسلام إصلاحاً لبيئة أو لعصر ولا جاء رداً على ظروف اجتماعية في القرن السابع الميلادي وليس مذهباً ولا نظرية ولكنه رسالة السماء الخالدة التي تختلف عن الأيديولوجيات والفكر البشري.
ثامن عشر: المفهوم النقي للإسلام، القرآني المصدر..
استقامة الفكر مع استقامة الخلق وطهارة الباطن مع طهارة الظاهر ونقاء الوجه مع نقاء السريرة.
هذه الشخصية التي لا تطمح إلى شيء من متاع الدنيا وعاشت فقيرة وكانت تستطيع لو أرادت أن تحصل على الكثير ولقد عرض عليها الإغراء فأبت ورغبت فيما عند الله.
تاسع عشر: فهم الغربيون الإسلام منذ وقت مبكر، فهما أشد عمقاً من فهمنا فهموه على أنه منهج حياة ونظام مجتمع، ومن ذلك قول جوردون تشايلنن (في كتابه ماذا حدث في التاريخ) كثير من الناس يعرفون الإسلام كدين من الأديان ولكن قلما يفهمه كحركة من الحركات ولذلك يمكننا أن نختصر هذه الحقيقة في العبارة الآتية: الإسلام دين عجيب بين أديان العالم فهو يجمع بين الدنيا والدين.(/4)
حقائق لا ينبغي أن تغيب
محمد الغزالي
هل اقترب المسلمون من القاع خلال تاريخهم الطويل مثلما اقتربوا منه في هذه الأيام العجاف؟ إن تخلفهم المادي والأدبي بعيد المدى، وأعداءهم محدقون بهمفي ميادين شتى، ولا يزالون يدفعون بالراح من يشير إليهم بالرماح.!!
أرسلت نظرة عجلى إلى الماضي ثم قلت: ليست هذه المرة الأولى لهزائمهم الكبيرة، ففي القرن السابع الهجري كان كل شيء يؤذن بزوال دين محمد عليهالصلاة والسلام كما يقول
"فيلب حتي" في كتابه تاريخ العرب، فقد جاء الصليبيون من أوربا جحافل لا آخر لها واستطاعوا اقتحام عواصم عربية كبيرة،وفكروا في الهبوط إلى شمال الحجاز ليبلغوا القبر النبوي وفي الوقت نفسه اجتاح المغول شرق العالم الإسلامي، ودمروا المدن العظام، ولم يبق إلا أن تنطبق ذراعا الكماشة حتى يمسي العالم الإسلامي كله في خبر كان.
لا إنكار على مجتهد ولا مُختَلف فيه
علي الحمادي
هذه القاعدة ذكرها علماؤنا من سلف هذه الأمة لما فهموا روح وأدركوا أن هذه الأمة لا يمكن أن يستقيم أمرها وأن تبقي أمة واحدة بعيدة عن النزاع والشقاق إلا بإدراك هذه القاعدة.
تقليص الفجوة بين المثقف وأمته
عبد الرحمن الخالدي
لسنا مع تصنيف المبدعين والعاملين في الحياة العامة إلى مثقفين وسياسيين، ذلك أن الأصل في السياسي أن تكون له أرضية فكرية ثقافية يتحرك وفقها ويرسم خططه على هديها، وإلا كانت حركته ضلالا وتيها، كما أن الأصل في المثقف أن يكون له حد أدنى من الفقه السياسي بالواقع وما يعتمل فيه من مذاهب وأفكار ومناهج، وما يشغل الناس حتى لا تكون تنظيراته وتوجيهاته في منأى عن معاناة المجتمع وانشغالاته، وبالتالي يكون كمن يقف في برج عال يتأمل غريقا دون أن يمتلك القدرة على إنقاذه. إن هذا التصنيف ليس إلا تصنيفا إجرائيا أملته
الحاجة إلى بحث سبل التقاطع والتكامل بين ركنين أساسين من أركان النهوض بالأمة العربية الإسلامية إلى مصاف الدول المتقدمة وضمان الحياة الكريمة لأفرادها.
الخلافة مسألة اجتهادية.. أولاً وأخيراً!
د.محمد عابد الجابري
الخلاف المتشعب حول مسألة الإمامة (وتعني رئاسة الأمة الإسلامية وشكل تنظيمها) دليل على أنها مسألة اجتهادية، أولا وأخيراً. وينطبق هذا على القائلين بالنص أيضاً لأنه لا يوجد بشأنها في القرآن ولا في الحديث نص ظاهر قاطع. فالنص هنا موضوع اختيار واجتهاد وتأويل.
الأفغاني : قراءة في خطوات المشروع الاصلاحي وتحديد المسؤوليات
ماجد الغرباوي
سجل لنا التاريخ اكثر من محاولة نهض بها رجال مسلمون بهدف الاصلاح والتجديد، كانت قد سبقت حركة السيد جمال الدين الأسد آبادي (الافغاني)، وكانت لها آثار ايجابية متفاوتة، الا ان ما حدث على يد السيد على هذا الصعيد يبقى نقطة تحول في تاريخ الشرق بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، فخطواته كانت في اطار مشروع اصلاحي نهضوي واسع وجاد يستهدف احياء الشخصية الاسلامية واعادة بنائها عبر اصلاح الفكر والمقولات والرؤى التي اصابتها تشوهات كثيرة بفعل عوامل متعددة، أودت بها الى الانحطاط والتبعية، حتى اقصي
الفرد المسلم وغادر موقعه الحضاري الفاعل، وتخلى عن مسؤوليته تجاه امته ودينه، وتهمش دوره في صناعة التاريخ، وعجز عن بناء مستقبل طموح يتناسب وحجم المبادئ والقيم التي آمن بها، فجاء السيد جمال الدين ليعيد لتلك الشخصية المستلية والمقموعة في داخلها والمحاصرة من قبل الاستعمار والاستبداد، قدرتها على اتخاذ المواقف المناسبة ومواجهة الاحداث بعزة وارادة عاليتين.
وفعلاً استطاع ان ينفخ في الامة روح اليقظة والعزيمة، حتى حطمت ما كُبِلت به من اغلال وانتفضت بشدة بوجه التحديات المحيطة بها.
رمضان وتأسيس التنوير الإسلامي
د.محمد عمارة
في القرآن الكريم، يأتي تعريف شهر رمضان بأنه (الذي أنزل فيه القرآن)..وليس بأنه "شهر الصيام".. بل إن السبب في اختيار هذا الشهر ـ وهو ليس من الأشهر الحرم ـ ليكون ميقاتا لهذا الركن من أركان الإسلام ـ فريضة الصيام ـ هو نزول القرآن الكريم فيه.. فكأنه الاحتفال الديني ـ الجماعي ـ باللحظة التي نزل فيها الروح الأمين ـ جبريل عليه السلام ـ على قلب نبي الإسلام ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ببواكير الوحي والتنزيل
(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم
(
فصل المقال فيما بين التصوف والسياسة من اتصال
محمد يتيم
إذا كان من المفهوم منهجيا التمييز بين الشريعة والحقيقة باعتبارهما مجالا لبحثين متخصصين أملى ظهورهما تطور العلوم الإسلامية والحاجة المتزايدة إلى التخصص، فإن من الأخطاء التاريخية هو تطور بعضهما في انفصال عن البعض الآخر بل أحيانا في نزاع وتشاكس بينهما. وقليلة هي تلك اللحظات التي التقى فيها طلب الحقيقة بتحقيق حدود الشريعة واستنباط أحكام هذه الأخيرة بالوقوف عند مقاصدها التربوية.(/1)
لكن التاريخ يشهد رغم ذلك أن التصوف في صورته السنية الجنيدية قد سعى إلى ردم هذه الهوة بين المطلبين إذ زاوج بين مفهوم الرباط الروحي التربوي''ومفهوم ''الرباط السياسي'' أي الانخراط في هموم الأمة وحماية الثغور والسير في مصالح الخلق والوطن .
من يرفع حالة الجمود عن الحراك السلمي؟
خالد حسن
هل تعي القوى السياسية والتيارات والتوجهات الإصلاحية أن الإنسان لعربي لفرط شعوره بالضعف والهوان، أصبح يستبعد أي أهمية أو قيمة أو أثر يذكر لرأيه في واقع الحياة؟.
إنه ما لم يتفاعل هذا الإنسان من خلال التجمعات أو الحركة الشعبية مع القضايا والاهتمامات الملحة ويعيش أجواء التلاحم والتدافع والاحتكاك الإيجابي عبر الفعل السلمي الاجتماعي فإنه سيظل حبيس حالة الاكتئاب والاحتقان، أي وعي هذا الذي يتشكل فقط من خلال تراكمات التجريد والتنظير عن بعد وهيمنة صناعة الكلام وطغيان التخزين دون تصريف؟.
رفع الظلم مدخل لمكافحة الإرهاب
فهمي هويدي
أسهل شيء أن نندد بالإرهاب وأهله، أما الصعب حقا فهو أن نتحرى مصادره ونزيل أسبابه. أدري أن إدانة الإرهاب ضرورية للغاية، لكنها بالمقارنة تغدو "جهادا اصغر". أما الجهاد الأكبر الذي ينبغي أن تستنفر لأجله عزائم الرجال وتستدعى شجاعتهم، فهو التصدي للظلم الذي يستنبت الإرهاب ويغذيه. لذلك، فليتنا لا نقف حين نتصدى للأمر عند إدانة الإرهاب وحده، وإنما نضم إليه - بل قبله -إدانة الظلم الذي ابتلينا به.
أدعوكم إلى العصيان
طارق البشرى
من الملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد التضييق على خصومهم السياسيين، وزاد ميلهم لاستخدام العنف مع الخصوم. وأن شخصنة الدولة هى آخر درجات ضيق نطاق المسيطرين على الدولة، ذلك أن الشخصنة تكون القيادة فيها قد آلت إلى أفراد معدودين، لم يعد الأمر فى يد شريحة طبقية أو طائفية أو قبلية أو غير ذلك، إنما صارت إلى أفراد، وهنا تضيق المصلحة المحمية من الدولة لأنها تكون اقتصرت على مصالح أفراد.
...(/2)
حقاً.. إنّ شانئك هو الأبتر!
بدرية العبد الرحمن
أعلم كم أرهقْتُكم بالكتابة حول الأزمة الإسلامية الدنمركية.. وأعلم بالمقابل أنها حديث الساعة الذي لايكاد يخلو مطبوعة ولا منتدى إنترنت منه..لدرجة قد (ملّ) الأغلب من الحديث عنها وحولها..
أنا شخصياً لا أريد الحديث عن شيء آخر غير الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم... ليس فقط لأنه موضوع جاهز للكسالى أمثالي..ولكن أيضاً لأنه حدث (متواصل) قد فتح شهيتي للثرثرة والتعليق والتفكير، كما لم تكن مفتوحة من قبل..
البارحة فقط كنت أقرأ خبراً مفرحاً ومبهجاً نشره موقع (إسلام أون لاين) حول موجة استنكار لإهانة الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام ..لا تبدأ هذه المرة من دولنا الإسلامية، وإنما من ممثلي الكنائس المسيحية على اختلافها في العالم أجمع...ليقولوا: إن ماحصل ضد الإسلام لم يكن إلا وصمة عار في جبين الشانئين والمتعصبين..
فقد أصدر المجلس الاوروبي لزعماء الأديان بياناً (رسمياً) عبّر فيه عن استيائه مما حصل جاء فيه: "ونشجب إساءة استخدام حرية التعبير لسبّ كل ما هو مقدس لدى المؤمنين.. إن سلسلة الرسومات الهجومية على النبي محمد هي إهانة بالغة لحوالي (1.3) مليار مسلم.. نحن نسلم بحق حرية التعبير كركيزة أساسية للديموقراطية، وحقوق الإنسان دون مثل هذه الإساءات".
وأبلغ منه ما نقله الموقع عن نائب بطريرك الكاثوليك في مصر (يوحنا قلته) قوله: "إن مسيحيي الشرق يعرفون جيدًا حجم ومكانة الرسول الكريم". وأكد على أن الرسومات المسيئة للرسول هي إهانة وُجّهت للمسيحيين في العالم وليس للمسلمين فقط، مشيرًا إلى وجود تيار إلحادي في الغرب "يدعو إلى قيام حضارته بسقوط المقدسات وإهانة الأديان".
إضافة إلى عاصفة من الاحتجاجات والبيانات وقّع عليها رجال الدين المسيحي في نابلس وتركيا.. تثير ليس فقط إعجابنا وحماسنا للروح النزيهة والشريفة التي دفعتهم لمثل هذا الموقف النبيل... ولكن تثير مزيداً من التساؤلات حول توقّف كثير من (ربعنا) المسلمين عند مثل هذه الحادثة وحديثهم عنها بأنها واقعة يجب ألاّ تُعطى أكبر من حجمها، وألاّ يتعامل معها المسلمون بهذه الحساسية!!
المسألة حين ترى (مسلماً) يتعامل مع حادثة استفزاز للحميّة الدينية بهذا القدر من اللامبالاة فإنك تدرك وجود خلل مؤسف في تصوّر بعض المسلمين لقيم الحرية وقيم العالم الجديد..
لست بحاجة لتكرار ما تحدّثت عنه في مقالات سابقة من أن اللادينيّة هي ما يمكن أن يفسد علينا صفو عالمنا القادم.. وأن البهتان الذي تقوم به حين تتعدى على المقدّسات أمر سيجر ويلات لاطاقة لنا بها..
اللادينية حين تتوشح رداء عربياً كما في بعض سخافات القوم هنا وهناك، وحين تريد أن تستحيل إلى حركة سياسية تستبعد الدين من أجندتها، وتريد أن تتحرر من الدين ومن تخلّفه وويلاته التي جرها على الشعوب (زعمت)..
حين تفعل اللادينية ذلك فإنها تصبح أمراً يستدر السخرية بشكل لايُطاق..
ليس فقط لأن الشعوب العربية والإسلامية شعوب متدينة بالفطرة، ولايمكن تخيّلها بمعزل عن دين الله تعالى الذي ارتضاه لها...ولكن أيضاً لأن وجود اللادينيين في الأغلب مرتبط ببرنامج كوميدي متكوّن من التهكّم والهجوم على المقدّسات والتشكيك اللاواعي في جذور المقدّس في العقل المسلم...
أي إنه موقف حاقد...أو مهووس يريد الظهور والتمرّد بطريقة مفلسة..والإفلاس بهذا الشكل موقف يستدر الشفقة...ليس موقفاً فكرياً معتدلاً يستحق الاحترام..
إن هذه الوقفة التي يقفها المسيحيون معنا هي التي لابد أن يفقه اللادينيون منها أن الخلفية الدينية في عقل كل الشعوب (والإسلامية منها خاصة) أمر لايمكن تجاهله..وأن فطرة الله التي فطر الناس عليها ليست جيناً وراثياً يمكن تعديله في مختبر علمي ملحد..!!
أمر آخر يمكننا قراءته وهو كيف أمكن للآخر المسيحي الذي طالما ارتبط تعصّبه (الديني الصريح) في عقل المسلم بملايين الضحايا بامتداد تاريخنا الإسلامي كان آخرها في حرب البلقان الطويلة ..كيف أمكنه أن يكون نزيهاً ومتسامحاً في النهاية ليعلن موقفاً فكرياً استثنائياً جداً وواضحاً؟!
لم يكن الأمر صعباً هذه المرة أن يعلنوا مبدأهم حول الاحترام وحول التعايش...للدرجة التي تضمن إحدى البيانات التعبير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه (نبي الإسلام)..
جاء في البيان الذي أصدره ممثلو ست كنائس رئيسة في تركيا: "كأبناء النبي إبراهيم، نشجب عدم احترام محمد نبي الإسلام الذي نحبه ونتعاون معه، ونحن نصلي مع إخواننا المسلمين ليحكم الحب الإلهي الأرض".
هل ستكون حملة البيانات النزيهة هذه المرة بداية لعهد جديد يبدؤه المسلمون مع المسيحيين، وموقفاً جديداً تماماً هو نفسه موقف: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولانشرك به شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله...)[آل عمران:64]؟(/1)
هل سيبدأ السلام والحوار الديني..يبدؤه المسلمون من داخلهم في طوائفهم المتعددة ...يبدؤونه مع الآخرين لتكون كلمة الله هي العليا..؟ هل ستبدأ حملة للسلام والتحاور الديني أخيراً من أزمة أثارها الشانئ الأبتر (اللاديني) ليؤدي إلى آخر ماكان يتمناه؟ وهو حوار ديني متسامح؟
بأبي أنت وأمي يارسول الله...أرادوا أن ينتقصوك ويزدروا دينك وإيمانك، فلم يزد ذلك أمتك إلا رشداً..!(/2)
حقوق أهل العلم على الأمة
د. الشريف حاتم بن عارف العوني(*) 18/6/1425
04/08/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد:
فإن الحديث عن حقوق أهل العلم وعن واجب الأمة تجاههم حديثٌ جليل؛ لأنه حديثٌ عن أحد أهمّ الحقوق وأعظم الواجبات، بل هو حديث عن عزّة أمّةٍ ورفعة شأنها، أو عن ذلّتها وهَوَانِ أمرها، بل عن بقائها أو زوالها.
ولكي لا يُظن بهذا الكلام أني أبالغ، فلنأخذ الحديث من آخره، من أن الحديث عن حقوق أهل العلم وعن واجب الأمة تجاههم هو حديثٌ عن بقاء الأمة أو زوالها. فهل يشك عاقلٌ في أنّ العلمَ الصحيحَ هو والحق لفظان مترادفان، فلا يكون العلم علماً صحيحاً إلا وهو حق، وعليه: فالعلم هو الحق، وأما الباطل فإنه هو الجهل، ثم هل يشك عاقلٌ أن الحق هو الثابت الباقي، وأن الباطل هو الزائل الفاني، كما قال تعالى: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً"[الإسراء:81]، إذن فالعلم (الذي هو الحق) به يكون الثبات والبقاء، والجهل الذي هو الباطل، به يكون الزوال والفناء، ولا شك أن العلم والجهل وصفان لا قوامَ لهما بذاتهما، إنما قوامهما بمن يتّصف بهما، فلا علم إلا بعالم، كما أنه لا جهل إلا بجاهل، ومعنى ذلك: أنّ العلماء الذين حملوا الحقّ، إذا علّموه ونشروه، فقد علّموا الحق ونشروه، فكان ذلك إشاعةً للحقّ في الأمّة، ذلك الحق الذي هو الثبات والبقاء لها، وأمّا إذا أُضيعَ علمُ العلماء، فاستبدلت الأمةُ الجهل بالعلم، أي الباطل بالحق، فقد قضت على نفسها بالزوال والفناء.
أرأيت؟! كيف كان الحديث عن حقوق أهل العلم على الأُمّة هو حديثنا عن بقائها أو زوالهما؟!.
أما وقد تَبَيَّنْتَ صحّةَ ذلك، فلا حاجةَ بعده إلى أن أبيِّنَ لك أن ذلك الحديث هو حديثٌ أيضًا عن عزّة الأمة ورفعة شأنها، أو عن ذلتها وهوان أمرها؛ لأنّ العزّة والرفعة لا تكون بغير الثبات والبقاء؛ ولأنّ الذلّة والهوان هما الزوال والفناء! أو (إن لم تّعِ ما الذلّ والهوان) فهما سبيلا الزوال والفناء!.
إذن فالحديث عن حقوق أهل العلم على الأمّة هو حديثٌ (في الحقيقة) عن حقوق الأمّة على الأُمّة، فالأمّة بحفظ وأداء حقوق علمائها تقوم بما يحفظ لها بقاءها وثباتها، ويؤدّي عنها واجبَ عزّتها ورفعة شأنها، ونحن عندما نتحدّث عن حقوق العلماء على الأمّة، إنما نتحدّث عمّا يعود بأعظم النفع والخير على الأُمّة نفسها. فليس أداء تلك الحقوق مُكوسًّا وضرائب ينتفع بها العلماء وحدهم، ولا هي تفضُّلٌ وتَبرُّعٌ من الأُمّة لعلمائها، بل هي قواعدُ العز والتمكين للأمّة، وأُسُسُ التقدُّم والرُّقيّ، وأصول الحضارة والعلم، فأوّل منتفعٍ بأداء حقوق العلماء هو المؤدِّي لها، وأوّل خاسر هو المضيّع لها. من هنا كان الحديث عن حقوق أهل العلم حديثاً جليلاً! ومن هنا أيضاً نعلم أنّ الحرص على أداء حقوق أهل العلم ينبغي أن يكون نابعاً من حرص الأمة على بقائها وعزّتها، لا أن يكون نابعاً فقط من الشعور بواجب الشكر لمن أحسنَ إليها (وإن كان هذا حسناً)، ولا أن يكون نابعاً من الاعتراف بالفضل لذوي الفضل (وإن كان هذا جميلاً)، ولا من غير ذلك وحده.. بل لابُدَّ من أن نستشعر ونحن نؤدِّي حقَّ العالم أنّنا بأدائه نؤدِّي حقَّ أنفسنا، وأننا نحن أول من سيجني الفائدة الكبرى من هذا الأداء لحق العالم.
فإذا ما أردنا بعد ذلك أن نذكّر ببعض حقوق أهل العلم، فإنني أبدأ بحقّ يؤسفني أن أبدأ به، وهو أن أول حقّ العالم على أمّتَّه هو حقّ المسلم على المسلم! نعم.. لقد بلغ ببعض الأُمّة، بل ببعض خواصّ الأُمّة، أن ضيّعوا من حقوق العلماء حتى حقَّهم في الأخوّة الإسلاميّة، فظلموهم وخذلوهم وقت حاجتهم إليهم، وأسلموهم إلى أعدائهم، واستباحوا غيبتهم بالشتم والوصف القبيح، وأساؤوا فيهم الظنون!! مع أن أضدادَ ذلك كلّه هو من حقّ المسلم على المسلم!! فأول حق العالم على أُمّته المسلمة أن يُوفُّوه حقَّه الإسلامي العام، وأن يُنزلوه منزلة بقية المسلمين، بل العدل يقول: إن حقَّ العالم من ذلك الحقّ العام أمكن، وإثمَ الإخلال به أكبر، وقُبْحَ التقصير فيه أشدّ؛ لأن حقَّه لا يقتصر عليه(أولاً)؛ ولأنَّ حاجة الناس إلى القيام به أشد (ثانيًا).
ثم ثاني حقٍّ ينبغي أن يؤدَّى للعالم: أن يُقَرَّ له بالتقدُّمِ والتميُّزِ على غيره من الناس في العلم الذي تقدَّمَ وتميَّزَ به، بل إن هذا الإقرار هو باب الوفاء للعالم بحقِّه، وبغيره لن يُعطى العالمُ شيئًا من حقوقه؛ لأنّ هذا الإقرار يستلزمُ عند كل العقلاء قدرًا من التقديم والتقدير بحسب ذلك التقدُّمِ والتميُّزِ؛ ولأنّ عدم الإقرار به لن يدع للعالم عند الجاحد لتقدّمه وتميُّزه أيَّ داعٍ للتقديم والتقدير.(/1)
ولذلك فإنه من الضروري في هذا الباب أن يكون عند الناس إقرارٌ بتقدُّمِ العلماء عليهم وتميُّزِهم عنهم، وإلا فعلينا أن نطوي صفحة الحديث عن حقوق العلماء على أمتهم.
وهذا ينبهنا إلى أنّ السعي إلى تحقيق هذا الإقرار من الأُمّة لعلمائها، والبحث في أسباب تخلُّفِه عند كثيرين منها، والتأمُّلَ في دواعي قصوره عند أكثرها أَوْلى ما يجب التّهمُّمُ به، وهو الخطوة الأولى لأن تعرف الأُمّة حقوق علمائها، لتعرف بعد ذلك سبيلَ بقائها وعزتها ورفعة شأنها.
ولا شك أنه قبل ذكر علاج ظاهرةٍ ما، أنه لابُدّ من معرفة أسبابها، فما هي أسباب هذه الظاهرة؟ وهي عدم الاعتراف لعلماء الشريعة بتقدُّمهم وتَميُّزهم في علم الشريعة.
إن هذا الموضوع لموضوعٌ حقيقٌ بطول النظر والتأمّل، ويستحقّ أخذ آراء العلماء والباحثين فيه؛ لأهمّيته، ولتعدُّد أسبابه وكثرتها في ظنِّي. غير أني أُنبِّه هنا إلى بعض الأسباب، والتي منها: ما هو شخصي نفسي لا يعمُّ كلَّ من اتصف بتلك الظاهرة؛ ومنها ما هو سببٌ عامٌّ يشمل جميع أو غالب المتّصفين بها، فمن تلك الأسباب:
أولاً: الغرور والتعالمُ: وهو داءٌ خطير، يمنع من التعلُّم؛ لأنه يُوهِمُ صاحبَه بأنه ليس في حاجةٍ إلى عِلْم غيره من العلماء، ويكفي هذا الداء سوءًا أنه لا يرضى أحدٌ أن يوصفَ به، ولا الواقع فيه. ولذلك فإن من خطورته أن المصاب به لا يشعر أنه مصابٌ به، وإلا لو شعر بمُصابه به لسعى في الاستشفاء منه. وهذا يعني أن علاج هذا الداء يبدأ بإشعار صاحبه بنقصه وقصوره وقلّة علمه، ولذلك طرائقه التي لا تخفى على الحكيم، والتي تختلف من شخص إلى آخر.
ويكثر هذا الداء في عصرنا بين طبقاتٍ مختلفةٍ من الناس، وأكثرهم ضَراوةً فيه صنفان منهم:
- مُثَقِّفون وعلماء في غير العلوم الشرعيّة: ظنّوا أن علمهم الذي تعلّموه، وذكاءهم الذي قادهم إلى التفوق في علومهم (ربّما) = كافٍ لأن يزاحموا علماء الشريعة علمهم الذي تخصّصوا فيه، ناسين أو متناسين أن الواحد منهم لا يحق له أن يزاحم علماء كل العلوم التي لم يتخصّصوا فيها، فلِمَ جعلوا من علم الشريعة وحده حمىً مستباحاً يَلجُه من شاء متى شاء؟!.
- طلبة العلم الشرعي الذين لم يتأدّبوا بأدب العلم الذي تعلّموا طرفاً منه: وهؤلاء غالباً إنما داؤهم الأكبر هو طلب العلم للدنيا: للمال، أو الجاه، فدواؤهم هو الإخلاص! فإذا أخلصوا في الطلب، ظهرت آثار العلم عليهم، والتي من أبرزها التواضع وهضم النفس. وما أبعد أهل الإخلاص عن الغرور!.
ثانياً: الجهل بحقيقة العلوم الشرعيّة، وأنها علومٌ عميقةٌ في غاية العمق، بل هي أعمق العلوم على الإطلاق، ولذلك اختصَّ اللهُ –تعالى- بها أكمل الخلق وأذكى الناس، وأعقل البشر، وهم أنبياؤه ورُسُلُه، وكان ممّن اختصّه الله –تعالى- بعلوم شرعه خاتمُ رُسله، وإمامُ أنبيائه، وسيدُ ولد آدم: محمدٌ –صلى الله عليه وسلم-، الذي كان أعلمَ الناس بالله تعالى وبأمره – عز وجل-، ومع عظيم علم نبيّنا صلى الله عليه وسلم بشرع ربّه عز وجل، فقد أُمر بالضراعةِ إلى ربّه – سبحانه- أن يزيده منه علماً، فقال تعالى: "وقل ربِّ زدني علماً"! فأي علم أعمق من علم خصَّ الله –تعالى- به مصطفاه من خلقه، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، ثم مع عظيم علمه به يأمره عز وجل بطلب الزيادة منه!. ومع عُمق علوم الشريعة هذا العمق العظيم نجد الناس متهافتين في الخوض فيها، جهلًا منهم بعمقها. ولذلك فإنك ترى الناس لا يقبلون من غير الطبيب أن يمارس مهنة الطب، ولا يقبلون من غير المهندس أن يمارس مهنة الهندسة؛ لأنّ هذين العلمين عندهم علمان تخصُّصيّان، لا يتقنهما إلا من تخصَّص فيهما، وهكذا بقية العلوم الكونيّة، فإذا جاؤوا للعلوم الشرعيّة، سمحوا لأنفسهم أو لغيرهم، ممن لم يتخصّص في دراستها على يدي أهلها، بأن يتكلَّم ويخوض فيها، ونحن نطالب هؤلاء أن يُنصفوا علوم الشريعة، فإن لم يعترفوا لها بأنها أعمق العلوم، مع أن هذا هو الواجب عليهم لو أنصفوا، فلا أقلّ من أن يضعوها في مصافّ التخصُّصات الأخرى، التي يُعترف لها بأنها علومٌ عميقةٌ، لا يُحسنها إلا من أفنى عمره واجتهد في تحصيلها.(/2)
ثالثاً : تعمُّد بعض أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين تشويه صورة علماء الشريعة بكل الوسائل المتاحة لهم، في وسائل الإعلام المختلفة، وفي القرارات ذات التأثير. وذلك من خلال سَعْيٍ حثيث منظَّمٍ مدروس من زمن طويل، يتناول سَعْيُهم هذا جوانب مختلفة، من تجفيف منابع العلم الشرعي، وصدِّ الناس عن تعلُّمه، وإضعاف صلة الناس بعلمائه، وانتقاص أقدار حملته بكل مكر ودهاء، فعلى المسلمين أن يعرفوا أعداءهم الحقيقيّين من الكفرة والخونةِ المنافقين، فلا يُمكنّونهم من وسائل إعلامهم، أولا يجعلون وسائلَ إعلامهم وسائلَ مأمونةً للتلقّي والتأثّر، كما أنه لا ينبغي عليهم الرضوخ للقرارات التي يتّخذها أعداؤهم وسيلةً لتحقيق أهدافهم فيهم، بل عليهم فَضْحُ خفايا تلك القرارات لعامّة المسلمين، لكي يقف الجميعُ ضدّها، ولكي لا تطويهم بخُبْثها ومكرها.
رابعاً: قلّةُ عدد علماء الشريعة حقًّا، ممّا تحقّق في المسلمين ما أخبر به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم- من أنهم اتخذوا رؤوسًا جُهالًا، فضلّوا وأضلّوا، ولا شك أن هؤلاء الرؤوس الجُهّال الذين يلبسون لباسَ أهل العلم قد أعانوا على أن لا يعرف الناسُ أهلَ العلم حقًّا، وصَدُّوا الناسَ عن علمائهم، ثم هم لجهلهم لا يجد الناسُ لهم مزيّةً يستحقّون بها الإقرار لهم بالعلم والتقدُّمِ فيه، حتى إذا رأى الناسُ عالمًا حقًّا قاسوه على الجاهل، فاختلط الحابل بالنابل، وهذا يُبيِّن عظيمَ حاجةِ الأُمّة إلى أن تعتني بالعلم الشرعي، وبالبقيّة الباقية من علمائه: لكي يكون الرؤوسُ رؤوسًا حقًّا: علماءَ ربّانين. فنحن في هذه الظروف أولى ما نكون إلى نشر العلم الشرعي، وإلى حثّ الناس على تعلّمه، وتهيئ كل السُّبُلِ الميسرة على الناس تحصيله، كما أنه يبيّن أيضًا وجوبَ تصديرهم أهل العلم وإبرازهم للناس، فإن لم يٌصدَّروا فعلى أهل العلم أن يتصدّروا، وأن يدلّوا الناس إلى الهدى والعلم الذي وهبهم الله –تعالى- إيّاه.
إن هذه الأسباب في ظنّي هي أهمّ أسباب ظاهرة عدم أو ضعف اعتراف عامّة المسلمين لعلماء الشريعة بالتقدُّم والتميّز في علم الشريعة، وهي أسبابٌ يُمكن مقاومتها، وقد ذكرت بعضَ وسائل مقاومتها آنفًا في سياق سردها السابق.
فإذا ما أقرَّ الناس للعالم بالتقدّم والتميّز، فلا يحتاج غالبهم حينها إلى تذكيرهم بواجب العالم عليهم، ولن تكون أخطاء آحادهم في التقصير في حق العالم إلا فلتةً غير مقصودة، سُرعان ما يحرص الواحد منهم على استدراكها إذا ما أدرك أنه حاد عن أداء واجبه، حيث إن الإقرار بالتقدّم والتميّز يقتضي الاحترامَ والإجلال، والتأدُّبَ في المقال والفعال، وإحسانَ الظنّ بالعالم، وتَرْكَ جداله ومُمَاراته بغير علم، وكما قال القائل:
وأكثر بَخسًا للفضيلة موقعٌ ... ...
يُجادلُ أهلَ العلم فيه جَهُولُ
هذا حقّ أهل العلم عامّةً، فكيف إذا كانوا علماءَ بالله تعالى وبأمره؟! فهؤلاء هُم أولياء الله الذين من عاداهم فقد آذنَ الله –تعالى- وبارزه بالعداوة والحرب، والذين هم ورثة الأنبياء، وسادة الأُمّة، وأدِلَّاءُ العالمين إلى سعادة الدنيا والآخرة.
هُمُ أنُجُمُ الله في الدنيا إذا طلعوا ... ...
وحُجّةُ الله في الأُخرى إذا نُشِروا
هُمُ زينةُ الناس هُمْ نورُ الوجود هُمُ ... ...
روحُ الحياة هُمُ ريحانُها العَطِرُ
هُمُ أولياءُ النُّهى تحيا العقولُ بهمْ ... ...
كالغيث يَخْضَلُّ من وَسْمِيِّهِ الشجرُ
وإنما هذه الأيامُ مزرعةٌ ... ...
الناسُ غرسٌ لها والعالِمُ الثمرُ
________________________________________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى(/3)
حقوق الأخوة1-2
للأخوة منزلة عظيمة في بناء هذا الدين ولها ثمرات كثيرة دلت عليها الآيات والأحاديث ولها حقوق وآداب وشروط منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ولأهمية ذلك ولكثرة مفسدات الأخوة والاستهانة بمكانتها ولتثبيت الأخيار الصادقين في أخوتهم وتبشيرهم بما لهم في ذلك من فوز كان هذا الدرس.
الحمد لله ، وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فسيكون الكلام عن الأخوة وحقوقها من خلال النقاط التالية:
تعريف الأخوة وأنواعها.
أساليب الشارع في تحقيق الأخوة الإسلامية.
ثمرات الأخوة.
صفات الأخ المطلوب.
الوسائل المعينة على تقوية هذه الرابطة.
حقوق الأخوة وآدابها.
مكدرات الأخوة.
تنبيه.
أولاً: تعريف الأخوة:
لغةً: تطلق على القرابة في النسب والاشتراك في الولادة القريبة من الأب أو الأم، وقد تطلق في النسب البعيد كما يقال: أخو العرب ، كما جاء في القرآن { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [الأعراف: من الآية65]. هذا هو الأصل في إطلاق الأخوة.
اصطلاحاً: يقصد بها الأخوة الإسلامية، وهي الرابطة التي تجمع بين شخصين ينتميان إلى دين الإسلام، وإن لم يكن بينهما اشتراك في أبٍ أو أم. وعلى هذا فالأخوة يمكن أن يقال أنها نوعان:
أ- الأخوة في النسب. ب- الأخوة الإسلامية
والثانية هي محور كلامنا هنا.
ثانياً: أساليب الشارع في تحقيق الأخوة:
الإخبار عن وقوع الأخوة بين المؤمنين: كما قال عز وجل: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: من الآية10] فهذا إخبار كأنه شئ معروف أنهم أخوة ، وهذا أبلغ من أن يقول كونوا أخوة.
جعل الأخوة نعمة امتن الله بها على عباده: وقال عز وجل: { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [آل عمران: من الآية103].
جعل الأخوة سبباً لحصول محبة الله عز وجل: ففي الحديث: [أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ] رواه مسلم .
وفي الحديث القدسي: [حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ] رواه مالك وأحمد.
جعل الأخوة أوثق عرى الإيمان: ففي الحديث: [ أَوْثَق عُرَى الْإِيمَان الْحُبّ فِي اللَّه وَالْبُغْض فِي اللَّه] رواه البزار .
جعل منزلة المُحِبِ بمنزلة المُحَبِ: كما في الحديث: [الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ] رواه البخاري ومسلم .
ترتيب الأجر العظيم عليها: ففي الحديث: [إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي]رواه مسلم.
جعلها وسيلة لإكتساب حلاوة الإيمان: ففي الحديث: [ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ] رواه البخاري ومسلم.
تعليق الأفضلية على شدتها:ففي الحديث: [مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي الله تَعَالَى إِلاَّ كَانَ أَفْضَلهُمَا أَشَدّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ] رواه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه وغيرهما.
جعلها وسلة لاستكمال الإيمان:كما في الحديث: [ مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ]رواه أبو داود.
جعلها وسيلة لاكتساب الإيمان وبالتالي لدخول الجنة: ففي الحديث: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ] رواه مسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
ثالثاً: ثمرات الأخوة:
للأخوة ثمرات جليلة سواء كانت مدخرة لهم في الآخرة، أو كانت معجلة لهم في الدنيا ، فمما يدخر لهم في الآخرة:
أن يكون في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: كما في الأحاديث السابقة.
الحصول على مكانة عالية في الآخرة: كما في الحديث: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ] رواه الترمذي. وهذه المكانة العالية حصلوا عليها بالمحبة في الله عز وجل.(/1)
الحصول في الآخرة على مقام أعلى مما يستحقه بعمله:كما في الحديث: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: [ وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا] قَالَ لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ] قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ . رواه البخاري ومسلم .ومن الثمرات التي تعجل له في الدنيا وهي تؤدى بدورها إلى الارتفاع الأخروي: ما يلي:
تذوق حلاوة الإيمان: كما في الحديث: [ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ] رواه البخاري ومسلم.
نيل محبة الله له: وهذه المحبة لاشك أنها تعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي؛ لأن من منافعها الدنيوية أن ينشر له القبول في الأرض ، إذا أحبه الله تعالى نشر له القبول في الأرض وتعرفون الحديث في ذلك.
اكتساب الإيمان: كما في الحديث الذي سبق: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ] رواه مسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
استكمال الإيمان: كما في الحديث: [ مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ]رواه أبو داود.
الإعانة على الطاعة: إذ أنه يجد من أخوانه من يعينه على طاعة الله ، ويكرهه في المعاصي ، وهذا لا شك يعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي.
تحسين الخلق: وذلك لأنه سيقتدي بإخوانه الصالحين الذين حسنت أخلاقهم ، وإذا حسن خلقه؛ استفاد دنيوياً وأخروياً ، يكفى أنه يحصل على احترام الناس له في الدنيا، ويحصل على مقامٍ عالٍ رفيعٍ في الآخرة.
تطبيق المفاهيم الإسلامية: والخصال الحميدة التي لا يمكن تطبيقها إلا مع جماعة ، مثل الإيثار ونحوه.
الثمرات الدنيوية مثل:
الانتفاع بالأخ في قضاء الحاجات ، والانتفاع منه بجاهه ، والانتفاع منه بماله يواسيك ، يقرضك ونحو ذلك. كذلك حصول الأنس، وانشراح الصدر، وتخفيف الآلام والهموم وذلك لأنك تخالط من لا تثقل عليك نفسه.
ما يحصل لك من الاستشارة لأخيك إذا ترددت في الأمر.
تنبيه على أربع نقاط مهمة:
يشترط في الأخوة المطلوبة أن تكون لله خالصة: أما إذا لم يتوفر هذا الشرط، فإنها حينئذ لا تكون أخوة الإسلام ، ومثل هذه العلاقة التي لا تكون لله تنقلب إلى عداوة يوم القيامة كما جاء في القرآن: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67].
الناس أصناف والإنسان يألف من يجانسه ويشاكله: وربما لا يألف شخصاً مع أنه من الصالحين ، وإن كان هذا لا يعنى أنه يكرهه، لا. ولكن يحبه على قدر ما به من إيمان، ولكن ربما لا يأنس به بمثل ما يأنس بمن هو على شاكلته ، وعليه أن يهذب هذه العاطفة بما يتوافق مع محبة الله عز وجل.
اصبر نفسك مع الأخيار، ولا تخرج عن دائرة الصالحين.
لن تجد شخصاً كاملاً : فكلنا خطَّاء، وفينا عيوب، وإذا كنت تطلب أخًا لا عيب فيه فإنك تبحث عن سراب ، ولكن سدد وقارب، وابحث عن الصديق الذي ترى أن عيوبه مغمورة في بحر حسناته، وأن هذه العيوب لا تخشى منها على نفسك.
رابعاً: صفات الأخ المطلوب: إن للأخ المؤاخي صفات لابد أن يتحلى بها ومن أهم هذه الصفات ما يلي:
أن يكون مؤمناً: لأن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ، ولذلك جاء في الحديث: [لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد والدارمي.
أن يكون ملتزماً بشرع الله:متبعاً أوامره مجتنباً لنواهيه كما قال عز وجل: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: من الآية28]. وقال سبحانه: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَي } [لقمان: من الآية15].
أن يكون عاقلاً: فالأحمق صداقته تضر أكثر مما تنفع وقديماً قبل: عدو عاقل خير من صديق أحمق.(/2)
أن يكون حسن الخلق:وذلك لأنك ستكثر معاملته ومعاشرته فربما إذا كان سيئ الخلق آذاك ولم يصبر على أخوتك ، وربما اكتسبت منه الخلق السيئ.
أن يبادلك الشعور بهذه الأخوة:ففي الحديث: [الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ] رواه مسلم، والبخاري- تعليقا- . فإذا كان يتضايق منك ولا يفرح بمقدمك ووجدت منه إعراضاً وجفاءاً فمثل هذا لا يصلح أن تؤاخيه ، هذا يكفى أن يؤاخي الأخوة الإسلامية العامة أما الأخوة الخاصة فمثل هذا لا يعنيك ولا يعينك على تحقيق الأخوة.
خامساً: الوسائل المعينة على تحقيق الأخوة:
إخباره بأنك تحبه في الله: كما في الحديث: [إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ]رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
ويبين السبب في ذلك فقال: [ إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ ُ أَخَاهُ فِي الله فَلْيُعْلِمْهُ فَإِنَّهُ أَبْقَى لِلْأُلْفَةِ وَأَثْبَتُ لِلْمَوَدَةِ] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان .
تقوية العلاقة بالله عز وجل: والسعي إلى الحصول على محبة الله عز وجل ، لأن الله إذا أحبك [نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ] رواه البخاري ومسلم. فإذا أحبك الله أحبك عباده ومنهم هذا الأخ الذي تريد أن تؤاخيه.
معرفة ثمرات الأخوة في الله: إذا عرفت ثمرات الأخوة الدنيوية والأخروية وما فيها من الخير والأجر ، سعيت إلى تحقيقها وتقويتها.
معرفة سير السلف الصالح في الأخوة:وكيف كانت أخوتهم.
مراعاة حقوق الأخوة:لأنها تزيد في الأخوة، وتبعدها عما يضرها .
سادساً: حقوق الأخوة وآدابها: الأساس الذي تقوم عليه علاقة المسلم بأخيه أن يحب له ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]رواه البخاري ومسلم . فإذا التزم المسلم مع أخيه بهذا الأساس فأنه بالتأكيد سيقوم بحقوق الأخوة كاملة . وحقوق الأخوة منها حقوق عامة يلتزم بها المسلم مع أخيه المسلم ، ومنها حقوق خاصة تضاف إلى الحقوق العامة تكون بين المتآخيين، و من هذه الحقوق والآداب:
1- الحقوق الستة المذكورة في الحديث المعروف: [ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ]رواه البخاري ومسلم.
2- اجتناب سوء الظن، والتجسس والتحسس، والتناجش، والتحاسد، والتباغض والتدابر، كما في الحديث: [إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا] رواه البخاري ومسلم.
3- اجتناب ظلمه وخذله واحتقاره: [الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ...] رواه البخاري ومسلم.
4- مصافحته إذا لقيه: [مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد. فضل عظيم ومع ذلك نفرط فيه.
5- التبسم في وجهه: [لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ]رواه مسلم.
6- عدم إظهار الشماتة فيه.
7- يوسع له في المجلس: [لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَنْ مَقْعَدِهِ يَقْعُدُ فِيهِ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا]رواه مسلم وأحمد-واللفظ له-.
8- الرد عن عرضه: [ مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه الترمذي وأحمد.
9- نداؤه بأحب الأسماء إليه: قال عمر رضى الله عنه: [[ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته ، وأن توسع له في المجلس ، وأن تناديه بأحب الأسماء إليه]].
