قال الحافظ ابن حجر (ت852هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ عند قوله صلى الله عليه وسلم :"إنّما الصبر عند الصّدمَة الأولى" المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتَب عليه الأَجر؛ قال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأَة المصيبة, بخلاف ما بعد ذلك فإنه مع الأيام يسلو؛ وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يُؤجر على المصيبة لأنّها ليست من صنعه, وإنَما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره؛ وقال ابن بطّال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأَجر)(11).
قال الإمام الموفق ابن قدامة (ت620هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ:(وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى، ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويَتَنَجَّز ما وعد الله الصابرين، قال الله عز وجل: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، ويسترجع)(12).
ب- الرضا بالقضاء والقدر والتسليم التام لله عز وجل، وهذه الصفة هي من أعظم صفات المؤمن المتوكل على الله، المصدق بموعود الله، الراضي بحكم الله، وبما قضاه الله ـ تعالى ـ وقدره، بل الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، الواردة في حديث أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الطويل وفيه" قال: فأخبرني عن الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"(13).
ج- قول ( إنا لله وإنا إليه راجعون)
وذلك لما جاء في قوله تعالى:{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (14).
وله أن يزيد "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها"، لما جاء من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة رضي الله عنه قلت: ومن خيرٌ من أبي سلمة؟ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم عزم الله علي فقلتها، فما الخلف؟! قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم (15).
د- أن تعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان؛ لذا فهي مليئة بالمصائب، والأكدار، والأحزان، كما قال ربنا الرحمن:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} ، وقال عز وجل: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(16).
هـ- تذكر أن العبد وأهله وماله لله عز وجل فله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، قال لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن ترد الودائع
و- الاستعانة على المصيبة بالصلاة، قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (17)؛وقد "كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى"(18)،ومعنى حزبه: أي نزل به أمرٌ مهم، أو أصابه غم.
وهذا حال المؤمن الصادق، الذي لا يخطر على قلبه في وقت المحن والشدائد، إلا تذكر الله عز وجل، لأنه الذي بيده مفاتيح الفرج.
ولما أخبر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بوفاة أحد إخوانه استرجع وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام وهو يقول:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (19).
ز- تذكر ثواب المصائب، والصبر عليها، وإليك شيئاً منه:
1- دخول الجنة: قال الله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ{23} سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(20).
وقال صلى الله عليه وسلم :( يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت(21) صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)(22).وصفيه هو حبيبه المصافي كالولد، والأخ، وكل من يحبه الإنسان،والمراد بقوله عز وجل (ثم احتسبه): أي صبر على فقده راجياً الأجر من الله تعالى على ذلك(23).
2- الصابرون يوفون أجورهم بغير حساب. قال تعالى:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(24)، قال الأوزاعي:(ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفاً)(25).
3- معية الله للصابرين، وهي المعية الخاصة المقتضية للمعونة والنصرة والتوفيق، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(26).
4- محبة الله للصابرين، قال تعالى: { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (27).(/2)
5- تكفير السيئات لمن صبر على ما يصيبه في حال الدنيا، كبر المصاب أم صغر؛ قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :" ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا همٍ، ولا حزن، ولا أذىً، ولا غم, حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه"(28)، والنصب التعب، والوصب: المرض، وقيل هو المرض اللازم(29).
قال الإمام القرافي(ت684هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ:( المصائب كفارات جزماً سواءً اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقتران بها الرضا عظم التكفير وإلا قل) (29).
وقال صلى الله عليه وسلم :"ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله, حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)(30).
6- حصول الصلوات، والرحمة، والهداية من الله ـ تعالى ـ للعبد الصابر؛ قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(31).
7- رفع منزلة المصاب؛ قال صلى الله عليه وسلم :" إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى"(33).
-----------------------------------------
(1) سورة الملك آية:2.
(2) عدة الصابرين (ص:81).
(3) شرح رياض الصالحين (1/121-122)، وانظر الشرح الممتع للشيخ أيضاً(5/495).
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب: باب فضل الحامدين (2/1250رقم3803)، قال البوصيري في الزوائد إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/472رقم 265).
(5) الفروع (2/223).
(6) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(ص:265).
(7) مدارج السالكين(2/158) في منزلة الصبر.
(8) مدارج السالكين(2/162).
(9) سورة البقرة آية: 155-157.
(10) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز: باب زيارة القبور(الفتح3/492-493برقم1283)، وباب الصبر عند الصدمة الأولى(الفتح3/523برقم 1302)، وأخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى(2/637برقم926).
(11) فتح الباري (3/494-495).
(12) المغني(3/495).
(13) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان(1/39برقم 9).
(14) سورة البقرة آية: 156.
(15) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب ما يقال عند المصيبة (2/632-633 برقم918).
(16) سورة البلد آية:4.
(17) سورة البقرة آية: 45.
(18) أخرجه الإمام أحمد(1/206)، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة: باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة(2/50برقم1319)، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح(3/524)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود(1/361 برقم 1319).
(19) فتح الباري (3/524)، قال الحافظ ابن حجر أخرجه الطبراني بإسناد حسن؛ وانظر الفروع لابن مفلح(2/223).
(20) سورة الرعد آية:23-24.
(21) المراد قبض روحه بالموت( فتح الباري13/20).
(22) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق: باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى(فتح 13/18برقم6424).
(23) فتح الباري(13/20).
(24) سورة الزمر آية:10.
(25) تفسير ابن كثير(4/52).
(26) سورة البقرة آية:153.
(27) سورة آل عمران آية:146.
(28) أخرجه البخاري في كتاب المرضى باب:ما جاء في كفارة المرض (الفتح 11/239برقم5641)، وأخرجه مسلم في كتاب البر واصلة والآداب: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها(4/1990برقم 2572).
(29) فتح الباري(11/242-243).
(30) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال عنه : حديث حسن صحيح(4/602برقم2399)، وصححه الألباني في الصحيحة (5/349برقم2280)، وفي سنن الترمذي أيضاً (ص: 541برقم2399 الطبعة الجديدة عناية الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان).
(31) سورة البقرة آية:155-157.
(32) أخرجه أحمد (5/273)، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب الأمراض المكفرة للذنوب (3/238 برقم3090)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(6القسم الأول/189برقم2599)، وفي صحيح أبي داود(2/271برقم3090).(/3)
حال السلف في رمضان
أخي المسلم.. أختي المسلمة:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته... وبعد:
أبعث إليكم هذه الرسالة محملة بالأشواق والتحيات العطرة، أزفها إليكم من قلب أحبكم في الله، نسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته ومستقر رحمته وبمناسبة قدوم شهر رمضان أقدم لكم هذه النصيحة هدية متواضعة، أرجو أن تتقبلوها بصدر رحب وتبادلوني النصح، حفظكم الله ورعاكم.
كيف نستقبل شهر رمضان المبارك؟
قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة:185].
أخي الكريم:
خص الله شهر رمضان عن غيره من الشهور بكثير من الخصائص والفضائل منها:
- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
- تستغفر الملائكة للصائمين حتى يفطروا.
- يزين الله في كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ثم يصيروا إليك.
- تصفد فيه الشياطين.
- تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار.
- فيه ليلة القدر هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله.
- يغفر للصائمين في آخر ليلة من رمضان.
- لله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة من رمضان.
فيا أخي الكريم: شهر هذه خصائصه وفضائله بأي شيء نستقبله؟ بالانشغال باللهو وطول السهر، أو نتضجر من قدومه ويثقل علينا نعوذ بالله من ذلك كله.
ولكن، العبد الصالح يستقبله بالتوبة النصوح، والعزيمة الصادقة على اغتنامه، وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة، سائلين الله الإعانة على حسن عبادته.
وإليك أخي الكريم الأعمال الصالحة التي تتأكد في رمضان:
1 ـ الصوم: قال صلى الله عليه وسلم : « كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . يقول عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك » [أخرجه البخاري ومسلم] وقال صلى الله عليه وسلم : « من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » [أخرجه البخاري ومسلم] ولا شك أن هذا الثواب الجزيل لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » [أخرجه البخاري]. وقال صلى الله عليه وسلم : « الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن سابّه أحد فليقل إني امرؤ صائم » [أخرجه البخاري ومسلم]. فإذا صمت - يا عبد الله - فليصم سمعك وبصرك ولسانك وجميع جوارحك، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء.
2 ـ القيام: قال صلى الله عليه وسلم : « من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه » [أخرجه البخاري ومسلم] { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [الفرقان:63-64]، وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قالت عائشة رضي الله عنها: « لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً » .
وكان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم الصلاة الصلاة.. ويتلو: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه:132] وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].
قال: ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال ابن أبي حاتم: وإنما قال ابن عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة.
وعن علقمة بن قيس قال: ( بت مع عبد الله بن مسعود ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يراجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر.
وفي حديث السائب بن زيد قال: ( كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر ).
تنبيه: ينبغي لك أخي المسلم أن تكمل التراويح مع الإمام حتى تكتب في القائمين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة » [رواه أهل السنن].
3 ـ الصدقة: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة.. وقد قال صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصدقة صدقة في رمضان.. » [أخرجه الترمذي عن أنس].(/1)
روى زيد بن أسلم عن أبيه قال « سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك مال عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ، قال: فقلت مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لهم؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً. »
وعن طلحة بن يحيى بن طلحة، قال: حدثتني جدتي سعدي بنت عوف المرية، وكانت محل إزار طلحة بن عبيد الله قالت: دخل علي طلحة ذات يوم وهو خائر النفس فقلت: مالي أراك كالح الوجه؟ وقلت: ما شأنك أرابك مني شيء فأعينك؟ قال: لا؛ و لنعم حليلة المرء المسلم أنت. قلت: فما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قلت: ما عليك، اقسمه، قالت: فقسمه حتى ما بقي منه درهم واحد، قال طلحة بن يحيى: فسألت خازن طلحة كم كان المال؟ قال: أربعمائة ألف.
فيا أخي للصدقة في رمضان مزية وخصوصية فبادر إليها واحرص على آدائها بحسب حالك، ولها صور كثيرة منها:
أ ـ إطعام الطعام: قال الله تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً . وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً } [الإنسان:8-12] فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات. سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح، فلا يشترط في المطعم الفقر. قال رسول الله : « يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام » [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني] وقد قال بعض السلف لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلى من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم منهم عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة.
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس بخدمهم ويروّحهم… منهم الحسن وابن المبارك.