10- إعانته ومواساته بالمال إذا احتاج إلى ذلك: وفي الحديث: [إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ] رواه البخاري ومسلم. وقال: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ] رواه مسلم .(/3)
11- السعي في حاجته والقيام بخدمته: [...وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ...] رواه البخاري ومسلم. وكان بعض السلف يشترط إذا كان مع أخيه في السفر أن يتولى هو الخدمة .
12- ألا يمن عليه بمعروف:فإذا أعانه، أو واساه بالمال، أو سعى في حاجته، أو قام بخدمته لا يمن عليه بهذا المعروف، فيبطل صدقته، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: من الآية264].
13- أن يشكره على صنيعه: إذا أعانه أخوه المسلم بمال، أو خدمه، فعليه أن يشكر له صنيعه هذا : [مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ]رواه الترمذي وأحمد.
14- زيارته لله: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ]رواه مالك وأحمد. ولابد من التأدب بآداب الزيارة مثل: اختيار الوقت المناسب ، وألا تكون الزيارة سبباً في إضاعة الوقت فيما لا يفيد وغيرها من الآداب.
15- النفقة على الإخوان، وبذل الطعام لهم إذا جاءوا لزيارته، أو اجتمعت معهم في مكان واحد: وذلك للحديث الذي فيه: [أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]رواه مسلم.
16- عدم التكلف والتكليف: إذا زارك أخوك فلا تتكلف له، ولو زرته أنت لا تكلفه ولا تطلب منه ما يكلفه بل اطلب منه عدم التكلف، ولا يعنى ذلك ألا يكرمك، فالإكرام شئ، والكلفة والتكلف شئ آخر.
17- عدم إخلاف الموعد: لو تواعدتما في ميعاد معين فاحرص على أن تأتي في الموعد ، فأن إخلافك الموعد سواء بعدم حضورك أو بحضورك متأخراً يضايق أخاك.
18- تحسين الخلق معه:بأن يكون تعاملكما مبنى على الأخلاق الحسنة، وكل منكم يصبر على الآخر، ويسود بينكما التواضع والحلم والصدق، والرفق والحياء، وطلاقة الوجه والبشاشة عند اللقاء، وغير ذلك من الأخلاق الحسنة.
19- كتمان السر وستر العيب:بحكم ملازمتكما لبعضكما لابد أن يطلعك على سر من أسراره، أو تطلع على عيب فيه ، فمن حقوق الأخوة أن تكتم سره، وتستر عيبه، وتساعده في إصلاحه.
20- الإيثار: تؤثره على نفسك قال تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: من الآية9] . تؤثره في المجلس بأن تجلسه في المكان المناسب الذي قد ترغب أنت في الجلوس فيه، تؤثره على نفسك في الأكل والشرب، وغير ذلك من أنواع الإيثار.
21- مشاركته مشاعره: تحزن لحزنه وتفرح لفرحه. إذا أصيب بمصيبة بادرت بمساعدته، ومحاولة تخفيف وقعها عليه، إذا سرَّه شئ بادرت إلى تهنئته، وإظهار الفرح والسرور بذلك.
22- ملاطفته بالكلام .
23- عدم مقاطعته إذا تكلم: بل يصغي إليه ويظهر له الاهتمام لكلامه.
24- أن يثنى عليه بما هو أهله:على ألا يكون ذلك مدحاً له في وجهه.
25- يبلغه مدح الناس وثناءهم عليه:إذا لم يؤد ذلك إلى إدخال الغرور والعجب عليه.
26- لا يبلغه ذم الناس له:لأن ذلك يوغر صدره إلا أن يكون قد ذم بعيب فيه، فيتلطف في نصحه وإصلاح ذلك العيب فيه.
27- تقديم النصيحة له: سواء قصر في واجب أو ارتكب منهياً عنه ، يقدم له النصيحة ويلتزم بآداب النصيحة .
28- طلب النصح منه:وذلك لأنك لا تبصر كل عيوبك، ولا تعرف كل ذنوبك ، فإذا طلبت منه النصح؛ بصرك بها، فعرفتها وتجنبتها. يقول الحسن: [[قد كان من قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجل الرجل، فيقول يا أخي: ما كل ذنوبي أبصر، وما كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني، وإذا رأيت شراً فانهني]]. ويقول بلال بن سعد: [[أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله، وأخبرك بعيب فيك أحب إليك وخير لك من أخٍ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً]].
29- تقليل الخلاف معه بقدر الإمكان: فإن كثرة الخلاف قد توجب البغضاء ، فإن وجد الخلاف أحياناً فلابد من التأدب بآداب الخلاف المعروفة.
30- التسامح عن الزلات التي قد تصدر من الأخ: لأن الأخ ليس معصوماً، ومن طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ، ابن السماك قال له أحدهم: غداً نتعاتب، قال: بل غداً نتغافر. ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[من صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسدَّ خلله، وعفا عن زللِه]].
31- عدم الإكثار من العتاب: لابد من العتاب بين الإخوان ، وقد استبقاك من عاتبك، لكن أن يصبح طبعاً للأخ فكلما لقى أخاه عاتبه، فهذا يورث النفرة والفرقة بين الأخوين.
32- قبول العذر: إذا اعتذر لك أخوك فاقبل عذره.(/4)
33- إعانته على ما يقربه إلى الله ويبعده عن سخطه: تعينه على أعمال الخير بعامتها ، تعينه على حضور محاضرة ترى أنه لا يرغب فيها تقول: أنا سأمر عليك وآخذك بالسيارة أو سآخذك إلى الدرس العلمي. أوتذكره بأن غداً مثلاً أول أيام البيض، وهكذا تعينه على أعمال الخير جميعاً. وكذلك تعينه في الابتعاد عما يغضب الله إذا رأيه سيرتكب ذنباً أعنته في الابتعاد عنه، وهكذا. وهذه فائدة عظيمة من فوائد الأخوة في الله.
34- الدعاء له بظهر الغيب: ففي الحديث: [مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ] رواه مسلم.
35- اجتناب مكدرات الأخوة: وهذا يجرنا إلى نتكلم عن مكدرات الأخوة بالتفصيل.
سابعاً: مكدرات الأخوة:
1- النية المشوبة بشوائب الدنيا: علينا أن نصفي أخوتنا من المزاجية وغيرها، لابد أن تكون هذه الأخوة خالصة لله عز وجل: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ...] رواه مالك وأحمد. ولتعلم أيها الأخ أن ما كان لله فهو المتصل، وما كان لغير الله فهو المنقطع .
2- الذنوب:بشكل عام ، فإن لها أثراً عظيماً في قطع الصلة ، إذا وجدت من إخوانك جفاءاً ، فذلك لذنب أحدثته.
3- الجدال والمراء:فالجدال والمراء يوحش القلوب، ويوغرها لاسيما إذا أصبح لحظ النفس لا لإظهار الحق. وفي الحديث: [أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ] رواه أبوداود. وعبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: [ما ماريت أخي أبداً لأني إن ماريته إما أن أكذبه وإما أن أغضبه].
4- المداهنة وعدم الإنكار عليه: وعدم نصيحته ، تكون بينهما مجاملة فلا هذا ينكر على أخيه، ولا يكون بينهما أمر بالمعروف، ولا الآخر يفعل ذلك.
5- الحسد: لاشك أنه مفسد للأخوة أيما إفساد، بل أنه مفسد للأعمال الصالحة.
6- التنافس على بعض الأمور: التنافس من شأنه أن يولد الغيرة، وبالتالي الحسد وإيغار الصدور، والتنافس يحدث بأن يشتركا في محاولة الوصول لهدف واحد لا يتسع إلا لأحدهما ، فلابد أن يكون الفائز أو الحاصل على الشيء واحد، فيحصل بينهما تنافس عليه مما يوغر الصدور، ويفسد الأخوة ويكدرها.
التعامل المالي بين الأخوة: إذا لم يكن هذا التعامل بالإطار الشرعي المطلوب، ولم تدخله المسامحة المطلوبة بين المسلمين فإن هذا يكدر الأخوة.
7- الأثرة وحب الذات: هذا يقود إلى عدم تطبيق حقوق الأخوة وآدابها.
8- التفاخر بالأنساب: وهذا لاشك أنه من عمل الجاهلية، وهذا إن كان يجب ألا يكون بين المسلمين عموماً، فمن باب أولى يجب ألا يكون بين الأخوة.
9- السخرية والتهكم بالآخرين حتى ولو كان عن طريق المزاح.
10- الخلطة غير الموجهة: والتي ينتج عنها ضياع الوقت.
11- الوصول لدرجة التعلق: وحينئذ تنتفي الأخوة ويحل محلها التعلق، ولكي تعرف هل الذي بينك وبينه أخوة في الله أم تعلق؟ فللتعلق علامات يعرف بها وتميزه عن غيره من أهمها: أنك تحب هذا الشخص بغض النظر عن ديانته وقوة إيمانه، يعنى زاد إيمانه أو نقص؛ حبك له كما هو لم يتغير ، ولو كان حبك له لله لتغير مع ديانته وقوة إيمانه فإذا زاد زاد الحب، وإذا نقص نقص الحب.
12- عدم مراعاة حقوق الأخوة وآدابها.
ثامناً: تنبيه:
لابد من التنبيه إلى أنه مع فضل الأخوة والترغيب فيها إلا أنه ينبغي للمسلم أن يعود نفسه على تربية نفسه بنفسه فيما إذا انفرد عن إخوانه ، لأن مفارقة الإخوان من الممكن حدوثها، واجتماعاتك معهم قد لا تدور ولذا: لابد أن تعود نفسك على أن ترفع إيمانك بنفسك فلا تكن عالة على إخوانك دائماً، بل حاول تربية نفسك، وذلك بأن تجعل لنفسك عبادات تنفرد بها كقراءة القرآن وتدبره، والنوافل عموماً من صلاة وصيام وصدقة وغيرها؛ يجعلك إن انفردت استفدت، وإن كنت مع الإخوان فأنت أيضاً في فائدة والحمد لله. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من محاضرة: حقوق الأخوة للشيخ/ عبد الرحمن العايد(/5)
حقوق الأرامل والمطلقات
د. إبراهيم بن ناصر الحمود 14/6/1427
10/07/2006
مفهوم الأرملة والمطلقة:
الأرملة مصطلح يطلق على كل امرأة مات عنها زوجها ولم تتزوج بعده مع فقرها وحاجتها، لأن لفظ أرامل يطلق أيضاً على المساكين من رجال ونساء، لكنه استخدم في النساء أكثر، لأن العرب تقول أرمل فلان إذا نفد زاده وافتقر، والمرأة إذا فقدت زوجها فقد فقدت من ينفق عليها فناسبها الوصف، وقد تكون الأرملة ذات أولاد صغار مما يزيد من عنائها فتكون أرملة وأماً لأيتام، فالعطف، والشفقة عليها أهم لأنها تحملت المسؤولية لوحدها مع عجزها وضعفها.
أما المطلقة: فهي أكثر وضوحاً ولا يخفى أمرها على أحد، لكن المطلقات أنواع حسب لفظ الطلاق، وهي كل امرأة فارقت زوجها في حياته بطلاقه لها، فهناك عامل مشترك بين المطلقة والأرملة وهو: أن كلاً منهما فارق الزوج، وهذه الفرقة حصلت إما بموت أو طلاق، لكن الفرقة بالموت هي الفرقة الكبرى لأنه لا رجعة فيها، أما الفرقة بالطلاق فقد تعود الزوجة إلى زوجها بالرجعة، أو بعقد جديد.
كما أن خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة والمروءة، ففي الحديث "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
وحري لكل من وجد قسوة في قلبه أن يعطف على يتيم ويمسح على رأسه.
ومن حقوق الأيتام بعد رعايتهم، وتربيتهم، والإشفاق عليهم، حفظ أموالهم، ومخالطتهم.
قال تعالى: "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح".
فالغاية هي إصلاح اليتيم في نفسه، وماله، وقد توعد الله أصحاب النوايا السيئة الذين يتعدون على أموال اليتامى وينكرونها، فقال جل شأنه: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا"، وقال جل شأنه: "وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً".
فاليتيم قد يكون له نصيب كبير من مال والده بعد موته فهو لصغر سنه لا يستطيع حفظه وتنميته فيطمع وليه في ماله ويعرض نفسه لهذا الوعيد الشديد، يقول السعدي -رحمه الله- (يبعث آكل مال اليتيم).
نظرة المجتمع للمطلقات:
هناك في المجتمع نظرة قاسية دونية للمطلقة كأنها ارتكبت ذنباً أو خطيئة، فهي في نظر المجتمع –غالباً-:
أ. أنها غير صالحة للتزويج، فقد فاتها قطار الحظ.
ب. أنها مصدر للمتاعب والمشاق فقدت دورها في الحياة.
ج. نظرة كره وأنانية من بنات جنسها خوفاً على أزواجهن منها.
تقول إحدى الأرامل:
مات زوجي وبعد خمس سنوات تزوجت من آخر، لم تستمر الحياة معه سوى عامين لمشكلات لا حصر لها مع زوجته الأولى، فهي تعتقد أني خطفت زوجها منها. فكنت مطلقة مما زاد في أحزاني وهمومي.
فعلى كل أرملة أن تصبر وتحتسب، فالصبر مفتاح الفرج "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً".
وكل من يستصغر المطلقة أو يحتقرها فهو مخطئ وامرؤ فيه جاهلية.
أما نظرة الإسلام للأرامل والمطلقات فهي نظرة منصفة لهن ما لغيرهن من الحقوق والواجبات، وقد وضع الإسلام التدابير الواقية من حدوث الطلاق وجعله أبغض الحلال إلى الله.
أمر الإسلام بحسن العشرة بين الزوجين وحث على التسامح والعفو، وأرشد إلى الطريقة المثلى في حال نشوز الزوج، كما حرم التلاعب بالطلاق، وأوصى بالنساء خيراً، وأباح الطلاق إذا تعذر الوفاق.
كفالة الإسلام للأيتام – ومن هو اليتيم:
الأم الأرملة التي مات زوجها ولها منه أولاد صغار فهي أم لأيتام. لأن اليتيم في عرف الشرع من مات أبوه وهو صغير دون سن البلوغ.
فإن مطلق العدالة في الإسلام حفظ الحقوق لأصحابها كما جاء في قول النبي –صلى الله عليه وسلم- "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".
واليتيم في الغالب جمع بين اليتم والمسكنة، ولن يضيع يتيم في كنف الإسلام، فهذا محمد –صلى الله عليه وسلم- نشأ يتيماً فآواه ربه ونصره كما قال سبحانه "ألم يجدك يتيماً فآوى".
فقد رغب الإسلام في كفالة اليتيم، وحسب كافل اليتيم أن يكون في معية النبي –صلى الله عليه وسلم- في الجنة كما جاء في الحديث "أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى" فحق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به، فهل هناك مكانة أومنزلة أعظم من هذه المنزلة في الجنة؟!، وهذا يدل على عظم حق اليتيم لضعفه ومعاناته بسبب فقد والده الذي يحنو عليه ويحسن تربيته، وينفق عليه، ويقوم على تعليمه وتأديبه، فهو بأمس الحاجة إلى من يعوضه عما فقده من أصحاب القلوب الرحيمة فيقوم على تربيته والإنفاق عليه، ورعايته، حتى يبلغ مبلغ الرجال.
ولقد عني القرآن الكريم بحق اليتيم ونهى عن قهره وإهماله، فقال تعالى: "فأما اليتيم فلا تقهر"، "كلا بل لا تكرمون اليتيم"، "أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم".
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "إني أُحَرِّجُ حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، وكان ابن عمر –رضي الله عنهما- لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.(/1)
فكم من أم لأيتام تعاني مشقة تربيتهم، والإنفاق عليهم، وهي لا حول لها ولا قوة، تنتظر من يأخذ بأيديهم من المحسنين ويمسح دمعتهم ويعوضهم خيراً "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً".
بل إن ديننا الإسلامي يأمرنا بتنمية مال اليتيم وحفظه له يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- "اتجروا في أموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة"، حتى إذا بلغ اليتيم وأصبح رشيداً يستطيع أن يتصرف في ماله بنفسه دفع إليه ماله وهو حقه الذي فرضه الله له كاملاً غير منقوص، يقول تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" وقال سبحانه: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" فكفالة اليتيم نوع من التكافل الاجتماعي الذي يقره الدين الإسلامي، تحقيقاً لوحدة المسلمين، وتعاطفهم، وتراحمهم، وكثيراً ما يشكو بعض الأيتام من ازدراء زملائهم لهم ومضايقتهم لهم في المنزل والشارع والمدرسة، وتعييرهم لهم بالفقر، والحاجة للناس، والضعف، والمسكنة. وهذا أسلوب خطير جداً له أثره على حياة اليتيم النفسية، وسلوكه في الحياة، فإن احتقار اليتيم وإهماله وصرف النظر عنه، يزيد من عنائه بل ربما يؤدي به إلى الجنوح، والانحراف، بسبب غياب السلطة الأبوية.
ولقد خطت المملكة –وفقها الله- خطوة مباركة حين أنشأت الجمعيات الخيرية لكفالة الأيتام التي تساند ما تقوم به وزارة العمل والشؤون الاجتماعية من جهود مباركة في هذا الجانب.
واليتيم على مستوى الأمم والشعوب بحاجة إلى رعاية، وعناية خاصة، ويد حانية، تحتضنه وتخفف من معاناته، فهذا واجب شرعي قبل أن يكون واجباً إنسانياً، فقد أورد الذهبي في ترجمة أبي علي حسان بن سعيد المنيعي المتوفى 463هـ أنه عم الآفاق بخيره وبره ومن ذلك أنه كان يكسو في الشتاء نحواً من ألف نفس.
وفي الحديث الصحيح: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" وما أحوج الأرامل، والمساكين إلى عطف المحسنين، ولنا في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يستكثر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي له حاجته، وقد وصفه عمه أبو طالب بقوله: "ثمال اليتامى عصمة الأرامل"
أي كافيهم، وناصرهم، ومانعهم عما يضرهم، كانت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة تعرف بأم المساكين، لكثرة إحسانها إليهم.
5- حق الأرملة والمطلقة في التزويج:
كما ذكرت سابقاً فإن الأرملة والمطلقة امرأة لها كامل حقوقها الشرعية تحت ظل تعاليم الإسلام السمحة ولا يجوز لأحد من الناس أن يبخسها شيئاً من حقوقها فلها الحق في أن تتزوج بعد فراغ عدتها وهذا أمر شرعه الله.
بل إن المرأة الأرملة والمطلقة تفوق غيرها في رجاحة عقلها وتجربتها في الحياة، فليس فيها ما يعيبها، فهذه زينب بنت جحش –رضي الله عنه- لما طلقها زوجها زيد بن حارثة تزوجت من هو خير منه، رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأصبحت إحدى أمهات المؤمنين، ولم يتزوج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بكراً سوى عائشة -رضي الله عنها-، وإن عزوف بعض الرجال عن الزواج بالأرامل والمطلقات ناتج عن الوضع الاجتماعي لهذه المرأة بسبب من تواجههم من بنات جنسها من نظرة قاسية تحرمها من بعض حقوقها في الحياة، كما أنه يتولد لدى المطلقة خاصة خوف من الفشل في الزواج الثاني بسبب تجربتها الأولى، ومتى قوبلت الأرملة والمطلقة بالإعراض وعدم الزواج، فإن لذلك أثره على المجتمع حين يكثر العوانس في البيوت، ولا يتزوج المطلقة والأرملة إلا من يعرف قدرها وقيمتها فهي أم ومربية وواعية ومدركة لكثير من مسؤولياتها الزوجية. وكثير من المطلقات والأرامل تزوجن وأصبحن من أفضل النساء.
ومن المطلقات من سرى إليها داء الظلم والسخرية حتى بعد زواجها الثاني فاتهمت بالأنانية، وإهمال أولادها.
ومن أحسن النية في زواجه بالمطلقة، والأرملة، فإنه يؤجر على ذلك، خاصة إذا كانت أم أولاد، واحتسب الأجر عند الله في تربية أولادها، وتعليمهم، وتنشئتهم النشأة الصالحة، كما أن في زواجه بها إنقاذاً لحياتها من الذل والهوان الذي تلاقيه كل يوم من مجتمع لا يعرف لهذه الإنسانة قدرها.
لكن بعض الأرامل ترفض من يتقدم لخطبتها بحجج واهية، إما وفاءً لزوجها، أو لئلا يتضرر أولادها بزواجها، وهذه الأعذار لا تعادل مصلحة الزواج، بل قد يكون في زواجها مصلحة لأولادها حين تجد زوجاً صالحاً يقوم على رعاية الأولاد، ويكون لهم الأب البار، وقد يكون خيراً لها من زوجها الأول.
6- حقوق المطلقة والأرملة المالية:
المطلقة إذا كانت رجعية، وهي التي يحق لزوجها مراجعتها دون عقد جديد، فحكمها حكم الزوجة، لها ما لها من الحقوق المالية، فيجب لها الآتي:(/2)
1- النفقة، والسكنى من مال الزوج لعموم قوله تعالى "وعلى المولود -له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وقوله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن" وذلك مدة عدتها، حسب يسر الزوج وعسره وبحسب حال الزوجة وما يصلح لأمثالها مما جرى به العرف والعادة، فحق العشرة بينهما لا يزال قائماً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والله تعالى يقول: "ولا تنسوا الفضل بينكم".
والمطلقة البائن، إن كانت حاملاً فلها النفقة من أجل الحمل حتى تضع، وإن كانت غير حامل فلا نفقة لها لكونها أجنبية منه، ولانفصام عقدة النكاح بينهما.
2- وللمطلقة أيضاً: حق المتعة، وهو: مال زائد على النفقة يدفعه الزوج لمن طلقها قبل الدخول بها، جبراً لخاطرها، وهو من محاسن الدين الإسلامي قال تعالى: "لا جناح عليكم إن طلتقم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين".
فهذه الآية دلت على استحقاق المطلقة المتعة إذا لم يدخل بها زوجها، ولم يفرض لها المهر.
وتستحب المتعة في حق غيرها من المطلقات لعموم قوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين".
وهذا الحق المالي للمطلقة قد غفل عنه كثير من الناس اليوم، وقل في الزمن الحاضر من يؤدي متعة النساء، لأن غالب النساء تنشد السلامة والتسريح بإحسان قطعاً للنزاع والخصومة. وقد أرشد الله المؤمنين بقوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسروحهن سراحاً جميلاً".
ويقول جل شأنه مخاطباً نبيه محمداً –صلى الله عليه وسلم- "يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن ترون الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً".
3- حق الصداق: وهو المهر المسمى؛ كله إن طلقها بعد الدخول، وبعد تسمية المهر في العقد، فيجب لها كامل المهر، ولا يحل للزوج أن يأخذ منه شيئاً إلا برضاها، قال تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً. أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً".
فإن كان الطلاق بسبب سوء عشرتها وكراهيتها له، فله أن يأخذ ما أعطاها؛ لقوله تعالى: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به".
* أما إن طلقها قبل الدخول وبعد تسمية المهر فيجب لها نصف المهر المسمى في العقد، كما قال تعالى: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم".
* وإن طلقها بعد الدخول، وقبل تسمية المهر فهذه يجب لها مهر المثل لقوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة".
فليتق الله كل زوج في طلقته، ولا يهضم شيئاً من حقها الذي فرضه الله لها.
4- حق الإرث:
فالمطلقة الرجعية، إذا مات زوجها في عدتها ترثه كغيرها من الزوجات، فلها نصيبها الذي فرضه الله لها، ولا يجوز النقص منه، أو المساومة عليه إلا برضاها، وما نسمعه في بعض المجتمعات من حرمان الزوجة من الميراث تبعاً لرغبة الزوج وهواه، هذا خلاف الشرع، وأمر باطل وتعد على حدود الله، وما فرضه الله لا يجوز لأي مخلوق أن يبطله.
5- الحقوق المالية التي في ذمة الزوج:
فللمطلقة كامل حقوقها المالية الواجبة في ذمة الزوج، كالقروض، والديون من عقار ونحوه. فبعض النساء تدفعها الثقة العمياء بالزوج فيستولي على كل أموالها، وعند طلاقه لها، ترجع إلى أهلها بخفي حنين، بعد أن جحد مالها وظلمها حقها، والظلم ظلمات يوم القيامة، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
والمرأة بطبيعتها عاطفية فقد يتوسل إليها الزوج بأن تعطيه أموالها ليتاجر فيها حتى إذا استولى على كل ما لديها طلقها، ومنعها حقها، وذهبت أموالها سدى بسبب إهمال الزوجة وتساهلها، وظلم الزوج.
وهناك قصة واقعية لإحدى المطلقات، تقول: عشت مع زوجي خمس سنوات في غاية التفاهم، والسعادة، والتعاون على ظروف المعيشة، حتى أني أسلم له مرتبي الشهري في يده كل شهر، مناولة دون إيصال، مما ساهم في بناء مسكن جيد لنا ولأولادنا، وبعد الفراغ من البناء فاجأني بالطلاق وتزوج بأخرى لتسكن في البيت الذي شيدت معظمه برواتبي، وذهبت إلى أهلي صفر اليدين في غاية الحزن والكآبة والندم على تفريطي، والأسى على زوج لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
فهذه القصة وأمثالها تصور لنا حال بعض الأزواج الذين ظلموا زوجاتهم، وأكلوا أموالهن بغير حق.(/3)
كذلك الأرملة:لها حقوق مالية بعد وفاة زوجها، فلها حق الإرث من ماله، ولا يجوز الأخذ منه إلا برضاها، وإن لم يخلف زوجها مالاً يكفيها ويكفي أولادها، فلها حق الصدقة، والبر والإحسان، ومد يد العون والمساعدة من المحسنين، وهذا واجب إنساني وقربة إلى الله -عز وجل- فكم من أرملة تعاني من الفقر والمسكنة وضيق ذات اليد، والحاجة إلى السكن، وقد تقدم قول النبي –صلى الله عليه وسلم- "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله".
7- حق المطلقة في الحضانة:
للمرأة المطلقة حق حضانة طفلها، ولها حق النفقة من أجله في الحولين. ولا يحق للزوج أن يأخذ ولدها منها، قال تعالى: "لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده".
ومتى تم فطام الطفل فللأم المطلقة حق حضانته حتى يبلغ سبع سنين، ما لم تتزوج الأم، فإن تزوجت سقطت حضانتها لقول النبي –صلى الله عليه وسلم- للمرأة التي سألته حضانة ولدها "أنت أحق به ما لم تنكحي".
وإنما جعل الإسلام حق الحضانة للأم؛ لأنها هي التي تمده بحنانها وتسهر على راحته ومصلحته، وتصبر على أذاه، وهي مصدر غذائه ورعايته.
وإذا تم للولد سبع سنين في حضانة أمه، فإن كان غلاماً خير بين أبيه وأمه، فكان مع من اختار منهما، أما الأنثى فهي بعد السابعة تكون عند أبيها حتى تتزوج في أحد الأقوال؛ لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها من غيره.
لكن بعض الأزواج ينتقم من الأم بمنعها من رؤية ولدها منذ الطفولة من باب الإضرار بها دون وازع من دين أو ضمير، حتى شكل هذا الأمر ظاهرة لدى المحاكم الشرعية لكثرة القضايا من هذا النوع، فكم من مطلقة تعاني مرارة بعدها عن ولدها وما يلاقيه هذا المسكين من العذاب والحرمان بسبب بعده عن أمه. وقد يكون تحت زوجة أبيه التي لا ترحم فيزيد ذلك من عنائه وعذابه.
فليتق الله أولئك الآباء الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فالحضانة حق للأم بحكم الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- ولا يجوز لأحد التعدي على حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
تقول إحدى المطلقات:إن لي بنتاً لا أراها إلا في السنة مرة واحدة، أو في يوم العيد، ناهيك عن النزاع والشقاق الذي يحدث بين أهل الزوج وأهل الزوجة بسبب هذا الطفل المسكين الذي أصبح ضحية بين أبويه لا يشعر بالاستقرار عند أحدهما تتنازعه الأيدي من كل جانب، "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون".
8- أسباب حالات الطلاق في العصر الحاضر:
وهل ترون عدد المطلقات الآن أكثر من ذي قبل؟
يرجع الطلاق بين الزوجين إلى عدد من الأسباب منها ما يرجع إلى الزوج، ومنها ما يرجع إلى الزوجة، ومنها ما يرجع لهما معاً. ومن أهم تلك الأسباب في الوقت الحاضر:
1- التسرع في الاختيار من الجانبين، وعدم الدقة في التحري، فبعض الشباب عند الاختيار يركزون على جانب واحد كالجمال مثلاً، ويغفلون عما هو أهم من ذلك. وبعض الفتيات تركز على جانب واحد كالمال مثلاً، فتريد زوجاً غنياً وتغفل عما هو أهم من ذلك فينتج عن هذا التسرع وعدم التحري خلاف في المستقبل، شقاق ونزاع، يؤدي بهما إلى الطلاق المبكر.
2- عدم رؤية المخطوبة والخاطب، مع أنه أمر مباح شرعاً ففي غياب الرؤية الشرعية مشاكل كثيرة، وقد قال الرسول –صلى الله عليه وسلم- للمغيرة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ومن منع الرؤية فهو جاهل بالشرع، ويقود إلى مشاكل لا تحمد عقباها تنتهي في النهاية بالطلاق.
3- عدم التكافؤ بين الزوجين من حيث المستوى العقلي، والثقافي، والاجتماعي، فاختلاف الطباع يؤدي إلى الشقاق، والنزاع مما يؤدي إلى الطلاق.
4- ارتكاب المعاصي، فكم من زوجة، تركت زوجها لأنه لا يصلي، أو لأنه يتعاطى المخدرات، أو يتعامل بالربا، فتصبر الزوجة مدة من الزمن ترجو توبته وهدايته، فإذا نفذ صبرها طلبت الطلاق.
5- سوء العشرة الزوجية من الزوج، أو الزوجة، والظلم، والجهل، وعدم الإنصاف. كمن يضرب زوجته عند أتفه الأسباب، أو لكونها لم تنجب له ولداً، فيحتدم الخلاف بينهما وينتهي بالطلاق.
تقول إحدى السيدات: تزوجت منذ عشر سنين، وأنجبت أربع بنات ثم تغير علي زوجي وهددني بالطلاق إن لم أنجب له ولداً ذكراً، وتزوج من ثانية فأنجبت له بنتين، وحاولت إقناعه بأن هذه مشيئة الله ولكن لا فائدة.
6- الغيرة المفرطة من جانب الزوج أو الزوجة، فإنها تؤدي إلى هدم البيوت إذا زادت عن حدها المألوف، ووصلت إلى حد الشك بأحد الزوجين، والأصل في الحياة الزوجية الثقة المتبادلة، وحسن الظن، والمودة، والرحمة، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا" والقصد الاعتدال في الغيرة كما كانت عليه أمهات المؤمنين.
تقول إحدى المطلقات: تزوجت من زوج طبيعة عمله تحتم عليه الاختلاط. وكنت أشعر بغيرة عمياء من كل تصرفاته، فساءت علاقتي به وطلبت الطلاق ورجعت إلى بيت أهلي مع طفل يبلغ ثلاث سنوات، ولقد ندمت أشد الندم على ما فعلته.(/4)
فالندم شعور يلاحق المطلقة ويلاحق الكثير من الرجال بسبب اتخاذهم هذه الخطوة بسبب الغضب وعدم التروي، والشيطان حريص على أن يفرق بين الرجل وزوجته، كما جاء في صحيح مسلم أنه يرسل أعوانه ويدني منه أشدهم فتنة حتى إذا قال ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته قال نعم أنت ويدنبه منه.
وهناك أسباب أخرى للطلاق حسب حال الزوج والزوجة.
أما عن عدد المطلقات فهذا لا يمكن معرفته إلا عن طريق الجهات المسؤولة عن هذا الجانب في كل بلد بحسبه. فالطلاق ظاهرة اجتماعية دولية يزيد وينقص بحسب ظروف البلد الاجتماعية والاقتصادية، لكن الدراسات أثبتت أن نسبة الطلاق في العصر الحاضر أكثر من ذي قبل وأنه يقل كلما تقادم العمر بالزوجين، فأكثر حالات الطلاق تقع في السنوات الأولى من الزواج.
ولا شك أن تطور وسائل الاتصال في العصر الحاضر، مع تنوع المفاهيم ودعوى الاستقلال والحرية كل ذلك له دور في زيادة نسبة المطلقات إذا لم تقابل هذه الأمور بروية وحكمة وتعقل.(/5)
حقوق الأسرى في الإسلام
د. صالح بن عبدالله الشثري* 20/6/1423
29/08/2002
تعد قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا المعاصرة التي تشغل أذهان المفكرين وفلاسفة الأخلاق منذ قرون، لأنها من أهم المهمات وأوجب الواجبات التي تتطلع إليها البشرية، فهي السند الذي يساهم في تدعيم الحقوق الإنسانية للأفراد والمجتمعات، وفي شتى مجالات الحياة سواء الاقتصادية أو السياسية، أو في ظروف الحروب والصراعات.
وفي هذا العصر -عصر المدنية، عصر الحضارة؟ا- أصبحت هذه القضية هي أم القضايا، فما وقع في (هورشيما ونجزاكي) اليابانية، و(صبرا وشاتيلا) اللبنانية، و(حلبجة) العراقية، وفي البوسنة والهرسك، وفي كوسوفا، وكشمير والشيشان، وآخرها (جنين) الفلسطينية، وغيرها كثير...يجعل الإنسان يقف حيراناً، ويتساءل أين حقوق الإنسان؟، والجواب في الحقيقة واضح كالشمس، إنها الحرب التي تجعل الإنسان ينسى إنسانيته ومبادئه وأخلاقه، إنه الطرف الأقوى الذي ينسى ضميره، إنها النفس الشريرة التي تبحث عن الدماء والأشلاء من دون تمييز.
وفي ظل التخبط الأعمى للسياسة الدولية أصبح الإسلام في هذا الزمن متهماً بعدم العناية بحقوق الإنسان، وتأصيل تلك الحقوق ، وهذا يتطلب بيان تلك الحقوق، وإيضاح موقف الإسلام منها، وبيان سماحته وعدله ورحمته بالبشر، الذي قرر منذ أربعة عشر قرناً أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن تراعى، كما أن عليه واجبات ينبغي أن تؤدى، وهي في الحقيقة لا يغفلها ولا يتجاهلها كل منصف، وكل باحث عن الحقيقة.
وقبل الخوض في تفاصيل حقوق الأسرى في الإسلام أود أن أشير إلى أن القرآن الكريم حوى الأفكار الأساسية المهمة، وترك تفاصيلها وممارستها وتطبيقاتها للأمة وفق ضوابط الشريعة الإسلامية، فاهتم بالكليات وفتح المجال لعقول علماء الإسلام، وهو بذلك قد حاز قصب السبق على غيره من الأديان الأخرى، وحتى القوانين الوضعية. كما أن حقوق الإنسان في الإسلام تقوم على أساس متين من الحرية والعدالة ، ولأجل ذلك حرم الله الظلم والاعتداء وشنّع على أهله وتوعدهم بالعذاب الأليم، كما أن العقل والواقع يشهد بأنه لا توجد دولة أو تشريع يعطي حرية مطلقة بحيث يتصرف الإنسان من تلقاء نفسه بلا قيود أو ضوابط، هذا لا يوجد على ظهر الأرض، ولا يقول به أحد من البشر، ولأجل ذلك تضع كل دولة أو أمة قيوداً وضوابط لهذه الحرية حسب قانونها الذي تحكم به، أما أمة الإسلام فمصدر حريتهم نابع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولأجل ذلك أعطى الإسلام الناس حريتهم في حدود في القول والفعل، وحرم عليهم الغيبة والنميمة، والبهتان وقول الزور والقذف والاستهزاء.
إن الحروب تعد أكثر الظواهر البشرية تأثيراً على القيم الإنسانية، لأنها سبب في إهدار حياة الأفراد والمجتمعات، فيصبح الإنسان لا قيمة له، وهو ما يتطلب حاجة البشر للتغلب على هذه الظاهرة وضبط أحكامها بصورة تراعي القيم الإنسانية الخالدة. والحق أن ظاهرة الأسرى تعد من أهم الظواهر الناتجة عن الحروب في قسوتها ومجافاتها للقيم الأخلاقية.
لقد وضع الإسلام للحروب نظاماً متميزاً، وتفصيلاً دقيقاً لأسبابها، ووسائلها وغاياتها، ومن ينظر لأحكام الحرب في التشريع الإسلامي يرى أن الإسلام كان له قدم السبق في تنظيم هذه الظاهرة، فلا عجب ولا غرابة من دين اتسم بالرحمة والإنسانية أن يفرض الرحمة والإنسانية في معاملة أسرى الحرب، في وقت كانت فيه جميع الأمم الأخرى تقتل الأسرى أو تستعبدهم.
وإن من يتأمل تراث الإسلام في مسألة الأسرى، ويطلع على ما دونه علماء الإسلام عن الأسرى وحقوقهم في الإسلام يلحظ بجلاء أن الإسلام يجنح باستمرار إلى تغليب الجانب الإنساني في معاملة الأسرى، والأهم من ذلك أن الإسلام أخضع معاملة الأسرى لنظام محكم وتشريع مدون، لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزه أو التعدي عليه لا سيما تحت ضغط الحالات النفسية المتوترة التي تولدها الحروب والانتصارات.
ولنا أن نسأل عن تعريف الأسير؟ فنقول : إن الأسير هو الحربي الذي أسر في حال الحروب مع المسلمين، وبعبارة أخرى: الأسرى هم الرجال الذين يقعون في قبضة عدوهم أحياء في حال الحرب، وفي الفقه يطلق أسرى الحرب على الأعداء المحاربين الذين أظهروا العداوة للإسلام وصمموا على محاربته بالعمل، فسقطوا في أيدي المسلمين المجاهدين الذين أرادوا إعلاء كلمة الله تعالى.
وبهذا يدخل كل من يحمل السلاح ضد الإسلام، وهو قادر على الحرب، سواء أكان جندياً أصلياً، أو متطوعاً، أو مرتزقاً، أو جاسوساً، فيخرج الأطفال والشيخ والنساء، والرهبان والفلاحين ومطلق العجزة، فلهم معاملة خاصة.
وسأجمل الحديث عن هذا الموضوع المتشعب في أمور أرى أنها الأولى بالبيان والتوضيح:(/1)
الأمر الأول: أن الأسرى يقعون في أيدي أعدائهم كما تقع الغنائم في أيدي المحاربين، ولكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب أن الأصل في الإنسان الحرية، ولأجل ذلك قرر الإسلام بسماحته وعدله أنه لا يجوز أسر كل من تقع عليه أيدي المسلمين من الكافرين، وإنما يكون ذلك فقط حيث تكون الحرب وحيث يكون المحاربون.
وقد وضع فقهاء الإسلام أوصافاً لمن يجوز أسره، وشروطاً لوقوع الأسر حتى أصبح له نظام وحدود معروفة ومدونة في الشريعة الإسلامية قبل أن يعرفها فقه القانون الدولي الحديث بقرون، بل لما ظهرت تشريعات الأسرى في القانون الدولي كان للفقه الإسلامي نظرياته الخاصة به، والتي تلتقي بالفقه الدولي أحياناً وتختلف عنه أحياناً أخرى.
لقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة تحث على معاملة الأسرى معاملة حسنة تليق به كإنسان، يقول الله تعالى في سورة الأنفال: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم)70، فإذا كان المولى سبحانه يعد الأسرى الذين في قلوبهم خير بالعفو والمغفرة، فإن المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانية.
لقد قرر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكمية لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكناً، استجابة لأمر الله تعالى في قوله في سورة الإنسان: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً):8، ويروى أنه صلى اله عليه وسلم أطعم بعض الأسرى ورواهم بيده الكريمة، ويقول أبو عزيز بن عمير، وكان أحد أسرى بدر حول معاملته: "كنت في رهط الأنصار حين أقبلوا من بدر، فكانوا قدّموا غذاءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، فما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحي فأردها على أحدهم فيردها عليّ وما يمسكها".
كما قرر الإسلام بسماحته وعدله ورحمته أنه يجب معاملة الأسير بالحسنى وعدم إهانته أو إذلاله، روى الطبراني عن أبي عزيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالأسارى خيراً"، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى يهود بني قريضة موقوفين في العراء في ظهيرة يوم قائظ، قال مخاطباً المسلمين المكلفين بحراستهم: "لا تجمعوا عليهم حرّ هذا اليوم وحرّ السلاح، قَيّلوهم حتى يبردوا" ومن هذا المنطلق لا يجوز تعذيب الأسير لأجل الحصول على معلومات عسكرية عن جيش العدو، فقد سئل مالك رحمه الله: "أيُعذّب الأسير إن رجي أن يدل على عورة العدو؟ فقال: ما سمعت بذلك". إنها سماحة الإسلام ورحمته التي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر، وأخص بذلك معاهدات جنيف 1929م، 1949م ولاهاي لحقوق الإنسان، وحقوق أسرى الحروب.
ومن الواجبات التي قررها الإسلام كسوة الأسير كسوة لائقة به تقيه حر الصيف وبرد الشتاء، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه لما كان يوم بدر أتي بالأسارى، وأتي بالعباس ولم يكن عيه ثوب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد قميص عبد الله بن أبي بن الحارث يقدر عليه فكساه إياه، كما ورد انه عليه السلام كسا بعض الأسارى من ملابسه.
ومن الحقوق التي قررها الإسلام للأسير حقه في ممارسة شعائر دينه خلال فترة أسره (الهندي: 205).
الأمر الثاني: عند استقراء أحكام الأسرى التي وقعت في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي قام بها أصحابه نجد أن مصير الأسرى حدد في أمرين، أحدهما العفو والمن، والآخر الفداء، وقد أكد عليهما العلماء، كما ورد في الآية الكريمة التي تحكم الوضع الشرعي للأسرى غير المسلمين في دولة الإسلام في سورة محمد:(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فإما منّاً بعد وإمّا فداء حتى تضع الحرب أوزارها) :4، ومعنى الآية أن على المجاهدين المسلمين عند لقائهم بالكفار في ساحة الوغى أن يعملوا السيف في رقابهم، وبعد إثخانهم بالجراح وإنهاكهم إلى درجة الوهن، عليهم القبض عليهم وتقييدهم والتحفظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها، وعند ذلك يحق للمسلمين المن عليهم بإطلاق سراحهم بدون أي مقابل أو مفاداتهم بمال.(/2)
أما الأول فهو العفو عن الأسير وإطلاق سراحه مجاناً دون مقابل، وقد حكم به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كثير من غزواته، كما هو مدون في سيرته عليه السلام، ولا غرو في ذلك فإن الله سبحانه بدأ بالمن عندما قال: (فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها)، ومدح من يتصف بصفة العفو والصفح:(وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم)، وهكذا كان العفو هو الأول لأنه من شيمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان يطلق الأسير بمجرد بسيط، أو تدخل رجل من المؤمنين يطلب حرية الأسير، وكان عليه السلام يتمنى أن يتدخل أحدهم، حتى إنه تمنى حياة أحد الكفار من الذين ماتوا ليتدخل في أسرى بدر ليطلق سراحهم، وهو المطعم بن عدي، كل هذا وذاك يدل دلالة أكيدة ما للعفو من قيمة ومن قدسية، ولأجل ذلك حث الإسلام الناس على تطبيق هذه الصفة، وأعظم التطبيق حين يكون ذلك مع أسرى الحرب.
أما الثاني وهو فداء أسرى الحرب : فالأسير إما أن يفدي نفسه بالمال، كما وقع ذلك في أسرى غزوة بدر الكبرى، أو يفدى برجل مسلم أسير عند الكفار، ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه سلم على الفداء بالمال والرجال، بل جعل الفداء بتعليم الأسير أولاد المسلمين الكتابة والقراءة، وهذه أسهل مهمة بالنسبة للأسير ولم يسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على ما لهذا الدين من تطلع إلى الحرية وإلى محاربة الجهل الفكري والاعتقادي على حد سواء، وأنه يتطلع إلى دولة العلم والتفكير الصحيح والاعتقاد بالتوحيد، وللأسف فإن الإنسانية لم تنتبه حتى يومنا هذا إلى هذا الحكم النبوي الكريم الذي طبقه سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً، في وقت لم تكن للثقافة قيمة ولا للأسير حاجة، ولا توجد جمعيات دولية أو منظمات تهتم بالأسرى.