قال أبو السوار العدوي: ( كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه ).
وعبادة إطعام الطعام، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها: التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم فيكون ذلك سبباً في دخول الجنة: « لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا » . كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك.
ب ـ تفطير الصائمين: قال صلى الله عليه وسلم : « من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء » [أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني] وفي حديث سلمان: « من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ، قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها، حتى يدخل الجنة » .
4 ـ الاجتهاد في قراءة القرآن: سأذكرك يا أخي هنا بأمرين عن حال السلف الصالح:
أ ـ كثرة قراءة القرآن.
ب ـ البكاء عند قراءته أو سماعه خشوعاً وإخباتاً لله تبارك وتعالى.(/2)
كثرة قراءة القرآن: شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته، وقد كان من حال السلف العناية بكتاب الله، فكان جبريل يدارس النبي القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وقال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان والأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم، كما سبق.
البكاء عند تلاوة القرآن: لم يكن من هدي السلف هذّ القرآن هذّ الشعر دون تدبر وفهم، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب. ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : « اقرأ علي » ، فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري » قال فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } [النساء:41] قال: « حسبك » ، فالتفت فإذا عيناه تذرفان. وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: لما نزلت: { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } [النجم:60،59] فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يلج النار من بكى من خشية الله » وقد قرأ ابن عمر سورة المطففين حتى بلغ: { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين:6] فبكى حتى خر، وامتنع من قراءة ما بعدها. وعن مزاحم بن زفر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب فقرأ حتى بلغ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:5] بكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد فقرأ الحمد.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: ( سمعت فضيلا يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد، وهو يبكي ويردد هذه الآية: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد:31] وجعل يقول: ونبلو أخباركم، ويردد وتبلوا أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي ).
5 ـ الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس: « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة - أي الفجر - جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس » [أخرجه مسلم] وأخرج الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة » [صححه الألباني]، هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان؟
فيا أخي.. رعاك الله استعن على تحصيل هذا الثواب الجزيل بنوم الليل.. والاقتداء بالصالحين، ومجاهدة النفس في ذات الله وعلو الهمة لبلوغ الذروة من منازل الجنة.
6 ـ الاعتكاف: « كان النبي يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً » [أخرجه البخاري]. فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات من التلاوة والصلاة والذكر والدعاء وغيرها.
وقد يتصور من لم يجربه صعوبته وشقته، وهو يسير على من يسره الله عليه، فمن تسلح بالنية الصالحة، والعزيمة الصادقة أعانه الله. وأكد الاعتكاف في العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر، وهو الخلوة الشرعية فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف قلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه.
7 ـ العمرة في رمضان: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « عمرة في رمضان تعدل حجة » [أخرجه البخاري ومسلم]، وفي رواية « حجة معي » فهنيئاً لك ـ يا أخي ـ بحجة مع النبي .(/3)
8 ـ تحري ليلة القدر: قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:1-3] وقال صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » [أخرجه البخاري ومسلم]. وكان النبي يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها وكان يوقظ أهله ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر. وفي المسند عن عبادة مرفوعاً: « من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » وللنسائي نحوه، قال الحافظ: إسناده على شرط الصحيح.
وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين والاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها. فيا من أضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر، فإنها تحسب من العمر، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها، من حُرِم خيرها فقد حُرم.
وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي في الوتر من لياليه الآخرة، وأرجى الليالي سبع وعشرين، لما روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه: ( والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين ). وكان أُبي يحلف على ذلك ويقول: ( بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله ، أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها ).
وعن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم : « قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني » [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
9 ـ الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار: أخي الكريم: أيام وليالي رمضان أزمنة فاضلة فاغتنمها بالإكثار من الذكر والدعاء وبخاصة في أوقات الإجابة ومنها:
- عند الإفطار فللصائم عند فطره دعوة لا ترد.
- ثلث الليل الآخر حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول: « هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له » .
- الاستغفار بالأسحار: قال تعالى: { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18].
وأخيراً.. أخي الكريم.. وبعد هذه الجولة في رياض الجنة نتفيء ظلال الأعمال الصالحة، أنبهك إلى أمر مهم... أتردي ما هو؟ إنه الإخلاص.. نعم الإخلاص.. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجموع والعطش؟ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب؟ أعاذنا الله وإياك من ذلك. ولذلك نجد النبي يؤكد على هذه القضية.. { إيماناً واحتساباً }. وقد حرص السلف على إخفاء أعمالهم خوفاً على أنفسهم.
فهذا التابعي الجليل أيوب السختياني يحدث عنه حماد بن زيد فيقول: ( كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيتمخط ويقول: ما أشد الزكام؟ يظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء ). وعن محمد بن واسع قال: ( لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه ).
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. وعن ابن أبي عدي قال: ( صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله وكان خرازاً يحمل معه غذاءه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم ).
قال سفيان الثوري: ( بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء ).
اللهو في رمضان: أخي.. أظن أني قد أطلت عليك وأنا أحثك على اغتنام الوقت.. قطعت عليك الوقت. ولكن أتأذن لي أن نعرج سوياً على ظاهرة خطيرة وبخاصة في رمضان. إنها ظاهرة إضاعة الوقت وتقطيعه في غير طاعة الله.. إنها الغفلة والإعراض عن الرحمات والنفحات الإلهية، قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه:124-127].