وقد ذكر بعض العلماء أن القتل يعد خياراً ثالثاً، لكن الصحيح أن القرآن الكريم ليس فيه أي نص يبيح قتل الأسير لمجرد أنه أسر، ورأي الفقهاء مستقر على أن التي في سورة الأنفال: (وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة):67، تتعلق بواقعة معينة أراد بها المسلمون أن يأخذوا أسرى رغبة في مفاداتهم بالمال، وذلك قبل تحقق الهدف الأساسي من المعركة وهو إعلاء كلمة الله، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا يعترض أحدكم أسير أخيه فيقتله"، والأخبار في ذلك كثيرة جداً، مما يضيق المقام بذكره.
الأمر الثالث والأخير : وهو مسألة التطبيق، فالتطبيق هو النتيجة وهو الثمرة لهذه الحقوق، فما جاء به الإسلام، وما هو مدون في الأنظمة والتشريعات الدولية عن الأسرى، أمر لا يختلف عليه اثنان، فليس هناك جهل بالأنظمة ولا بالقوانين، ولكن للأسف لا يلتفت لتلك الحقوق وتلك الأنظمة، إنها حكاية تسلط القوي علىالضعيف، فأين المبادىء والأخلاق؟، أين القيم والمثل الإنسانية؟، إن الواقع ليشهد، ويزخر بالشواهد التي تعد عاراً على جبين الإنسانية، هذه الشواهد لم تأتي من دول متسلطة فحسب، بل مع تسلطها تدعي الحرية، والمثالية في رعاية حقوق الإنسان، بل وحقوق الحيوان، وأكتفي بما يحصل الآن في (قنتنامو) الجزيرة الكوبية من أعظم دول العالم قوة، وأعظم دول العالم مطالبة بحقوق الإنسان حيث تضع الأسرى المشكوك في أمرهم في أقفاص كأقفاص القردة، في الخلاء، وبمعاملة لا تعامل بها الحيونات فضلاً عن الإنسان، والشاهد الآخر ما حصل في مخيم جنين بفلسطين المحتلة، فلأجل مجموعة من المجاهدين الفلسطينين، يقوم اليهود بإبادة المخيم عن بكرة أبية، وهدم البيوت على من فيها من نساء وأطفال وشيوخ، ومع هذا يرفضون أي لجنة لتقصي الحقائق، فلك الله أيها الشعب الأعزل، أين المنظمات الإنسانية؟، أين الضمير الإنساني من هذا الفجائع؟ أين الذين يريدون حماية العالم من الإرهاب؟ أين هؤلاء الذين يدعون أنهم وصلوا إلى أعلى المراتب في المحافظة على حقوق الإنسان، وحقوق أسرى الحرب؟ إنه الوجه الآخر الذين يغيب عن كثير من الناس.
وبهذا ألا نتفق جميعاً على أن مسألة التطبيق هي الثمرة وهي الهدف الذي تطمح إليه وتنشده البشرية جمعاء!!.*أستاذ اللغة العربية المساعد كلية الملك خالد العسكرية
المراجع:
1-أسرى الحرب عبر التاريخ، لعبد الكريم فرحان، ط1، بيروت، دار طيبة: 1979م.
2-حكم أسرى الحرب في الإسلام ومقارنته بالقانون الدولي، لعبد السلام الحسن الأدغيري، الرباط، ط1، 1985م.
3-أسرى الحرب والتزاماتهم في القانون الدولي، لمصلح حسن أحمد، بغداد، ط1، 1989م.
4-أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الصليبية، لعبد اللطيف عامر، بيروت، ط1، 1986
5-حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور عبد اللطيف الغامدي، الرياض، ط1، 1420، منشورات أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية.
6-أحكام الحرب والسلام في دولة الإسلام، للدكتور إحسان الهندي، ط1،دمشق،1993م.(/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أيها الأخوة حديثنا هذه الليلة عن الأخوة وحقوقها وسيكون الكلام في النقاط التالية :
أولاً : تعريف الأخوة وأنواعها.
ثانياً : أساليب الشارع في تحقيق الأخوة الإسلامية .
ثالثاً : ثمرات الأخوة .
رابعاً : صفات الأخ المطلوب.
خامساً : الوسائل المعينة على تقوية هذه الرابطة . سادساً : حقوق الأخوة وآدابها .
سابعاً : مكدرات الأخوة .
ثامناً : تنبيه .
أولاً : تعريف الأخوة وأنواعها :
تطلق الأخوة في اللغة على القرابة في النسب والاشتراك في الولادة القريبة من الأب أو الأم فتقول هذا أخي لمن اشترك معك في أمك أو أبيك ، وقد تطلق في النسب البعيد كما يقال أخو العرب كما جاء في القرآن الكريم : (( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً)) (الأعراف:65) . هذا هو الأصل في إطلاق الأخوة إلا أنها يمكن أن تطلق اصطلاحاً على الأخوة الإسلامية .
وهي الرابطة التي تجمع بين شخصين ينتميان إلى دين الإسلام وإن لم يكن بينهما اشتراك في أب أو أم .
وعلى هذا فالأخوة يمكن أن يقال أنها نوعان :
1- الأخوة في النسب.
2- الأخوة الإسلامية.
والثانية هي محور الكلام في هذه المحاضرة .
مما لاشك فيه أن الإنسان بطبعه يميل إلى الاجتماع بالآخرين وينفر عن العزلة والتفرد وقد راعى الإسلام هذا الجانب في الإنسان فحثه على الجماعة والاتحاد وترك الفرقة والاختلاف وتعرفون الأدلة على ذلك.
وكان السلف يحرصون على الجماعة واتخاذ الإخوان ، يقول عمر : (ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخ صالح فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به) .
ويقول علي : ( كدر الجماعة خير من صفو الفرد ) ، وقد قيل :( أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم )0
وقال مالك بن دينار : ( لم يبق في الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان ، والتهجد بالقرآن ، وبيت خال يذكر الله فيه ) ، ((والمؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) كما جاء في الحديث .
ويحب المسلم إخوانه المسلمين عامة ويواليهم ويناصرهم ويؤدي حقوقهم ، إلا أن هذا لا يمنع أن يتخذ المسلم إخواناً له من المسلمين فيخصهم بمزيد محبة ووداد ولا ينكر كونه يخص بعض المسلمين بمزيد محبة ووداد لا ينكر عليه هذا لأن ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) .
كما في الحديث . وهذه الأخوة الخاصة هي التي سنتكلم عنها في هذا الموضوع .
ثانياً:أساليب الشارع في تحقيق الأخوة الاسلامية .
1- الإخبار عن الأخوة بين المؤمنين : وهذا أبلغ من الطلب منهم ان يكونوا إخوة فقد قال تعالى :(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (الحجرات:10) .
2-جعلها نعمة امتن الله بها على عباده : (( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)) (ىل عمران:103) .
3-جعلها سبب لحصول محبة الله: وفي الحديث (( زار رجل أخاً له في قرية فأرصد الله له ملكاً على مدرجته فقال أين تريد قال أخاً لي في هذه القرية فقال هل لك عليه من نعمة تربها قال لا إلا أني أحبه في الله قال فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته )) ، وفي الحديث الآخر قال الله تعالى : (( حقت محبتي على المتحابين أظلهم في ظل العرش يوم القيامة يوم لاظل إلا ظلي )) .
وفي الحديث الآخر قال الله تعالى : (( حقت محبتي للمتحابين في ، وحقت محبتي للمتواصلين في وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في ، وحقت محبتي للمتباذلين في )) .
وفي الحديث الآخر قال الله تعالى : (( وجبت محبتي للمتحابين في ، والمتجالسين في ، والمتباذلين في ، والمتزاورين في )) .
4- جعلها أوثق عرى الإيمان : (( إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله )) ، وفي الحديث الآخر (( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل )) .
5- جعل منزلته بمنزلة من يحب : ((أنت مع من أحببت)) وفي الحديث الآخر ((المرء مع من أحب )) .
6-ترتيب الأجر العظيم عليها : إن الله تعالى يقول يوم القيامه : ((أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لاظل إلا ظلي) .
وفي الحديث الآخر ((إن المتحابين في الله في ظل العرش )) وفي الحديث الآخر (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه))
وفي الحديث الآخر قال الله تعالى ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء))(/1)
وفي الحديث الآخر ((المتحابون في على منابر من نور ، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء)) .
7-جعلها وسيلة لاكتساب حلاوة الإيمان : ففي الحديث (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لايحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ،كما يكره أن يلقى في النار )) وفي الحديث الآخر (( من أراد أن يجد طعم الإيمان ، فليحب المرء لايحبه إلا لله )) وفي الحديث الآخر (( من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لايحبه إلا لله )) .
8-تعليق الأفضلية على شدتها : كما في الحديث (( ما تحابا اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه )) .
9-جعلها وسيلة لاستكمال الإيمان : كما في الحديث (( من أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) .
10-جعلها وسيلة لاكتساب الإيمان وبالتالي الدخول إلى الجنة : كما في الحديث (( والذي نفسي بيده ،لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولاتؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شىء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم )) .
ثالثاً: ثمرات الأخوة:
للأخوة ثمرات جليلة سواء كانت مدخرة له في الآخرة أم كانت معجلة له في الدنيا .
-فمما يدخره في الآخرة :
1- أن يكون في ظل الله يوم لاظل إلا ظله : كما في الحديث (( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي ، يوم لاظل إلا ظلي )) ، وفي الحديث الآخر (( إن المتحابين في الله في ظل العرش )) ، وفي الحديث الآخر (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق في المسجد إذاخرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه )) .
2-الحصول على مكانة عالية في الآخرة كما في الحديث قال الله تعالى (( المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء )) ، وفي الحديث الآخر (( المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانتهم النبيون والصديقون والشهداء )) .
3-الحصول على مقام في الآخرة أعلى ممايستحقه بعمله كما في الحديث (( أنت مع من أحببت )) وفي الحديث الآخر (( المرء مع من أحب )) وعندما سمع أنس ذلك فرح فرحا شديدا لأنه رجى أن يكون مع الرسول صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر .
فعندما يحب المسلم أخاه ويكون المحبوب أعلى درجة منه في الآخرة فانه يرفع المحب الى درجة المحبوب فهذا الارتفاع في الدرجة من ثمرات الأخوة .
ومن الأشياء التي تعجل له في الدنيا وهي تؤدي بدورها الانتفاع الأخروي ما يلي :
1-تذوق حلاوة الإيمان : كما في الحديث (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لايحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار)) وفي الحديث الآخر (( من أحب أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لايحبه إلا لله )) وفي الحديث الآخر (( من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لايحبه إلا لله )) .
2- نيل محبة الله له : وهذه المحبة لاشك أنها تعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي ولعل من منافعها الدنيوية أن ينشر له القبول في الأرض وتعرفون الحديث في ذلك .
3-اكتساب الإيمان : كما في الحديث الذي سمعتموه (( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا... الحديث )) .
4-استكمال الإيمان : كما في الحديث (( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان )) .
5-الإعانة على الطاعة : إذ أنه يجد باخوانه من يعينه على طاعة الله ويكرهه في المعاصي وهذا يعود عليه بالنفع الدنيوي والأخروي .
6-تحسين الخلق : وذلك لأنه سيقتدي بإخوانه الصالحين الذين حسنت أخلاقهم وإذا حسن خلقه استفاد دنيوياً وأخروياً يكفي أنه يحصل على احترام الناس له في الدنيا ويحصل على درجة عالية في الآخرة .
7-تطبيق المفاهيم الإسلامية الجميلة والخصال الحميدة التي لايمكن تطبيقها إلا مع وجود الجماعة : مثل الإيثار ونحوه .
- ومن ثمرات الأخوة أيضا :الثمرات الدنيوية :
من مثل الانتفاع بالأخ في قضاء الحاجات والانتفاع من الأخ بجاهه أو الأنتفاع منه بماله وذلك بأن يواسيك أو يقرضك أو نحو ذلك .
كذلك من الثمرات حصول الأنس وانشراح الصدر وتخفيف الآلام والهموم وذلك لأنك تخالط من لا تثقل عليك نفسه وفي الوقت نفسه يرغبك في الآخرة .
كذلك من الثمرات ما يحصل لك من الاستشارة لأخيك اذا ترددت في أمر ما وغيرها من الثمرات.
رابعاً: صفات الأخ المطلوب :
قبل أن أبدأ بذكر صفات الأخ المطلوب لابد من التنبيه إلى أربع نقاط :(/2)
النقطة الأولى : يشترط في الأخوة المطلوبة أن تكون لله خالصة فهي لله وفي الله أما إذا لم يتوفر هذا الشرط فانها حينئذ لا تكون أخوة إسلامية تترتب عليها الثمرات المذكورة ومثل هذه العلاقة تنقلب الى عداوة يوم القيامة (( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) (الزخرف:67).
يقول الشاعر:
من لم تكن في الله خلته فخليله منه على خطر
النقطة الثانية : الناس أصناف والإنسان يألف من يجانسه ويشاكله وربما لايألف شخص مع أنه من الصالحين وإن كان هذا لا يعني أنه يكرهه لا بل يحبه على قدر ما به من إيمان لكن ربما لا يأنس له مثل ما يأنس بمن هو على شاكلته ، وعليه أن يهذب هذه العاطفه بما يتوافق مع ما يحبه الله .
النقطة الثالثة: اصبر نفسك مع الأخيار ولا تجعل الكلام السابق حجة لك وذلك بأن تقول إني لا أرتاح للصالحين ، والناس أشكال وكل يؤالف شكله . لا ، الكلام السابق يسمح لك أن تخص واحداً من الصالحين بمزيد مودة وصداقة بسبب أنه لا يشاكله ولكنك تنتقل عنه إلى غيره من الصالحين ولا تخرج عن دائرة الصالحين واعلم أنك إن لم تجد من نفسك ارتياحا لجميعهم فإن في نفسك مرضاً يجب عليك علاجه وذلك بالصبر معهم حتى يقوى إيمانك ومن ثم بالتأكيد ستألفهم أو على الأقل بعضهم .
النقطة الرابعة : لن تجد شخصاً كاملاً فكلنا خطّاء وكلنا فينا عيوب وإذا كنت تطلب أخاً لا عيب فيه فإنك أشبه ما تكون تبحث عن سراب ولكن سدد وقارب هناك من حسناته تغمر عيوبه وتغطيها وهناك من تزيد عيوبه وهناك من عنده عيب تخشى منه أنت أن يؤذيك أوتقتدي به فيه فابحث عن الصديق الذي ترى أن عيوبه مغمورة في بحر حسناته وأن هذه العيوب لاتخشى منها على نفسك.
بعد هذه النقاط الأربع أقول أن للأخ المؤاخي صفات ينبغي أن يتحلى بها ومن أهم هذه الصفات
ما يلي :
1- أن يكون مؤمناً : لأن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ولذا جاء في الحديث
(( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي )) .
2- أن يكون ملتزماً : بشرع الله متبعاً لأوامره مجتنباً لنواهيه كما قال سبحانه وتعالى : (( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) (الكهف:28) ، وقال تعالى (( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)) (لقمان:15) ، وهذا يقتضي ألا تصاحب الغافل المعرض عن ذكر الله قال الله عز وجل (( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا )) وقال (( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) (النجم:29).
3- إن يكون عاقلاً : فالأحمق صداقته تضر أكثر مما تنفع ، وقديما قيل : عدو عاقل خير من صديق أحمق ، وقيل :
فلا تعجب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليما حين واخاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه
4- أن يكون حسن الخلق : وذلك لأنك ستكثر معاشرته ومعاملته فاذا كان سيئ الخلق ربما آذاك ولم يصبر على أخوتك بل وربما تكتسب منه هذا الطبع السيئ .
5- أن يبادلك الشعور بهذه الأخوة لأنه كما ورد في الحديث (( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )) فإذا كان يتضايق منه ولا يفرح بمقدمه ووجدت منه إعراضاً وجفاء فمثل هذالايصلح أن تؤاخيه ،هذا يكفي أن يؤاخى الأخوة العامة ، التي تكون بين المسلمين عامة، فأما الأخوة الخاصة فمثل هذا لا يعينك على تحقيق هذه الأخوة .
خامساً: الوسائل المعينة على تحقيق هذه الأخوة :
هناك وسائل تعين الأخوان على تحقيق رابطة الأخوه وتقويتها ومن هذه الوسائل مايلي:
1- إخباره بأنك تحبه لله : كما في الحديث (( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه )) وبين السبب في ذلك فقال : (( إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه فإنه أبقى في الألف’ وأثبت في المودة )) .
2- تقوية العلاقة بالله عز وجل والسعي الى الحصول على محبة الله : لأن الله اذا أحبك دعى جبريل فقال : (( إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)) فإذا أحبك الله أحبك عباده ومنهم هذا الأخ .
3- معرفة ثمرات الأخوة في الله : فإذا عرفت ثمراتها الدنيوية والأخروية وما فيها من الخير والأجر سعيت الى تحقيقها وتقويتها .
4- معرفة سير السلف الصالح في هذه النقطة بالذات وكيف كانت أخوتهم .
5- مراعاة حقوق الأخوة : لأنها تزيد في الأخوة وتبعدها عما يكدرها وهذا يجرنا الى أن نتكلم عن حقوق الأخوة وآدابها .
سادساً:حقوق الأخوة وآدابها :(/3)
الأساس التي تقوم عليه علاقة المسلم بأخيه أن يحب له ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فإذا التزم المسلم مع أخيه بهذا الأساس فانه بالتأكيد سيقوم بحقوق الأخوة كاملة ، وحقوق الأخوة منها حقوق عامة يلتزم بها المسلم مع أخيه المسلم ومنها حقوق خاصة تضاف الى الحقوق العامة تكون بين المتآخين من المسلمين ، ومن العنوان يتضح ان هناك حقوقاً وهناك آداب والفرق بينهما أن الحقوق تكون واجبة والآداب تكون مندوبة .
وعموماً سأسرد شيئا من هذه الحقوق والآداب دون تمييز بينها فمنها ما يلي :
1- الحقوق الستة المعروفة المذكورة في الحديث : (( حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه واذا دعاك فأجبه واذا استنصحك فانصح له واذا عطس فحمد الله فشمته واذا مرض فعده واذا مات فاتبعه )) .
2-اجتناب سوء الظن والتجسس والتحسس والتناجش والتحاسد والتباغض و التدابر : كما جاء في الحديث (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا...)) .
3-اجتناب ظلمه وخذله واحتقاره : (( المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله ولا يحقره)).
4-مصافحته اذا لقيته : (( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان الاغفر لهما قبل أن يتفرقا )). أنظر الى هذا الفضل العظيم الذي نضيعه .
5-التبسم في وجهه : (( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )) .
6-عدم إظهار الشماتة فيه : (( لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك )).
7-يوسع له في المجلس : (( لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا أو توسعوا...)) .
8-الرد عن عرضه : (( من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) .
9-دعاؤه بأحب الأسماء إليه : قال عمر :" ثلاث يصفين ود أخيك أن تسلم عليه اذا لقيته وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء اليه ".
10-إعانته ومواساته بالمال اذا احتاج الى ذلك : كما في الحديث (( أن الأشعريين اذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في اناء واحد بالسوية فهم مني وانا منهم )) ،وفي الحديث الآخر(( يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة فليضم أحدكم اليه الرجلين أو الثلاثة)) . وفي الحديث الآخر(( من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له )).
11-السعي في حاجته والقيام بخدمته : (( ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)).
يا أخي تستطيع أن تخدم أخاك اذا كان مشغولاً بعمل فتساعده على إنجازه أو يمكنك ان تقوم بشىء من أعماله ولو بتسديد الفواتير عنه، كذلك عند السفر أو الرحلات والاجتماعات تقوم بخدمته ومساعدته . وكان بعض السلف يشترط خدمة من يذهب معه.
12-لا يمن عليه بمعروفه : اذا أعانه وواساه بالمال أو سعى في حاجته وقام بخدمته لا يمن عليه بهذا المعروف فإن المن يبطل الصدقة والمعروف (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)) ( البقرة:264) .
13-أن يشكره على صنيعه : اذا أعانه أخوه المسلم بمال أو خدمة فعليه أن يشكر له صنيعه وقد جاء في الحديث (( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )) .
14-زيارته لله :وقد سمعتم حديث (( الرجل الذي زار أخا له في قرية)) ، وحديث (( وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتباذلين في والمتزاورين في )) .
ولابد من التأدب بآداب الزيارة من مثل اختيار الوقت المناسب ومن مثل الا تكون الزيارة سبباً في إضاعة الوقت بما لايفيد وغير ذلك من الآداب المعروفة.
15-النفقة على الاخوان وبذل الطعام اليهم اذا قدموا لزيارتك أو اجتمعت معهم في مكان ما: جاء في الحديث الذي رواه مسلم : (( افضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله )) ، واسمعوا الحديث الآخر(( أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عرى كساه الله من خضر الجنة وايما مسلم اطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة وايما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)) ، وأنس بن مالك حينما دخل عليه أصحابه قال لجاريته هلمي لأصحابنا ولو كسراً فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( مكارم الأخلاق من أعمال الجنة)) وكان علي رضي الله عنه يقول "لأن أجمع نفراً من إخواني على صاع أو صاعين من طعام أحب الي من أن اخرج الى سوقكم فاعتق رقبه".
16-عدم التكلف والتكليف : إذا زارك أخوك فينبغي ألاتتكلف له لأن ذلك يترتب عليه أنك ستتضايق من مجيئه مرة اخرى أو يتضايق أهلك بذلك لأن مجيء هذا الأخ سيتعبهم أو يتضايق أخوك هذا لأنه لايريد ان يشق عليه بمجيئه ،كذلك لو زرته أنت فلا تكلفه واطلب منه عدم التكلف .(/4)
17-عدم إخلاف الموعد : لو تواعدتما في ميعاد معين فاحرص على أن تاتي في الموعد فان اخلافك للموعد بعدم حضورك او بحضورك متاخرا يضايق أخاك.
18-تحسين الخلق معه : بأن يكون تعاملكما مبنياً على الأخلاق الحسنة فالغيظ يكظم وكل منكم يصبر على الآخر وقد ساد بينكما التواضع والحلم والصدق والرفق والحياء وطلاقة الوجه والبشاشة عند اللقاء وغير ذلك من الأخلاق الحسنة.
19-كتمان السر وستر العيب : بحكم أخوتكما وملازمتكما لبعضكما لابد أن يطلعك على سر من اسراره او تطلع علىعيب فيه ، فمن حقوق الأخوة ان تكتم سره ولا تطلع عليه أحدا وتستر عيبه وتساعده في اصلاحه.
20-الإيثار : تؤثره على نفسك (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) (الحشر:9)، تؤثره في المجلس بأن تجلسه في المكان المناسب الذي قد ترغب فيه أنت كأن تتنازل له عن المتكأ ليتكىء هو ، تؤثره على نفسك في الأكل والشرب والتقدم اثناء ركوب السيارة وهكذا.
21-مشاركته مشاعره : بأن تحزن لحزنه وتفرح لفرحه ، إذا أصيب بمصيبة بادرت بمساعدته ومحاولة تخفيف وقعها عليه وإذا سره شيء بادرت الى تهنئته وأظهرت الفرح والسرور بذلك.
22-ملاطفته بالكلام : يقول الفضيل :(لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم خير له من قيام ليله وصيام نهاره ) .
23-لا يقاطعه إذا تكلم : بل يصغي اليه ويظهر له الاهتمام بكلامه .
24-أن يثني عليه بما هو أهل له : على ألا يكون ذلك مدحاً له في وجهه .
25-يبلغه مدح الناس له : إذا لم يؤدي ذلك الى إدخال الغرور عليه .
26-لا يبلغه ذم الناس له : لأن هذا يوغر صدره إلا أن يكون قد ذم لعيب فيه فليتلطف بنصحه ومحاولة إصلاح هذا العيب .
27-تقديم النصيحة له : سواء قصر في واجب أو ارتكب منهياً عنه يقدم له النصيحة ويلتزم بآدابها من مثل النصيحة على انفراد وأن تكون بلطف وأسلوب حسن .
وتعرفون الحديث (( الدين النصيحة )) و جرير بن عبد الله يقول : "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" .
28-طلب النصيحة منه :وذلك لأنك قد لا تبصر كل عيوبك ولا تعرف كل ذنوبك فإذا طلبت منه النصح بصّرك بها فعرفتها وتجنبتها .
عمر بن عبد العزيز يقول لعمرو بن مهاجر: ( يا عمرو إذا رأيتني قد فلت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني ثم قل لي ماذا تصنع ).
ويقول الحسن : ( قد كان من قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجل الرجل فيقول : يا أخي ما كل ذنوبي أبصر ولا كل عيوبي أعرف فأ ذا رأيت خيراً فمرني واذا رأيت شرا فانهني )
ويقول بلال بن سعد (أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله وأخبرك بعيب فيك أحب اليك وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا).
29- تقليل الخلاف معه بقدر الإمكان : فإن كثرة الخلاف قد توجب البغضاء فان وجد الخلاف أحياناً فلابد من التأدب بآداب الخلاف المعروفة.
30-التسامح عن الزلات والهفوات التي قد تصدر من الأخ : لأن الأخ ليس معصوماً ومن طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ ،
وابن السماك قال له أحدهم غدا نتعاتب قال : بل غدا نتغافر .
يقول الأمام الشافعي رحمه الله: ( من صدق في أخوة أخيه قتل علله وسد خلله وعفا عن زلله).
31-عدم إكثار العتاب : لابد من العتاب بين الأخوان وقد(كلمة غير واضحة) من عاتبك ولكن لا يتجاوز حده ويصبح طبعاً للأخ كلما لقي أخاه عاتبه .
32- قبول العذر : إذا اعتذر إليك أخوك فاقبل عذره .
33-إعانته على ما يقربه إلى الله ويبعده عن سخطه : تعينه على أعمال الخير بعامتها ، كأن تعينه على القيام لصلاة الفجر تتصل عليه بالهاتف لتوقظه أولقيام الليل أو لحظور محاضرة أو أن غداً أول أيام البيض وهكذا ، وكذلك تعينه على الابتعاد عما يغضب الله ، إذا رأيته سيرتكب ذنباً أعنته على الابتعاد عنه وهكذا ، وهذه في الحقيقة فائدة عظيمة من فوائد الأخوة.
34-الدعاء له : وتعرفون الدعاء للمسلم بظهر الغيب كما في الحديث (( ما من عبد مسلم يدعولأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل)) رواه مسلم .
35-التكامل.
36-اجتناب مكدرات الأخوة التي سيأتي الكلام فيها الآن.
سابعاً : مكدرات الأخوة :
1-النية المشوبة بشوائب الدنيا :علينا أن نصفي أخوتنا من المزاجية وغيرها ولابد أن تكون هذه الأخوة خالصة لله ، يقول عز وجل في الحديث القدسي (( وجبت محبتي للمتحابين في)) ولتعلم أيها الأخ أن ما كان لله فهو المتصل وما كان لغيره فهو المنقطع.
2- الذنوب بشكل عام : فان لها أثراً عظيماً في قطع الصلة فإذا وجدت من إخوانك جفاء فذلك لذنب أحدثته.(/5)
3-الجدال والمراء : فالجدال والمراء يوحش القلوب ويوغرها لاسيما وأنه أصبح لحظ النفس لإظهار الحق وقد جاء في الحديث (( لا يؤمن العبد الايمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان محقا)) وفي الحديث الآخر (( أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وبيت في اعلى الجنة لمن حسن خلقه )) .
وقال خالد بن معاوية: (اذا كان الرجل ممارياً لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته ).
وقال الحسن البصري : (إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم وبها يبتغى الشيطان زلته ) .
وعبد الرحمن بن ابي ليلى: يقول( ما ماريت أخي أبدا لأني إن ماريته إما أن أكذبه وإما أن أغضبه).
4- المداهنة : وعدم الإنكار عليه وعدم نصيحته : تكون بينهما مجاملة فلا هذا ينكر على هذا أو يأمر بمعروف ولا الآخر يفعل ذلك.
5- الحسد : ولاشك أنه مفسد للأخوة أيما إفساد بل إنه مفسد للأعمال الصالحة .
6- التنافس على بعض الأمور : التنافس من شأنه أن يولد الغيرة وبالتالي الحسد وايغار الصدور، والتنافس يحدث بأن يشتركا في محاولة الوصول إلى هدف واحد لايتسع إلا لأحدهما وهذا يحدث مثل المسابقات سواء الرياضية أو الثقافية .
وقد يكون أحياناً التنافس على عمل خيري كل منهما يريد القيام به ولا يتسع لهما جميعاً.
7-التعامل المالي بين الأخوة : إذا لم يؤطر بالإطار الشرعي المطلوب ولم تدخله المسامحة المطلوبة من المسلم ، قد يؤجر هذا على هذا شيئا فيخل الآخر بشيء يسير فيطبق عليه الآخر الشرط الجزائي أو يحاول أن يستوفر حقه كاملاً دون أن يدع للمسامحة مجالاً ونحو ذلك فهذه توغر الصدور وتفسد الأخوة.
8- الأثرة وحب الذات: وهذا يقوده إلى عدم تطبيق حقوق الأخوة وآدابها.
9-التفاخر بالأنساب : وهذا من عمل الجاهلية وإذا كان يجب ألا يكون بين المسلمين فمن باب أولى ألا يكون بين الإخوان.
10-السخرية والتهكم بالآخرين حتى ولو كان عن طريق المزاح.
11- الخلطة غير الموجهة والتي ينتج عنها ضياع الوقت.
12-الوصول إلى درجة التعلق : وحينها تنتفي الأخوة ويحل محلها التعلق ،وللتعلق علامات يعرف بها وتميزه عن الحب في الله من أهمها أنك تحب هذا الشخص بغض النظر عن ديانته وقوة إيمانه ويستمر حبك له حتى لو ضعف إيمانه أو ربما انتكس .
13-عدم مراعاة حقوق الأخوة وآدابها والتي سبق بيان كثير منها.
ثامناً : تنبيه :
أيها الأخوة لابد من التنبيه إلى أنه مع فضل الأخوة والترغيب فيها إلا انه ينبغي للمسلم أن يعود نفسه على تربية نفسه فيما إذا انفرد عن إخوانه ، لأن مفارقة الأخوان من الممكن حدوثها واجتماعاتك معهم قد لا تدوم ، ولذا لابد أن تعود نفسك على أن ترفع إيمانك بنفسك فلا تكن عالة على إخوانك دائماً بل حاول تربية نفسك وذلك بأن تجعل لنفسك عبادات تنفرد بها كقراءة القرآن وتدبره والنوافل من صلاة وصيام وغيرهما .
أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا الزلل وأن يجعل ما قلته وسمعتموه حجة لنا لا علينا وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين عامة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
حقوق الإنسان ..رؤية خاصة!!
أمين حسن أحمد يس*
كثر اللغط والقيل والقال حول قضايا حقوق الإنسان، ورفعت لذلك الشعارات وأقيمت المؤسسات والمنظمات التي تبنت رعاية الحقوق الإنسانية، ولكن الجميع في خضم هذا المعترك الحامي نسوا أوتناسوا ما هي حقيقة الأنسان الذي يدافعون عن حقوقه!!..
إن الغرب الذي تولى كبر هذه القضية هو أبعد ما يكون عن حقيقة الإنسان؛ فالحضارة الغربية ماهي إلا امتداد للدولة العسكرية الرومانية القديمة، وكما تزينت تلك الدولة الأولى بالفلسفة الإغريقية المأخوذة عن الفرعونية لتخفي قبح وجودها الوحشي تزينت الثانية بالدفاع عن حقوق الإنسان لتخفي مسخها الشائه وهي تعمل على قتل الإنسانية واستعبادها!!..
لقد كانت نظرة علماء الغرب وما زالت على أن الإنسان هوعبارة عن مجموعة من الغرائز، وأن الدفاع عن حقوق الإنسان من وجهة نظرهم هو إطلاق العنان لهذه الغرائز إلى أبعد مدى ممكن..
إن هذا ما هو إلا اغتيال للإنسان من على ظهر الأرض!، وإن الإنسان الذي يحترم نفسه بقدر قيمة كرامته يأبى أن يعامل بإنسانية من قتلوها في أنفسهم، وأرادوا قتلها فيه!!.. معرفة الإنسان لحقوق أي شيء تأتي من معرفته بالشيء نفسه؛ فالذي يعرف حقيقة الإنسان لا يقبل ذلك المسخ الغربي الشائه، وحقوقه المدَّعاة!!..
إذا قُدِّر لنا أن ننظر عبر القرون إلى خارطة تاريخية للعالم القديم فإنا سنجد أن أوروبا كانت جزءاً من المحيط المتجمد، وأمريكا وراء البحار، وإفريقيا مجاهيل مخيفة وغابات موحشة، وأطراف آسيا وأجزاء من العالم في تخلف إنساني كبير!!.. أما في تلك البقعة الزاهرة التي تمتد من اليمن لتمر بالحجاز وتنتهي في الشام فالإنسانية تنعم بمعناها الصحيح، وتعيش الحقوق الإنسانية واقعاً لا تنظيراً!!.. ما أعظم الشرق الإسلامي!!.. ذلك أنه أكبر ما في العالم بعلمه وحضارته، وأعلم من في الإنسانية بالإنسان!!.. كيف لا وهو معدن الأنبياء، ومهبط الرسالات؟!..
وهذا رجل من الشرق يقدم رؤيته الخاصة لحقوق الإنسان، ويعتبرها رسالة الرجل الشرقي للعالم!!..
لمّا أبدع الله الكون أراد أن يعرِّف بنفسه وبقدرته من خلال مخلوق ضعيف، وقذف الله في وجه الكون بهذا التحدي الذي يسمى الإنسان (إني جاعل في الأرض خليفة).. أنزله إلى الأرض ما عليه شيء سوى ورق الشجر يستر عورته، وما أنزل الله معه شيئاً آخر غير زوجه!!.. لأن به يقوم التحدي؛ فصنع الله به الأعاجيب!!.. وأقام به الخلافة والحضارة والمدنية.
إن أولى حقوق الإنسان وأحقها بالرعاية هو حقُّ أن يكون الإنسان إنساناً!!.. فلا يسمح للإنسان أن يبيع نفسه لشيء يملكه!؛ فيكون عبداً لشيء سُخِّر له!!.. يا أيها الإنسان كن إنساناً تملك كل شيء، وكن غير ذلك تخسر كل شيء!!..
يقول عيسى عليه السلام: (ماذا يستفيد الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟!).. أي شيء تريد أن تكون يا من تتهرب من إنسانيتك؟!.. هل وجدت في الكون شيئاً يعدلها أو يفوقها كرامة سوى أن تتحوَّل إلى جزء من جسدك؟!.. فالطبع الغريزي يعمل آلياً كبقية أجهزة الجسم! هكذا تكون مسخاً شائهاً في الكون الذي خلقت لتكون سيداً عليه..
واعلم أنك حين تتنازل عن إنسانيتك فستقف في وجه الكون الذي سوف يناصبك العداء، وأول من يعاديك منه هو (نفسك)!!.. هل سخر لك الكون إلا من أجل أنك إنسان، ولأنه كان ينتظر منك أن تريه عظمة ربه فيك؛ فالحياة الإنسانية هي مسرح الكون، والخلق هم المشاهدون؛ أفلا يتضجرون حين يرون منك رعضاً رديئاً، ودوراً غير مشرف؟!.
من الحقوق ذات الأهمية القصوى احترام اختيار الإنسان ومشيئته؛ فإن الله تعالى الذي خلق الإنسان أمضى له مشيئته حتى في الإيمان به سبحانه أو الكفر به؛ فقال عزَّ من قائل: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. وعندما يهين المرء من أمر الله بإهانته فهو لا يهين فيه شخصه المكرم، وإنما يهين اختياره الخاطئ لنفسه؛ ذلك الاختيار الذي أهان به كرامة الله فيه؛ فينتصر له بعدم قبول اختياره؛ لأنه لم يختر بإنسانيته لإنسانيته، مع احترامه للإنسان الذي فيه.. وإنك لا تجد أحداً من الناس يستبد برأيه، ويأطر الآخرين عليه، ولا يحترم آراءهم إلاّ رأيت فيه نقصاً؛ ذلك أنه لما عجز أن يبصر كرامة الله فيه لم يرها في الآخرين.
على هذا ينبغي أن تحترم في الإنسان منطقه إذا تكلم، وصمته إذا آثر السكوت، وتحترم فيه عقله؛ فلا تستخف به، ولا تدخل عليه خبالاً أو سخافة أو فكرة لا يستطيع حملها.. تحترم فيه قلبه؛ فلا تدخل على محراب وجدانه دون إذن منه؛ بأن تجرح له شعوراً، أو تدخل عليه إحساساً لا يريده.. تحترم فيه هذه النفس الإنسانية.. مرَّت برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة فقام على قدميه فقيل: (يا رسول الله هذا يهودي!) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليست بنفس؟!) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر فيه مَن اختاره إنساناً، ونفخ فيه من روحه..(/1)
أنت في هذا تتعامل مع إنسان يستصحب معه وجوده الإنساني كله؛ عقلاً وقلباً وروحاً.. وما عدا هذا فحقه عليك أن ترجعه إلى إنسانيته.(/2)
حقوق الإنسان بين الغزو الأجنبي الأنجلوأمريكي والفتح الإسلامي
أ.د./ محمد الدسوقي بن على
من الأمور الدالة على عظمة الإسلام والتي تدعو إلى المزيد من التعقل والتأمل، ما جاء به نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه من قوله في إحدى وصاياه لأصحابه الذين هم جند الحق: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [رواه أبو داود في سننه عن أنس]، والنهي عن الاعتداء على النساء يعني بالضرورة النهي عن التحرش بهن جنسياً وانتهاك أعراضهن ولو بكلمة نابية (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم..النور/23)، والحال كذلك بالنسبة للأطفال، والحق أننا نظلم الإسلام إن نحن قارناه- فيما لفت نبي الإسلام هنا أنظارنا إليه إبان إظهاره وأصحابه نور الله وهدايته للعالمين وأثناء نشره وإياهم رسالة السماء إلى الأرض، وفيما يعد نظاماً غير قابل للتعديل إلى قيام الساعة- نظلمه أن نحن قارناه بما يجري الآن على أرض الواقع في العراق على سبيل المثال من هجمة شرسة ليس لها ما يبررها، سوى نهب نفط وثروات البلاد والعباد بالقوة بعد سقوط النظام العراقي وبعد أن اتضح منذ البداية كذب ما ادعوه عن وجود أسلحة دمار شامل.
ففي إحصائية لعدد القتلى من المدنيين والمصابين ذكرت وكالات الأنباء منذ أيام أن اقتحام بلدة الفالوجة أسفر في غضون أيام قلائل عن قتل ما يزيد عن سبعمائة قتيل وألف مصاب كان معظمهم من النساء والأطفال، وأعاد هذا الخبر إلى الأذهان ما حدث- دون ما حساب ولا عقاب- في بلاد الرافدين العام الماضي وتحديداً في شهري مارس وأبريل، حيث ذكرت وكالات الأنباء ومنظمات حقوق الإنسان أن قوات الاحتلال المجتلبة من بلاد الديمقراطيات بدافع الحقد على الإسلام والمسلمين وبزعم الدفاع عن الشعب العراقي ضد الدكتاتورية، ألقت ما يزيد عن 13000 ثلاث عشر ألف قنبلة وقذيفة عنقودية في مناطق مزدحمة بالسكان مما أدى إلى قتل وجرح ما يزيد عن ألف مدني أغلبهم من النساء والعجائز والأطفال، وفي تقرير إحصائي آخر كشفت عنه القيادة الوسطى للجيش الأمريكي أوضح أن هذه القيادة ألقت 10782من هذه القذائف المحرمة دولياً تحتوي بداخلها على مليون و800 ألف قنبلة صغيرة، كما ألقت القوات البريطانية70 قذيفة عنقودية من الجو و2100 أخرى تحتوي على113190 قنبلة صغيرة أطلقت من البر، وأن نسبة كبيرة من هذه القنابل المرفوضة دولياً استقرت في المناطق السكنية وكان النصيب الأكبر منها لأحياء بغداد والناصرية وراح ضحيتها آلاف الأبرياء أغلبهم أيضاً من النساء والأطفال، وأن سجلات مستشفيات الحِلّة والنجف والناصرية رصدت في يوم 31مارس من نفس العام استشهاد وإصابة 2279 مدنياً خلال الشهرين المذكورين، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم تسقط مئات وآلاف الضحايا من المدنيين معظمهم أيضاً من النساء والأطفال.(/1)
وفي مجال الاغتصاب وانتهاك الأعراض تشير لجنة حقوق الإنسان في العراق إلى اتهام قوات التحالف الأمريكية والبريطانية باغتصاب العشرات من نساء العراق، ليس هذا فحسب بل والأطفال أيضاً، وذكرت اللجنة في رسالة موجهة منها إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان أنها سجلت خلال شهرين فقط من الاحتلال57 حالة اغتصاب لنساء و27 حالة اغتصاب لأطفال، كما اتهم العديد من سكان الفالوجة جنود الاحتلال الأمريكي بالتحرش بنسائهم مؤكدين أن ذلك يمثل إهانة تستوجب مقاومة المحتلين وقتلهم، وفي يناير الماضي قام الجنود الأمريكان باغتصاب العراقيات المعتقلات بسجن (أبو غريب)، وأكد بيان نشرته وكالة (قدس برس) الذي حمل نداء استغاثة، أن كثيرات من المعتقلات فقدن عذريتهن وأن بعضهن يحملن في أحشائهن أجنة من جراء عملية الاغتصاب، ولم يكتف هؤلاء الهمج الرعاع بما فعلوه بل نشروا صورة على عدة مواقع على شبكة الأنترنت لجندي أمريكي يشير بعلامة النصر ويقف بجواره طفلان يبتسمان ويحمل أحدهما لوحة مكتوب عليها باللغة الإنجليزية التي لا يفهمانها (هذا الجندي قتل والدي واغتصب أختي)، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة حتى في بعض الأوساط الأمريكية نفسها، فأية خسة هذه وأية نذالة، وصدق الله القائل: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ..محمد/12) .. والذي ينبغي أن تعلمه القوات الغازية وكل عراقي حتى أولئك الذين لا يزالون يدعمون التواجد الأجنبي وأعمال الاحتلال بمشاركتهم من خلال مجلس الحكم المحلي في تنفيذ سياسة العدو ولا ينتفضون في وجهه لقاء دراهم معدودة[حيث أعلنت مصادر أمريكية منذ شهر تقريباً أن أحمد الجلبي أحد أعضاء المجلس يتلقى شهرياً340 ألف دولار مقابل التجسس ونقل معلومات عن المقاومة إلى قوات الاحتلال، ومن الأعضاء الـ 25 الذين عينتهم قوات الاحتلال والمنوط بهم حكم العراق مدير المخابرات محمد عبد الله الشهواني الذي منحته أمريكا مائة مليون دولار لاستخدامها لتجنيد عملاء داخل العراق]، ليعلم هؤلاء جميعاً أن إخراج العدو من بلاد المسلمين واجب على الجميع لا فرق بين عظيم ووضيع، وأن الجهاد ما شرع إلا لنشر الدعوة ودفع العدو ومنعه عن انتهاك حرمة الدين والوطن والعرض (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان .. النساء/75)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.. البقرة/193)، وأن رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم قد أجلى يهود بني قينقاع عن بكرة أبيهم على فعل ما هو أقل مما ذكرنا بكثير، وعلّمنا عليه السلام أن (من قتل دون عرضه فهو شهيد)، وأن انتهاك عرض مسلمة واحدة لا يكفيه نقض عروش قوى التحالف مجتمعة، وأن المعتصم بالله أعلن عن تجهيز جيش بأكمله عندما علم أن مسلمة قد احتبسها عظيم الروم الذي كان يمثل قوة عظمى كأمريكا الآن حتى انتهى الأمر بالإفراج صاغراً ورغم أنفه عن هذه السيدة العفيفة، كما يجب عليهم أن يعرفوا أن إجماع المسلمين على أنه "إذا حضر العدو البلد الذي يقيم به المسلمون، فإنه يجب على أهل البلد جميعاً أن يخرجوا لقتاله، ولا يحل لأحد أن يتخلى عن القيام بواجبه نحو مقاتلته"[فقه السنة3/85]، والإجماع كما هو معروف حجة ومصدر تشريعي يأتي عقب الكتاب والسنة.
على أن ما يحدث على هذا النحو الذي ذكرنا في العراق من مجازر جماعية ومن قتل للآلاف من الأطفال والنساء والعجائز وانتهاك للأعراض، وقل أضعاف أضعافه في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك ومن قبل ذلك في أندونيسيا، يدعونا إلى الجزم بأن هذا هو كل ما تمخضت عنه حضارة الغرب، وهو ما يجعل من المحتم البحث عن شريعة أخرى- غير شريعة الغاب تلك- تضبط حركة الحياة والأحياء في الحرب والسلم ويعيش الناس جميعاً أقلية وأغلبية في ظلها في أمن وأمان وليس ذلك إلا في الإسلام دين محمد العظيم، كما أن ما حدث وما يزال في هذه البلاد المسلمة الفقيرة والمغلوب على أمر أهلها، يجعلنا نلتمس العذر لهذه الشبيبة المؤمنة التي قيضها الله لتدافع عن أوطان المسلمين وأعراضهم حتى لا يصبحان كلأ مباحاً لكلاب ضالة وذئاب جريحة تريد أن تفترس كل ما أمامها بأي شكل ودون وازع من ضمير أو دين ودون رادع من شريعة أو قانون ودون ما مراعاة لأدنى معاني الإنسانية لكون ما يفعلونه لا يمت إلى القيم أو المبادئ أو المثل بأدنى صلة، وعلى قدر ما يكون الفعل يكون رد الفعل، ولا أظن أن منصفاً ولو من غير المسلمين يخالفني هذا الرأي.(/2)
كما أن ما حدث يكشف عن زيف ما تنادي به هذه الديمقراطيات التي عفى عليها الزمن وأضحت لا تصلح لإدارة هذا العالم لما أفصحت عنه من عنصرية ومن انتهاك لحرمة الآدمي ومن إهدار لحقه في الحياة ومن فضح لما تدعيه من المناداة بحقوق للمرأة أو للطفل، فلا حرمة لدى هذه الديمقراطيات الزائفة ديمقراطيات القتل والاغتصاب والتدمير والإبادة الجماعية وهدم أماكن العبادة، لامرأة مسلمة، ولا حرمة لمسجد ولا حرمة لعجوز ولا حرمة لعالم دين ولا حرمة لطفل رضيع أو فطيم، الكل يهان والكل يباد والكل- وفي بلاده- يسجن، والكل يواجه بفوهات البنادق والدبابات ويقصف بصواريخ المدافع والطائرات، إنها الهمجية التترية التي فاقت بعجرفتها وفي شراستها الجاهلية الأولى وجاهلية العصور الوسطى، ولا بد من بديل يقيم العدل وينصف الظالم من المظلوم، إذ حاشاه سبحانه أن يترك أمر خلقه إلى حثالة من البشر ليس لها من عمل إلا الإباحية وإشباع الغريزة الجنسية من الحرام وإهلاك الحرث والنسل وإشاعة الفاحشة وإظهار الفساد في الأرض، فهو تعالى الرحيم بخلقه ومن رحمته أن أرسل إليهم من بعد عيسى عليه أزكى السلام، رسوله محمداً (بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .. الصف/9) وليخرج (الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.. إبراهيم/1)، وما حل ما حل بشعب العراق الأبي إلا لإحسانه الظن منذ البداية بمن ليسوا على دينهم حتى مكنوا لهم وحدث ما حدث.
فما أعظمك يا نبي الله ويا رسول الإنسانية ومبعوث العناية الإلهية للخافقين، وأنت تستنكر كل هذه الأعمال الوحشية التي اتسم بها أهل الباطل، ما أعظمك وأنت توّجه قادة جندك وقد أحيط بهم من قِبَل أقوى قوتين في العالم يومئذ (الفرس والروم) توجههم لمعان الرحمة والإنسانية، ما أعظمك وأنت تغرس فيهم كل معان القيم والمبادئ والمثل وكل المعاني الإنسانية النبيلة، "لا تغلوا (أي لا تخونوا في الغنيمة وبالمناسبة فقد ذكرت مصادر عليمة أن خزينة البنك المركزي العراقي كانت بها أموالاً وسبائك ذهب تقدر بـ40 مليار دولار وجدت فارغة وأن أكثر من 170ألف قطعة آثار سرقت وتم تهريب أغلبها خارج البلاد وما خفي كان أعظم)، ولا تغدروا ولا تمثلوا(من هنا كان استنكار علماء المسلمين لما عُدّ خروجاً واستثناءً عما هو الأصل)، ولا تقتلوا وليداً (وحدث في ذلك عما يحدث من قوى الاحتلال الغاشمة ولا حرج)"، ما أعظمك يا رحمة الله للعالمين وأنت ترى امرأة مقتولة فما يكون منك إلا أن تقول مستنكراً: (ما كانت هذه لتقاتل)، وتنهى بعدها عن قتل النساء والصبيان[رواه مسلم عن ابن عمر]، ما أعظمك وأنت تعلم أتباع دينك ما جاء في وصية أبي بكر لأسامة حين بعثه إلى الشام: (ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة و بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع- يريد الرهبان- فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"، ما أعظمك يا رحمة الله للعالمين وأنت تعلمهم أن ينبذوا إلى من يهموا بقتالهم فيُعِلموهم بذلك إعمالاً لقول الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء.. الأنفال/58)، ما أعظمك وقد تركت ُمثُلاً ونبلاً لا ولن يصل إليه الشرق أو الغرب أو غيرهما ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وأكتفي في هذا الصدد بما ذكره البلاذرّي في فتوح البلدان من أن أهل سمرقند قالوا لعاملهم (سليمان بن أبي السُّري) إن قتيبة بن مسلم الباهلي غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا- يعني دون أن يعلمنا- وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأْذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا.. فأذن لهم فوجهوا منهم قوماً إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: إن أهل سمرقند قد شكوا إليّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم- يعني دون منابذة- فإن أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة، فأجلسَ لهم سليمان (جميع بن حاضر) القاضي، فقضى بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال لهم أهل السند: بل نرضى بما كان ولا نجدد حرباً، لأن ذوي رأيهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمّنونا وأمّناهم، فإن عدنا إلى الحرب لا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا بعد أن عجبوا من عدالة الإسلام والمسلمين وأكبروهم، وكان ذلك سبباً في دخولهم الإسلام مختارين، وقالوا أن هذا عمل لم نعلم أن أحداً وصل في العدل إليه.(/3)
والحق أن الكلام في هذا وفي صون حرمة غير المسلم في بلاد المسلمين والحفاظ على كرامته، أكثر من أن يحصى وأعظم من أن يحيط به مجرد مقال، ولا عجب في هذا فالتاريخ وجميع الحقائق تشهد بأنه ما عاش أهل الأديان في ظل دين كفل لمخالفيه كرامتهم وصان حقوقهم وحريتهم الدينية، سوى دين المسلمين الذي هو في الأساس دين عيسى عليه السلام ودين جميع الأنبياء والذي قال عنه رب العزة سبحانه (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. الشورى/13)، وعليه فـ (من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).(/4)
حقوق الإنسان في الإسلام
مقدمة:
- تعريف الحقوق.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى عليه؟
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام.
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
الفصل الثاني: أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان.
أولاً: حق الحياة.
ثانياً: حق الكرامة.
ثالثاً: حق الحرية.
رابعاً: حق التدين.
خامساً: حق التعليم.
سادسا: حق معرفة الحق.
سابعا: حق التملك والتصرف.
ثامنا: حق العمل.
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية.
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية.
ثانياً: من حيث العمق والشمول.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات.
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان.
1- حرية التدين.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية.
3- حق الحرية.
4- حق التملك.
مقدمة:
- تعريف الحقوق:
تعريف الحقوق لغة:
قال الجوهري: "الحق: خلاف الباطل، والحق: واحد الحقوق، والحَقة أخص منه، يقال: هذه حقتي أي: حقي".
وقال الفيروز آبادي: "الحق: من أسماء الله تعالى أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر المقضي، والعدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت، والصدق، والموت، والحزم، وواحد الحقوق".
وقال المناوي: "الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره".
تعريف الحقوق اصطلاحاً:
الحقوق لها معنيان أساسيان:
1- فهي أولاً تكون بمعنى: مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال.
فهي بهذا المفهوم قريبة من مفهوم خطاب الشارع المرادف لمعنى (الحكم) في اصطلاح علماء الأصول، أو لمعنى (القانون) في اصطلاح علماء القانون.
وهذا المعنى هو المراد عندما نقول مثلاً: الحقوق المدنية، أو القانون المدني.
2- وهي ثانياً تكون جمع حق بمعنى السلطة والمكنة المشروعة، أو بمعنى المطلب الذي يجب لأحد على غيره.
وهذا هو المراد في مثل قولنا: إن للمغصوب منه حق استرداد عين ماله لو قائماً، وأخذ قيمته أو مثله لو هالكاً، وإن للمشتري حق الرد بالعيب، وإن التصرف على الصغير هو حق لوليه أو وصيه ونحو ذلك.
ويمكن تعريف الحق بمعناه العام بأن يقال: الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى؟
قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [الروم:47].
قال ابن كثير: "أي" حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً".
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
قال القرطبي: "أي: أوجب ذلك بخبره الصادق ووعده الحق".
وقال ابن كثير: "أي: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}.
ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه، لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدّعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية".(/1)
وقال ابن القيم: "وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} [التوبة:111]، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ((أتدري ما حق الله على عباده؟)) وفيه: ((أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، وقوله: {لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، إلى أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسِم على نفسه أو منعه نفسَه، وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع، بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب، قالوا: وإذا كان معقولاً من العبد أن يكون طالباً من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوء} [يوسف:53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، مع كون العبد له آمر ونهاه فوقه، فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناهٍ كيف يمتنع منه أن يكون طالباً من نفسه فيكتب على نفسه، ويحق على نفسه، ويحرم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد، وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاق ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله، ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء، وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه، فذاك نوع وهذا نوع، ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسألة وتبلج صبحها".
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:
1- خلقه في أحسن تقويم:
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
قال ابن عباس: (في أعدل خلق).
قال ابن كثير: "إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها".
2- نفخ فيه من روحه:
قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة:9].
وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72].
قال الواحدي: "وأضاف روح آدم إليه إكراماً وتشريفاً".
3- أمر الملائكة بالسجود لآدم:
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال ابن كثير: "وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم، امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم".
4- تعليم آدم الأسماء كلها:
قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ e قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. [البقرة:31، 32].
قال ابن كثير: "هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم".
5- جعل الإنسان خليفة في الأرض:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
قال البغوي: "والصحيح أنه خليفة الله في أرضه؛ لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه".
قال ابن عاشور: "وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار؛ ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس".
6- تفضيل الإنسان على كثير من المخلوقات:
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].(/2)
قال الشوكاني: "أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه، فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته... والتأكيد بقوله {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه".
7- تسخير المخلوقات للإنسان:
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
قال ابن سعدي: "وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته".
الصحاح (4/1460).
القاموس المحيط (3/221).
التوقيف على مهمات التعاريف (ص 287).
المدخل الفقهي العام (3/9-10) لمصطفى الزرقاء.
تفسير القرآن العظيم (3/446).
الجامع لأحكام القرآن (6/435).
تفسير القرآن العظيم (2/140).
أخرجه البخاري في الجهاد، باب اسم الفرس والحمار (48)، ومسلم في الإيمان (30).
مفتاح دار السعادة (ص 430-431) ببعض اختصار.
تفسير ابن أبي حاتم (10/3448).
تفسير القرآن العظيم (4/527).
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (3/45).
تفسير القرآن العظيم (1/80).
تفسير القرآن العظيم (1/78).
معالم التنزيل (1/79).
تفسير التحرير والتنوير (1/400).
فتح القدير (3/244-245).
تيسير الكريم الرحمن (ص 776).
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام:
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة، وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد.
فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله تعالى وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق:
من خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.
كما أن هذه الحقوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل:
من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية.
إن وثائق البشر قابلة للتعديل غير متأبية على الإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرضوه على الدساتير لم يحمها من التعديل بالأغلبية الخاصة.
وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باق ما دامت السماوات والأرض.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية:
ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور محمد الزحيلي (ص 132-133) بتصرف.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان في الإسلام. د.سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
حرمات لا حقوق، لعلي جريشة.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية:
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية:
لقد كان للشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء.(/3)
فحقوق الإنسان المهددة اليوم والتي ندعو إلى حمايتها واحترامها قد أقرها الإسلام وقدسها منذ أربعة عشر قرناً فسبق بها سبقاً بعيداً عما قال به القرن الثامن عشر الذي عُد قرن حقوق الإنسان.
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، فليس من حق بشر كائناً من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات أياً كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها.
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم.
فيتضح أن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية وليست مجرد توصيات أو أحكام أدبية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
ثانياً: من حيث العمق والشمول:
حقوق الإنسان في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، فحقوق الإنسان في الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما مصدر حقوق الإنسان في القوانين والمواثيق الدولية فهو الفكر البشري، والبشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويتأثرون بطبيعتهم البشرية بما فيها من ضعف وقصور وعجز عن إدراك الأمور والإحاطة بالأشياء، وقد أحاط الله بكل شيء علماً.
إن الحقوق في الإسلام تبلغ درجة الحرمات وهي في هذا تمر بدرجات، فالحقوق مُسَلَّمة، ومن بعدها تدعمها الواجبات، ومن بعد الواجبات تحميها الحدود، ومن بعد الحدود ترتفع إلى الحرمات.
وإذا كانت المواثيق البشرية قد ضمنت بعض الحقوق فإن الإسلام بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شملا جميع أنواع الحقوق التي تكرم الله بها على خلقه.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات:
إن حقوق الإنسان في القوانين الوضعية لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك.
فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م نجده لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي.
كما تضمن الإعلان تحذيراً من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة، وتضمنت أيضاً تشكيل لجنة لحقوق الإنسان تقوم بدراسة تقارير الدول الأطراف عن إجراءاتها لتأمين الحقوق المقررة، كما تتسلم التبليغات المقدمة من إحدى الدول الأطراف ضد أخرى بشأن أدائها لأحد التزاماتها المقررة بمقتضى الاتفاقية وذلك بشروط معينة.
وبالنظر إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان نجدها محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وهي تقوم على أمرين:
1- محاولة الاتفاق على أساس عام معترف به بين الدول جميعاً.
2- محاولة وضع جزاءات ملزمة تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان.
إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبراً على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات.
أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، وهما:
1- إقامة الحدود الشرعية، إذ إن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد.
2- تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل:90].
قال ابن عطية: "والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق".
وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه في إقامة العدل فكانت حياته كلها عدل، وعلم أصحابه العدل وأوصى أمته به وحذرهم من الظلم، ووضع منهج الإسلام في إقرار العدل والمساواة والمحافظة على الحقوق وحمايتها.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 87).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103).
حقوق الإنسان للحقيل (88-89).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 89).
حقوق الإنسان للحقيل.
المحرر الوجيز (2/416).
تفسير القرآن العظيم (1/528).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103-104).
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان:(/4)
لم تظهر فكرة حقوق الإنسان جزئياً بشكل رسمي عند الغرب إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق للقرن السابع الهجري، أي: بعد نزول الإسلام بسبعة قرون، وذلك نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا، ثم في القرن الثامن عشر في أمريكا لمقاومة التميز الطبقي أو التسلط السياسي أو الظلم الاجتماعي.
1- حرية التدين في الغرب:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في حرية الدين وحرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة.
فالإنسان عند الغرب حر في أن يختار الدين الذي يريده وحر في أن يغير دينه متى شاء.
وهذا يتعارض مع تعاليم الإسلام الذي لا يجيز للمسلم تغيير ديانته، بل يعتبر ذلك ردة ويجب إقامة الحد فيها؛ لأن السماح بالردة يشكل خطراً على أمن الدولة الإسلامية، ويخالف ما قصده الإسلام من حفظ للضروريات الخمس التي على رأسها ضرورة حفظ الدين الذي تقوم الدولة الإسلامية أساساً عليه.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين.
فيبيح للكافر التزوج بمسلمة وللمسلم التزوج بالكافرة بدون أي قيود على ذلك.
وهذا يخالف تعاليم الإسلام التي لا تجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وذلك صيانة للأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين عند احترام الزوج بموجب عقيدته لمقدسات زوجته لأن المرأة أحد عنصري الأسرة الأكثر حساسية في هذا الموضوع بسبب شعورها بالضعف أمام الرجل".
3- حق الحرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق".
وفي اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية: "لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا على أساس من القانون وطبقاً للإجراءات المقررة".
وهذا الحق يكاد أن يكون نظرياً اليوم، ويعاني الأفراد والشعوب الويلات من الإفراط والتفريط بحق الحرية، والمتاجرة بها والتغني فيها وعدم ضبط الممارسات فيها وحولها، حتى قالت إحدى نسائهم: "كم من الجرائم ارتكبت باسمك أيتها الحرية".
4- حق التملك:
تفاوت مفهوم حق التملك عند الغرب تفاوتاً هائلاً.
فالرأسمالية أطلقت حرية التملك إلى أبعد الحدود وجردته من كل قيد حتى استبد الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال بمقدرات الأمم والشعوب واستنزفت خيرات البلاد وطبقات الفقراء والعمال.
بينما تمادت الشيوعية في الإفراط والغلو وألغت الملكية الفردية وفرضت ملكية الدولة الكاملة، واستولت على جميع وسائل الإنتاج، وأصبح العمال مجرد آلات للعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 101).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 181).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 155-156) بتصرف.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 82).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 161).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 170).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 315).
.(/5)
حقوق الانسان مابين الشريعة الاسلامية والقوانين الوضعية
طريف السيد عيسى *
alsayed_59@hotmail.com
تثار اليوم ضجة كبيرة حول قضايا حقوق الانسان والحريات والديمقراطية ويتم التركيز على العالم الاسلامي والوطن العربي تحت شعار الشرق الاوسط الجديد فهي شعارات مغلفة بالعسل وبداخلها سم زعاف ,فهي شعارات طرية ناعمة الملمس لكنها مثل الحية الرقطاء وهذا ما سنبينه حول واقع القوانين الوضعية وموقفها من حقوق الانسان .
أستهل الحديث بقول الله تعالى:
( يآيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) الحجرات 13
( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) الروم 22
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99 .
نصوص واضحات بينات تدحض كل تعصب ينكر واقع الحال لبني البشر من حيث العقيدة واللون واللغة والقومية, ويعتبر واهما كل من يعتقد أن يكون الناس جميعا بعقيدة واحدة ولون واحد وقومية واحدة ولغة واحدة , وكل من يدعوا الى هذا التعصب انما يدعوا الى التنافر والاقتتال .
وقد يقول قائل انها قيم عظيمة لايمكن انكارها لكنها مفقودة على أرض الواقع وجوابنا المختصر أن عجز المسلمين في عدم التعامل مع هذه القيم لايلغي دورها وقدرتها على الانتاج من جديد في حال تم التعامل معها فالخلل في المطبقين وليس في المنهج.
وهذا يدعوا السلمين وخاصة العلماء والدعاة والمفكرين والجماعات الاسلامية للتخلص من حالة الاعجاب بهذه النصوص والاتجاه نحو تطبيقها على أرض الواقع لمعالجة المشاكل التي نشأت بسبب غيابها.
كما انه لايمكن الانكار أن الحكام والسلاطين في يومنا هذا يبعدون كل مخلص ويقربون أهل المنافع الشخصية أصحاب الولاء للحاكم أو لجهات خارجية همها ابقاء هذه الأمة على حالتها الراهنة .
ولايمكن لأي أمة أن تحقق تقدما وأفرادها مسلوبي الارادة وفاقدي الحرية والقيمة الانسانية,وهذا لاينطبق على سلطان الجور والاستبداد بل ينطبق أيضا على بعض التيارات والحركات الاسلامية التي تعاني من حالة المرض المزمن بالتضييق على الرأي الآخر وصاحب النقد والتقويم سواء من الداخل أو الخارج حتى غدت بعض هذه التيارات تعيش داخل محميات وتضع لنفسها الاسوار فتنتشر فيها أدبيات التعصب الحزبي مما يجعلها ولسان حالها يقول نحن المقياس السليم للايمان وفهم الاسلام , وينسى هؤلاء أن الاسلام دين مفتوح للجميع وليس حكرا على أحد وما هذه التيارات والحركات الا وسائل لتحقيق الاسلام والشهادة على العالمين.
ان حقوق الانسان واحترامها تمثل قمة في التدين وكل من يرفض هذا المنطق فنقول له ان المشكلة فيك وليس في الشريعة فصوب فكرك وفهمك وفقهك وليتطابق المعتقد مع السلوك .
كما أنه من الظلم أن نحمل الاسلام حال الامة اليوم من هدر للكرامة والحقوق بل يتحمل ذلك كل من عمل على ابعاد الاسلام عن الحياة ليرسيخ الاستبداد والظلم والقهر والجبروت , وهنا لابد لمن أراد التصدي لهذا الأمر أن يكون القدوة العملية تحت شعار لا اكراه.
حقوق الإنسان في المواثيق الدولية
لاينكر عاقل أن الله خلق الوجود بتوازن وتكامل فكان الانسان معجزة من معجزات الخالق عزوجل فهو روح وجسد وعقل وسمع وبصر وفؤاد
( ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) الاسراء 70.
فخلق الكون وارسال الرسل وانزال الكتب كل ذلك ليقيم الانسان حياته على الصراط المستقيم ويؤمن أن الله هو المشرع .
ولكن عندما يبتعد الانسان عن منهج الله يصاب بالغرور ويتبع الهوى فيشرع لنفسه ولغيره مالم يأذن به الله , ومعلوم أن الانسان مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة يبقى علمه محدودا أمام خالق الكون , وكل من ينصب نفسه مشرعا بدل الخالق فينطبق عليه قول الله تعالى
( قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) المائدة 77.
ومنذ أن أقر ميثاق الأمم المتحدة الخاص بحقوق الانسان وهي تسعى لابراز دورها على أنها راعية حقوق الانسان بل ان بعض الدول تفرض نفسها على أنها هي الراعي الأول لحقوق الانسان ولو كان على حساب الانسان نفسه من قتله وامتهانه وحرمانه من أبسط هذه الحقوق .
ولابد لنا من وقفة متانية مع هذا الميثاق لنوضح أنه محدود المدلول .
فكم نشهد حروب تحت زعم الحفاظ على حقوق الانسان لكننا نجد أن هذه الدول هي أول من ينتهك تلك الحقوق بل نجدها ترفض التوقيع على أي معاهدة تلزمها بهذه المواثيق للحد من عدوانيتها, لكن الذي عاش لفترة طويلة يعاني من العمى وفجأة ابصر فعندما يرى ضوء الشمعة فيحسبه ضوء الشمس .(/1)
وهاقد مر زمن طويل على هذا الميثاق وكل يوم نرى ونسمع عن انتهاك الحقوق والتمييز بل اننا نجد هذه الدول ترعى دولا تقوم بأفظع الجرائم بحق الانسانية , فهل ينكر عاقل التمييز بين الأسود والأبيض في أمريكا وهل يخفى على أحد الفرق الكبير في الدخل بين مناطق السود والبيض في أمريكا وهل ينكر منصف أن نسبة مشاركة المرأة في الوزارات والمناصب لاتساوي الا واحد بالمائة في أمريكا فأين تطبيق هذا الميثاق .
ثم ماهي السلطة العليا التي تلزم الدول بالالتزام بهذا الميثاق بل ان الميثاق يخضع لسياسة الدول المتغلبة وبالتالي يبقى هذا الميثاق عرضة للانتهاك ( يقول آرنولد توينبي صاحب كتاب مختصر تأريخ الحضارات – عن ميثاق الامم المتحدة لحقوق الانسان بانه ميثاق سخيف لأنه أعطى لبعض الدول حق الفيتو الذي يجهض أي قرار لنصرة المظلوم ) .
ثم ان أي ميثاق يحتاج الى برامج ومناهج لاصلاح الفرد والمجتمع والدولة وهذا مايفتقده الميثاق مما جعله فاقدا للمصداقية وخاضعا لمزاج الدول الغالبة والقوية التي تتحكم بمصير الشعوب وهذا مادفع ممثل الصين في مجلس الأمن ليقول ذات مرة ( أمريكا تتعامل مع مجلس الأمن بالحذاء ) .
وهذا مايجعل ذلك الميثاق مسيطرا على الأمور فقط على الورق لانه لايحمل أي منهج للاصلاح وهكذا سيبقى كالجائع الذي يتغذى على رائحة الخبز.
مالفائدة أن يقر الميثاق الحقوق الاساسية للانسان والأمم وفي نفس الوقت أعطى حق النقض الفيتو لبعض الدول حصرا وهذا يتناقض مع كل قيم الحرية والديمقراطية بل انه قمة الاستبداد لانه يجعل مصير العالم بيد دولة تتحكم بمصائر الشعوب والدول .
وقد يقول قائل الباب مفتوح للشكوى والتظلم فنقول مالفائدة من التظلم طالما هناك دولة واحدة قادرة على افشال أي محاولة للانتصار لحقوق المظلوم .
كما أن هذا الميثاق فيه من الثغرات القانونية والتي مكنت بعض الدول من المساءلة والقضاء لان الميثاق في بعض نصوصه ينص على أنه لايتدخل في القضاء الدولي الا في حال رضى الطرفين الظالم والمظلوم ,فمتى كان الظالم يرضى بالاحتكام الى العدل عندما يكون مخيرا بين القبول وعدمه وهذا ماجعل هذا الميثاق يقوض الحقوق بشكل جماعي لانه مافائدة المواثيق اذا لاتوجد جهة تلزم الظالم والمعتدي للمثول أمام القضاء العادل .
وعندما نبحث عن العدالة في الميثاق فلا نجد أي نص يتكلم عن العدالة بل نجد عكس ذلك حيث هناك نص يقول ( اذا تقاطع السلم مع العدالة فلا عبرة بالعدالة وانما العبرة بالسلم والأمن الدولي وذلك باعادة السلم الى نصابه – المادة الأولى – الفقرة الأولى ) فلنفترض أن دولة تملك حق النقض أو احدى حليفاتها على دولة صغيرة ضعيفة وأفقدت هذه الدولة كل الحقوق ودمرت بنيته التحتية فبموجب المادة الاولى على الدولة المعتدى عليها أن تستسلم استسلام المكره للقوة العاتية الظالمة وهذا منافي لكل قيم العدل , أو تقوم برفع دعوى للامم المتحدة وهنا ندخل من جديد في دوامة حق النقض الفيتو أو يتوجب قبول الطرفين بالاحتكام الى القانون الدولي وهذا أيضا يدخلنا في متاهة تهرب الظالم من قانون العدل .
لذلك نجد الميثاق فتح الباب واسعا لتملص الدول القوية ومالكة حق النقض للتهرب من أي مساءلة , في حين نجد شريعة السماء أوجبت القتال ضد المعتدي الظالم لانه لاقيمة للسلم القائم على الظلم( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد 25
( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ الى أمر الله ) الحجرات 9.
كما أننا نجد الميثاق وتكريسا لهيمنة الدول الكبرى والقوية حيث تمكن هؤلاء من الاحتياط لاي تغيير في الميثاق قد يحد من هيمنتهم حيث أنه في حال الطلب لتعديل أي نص فان ذلك يخضع أيضا لحق النقض الفيتو حسب المادة (108) من الميثاق , وهذا يبقي حقوق الانسان والدول الضعيفة رهينة وأسيرة للدول الكبرى صاحبة حق النقض .
اذا كان هذا هو حال ميثاق صادر عن جهة تعتبر مظلة لكل الدول فكيف لمواثيق صدرت عن جهات غير رسمية ولا دولية ولاتملك أي سلطة لتنفيذها فانها قطعا سوف تتعرض للانتهاك أكثر بكثير من ميثاق الأمم المتحدة .
كل ماتقدم يثبت فشل ميثاق الأمم المتحدة في الحفاظ على حقوق الانسان والشعوب , وبما أن الانسان يشرع لنفسه فانه يشرع بما تقتضيه مصلحته وبالرجوع الى العديد من القرارات الدولية نجد أنها ضربت عرض الحائط بحقوق الانسان وحقوق الشعوب فدمرت دول وتم قصفها بالاسلحة المحرمة كما حصل في هيروشيما وناغزاكي وكما حصل في فيتنام وكما يحصل اليوم في العراق .(/2)
ان الأمم المتحدة راعية حقوق الانسان والشعوب هي نفسها من شرع في مؤتمر القاهرة الدولي الخاص بالاسكان والتنمية أنه يجوز انشاء المراكز الطبية التي تعمل على احهاض النساء الحوامل أثناء فترة الحمل وهي نفسها شرعت في مؤتمر بكين للمراءة بجواز زواج الرجل من الرجل وزواج المرأة بالمرأة تحت دعوى الحريات الشخصية وبذلك حازت هذه المؤسسة الدولية على مرتبة الشرف في جعل الرذيلة نظاما عالميا مخالفة بذلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
ان كل هذا التناقض لان الميثاق لايملك منهج وبرنامج للاصلاح ولأنه من صنع البشر بينما نجد شرع الله وضع النصوص وآليات التنفيذ مع برامج الاصلاح اللازمة من خلال الايمان بالله على أنه المشرع والايمان باليوم الآخر والعقاب والجزاء والمكافئة وحض الانسان على الالتزام بالأخلاق الحميدة .
وطالما أن هذا الميثاق يفتقد لهذا المنهج فانه سيبقى ينتقل من فشل الى آخر ومن اخفاق الى آخر وبذلك ينطبق عليه وعلى من يجعل هذا الميثاق هو المرجعية الاولى والاخيرة قول الله تعالى :
( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوقاه حسابه والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) النور 39-40
حقوق الانسان في ضوء دستور الدول
يعتبر دستور أي دولة عبارة عن صيغة تنظيمية لتنظيم عمل أجهزة الدولة وبيان الحقوق والواجبات وبذلك يجب أن يكون الدستور حاميا لحقوق الانسان من أي اعتداء سواء كان من قبل أجهزة الدولة المدنية أو الأمنية والعسكرية أو من قبل أي جهة من غير الدولة .
كما أن الدولة وأجهزتها المختلفة وكافة المؤسسات والتجمعات ملزمة بهذا الدستور وأي خروج عنه يعتبر نوع من الاستبداد والتسلط والتعدي على الحقوق وعليه لابد من تطبيق الدستور على الجميع بلا أية محاباة.
ومعلوم أن دولة القانون والدستور حتى تستقيم أمورها دون طغيان وتسلط لابد أن تتوفر فيها عدة أمور :
- وجود دستور تتوفر فيع عملية التدرج في النصوص القانونية
- أن تخضع الدولة وأجهزتها وباقي مكونات المجتمع لهذا الدستور
-أن ينبع هذا الدستور من حضارة وهوية وثقافة المجتمع
- أن يتضمن الدستور اعترافا صريحا بالحريات والحقوق الفردية والجماعية وتوضع الآليات التي تضمن عدم التجاوز على أي نص من الدستور أو تجميده لمصلحة حزب أوفئة ما وفي نفس الوقت يتضمن آليات التنفيذ وبرامج الاصلاح .
فوجود الدستور أمر ضروري لأنه يضمن قيام العمل المؤسسي ويحد من التسلط والتفرد وبذلك يكون السياج الذي لايجوز الخروج عليه او عنه لأنه في تلك الحالة تفقد الدولة قانونيتها وشرعيتها.
كما أن عملية التدرج في النصوص بحيث تكون هناك نصوص تسمو على نصوص أخرى بحسب أهميتها وأن تكون هناك نصوص تابعة لغيرها بحيث يخضع النص الأدنى للنص الأعلى دون أي تناقض بينهما , كما يجب أن تكون هناك نصوص تعبر عن السمات الرئيسية للدولة بحيث لايجوز لأحد كان من كان أن يخرج عليها أو عنها.
وفي الدستور لايجوزلأي دائرة أو جهاز أو مؤسسة أن تتخذ أي اجراء يتعارض مع الدستور لأن هذه الدوائر والأجهزة والمؤسسات جزء من الدولة فعليها الخضوع لسلطان الدستور , وأي خروج يعني أن الدولة الواحدة تتحول الى عدة دول فهذه دولة أمن الدولة وهذه دولة المخابرات العسكرية وتلك دولة العسكر وهؤلاء حرس قديم وأولئك حرس جديد .
أما قضية الحريات والحقوق فهي الهدف من قيام دولة الدستور والقانون لانهما وجدا لضمان تمتع الأفراد بحرياتهم العامة , وأي انعدام أو تعدي عليهما فهذا يعني أن الدولة تحولت الى الأستبداد والظلم والقهر وحكم الفرد والجزب القائد للدولة والمجتمع وانعدام الأمن .
كل ذلك يستدعي ضمانات لابد منها لسيادة الدستور وتتمثل هذه الضمانات في :
- الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية
- تنظيم عملية الرقابة القضائية بعيدا عن كل أشكال الهيمنة والاملاء
- تطبيق وتفعيل نظام الشورى ( الديمقراطية )
ان عملية الفصل بين السلطات الثلاث ضمان لعدم اعتداء أي منهما على عمل الاخرى وفي نفس الوقت يلزم الدولة على احترام تلك السلطات , لكن لايمنع أن تشكل كل سلطة حالة رقابية على السلطة الأخرى , كما أن عملية الفصل تمنع سيطرة سلطة على أخرىوبذلك تستمد هذه السلطات صلاحياتها من الدستور ولاتخضع لأي جهة ما في الدولة .(/3)
وعندما يكون القضاء نزيها ومستقلا ويمتلك صلاحيات الرقابة فانه في تلك الحالة تخضع الدولة لسلطة الدستور وليس العكس وهذا يتطلب أن تكون هناك حصانة لتلك السلطة تتمكن من الفصل في المخاصمات بكل حرية سواء بين أفراد المجتمع أو بين الدوائر والأجهزة وسلطة القضاء هي التي تحكم بخطأ أو صحة أي تصرف بعيدا عن هيمنة الأمن والمخابرات والمتنفذين في الدولة حتى لو كان رأس الدولة نفسه .
أما الشورى ( الديمقراطية كأسلوب لادارة الدولة وليس مصدر للتشريع ) فانها أضمن وسائل الرقابة على الجميع بلا استثناء من رأس الهرم في الدولة الى أصغر محكوم , كما أنها تفتح المجال واسعا للمساهمة الايجابية والفعالة داخل المجتمع في جو من التنافس الشريف لانها لاتسمح بهيمنة فئة على مقدرات البلاد والعباد وهذا يدفع بالجميع للمساهة في بناء الدولة والمجتمع ولا تشعر أي فئة سواء كانت دينية أو قومية أنها مهمشة.
وعندما نستعرض دساتير بعض الدول نجد فيها من الخلل والثغرات التي جعلت من الفرد صنما يعبد ومن الحزب قائدا وحيدا للدولة والمجتمع وكل ذلك يرجع الى :
- فساد الأساس الفكري والمرجعية التي اعتمد ت عليها عملية انشاء الدستور الذي تم وضعه من قبل البشر وهم محدودي القدرات وسيبقون كذلك لان الانسان مهما بلغ سيبقى فهمه قاصرا عن فهم الكون والسنن الكونية والمستقبل كما أن الانسان يبقى غير معصوم عن الخطأ لذلك لابد من اعتماد مرجعية هي من خلقت الانسان والكون وهي شريعة الله .
- ان الدساتير الحالية ستبقى عرضة للتجاوز وظلم الآخرين وباسم الدستور وبغطاء منه لان الانسان هو من وضعه.
- كما أن الانسان تتلاعب فيه الأهواء والمصالح وبذلك يمكنمه التلاعب بالدستور في اللحظة التي يرى فيها أن عملية التعديل أو التغيير في الدستور هي لمصلحته أو لمصلحة فئة معينة ولايستدعي الأمر أكثر من اشارة أمنية ليتم عقد اجتماع طارئ للسلطة التشريعية وخلال وقت قصير يتم تعديل أي نص بما يتلائم مع مصلحة القائد الأوحد , أو أنه تحت غطاء أن البلاد تمر في ظروف صعبة فعليه يتم اقرار قوانين الطوارئ والأحكام العرفية ويتم تجميد فعالية القضاء ليحل محله القضاء الأمني والعسكري وتفتح المعتقلات أبوابها لتستقبل عشرات الالوف من المواطنين تحت مبرر حالة الطوارئ وبذلك تتوسع حالة الاستبداد حتى تصبح كالسرطان وتنتشر في المجتمع طبقة المستفيدين الذين يدورون في فلك المستبد فيتحركون لحركته ويسكنون لسكونه ويصبح القائد الأوحد هو قبلتهم .
- وفي غياب سلطة الدستور يعمل المستبد على حجب الشمس عن كل معارض فتختفي المؤسسات وتذوب السلطات وتداس القوانين تحت أقدام الأجهزة الأمنية والعسكر فيصبح الحاكم هو الخصم والحكم وهو القاضي والجلاد .
- وفي غياب سلطة الدستور تصبح الدولة بكل دوائرها وأجهزتها صانعة لمعاناة الشعب وقاضية على آماله بل ان الشعب مجبر على الهتاف باستمرار بالروح بالدم نفديك ياقائد بفضل اتساع مساحة الخوف والقلق التي تزرعمها أجهزة الأمن والمخابرات التي تصبح أكثر من عدد وزارات الدولة .
- وفي غياب سلطة الدستور تنقلب المفاهيم فيصبح الاستبداد ديمقراطية مفصلة على مقاس النظام تحت شعار أنت حر في أن تقول ما أريد وبذلك تصبح الديمقراطية تأصيلا للطغيان والديكتاتورية وتصبح صناديق الاقتراع توابيت لدفن ارادة الشعب .
الشريعة الاسلامية وحقوق الانسان
يعتبر الاسلام نظاما كاملا ومتوازنا لكل شؤون الحياة والنصوص التشريعية للقرآن الكريم وماثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أول تأسيس لدولة القانون لانها تشريع الهي لادخل لهوى ومصلحة الانسان فيه .
وبما أن الانسان هو مدار التكليف فلقد اهتمت الشريعة بحقوق الانسان بشكل شامل وواسع لعامة الناس دون تمييز لأن النصوص قامت على عقيدة الايمان بالله وبذلك خرج الانسان من دائرة العبودية لغير الله تعالى.
والنصوص القرآنية والثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لايمكن التلاعب فيها لأن الأمة كلها ستقف بوجه من يتلاعب بالنصوص .
وهذه النصوص تتعامل مع الجميع بروح واحدة ودون تمييز ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) الحديد 25.
واضافة الى عملية الرقابة من قبل السلطات الثلاث فهناك سلطة رابعة مستقلة لاتتبع للدولة وتتمثل بالعلماء الذي يتمثل دورهم في النصح والتقييم بل يمكن لهم اذا وجدوا انحرافا واضحا من الحاكم أن يعملوا على استبداله وهذا ماقرره أغلب الفقهاء وأهل العلم من الامام الجويني وغيره(/4)
( يقول الامام الجويني في مؤلفه الغياثي صفحة 57: ومما يتصل باتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للامامة اذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشا احتكامه واهتضامه وبدت قضماته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الاسلام ولم نجد من ننصبه للامامة حتى ينتهض لدفعه حسب مايدفع البغاة فلا نطلق القول للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا فانهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا و أبيروا –أي ذهبت ريحهم _ وكان ذلك سببا في زيادة المحن واثارة الفتن ولكن اذا اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع يقوم محتسبا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وانتصب لكفاية المسلمين ما دفعوا اليه فليمض في ذلك قدما والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناهج وموازنة مايدفع ويرتفع بما يتوقع ) .
فالشريعة الاسلامية لاتؤمن برفع الشعارات ولا تضميد الجراح ومازال القيح بداخلها بل تأمر بالتنظيف والتنقية وتأهيل المصاب ببرنامج علاجي اصلاحي وبذلك تكون الحقوق هي عملية غير نظرية.
وعقيدة الاسلام فرضت على الانسان الا لتزام بحقوق الانسان من خلال الثواب والعقاب الدنيوي والأخروي ( ان الابرار لفي نعيم وان الفجار لفي جحيم ) الانفطار 13-14
فالبر والاحسان من أرقى قيم حقوق الانسان لذلك حذر الله كل من يتمادى بالفجور والاعتداء على الآخرين وبذلك كانت العقيدة لها اثر كبير في اصلاح سلوك الانسان بشكل ذاتي وبدافع ايماني لأن ضمير المسلم ونفسه هما الرقيب على التصرفات والسلوك ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) القيامة 1-2
فنفس المؤمن تلوم صاحبها على كل قول أو تصرف وسلوك والمؤمن من خلال العقيدة يؤمن بان قضية حقوق الانسان على أنها منهج رباني يجب الالتزام بها .
ولعبت أخلاق الاسلام دورا مهما في تفعيل الايمان بحقوق الانسان لأن الاخلاق أساس من أسس الاسلام ولايستقيم ايمان الانسان اذا كان هناك تناقض وتعارض بين عقيدته وسلوكه , وأخلاق الاسلام تفرض على المسلم أن يكون نظيف القلب خاليا من كل أشكال الحقد والكراهية ( قال عليه الصلاة والسلام ألا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وعليه فالمسلم محاسب على كل سلوك ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) الزلزلة 7- 8 .
ولو تتبعنا سور القرآن الكريم لوجدنا نصوص كثيرة تحض على احترام حقوق الانسان ويكفي سورة الحجرات التي اشتملت على هذه المعاني ( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) الحجرات 6 وفي( يا أيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهمن ولاتلمزوا أنفسكم ولاتنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات 11
وفي خطبة الوداع ( قال صلى الله عليه وسلم : ان دمائكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .
ولم يقتصر الأمر على العقيدة والأخلاق بل تلعب العبادة دورا مهما في قضية حقوق الانسان لان العبادة تربط الانسان بخالقه وتخرجه من دائرة العبودية لغير الله وتعمل على تزكية النفس وترفعها عن ايذاء الآخرين بل انها تجعل الجميع سواسية ففي الصلاة يقف الرئيس والمرؤوس بجانب بعضهم وفي الحج الكل بلباس واحد لافرق بين ابيض أو اسود ولابين سيد ومسود وفي الصيام الجميع يجوع ويعطش فلا فرق بين غني أو فقير وكذلك فالعبادات تهذب النفس وتنهى عن الايذاء ( ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) فالفحشاء والمنكر مصطلحان عامان يدلان على كل قول أو عمل سئ بحق النفس أو بحق الآخرين .
وبذلك نجد أن النصوص بشكل عام الزمت السلم باحترام حقوق الانسان وبما أنها نصوص ربانية فهي ضمانة لخلوها من النقائص والأخطاء وهي السبيل الوحيد لضمان العدل والرحمة ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) البقرة 138
كما أن هذه النصوص لها قدسية عند السملم مما يحرم عليه الخروج عليها وهي طاعة اختيارية نابعة من النفس التي آمنت بالمنهج الرباني ( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) النساء 65.
ولم تقتصر النصوص على دائرة المسلمين بل شملت غيرهم لتحصنهم من الاعتداء عليهم ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين ) الممتحنة 8
فهي نصوص لعدم الاعتداء طالما غير المسلم لايعتدي ودعوة الى البر والاحسان والقسط بالعدل فاي قيم أرقى من هذه القيم التي تدعوا لاحترام حقوق الانسان بغض النظر عن دينه .(/5)
كما أن الشريعة جعلت مسؤولية الحفاظ على الحقوق مسؤولية ثنائية فالفرد مسؤول والسلطة مسؤولة فلا يجوز أن تقوم السلطة بالتطبيق بينما الفرد لايطبق والعكس صحيح ايضا ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) التوبة 71.
وحقوق الانسان في الاسلام منحة الهية لايحق لبشر أن يحجبها أو يمتهنها أو ينتقص منها الا في حال قيام الانسان بتصرف يستدعي المحاسبة والرقابة وكل ذلك يكون بموجب قانون وليس بهوى نفس .
وحقوق الانسان في الاسلام وسطية معتدلة متوازنة فلا تطغى حقوق الفرد على حقوق الجماعة والعكس صحيح وضابط ذلك التقوى ذلك المفهوم الشامل الذي يجعل تصرفات المسلم تحت منظار المراقبة الذاتي .