وكم تتألم نفسك ويتقطع قلبك حسرات على ما تراه من شباب المسلمين الذين امتلأت بهم الأرصفة والملاعب في ليالي رمضان الفاضلة.. كم من حرمات الله ومعاصيه التي يجاهر بها في ليالي رمضان المباركة. نعم إن المسلم ليغار على أوقات المسلمين وعلى زهرة شبابهم أن تبذل في غير طاعة الله.
ولكن.. !!! لا بأس عليك.. إن الطريق لسعادتك وسعادة إخوانك الدعوة والدعاء. نعم دعوة من غفل من أبناء المسلمين وهدايتهم الصراط المستقيم. والدعاء لهم بظهر الغيب لعل الله أن يستجيب فلا نشقى أبداً.(/4)
حال المرأة المسلمة
في البوسنة و الهرسك
و تأثره بالسنة النبوية
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
إن بمقدور المرء حينما يُلقي نظرة ـ و لو سريعة ـ على أي تجمع بشري أن يجزم بوجود مسلمين فيه ، و مدى التزامهم ـ في حال وجدوهم ـ بدينهم ، من خلال مظهر نسائه و سلوكهن .
فالمرأة المسلمة بقرارها في بيتها ، و عدم اختلاطها بالرجال ، أو خروجها باللباس الشرعي ـ إن خرجت ـ تدلل على انتمائها إلى الإسلام و التزامها به .
فماذا عن المرأة البوسنوية ؟
لا شك أن حال المرأة المسلمة في البوسنة لم يكن مختلفاً عن حال أخواتها في الشرق الإسلامي أثناء الحكم الإسلامي لبلادها ، و لكن تغيُّر الحال كان قرين ضعف الخلافة ، و سقوط البوسنة و ما جاورها من بلاد البلقان تحت الحكم النمساوي المجري ، ثمَّ دخولها تحت سيطرة الصرب تارةً و الكروات تارةً أخرى باسم المملكة اليوغسلافية فالاتحاد اليوغسلافي الشيوعي الذي استمر حتى الحرب الأخيرة ، التي خرجت البوسنة في أعقابها دولةً مستقلَّة مقسمة .
المبحث الأول
الحالة الدينيَّة للمرأة البوسنويَّة المسلمة بعد جلاء الحكم الإسلامي عن بلادها
وصلت المرأة البوسنوية إلى أدنى دركات الانحلال و الانحطاط بعيداً عن قيم الإسلام و آدابه قُبيل الحرب الأخيرة ، حتى أصبح من المتعذر على المتأمل في تلك الحقبة أن يرى فارقاً بين النساء المسلمات و غير المسلمات في معظم المدن البوسنوية ؛ من حيث اللباس ، و السلوك ، و الآداب و غير ذلك ، حيث نافست الكثيرات من فتيات المسلمين الصليبيات في التعري و السفور ، و خرجت على إرادة ولي أمرها ـ الذي أخرسته القوانين و الإجراءات الشيوعية الجائرة (1) ـ في أمور العفة و الطاعة و غيرهما ، و شاع اقتران الكثير من شبان الصرب و الكروات و الملاحدة ببنات الأسر المسلمة .
لكن هذه الصورة القاتمة تظل محصورة بين صورتين مشرقتين ، كانت إحداهما قبل سقوط البوسنة في قبضة الشيوعية التي مسخت شخصية المرأة المسلمة باسم التحرير و التطوير ، أما الصورة الأخرى فهي التي بدأت تتشكل بعد سقوط الشيوعية و شروع المجتمع الإسلامي في استعادة هويته ، و العودة إلى دينه و تراثه .
ففي بداية القرن الرابع عشر الهجري كانت المرأة المسلمة في البوسنة محتشمة ، قارة في بيتها ، ضاربة بخمارها على جيبها ، لا تختلف في ذلك عن أختها في بلاد المسلمين الأخرى .
يقول العلاَّمة الخانجي في مقدمة ( الجوهر الأسنى ) متحدثا عن حال مسلمي البوسنة : (( و نساؤهم محتجبات ٌ، محتشمات لا يرى منهن في الشوارع شيء ، لا الوجه و لا اليدان و لا غير ذلك ، إلاَّ التي اتبعت الشيطان ، و انجرت وراء
المفسدين ))(2) .
فحجابهُن كان كاملاً يستر كامل البدن بما فيه الوجه والكفَّان ، الأمر الذي لم يعد موجوداً إلا في ذاكرة العجائز و المُسنِّين ، الذين يتندرون بذكر النساء الفضليات اللاتي أدركن ذلك العهد الزاهر .
و قد رأيت صوراً لنساء كثيرات كن يسدلن الخمر على رؤوسهن ، و النقب على وجوههن ، حتى إن بعض المسلمين اليوم يعبر عن انتمائه و حبه للإسلام بعرض صور لجده بلباس الإحرام و جدته و قد أسدلت النقاب على و جهها .