والبعض تختلط عليه الامور فتراه يقول وأين هذا الدستور الذي يقنن قضايا حقوق الانسان فان هؤلاء غاب عنهم أن التشريع الاسلامي بما يحتويه من نصوص يعتبر دستورا متكاملا ومتوازنا لحقوق الانسان ويمكن لنا أن نشير الى بعض هذه الحقوق من خلال بعض النصوص :
- حق الحياة : حياة الانسان مقدسة لايجوز الاعتداء عليها الا بالحق ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) وحتى الانسان محترم حتى بعد موته ( قال صلى الله عليه وسلم : اذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) كما أمر بالاسراع في عملية الدفن .
- حق الحرية : وهي صفة تولد مع الانسان وتستمر معه وليس لأحد أن يسلبها ( قال الخليفة عمر ابن الخطاب متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا )
- حق العدل والمساواة : فالناس سواسية أمام الشريعة ( قال صلى الله عليه وسلم : لافضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر الا بالتقوى )
( وقال ايضا والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )
كما أن من حق كل فرد أن يتحاكم للشريعة أو يخاصم أي شخص حتى لو كان رأس الدولة ومنواجب القضاء أن ينصفه وحادثة مقاضاة الخليفة علي مع يهودي دليل ناصع وحادثة والي مصر عمر ابن العاص مع القبطي دليل آخر على عدالة القضاء الاسلامي .
- وهناك حقوق اخرى ضمنتها النصوص منها : حق الحماية من تعسف السلطة – حق الحماية من التعذيب – حق الفرد في حماية عرضه وسمعته – حقوق الاقليات – حق المشاركة في الحياة العامة – حق حرية التفكير والاعتقاد والتعبير – حق الدعوة والتبليغ – الحقوق الاقتصادية – الحق في الكفاية ضمن مقومات الحياة – حق التعلم – حق التنقل والارتحال
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا )
( ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )
( ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا )
( لا اكراه في الدين )
( من آذى ذميا فقد آذاني )
( لكم دينكم ولي دين )
( قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )
( وسخر لكم مافي الأرض جميعا )
( ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )
( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه )
( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة )
هذه هي شريعة الله الخالق الشاملة الكاملة والمتوازنة , بينما شرائع البشر الى اليوم يقتل الانسان باسمها وتدمر بلاد باسمها ويعتدى على مجتمع باكمله باسمها وما الوضع المعاش الا أكبر دليل على أن هذا التنظير والتسطير الا شعارات وجري وراء سراب .
فلا بديل للبشرية عن وحي السماء لنه خال من النقائص والهوى والنقائض وكل شئ دون شرع الله فهو خواء وافلاس
( ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) الاسراء 9
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم ) النفال 24
( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فباي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) الجاثية 6
تنويه : تمت الاستعانة ببعض المعلومات من خلال بعض الكتب والمراجع والبحوث والمواقع مجلة الأمة القطرية
عدة بحوث عن قضايا حقوق الانسان
ميثاق الامم المتحدة الخاص بحقوق الانسان
بعض كتب مقاصد الشريعة الاسلام(/6)
حقوق الجار[1]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فهذه أحاديث تربوية في مجال حفظ الجار , فمن ذلك ما أخرجه الأئمة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ([1]) .
يعني أنه من عظم حق الجار تكررت الوصية من جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ببيان حقه وإكرامه والنهي عن أذاه حتى أصبح بمنزلة الأخ من النسب , وحتى ظن صلى الله عليه وسلم أن التشريع سينزل بتوريث الجار من جاره .
ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عن الإنسان الذي لا يحب جاره , كما أخرج الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه " ([2]) .
فلقد بلغ من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجار أن أقسم على نفي الإيمان عن عبد لا يحب لجاره ما يحب لنفسه , وهذا من أبلغ الأدلة على عظم حق الجار , وإذا كان الإنسان سينتفي عنه الإيمان إذا أبغض جيرانه فما قيمة وجوده في هذه الحياة الدنيا ؟! إن قيمة وجوده في إيمانه وما يقدمه من عمل صالح يرفع رصيده من الحسنات يوم القيامة , ويأتي في مقدمة هذه الأعمال حبه لجيرانه.
وجاء ضمن حديث طويل يشتمل على وصايا نبوية : "وأحسن جوار من جاورت تكن مسلما" ([3]).
فالمجاورة بالإحسان لابد منها للحكم للإنسان بالإسلام وبضد ذلك إذا جاور بسوء .
وفي إقرار مبدأ التكافل الاجتماعي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به " أخرجه الطبراني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ([4]) .
فهذا حديث عظيم , فإن أعز شيء على المسلم إيمانه, وإذا كان إيمانه سينتفي حينما يترك جاره جائعا وهو يعلم به فإنه سيسارع إلى إطعام جاره ولو بمقاسمته طعامه, وبهذا الحديث وأمثاله فإنه لن يوجد جائعون في العالم الإسلامي , لأن الإسلام يلزم جيرانهم بإطعامهم .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أفضل الجيران "خير الأصحاب خيرهم لصاحبه, وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره"أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما([5]).
والخيرية عند الله تعالى منزلة عالية , وكل إنسان له جيران, والتفاضل بين هؤلاء الجيران عند الله تعالى يكون بمقدار مايقدمون لجيرانهم من الخير والإحسان .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجيران بالتهادي بينهم حتى يذهب مافي نفوسهم من البغضاء وتتقوى الصلة بينهم , ففي حديث أخرجه الأئمة البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يانساء المؤمنات لاتحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " .
وفي رواية الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تهادوا فإن الهدية تُذهب وحر الصدر , ولا تحقر جارة لجارتها ولو شق فرسن شاة " ([6]) .
ووحر الصدر غله وغشه .وفرسن الشاة ظلفها , ويطلق على العظم القليل اللحم , والمراد الشيء القليل .
ففي هذا الحديث بيان ما للهدية من أثر فعال في تصفية القلوب وإزالة مايكدر صفوها من الغل والحقد , لأن المسلم حينما يقدم لأخيه الهدية فإنما يعبر له بذلك عن صفاء قلبه نحوه , واستعداده الكامل للتفاهم معه على الأمور التي قد تكون سببا في تكدير صفاء القلوب , فإذا استشعر المهدى إليه هذا المعنى فإنه بدوره ينجذب نحو أخيه المهدي إليه ويزول مافي قلبه عليه من الغل والحقد .
وإذا كان هذا مطلوبا بين المسلمين عموما فإنه بين الجيران من باب أولى , وقد جاء التعبير عن الجيران بالجارات من النساء لأنهن عادة يستنكفن من الهدية إذا كانت قليلة فلا يهدين إلا ماكان كثيرا, وهذا الكثير قد لا يتوافر فتتوقف بذلك الهدايا بين الجيران , فجاء الارشاد خاصا بالنساء ليبادرن إلى التهادي بينهن ولو بأقل القليل .
وفي التهادي بين الجيران أخرج الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي أوصاني : إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر أقرب أهل بيت من جيرانك فأصبهم بمعروف" ([7]) .
وفي حديث آخر أخرجه الإمامان البخاري وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " قلت: يارسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال: إلى أقربهما منك بابا" ([8]) .
وفي هذا دليل على أن الذي يُقدَّم بالهدية هو الأقرب من الجيران , وليس الأغنى أو الأكثر شرفا ورفعة .
ولقد طبق الصحابة رضي الله عنهم هذه التوجيهات النبوية ومن ذلك ما أخرجه الإمامان أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن شعيب رحمه الله عن أبيه قال: ذُبحت شاة لابن عمرو في أهله فقال: أهديتم لجارنا اليهودي ؟ قالوا : لا , قال: ابعثوا إليه منها , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ([9]) .(/1)
وهكذا اهتم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بجاره اليهودي , ولم يحرمه من الهدية لكونه على غير دينه , فإن له حق الجوار وإن كان مخالفا في الدين , وهذا مثل على تسامح المسلمين وحسن معاملتهم لأهل الذمة , وذلك تنفيذ منهم لأحكام الإسلام وآدابه .
وإن هذه المعاملة الكريمة لمن ليسوا على ديننا لأكبر دافع لهم إلى الدخول في الإسلام , وإزالة مافي نفوسهم من الكراهية لهذا الدين والنفور منه .
----------------
([1] ) صحيح البخاري رقم 6014, كتاب الأدب , باب الوصاة بالجار (10/441) صحيح مسلم رقم 2624 في البر والصلة , باب الوصية بالجار سنن أبي داود رقم 5151 في الأدب باب في حق الجوار سنن الترمذي رقم 1942 في البر باب في حق الجوار .
([2] ) صحيح مسلم , رقم 45 ( ص 67) .
([3] ) سنن ابن ماجه , رقم 4217 الزهد (2/ 1410) .
([4] ) المعجم الكبير , رقم 751 , (1/232) .
([5] ) سنن الترمذي , رقم 1945 , في البر والصلة , باب ماجاء في حق الجوار .
([6] ) صحيح البخاري , كتاب الأدب رقم 6017 , باب لاتحقرن جارة لجارتها (10/445) صحيح مسلم رقم 1030 في الزكاة , باب الحث على الصدقة , سنن الترمذي رقم 2131 في الولاء والهبة باب حث النبي صلى الله عليه وسلم على التهادي .
([7] ) والمقصود بالمرق اللحم .
([8] ) صحيح البخاري و كتاب الأدب , باب حق الجوار , رقم 6020 (10/447) , سنن أبي داود رقم 5155 في الأدب, باب حق الجوار .
([9] ) سنن أبي داود رقم 5152 في الأدب , باب في حق الجوار, سنن الترمذي رقم 1944 في البر , باب في حق الجوار .(/2)
حقوق الجار[2]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فاستكمالا لما مرَّ ذكره في الحلقة الماضية من حقوق الجار أذكر بعض الأحاديث النبوية في ذلك , فمنها ما أخرجه الأئمة البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره " ([1]) .
ففي هذا الحديث توصل النبي صلى الله عليه وسلم للنهي عن أذي الجار برصيد المسلم من الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر , فإن الذي يحمل هذا الرصيد الإيماني من المفترض فيه أن يحسن إلى جاره وأن لايؤذيه , لكن قد يكون إيمان المسلم من النوع القاصر الذي لايؤثر على سلوكه , فإن تذكيره بهذا الإيمان يدفعه إلى الوعي الديني فيستقيم على الصراط المستقيم .
وينفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الجار الذي يخاف منه جيرانه حيث يقول :" والله لايؤمن , والله لايؤمن , والله لايؤمن, قيل : ومن يارسول الله ؟ قال : الذي لايأمن جاره بوائقه" أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([2]) .
البوائق جمع بائقة وهي الداهية أي الغوائل والشرور .
وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عن جار السوء الإيمان وأكد ذلك بالقسم المتكرر بسبب ما يضمر جار السوء لجاره من الغل والحقد , وما يبيته له في ضميره من إرادة الإساءة إليه والكيد له, فإن ذلك يتنافى مع حقيقة الإيمان , فإن حقيقة الإيمان أن يحب لجاره ما يحب لنفسه وأن يكره له مايكره لها, ولأن إظهار العداوة والجفوة للجار تجعله يعيش حياته في قلق ونكد , حيث يتوقع كل يوم من جاره أن يجلب له الأضرار والنكبات , وإن مجرد شعوره بذلك يعدُّ من الأذى الذي يلحقه من جاره , فإذا كان هذا الجار يتسبب في الحيلولة بين جاره وبين الطمأنينة والأمن فإنه جدير به بأن يُنزع منه الاتصاف بالإيمان المؤثر على السلوك .
ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاء يشكو جاره ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره, فقال : اذهب فاصبر , فأتاه مرتين أو ثلاثا فقال : اذهب فاطرح متاعك في الطريق , ففعل , فجعل الناس يسألونه ويخبرهم خبر جاره , فجعلوا يلعنونه : فعل الله به وفعل , وبعضهم يدعو عليه , فجاء إليه جاره فقال له : ارجع فإنك لن ترى مني شيئا تكرهه " ([3]) .
ففي هذا الحديث مسألتان : الأولى الصبر على أذى الجار , فإن المسلم مأمور بأن يتحمل من جاره أَوّلاً مايصل إليه منه من الأذى , فإن الجار حينما يتضجر منه جاره ويشكو إليه كل مايصدر من أفراد أسرته قد لايحتمل ذلك منه فيظهر له عدم المبالاة به , ولكن حينما يغض الطرف عن الأمور الصغيرة فإن جاره سيُكبر فيه ذلك فيُكثر من الاهتمام به , ويمنع عنه الأذى من نفسه وممن يستطيع التأثير عليه من جيرانه .
المسألة الثانية : استعمال الحكمة في معاملة الجار المؤذي فإن المسلم مأمور بأن لايَدخل في خصومة مع جاره , بل يحاول دفع الأذى عن نفسه بطريقة لاتوقعه في الخصام والجدال , ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل المشتكي إلى الصبر أولا , فلما لم ينفع ذلك في ردع جاره عن أذيته أرشده إلى الطريقة المذكورة في الحديث فكان لها الأثر القوي في تغيير الموقف وعودة الجار المعتدي إلى رشده وصوابه .
ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة الجار المجرم على جاره وعظم حق الجوار بقوله" لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره , ولأن يسرق من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره " أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث المقداد رضي الله عنه ([4]) .
ففي هذا الحديث بيان لأهمية حقوق الجار , فإن مصيبة الإنسان بجاره أعظم من مصيبته بالبعيد عنه, فإن جاره قريب منه ويعرف عوراته ومواطن الضعف في بيته , فالتحرز منه أصعب من التحرز من غيره بكثير , فلهذا كان إثم من اعتدى على عرض جاره أو بيته مضاعفا عشر مرات على ما إذا فعل ذلك بالبعيد عنه .
هذا وإن للمحافظة على حقوق الجار أثرا كبيرا في تقوية الأخوة الإسلامية وحمايتها .
فالمجتمع مكوَّن من أفراد وبقدر مايكون صلاح الأفراد يكون صلاح المجتمع , فالمجتمع في المدن والقرى يتشكل من مجموعات صغيرة تمثل أحياء المدينة الواحدة , فإذا حصل الانسجام بين أفراد هذه المجموعات الصغيرة تكوَّن منها المجتمع الكبير على الانسجام والتفاهم , وأفراد هذه المجموعات هم المتجاورون في الحي الواحد , فإذا حصل الأذى بين الجيران تباعد أفراد الحي , وكان ذلك مانعا من إسهامهم في بناء المجتمع الكبير على الوضع السليم .(/1)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أذية الجار سبب من أسباب دخول النار حتى لو كان للمؤذي أعمال صالحة أخرى وذلك فيما رواه أحمد والبزار رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل : يارسول الله إن فلانة , فذكر من كثره صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها , قال: هي في النار , قال: يارسول الله فإن فلانة , فذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تصدَّق بالأثوار من الأقط ([5]) لاتؤذي بلسانها جيرانها, قال: هي في الجنة .
ذكره الحافظ الهيثمي وقال : ورجاله ثقات ([6]) .
فهذا الحديث فيه مقارنة بين الأعمال الصالحة والأعمال السيئة , والمقصود بالأعمال الصالحة المذكورة في الحديث النوافل أما الواجبات فإن المسلم مؤاخذ على تركها .
فالحديث فيه مقارنة بين امرأتين , إحداهما تكثر من النوافل في الصلاة والصيام والصدقة , لكنها تؤذي جيرانها بلسانها, فكان مصيرها النار , وذلك لأن أعمالها الصالحة المذكورة نوافل تثاب عليها ولاتعاقب على تركها , أما أذيتها لجيرانها فإنه عمل محرم تعاقب عليه إن لم تتب توبة نصوحا.
أما الأخرى فإنها لاتكثر من النوافل , لكنها عفيفة اللسان لاتؤذي جيرانها , فهذه قد فاتها الأجر بقلة أدائها للنوافل , ولكن ذلك لايمنع دخولها الجنة لأنها قد سلمت من الإثم حيث لم ترتكب محرما.
ولاينبغي للجار أن يحتقر أذاه لجاره إذا كان قليلا فإنه يكون آثما بذلك وإن كان أذاه لجاره قليلا, وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لاقليل من أذى الجار" أخرجه الطبراني, ذكر ذلك الهيثمي وقال : ورجاله ثقات ([7]) .
----------------------
([1] ) صحيح البخاري رقم 6018 , كتاب الأدب , باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر(1/45) , صحيح مسلم رقم 47 في الإيمان, باب الحث على إكرام الجار . سنن أبي داود رقم 5154 في الأدب , باب في حق الجوار .
([2] ) صحيح البخاري رقم 6016 , كتاب الأدب , باب إثم من لايأمن جاره بوائقه . صحيح مسلم رقم 46 في الإيمان, باب تحريم إيذاء الجار .
([3] ) سنن أبي داود رقم 5153 في الأدب , باب في حق الجوار .
([4] ) صحيح الجامع الصغير رقم 4919 .
([5] ) الأثوار القطع الكبيرة من الاقط .
([6] ) مجمع الزائد 8/169 .
([7] ) مجمع الزائد 8/170 .(/2)
حقوق القرآن العظيم ... ... ...
أما بعد...
أيها المؤمنون؛ اتقوا الله واشكروه على نعمة إنزال القرآن، الذي جعله الله ربيع قلوب أهل البصائر والإيمان فهو كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في وصفه: هو كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: " إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ"(1) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
أمة القرآن هذه بعض أوصاف كتابكم الحكيم، وقد ذكر الله كثيراً من أوصافه في القرآن العظيم، بيّن في تلك الأوصاف وظيفة الكتاب ومهمته وعمله، وما يجب له من الحقوق والواجبات، فمن ذلك أيها المؤمنون أن الله وصف كتابه الحكيم بأنه روح قال - تعالى -: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ"(2) فالقرآن العظيم روح يحيي به الله قلوب المتقين فلله كم من ميت لا روح فيه ولا حياة أحياه الله - تعالى - بروح الكتاب قال - تعالى -: " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا "(3) فاطلبوا أيها المؤمنون حياة قلوبكم من كتاب ربكم، فلا أطيب ولا أكمل من الحياة بروح القرآن.
عباد الله إن من أوصاف القرآن العظيم أنه نور قال - تعالى -: " فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ "(4) وقال: " قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "(5) فالقرآن يا عباد الله نور تشرق به قلوب المؤمنين، ويضيء السبيل للسالكين المتقين، وذلك لا يكون إلا لمن تمسك به فعمل بأوامره وانتهى عن زواجره.
أيها المؤمنون إن من أوصاف القرآن العظيم أنه فرقان قال الله - تعالى -: " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً "(6) فالقرآن فرقان يفرق بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الغي والرشاد وبين العمى والأبصار وهو فرقان فرق الله فيه وبه بين المؤمنين الأبرار وبين الكافرين الفجار، فاحرصوا عباد الله على التحلي بصفات المؤمنين، والتخلي عن صفات الكافرين والفاسقين.
أيها المؤمنون إن من أوصاف القرآن العظيم أنه موعظة وشفاء، وهدى ورحمة للمؤمنين كما قال الله - تعالى -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"(7) فالقرآن يا عباد الله أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وهو أنجع الأدوية لما في القلوب من الآفات والأمراض، ففي كتاب الله - تعالى -شفاء أمراض الشبهات و شفاء أمراض الشهوات وهو هدى ورحمة لمن تمسك به، يدله على الصراط المستقيم، ويبين له المنهاج القويم، ويوضح سبيل المؤمنين.
أيها المؤمنون هذه بعض الأوصاف التي وصف الله - تعالى - بها القرآن العظيم، وهي أوصاف عظيمة جليلة تبين عظم قدر هذا الكتاب المجيد الذي جعله الله خاتم كتبه إلى أهل الأرض، فهو أعظم آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو أعظم آيات الأنبياء، فلم يؤت نبي مثل هذا القرآن العظيم، الذي أعجز نظامه الفصحاء، وأعيت معانيه البلغاء وأسر قلوب العلماء، فصدق والله ربنا حيث قال: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "(8).(/1)
أيها المؤمنون؛ إن لهذا الكتاب العظيم حقوقاً كثيرة وواجبات عديدة، فاتقوا الله عباد الله وقوموا بحقوقه وواجباته، فمن حقوقه أيها المؤمنون، وجوب الفرح به، فكتاب الله المجيد خير ما يفرح به، قال الله - تعالى -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (75) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"(9) قال أبو سعيد - رضي الله عنه - في هذه الآية: ((فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله)) ومقتضى هذا الفرح يا عباد الله هو تعظيم هذا الكتاب، وإيثاره على غيره، فإنه والله خير من كل ما يجمعه الناس من أعراض الدنيا وزينتها.
أيها المؤمنون؛ إن من حقوق هذا الكتاب المجيد تلاوته، قال - تعالى -: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) ليُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "(10) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))(11) رواه مسلم فحافظوا أيها المؤمنون على تلاوة القرآن، واستكثروا من ذلك، فإن تلاوة القرآن تجلو القلوب وتطهرها وتزكيها، وتحمل المرء على فعل الطاعات، وترك المنكرات، وترغبه فيما عند الله رب البريات.
أيها المؤمنون، إن من حقوق هذا الكتاب العظيم والفرقان المبين تدبر معانيه، قال الله - تعالى -: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"(12) وقد ذم الله - تعالى -المعرضين عن تدبر كتابه فقال - جل وعلا -: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(13) فاتقوا الله عباد الله وتدبروا كتابه العظيم، فإنه لا يحصل الانتفاع بالقرآن إلا لمن جمع قلبه عند تلاوته وسماعه، واستشعر أنه خطاب ربه - جل وعلا - إلى رسوله، وقد جاء عن بعض السلف - رحمهم الله - أنهم كانوا يقيمون الليل بآية واحدة يرددونها ويتدبرون ما فيها.
أيها المؤمنون؛ إن من حق هذا القرآن المجيد تعظيمه وإجلاله وتوقيره، فإنه كلام ربنا العظيم الجليل، وقد أجمع العلماء على وجوب تعظيم القرآن العزيز، وتنزيهه، وصيانته، فمن استخف بالقرآن أو استهزأ به أو بشيء منه فقد كفر بالله العظيم، وهو كافر بإجماع المسلمين، فعظموا هذا الكتاب يا عباد الله، واحفظوه من عبث العابثين.
عباد الله، وإن من تعظيمه أن لا يمس القرآن إلا طاهر - أي متوضىء -، ولا يقرأه جنب - أي من كانت عليه جنابة -، ولا يجوز استدباره أو مدّ الرِّجل إليه، أو وضعه حيث يمتهن، فاتقوا الله وعظموا كتابه: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"(14).
أيها المؤمنون؛ إن من حقوق هذا الكتاب الاستمساك به كما أمر الله - تعالى - بذلك نبيه فقال - تعالى -: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "(15) والاستمساك به يكون باتباعه، بإحلال حلاله وتحريم حرامه، والاقتداء به، والتحاكم إليه، وعدم الكفر بشيء منه كما قال - تعالى -: "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ"(16) فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بكتاب ربكم تمسكاً صادقاً ترى آثاره في أعمالكم وأقوالكم وأخلاقكم، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتدبراً وفكراً وعلماً وعملاً، فإنه من اعتصم به فقد هدي، فاعتصموا بحبل الله جميعاً أيها المؤمنون.
----------------------------------------
(1) الجن: 1-2.
(2) الشورى: 52.
(3) الأنعام: 122.
(4)التغابن: 8.
(5) المائدة: 15- 16.
(6) الفرقان: 1.
(7) يونس: 57.
(8) الزمر: 23.
(9) يونس: 57 - 58
(10) فاطر: 29 -30.
(11) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - برقم 804.
(12) ص: 29.
(13) محمد: 24.
(14) الحج: 32.
(15) الزخرف:43.
(16) الأعراف: 3. ... ...(/2)
حقوق المرأة .. حقائق وأباطيل
أقام مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية التابع لجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ندوة بعنوان : ( حقوق المرأة .. حقائق وأباطيل ) وذلك بقاعة الشهداء بأمدرمان يوم الإثنين 17/4/2006م بعد المغرب، تحدث فيها كل من الأستاذة رباب أبوقصيصة قاضي المحكمة العليا ومقررة الدائرة العدلية بمجمع الفقه الإسلامي، والأستاذ الدكتور أحمد إسماعيل البيلي الأستاذ بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، والدكتور عبد الحي يوسف رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم، وقد تحولت الندوة في بعض أجزائها إلى ردود حول ما أثاره الدكتور حسن الترابي مؤخرا حول إمامة المرأة وزواج الكتابي من المسلمة وغيرها من القضايا المثيرة التي أطلقها الدكتور الترابي مؤخرا، أو بالأحرى أعاد فيها أقولا قديمة له في هذه القضايا.
الأستاذة رباب أبوقصيصة ابتدرت حديثها بالإشارة إلى مكانة المرأة في المجتمع كعنصر أساسي للنهوض به، نافية أن تكون قد ظُلمت في الإسلام، منوهة إلى أن أعداء الإسلام يدخلون من باب أحكام المرأة في الإسلام غالبا، وأشارت إلى مساواة الرجل والمرأة في الثواب والعقاب، مبينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصص يوما للنساء لتلقي العلم إشارة إلى مكانة المرأة وفرضية العلم عليها كالرجل، ثم نوهت بفضل بعض أمهات المؤمنين كالسيدة عائشة رضي الله عنها التي كان يأخذ الصحابة رضوان الله عليهم الفتوى منها، وحول عمل المرأة أوضحت أن عملها مقيد بالتزام الضوابط الشرعية في الملبس والسلوك، وفي موضوع القوامة أوضحت أن القوامة عمل تنظيمي داخل الأسرة مُنح للرجل لإنفاقه على الأسرة ولا تمس كرامة المرأة بشيء ، مشيرة إلى أن الإسلام كفل للمرأة حق اختيار الزوج، وأن كفالة الرجل للمرأة في الزواج يحفظ للأسرة تماسكها، وحول تعدد الزوجات أوضحت أن الله تعالى شرعه وقيده بالعدل وإلا فواحدة، أما موضوع شهادة المرأتين التي تعادل شهادة الرجل الواحد بينت أن ذلك قرآن مأمورون بالتسليم به وإلا كفرنا.
الأستاذ الدكتور أحمد إسماعيل البيلي قصر حديثه على المسائل التي تختلف فيها المرأة عن الرجل مثل:
ـ لبس الحرير الذي يجوز للمرأة ويحرم على الرجل.
ـ حقها في الصداق.
ـ تُرفع عنها الصلاة ولا قضاء عليها في حالة حيضها.
ـ يُرفع عنها الصيام ويلزمها القضاء عند حيضها.
ـ لا يحق لها الزواج بأكثر من رجل.
ـ لا يجوز أن يتزوجها كافر، ولا كتابي.
ـ تعتد عدة الطلاق وحين يتوفى زوجها.
ـ لا يباح لها أن تكون مؤذنا.
ـ لا يباح لها أن تكون إماما في الصلاة.
ـ لا تقيم الصلاة للرجال.
ـ على المرأة أن تستر كل جسدها ـ عدا وجهها وكفيها ـ عن الرجال الأجانب.
ـ لا يحل لها أن تسافر مسافة قصر إلا مع ذي محرم صونا لها.
ثم تحدث بعده الدكتور عبد الحي يوسف رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم لافتا الأنظار إلى أن بعض الناس يتعمد المخالفة للشهرة في وقت تنشغل فيه الأمة بأمهات المسائل، وأكد أن المسلم والمسلمة دينهما مبني على التسليم والرضا لله تعالى، مشيرا إلى أن الأمة لا تجتمع على ضلالة وهذا أصل يغفله كثير من الناس، وينبني على هذا أن هناك بعض الأمور محسومة ولا تقبل النقاش، ثم أوضح في قضية التمييز بين الرجل والمرأة أن الإسلام دين العدل، ومن العدل أن يُسوى بين المتماثلين ويُفرق بين المختلفين، مؤكدا أن الإسلام عدل بين الرجل والمرأة ولم يُسوِ بينهما، مشيرا إلى أن الفوراق بين الرجل والمرأة كونا وقدرا وشرعا تمنع المساواة بينهما. وحول إمامة المرأة للصلاة أكد أن هذه القضية أثارتها الدوائر الصهيونية، مؤكدا أن هذه القضية غير مثارة في مجتمعنا أصلا، منوها بفضل وسبق النساء عندنا في الطاعات، مبينا أن إمامة المرأة للصلاة تترتب عليها مفاسد منها:
ـ التشبه بالرجال فيما هو من خصائص الرجال، وقد لعن الله تعالى المتشبهات من النساء بالرجال.
ـ ذهاب الحياء والتخفي الجسمي والحركي والصوتي الذي هو سر جمال المرأة.
ـ افتضاح أمرها في مسائل جعل الله تعالى أمرها على الستر، مثل الحيض.
ـ من السنة أن يرفع الخطيب صوته وأن يشير بيديه، وهذا لا يليق بالمسلمات.
وحول شهادة المرأة أوضح أن هذا فيه مراعاة للمرأة وتكريم لها مشيرا إلى أن الضلال الذي ورد في الآية بمعنى النسيان، وهذا فيما يكون فيه النسيان في العادة؛ أما ما كان من الشهادات لا يُخشى فيه النسيان؛ فشهادتها تكون كشهادة الرجل.
ثم تساءل الدكتور عبد الحي يوسف: لمصلحة من يراد بلبلة الناس في هذه المسلمات؟
وقد شهدت الندوة حضورا كثيفا من الرجال والنساء ضاقت بهم القاعة، كما ناقش عدد من الحضور من المختصين المسائل التي وردت في الندوة وعلقوا على بعض ما جاء فيها.(/1)
حقوق المرأة الاقتصادية بين الشريعة الإسلامية والشرعة العالمية
* د. فتنت مسّيكة برّ
ـ أولاً: الحقوق الاقتصادية للمرأة
هي الحقوق التي يكون موضوعها مصلحة اقتصادية مادية أو معنوية كحق التملك وحرية الإنتاج أو الاستثمار وحق العمل والحق في أجر عادل أو الحق النقابي وحق العمال في الإضراب.
أ) في القوانين الوضعية:
كانت درجة المساواة بين الرجل والمرأة تختلف باختلاف هذه الحقوق كما تختلف باختلاف النظم التي تتناول حقوق المرأة في هذا الشأن إلى أن صدر ((الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)) حيث طالب في المادة السابعة عشرة منه بمساواة الحقوق بين الرجل والمرأة والتي تقول: ((لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك، ولا يجوز حرمانه من ملكه تعسفاً)).
كما طالبت اتفاقية القضاء في المادة الثالثة عشرة منها بالمساواة حيث تقول: ((أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في المجالات الأخرى للحياة الاقتصادية والاجتماعية لكي تكفل لها على أساس تساوي الرجل والمرأة نفس الحقوق ولا سيما:
أ ـ الحق في الاستحقاقات الأسرية.
ب ـ الحق في الحصول على القروض المصرفية والرهون والعقارات وغير ذلك من أشكال الائتمان المالي)).
ثم في البند ((ح)) من المادة السادسة عشرة من نفس الاتفاقية الذي يقول: ((يكون للزوجة نفس حقوق الزوج فيما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها وإدارتها والتمتع بها والتصرف فيها)).
ب) في الشريعة الإسلامية:
1 ـ حق التملك: من أهم حقوق المرأة الاقتصادية هو حقها في التملك. والشريعة الإسلامية إذ أقرت لها هذا الحق فإنها شرعت بشأنه أحكاماً لصيانته وعدم العبث بتطبيقه. ففصلت كامل ملكية الزوجة عن ملكية زوجها ((فلا يجوز جمع ملكية الزوجين أو خلطهما مع بعض فكل واحد منهما غريب عن الآخر فيما يخص ملكية الآخر)) وليس للزوجة أية ولاية على أموال زوجته. فإنها تملك مالها بالاستقلال، وتبعاً لهذه الاستقلالية ((لا يحق لأحد أن يتدخل في كيفية إنفاق ما تملك، أي لا يحق للزوج أو لأحد غيره أن يملي على المرأة كيفية إنفاق ما تملك أو التصرف بمهرها كما أنه لا يحق للرجل طلب الإنفاق على نفسها أو عليه لأن تغطية هذه النفقات تقع على عاتقه هو وليس على عاتقها وإذا فعلت ذلك فيعتبر إحساناً منها)).
وفضلاً عن هذه الاستقلالية بالمال فإن الشرع الإسلامي قد أجاز للزوجة التصرف في مال زوجها بإذنه الصريح أو الضمني وهكذا يجوز لها أن تنفق من ماله دون تبذير. وأكثر من ذلك فإن للزوجة، طبقاً للشريعة، حقاً فيما يملكه زوجها، فعند ((عقد النكاح)) بينهما يخصص الزوج بعضاً مما يملكه لزوجته ((كمهر)) مؤجل لها.
وقد امتدح ((عبدالرحمن خان لودي)) هذا الحق عندما قال: ((تدخل المرأة بيت زوجها مطمئنة بأن لها ما تملكه وإن إنفاق الرجل عليها يخلصها من ضرورة العمل)).
2 ـ حق المرأة في الاستثمار: ومن أهم الحريات والحقوق الاقتصادية، حرية الإنتاج واستثمار رؤوس الأموال في مختلف النواحي الزراعية والصناعية والتجارية والمالية، ويقضي مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أن تتمتع المرأة بهذه الحريات والحقوق بنفس القدر الذي يتمتع به الرجل.
ففي الدول الإسلامية، حيث تسود أحكام الشريعة الغراء لا توجد قيود على حرية المرأة وحقها في استثمار أموالها أو الاشتغال بالأعمال التجارية أو المالية. فحقوقها في هذا الميدان متساوية مع حقوق الرجل.
3 ـ حرية المرأة في العمل والأجر الذي تتقاضاه: لابد أن نذكر إنه بالنسبة للعمل وطبيعته وفي النطاق الخاص بممارسته، توجد بعض الأعمال التي لا تتفق بطبيعتها مع احتمال المرأة ولا تلائم تكوينها كأنثى وبسبب هذا، لم تتناول الشريعة الإسلامية أية تشريعات فيما يختص ((بعمل المرأة)) عامة والأجر الذي تتقاضاه عن عملها إذا عملت. ولكنها لم تغفل حرية المرأة في ممارسة العمل أو المهنة التي تراها بل إنها لم توجد أية قيود على أهلية المرأة في إبرام عقد العمل فالمساواة بين الرجل والمرأة، زوجة كانت أو غير زوجة، تامة من حيث الأهلية في التعاقد على العمل أو الاستخدام مع صاحب العمل.
ـ ثانياً: حقوق المرأة في الإرث
1 ـ في الحضارات السابقة للإسلام:
كانت المرأة، في الحضارات القديمة تحرم من حقها في الإرث حتى لا ينتقل المال بزواج البنت من بيت الأب إلى بيت الزوج، وكان ينحصر الإرث في الابن الأكبر البالغ القوي القادر على حمل السلاح والدفاع عن القبيلة.
وجاءت ((الاتفاقية)) تطالب بحق المرأة في الإرث وبمساواتها مع الرجل في شأنه.
2 ـ في الشريعة الإسلامية:
لقد تناولت الشريعة الإسلامية مسائل التوريث بإفاضة وتفصيل وتحديد شمل جميع حالات التوارث وسببه وموانعه وترتيبه.
ـ حق المرأة في الإرث:(/1)
أعطى الإسلام المرأة الحق في إرث والديها وأقاربها وجعله نصيباً مفروضاً لها لقوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً) النساء/ 7.
ويرى فقهاء المسلمين أن هذه الآية تقرر قاعدة عامة في تثبيت شرعية الإرث الذي يحق للجنسين ـ الرجال والنساء ـ كما يرون فيه تشريعاً حقوقياً لسنة جديدة لم تكن مألوفة من قبل وهي توريث المرأة.(/2)
حقوق المرأة في الإسلام
الشيخ يوسف محمد القرضاوي - قطر
* المرأة نصف المجتمع من حيث الكم والعدد ولكنها في الواقع وفي التأثير أكثر من النصف.
* الإسلام يراعي الحقوق من حيث اهتمامه برعاية الواجبات لأن كل حق للإنسان هو واجب على غير.
* لا يجوز أن نتسول على موائد الغرب وعندنا ثروتنا القيمية والأخلاقية والتشريعية والفكرية الهائلة التي لا يوجد عشر معشارها عند غيرنا فلسنا بحاجة إلى غيرنا.
نظم المجلس الأعلى لشؤون الأسرة لقاء علمياً تحدث فيه القرضاوي عن حقوق المرأة في الإسلام وبعد تمهيد لهذا اللقاء قدمه د. يوسف عبيدان عميد كلية الاقتصاد بجامعة قطر سابقاً.
تحدث القرضاوي قائلاً: إن المرء في هذه الأيام لا يكاد يسعفه البيان أو اللسان للحديث في أي موضوع من الموضوعات أو قضية من القضايا، وعندنا قضية تطرح نفسها على كل ندوة وعلى كل مجلس وعلى كل محاضرة وعلى كل متحدث هي قضية فلسطين ومع هذا فلابد للحياة أن تمضي ولابد للسفينة أن تسير باسم الله مجراها ومرساها ولا يمكن أن نعطل الحياة من أجل هذه المأساة فلابد لنا أن نتحاضر ونتدارس ونتذاكر ونتناقش في أمورنا ما دمنا في إطار الشريعة وفي إطار هذا الدين العظيم الذي أكرمنا الله تعالى به وأتم به النعمة علينا (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) .. يقولون: إن المرأة نصف المجتمع، وهذا صحيح المرأة نصف المجتمع بحكم العدد، جرت سنة الله أن عدد الرجال وعدد النساء يكاد يكون متساوياً، هناك 50% مع 50% 52%، 48% 51% 49% حوالي هكذا وبعض الدارسين يتخذ من هذا دليلاً على وجود الله عز وجل أن وراء هذا الكون قوة عليا لأن الناس لو تركوا لأهوائهم وشهواتهم، لاختاروا الذكور وهذا من سوء فهمهم، لأنه لا يوجد ذكوراً بلا إناث، ولكن القوة التي تشرف على هذا العالم وتنظمه، الله تبارك وتعالى هو الذي يرتب هذا الأمر، فالمرأة نصف المجتمع من حيث الكم والعدد ولكنها في الواقع وفي التأثير أكثر من النصف، لأن للمرأة تأثيراً في زوجها وتأثيراً في أبنائها، لهذا كانت العناية بالمرأة أمراً واجباً، لا عجب أن يهتم القرآن وتهتم السنة، ويهتم الفقه الإسلامي، وتهتم كتب التفسير وكتب الحديث وكتب التربية بالمرأة، القرآن ذكر المرأة في عشرات السور، في سور كثيرة، ويكفي أن هناك سوراً خاصة بشأن المرأة مثل سورة (المجادلة) قال تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ..) وسورة (الممتحنة) النساء الممتحنات (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) خاصة بالنساء، وسورة (الطلاق) هذا في أمر المرأة، وسورة التحريم (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) وسورة آل عمران، أسرة عمران يتحدث القرآن في هذه السورة عن ميلاد امرأة، احتفالاً بميلاد مريم (رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني، إنك أنت السميع العليم، فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى).
وعندنا سورة باسم مريم عليها السلام، القرآن تحدث عن المرأة في عشرات من السورة، ثم إنه كلما قال الله تعالى (يا أيها الناس) أو (يا عبادي) أو (يا بني آدم) أو (يا أيها الذين آمنوا) فهذا خطاب للرجال والنساء جميعاً جاء في الحديث الشريف أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تمشطها ماشطتها وتجملها وتزينها، وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد يقول (يا أيها الناس) قالت لها هات الخمار، قالت إنه يقول (يا أيها الناس) قالت لها: وأنا من الناس.
** ” هناك أناس متشددون يريدون حبس المرأة في البيت وهذه عقوبة لها، أن تقر المرأة في بيتها هذا خطاب لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا حبس للمرأة في البيت حتى أنهم حرموا المرأة من الصلوات في المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت المرأة تصلي في المسجد ”
لذلك أقول إن الإسلام والقرآن اهتم بالمرأة لأنها نصف المجتمع في الكم وأكثر من النصف من ناحية التأثير فلا عجب أن نهتم بالمرأة وبحقوق المرأة وبواجبات المرأة، لكن في عصرنا يركزون على الحقوق أكثر من التركيز على الواجبات، ربما يسأل سائل: لماذا لم نر في تراثنا الإسلامي العظيم الغني الثري لم نر هذا العنوان واضحاً، حقوق المرأة في الإٍسلام أو حقوق الإنسان في الإسلام؟! أحب أن أقول: إن الإسلام يراعي الحقوق من حيث اهتمامه برعاية الحقوق من حيث اهتمامه برعاية الواجبات لأن كل حق للإنسان هو واجب على غيره، يعني حق الأب في البر والإكرام والطاعة والإحسان، هذا حق، وواجب علىأولاده، واجب بر الوالدين أو الإحسان بالوالدين فإذا أدي واجب البر والإحسان روعيت حقوق الأبوة، وكذلك حقوق الأمومة (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فإذا روعيت هذه الفريضة (بر الوالدين) فقد روعي حق الوالدين.(/1)
وفي المقابل حقوق الأولاد في الرعاية والتعليم والنفقة، هذه واجبات على الأب فإذا أداها فقد روعيت حقوق الأولاد. ومن أجل هذا راعى الإسلام الحقوق من حيث اهتمامه بالمطالبة في أداء الواجبات في الحضارة الغربية تخالف النظرة والفلسفة الإسلامية في هذا الجانب، لأن الحضارة الغربية تطالب بالحق أكثر من الواجب الإنساني وفي الحضارة الغربية مطالب سائل، والإنسان في الحضارة الإسلامية مكلف، مطالب مسؤول. نحن شريعتنا تقوم على التكاليف، والإلزام بما فيه كلفة، الإنسان في الحضارة الغربية همه أن يقول: ماذا لي؟ والإنسان في الحضارة الإسلامية يقول: ماذا عليّ؟ الإنسان الغربي نفعي أناني، والإنسان المسلم غيري أخلاقي، هذا الذي لم يجعل الحقوق تظهر في الحضارة الإسلامية لأن ذلك من فلسفتها، لأنه عندما تؤدي واجبك روعيت حقوق الآخرين، لا تظنوا أن الإسلام أهمل حقوق المرأة، نحن أول من علم الناس الحقوق من خلال تعليمهم الواجبات، وكل حق يقابله واجب، ونحن أمة الإسلام أغنياء بما عندنا، بحيث لا نحتاج إلى الاستيراد من غيرنا أو التسول من سوانا، المتسول وهو قادر هذا ليس من الأخلاق .. لا يجوز أن نتسول على موائد الغرب وعندنا ثروتنا القيمية والأخلاقية والتشريعية والفكرية الهائلة التي لا يوجد عشر معشارها عند غيرنا فلسنا بحاجة إلى غيرنا، لا يجوز للإنسان أن يستورد وعنده بضاعة من صنع وطنه، هذا أمر لا يجيزه الاقتصاد الحقيقي، نحن عندنا ما يغنينا.