الأمر الذي كان يلفت أنظار من زار البوسنة في ذلك الوقت ، و من هؤلاء ولي عهد مصر السابق الأمير محمد علي باشا بن الخديوي توفيق رحمه الله ( ت 1374 هـ / 1955 م ) الذي زار البوسنة ـ متنكرا ـ عام 1317 هـ / 1900 م ، و دوَّن أحداث رحلته في كتاب طُبع أثناء الحرب البوسنوية الأخيرة ، و فيه يصف ملابس النساء المسلمات في البوسنة ، و يذكر بعض عاداتهن الدالة الحشمة و العفة فيقول : (( أما النساء المسلمات فيلبسن الفرجية (3) و يتنقبن ببراقع تستر كل الوجه ، غير أن لكل واحد فرجتين إزاء العينين بقدر ما تسع خيوط النظر ، و لذلك كان من النادر أن يرى الإنسان وجوه أولئك السيدات ، و من عاداتهن أن لا يخرجن من بيوتهن و لا يتجاوزن خدورهن إلا للحاجات عندما تستدعي الضرورة
__________
(1) ... خلال فترة الحكم الشيوعي للبوسنة كانت السلطات تمنع الوالدين من حق الرقابة على أبنائهم ، معتبرة الحزب الشيوعي الحاكم السلطة الوحيدة المؤهلة و المسؤولة عن تربية الجيل و تنشئته و تعليمه ، و بهذه الذريعة كان الشيوعيون يبررون تحطيم القيم الخلقية و الدينية لدى الأجيال الصاعدة من أبناء المسلمين .
انظر : علي سالم إبراهيم النباهين : دراسة مقارنة للأوضاع التعليمية للأقليات الإسلامية في الهند و سيريلانكا و يوغسلافيا ، ص : 276 .
(2) ... الجوهر الأسنى : ص 19 .
(3) ... الفرجية : غطاء ساتر للوجه كانت تستعمله نساء الترك ، و فيه فُرجة ضيّقةٌ تبدو منها عين واحدة ، و قد انتشر في عدد من البلدان العربية أواخر العهد العثماني .(/1)
خروجهن )) (1) .
و يُقيد مشاهداته و شهاداته في موضع آخر فيقول : (( و فيما نحن منحدرين صادفنا في طريقنا بعض السيدات المسلمات و كنَّ يسترن بالنقاب كل وجوههن ، كما بيَّنا ذلك في جملة عوا ئدهن ، و فوق ذلك رأيناهن يبالغن في التستر و يغالين في الاستخفاء بتحويل و وجوههن إلى الحائط و بتحويل جميع الأجسام حتى لا يبدو منهن شيء ، و إن ذلك لشيء من فرط الحياء ، و الحرص على الأخلاق الإسلامية و العوائد الشرقية )) (2) .
و ذكر المؤرِّخ التركي الشهير أوليا شلبي من تمسك المرأة البوسنويَّة بدينها الشيء الكثير ، و وصفهنَّ بأنهنَّ متدينات و عفيفات ، و قد كان لهذا التمسك بالدين أثره على الفصل بين الرجل و المرأة في المجتمع ، حتى إنَّ الفتيات – كما يذكر شلبي – كنَّ لا يرين وجه رجل ، و لا يسمعن صوت رجل سوى صوت والدهن (3) قبل الزواج .
إلا أن هذه الصورة المشرقة للمرأة البوسنوية المسلمة لم تدم طويلاً بعد سقوط الخلافة ، و تسلط الأعداء على المسلمين البشانقة و بلادهم ، حيث بدأت هذه الصورة تحسر في الأرياف و القرى بعيداً عن ( سراييفو ) حاضرة البلاد ، و هو ما أشار إليه أحد البشانقة الذين رافقوا الأمير محمد علي في رحلته فقال مخاطبا ذلك الأمير : (( … إنكم لا بد عرفتم مما شاهدتموه في سراييفو تأخرنا ، و أدركتم تقهقرنا حتى لقد صرنا إلى ما ترون ، و حتى إن النساء اللواتي كنَّ يحافظن على شرفهن و يبالغن في الحرص على عوا ئدهن أخذن ينسلخن عن تلك الأخلاق شيئاً فشيئاً )) (4).
إلا أن هذه الحال لم تبلغ حد التبرج و السفور ، بل ظلت عامة النسوة في تلك البلاد محتشمات متحجبات ، يبدو حالهن حسناً في و صف سماحة الحاج محمد أمين الحُسيني رحمه الله (5)بعض ما شاهده في مدينة بانيالوكا سنة 1362 هـ / 1943م ، حيث قال :
(( دُهشنا لِمُشاهدتنا أهل بانيالوكا يلبسون العمائم و الطرابيش ! و نساؤهم مُحجَّباتٌ ، و شعرنا كأننا نجتاز شوارع القدس القديمة ، أو سوق الحميدية في
دمشق )) (6) .
لكنَّ هذه الهيئة التي كانت تتميز بها مسلمات البوشناق ، لم تدم طويلاً ، فقد أُصيب التقيُّد بالحجاب الشرعي ، و الالتزام بالنقاب ، الذي كانت تتميّز به المرأة البوسنويَّة بنكستين كان لهما الأثر البالغ في القضاء عليه فيما بعد حتى لم يعُد له وجود يُذكر في البوسنة أثناء الحكم الشيوعي للبل ، و هاتان النكستان هُما :
النكسة الأولى : تخلي عُلماء المسلمين عن الدعوة إلى الحجاب ، و تحريم السفور و الحكم بتحريمه ، علاوةً على أنَّ بعض العلماء ذهب مذهباً أبعد فيه النُجعة فدعى إلى السفور صراحةً ، و حذَّر من النقاب أشدَّ التحذير ، و من هؤلاء رئيس العلماء الشيخ محمد جمال الدين تشاوشيفيتش (7) ، الذي نادى بالإصلاح و التجديد ، و خلُص إلى القول : (( إنِّي أفضل أن أرى فتاةً مُسلمة غير محجبة تكسب قوتها بشرف ، عن أخرى تمشي محجبة في الشوارع نهاراً ، ثمَّ تقضي ليلها في أحد
__________
(1) ... الأمير محمد علي : رحلة الصيف إلى بلاد البوسنة و الهرسك ، ص : 52-53 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 97 .
(3) ... انظر : الإسلام في يوغسلافيا ، للدكتور محمد الأرناؤوط ، ص : 49، 50 ، نقلاً عن أوليا شلبي .
(4) ... رحلة الصيف إلى بلاد البوسنة و الهرسك ، للأمير محمد علي باشا ، ص : 106 .
(5) ... محمد أمين الحسيني ، هو : محمد أمين بن محمد طاهر بن مصطفى ، من زعماء السياسة بفلسطين ، ولد و تعلم بالقدس ، و تخرج ضابطا احتياطيا في إسطنبول ، و عاد إلى القدس بعد الحرب العالمية الأولى ، توفي أخوه مفتي فلسطين فانتخب بدلا منه ، و تألف المجلس الأعلى ، فتولى رئاسته ، و نبه على خطر تكاثر اليهود في فلسطين ، حاولت السلطات البريطانية اعتقاله و القبض عليه فلجأ إلى لبنان ثم بغداد ثم إيران ، و منها إلى ألمانيا ، حيث أكرمه هتلر ، ثم انتقل إلى مصر و استقر فيها ، و منحته السعودية جنسيتها ، و اضطر بعد الثورة المصرية إلى الرحيل عن مصر إلى بيروت ، فمات فيها سنة 1394 هـ / 1974 م .
انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 6 / 46 ، الحاج أمين الحسيني رائد جهاد و بطل قضيَّة لحسني جرَّار ، ص : 232 .، المستدرك على معجم المؤلفين ص 606 – 607 .
(6) ... مجلَّة فلسطين ، العدد (142) ، ص : 4 و ما بعدها .
... و انظر : أيضاً : حسني جرَّار : الحاج أمين الحسيني رائد جهاد و بطل قضيَّة ص : 232 .
(7) ... عاش الشيخ تشاوشيفيتش بين عامي ( 1286 – 1357 هـ / 1870 - 1938 م ) ، و كان قد درس في استانبول و تخرج فيها سنة 1320 هـ / 1903 م ، حيث رجع إلى بلاده متأثراً بدعاة التجديد في استانبول و القاهرة ، و بدأ يدعو إلى المدرسة العقلية الحديثة ، و قد عيِّن رئيساً للعلماء من قبل السلطات النمساوية المستعمرة للبوسنة في ذلك الوقت . و من أعماله الشهيرة إصدار مجلة ( الطريق ) سنة 1326 هـ / 1908 م التي تعتبر منبر دعوته ، و وسيلة نشر أفكاره . ( الباحث ) .(/2)
المقاهي )) (1) .
أمَّا النقاب فقد أكد تشاوشيفيتش أنه عادة شرقية و ليس واجباً دينيَّاً بحال (2) .
و انتصر لدعوة تشاوشيفيتش عدد من الكتّاب العصريين ، و روّجوا لأفكاره عبر الخطابة و التأليف ، و من أشهرهم عثمان نوري حاجيتش ، الذي دعا في كتابه المسمى ( محمد و القرآن ) (3) إلى تخلي المرأة المسلمة عن حجابها و جلبابها لتقف إلى جانب أخواتها اليوغسلافيَّات على قدم المساواة .
و من الإنصاف الإشارة إلى أنَّ تشاوشيفيتش و أنصاره كانوا أقليَّة ، بينما كان السواد الأعظم من عُلماء البوسنة يعارضون هذه الدعوة ، فقد ثاروا عليه و اعترضوا و احتجوا ، حتى صدر قرار من المجلس الإسلامي في سراييفو يدين آراءه و يفندها (4) ، إلا أن السلطة غلبت الدليل فقد تغلب رئيس العلماء على منافسيه ، و فرض رأيه بدعم من الحكومة التي نصبته رئيساً للعلماء بين عامي1331 هـ و 1348 هـ / 1913م و 1930م .
و ممَّن تصدَّى لهذه الدعوة ، و كشف زيغ دُعاة السوء الذين يروِّجونها ، الشيخ محمد الخانجي رحمه الله حيث وقف أمامهم كالطود الشامخ ، و تصدى لما أطلقوه من دعاوى التقدم و التطوُّر مؤكداً أن لا اجتهاد في مورد النص ( من الكتاب و السنة ) ، و لا يجوز بحال تقسيم الدين إلى قشرٍ و لُباب ، أو أحكام كلِّيَّة و أخرى جزئيَّة ، بحيث تتغيَّر الجزئيَّة عند الحاجة (5)0
و في تلك الأثناء كتب الشيخ علي رضا قرت بيك (6) رسالة أسماها ( مسألة الحجاب ) و نشرها في موستار ، و كتب الشيخ إبراهيم حقي تشوكيتش رسالة أخرى بعنوان ( تستر المسلمات ) و نشرها في توزلا ، و كلا الرسالتين جاءت رداً على فتوى الشيخ محمد جمال الدين و أنصاره من أتباع المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة .
النكسة الثانية : منع الحكومة الشيوعيَّة للحجاب بكافة صوره ، و بشكلٍ رسميٍّ ، و قد صدر قانون بذلك سنة 1369هـ/1950م (7) ، أحرقت بسببه الملابس الشرعيَّة ، و اعتقلت المحجبات ، بينما لازمت بعض العجائز بيوتهنَّ حتى وافاهُنَّ الأجل ، و طورد الآباء الذين اعترضوا على تجريد بناتهنَّ من الحجاب ، و زُجَّ بالآلاف منهم في غياهب السجون .
و ساعد الحكومة الشيوعية على قمع معارضي قرارها الجائر بخصوص النقاب و الحجاب ، تبرير العلماء الرسميين ( المعينين من قبلها ) لهذا القرار ، و منهم إبراهيم فيبتش رئيس العلماء في ذلك الوقت (8) .
و أمام هاتين النكستين لم تعد المرأة قادرة على الالتزام بدينها ، و الحفاظ على مظهرها و سلوكها الإسلاميين ، فألقت عن عاتقها الحجاب و الجلباب ، و نزلت إلى ميادين العمل ، و انخرطت حتى في صفوف الحزب الشيوعي منسيَّة و متناسيةً طبيعة و واجبات المرأة المسلمة .
و لم يزل الحال في تردٍّ حتى خلف من البشانقة خلف نظروا إلى الحجاب على أنَّه عادة شرقيَّة ، تدلُّ على التخلُّف و الرجعيَّة ، مثَلُه في ذلك مَثل سائر الآداب الشرعية ، كبرِّ الوالدين ، و عدم الاختلاط ، و انتشرت مقالات هذا الخلف السيئ على صفحات مجلة ( البلاغ ) الشهرية التي تصدرها رئاسة العلماء في البوسنة و الهرسك و تعرف بدعوتها إلى تحرير المرأة ، فقد كتب سليم سقروفيتش فيها مقالاً تحت عنوان : ( المرأة المسلمة و الحجاب : دعوة إلى تخليها عنه ) ، و تلاه حامد كوكيتش بنشر مقال تحت عنوان : ( آن الأوان للخلاص من الحجاب ) (9) ، ثمَّ ذرَّ قرن أعداء الحجاب فتوالت كتاباتهم في معارضته ، و التحريض على خلعه .
__________
(1) ... البوسنة ، لنويل مالكوم ، ص : 211 .
(2) ... انظر : البوسنة ، لنويل مالكوم ، ص : 211 ، 212 .
(3) ... ظهر هذا الكتاب لأوَّل مرَّةٍ في بلغراد سنة 1349 هـ / 1931م ، أي قبيل قيام الحكم الشيوعي في بلاده ، ثمَ أعيد طبعه في سراييفو سنة 1387 هـ / 1968 م .
(4) ... انظر : البوسنة ، لنويل مالكوم ص : 212 .
(5) ... انظر : زهدي عادلوفيتش : أبرز الاتجاهات العقدية في البوسنة و الهرسك ص : 592 .
(6) ... علي رضا قرت بك : أحد العلماء البارزين بالبوسنة ، من مدينة موستار ، و أول من قام بترجمة معاني القرآن إلى اللغة البوسنية من المسلمين . ( الباحث ) .
(7) ... انظر : البوسنة ، لنويل مالكوم ص : 242 .
و : الدكتور فكرت كارجيتش : تاريخ التشريع الإسلامي في البوسنة و الهرسك ، ص : 51 .
(8) ... انظر : مجلة ( البلاغ ) ، العدد الثالث ، سنة 1950م ، ص : 22 .
(9) ... انظر : مجلة البلاغ ، سنة 1369 هـ / 1950 م ، العدد ( 4 - 7 ) ، ص : 107 و ما بعدها .(/3)
و مع ازدياد النعرات الجاهلَّية بين صقالبة الجنوب ، واصل الشيوعيُّون العمل على إذابة المسلمين في المجتمع الشيوعي ، و القضاء على ما تبقَّى في حياتهم من مظاهر تميزهم عن جيرانهم من الصرب و الكروات ، و أكبر مثال على ذلك إشاعة الزواج المختلط بين المسلمين و النصارى ، حيث عمدت السلطات الشيوعية في البوسنة إلى تشجيع الزواج بين الفتيات المسلمات و شبان الصرب و الكروات ، و مع أن هذه السياسة كانت تطبق تحت حجة دعم الأخوة بين الشعوب و تنمية الروح اليوغسلافية ، فإنها كانت في حقيقة الأمر تستهدف إذابة المجتمع المسلم بالدرجة الأولى ، ذلك أن هذه السياسة لم يكن الحزب يهتم إلا بتطبيقها في المناطق التي تقطنها غالبية مسلمة ، و لا يدعو إليها في الأنحاء الأخرى من البلاد .
و مع مرور الزمن أصبح هذا الأمر معتاداً ، و حقيقة واقعة لا منكر لها ، و لا مُعترض عليها ، إلى أن أثارتها من جديد الدكتورة مليكة صالح بيكوفيتش التي انضمت إلى طائفة المجاهدين الموقعين على البيان الإسلامي ، التي رأَسَها عزت ، و كان الموقف الفريد لمليكة أن آثرت الطلاق ، و رفضت الحياة في كنف زوجها ، بعد أن رفض التخلِّي عن الشيوعية و الدخول في الإسلام ، فكانت أوَّل امرأةٍ تتصدى لفكرة الزواج المختلط ، و هو ما سنشير إليه لاحقاً إن شاء الله تعالى (1) .