يجب أن نقف وقفة ناقدة فاحصة عندما يطرحه العالم علينا، في عصر العولمة والعولمة صكها من صكها كمصطلح يغزون به عقلنا وأفكارنا يقولون: الحداثة، وما بعد الحداثة، النظام العالمي الجديد، وبعدها العولمة، والعولمة في حقيقتها هي "الأمركة" عولمة الناس أي أمركتهم أن يصبحوا خاضعين للثقافة الأميركية والفلسفة الأميركية في عالم الاقتصاد، والثقافة والدين والأمن، بعد 11 سبتمبر أصبحت هناك عولمة الأمن.(/2)
كنا في الكويت والحديث كان عن عولمة الصحة، والدواء، أي جعل إنتاج الدواء محصوراً في شركات عملاقة مسيطرة على العالم تسحق كل إنتاج محلي، العولمة (غول) يريد أن يبتلع العالم، فلابد أن نحذر من هذه العولمة، ما تطرحه لنا هذه العولمة من أشياء تتعلق بالمرأة يجب أن ننظر فيها نظرة فحص وتدقيق، لا نأخذها أخذ المقلدين نحاكي محاكاة القردة أو نقلد تقليد الببغاء، نحن قوم لنا رسالتنا ولنا تميزنا ولنا شخصيتنا لسنا من حثالة البشر كنا سادة العالم، كنا قادة الحضارة، كنا معلمي البشرية، كان أشهر أسماء العلماء في العالم، أسماء علمائنا، وأشهر المراجع العلمية كانت مراجعنا وأشهر الجامعات كانت في ديارنا، ولغة العلم الوحيدة في العالم كانت اللغة العربية إذا أردنا أن نتعرف على حقوق المرأة في الإسلام، فلم نتعرف عليها من وثيقة المرأة في بكين، أو مؤتمر السكان في القاهرة، هذه الوثائق التي أرادت أن تفرض نفسها على الأمة وتلغي شخصية الأمة وهذا ما أريد التحذير منه، هذه الأشياء ننظر إليها بعقلانية مفتوحة، لا بعقل منغلق، يجب ألا نقلد تقليداً أعمى، يجب أن نجتهد كما اجتهدوا، حسب زماننا ومكاننا لا حسب زمانهم ومكانهم، ينبغي أن نأخذ ما نأخذ حسب قواعد وعندنا ثوابت في الإسلام لا يجوز أن نجور عليها بحال من الأحوال، الثوابت هي التي تمسك على الأمة وحدتها والثوابت هي (في دائرة القطعيات) والظنيات هي المجال الأوسع في النظر والاجتهاد، فمن حسن حظنا ومن فضل الله علينا أن معظم أحكام الشريعة والفقه ظنيات قابلة للاجتهاد تقبل أكثر من فهم ومن تفسير نريد من المشغولين بقضية المرأة كالمجلس الأعلى للأسرة أن ينظر في هذه الوثائق الغربية، ويأخذ ما يناسب، ويبعد ما لا يتناسب وشريعتنا السمحاء، المرأة مطالبة مثل الرجل بالعبادات شأنها شأن الرجل، وتجازى كما يجازى الرجل، هناك اختلافات طفيفة في التكاليف تقتضيها طبيعة المرأة، أساس المساواة بين المرأة والرجل موجود، المجتمعات المسلمة لا تتنازل عن الثوابت بحال من الأحوال، العقاد ناقش في كتابه اليساريين في قولهم (المرأة مثل الرجل) ومنذ ذلك القول بأن الإسلام يركز على العدل والعدل أن تعطي كل ذي حق حقه، نأخذ من الوثائق التي وضعت من أجل المرأة بما يتناسب وثوابتنا، للمرأة حقوق يجب أن تراعي فلا تجبر على من لا تحب، وكذلك للزوجة حقوق يجب أن تراعى، بدءا من الخطبة وانتهاء بالطلاق .. روي أن امرأة جاءت تطلب الخلع من زوجها، فنهرها عمر رضي الله عنه وقال: ضعوها في الحظيرة، وباتت ليلتها في الحظيرة، وفي الصباح قالت: والله أهنأ ليلة أنامها في هذه الحظيرة، فما كان من عمر إلا أن أمر بالتفريق بينهما، هذا هو الإسلام الذي راعى حقوق المرأة، هل نستقي من أفكار الغرب أم مرجعيتنا شريعتنا؟! يجب أن نأخذ من فلسفة الغرب ما يناسبنا، الغرب ينظر إلى المرأة، كجسد يستخدمها أداة في الإعلام والإعلان، استخدام المرأة في وسائل الإعلام هو قائم على إعلاء الجسد على الروح والمرأة باعتبارها إنسان، هي جسد وروح، فنحن يجب ألا نسير وراء في هذه الناحية، هناك صيحات من نساء الغرب يشتكين مما جرته عليهن الحضارة الغربية، المرأة أصبحت آلة استهلكها العمل في المعامل وأفقدها أنوثتها فأصبحت جنساً ثالثاً، المرأة في الغرب لا تجد من يكفلها مثلما يفعل الإسلام، وبالتالي تعتمد على نفسها في كل شيء، مما يفقدها كثيراً من أنوثتها وكرامتها، وبالتالي هي تشكو مما جلبته عليها الحضارة الغربية من مآس إنسانية..
الإسلام يلزم أولياء المرأة بكفالتها إذا كانت في حاجة أو ضرورة، المرأة في الغرب لا تجد من يعيلها ونظام النفقات في الإسلام لا يعرفونه، علينا أن نتمسك بعقائدنا وشرائعنا، على أن يكون ذلك في ضوء فقه جديد واجتهاد جديد، آفة قضية المرأة أنها ضاعت بين الإفراط والتفريط، هناك أناس متشددون يريدون حبس المرأة في البيت وهذه عقوبة لها، أن تقر المرأة في بيتها هذا خطاب لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا حبس للمرأة في البيت حتى أنهم حرموا المرأة من الصلوات في المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت المرأة تصلي في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
وقد شدد فضيلته على ضرورة أن تدخل المرأة معترك الحياة وتساهم في بناء مجتمعها جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل وذلك ضمن ضوابط الإسلام وآدابه، كما دعا إلى أن تساهم المرأة في الانتخابات والترشيح، وركز فضيلته على أهمية أن تصان حقوق المرأة كاملة، وأن نتخذ منهجاً وسطاً في معالجة قضية المرأة إذ لا إفراط ولا تفريط لا أن نتشدد ونفرط، ولا أن نهمل ونتجاوز حدود الثوابت في السماح للمرأة بالتجاوز على ما رسمته عقائدنا وشرائعنا السمحاء، وألا يصبح كل شيء مباحاً دون ضوابط، وفي نهاية اللقاء أجاب فضيلة الشيخ القرضاوي عن كل الأسئلة التي وجهت إليه فيما يتعلق بحقوق المرأة وواجبتها.(/3)
حقوق المرأة للمرة قبل الأخيرة د. أبوبكر محمد عثمان*
لا زال الباحثون يطاردون المفكرين المسلمين؛ مستفسرين عن موقف الإسلام من حقوق المرأة، ومع أن هذا الموضوع قد قُتل بحثا إلا أنه ما دام أن السؤال لا زال متجددا فلا بأس من تلخيصها فيما يلي من المواضيع المثارة وهي: الميراث، والقوامة، والطلاق، وتعدد الزوجات، والعمل، والتعليم، والحقوق السياسية.
- أما حصولها على نصف الميراث فهذا مقابل إعفائها من الإنفاق على نفسها، فضلا عن النفقة على غيرها؛ بل هي مكفولة أما وأختا وزوجة، وابنة؛ فأين الحيف؟! ومن الرابح؟!.
- أما القوامة فمعناها الحماية، والرعاية، والنفقة؛ أي إن الرجل مسؤول عن القيام على مصالحها دون أدنى مسؤولية من جهتها؛ لذلك أُعطي السلطة داخل مؤسسة الزوجية؛ فما من غنم إلا يقابله مغرم؛ فما ظن المرأة التي تطالب بتبادل المواقع؟!؛ هل يمكنها حمايته، ورعايته، والإنفاق عليه مقابل حصولها على السلطة، والقوامة؟!.. هذا هو دين الفطرة؛ فمن ناطحها نطحته!!..
- أما حق الطلاق فمكفول للمرأة، ويمكنها النص عليه في وثيقة الزواج – على قول لبعض أهل العلم – بحيث وقتما رأت أن الانفصال يحقق مصلحتها لم تحتج إلى موافقة الزوج.. ولكن لم نر إلا قلة قليلة من النساء طلبن أن تكون العصمة بأيديهن؛ لعلمهن أن الرجال أصبر على تحمل المشاكل، وعلى السعي لحلّها برويّة دون اندفاع، والأهم أنها لا يمكنها استعمال هذا الحق غير مرة واحدة؛ بخلاف الرجل الذي يملك ثلاث فرص قبل أن تُحَرَّم عليه زوجته، وحينئذ يمكنه الاقتران بها إذا تزوجت من آخر؛ فمات عنها، أو طلّقها وانتهت عدّتها.. فلو تبيّن أنها تسرّعت في استعمال حقها لم يكن سبيل لرأب الصدع، ن أ مأن تحرم منننتنوجبر الكسر؛ فلا يتصور أن تعود فتخطب زوجها الذي طلّقت نفسها منه.
- أما تعدد الزوجات فالمرأة هي المسؤولة عنه؛ وليس الرجل؛ فهي تقبل استمرار الزوجية إذا تزوج زوجها بأخرى، وتفضل أن تحتفظ بنصف أو ثلث أو ربع رجل بدلا من أن تفقده كله، والمرأة تقبل أن يتزوجها رجل متزوج؛ وتفضل ذلك على الانتظار الذي قد يؤدي إلى العنوسة؛ فعلى المتحمّسات ضد التعدد منع النساء من قبول الزواج من رجل متزوج، وتحريضهن على طلب الطلاق إذا تزوج رجالهن؛ وذلك بدلا من التوسل إلى الرجال بالتوقف عن خطبة النساء؛ فلا أظنهن سيكففن عن ذلك.
- أما العمل السياسي فأنا أتساءل: أليس الحمل تسعة أشهر عملا؟!، وأليس تحمل الآم الوضع لثماني عشرة ساعة عملاً؟!، وأليس الإرضاع لسنتين عملاً؟، وأليست الرعاية لخمس سنين بعد ذلك عملاً؟!.. فإذا انفردت النساء بهذه الأعمال دون الرجال فما وجه العدالة أن تشارك الرجل في العمل خارج المنزل دون ضرورة؟!؛ أليس هذا كقول قوم سبأ (ربنا باعد بين أسفارنا).. أما إن كانت مطلقة، أو أرملة، أو تريد أن تساعد زوجها الفقير، أو كانت ... وكانت خبرة نادرة فلا أحد يمنعها من العمل؛ على ألاَّ يشتمل على تبرج، أو اختلاط، أو خلوة.
- أما التعليم فلعلّ البعض منعه عندما تفشى الفسق بين الرجال والنساء؛ حفاظا على شرف بناتهم، لكن منعهن من التعليم والتعلّم لا دليل عليه من الكتاب أو السنة ما دام أنه يخلو من المحاذير الشرعية؛ ولا يفضي إلى مفاسد؛ بل إن الإسلام يحث الإنسان على الاستزادة من العلم (وقل رب زدني علما)، ومعظم الذين يطالبون بتعليم المرأة لا نظن إلا أنهم لا يرضونه لنسائهم إلا بالشروط الشرعية.
- أما طلب دخول البرلمان، والوزارات فلعله لحرصهن أن يكن في موضع اتخاذ القرار؛ للحفاظ، أو لاسترداد حقوقهن التي اغتصبها الرجال بزعمهن، وهنا تفصيل:
- أ/ من الذين ربى هؤلاء الرجال المغتصبين؟!؛ ألم ينشأوا في حجور النساء، وكانوا كالعجينة يشكلنها كيف شئن؟!.. فلماذا لم يعلمنهم احترام المرأة، وتوقيرها، والعطف عليها؛ وليس فقط الحرص على إعطائها حقوقها بدون مطالبات من جهتها؟!.
- ب/ أليست الأغلبية في البرلمانات والوزارات من الرجال؟!؛ فهل حصل كل الرجال على حقوقهم، أم فقدها الكثير منهم بأساليب التكتيك، والغش، والتكتلات، والتزوير؟!.. وهل ضمن هؤلاء النسوة أنهن سيحصلن على حقوقهن لمجرد وجودهن تحت قبة البرلمان؟!.(/1)
- ج/ هل يحتاج منع العنف ضد المرأة لاستغلالها في الترويج للبضائع؛ حتى زيوت الشاحنات.. واشتراط الجمال للحصول على وظيفة؛ خصوصا للسكرتيرات، والمضيفات، وبائعات التذاكر.. وكذلك مسابقات الجمال.. والعمل في الملاهي والمراقص لتقديم الأطعمة والخمور والرقص أمام الرجال.. وكذلك اعتماد معاشرة الرجال لبعضهم واستخراج عقود زواج بينهم؟!؛ (فهذا يحصر أهداف الممارسة في تحقيق اللذة؛ ويتجاهل الهدف الأسمى؛ وهو الإنجاب)!!؛ ثم إذا تمتع الرجال بعضهم ببعض فأين نصيب المرأة؟! (هذا غير الحكم الشرعي، وما في ذلك من مفاسد وأضرار).. وكذلك فقدها لاسم أبيها لصالح اسم زوجها.. واعتماد رضى المرأة بالزنى مانعا من تجريمه؛ بحجة أنها حرة في جسدها؛ تفعل به ما تشاء.. فهل يسمح لها القانون أن تفقأ عينها، أو تزهق روحها أو أن تنتحر؟!؛ فلماذا تكون حرة في التصرف في ذلك الجزء من جسدها دون غيره من الأجزاء؟!.. فإن قيل: (إنما خلق الله ذلك الجزء لتلك الممارسة)؛ قلنا: (لكنكم جعلتم ضوابط حتى لقضاء الحاجة؛ فخصصتم أماكن للرجال وأخرى للنساء؛ فكيف لا يكون لأشرف علاقة بين الرجل والمرأة ضوابط؟!.
هل يحتاج منع كل هذا إلى دخول البرلمان، والوزارة؟!.
- أما رئاسة الدولة، والقضاء، والخلافة العظمى فهل تطلعت النساء لمثل هذه المواقع؟!، وكم وزيرة، ورئيسة دولة؟، وكم قاضية في أكثر الدول علمانية (فرنسا وألمانيا وإنجلترا)؟!.. لقد رفض الشعب الياباني تنصيب امرأة من الأسرة المالكة ملكة عليهم!!.. أربعمائة ألف امرأة امتنعت ألمانيا عن إعطائهن فرص عمل؛ وبدلاً من ذلك أعطتهم تراخيص لمزاولة الدعارة!!..( أها.. قلتو شنو؟!..)(/2)
حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فحقوق رسولنا علينا كثيرة جداً، كيف لا؟ وقد أخرجنا الله به من الضلالة، وبصرنا به بعد العماية، ودلنا به إلى طريق الهداية، فجزاه الله عنا خير ما يجزي نبياً عن أمته، ووفقنا للقيام بأداء بعض حقه، إذ لا طاقة لنا بالقيام بكل حقه، ولا بإسداء شكره، والله يجزي بالقليل كثيراً؛ من تلك الحقوق:
1. الإيمان به، والتصديق بأنه عبد الله، ورسوله، وصفيه، وخليليه، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا.
2. أن لا يعبد الله عز وجل إلا وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3. أن يطيعه في كل ما أمر به وينتهي عن كل ما نهى عنه وزجر، فقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه حوالي ثلاث وثلاثين آية، وقرن محبته تعالى بطاعة رسوله، فقال: ( قل إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله)، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ثلاثة لا تقبل إلا بثلاثة، وذكر منها: ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، فقال: "من أطاع الله ولم يطع الرسول لا تقبل طاعته"، أو كما قال؛ بل لقد أمر بطاعته من غير قيد ولا شرط، فقال: ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، (إن هو إلاّ وحي يوحى)، فلا يحتاج ما يصح عنه أن يعرض على القرآن؛ كما يزعم بعض المتفلتين، الذين يَردون ما لا تهواه أنفسهم من سنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
4. أن يؤمن ويعتقد أنه خاتم الرسل أجمعين، وأنه سيد ولد آدم، فلا نبي بعده، ولا مخلوق فوقه.
5. أن يؤمن ويصدق أن شريعته خاتمة للشرائع، وكتابه مهيمن وناسخ لجميع الكتب، ودينه خاتم للأديان.
6. أن يؤمن ويعتقد أنه لا يسع أحد كائناً ما كان الخروج على شريعته، والاستغناء عن طريقته.
7. أن يحبه أكثر من ماله، وولده، وأهله، ونفسه التي بين جنبيه، فحبه صلى الله عليه وسلم له أصل وكمال، وأن يتأسى في ذلك بصحابته الكرام، وأتباعه العظام، حيث وصف عروة بن مسعود الثقفي قبل إسلامه عندما جاء مفاوضاً عن قريش في صلح الحديبية طرفاً من ذلك لكفار قريش عندما رجع إليهم قائلاً: " دخلت على الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي؛ فلم أر أحداً يُعظِمه أصحابه مثلما يُعظِم أصحاب محمد محمداً، كان إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون له النظر تعظيماً له"
8. أن يعتقد أنه معصوم من الزلل والخطأ ومن الناس.
9. أن يحب سنته ويعمل على نشرها بين الناس.
10. أن يحب آله وصحبه وآل بيته، وألا يؤذيه فيهم، فمن أنتقص أحداً منهم فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توعد الله من آذى رسوله بقوله: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً)، فالحذر الحذر أخي المسلم أن تتعرض لأحد من أصحاب رسول الله فيبعدك الله من رحمته التي وسعت كل شئ، لا السابقين منهم ولا اللاحقين؛ فكلاً وعد الله الحسنى.
11. ألا يرد شيئاً من سنته الصحيحة، ولا يؤولها تأويلاً غير مستساغ، فيكون من الظالمين لأنفسهم المعتدين على دين الله.
12. أن يتحاكم إلى شرعه ولا يرضى بغيره بديلاً.
13. ألا يقدم قول أحد كائناً ما كان على قوله وحكمه.
14. ألا يغلو فيه ويرفعه من درجة العبودية إلى درجة الربوبية أو الألوهية.
وصلى الله وسلم على رسوله الكريم.(/1)
حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن من أعظم الحقوق على المسلمين كافة وأهل العلم خاصة بيان فضل نبيهم صلى الله عليه وسلم وعظيم قدره عند الله تبارك وتعالى وعند أصحابه الذين اتبعوه وعاشوا معه ورأوه، وكيف ترجم هذا الجيل هذه المحبة إلى واقع وسلوك!! فما أحوج المسلمون اليوم أن يعرفوا حق نبيهم صلى الله عليه وسلم عليهم حتى يحبوه كما أحبه ذلك الجيل ويتبعوه كما اتبعه ذلك الجيل.
وإن شئت أن ترى بعض المكانة عند الصحابة رضي الله عنهم فتأمل هذا الوصف الذي رآه عروة ابن مسعود الثقفي سيد من سادات قريش، وهم من أشد خلق الله عداوة له حينما جاء يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ) [رواه البخاري].
ولا خفاء على من مارس شيئاً من العلم، أو خص بأدنى لمحة من فهم ، بتعظيم الله تعالى قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، و خصوصه إياه بفضائل و محاسن و مناقب لا تنضبط لزمام، و تنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة و الأقلام.
فمنها ما صرح به الله تعالى في كتابه، و نبه به على جليل نصابه، و أثنى عليه من أخلاقه و آدابه، و حض العباد على التزامه، و تقلد إيجابه، فكان جل جلاله هو الذي تفضل و أولى، ثم طهر و زكى، ثم مدح بذلك و أثنى، ثم أثاب عليه الجزاء الأوفى، فله الفضل بدءاً و عودا ً، و الحمد أولى و أخرى.
ومنها ما أبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال و الجلال، و تخصيصه بالمحاسن الجميلة و الأخلاق الحميدة، و المذاهب الكريمة، و الفضائل العديدة، و تأييده بالمعجزات الباهرة، و البراهين الواضحة، و الكرامات البينة التي شاهدها من عاصره و رآها من أدركه، و علمها علم يقين من جاء بعده، حتى انتهى علم ذلك إلينا، و فاضت أنواره علينا.
فاعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم، الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم أن خصال الجلال و الكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي اقتضته الجبلة و ضرورة الحياة الدنيا، و مكتسب ديني، و هو ما يحمد فاعله، و يقرب إلى الله تعالى زلفى.
فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار و لا اكتساب، مثل ما كان في جبلته من كمال خلقته، و جمال صورته، و قوة عقله، و صحة فهمه، و فصاحة لسانه، و قوة حواسه و أعضائه، و اعتدال حركاته، و شرف نسبه، و عزة قومه، وكرم أرضه، و يلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه، من غذائه و نومه، و ملبسه و مسكنه، و منكحه، و ما له و جاهه.
و قد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى و معونة البدن على سلوك طريقها، و كانت على حدود الضرورة و قوانين الشريعة.
و أما المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، و الآداب الشرعية: من الدين و العلم، و الحلم، و الصبر، و الشكر، و المروءة، و الزهد، و التواضع، و العفو، والعفة، و الجود، و الشجاعة، و الحياء، والصمت، و التؤدة، و الوقار، و الرحمة، و حسن الأدب و المعاشرة، و أخواتها، و هي التي جمعها حسن الخلق.
و قد يكون من هذه الأخلاق ما هو في الغريزة و أصل الجبلة لبعض الناس وقد يختلف الناس بعضهم عن بعض في هذه ولكن أن تجمع لشخص واحد فهذا من عظيم الفضل لهذا النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد أخذ سبحانه العهد على جميع الأنبياء أن أدركوه أن يتبعوه ويخبروا بذلك قومهم.(/1)
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران81]
وبين سبحانه وتعالى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمانا لهم مما حرفه أحبارهم وعلماؤهم فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة15]
وامتن على البشرية كافة أن بعث رسولا منهم وليس ملكا حتى لا تيأس النفس وتعجز عن العبادة إذ لا طاقة لبشر بمتابعة عبادة مما تقوم بها الملائكة قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9)}[الأنعام 8 - 9]
وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان7]
فكان من فضل الله ورحمته لإقامة الحجة كاملة على خلقه وعباده أن بعث فيهم رسولا يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون وينام كما ينامون.
قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة128]
{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران164]
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة2]
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة151]
قال جعفر ابن محمد: علم الله عجز خلقه عن طاعته، فعرفهم ذلك، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته، فأقام بينهم و بينه مخلوقاً من جنسهم في الصورة، و ألبسه من نعمته الرأفة و الرحمة، و أخرجه إلى الخلق سفيراً صادقاً، و جعل طاعته من طاعته، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء80]
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران159]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء107]
قال أبو بكر بن طاهر: زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، و جميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، و الواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، فكانت حياته رحمة، و مماته رحمة.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً(45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً(46)} [الأحزاب 45 - 46]
جمع الله تعالى في هذه الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم ما آثره به على باقي الخلق، و جملة من أوصاف المدح، فجعله شاهداً على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، و هي من خصائصه صلى الله عليه و سلم، و مبشراً لأهل طاعته، و نذيراً لأهل معصيته، و داعياً إلى توحيده و عبادته، و سراجاً منيراً يهتدى به للحق.
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً(6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)} [الشرح](/2)
قال القاضي عياض: هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه، و شريف منزلته عنده، و كرامته عليه، بأن شرح قلبه للإيمان و الهداية، و وسعه لوعى العلم، و حمل الحكمة، و رفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه، و بغضه لسيرها، و ما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله، و حط عنه عهدة أعباء الرسالة و النبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم، و تنويهه بعظيم مكانه، و جليل رتبته، و رفعه و ذكره، و قرانه مع اسمه اسمه.
ولقد كان أهل الكتاب يتناقلون صفته تابع عن تابع ورغم إخفائهم الكثير إلا أن الله سبحانه وتعالى أظهر ما أخفوه.
عن عطاء ابن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: أجل، و الله ! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، و حرزاً للأميين، أنت عبدي و رسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق، و لا يدفع بالسيئة السيئة، و لكن يعفو و يغفر، و لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، و يفتح به أعينا عمياً، و آذاناً صماً، و قلوباً غلفاً.
ولقد كان من عظيم محبة الله تعالى لنبيه بعد رفعه وعلو شأنه الملاطفة في العتاب رحمة به وفضلا وكرما قال تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة43]
قال عون بن عبد الله: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب.
و لو بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، لم أذنت لهم لخيف عليه أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام، لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب.
و في هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.
وكانت معية الله مع نبيه بالحفظ لا تفارقه.
قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء74]
عاتب الله تعالى الأنبياء عليهم السلام بعد الزلات، و عاتب نبيّنا عليه السلام قبل وقوعه، ليكون بذلك أشد انتهاءً و محافظة لشرائط المحبة، و هذه غاية العناية.
ثم انظر كيف بدأ بثباته و سلامته قبل ذكر ما عتبه عليه و خيف أن يركن إليه، ففي أثناء عتبه براءته، و في طي تخويفه تأمينه و كرامته.
قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام33]
قال علي رضي الله عنه: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك و لكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الآية]
ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له عليه السلام، و إلطافه به في القول، بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، و أنهم غير مكذبين له، معترفون بصدقه قولاً و اعتقادًا، و قد كانوا يسمونه ـ قبل النبوة ـ الأمين، فدفع بهذا التقرير ما قد يتألم به من وصفهم له بسمة الكذب، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين.
ثم عزّاه و آنسه بما ذكره عمن قبله، و وعده النصر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام34]
وقد أقسم تعالى بتحقيق قدره فقال تعالى: {وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى(4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)} [الضحى]
قال القاضي عياض: تضمنت هذه السورة من كرامة الله تعالى له، و تنويهه به و تعظيمه إياه ستة و جوه:
الأول: القسم له عما أخبره به من حاله بقوله تعالى: {وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)}. أي و رب الضحى، و هذا من أعظم درجات المبرة.
الثاني: بيان مكانته عنده و حظوته لديه بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، أي ما تركك و ما أبغضك. و قيل: ما أهملك بعد أن اصطفاك.
الثالث: قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى(4)}، قال ابن إسحاق: أي مالك في مرجعك عند الله أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
و قال سهل: أي ما ذخرت لك من الشفاعة و المقام المحمود خير لك مما أعطيتك في الدنيا.
الرابع: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)}(/3)
و هذه آية جامعة لوجوه الكرامة، و أنواع السعادة، و شتات الإنعام في الدارين. و الزيادة.
قال ابن إسحاق: يرضيه بالنصر والتمكين في الدنيا، و الثواب في الآخرة.
و قيل: يعطيه الحوض و الشفاعة.
الخامس: ما عدده تعالى عليه من نعمه، و قرره من آلائه قبله في بقية السورة، من هدايته إلى ما هداه له، أو هداية الناس به على اختلاف التفاسير، ولا مال له، فأغناه بما آتاه، وهدى بك ضالاً، و أغنى بك عائلاً، و آوى بك يتيماً ـ ذكره بهذه المنن، و أنه لم يهمله في حال صغره و عيلته و يتمه و قبل معرفته به، و لا ودعه ولا قلاه، فكيف بعد اختصاصه و اصطفائه !
السادس: أمره بإظهار نعمته عليه و شكر ما شرفه بنشره و إشادة ذكره بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}، فإن من شكر النعمة الحديث بها، و هذا خاص له، عام لأمته.
وهذه بعض شمائله صلى الله عليه وسلم
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا) [رواه مسلم ].
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا) [رواه البخاري ومسلم].
(عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ) [رواه البخاري ومسلم].
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) [رواه أبو داود].
ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره بل كان يعرض به صلى الله عليه وسلم.
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [رواه البخاري].
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ) [رواه البخاري].
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ) [رواه البخاري].
(عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا) [رواه مسلم].
والذي ينظر إلى حياته الخاصة يرى التواضع التام وعدم الانشغال الزائد بالدنيا.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ) [رواه البخاري ومسلم].
وكذلك رحمته بنسائه ومعونته إياهم.(/4)
(سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا قَالَتْ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ) [رواه أحمد].
وكذلك شدة محبته لأصحابه رضي الله عنهم والشهود بالفضل لهم.
(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا لَا فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا) [رواه البخاري].
(وَعَنْ جَرِيرٍ قَالَ مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) [رواه البخاري ومسلم].
وحتى مع خادمه كان رمزا للأسوة والقدوة.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا) [رواه البخاري ومسلم].
فمهما كتب الكاتب وأفهم الخطيب فلن يف أحد بحق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم !!
ولكن هل من بداية؟!! والبداية لا تكون إلا بعلم وعمل.... وقد أطلق المولى سبحانه وتعالى المتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب21]
فنسأل الله أن يجعلنا منهم- اللهم آمين.(/5)
حقوق النشر و التأليف و الملكية الفكرية
السؤال :
السلام عليكم ، هل يجوز نسخ شيئ من الكتب محفوظة الحقوق ( حقوق النشر ) علماً بأنها تنشر و توزع مجاناً . أفيدونا جزاكم الله خيراً .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الملكيّة الفكريّة حقّ مقرر لأصحابه ، و منها حقوق التأليف و النشر ، فإذا حُفظت هذه الحقوق لمؤلّف الكتاب أو طابعه أو ناشره أو غيرهم بموجب عقدٍ صحيح ، وجب تمكينه من حقّه و عدم التعدّي عليه ، و ذلك لأنّ المؤلّف سابقٌ إلى مباحٍ فهو أحقّ به ، و له أن ينزل عن حقّه بعِوض أو بغير عوض إلى من يشاء .
و عليه فإنّ أيَّ كتاب منصوصٍ على حفظ حقوقه لشخصٍ أو جهةٍ ما ، لا يجوز إعادة طبعه أو تصويره أو نسخه أو نشره على غير الصورة التي يجيزها صاحب حقّ التصرّف فيه ، و كذلك الحال إن حُفظت حقوق النشر عُرفاً و إن لم يكن ذلك مكتوباً ، لما رواه البخاري معلّقاً و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » ، و لأنّ القاعدة الفقهيّة تقول : ( المشروط عُرفاً كالمشروط شرطاً ) .
و من المقرر شرعاً أن الحقوق تكتَسَبُ بالسبق إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن خطبة الرجل على خطبة أخيه : ( ... كمن سبق إلى مباح فجاء آخر يزاحمه ... و إذا كان سبب النهي تعلق حق للأول بهذه العين فإذا أزيل على الوجه المحرم لم يؤثر هذا في الحل المزيل فإنه كالقاتل لموروثه فإنه لما أزال تعلق حق الموروث لمال بفعله المحرم لم يؤثر هذا الزوال في الحل له ، و لهذا لا يبارك لأحد في شيء قطع حق غيره عنه بفعل محرم ثم اقتطعه لنفسه ) [ الفتاوى الكبرى : 3 / 395 ] .
قلتُ : أمّا إن نسخه طالبُ علمٍ بيده أو صوّره لنفسه ، فلا أرى بأساً في ذلك لأنّه من باب طلب العلم الذي مُنع من كتمانه ، و إن مَنَع أحدٌ منه بهذه الصورة فأخشى عليه الوقوع في الوعيد الشديد ، لما رواه أحمد و أصحاب السنن إلا النسائي بإسناد صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
و بالنسبة للكُتب التي توزّع مجاناً ، أو تلك التي أشاع مؤلّفُها حقوق نشرها لمن أراد فعل ذلك احتساباً فالأمر فيه سعة ، و لا وجهَ للمنع من نسخها أو توزيعها ، إلا أن يكون قد عُهد بذلك إلى جهةٍ معيّنة ، و وُقِفَ الحقّ عليها لكفاءتها ، فلا تجوز مزاحمتها في ذلك ، و الله أعلَم .
هذا ، و الله المستعان ، و عليه التكلان
و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
حقيبة الخروج من الحياة
عندما تتخلف مصابيح التميز عن حياة كثير من النساء تكون النتيجة الحتمية هي : الضنك ، والضيقة ... مما يؤدي ببعض المجتمعات الكافرة إلى الإبداع ، والإبتكار في وسائل الانتحار ، للتخلص من حياة الضيق و الضنك ... فالحمد لله على نعمة الإسلام وإلى هذا الخبر :
طريقة جديدة للخروج من الدنيا
قال " فيليب نيتشكه " داعية قتل الشفقة في استراليا أن جهاز الانتحار الذي يطلق عليه اسم " حقيبة الخروج " والذي يتم طلبه بالبريد من كندا ، يحقق مبيعات كبيرة في البلاد.
ويبلغ سعر الجهاز (30) دولاراً أمريكياً ، ويأتي مع حقيبة خاصة مصنوعة من البلاستيك لإزهاق الروح عن طريق الاختناق.
وصرح " نيتشكه " لإذاعة ( إيه.بي.سي) الاسترالية بأن " الجهاز يبدو كئيباً إلى حد ما ولكنه فعال في إزهاق الأرواح" – والعياذ بالله-.
وأضاف أنه" يستخدم بصورة شائعة جداً ، ويتحدث معي عنه كثيرون يومياً حتى أصف لهم الجهاز وأزودهم بمعلومات تتعلق به".
من ناحية ثانية ، قامت إحدى السيدات البريطانيات التي تعاني من مرض يصيب الجهاز العصبي ويفقد الإنسان القدرة على الحركة برفع دعوى قضائية أمام المحكمة العليا أمس في لندن للحصول على تصريح يسمح لزوجها بمساعدتها في إنهاء حياتها .
وذكر راديو لندن أن السيدة دايات بيريتي ( التي تبلغ من العمر 42 عاماً) أصيبت بهذا المرض قبل عامين . وأشار الرديو إلى إن السيدة المريضة لجأت إلى القضاء بعد أن رفضت السلطات ضمان عدم ملاحقة زوجها إذا ساعدها في إنهاء حياتها.
ومن هذا الخبر يتبين لنا حال العالم الكافر إذ هو محط الاكتئابات النفسية ، والأرق ، والضيقة...
والله جل وعز يخبرنا في القرآن عن أحوالهم قائلاً:{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً} طه:124 . فهم يعيشون في ضنك ، وضيق ، وحصر نفسي رهيب ... نعم ... لقد ضييعوا مصابيح التميز وهي سُرج الطريق إلى السعادة الحقيقية .. , وأهم أهداف هذه الحياة..
محمد بن سرّار اليامي(/1)
حقيقة الالتزام
يتناول الدرس بيان معنى الالتزام بالدين وحقيقته التي يجب أن يكون عليها، وتناول الآيات والأحاديث التي وردت فيها مترادفات للالتزام وبينها، وعرض جملة من الأعمال التي ينبغي أن يعملها ويحافظ عليها الملتزم، وعرض لأمر الدعوة إلى الله وأهميتها وذكر بعض مجالاتها .
إن الحمد لله؛ نحمده، ونشكره، ونثني عليه، ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله، وهو ربنا عليه توكلنا، وإليه ننيب، ونحمده سبحانه أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أما بعد،،،
فإننا نشاهد اليوم هذا الإقبال الكبير من شبابنا على دين الله، وعلينا أن نتفاءل بهذا الإقبال، فهناك الإقبال على طلب العلم، والإقبال على تطبيق السنة النبوية، والإقبال على تطبيق الشريعة في كل شئون الحياة. لقد حصل من هذا الالتزام أثر بليغ؛ ألا وهو هذه الصحوة الإسلامية التي انتشرت في جميع أرجاء المعمورة، وسوف نتحدث عن الالتزام، وحقيقته، وأدلته من الكتاب والسنة، ثم الحديث عن أحوال الملتزم وصفاته.
تعريف الإلتزام
الالتزام كلمة عامة تَصدُق على الالتزام بالشرع، والالتزام بغيره؛ واصطلح في هذا الزمان أن تطلق كلمة ملتزم على المستقيم على الشرع، والمتمسك بالدين، ولكن الأولى أن نسمي المتدين: بالمستقيم، والمتمسك بالشريعة، والمطيع لله، وعاملاً بالشريعة، ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأولى والأرجح.
حقيقة الالتزام
ذكرنا أن الملتزم هو ذلك الشاب المستقيم على الشرع والعامل به، والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه هي حقيقة الالتزام، والأعمال التي يقوم بها الملتزم: إما ان تكون من الواجبات، وإما أن تكون من السنن، وإما أن تكون من نوافل العبادة والطاعات، وإما أن تكون من فروض الكفايات. والملتزم الذي كمل التزامه؛ مطلوب منه القيام بهذه الأعمال حتى يصْدُق عليه قول: ملتزم .
الالتزام هو الاعتصام
قال تعالى:}وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [103]{سورة آل عمران . والاعتصام: هو لزوم الشيء والتمسك به. وحبل الله تعالى:هو السبب الذي يوصل إلى رضاه، و إلى ثوابه، وإلى جنته ودار كرامته... وسماه الله تعالى حبلاً في هذه الآية؛ لأن من تمسك به نجى، ومن تركه اختل تمسكه، واختل سيرهُ.
الالتزام هو التمسك
قال تعالى:}فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا... [256]{سورة البقرة. والتمسك: هو القبض على الشيء قبضاً محكماً بكل ما يستطيع. وهذا أمر من الله تعالى أن نتمسك بشرعه بكل ما نستطيع، كما قال تعالى:}فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[43]{ سورة الزخرف . ثم بين الله أن الاستمساك بالعروة الوثقى لا يكون إلا بأمرين وهما: الكفر بالطاغوت ... والإيمان بالله تعالى .
الالتزام هو الاستقامة(/1)
قال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[13]{ سورة الأحقاف. وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا [30]{ سورة فصلت . وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ قَالَ: [ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد . أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهي أن يسير سيراً سوياً ليس فيه أية انحراف أو مخالفة، وهذا هو حقيقة الالتزام ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب]. وقال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ' استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة' . والْعِرْبَاضِ بْنَ سَارِيَةَ قَاَلَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ فَقَالَ: [ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ]رواه ابن ماجه والترمذي وأبوداود والدارمي وأحمد. وهكذا يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالسنة، والعض عليها بالنواجذ، ذلك أن القبضَ باليدين فيه عرضة للتفلت، فلأجل ذلك من شدة حرصه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالعض عليها بالنواجذ. والنواجذ: هي أقاصي الأسنان وهذا كناية على شدة التمسك بالسنة مخافة أن تتفلت. والشاب الملتزم حقاً: هو الذي يتمسك بالسنة، ويقبض عليها قبضاً محكماً، فيقبض عليها بيديه وعضديه؛ مخافة أن تتفلت منه، ولو أدى ذلك إلى العض عليها بأقاصي أسنانه.
وقفات مع الحديث:
1- لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوصى بالتمسك بالسنة بهذه الشدة، إلا لأنه يعرف أن هناك معوقات، وضلالات، وشبهات، ودوافع. وهذه الشبهات والضلالات قد ترخي تمسك الإنسان بهذه السنة، ولكن إذا عرف الشاب الملتزم أن تمسكه بالسنة وسيلةً لنجاته، وأن إخلاله بها وسيلة إلى هلاكه ودمار لحياته، فإنه بلا شك يتمسك بها أشد ما يكون التمسك.
2- كذلك: الملتزم الذي يعمل بالسنة كما أُمرَ لا شك أنه يلاقي من أعدائه ومن أضداده تسفيهاً وتَضليلاً واستهزاءً وتنفيراً وكيداً وتنقصاً لحالته، واستضعافاً لرأيه، ورمياً له بالعيون، وهذا ليس بخاف على أحد.(/2)
3- لقد رأينا كثيراً من شبابنا الذين رجعوا إلى الله تعالى، وأقبلوا على الطاعة وصحبوا أهل الخير، ثم بعد فترة قليلة ارتدّوا على أعقابهم ، وغيروا ما كانوا عليه من الالتزام والتمسك، وعادوا إلى لهوهم وسهوهم، لماذا؟!! لأن التزامهم لم يكن محكماً، وتمسكهم لم يكن قوياً، إضافة إلى ضعف إيمانهم مما جعلهم متدينين برهة من الزمان، ثم رجعوا إلى الضلال وإلى الانحراف. إذاً فعلى المسلم أن يكون قابضاً على السنة، وسائراً على النهج السوي والمنهج المستقيم، الذي هو صراط الله الذي أمرنا بأن نسلكه وأن نسير عليه، والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طريق واحد مستقيم ليس فيه أي انحراف، أو ميل كما في قوله تعالى: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]{ سورة الفاتحة . وقوله تعالى: }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153]{ سورة الأنعام. والمستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: [ هَذِهِ سُبُلٌ قَالَ يَزِيدُ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ : }وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ... [153]{ سورة الأنعام ] رواه أحمد والدارمي . وهذه السبل التي كل منها عليه شيطان يدعو إليها ليس بالضرورة أن يكون شيطان جن؛ بل قد يكون من شياطين الإنس، وما أكثرهم في هذا الزمان وكل زمان، فهم يدعون إلى مخالفة صراط الله والابتعاد عنه... إنهم يدعون إلى الطرق المنحرفة وإلى الطرق الملتوية: فهذا يدعو إلى الغناء واللهو! وذاك يدعو إلى الكسل! وآخر يدعو إلى الزنا! وآخر يدعو إلى التبرج! وما أكثر من يستجيب لهم من ضعاف الإيمان! ولكن المستقيم يستطيع أن يتفلت من هؤلاء إذا دعوه إلى أهوائهم وشهواتهم، وذلك لأن سير المسلم على هذا الصراط سير سريع لا يتمكن دعاة الضلال من إيقافه.
أعمال الملتزم والمستقيم
الملتزم حقا يجب عليه أن يقوم بأعمال معينة حتى يصدق عليه قول 'ملتزم' فمن هذه الأعمال نذكر ما يلي:
أولاً:التمسك بالسنة:إن الشاب الملتزم هو الذي تمسك بالسنة تمسكاً محكماً، وبذلك يكون من أهل السنة ومن أهل الشريعة، ويكون هو الجماعة، وإن قل من يقوم بها. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل النجاة؛ هم الذين ساروا على ما كان عليه هو وأصحابه عندما ذكر حديث افتراق الأمة، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً] قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي]رواه الترمذي. فمن هذا الحديث: يتبين أن الفرقة الناجية هي التي سارت على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتمسكت بها واتبعته صلى الله عليه وسلم في كل شئون الحياة.
ثانياً:طلب العلم: إن الشاب الملتزم يجب عليه أن يكون داعية إلى الله تعالى، فيدعو الناس إلى الاستقامة والالتزام وتطبيق شرع الله في حياته. وحتى يكون الشاب الملتزم داعية إلى الله على بصيرة يجب عليه أن يطلب العلم الشرعي... كما يجب على الشاب الملتزم والمستقيم أن يطلب العلم حتى يعبد الله على نور وبرهان، وليس على جهل وضلال.
ثالثاً:ترك البدع والمعاصي والملاهي: إن الشاب الملتزم حريص كل الحرص على البعد عما يدنس عرضه، وعما يقدح في عدالته، وعما ينقص من قدره وذلك بترك البدع والمعاصي والملاهي... فيا أخي الملتزم إن ابتعادك عن مثل هذا هو حقيقة من حقائق التزامك، وضرورة من ضرورياته. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[3]{ سورة المؤمنون فجعل من صفات المؤمنين البعد عن اللغو، وهي الصفة الثانية بعد الصلاة، وهذه حقيقة الملتزم .(/3)
رابعاً:الدعوة إلى الله:وبعد أن يمنَّ الله عليك ويكمل التزامك ، وتكمل نفسك، فتطهرها من المعاصي وتهذبها على الطاعة ، وتستقيم على السنة ؛ يجب عليك أمر مهم من أهم أعمال الملتزم ، و هو: الدعوة إلى الله، فابذل ما تستطيعه من الأسباب، لتأخذ بأيدي إخوانك ،وتحرضهم على أن يلتزموا ، ولا تيأسوا بسبب كثرة المنكرات؛ بل عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم في دعوة إخوانكم، ولو كانوا بعيدين عن الاستقامة؛ بل ولو لم يستجيبوا من أول مرة، ولعلك أن تجد بعد زمن: أن منهم من يستجيب لدعوتك .
لقد سرنا والحمد لله كثرة الدعاة الذين يدعون إلى الله، ولكن وجدنا منهم من يستنكف عن الدعوة إلى الله، ويعلل هذا التقاعس بأن أهل الشر أكثر ، وأن أهل الاستقامة وأهل الالتزام أقل من غيرهم؛ بل ونجدهم يقتصرون علىأنفسهم ولا يقومون بدعوة غيرهم، ولا شك أن هذا خلل ونقص في حقيقة الالتزام...أيها الأخ الداعية اقرأ قول الله تعالى: } وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]{ سورة العصر . فقد بين سبحانه أن أهل النجاة هم الذي آمنوا، ثم بعد ذلك عملوا الصالحات، ولم يقتصروا على هذا فقط؛ بل قاموا بدعوة غيرهم، فتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. فعلينا أن نتواصى فيما بيننا، فإنا بحاجة إلى ذلك، حتى الملتزم والمستقيم منّا . وفي استطاعة كل من قرأ القرآن على المشايخ، وحضر دروس العلماء في المساجد، وتفقه في دين الله، أن يبين ويعلّم ويدعو إلى ما يعلمه، فإنه يصدق عليه أن يُقَالَ: هذا طالب علم، أو يُقَالَ: هذا عالم، وإن كان علماً نسبياً، فعليه أن يحرص على تعدي هذا العلم إلى غيره بأي وسيلة ممكنة له، فإن استطاع أن ينتظم في سلك الدعاة إلى الله؛ سواء كان رسمياً أو معاوناً، فإن ذلك خير، وهو وسيلة من وسائل نشر العلم والدين... إنني أنصح إخواني بالانضمام إلى إخوانهم الدعاة بأي وسيلة لديهم، ولو لم يحفظ إلا آيةً أو حديثاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً] رواه البخاري والترمذي وأحمد والدارمي .
مجالات الدعوة إلى الله
أما عن مجالات الدعوة إلى الله، فهي كثيرة، وكل إنسان يختلف عن غيره، وكل يعرف قدراته وإمكاناته، ولكن نذكر على سبيل المثال:
1-الخطبة : فعلى الأخ الداعي الذي تعلم العلم الصحيح، واستقام على دين الله، أن ينتهز الفرصة، ويكون خطيباً في مسجد، ويوجّه هؤلاء المصلين الذين لا يسمعون موعظة دينية إلا في كل أسبوع مرة واحدة... وعليه أن يختار لهم الخطب النافعة التي تعالج مشاكلهم، وتنبههم على ما هم غافلون عنه، فلعل الله أن يهدي به بعض الحاضرين؛ فيتأثر بما يسمع، فيرجع عن غيِّه، وفي الحديث عنه عليه السلام قال لعلي: [ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد .
2-الإمامة : مجال آخر من مجالات الدعوة إلى الله وهو تولي الإمامة، وما أكثر المساجد التي هي بحاجة إلى أئمة صادقين ومجتهدين، وحريصين على نفع غيرهم من إخوانهم المصلين، والذي يتولى إمامة مسجد وقصده الصلاح ونفع إخوانه فإنه:
أولاً : تكون الصلاة خلفه مقبولة بإذن الله تعالى، وذلك أنه يحرص على إكمال شروط الصلاة وواجباتها وأركانها وسننها.
ثانياً : أنه ينفع المصلين، فإما أن يقرأ عليهم في كتاب مثلاً، أو يقرأ عليهم نصيحة، أو يفسر لهم آية، أو يشرح لهم حديثاً، أو نحو ذلك، فهو بذلك ينفع نفسه، وينفع إخوانه المصلين... إذاً فما الذي يعوقك يا أخي أن تتولى هذا المنصب، فتكون بذلك من الذين نفعوا أنفسهم ونفعوا الأمة، وأسقطوا الواجب عن غيرهم .
3- المساعدة : بشتى أنواعها: المادية والمعنوية.
صفات الملتزم والمستقيم
إن الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل شاب ملتزم ومستقيم كثيرةٌ جداً، وعلى سبيل المثال نذكر بعض هذه الصفات المهمة، وذلك للاختصار:
أولاً:المعاملة الحسنة:قال تعالى} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك[159]َ{آل عمران. وفي الحديث: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد فالمعاملة الحسنة صفة من صفات كل مسلم، وكل ملتزم، فلا تكن فظّاً غليظاً، بل كن لين الجانب، و الق أخاك بوجه مبتسم، إعجاباً به ومحبة له، فهذه كلها من صفات الملتزمين التي جاء الشرع بها وحث عليها.(/4)
ثانياً:التأدب مع الغير وحسن الجوار، وأداء الأمانة: فمن الآداب تأدب المسلم الملتزم مع الآخرين، ومثال ذلك: تأدبه مع أبويه، وذلك ببرهما وطاعتهما في غير معصية، وهذا أمر واجب. وكذلك يكون واصلاً لأرحامه، ومتأدباً معهم ومؤدياً حقوقهم التي عليه، وكذلك حسن الجوار وتأدبه مع جيرانه، وعدم إيذائهم ومعرفة حق الجار، وصدق الحديث معهم ومع غيرهم، وهكذا أداء الأمانة وغيرها من الصفات الحميدة التي يجب عليك أيها المسلم الملتزم أن تتحلى بها.
ثالثاً:غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ ] فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ: [ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا] قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ: [غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد . وإن التهاون بهذه الأمور يضعف من تمسك الإنسان والتزامه واستقامته!
وصية وخاتمة
وفي الختام فهذه وصية خاصة لإخواني الدعاة إلى الله، وإلى كل مسلم ملتزم ومستقيم على أمر الله، فأقول لهم: إذا رأينا كثرة الهالكين الذين هم على شفا جرف من الهلاك، ألسنا مسؤولين عنهم؟!! أليس لهؤلاء حق علينا ؟!! فما دمنا قد منّ الله علينا بالالتزام والاستقامة، فإن علينا أن لا نتركهم على ضلالهم وعلى غيهم؛ بل نحرص على جذبهم إلى التمسك بدين الله والاستقامة عليه: فإن كانوا ممن يدين بالإسلام، ولكن لا يعرف من دينه إلا مجرد التسمية، فإننا ننصحه ونوجهه ونبين له الدين الصحيح والإسلام الحق، لعل الله أن يهديه ويصبح من المستقيمين على دين الله، ومن المتمسكين بالسنة والشريعة... وإن كان ممن لا يدين بدين الإسلام، فإننا ندعوه إلى الإسلام، ونبين له محاسنه، فالإسلام هو الدين الواجب اتباعه وأما غيره من الأديان فهي باطلة، وهكذا فلعل الله أن يهديه إلى الإسلام.
وهذه دعوة لإخواني الملتزمين فلو أن كل واحد منَّا خصَّص يوماً في الأسبوع، ومشى إلى هذه الورش وأماكن تجمّع العمال وغيرهم، ودعا إلى الله تعالى، أو مشى إلى أماكن تجمعهم للصلاة، وألقى عليهم كلمة قصيرة، فإنه سيحصل بذلك خيرٌ كثيرٌ إن شاء الله... ولو ذهب كل واحد أو مجموعة إلى تلك المجالس والمخيمات ونحوها، وألقى نصيحة وكلمة خفيفة، أو وزع منشوراً أو شريطاً من الأشرطة المفيدة النافعة، فلا شك أن الخير سينتشر بإذن الله تعالى، ويكثر أهل الخير، والمتمسكون بدين الله، وهذا ما نتمناه ونرجوه إن شاء الله، وضعوا نصب أعينكم وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب حين بعثه للجهاد، فقال له: [ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد .
نسأل الله أن يمن علينا بطاعته، ونسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يجعلنا من المتمسكين بشريعته، والذابين عن دينه، والمجاهدين في سبيله، والمبلغين لأمره وشرعه، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إلى الله على بصيرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من رسالة: حقيقة الالتزام للشيخ/ ابن جبرين حفظه الله(/5)
حقيقة الانتصار
مفهوم النصر وحقيقته
ما مهمتنا ؟
أمثلة من القرآن
أحاديث في الانتصار
سورة العصر و حقيقة النصر:
أسباب تأخر النصر الظاهر
التنازل من أجل الانتصار
تصوروا القضية هكذا:
تقديم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) [سورة آل عمران: الآية: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) [سورة النساء، الآية: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة، في النار.
وبعد:
فقد تأملت في واقع الدعوة اليوم، وما مرت به في خلال هذا العصر من محن وابتلاءات، ورأيت أن الأمة تعيش يقظة مباركة، وصحوة ناهضة، والدعاة يجوبون الآفاق، والجماعات الإسلامية انتشرت في البلدان، حتى وصلت إلى أوربا وأمريكا، وقامت حركات جهادية في بعض بلاد المسلمين كأفغانستان وفلسطين وأرتيريا والفلبين وغيرها.
ولكن لحظت أن هناك مفاهيم غائبة عن فهم كثير من المسلمين، مع أن القرآن الكريم قد بينها، بل وفصلها، ورأيت أن كثيرا من أسباب الخلل في واقع الدعوة والدعاة، يعود لغياب هذه الحقائق.
ومن هذه المفاهيم مفهوم "حقيقة الانتصار"، حيث إن خفاءه أوقع في خلل كبير، ومن ذلك: الاستعجال، والتنازل، واليأس والقنوط ثم العزلة، وهذه أمور لها آثارها السلبية على المنهج وعلى الأمة.
من أجل ذلك كله عزمت على بيان هذه الحقيقة الغائبة، ودراستها في ضوء القرآن الكريم.
وأسأل الله التوفيق والسداد والإعانة.
أهمية الموضوع
تبرز أهمية الموضوع وسببه من خلال الفهم الخاطئ لمعنى حقيقة انتصار الداعية، والخلط فيه بين معنى انتصار الداعية وبين انتصار الدعوة، وظهور الدين، حيث نتج عن هذا الفهم وهذا الخلط عدة أمور -سلبية- أهمها:
1- تصور كثير من الناس أن هذا الداعية لم ينتصر ولم ينجح في دعوته؛ لأنه لم يتمكن من تحقيق الأهداف التي يدعو إليها، ويسعى لتحقيقها، مما يؤدي إلى التشكيك في منهجه، وانصراف بعض المدعوين عنه.
2- استعجال النتائج وتحقيق الأهداف.
مِن قِبَل كثير من الدعاة، فإن بعض الدعاة إذا بدأ في دعوته فإنه يرسم منهجًا جيدًا يسير من خلاله لتحقيق أهدافه، ولكن إذا مضى زمن ولم يتحقق شيء من ذلك، أو تحقق شيء يرى أنه لا يساوي الجهود المبذولة، فيقوم بتعديل منهجه السليم إلى منهج خاطئ يستعجل فيه الثمار، وذلك ناتج عن تصوره الخاطئ في فهم حقيقة ما يجب عليه، وإنه إذا لم تتحقق أهدافه فإنه لم يقم بما أوجبه الله عليه، غافلا عن الفرق بين الأمرين، أو جاهلا لذلك.
3- الانحراف عن المنهج.
وذلك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالداعية ملزم بأن يلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
بل هو ما ورد في الحديث الصحيح: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " (4).
وهو ما نفهمه من قوله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(5) [سورة الأنعام الآية: 153].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين وجوب الالتزام بمنهج الكتاب والسنَّة.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.
(4) - أخرجه أحمد: 4/126، 127 وأبو داود (4607) وابن ماجة (43) والترمذي (2676) وقال هذا حديث حسن صحيح.
(5) - سورة الأنعام آية: 153.(/1)
فبعض الجماعات والدعاة، حرصًا منهم على نصر الإسلام، وتصورا منهم أن ظهور الدين وزوال الكفر والفساد مقياسا لنجاح دعوتهم، وأمام ضغط الظالمين ومساوماتهم، واستعجال الأتباع وعدم صبرهم، يسعى هؤلاء للحصول على بعض المكاسب نصرة لهذا الدين ودفاعا عنه، ولكن هذا الأمر قد يقتضي التنازل عن بعض أصول الإسلام، وهنا يأتي الداعية إلى محاولة تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، فينحرف عن المنهج وهو لا يدري، ويستسلم لمساومات الأعداء وألاعيبهم.
4- اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
طريق الدعوة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه.
وكثير من الدعاة عندما يسير في الطريق ثم يجد أن الأعوام تمضي وهو لم يحقق شيئا مما يدعو إليه، ويحاول إعادة الكرة مرة بعد أخرى، ولا يرى أثرا مباشرا لدعوته، تبدأ عنده الشكوك والأوهام، فمرة: يتهم نفسه، وأخرى قومه، وثالثة: أتباعه ومؤيديه، ثم يصل في النهاية إلى أن هؤلاء القوم لا تنفع معهم دعوة، ولا يستجيبوا لداع أو نذير، ويقول لنفسه: كفاني ما كفانيا، وعليك بخاصة نفسك والسلام، و(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(1) - [سورة البقرة، الآية: 272] يفهمها فهما خاطئا- و(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(2) [سورة المائدة، الآية: 105] يضعها في غير موضعها.
وهنا ييئس من قومه، ويقنط من هداية الله لهم، ثم يعتزل الدعوة ويترك القوم وشأنهم.
ومنشأ هذه النتيجة التي وصل إليها عدم إدراكه واستيعابه لحقيقة الانتصار، وأنه قد يكون صبره على قومه مع عدم استجابتهم أعظم له أجرا، وذخرا ونصرا، مما لو آمنوا بما يدعو إليه واتبعوه.
هذه الآثار -وغيرها- التي نتجت في أغلب أحوالها عن الخلط في مفهوم الانتصار، وعدم قدرة كثير من الدعاة التفريق بين انتصار الدين وبين انتصار الداعية.
ومما سبق تتضح أهمية هذا الموضوع، وحاجة الدعاة وطلاب العلم إلى تجليته وبيانه، وبخاصة أن القرآن الكريم، قد وردت فيه آيات كثيرة، تقرر مفهوم الانتصار، ومهمة الداعية، والفرق بين المهمة وبين النتيجة والأثر.
وفي الصفحات التالية تقرير لهذه الحقيقة وتجلية لها، ومن الله نستمد العون والتأييد.
مفهوم النصر وحقيقته
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(3) [سورة غافر، الآية: 51].
وقال -سبحانه-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47]. وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(5) [سورة محمد، الآية: 7]. وقال -جل ذكره-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(6) [سورة الحج، الآية: 40]. وقال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173].
هذه الآيات وأمثالها تدل على انتصار الداعية، سواء أكان رسولا أو أحد المؤمنين، وهذا الانتصار يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
والذي علمناه من القرآن والسنة، أن من الأنبياء من قتله أعداؤه ومثّلوا به، كيحيى وشعياء وأمثالهما، ومنهم من هم بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء، إذ أراد قومه قتله، ونجد من المؤمنين من يسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ (8) وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟
نحن نعلم يقينا، أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ومنشأ السؤال والإشكال أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه، وهو النصر الظاهر وانتصار الدين، ولا يلزم أن يكون هذا هو النصر الذي وعد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين.
والله قد وعدهم بالنصر، وهو متحقق لا شك في ذلك، ولا مرية، وذلك في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لأن الله -سبحانه- قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(9) [غافر الآية: 51]. ومن أصدق من الله قيلا.
وتجلية لهذه القضية، وبيانا لهذا الجانب لا بد من إيضاح معنى النصر، وأنه أشمل مما يتبادر إلى أذهاننا، ويسبق إلى أفهامنا إن النصر له وجوه عدة، وصور متنوعة أهمها ما يلي:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 272.
(2) - سورة المائدة آية: 105.
(3) - سورة غافر آية: 51.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - سورة محمد آية: 7.
(6) - سورة الحج آية: 40.
(7) - سورة الصافات آية: 171-173.
(8) - انظر تفسير الطبري 24/74 وفي ظلال القرآن 5/3085.
(9) - سورة غافر آية: 51.(/2)
1- أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حصل لداود وسليمان، عليهما السلام (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 251]. (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (2) [سورة الأنبياء، الآية: 79]. (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)(3) [سورة البقرة، الآية: 102]. (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(4) [سورة ص، الآية: 35].
وكذلك موسى، عليه السلام، نصره الله على فرعون وقومه، وأظهر الدين في حياته، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(5) [سورة الأعراف، 137]. (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(6) [البقرة، الآية: 50].
ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم نصره الله نصرا مؤزرا، وأهلك أعداءه في بدر، وما بعدها حتى ظهر دين الله، وقامت دوله الإسلام. (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(7) [سورة الفتح، الآية: 1]. (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(8) [سورة النصر، الآيتان: 1- 2].
وهذا النوع من الانتصار هو النصر الظاهر، وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق كلمة النصر، للأسباب التالية:
أ- لأنه نصر ظاهر يراه الناس ويحسون به.
ب- أنه هو الانتصار الذي يجمع بين انتصار الدين وظهوره وانتصار الداعية.
ج - أنه محبب إلى النفوس، وهو النصر العاجل، "والنفس مولعة بحب العاجل" ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ )(9) [سورة، الصف: 13].
2- أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين، ومن آمن معهم، كما حدث لنوح، عليه السلام، حيث نجاه الله وأهلك قومه، )فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-14].
وكذلك قوم هود، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة الأعراف، الآية: 72].
وقوم صالح، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)(12) [سورة الأعراف، الآية: 78].
وقوم لوط، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(13) [سورة الأعراف، الآية: 84].
وقوم شعيب، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 189]. إن أخذ المجرمين بالعذاب الأليم نصر عظيم للداعية، وكبت للمكذبين والمرجفين، والله يمهل ولا يهمل أبدا:
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(15) [سورة العنكبوت، الآية: 40].
3- قد يكون الانتصار بانتقام الله من أعدائهم، ومكذبيهم، بعد وفاة هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيى، -عليه السلام- وشعياء، ومن حاول قتل عيسى، عليه السلام، قال الإمام الطبري في تفسير الآية:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 251.
(2) - سورة الأنبياء آية: 79.
(3) - سورة البقرة آية: 102.
(4) - سورة ص آية: 35.
(5) - سورة الأعراف آية: 137.
(6) - سورة البقرة آية: 50.
(7) - سورة الفتح آية: 1.
(8) - سورة النصر آية: 1-2.
(9) - سورة الصف آية: 13.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14.
(11) - سورة الأعراف آية: 72.
(12) - سورة الأعراف آية: 78.
(13) - سورة الأعراف آية: 84.
(14) - سورة الشعراء آية: 189.
(15) - سورة العنكبوت آية: 40.(/3)
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1) [سورة غافر، الآية: 51] "إما بإعلائنا لهم على من كذبنا.. أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم (2) " وهذا يدخل تحت قوله -تعالى-: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ)(3) [سورة محمد، الآية: 4]. أي: لانتقم.
4- أن ما يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي، كالقتل، والسجن والطرد والأذى.
أليس قتل الداعية شهادة في سبيل الله. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(6) [سورة التوبة، الآية: 52]. فقتل الداعية انتصار للداعية من عدة جوانب، أهمها:
(أ) الشهادة، وهي من أعظم أنواع الانتصار، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(7) [سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170].
(ب) انتصار المنهج وظهوره، كما حدث لعبد الله الغلام عندما قتله الملك، فقال قوم: "آمنا بالله رب الغلام" (8).
ونجد في العصر الحاضر سيد قطب -رحمه الله- كان قتله انتصارا لمنهجه الذي عاش من أجله، ومات في سبيله، حتى قال أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل سيد وينتشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتب سيد قطب.
بل إننا وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتب سيد -يرحمه الله- كالظلال، والمعالم، وخصائص التصور الإسلامي، لما تدره من أرباح هائلة، نظرا لكثرة القراء والمستفيدين.
وهذا ما قصده سيد عندما قال: إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء عاشت وانتفضت بين الأحياء.
(ج) الذكر الطيب بعد وفاته، قال إبراهيم، عليه السلام، (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(9) [سورة الشعراء، الآية: 84 ]. والمقتول في سبيل الله له ذكر طيب عند المؤمنين، وهذا أمر مشاهد ومحسوس.
وكذلك الطرد والإخراج، قد يكون انتصارا للداعية، حين يتصور كثير من الناس أن هذا هزيمة له، ولذا فإن الله -جل وعلا- قال عن رسوله، صلى الله عليه وسلم حين أخرجته قريش من مكة. (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)(10) [سورة التوبة، الآية: 40].
ولا شك أن خروجه من مكة كان انتصارا من عدة أوجه، أهمها:
(1) أن الله نجاه من المشركين، وحماه منهم، وأعماهم عنه، حيث أرادوا قتله.
(ب) أن الدعوة انتقلت إلى بيئة أخرى تحميها وتؤازرها بدل أن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم محاربا مطاردا، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ولا يتمكنون من إظهار عبادتهم لله كما حدث لهم في المدينة.
(ج) قيام دولة الإسلام في المدينة، وانطلاقة الجهاد بعد ذلك، ثم بدء دخول الناس في دين الله أفواجا.
وكذلك نجد أن هجرة الصحابة للحبشة كانت انتصارا لهم، وكبتا لأعدائهم، ولذلك لاحقتهم قريش إلى هنالك، ولكنهم عادوا خائبين حيث حماهم النجاشي، بل أسلم ودخل في دين الله !!
وقل مثل ذلك عن السجن والتعذيب والأذى، فإن انطلاقة الداعية قد تكون بداية من سجنه أو إيذائه.
فهذا داعية اتهم في عرضه من قبل أعدائه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى، ولن يكون له شأن بعد اليوم، ولكن كانت هذه التهمة انطلاقة كبرى لهذا الداعية، من عدة أوجه:
(1) انتصر على نفسه حيث عرف أن رهبة السجن أكبر من حقيقته، حيث أدخل السجن مرتين، فأصبحت لديه مناعة من الخوف أو الرهبة من غير الله.
(ب) تكشف له الباطل، وعرف زيف بعض من كان يتلبس بالحق تمويها وخداعا.
(جـ) عرف صديقه من عدوه، وكما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد عني كل خير ... عرفت بها صديقي من عدوي
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - تفسير الطبري 24/74.
(3) - سورة محمد آية: 4.
(4) - سورة آل عمران آية: 169.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة التوبة آية: 52.
(7) - سورة آل عمران آية: 169-170.
(8) - قطعة من قصة أصحاب الأخدود أخرجها مسلم (3005) من حديث صهيب.
(9) - سورة الشعراء آية: 84.
(10) - سورة التوبة آية: 40.(/4)
(د) زاد عدد طلابه ومحبيه، وكثر المستمعون للحق الذي يدعو إليه، فأصبحوا عشرات الآلاف بل ويزيدون.
(هـ) كبت الله أعداءه وخصومه، وتجرعوا كأس الهزيمة وهم ينظرون.
أليس هذا هو الانتصار في الحياة الدنيا قبل الآخرة؟! (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(1) [سورة المنافقون، الآية: 8]. وقبل أن نغادر هذا النوع من أنواع الانتصار، لا بد من الوقوف أمام حقيقة تخفى على الكثيرين، وهي نوع من أنواع انتصار الداعية، ذلك أن الداعية عندما يقتل أو يسجن أو يؤذى أو يطرد فإن خصمه قد ذاق ألوان الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على ما أقدم عليه، بل وأحيانا بعد أن يفعل فعلته، فإنه لا يجد للراحة مكانا، ولا للسعادة طعما، ولذا فإن الحجاج بن يوسف عند ما قتل سعيد بن جبير، ذاق ألوان العذاب النفسي حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعا ويقول: ما لي ولسعيد، حتى مات وهو في همه وغمه.
ولهذا جاء القرآن معبرا عن هذه الحقيقة، كما في سورة آل عمران، فقال -سبحانه-: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(2) [سورة آل عمران، الآيتان: 119، 120].
وقال -سبحانه-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)(3) [سورة الأحزاب، الآية: 25].
بينما نجد الداعية يعيش في سعادة وهناء، قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(4) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173] قال: كان بعض أهل العربية يتأول ذلك، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة (5) وهذا -أيضا- معنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (6).
ولذلك قال شيخ الإسلام معبرا عن هذه الحقيقة: ماذا ينقم مني أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، قتلي شهادة، ونفي سياحة، وسجني خلوة.
وهو ما عناه أحد الزهاد عندما قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وهنا ندرك من المنتصر ومن المنهزم، وأن الانتصار والهزيمة أبعد معنى مما يراه الناس في الظاهر، بل هناك حقائق قد لا تدرك بالعيون، وصدق من قال:
اصبر على مضض الحسو
فالنار تأكل نفسها ... د فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
5- أن ثبات الداعية على مبدئه، هو انتصار باهر، وفوز ساحق، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة انتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(7) [سورة الصافات، الآيتان: 97، 98].
والإمام أحمد -رحمه الله- عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.
وأصحاب الأخدود وهم يلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(8) [سورة البروج، الآية:8].
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بأثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه " (9) الحديث.
فبين، صلى الله عليه وسلم أن الانتصار هو الثبات على الدين، وعدم التراجع مهما كانت العقبات والمعوقات.
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 8.
(2) - سورة آل عمران آية: 119-120.
(3) - سورة الأحزاب آية: 25.
(4) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(5) - تفسير الطبري 23/114.
(6) - أخرجه مسلم (3999).
(7) - سورة الصافات آية: 97-98.
(8) - سورة البروج آية: 8.
(9) - أخرجه البخاري (3612).(/5)
6 -أن النصر قد يكون بقوة الحجة، وصحة البرهان، قال الإمام الطبري في قوله تعالى: )وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(1) [سورة الصافات، الآيتان: 171، 172]. يقول -تعالى ذكره- ولقد سبق منا القول لرسلنا أنهم لهم المنصورون، أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة بالحجج.
قال السدي: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(2) بالحجج. (3)
وقال الطبري في قوله -تعالى-: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(4) أي فجعلنا قوم إبراهيم الأذلين حجة، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة. (5).
وكذلك نجد هذا المعنى في قوله - تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)(6) [سورة الأنعام، الآية: 83]. والرفع هو الانتصار.
وكذلك في سورة البقرة بعد أن ذكر الله محاجة الذي كفر لإبراهيم في ربه، قال الله -تعالى- (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(7) [سورة البقرة، الآية: 258]. والبهت هو الهزيمة، أي انهزم الكافر وانتصر إبراهيم بالحجة والبرهان.
إذن فانتصار الداعية بقوة حجته هو انتصار حقيقي، بل هو وسيلة من أهم وسائل انتصار الدين وظهوره.
7- أن انتصار الداعية، غير محصور في زمان أو مكان، فزمانه الحياة الدنيا ثم الآخرة، ومكانه أرض الله الواسعة.
ولذا فقد يضطهد الداعية في مكان وينتصر في مكان آخر، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد اضطهد في مكة، ثم انتصر في المدينة أولا ثم في مكة ثانيا.
وموسى، عليه السلام، اضطهد في أرض فرعون وانتصر بعد ذلك في مكان آخر، وقد يضطهد الداعية في زمان، ثم ينتصر في زمان آخر. كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، فمات في سجنه -رحمه الله- ولكن انتصرت دعوته أعظم الانتصار بعد عدة قرون من وفاته ولا تزال.
وهذا أمر معلوم ومشاهد، فكم من داعية هزم في مكان وانتصر في مكان آخر، وأوذي في زمان وانتصر في زمان آخر، سواء في حياته أو بعد وفاته.
8- أخيرا، فإن النصر قد يكون بالمنع، أي بحماية الداعية ومنع أعدائه من الوصول إليه، قال -سبحانه-: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(8) [سورة البقرة، الآية: 48]. أي يمنعون (9)
وقال- جل وعلا-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(10) [سورة الحجر، الآية: 94، 95].
قال الإمام الطبري في معنى هذه الآية: فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك، كما كفاك المستهزئين. (11).
وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(12) [سورة المائدة، الآية: 67].
هذه بعض أوجه النصر، بل أهم أنواع النصر، ولو تأملنا في هذه الأوجه ثم نظرنا إلى سيرة الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لوجدنا أن كل واحد منهم قد تحقق له نوع من هذه الأنواع أو أكثر من نوع، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد انتصر بظهور الدين وتمامه، وانتصر بإهلاك من كذبه في بدر وما بعدها، وانتصر، وهو يخرج من مكة، وانتصر بالحجة والبرهان، وانتصر بالمنع من الأعداء، وانتصر في مكان غير بلده، وانتصر بالثبات على دين الله والصدع بكلمة الحق، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(13) [سورة الإسراء، الآية: 74].
ويتفاوت الأنبياء والرسل، عليهم السلام، في الانتصارات التي حققوها، ولكن وعد الله قد تحقق لهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(14) [سورة الصافات، الآيات:171، 172، 173].
وكذلك كل مؤمن صادق فسيتحقق له الانتصار، سواء في حياته أم بعد مماته تحقيقا لوعد الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(15) [سورة غافر، الآية: 51].
ومن خلال ما سبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار، وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده.
__________
(1) - سورة الصافات آية: 171-172.
(2) - سورة الصافات آية: 172.
(3) - تفسير الطبري 23/114.
(4) - سورة الصافات آية: 98.
(5) - تفسير الطبري 23/75.
(6) - سورة الأنعام آية: 83.
(7) - سورة البقرة آية: 258.
(8) - سورة البقرة آية: 48.
(9) - انظر تفسير الطبري 1/269 وهو قول لابن عباس.
(10) - سورة الحجر آية: 94-95.
(11) - تفسير الطبري 14/69.
(12) - سورة المائدة آية: 67.
(13) - سورة الإسراء آية: 74.
(14) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(15) - سورة غافر آية: 51.(/6)
فالأمر لله من قبل ومن بعد، ولسنا سوى عبيد له، سبحانه، نسعى لتحقيق عبوديته، ومن كمال العبودية أن نعلم ونوقن يقينا جازما لا شك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة، ولكننا قد لا ندرك حقيقة هذا الأمر لحكمة يعلمها الله، وقد يتأخر النصر ابتلاء وامتحانا، وصدق الله العظيم: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
ما مهمتنا ؟
من أجل أن نفقه حقيقة الانتصار لا بد من أن نعرف المهمة التي كلفنا الله بها فبمقدار القيام بهذه المهمة يتحقق الانتصار.
هل مهمتنا أن نقوم بهداية الناس؟ أو مهمتنا أن نسعى ونجد في دعوة الناس للهداية والإيمان؟.
هل مهمتنا أن نجبر الناس على الإيمان؟ أو مهمتنا أن نبين لهم الطريق إلى الإيمان؟ إن مهمة الأنبياء والرسل والدعاة تتلخص في كلمة واحدة، إنها: البلاغ.
بل إن مسئوليتهم محصورة في هذا الجانب وحده.
والآيات في هذا كثيرة، جاءت مقررة لهذه الحقيقة، التي تغيب عن أذهان كثير من الدعاة والمصلحين.
ونقف قليلا مع بعض هذه الآيات: قال -سبحانه-: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة النحل، الآية: 35]. وقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(3) [سورة النور، الآية: 54]. وقال في سورة الشورى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(4) [سورة الشورى الآية: 48]. وفي سورة أخرى: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(5) [سورة التغابن، الآية: 12] وفي المائدة: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(6) [سورة المائدة، الآية: 92].
قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 20]. إن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي (8).
وقال ابن عاشور في الآية نفسها: وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم، فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ، فقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(9) وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك، إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم (10).
ومن أجل تأكيد هذه الحقيقة، وهي أن مهمة الأنبياء والرسل هي البلاغ، جاءت آيات أخرى تبين أن هداية الناس ليست لا للأنبياء ولا للرسل ولا لغيرهم، قال -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة يونس، الآية: 99]. وقال -جل وعلا -: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(12) [سورة القصص، الآية: 56]. وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(13) [سورة الكهف، الآية: 6]. ومثلها: )(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 3].
وفي سورة أخرى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(15) [سورة فاطر، الآية: 8].
وتتحدد مهمتنا بقول الحق -وهو البلاغ- كما في هذه الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(16) [سورة الكهف، الآية: 29].
ونختم هذه الآيات بهاتين الآيتين: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(17) [سورة الأنعام، الآية: 35].
أما آية الذاريات فجاءت مؤكدة المعنى بأسلوب آخر: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(18) [سورة الذاريات، الآيتان: 54، 55].
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - سورة النحل آية: 35.
(3) - سورة النور آية: 54.
(4) - سورة الشورى آية: 48.
(5) - سورة التغابن آية: 12.
(6) - سورة المائدة آية: 92.
(7) - سورة آل عمران آية: 20.
(8) - انظر تفسير الطبري 3/215.
(9) - سورة آل عمران آية: 20.
(10) - التحرير والتنوير 3/205.
(11) - سورة يونس آية: 99.
(12) - سورة القصص آية: 56.
(13) - سورة الكهف آية: 6.
(14) - سورة الشعراء آية: 3.
(15) - سورة فاطر آية: 8.
(16) - سورة الكهف آية: 29.
(17) - سورة الأنعام آية: 35.
(18) - سورة الذاريات آية: 54-55.(/7)
هذه بعض الآيات التي وردت في كتاب الله محددة مهمة الأنبياء والرسل والدعاة، ونافية أي مهمة أخرى قد يتصور الدعاة أنها من مسئوليتهم، وهي ليست كذلك.
إن مهمتنا هي البلاغ، وليس الإكراه، والسعي لهداية الناس، وليس تحقيق هدايتهم، واتخاذ الخطوات والسبل المشروعة لتغيير الواقع السيئ، لا تغيير الواقع.
إننا عندما ندرك هذه الحقائق، ونتعامل معها، نفهم حقيقة النصر الذي نسعى للفوز به، ونعلم من المنتصر ومن المهزوم، وعندما تغيب هذه الأسس والأصول والمنطلقات قد يحيد الداعية عن الطريق، ويخشى أن يكون ممن قال الله فيه: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1) [ سورة الكهف، الآيتان: 103، 104] وإن كانت هاتان الآيتان في الكفار، فإن معناهما قد يشمل في بعض مدلوله أولئك.
أمثلة من القرآن
تأصيلا لهذا المفهوم، ومزيد بيان لهذه القضية، سأختار أمثلة من كتاب الله، تقصّ سير الأنبياء والمرسلين وبعض الدعاة من الأمم السابقة، حيث يتضح من خلال هذه القصص، المنهج الذي سلكه أولئك، والنتائج التي حققوها، ليكون عبرة ونبراسًا لنا ومن يأتي بعدنا.
وسأعرض كل قصة بالقدر الذي أرى أنه يحقق الغرض من إيرادها، مقتصرًا على أبرز هذه القصص، وأقربها صلة بموضوعنا.
1- قصة نوح
ذكر الله -سبحانه وتعالى- نوحا، عليه السلام، في تسع وعشرين سورة من سور القرآن، وقد جاء في بعضها في أكثر من موضع، ومنها سورة نزلت بكاملها في نوح وقومه، وهي سورة نوح.
إن قصة نوح مع قومه قصة عظيمة مليئة، بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:
(أ) أن نوح، عليه السلام، أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
(ب) طول المدة التي قضاها في قومه، حيث مكث (950) سنة.
(جـ) أن نوحا، عليه السلام، من أولي العزم من الرسل.
(د) كثرة وروده في القرآن، حيث ورد (43) مرة. في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن - تقريبا (2).
وسأذكر بعض الآيات التي وردت تقص علينا سيرة نوح مع قومه، ثم أقف بعض الوقفات حولها:
قال -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(3) [سورة الأعراف، الآية: 59].
هذا جوهر دعوة نوح، حيث دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، وحذرهم من مغبة مخالفته.
وتأتي مرحلة أخرى يواجه فيها قومه بعد استكبارهم وعدم استجابتهم، قال -سبحانه- في سورة يونس: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(4) [سورة يونس، الآية: 71].
وتأتي أطول قصة لنوح مع قومه في سورة هود، حيث حاجهم وجادلهم وبين لهم طريق الهداية، حتى قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(5) [سورة هود، الآية: 32].
ثم يبين الله له النهاية في هؤلاء (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(6) [سورة هود، الآيتان: 36، 37].
ونقف بعض الوقفات المهمة حول قصة نوح، مما له ارتباط بموضوعنا:
1- كم لبث نوح في قومه؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)(7) [سورة العنكبوت، الآية: 14].
2- ما هي الأساليب التي اتخذها نوح لتبيلغ رسالة ربه؟ لقد اتخذ كل وسيلة مشروعة في محاولة لهدايتهم وتعبيدهم لله؛ (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً)(8) [سورة نوح، الآيات: 5-9].
3- ماذا كانت النتيجة من هؤلاء؟:
__________
(1) - سورة الكهف آية: 103-104.
(2) - لأن سور القرآن (114)، و (29) ربع (116).
(3) - سورة الأعراف آية: 59.
(4) - سورة يونس آية: 71.
(5) - سورة هود آية: 32.
(6) - سورة هود آية: 36-37.
(7) - سورة العنكبوت آية: 14.
(8) - سورة نوح آية: 5-6-7-8-9.(/8)
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(1) [سورة الشعراء، الآية: 111] ثم قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(2) سورة [الشعراء، الآية: 116].
4- من آمن مع نوح؟ لم يؤمن معه إلا قليل، حتى إن زوجته لم تؤمن به، وكذلك أحد أبنائه، ولنقرأ هذه الآيات:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(3) [سورة هود، الآية: 40].
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(4) [سورة هود، الآية: 45.] (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(5) [سورة هود، الآية: 46].
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(6) [سورة التحريم، الآية: 10].
5- وأخيرا ماذا قال نوح، عليه السلام؟ (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(7) [سورة الشعراء، الآيتان: 117، 118]. (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(8) [سورة القمر، الآية: 10]. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآيتان: 26، 27].
6- وتحقق الانتصار لنوح بعد هذه الرحلة الشاقة العسيرة: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-15].
هذه قصة نوح، ومع هذه السنوات التي قضاها، بل القرون، حيث لبث قرابة عشرة قرون، ماذا كانت النتيجة؟
(أ) لم يؤمن من قومه إلا قليل، قيل: إنهم ثلاثة عشر بنوح، عليه السلام، قال ابن إسحاق: نوح وبنوه الثلاثة، سام، وحام، ويافث، وأزواجهم، وستة أناس ممن كان آمن به (11).
(ب) لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه كما سبق، وهم أقرب الناس إليه.
(جـ) ومع ذلك، فإنه يعد منتصرا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات، ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه -وحاشاه من ذلك- أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(12) [سورة هود، الآية: 38].
2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(13) [سورة الشعراء، الآية: 116].
3- إهلاك قومه الذين كذبوه بالغرق، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ)(14) [سورة الأعراف، الآية: 64].
4- نجاة نوح ومن آمن معه، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ )(15) [سورة الأعراف، الآية: 64]. (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(16) [سورة القمر، الآيتان: 13، 14].
5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبح آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(17) [سورة القمر، الآية: 15].
__________
(1) - سورة الشعراء آية: 111.
(2) - سورة الشعراء آية: 116.
(3) - سورة هود آية: 40.
(4) - سورة هود آية: 45.
(5) - سورة هود آية: 46.
(6) - سورة التحريم آية: 10.
(7) - سورة الشعراء آية: 117-118.
(8) - سورة القمر آية: 10.
(9) - سورة نوح آية: 26-27.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14-15.
(11) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(12) - سورة هود آية: 38.
(13) - سورة الشعراء آية: 116.
(14) - سورة الأعراف آية: 64.
(15) - سورة الأعراف آية: 64.
(16) - سورة القمر آية: 13-14.
(17) - سورة القمر آية: 15.(/9)
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(1) [سورة الإسراء، الآية: 3]. (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)(2) [سورة الصافات، الآية: 79]. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 33].
وهكذا تتضح حقيقة النصر، من خلال قصة نوح وقومه.
وقبل أن أتجاوز قصة نوح، عليه السلام، وقفت عند آية وردت في سورة نوح، حيث، قال: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(4) [سورة نوح، الآية: 27].
وبما أنه لم يكن في الأرض يومئذ إلا قوم نوح، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله -سبحانه- أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقي هؤلاء، فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويذودون عنه. والدليل على أنه لم يبق سوى من يحمل رسالة التوحيد أن الله -تعالى- قال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(5) [سورة الإسراء، الآية 3]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: وذلك أن كل من على الأرض من بني آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
قال قتادة: والناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة.
قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح (6).
وقيل هم ثلاثة عشر، رجالا ونساء (7).
قال -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(8) [سورة نوح، الآية: 58]. إن الانتصار وهو انتصار المنهج لا الأفراد، والعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في المنهج الذي يحمله أولئك سواء أقلوا أم كثروا، ولذا فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردا يحملون الإسلام ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام أن هناك خطرا يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآية: 27].
ولهذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بدر وهو يناجي ربه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض... " (10) الحديث. واستجاب الله لمحمد، صلى الله عليه وسلم ونصره في بدر وما بعدها، كما استجاب لنوح، عليه السلام، من قبله.
ومن علامات انتصار دين الإسلام، أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة -كما سبق-، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين هذا كما ورد في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (11).
2- أصحاب القرية
وهي القصة التي ذكرها الله في سورة (يس)، ولنقرأ هذه الآيات: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(12) [سورة يس، الآيات: 13-18]. قرية واحدة، وهي قرية أنطاكية كما ذكر المفسرون، يرسل إليها رسولان، وعندما لم يؤمن بهما أهل هذه القرية، يرسل الله ثالثا، ومع ذلك فيبقى هؤلاء على إصرارهم وكفرهم، وما زادهم إرسال الرسول الثالث إلا عتوا ونفورا، بل هددوا برجم هؤلاء الرسل وقتلهم: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(13) [سورة يس، الآية: 18].
__________
(1) - سورة الإسراء آية: 3.
(2) - سورة الصافات آية: 79.
(3) - سورة آل عمران آية: 33.
(4) - سورة نوح آية: 27.
(5) - سورة الإسراء آية: 3.
(6) - انظر تفسير الطبري 15/19.
(7) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(8) - سورة مريم آية: 58.
(9) - سورة نوح آية: 27.
(10) - أخرجه مسلم (1763).
(11) - أخرجه البخاري (3641)، ومسلم (1037).
(12) - سورة يس آية: 13-14-15-16-17-18.
(13) - سورة يس آية: 18.(/10)
وهل انتهت القصة عند هذا الحد، بل جاءهم رجل رابع، وهو من بني جلدتهم وناصح لهم، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(1) [سورة يس، الآية: 20]. ويستمر في حواره معهم ودعوتهم، وهذه المرة لم يهددوه، كما هددوا من قبله بل قتلوه عندما خالفهم، وهذا شأن الطغاة فإنهم لا يتحملون أن يخالفهم أحد من بني قومهم أو حاشيتهم.
وهكذا ثلاثة رسل وداعية من أهل هذه القرية لقرية واحدة، ومع ذلك لم يستجيبوا للدعاة، ولم يكتفوا بعدم الاستجابة، بل هددوا الرسل -وقيل قتلوهم- وقتلوا الداعية الرابع.
إن مقاييس الأرض تظهر أن هؤلاء الرسل لم ينتصروا ولم يحققوا أهدافهم، وأن هذا الداعية استعجل في الكشف عن هويته وإيمانه، ولذلك لقي جزاءه؟ هكذا يقوم الحدث في نظر من لم يفهم حقيقة الانتصار، ولا معنى الهزيمة.
أما منطق الحق، ومنهج النبوة، فيعلن أن هؤلاء قد نصروا نصرا مؤزرا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، ويتمثل النصر في الحقائق التالية:
1- أن هؤلاء الرسل قد بلغوا رسالة الله، ولم يستسلموا لشبه أهل القرية أولا، وتهديدهم ثانيا، وهذه هي مهمتهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة يس، الآية: 17]. ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.
2- إيمان رجل من أهل القرية بهم، وتأييده لهم علانية، يعد نصرا وانتصارا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.
3- أن قتل هذا الداعية نصر له ولمنهجه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(3) [سورة التوبة: 52]. ولذلك، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)(4) [سورة يس، الآية: 26]. فتمنى أن يعلن عن فوزه وانتصاره، (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
4- وتتويجا لانتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية، جاءت النهاية المحققة: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(6) [سورة يس، الآيتان: 28، 29].
إن الدعاة في أمس الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتدبروا أبعادها ونهاياتها.
ثلاثة رسل، وداعية مخلص صادق لقرية واحدة، ومع ذلك فلم يؤمنوا، وعدم إيمانهم لم يفت في عضد هؤلاء الرسل، ولم يمنع هذا الداعية من قول كلمة الحق، دون استعجال أو تنازل أو يأس.
بل إن هذا الداعية، كما ورد عند الطبري، كان يقول أثناء قتل قومه له: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، بل إننا نلمس من قوله (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(7) أنه لا يقول هذا تشفيا ولا من أجل إغاظتهم، ولكن من أجل هدايتهم، لأنهم إذا علموا أنه كان على الحق وقد قالوا للرسل: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(8) [سورة يس، الآية: 15]. كان أرجى لهدايتهم.
وهذا من حرصه على هداية قومه، وهكذا يكون الداعية، محبا لهداية الناس، لا يحمل الحقد ولا الضغينة، وهذا هو الانتصار على النفس الذي يسبق الانتصار الظاهر، ومن حرم الانتصار على نفسه، فلن ينتصرعلى غيره.
3- أصحاب الأخدود
قال الله - تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(9) [سورة البروج، الآية: 4-8].
قصة أصحاب الأخدود قصة عجيبة، تصور لنا معنى من معاني الانتصار الذي نتحدث عنه، وتبين أن استجابة الناس، أو ظهور الدين ليس هو المقياس الوحيد للانتصار، بل إن ثبات الداعية وانتصار المنهج هو قمة الانتصار.
ولأهمية هذه القصة، فسأذكرها بتمامها، كما أوردها العلامة ابن كثير -رحمه الله- حيث قال في تفسير هذه الآيات:
__________
(1) - سورة يس آية: 20.
(2) - سورة يس آية: 17.
(3) - سورة التوبة آية: 52.
(4) - سورة يس آية: 26.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة يس آية: 28-29.
(7) - سورة يس آية: 26.
(8) - سورة يس آية: 15.
(9) - سورة البروج آية: 4-5-6-7-8.(/11)
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم (1) وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني: بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل قال: أنا؟ قال: لا، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه -أيضا- بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله -تعالى- فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله -تعالى- ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه، ئم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق " (2).
هذه قصة أصحاب الأخدود بطولها، وقد أوردتها لأهميتها، وقد أعجبت بما قاله سيد قطب -رحمه الله- حول هذه القصة مبينا حقيقة الانتصار فيها، ولذا سأذكر بعض ما قاله، ثم أضيف ما أراه حولها مما له صلة بموضوعنا:
وكان مما قال -رحمه الله-: (3)
"في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان".
في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.
حساب الأرض يجيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة.
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
__________
(1) - بإذن الله.
(2) - رواه مسلم (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه [73 - (3005) كتاب الزهد].
(3) - سأختار من كلامه ما له صلة بهذا الموضوع.(/12)
إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون -جميعا- هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون -كثير من- الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس -أيضا- إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق وإن خصوهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة (2)
وبعد هذه الدروس التي استخلصها سيد قطب من هذه القصة، أقف عدة وقفات حولها:
1- ثبات الراهب والأعمى، وتخلي الأعمى عن جميع متع الحياة الدنيا في مقابل أن يظفر بعقيدته، إن الراهب قد انتصر في معركة بقائه أو بقاء عقيدته، فاختار أن تبقى العقيدة ولو خسر حياته.
أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
إن الراهب والأعمى قد خلدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم إنما فعلوا ذلك من أجل الدين، ولو صدقوا لعلموا أن انتصار الدين بأن يفعلوا ما فعله الراهب والأعمى.
2- عجيب أمر هذا الغلام! لماذا دل الملك على مقتله، ولماذا -مادام أن الله قد منعه من الملك- لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه، ويدل الناس على الدين الحق، ويبقي على حياته سالما.
هذا سؤال قد يتبادر إلى الأذهان:
والمفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار. إن الغلام قد أدرك -بتوفيق من الله- أن كلمة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين.
إن الحياة مواقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة عظيمة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: "إذا هبت رياحك فاغتنمها" وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه، ولو دفع حياته ثمنا رخيصا في سبيل الله؟
إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره، إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيا جميع العقبات، ومستعليا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا.
وانتصر على هذا الملك الغبي، الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الناس قد يتعجبون لأن الغلام قد دل الملك على مقتله، ولكنهم لا يدركون أن الملك قد قتل نفسه بيده لا بيد غيره، فأيهما أولى بالعجب والتعجب؟
إن الغلام أقدم وهو يعي حقيقة ما يفعل: أما الملك فأعمته سكرة الملك وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام، في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد وحيت أمة.
وانتصر الغلام عندما تحقق ما كان يتصوره ويتوقعه وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا: آمنا بالله رب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم من يستشهدون.
وانتصر أخيرا عندما خلد الله ذكره قدوة لمن بعده، وذكرا حسنا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين.
3- وتتويجا لهذه الانتصارات المتلاحقة:
تأتي نهاية القصة، عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جن جنون الملك، وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - انظر معالم في الطريق فصل: هذا هو الطريق ص 173.(/13)
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحدا منهم تراجع أو جبن أو هرب، بل نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار، وكأن الغلام قد بث فيهم الشجاعة، والثبات وها هم يجدون في اللحاق به، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا الأرواح عند خالقها: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 169].
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها، ولكنها نسيت أنها قد أرضعته الإيمان والشجاعة والإقدام مع اللبن الذي كان يشربه، فطلب منها التقدم، فأقدمت.
أي أمة تلك، وأي قوم أولئك، مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان، فقد عرفوا المنهج حق المعرفة، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره، أو تربوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب والأعمى ثم الغلام انتصارا فرديا.
ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصارا جماعيا، قل أن يحدث له في التاريخ مثيلا.
إنه صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم حقيقة الانتصار.
4- وقبل أن نغادر هذه القصة، يرد سؤال في الأذهان:
ماذا حل بهذا الملك وحاشيته وجنده؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله لمن قتلهم؟
إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا.
نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)(2) [سورة البروج الآية: 10].
قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة" (3).
إن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، من المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحرق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله -إن لم يتب- إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟.
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني، حريق الدنيا، وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حرقوا في الدنيا، فـ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)(4) [سورة البروج الآية: 11] وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها، ولا جدال:
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) أليس هذا هو الانتصار؟.
أحاديث في الانتصار
وردت بعض الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نجد فيها دلالة لحقيقة الانتصار، وإزالة لما يتوهم من معنى الهزيمة.
وسأذكر أربعة أحاديث، وأقف مع كل حديث مبينا وجه الاستدلال فيه.
1-الحديث الأول
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل: هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب " (6) الحديث.
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي، صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد... " (7) الحديث.
وفي رواية لمسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم... " (8) (9) الحديث.
وقد ورد الحديث بروايات أخرى في معنى هذه الروايات.
وتبرز صلة هذا الحديث في موضوعنا من خلال ما يلي:
1- ورد في الحديث، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم نظر إلى سواد كثير، وفي رواية: سواد عظيم، ثم رأى سوادا كثيرا -آخر- سد الأفق.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.
(2) - سورة البروج آية: 10.
(3) - تفسير ابن كثير4/496.
(4) - سورة البروج آية: 11.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - أخرجه البخاري (6541).
(7) - أخرجه البخاري (5752).
(8) - الرهيط: قال النووي هم بضم الراء تصغير الرهط. وهي الجماعة دون العشرة. مسلم بشرح النووي 3/53.
(9) - أخرجه مسلم (220).(/14)
والسواد الأول هم ممن آمن بموسى، عليه السلام، والسواد الآخر هم أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وهذا يمثل نوعا من أنواع الانتصار الظاهر، حيث انتشر الدين وآمن الناس، حتى بلغوا هذا المبلغ، وهو النوع الأول من أنواع الانتصار التي أشرت إليها سابقا، ومثل ذلك النبي الذين يمر ومعه الأمة.
2- ورد في الحديث، أن النبي يمر معه العشرة، والنبي ومعه الخمسة، والنبي يمر وحده، وفي رواية: فجعل النبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد.
ونحن لا نشك في انتصار الأنبياء والرسل كما أخبرنا الله -جل وعلا- بذلك فقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(1) [سورة غافر، الآية: 51]. وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها.
وها نحن نجد النبي يأتي يوم القيامة، ومعه العشرة، والآخر معه الخمسة، وثالث ومعه الرجلان، ورابع ومعه رجل واحد، والخامس وليس معه أحد.
والأمر الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن النبي الذي معه العشرة والخمسة والرهيط قد لا يكونون قد آمنوا به واتبعوه في حياته، بل قد يكون بعضهم بعد وفاته، لأن الذين رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أمته ليسوا الذين آمنوا به في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، بل منهم من آمن به في حياته، ومنهم من آمن به بعد وفاته إلى قيام الساعة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف عن غيره من الأنبياء بأنه خاتمهم وآخرهم.
وبهذا نفهم أن الانتصار ليس بكثرة الأتباع فحسب، وقبول الناس واستجابتهم، هذا نوع من أنواع الانتصار كما سبق، وبخاصة إذا كان الأتباع على المنهج الحق، وإلا فلا عبرة بالكثرة والقلة.
والمعادلة التي نخرج منها، والحقيقة التي نظفر بها، أن النبي -كل نبي- لا شك في انتصاره في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وها نحن نجد عددا من الأنبياء ليس معهم إلا أفرادا، بل بعضهم ليس معه أحد.
فالنتيجة أن هناك أنواعًا أخرى من الانتصار، أشمل مما قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وبعض الدعاة. إن إدراكنا لهذه الحقيقة وتعاملنا معها هو نوع من الانتصار الذي نبحث عنه بل هو أول الخطوات لتحقيق الانتصار.
2- الحديث الثاني
عن خباب بن الأَرَتْ - رضي الله عنه - قال: " شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: إلا تستنصر لنا، أو تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله -تعالى- هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (2).
ولنقف هذه الوقفات:
1- خبّاب - رضي الله عنه - جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بالنصر - هكذا أطلق خباب، وهو يريد النصر الظاهر، برفع العذاب والأذى الذي كانت قريش تصبه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فنقله رسول الله، صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى مبينا له معنى آخر من معاني الانتصار، وهو الثبات على دين الله، وتحمل المشاق والعقبات، حتى لو ذهبت روح المسلم فداء لدينه وعقيدته.
2- ثم يذكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم النصر الظاهر وأنه متحقق، ويقسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكنه لا يتحقق إلا بعد الثبات والصبر.
3- ونجد أن ما ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأقسم على حصوله وهو إتمام هذا الدين -وهو نوع من الانتصار- قد لا يتحقق في حياة الداعية، فمسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت حدث بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فعلى الداعية أن يعي هذا الأمر، وأن انتصار الدين لا يتعلق بشخصه.
4- " ولكنكم تستعجلون " صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم إن حرص كثير من الدعاة على انتصار هذا الدين قد يؤدي بهم إلى ارتكاب ما يعوقه، وهو الاستعجال، إنهم يريدون أن يروا النتائج في حياتهم، بل في أول حياتهم -أحيانا- وهذا لم يتحقق لكثير من الأنبياء والرسل.
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر يحتاج إلى الصبر والثبات والتفاؤل مع عدم العجلة.
ويعلمنا أن النصر أشمل مما قد يتبادر إلى أذهاننا.
فليس النصر مقصورا على النصر الظاهر، والنصر الظاهر لا يلزم أن يتحقق في حياة الداعية.
3- الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم
أن الله عز وجل قال: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " (3). الحديث.
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - أخرجه البخاري (3612).
(3) - أخرجه البخاري (6502).(/15)
والشاهد من هذا الحديث القدسي، أن المؤمن إذا أيقن أن الله معه، ويجب أن يوقن بذلك، ومن كان وليا لله فإن الله معه، وإذا الله كان معه، يعلن الحرب على من آذاه أو عاداه، فيستلزم ذلك أن يؤمن إيمانا لا شك فيه أن الله سينصره، لأن المعركة لم تعد بين الداعية وعدوه، وإنما هي حرب من الله على هذا المعادي، وبدهي أن نعلم من المنتصر ومن الخاسر؟ !!.
ومادام الأمر كذلك، فإن الله -جل وعلا- هو الذي يقدر نوع الانتصار وزمانه ومكانه، ولا يخضع هذا لرؤيتنا القاصرة، أو رغباتنا المحدودة، أو اجتهاداتنا البشرية.
وما علينا إلا أن نعلم يقينًا أن المعركة محسومة من أولها، معروفة نتائجها قبل بدايتها، وأن نتعامل بإيجاب مع هذا اليقين، فلا نستعجل ولا نيأس، ولا نتصرف تصرفا قد يكون سببا لحرماننا من النصر الذي لا شك فيه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
4- الحديث الرابع
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: " صبرا، آل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2).
إن الصبر نوع من أعظم أنواع الانتصار، فبالصبر يسمو الإنسان على رغباته ويعلو على متع الحياة الدنيا.
والصبر سمة الرجال الأخيار (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(3).
إنه بالصبر ينتصر على نفسه أولا، وينتصر على عدوه، ثانيا، وينصر مبدأه ثالثا. إننا عندما نذكر انتصار الإسلام في مراحله الأولى نتذكر آل ياسر: ياسر وسمية وعمار.
إن هذا البيت بصبره وجهاده، وتقديم حياته فداء لهذا الدين، ممن وضع اللبنات الأولى لعزة هذا الدين وظهوره.
لقد انتصروا على ذواتهم أولا، وعلى المشركين ثانيا، ونصروا الإسلام ثالثا.
ثم لهم الجنة بعد ذلك، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 185]. (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) [سورة البروج الآية: 11].
وأجد أنّ قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام في بدر قصة تسجل انتصارًا باهرًا للداعية، فالوقوف عندها واستخلاص ما فيها من دورس وعبر يعطي دلالة على ما نحن بصدده.
سورة العصر و حقيقة النصر:
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". (6).
فما علاقة هذه السورة بحقيقة الانتصار؟
إن هذه السورة ترسم منهج النصر بصورة واضحة جلية، وتصحح الفهم الخاطئ بحصر قضية الانتصار بصورة واحدة أو نوع منفرد.
كيف ذلك؟
يقسم الله - سبحانه وتعالى- أن كل إنسان في خسر، أي خسارة وهلاك وبوار، إلا من استثنى بعد ذلك.
والمستثنى من الخاسرين، هو الفائز والرابح والمنتصر.
فلننظر في شروط الانتصار
1- الإيمان، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(7).
2- عمل الصالحات، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(8).
3- التواصي بالحق، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)(9).
4- التواصي بالصبر، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(10).
هذه شروط النصر، فمن استكملها فقد خرج من الخسران ونجا، وبالتالي فقد انتصر وفاز وأفلح.
وهنا -بعد تقرير هذه القضية- نأتي للدلالة على فهم حقيقة الانتصار في هذه السورة.
فالله -سبحانه وتعالى- لم يذكر من شروط الانتصار تحقق النتائج، واهتداء الناس واستجابتهم.
إذن النصر ليس محصورا في تلك السورة فقط، والله -سبحانه- حكم بانتصار المسلم ونجاته من الخسران إذا استكمل الشروط الأربعة، وليس منها أن يستجيب الناس له، أو أن تتحقق الأهداف التي يسعى إليها، فهذا الأمر ليس له، وليس من لوازم النصر، وهذا رحمة من الله وفضل (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(11) [سورة البقرة، الآية: 105].
بل قد استوقفني في هذه السورة أمران مهمان، لهما علاقة في رسم منهج الانتصار، وهما:
1- التواصي بالحق، لأن الإنسان قد يضعف أو يزل أو ينحرف، فيحتاج إلى من يوصيه بالمنهج، محافظة عليه وصيانة له، فكم من إنسان يتصور أنه على الحق، وهو قد حاد عنه، واتبع السبل من حيث لا يدري، ومع ذلك يقول:
لماذا لم أنتصر، وما سر تأخر النصر؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(12) [سورة آل عمران، الآية: 165].
فالتواصي بالحق سبيل لتحقق النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وعاصم من الانحراف عن صراط الله المستقيم.
2- التواصي بالصبر:
ولا يمكن أن يتحقق النصر لمستعجل الشيء قبل أوانه، ولا لليائس والقانط من رحمة الله.
والتواصي بالصبر يمنع من الاستعجال، ويبعد اليأس والقنوط.
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - رواه الحاكم 3/388 - 389 وصححه الألباني في فقه السيرة (107).
(3) - سورة ص آية: 30.
(4) - سورة آل عمران آية: 185.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - تفسير ابن كثير 4/547.
(7) - سورة العصر آية: 3.
(8) - سورة آية: 3.
(9) - سورة العصر آية: 3.
(10) - سورة العصر آية: 3.
(11) - سورة البقرة آية: 105.
(12) - سورة آل عمران آية: 165.(/16)
ومن هنا فإن المؤمن إذا التزم بالحق وتمسك به وسار عليه ولم يحد عنه، ثم صبر وصابر غير مستعجل ولا يائس، فإن النصر متحقق له لا محالة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(1) [سورة النساء، الآية: 122]. بل إن التزام الحق والصبر، هو النصر الذي لا يتحقق نصر دونه.
أسباب تأخر النصر الظاهر
النفس مجبولة على حبّ العاجل، وتحقق النصر الظاهر لدين الله أمر محبب إلى النفس كيف لا، وهو ظهور دين الله وقمع الباطل وأهله، ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(2) [سورة الصف، الآية: 13].
ونحن مأمورون بالسعي لإقامة دين الله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(3) [سورة البقرة، الآية: 193].
وكثير من الناس -وأخص الدعاة منهم- يستبطئون تحقق النصر، وقد يسبب لهم هذا الأمر شيئا من اليأس أو الانحراف عن المنهج، ويغفلون عن الأسباب التي تؤخر النصر الظاهر، مع أن معرفة هذه الأسباب أمر مهم، وله آثاره الإيجابية على حياة الدعاة والمدعوين والأتباع، وذلك أن هذه الأسباب على نوعين:
1- أسباب سلبية، والمعرفة بها سبيل إلى تلافيها وإزالتها.
2- أسباب إيجابية، وفقهها وإدراكها عامل مؤثر في ثبات الداعية على المنهج الرباني، سواء تحقق النصر عاجلا أو آجلا.
وسأقف مع أبرز الأسباب التي تكون عاملا مؤثرا في تأخير النصر أو عدم وقوعه في حياة الداعية أو على يديه، وسأختصر فيها حسب مقتضى المقام:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة:
وذلك أن للنصر أسبابًا، فإذا تخلّفتْ هذه الأسباب أو بعضها تخلف النصر؛ لأن السبب عند الأصوليين، هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، وإن كان لا يلزم من وجود السبب هنا وجود النصر لمانع آخر، ولكن يلزم من عدمه العدم.
فمثلا: نجد من أسباب النصر المشروعة الإعداد للمعركة لأن الله -تعالى- يقول:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(4) [سورة الأنفال، الآية: 60]. فعدم الأخذ بالأسباب سبب من أسباب الهزيمة أو تأخر النصر.
10- قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد هو انتصار المنهج، أما الأشخاص فإن الله قد تكفل بإثابتهم وإكرامهم، جزاء دعوتهم وصدقهم، ولذلك جاءت الآيات تبين هذا الأمر:
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(5) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(6) [سورة يس، الآية: 26، 27]. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(7) [سورة النحل، الآية: 32]. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(8) [سورة فصلت، الآية: 30، 31]. إلى غير ذلك من الآيات.
وكم من داعية لم ينتصر الدين في حياته، ولكنه انتصر أعظم الانتصار بعد مماته، فهذا عبد الله الغلام، وسبق بيان قصته، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مات في سجنه، ولكن منهجه انتصر انتصارا باهرا بعد عدة قرون من وفاته.
وسيد قطب سجن ثم قتل، ولكن مؤلفاته انتشرت أكبر الانتشار بعد قتله!!.. وهكذا.
__________
(1) - سورة النساء آية: 122.
(2) - سورة الصف آية: 13.
(3) - سورة البقرة آية: 193.
(4) - سورة الأنفال آية: 60.
(5) - سورة آل عمران آية: 169.
(6) - سورة يس آية: 26-27.
(7) - سورة النحل آية: 32.
(8) - سورة فصلت آية: 30-31.(/17)
11- أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص للدعاة، وفيه من العبر والدروس ما يفيد اللاحقون منه فوائد جمة. قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(1) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(2) [سورة العنكبوت، الآية 1 - 3]. والآيات كثيرة معلومة.
وبعد:
فهذه أبرز أسباب تأخر النصر الظاهر حسب ما تبين لي، وقد تتكشف لنا أسباب تأخر النصر، وقد لا تتكشف.
والذي يجب أن نعتقده أن علينا فعل الأسباب الشرعية، سعيا لنصرة دين الله، أما تحقق النصر فليس لنا بل هو لله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 126].
والنصر لن يتحقق إلا إذا حان موعده في علم الله لا في تقديرنا القاصر.
ولن يتحقق النصر إلا بعد الإيمان الجازم بوعد الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47].
أما من عنده شك وريبة فلا يستحق النصر (5).
2- قد يكون سبب تأخر النصر حدوث مانع من الموانع، والمانع هو: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والموانع كثيرة جدا، كالظلم والركون للكفار والمعاصي وغيرها. وموانع النصر هي أسباب الهزيمة، ولذلك نجد في غزوة أحد لما بدت علامات النصر ثم وقعت المخالفة من الرماة لأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم حلت الهزيمة، كما قال - تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 165]. قال محمد بن إسحاق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(7) أي بسبب عصيانكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة. (8).
وفي حنين لماذا تأخر النصر، يقول - سبحانه-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(9).
حيث ذكر الله - سبحانه- أن قول أحد المسلمين لن نغلب اليوم من قلة، وكان عددهم (12) ألفا (10) مانعا من موانع النصر، لأن الله - سبحانه- وكلهم إلى كثرتهم فلم تنفعهم شيئا، ثم تحقق النصر بعد ذلك عندما زال هذا المانع حيث ثبت أن الكثرة وحدها لا تجلب النصر، وإنما الاعتماد على الله -سبحانه- بعد الأخذ بالأسباب.
ومن خلال ما سبق يتضح أهمية مراعاة الأسباب، والحرص على تحصيلها، مع تلافي الموانع واجتنابها.
3- الانحراف عن المنهج
الانحراف عن المنهج مانع من الموانع، ولكن أفردته لأهمية التنبيه عليه، فقد تتبعت بالاستقراء واقع كثير من الجماعات الإسلامية والحركات الجهادية المعاصرة، وبحثت عن سر عدم انتصارها وتحقق ما تعلنه من أهداف خيرة نبيلة، حيث إن تلك الجماعات تسعى لنصرة دين الله، وتحكيم شرعه، فوجدت إن من أبرز الأسباب -حسب ما ظهر لي- انحرافها عن المنهج الصحيح -منهج أهل السنة والجماعة- في ثوابتها أو وسائلها.
وقد يكون الانحراف يسيرا -في نظر البعض- ولكنه خطير جدا ومؤثر في تحقيق النصر.
فمن ذلك التساهل في قضية العقيدة وعدم اعتبارها من الأولويات التي تتميز بها تلك الجماعة.
وكذلك تمييع مفهوم الولاء والبراء، والركون إلى الظالمين ومداهنتهم.
ومن ذلك تأصيل الحزبية، مما يؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين، وتنافر القلوب. وكذلك اعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، وهلم جرا.
إن تحرير الأصول والثوابت، وتنقيتها مما قد يشوبها، أمر جوهري وأساس في سلامة منهج الدعوة وصدق التوجه.
وكذلك عرض كل وسيلة من الوسائل على القواعد والأصول الشرعية، حماية لها من الانحراف تحت ضغط الواقع وحجية المصلحة المتوهمة.
4- عدم نضوج الأمة، وضعف استعدادها إن دين الله عظيم، ويحتاج إلى أمة قد تربّت على هذا الدين زمنا حتى تتمكن من حمله وتبليغه للناس.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 214.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-3.
(3) - سورة آل عمران آية: 126.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - انظر في ظلال القرآن تفسير سورة الحج 4/2427 ففيه كلام قيم حول بعض ما ذكر.
(6) - سورة آل عمران آية: 165.
(7) - سورة آل عمران آية: 165.
(8) - انظر تفسير ابن كثير 1/425.
(9) - سورة التوبة آية: 25.
(10) - انظر تفسير الطبري 10/100 وتفسير ابن كثير 2/343.(/18)
أمة قد اجتازت المشقة والعقبات قبل أن تحصل على النصر، بل من أجل الحصول عليه.
ئم إن قيام هذا الدين يحتاج إلى طاقات ضخمة، كثيرة العدد، متعددة المواهب والتخصصات، وهذا الأمر يحتاج إلى زمن ليس باليسير، فإعداد الرجال وتربيتهم من أشق المهمات وأصعبها.
ولذلك نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثة عشر عاما يربي الرجال واحدا واحدا، ويهيئ الأمة جماعة جماعة، استعدادا لحمل الرسالة والذود عنها.
فقوم في دار الأرقم، وآخرون يهاجرون إلى الحبشة، ومرة يحصر الجمع في شعب أبي طالب، ثم تأتي الهجرة إلى المدينة.
كل هذا وغيره هيأ هذه الأمة لحمل الرسالة حتى كمل الدين وفتح الله على المسلمين فتحا عظيما.
ومما سبق يتضح أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن لتمامه، واكتمال بنائه، وهو سبب من أسباب تأخر النصر وظهور دين الله مهيمنا على البشر.
5- عدم إدراك قيمة النصر:
إن مجيء النصر سريعا دون كبير مشقة ولا عناء، يجعل الأمة المنتصرة لا تعرف قيمة هذا الانتصار، ومن ثم لا تبذل من الجهود للمحافظة عليه ما يستحقه وما يحتاج إليه.
وسأضرب مثلين يوضحان هذه الحقيقة:
(1) الرجل الذي عاش في الفقر ثم جد واجتهد في تحصيل المال حتى أصبح غنيا، نجد أنه يحافظ على هذا المال محافظة عجيبة، ويبذل كل الوسائل الممكنة للذود عنه وحمايته.
وذلك لأنه ذاق طعم الفقر ومذلته، ثم إنه تعب في جمع هذا المال وتنميته، فليس من السهولة أن يفرط فيه، ويكره أن يعود للفقر بعد أن أخرجه الله منه، كما يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه.
أما أولاده وورثته، فتجد أن الكثير منهم لا يولي هذا المال ما يستحقه من عناية واهتمام، بل قد يعبث فيه حتى يصبح فقيرا.
وذلك أنه لم يعرف قيمة هذا المال، ولم يتعب في جمعه وكسبه، ولم يذق طعم الفقر كما ذاقه مورثه.
(ب) قيام الدول وسقوطها:
مما يلحظ بالاستقراء والتتبع أن الدول تكون إبان قيامها قوية مهابة، وتجد أن الأمراء والخلفاء يبذلون جهودا مضاعفة للمحافظة على الدولة، وتلافي جميع أسباب ضعفها.
ثم تأتي أجيال لم تساهم في قيام الدولة، وورثت الملك كما يرث الوارث المال، وهنا ينشغلون عن الدولة بمكاسبها، ويغفلون عن تبعاتها، وتبدأ الدولة في الضعف والتفكك حتى قد يئول الأمر إلى سقوطها.
ولذا فإن مجيء النصر دون تعب أو عناء قد يكون سبباً في عدم استمراره، وصعوبة المحافظة عليه، ومن هنا فقد تقتضي حكمة الله أن يتأخر النصر حتى يستوي الأمر ويوجد الرجال الذين يعرفون قيمة النصر، والثمن الذي يستحقه.
6- قد يكون في علم الله -جل وعلا- أن هؤلاء لو انتصروا لن يقوموا بتكاليف الانتصار، (1) من إقامة حكم الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وذلك أن الانتصار ليس مرادا لذاته، وإنما لما يتحقق منه، وهو إخماد الفتنة، وأن يكون الدين كله لله.
وهذا مما يفهم من قوله -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2) [سورة الحج، الآية: 40، 41]. وقد لا نعلم نحن سبب ذلك ولكن الله يعلمه.
وذلك أن هناك فئة من الناس تثبت في حالة الشدة والعناء، وتصمد في حالة المواجهة والبلاء ولكنها تضعف وتتقهقر في حالة النعم والرخاء والأمن.
وقوم هذه حالهم لا يستحقون النصر، والله أعلم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
7- من أسباب تأخر النصر أن الباطل الذي يحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، ممن هم ليسوا على هذا الباطل، ولا يقرونه لو اكتشفوا حقيقته.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة المنافقين، فكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون عددا من أقطاب النفاق، بل إنهم يحسنون الظن بهم، ولذلك وجدنا من يدافع عنهم، حتى إن بعض كبار الصحابة من الأنصار كانوا يدافعون عن عبد الله بن أُبَيٍّ، لعدم معرفتهم بما كان عليه من الباطل وبخاصة في أول العهد المدني.
ولما جاء زيد بن أرقم وأخبر عن مقولة عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق، قال عمر بن الخطاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم مر عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا!! ولكن أذن بالرحيل "
إذن المنافقون في نظر كثير من الناس أصحاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم لأن حقيقتهم لم تنكشف للناس، وحقيقتهم، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(3) [سورة المنافقون، الآية: 4].
__________
(1) - هذا السبب يختلف عن الذي قبله فتأمل.
(2) - سورة الحج آية: 40-41.
(3) - سورة المنافقون آية: 4.(/19)
ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمر في نهاية المطاف لما تكشفت حقيقة هؤلاء عند كثير من المسلمين: " كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري "
فهذا الحديث يصور معنى هذا السبب الذي ذكرته أدقّ تصوير وبيان.
والدخول في معركة مع قوم لم تنكشف حقيقة أمرهم تماما، له آثاره السلبية على الأمة المسلمة، إذ أن بعض المسلمين سيقف في صف أولئك، كما وقف بعض الصحابة مع المنافقين.
كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة في قصة الإفك وجاء فيه:
" فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك، ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم... " " الحديث (1).
وقد لا يقف بعض المسلمين مع هؤلاء، ولكن سيكون وقوفهم مع الدعاة ضعيفا ومترددا، لأنهم لم يتيقنوا أن هؤلاء على الباطل، مما يؤثر على المعركة التي يخوضها المسلمون ضد أعدائهم، وقد يؤدي إلى فرقة المسلمين وتأخر النصر.
8- ومن أسباب تأخر النصر، أن البيئة المحَارَبَة قد تكون غير صالحة بعد لاستقبال الحق والخير والعدل، مما يقتضي أمورًا تهيئها لذلك قبل الدخول معها في معركة، ومن ذلك بذل جميع الوسائل الشرعية لبيان أن هؤلاء القوم -المحاربين- على الباطل، ومحاولة إقناعهم ودعوتهم وبيان حقيقة الإسلام، وفساد ما هم عليه من باطل.
فإن هذا الأمر إن لم يكن سببًا في هدايتهم قبل المعركة فإنه وسيلة لمعرفة الحق، ومن ثم القبول به بعد المعركة، ولذا فإن الدعوة إلى الإسلام تسبق الدخول في المعركة.
9- ومن أسباب عدم الاستجابة لدين الله(2) أن عوامل النصر قد تتوافر بالنسبة للداعية، لكن هناك موانع تتعلق بالمدعوين - كالأمر السابق- ومن ذلك عدم تقدير الله هداية هؤلاء القوم، حيث كتب عليهم الضلالة، قال -سبحانه-: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(3) [سورة الرعد، الآية: 31]. وقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)(4) [سورة النحل، الآية: 36]. وقال -جل وعلا-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)(5) [سورة المائدة، الآية: 41]. إلى غير ذلك من الآيات (6).
التنازل من أجل الانتصار
مما لفت نظري في واقع كثير من الدعاة والجماعات الإسلامية المعاصرة أنها قد تستبطئ النصر، وحرصا منها على دين الله، وتأثرا بكثرة الانتقادات التي توجه لها، لماذا لم تحقق أهدافها بالرغم مما تبذله من جهود، وما مضى من زمن، فإنها من أجل ذلك كله ولغيره من الأسباب قد تقدم بعض التنازلات للحصول على بعض المكاسب للدعوة.
وقد تنوعت صور هذه التنازلات وتعددت، وهم بين مقل ومكثر.
ولأن من أبرز أسباب هذا الأمر -كما ذكرت- هو الحرص لتحقيق الانتصار لدين الله، أو للدعاة وللجماعات (7) ولارتباطه الوثيق في موضوعنا، حيث أشرت إلى ذلك في أول هذا البحث.
فإنني سأقف وقفة مناسبة مع هذه القضية وسأحاول بيانها بإيجاز، نظرا لأن هذا الأمر يستحق بحثا مستقلا مفصلا، ولا أستطيع أن أقوم بذلك من خلال هذا البحث، ولعل الله أن يقيض له من يجليه.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4141) ومسلم (2770).
(2) - واستجابة الناس انتصار لدين الله، حتى لو لم يكن هناك معركة وقتال "إذا جاء نصر الله والفتح".
(3) - سورة الرعد آية: 31.
(4) - سورة النحل آية: 36.
(5) - سورة المائدة آية: 41.
(6) - وانظر تفسير الطبري 30/331 تفسير سورة الكافرون لتجد كلاما جيدا.
(7) - وانتصار الداعية انتصار لدين الله، كما أن انتصار الدين نصر للداعية.(/20)
وقد ذهبت أتأمل ما ورد في ذلك في كتاب الله -في ضوء منهجي في هذه الرسالة- فوقفت أمام ثلاث قضايا وردت في القرآن الكريم، عالجها القرآن، ورسم لنا من خلالها منهجا نسير عليه دون زلل أو خلل.
وسأذكر كل قضية، وأسلوب معالجتها، ثم أذكر في النهاية خلاصة ما توصلت إليه حول هذا الأمر، وأسأل الله التوفيق والسداد.
القضية الأولى: سبب نزول سورة الكافرون:
قال الإمام الطبري: حدثني محمد بن موسى الخرشي قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرمة عن ابن عباس، " أن قريشا وعدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ما هي، قالوا: تعبد آلهتنا سنة، اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) " (1) [سورة الزمر، الآية: 64، 65، 66].
وقال الطبري: أيضا -حدثني يعقوب، قال حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن ميناء مولى البختري، قال: " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) " [سورة الكافرون، الآية: 1]. حتى انقضت السورة (2).
إننا نجد في هذه الأسباب أن قريشا طلبت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك، وطلب منهم أن يبدأوا بعبادة الله أولا، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب أن الله قد حسم هذه القضية، (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(3) وفي آخرها (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(4) [سورة الكافرون، الآية:6].
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة ولا لتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
ودفعا لأي احتمال أو طمع في هؤلاء قال -سبحانه-: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(5) مرتين، فهو تأكيد حاسم، وخبر جازم من عند علام الغيوب، أنهم لن يعبدوا الله أبدا، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، وكأن بعد إيمانهم كبعد استجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم لمطلبهم، وهكذا كان، قال الإمام الطبري:
(وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(6) فيما تستقبلون أبدا "ما أعبد" أنا الآن، وفيما أستقبل، وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه، صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله، صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا، ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.(7)
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدورس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجا واضحا جليا في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام حاضرا ومستقبلا.
القضية الثانية: سبب نزول قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(8) [سورة الأنعام، الآية: 52].
__________
(1) - تفسير الطبري 3/331.
(2) - تفسير الطبري 30/331.
(3) - سورة الكافرون آية: 2.
(4) - سورة الكافرون آية: 6.
(5) - سورة الكافرون آية: 3.
(6) - سورة الكافرون آية: 3.
(7) - تفسير الطبري 3/331.
(8) - سورة الأنعام آية: 52.(/21)
قال الطبري -مسندا إلى ابن مسعود، قال: " مر الملأ من قريش بالنبي، صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد: أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء، اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " (1).
وفي رواية أخرى قال الطبري -مسند إلى مجاهد- قال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(2) بلال وابن أم عبد كانا يجالسان محمدا، صلى الله عليه وسلم فقالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه، فنهي عن طردهم (3).
وفي رواية قال الطبري: حدثني القاسم، قال: ثنا حسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ)(4) الآية.
قال: " جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحرث بن نوفل، وقرضة بن عيد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وخلفاءنا، فإنما هم عبيدنا، وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي، صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [سورة الأنعام، الآية: 51، 52].
فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر عن مقالته، فأنزل الله - تعالى-: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) " (5) [سورة الأنعام، الآية: 54].
وفي رواية أخرى للطبري عن خباب قال فيها:
فقال كفار قريش: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، ثم نزل قوله -تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(6)(7) [سورة الأنعام، الآية:52].
وقد وردت أحاديث أخرى، ولا يخلو بعضها من ضعف ولكن، يقوي بعضها بعضا فترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن لغيره، ومعناها متقارب، وكلها تذكر سببا واحدا للنزول، ولكن في بعض هذه الروايات زيادات على بعض، ويؤكد هذه الروايات الحديث التالي:
من أصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص، قال: " كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي، صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " الآية (8)
وذكر ابن كثير في قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(9) الآية، إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من الرسول، صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(10) الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(11) الآية (12) [سورة الكهف، الآية: 28].
إن الوقوف مع سبب نزول هاتين الآيتين يضع حدا لكثير من الاجتهادات التي يقدم عليها كثير من الدعاة والجماعات، وهم -ولا شك- يقدمون عليها حرصا على دينهم، ورغبة في انتصار الدين وظهوره، وتحقيقا لبعض الأهداف التي يسعون إليها.
ولكن الغاية -مهما كانت شريفة- فإنها لا تبرر الوسيلة.
تصوروا القضية هكذا:
__________
(1) - تفسير الطبري 7/ 200.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - انظر تفسير الطبري 7/202.
(4) - سورة الأنعام آية: 51.
(5) - انظر تفسير الطبري7/202 وهذا الحديث مرسل.
(6) - سورة الأنعام آية: 52.
(7) - انظر تفسير الطبري 7/201 وفي سنده السدي وهو ضعيف.
(8) - أخرجه مسلم (2413)، وانظر تفسير ابن كثير 3/80.
(9) - سورة الكهف آية: 28.
(10) - سورة الأنعام آية: 52.
(11) - سورة الكهف آية: 28.
(12) - انظر تفسير ابن كثير 3/80.(/22)
لو أن جماعة من الجماعات الإسلامية، التي توجد في دول كافرة، وتسعى جاهدة للدعوة إلى دين الله، ونشر رسالة الإسلام، قالت لها تلك الدولة: نحن مستعدون للتفاوض معكم من أجل النظر في الاعتراف بكم، للدخول في الانتخابات مثلا، أو للحصول على بعض الامتيازات للدعوة، ولكن نشترط عليكم أن تبعدوا فلانا وفلانا من قيادتكم، وآخرين من جماعتكم، فإننا لا نعترف بجماعة فيها هؤلاء، والجماعة لا تنقم على هؤلاء الدعاة شيئا في أمر دينهم وعقيدتهم، ولم تكن تفكر في ذلك قبل هذا الطلب، ولكن الدولة لا تريدهم احتقارا لهم.
فيا ترى هل تصمد تلك الجماعة، وترفض الموضوع جملة وتفصيلا وتقول: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. أو تبدأ مناقشة ما يسمى بالمصلحة؟ وماذا يضير لو أبعد هؤلاء من أجل مصلحة الدعوة، وتحقيقا للمكتسبات المتوقعة، إلى غير ذلك من التبريرات؟ أظن. - بحكم معرفتي بواقع بعض الجماعات -أنها ستستجيب لهذه المساومات، وقد استجابت لأقل من ذلك.
بينما حسم القرآن هذه القضية منذ العهد المكي، ورسم لنا منهجا لا لبس فيه ولا غموض (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 52].
إنه أمر مخيف جدا، رسول الله، صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وإمام المرسلين، لو فعل هذا، وهو لن يفعله إلا من أجل مصلحة الدعوة، ورسالة الإسلام، لو فعله -وحاشاه من ذلك- سيكون من الظالمين.
ويبين لنا المنهج الذي نسلكه في مثل هذه الطلبات والمساومات، عندما تبدو لنا قضية المصلحة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(3) [سورة الكهف، الآية: 29]. الآية.
هذا واجبنا، وتلك مسئوليتنا، أن نقول الحق، أما هل يؤمن الناس أو يكفروا فليس لنا (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(4) إن القضية عندما تتعلق بالمبادئ فلا مجال للمفاوضة ولا للتنازل، والمسألة محسومة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(5) [سورة الكافرون، الآية: 6].
القضية الثالثة: ما ورد في سورة الفتح: قال ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك: على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وقد وردت قصة الصلح في روايات عديدة، منها في الصحيحين وغيرهما. وهي قصة طويلة سأقتصرعلى جزء يسير منها مما له صلة بموضوعنا، وهو مما ثبت في الصحيح.
1- جاء في صحيح البخاري: " فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم الكاتب (6) فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل (7) أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " (8).
2- ومما جاء في الصلح: " وإنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فتدخلها بأصحابك " (9).
3- وجاء -أيضا-: " على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه " (10).
هذا بعض ما ورد في الصلح، ولذلك فإن عمر لما بلغه عزم الرسول، صلى الله عليه وسلم على عقد الصلح ولم يبق إلا الكتاب غضب غضبا شديدا وذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أولسنا بالمسلمين، أوليسوا بالمشركين؟ " قال صلى الله عليه وسلم بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال، صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " (11)
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - سورة الكهف آية: 29.
(4) - سورة الرعد آية: 31.
(5) - سورة الكافرون آية: 6.
(6) - وهو علي بن أبي طالب.
(7) - سهيل بن عمرو رئيس المفاوضين من قريش.
(8) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(9) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(10) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(11) - انظر المصدر السابق وتفسير ابن كثير 4/196.(/23)
إن هذا الصلح الذي اعتبره عمر - رضي الله عنه - دنية في دينه، ومع ما قد يبدو لأول وهلة من صعوبة القبول في بعض الشروط التي كتبت، وبخاصة في نظر المتحمس، هذا الصلح بشروطه سماه الله فتحا مبينا، قال ابن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال جابر: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - رضي الله عنه - قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وفي مسند أحمد: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) " [سورة الفتح، الآية: 1].
وفي رواية أخرى لأحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: نزلت على النبي، صلى الله عليه وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(1) [سورة الفتح، الآية: 2]. مرجعه من الحديبية، قال النبي، صلى الله عليه وسلم " لقد نزلت على الليلة آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها، صلى الله عليه وسلم " (2).
إننا نجد في هذه القضية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على عدة أمور أهمها:
1- أن يكتب باسمك اللهم، بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم.
2- أن يكتب: محمد بن عبد الله، بدلا من: محمد رسول الله.
3- أن يؤخر دخول مكة إلى العام القادم.
4- أن يرد من جاء من المشركين مسلما دون إذن وليه، مع أنهم لن يردوا من جاء إليهم مشركا. بل إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال للصحابة عندما احتج بعضهم على هذه الشروط: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " رواه البخاري (3).
ولو دققنا النظر في هذه الأمور التي أجابهم إليها رسول الله، لوجدنا أنها لا تتعلق بالعقيدة ولا بالمبدأ، وفرق كبير بينها وبين ما سبق في سورة (الكافرون). وسورة (الأنعام)، وليس فيها اعتراف بالباطل أو إقرار له.
كيف وقد سمى الله هذا الصلح: (فَتْحاً مُبِيناً)(4) ولنقف مع هذه المطالب الأربعة، وقفة يسيرة موجزة، تبين ذلك.
فكتابة "باسمك اللهم" ليس فيها محذور شرعي، فلو أن مسلما قال: باسمك اللهم، وهو لا يعتقد تأويل أو نفي اسم الرحمن الرحيم ولا صفته، فإنه لا يأثم.
وأما: كتابة محمد بن عبد الله، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وقد نفى، صلى الله عليه وسلم أي احتمال قد يتطرق إلى الأذهان، فقال لهم: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني " فإذا انتفى اللبس جاز الأمر.
وأما رجوعهم هذا العام إلى العام المقبل، فهذه قضية مصلحية تقدر بقدرها، بل إن فيها عدم استجابة للعواطف الجياشة إذا كان سيترتب على هذه الاستجابة مفسدة.
وكم من التصرفات يقوم بها بعض الناس استجابة لعاطفة غير منضبطة تسبب مفاسد عظيمة، قد لا تقدر المفسدة أثناء العاطفة.
وقضية إعادة من جاء مسلما إلى المشركين. قد تبدو مجحفة، وهذه هي النظرة العجلى، أما النظرة المتأنية والبعيدة، والتي تتجاوز مصلحة الأفراد إلى مصلحة الأمة، بل هي في مصلحة الأفراد أنفسهم، فلا يلزم أن يقبلهم المسلمون فأرض الله واسعة، يدل على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم لأبي جندل: " يا أبا جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا " الحديث. (5).
وقوله لأبي بصير لما جاءه في المدينة: " ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد " (6).
وهكذا كان فقد كان ردهما بداية فتح عظيم للمسلمين.
وبعد:
هذه هي القضايا التي ذكرت أنني سأبين منهج القرآن فيها، وقد فعلت، وهنا آتي لخلاصة الموضوع ونتيجته، فأقول:
إن مفهوم التنازل قد اختلط على كثير من الدعاة والجماعات، وكل منهم يتمسك بدليل يناسبه، دون نظرة شمولية، فنحن بين إفراط وتفريط، والموضوع يحتاج -كما ذكرت سابقا- إلى دراسة شاملة مؤصلة، تجمع فيها الأدلة، وتعرض الوقائع والأحوال، مما يساعد على حسم الموضوع وبيانه.
ومن خلال ما سبق فقد اتضح لي ما يلي:
أولا: لا يجوز التنازل عن أمر يتعلق بأصل من أصول الإسلام، أو مبدأ من مبادئه، أو حكم من أحكامه التي حسمها الكتاب والسنة، أو أجمع عليها المسلمون.
ثانيا: أما مسائل الاجتهاد، ووسائل الدعوة ومراحلها، والسياسات الشرعية، فتراعى فيها القواعد، الشرعية الكلية العامة، كقاعدة، درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد وأصول: المصالح المرسلة والاستحسان، وغيرها من القواعد المعروفة.
وذلك لا يكون إلا من العلماء المتبحرين، الذين يسوغ لهم الاجتهاد.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 2.
(2) - انظر مسند الإمام أحمد. وتفسير ابن كثير 4/182.
(3) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(4) - سورة الفتح آية: 1.
(5) - رواه أحمد 4/325 انظر تفسير ابن كثير 4/197.
(6) - رواه أبو داود (2765)، وانظر تفسير ابن كثير 4/199.(/24)