و زاد في المعاناة أنَّ بعض المفكرين الإسلاميين نظروا نظرة مماثلة إلى بعض مظاهر المجتمع الإسلامي كمسألة البعد عن الاختلاط ، مرددين في ذلك دعاوى غير المسلمين ، و ربما كانوا متأثِّرين بها .
فهذا الرئيس علي عزت بيك ـ مثلاً ـ يتناول مسألة الاختلاط بين الجنسين في المجتمع الإسلامي اعتماداً على ماقرره فيليب حتي (2)، في كتاب تاريخ العرب ، دون أن يتعقبه أو يستدرك عليه مما يدل على موافقته في رأيه بأن (( الاهتمام بالفصل الصارم بين الرجال و النساء قد ظهر بصورةٍ واسعةٍ في القرن الثالث للهجرة / العاشر للميلاد ، أي بعد مائتين و خمسين سنةً من نزول الوحي ، و يغلُب على الظن ، بأنه عادة اقتبسها المسلمون من البيزنطيين في عهد الخليفة الوليد الثاني )) (3) .
و لا يتصدى لدعاة الاختلاط اليوم إلاَّ ثلَّة من شباب الجهاد ، الحريصين على إعادة الوجه المشرق للمجتمع الإسلامي البوسنوي ، بدون صدام مع معارضيهم من رجال الفكر و العلماء الرسميين (4) .
و إزاء ضياع المرأة المسلمة وقف قلَّةٌ من الدعاة و المفكرين الذين ثبَّتهم الله تعالى في وجه تيَّار الانحلال ، يذودون عن البقيَّة الباقية من الحشمة و الآداب الإسلاميَّة ، و يدعون إلى إعادة المرأة إلى بيتها ، الأمر الذي لا يُمكن تحقيقه إلا باقتلاع فكرة مساواة المرأة بالرجل في الحياة العامَّة من جذورها ، و الحدِّ من خروج المرأة إلى الميادين العامة بحجة العمل ، حيث كانت تُستدرج إلى الفساد و الإلحاد .
و لذلك نادى الرئيس علي عزَّت بيك بإعادة النظر في مسألة المساواة بين الجنسين ، و تساءل ثمَّ أجاب قائلاً :
(( هل يقرر الإسلام مساواة الرجل و المرأة ؟
الجواب : نعم و لا .
نعم ، إذا تحدثنا عن المرأة باعتبارها شخصية إنسانية ذات قيمة شخصية مساوية تتحمل واجبات أخلاقية و إنسانية .
و لا ، إذا كان الأمر يتعلق بالتساوي في الوظائف و الدور في الأسرة و المجتمع كما يفهم معنى المساواة في أوروبا عادة )) (5).
و بعد هذا التساؤل و جوابه يقرر بجلاء ( أن الإسلام لا يقبل مساواة الرجل بالمرأة حسب المفهوم الغربي ، لا من أجل المساواة المجردة ، بل بسبب رفضه للسلوك و الأنماط التي أصبحت جزءاً من طريقة الإنسان في الحياة التي لا يقبل الإسلام أغلب جوانبها و أشكالها ) (6) .
لكن صيحة الرئيس هذا لم تلق قبولاً يذكر في المجتمع ، لأنَّها واجهت معارضة شديدة من المشيخة الإسلاميَّة التي يدعوا رجالها إلى المساواة المطلقة بين الجنسين ، باعتبار ذلك أحد أهم أفكار مدرستهم العقلية التجديديَّة .
__________
(1) ... انظر : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، لمحمد خليفة ، ص : 458 .
و : محمد بن محمد الخانجي : آراء علماء المسلمين الذين عارضوا النكاح المختلط .
(2) ... فليب حتى : دكتور في التاريخ , من أهل لبنان . دَرَس في الجامعة الأمريكية ببيروت , و علّم بها , ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ,فكان أستاذا للتاريخ في عدد من جامعاتها , آخرها جامعة برنستون , و انتخب عضوا مراسلا بالمجمع العلمي العربي بدمشق , و توفي بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1399 هـ / 1979 م .
انظر ترجمته في : المستدرك على معجم المؤلفين ، ص : 550 .
(3) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ، ص : 32 .
(4) ... انظر : الاختلاط ( بحث منشور في مجلَّة الصف ) عدد 17 , ص : 21.
(5) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ص : 35 .
(6) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ص : 63 .(/4)
و يعتبر بعض العقلانيين في البوسنة و الهرسك هذه المساواة أمراً مقرّراً و مفروغاً منه في مبادئ الإسلام ، و في هذا السياق يقول الأستاذ حسين جوزو :
(( إن مساواة المرأة للرجل أمر يقرره الإسلام بلا شك )) (1).
و يرجع التفاوت بين الرجل و المرأة في الواقع ، بحسب رأي الأستاذ حسين جوزو - إلى جهل المرأة ، و بناء على ذلك (( فلكي تؤدي المرأة واجبها في المجتمع ، لا بد أن تؤهل لذلك تأهيلاً تحتاج فيه إلى التعليم بكافة تخصصاته ، و لا فرق في ذلك بين الرجل و المرأة ، لأن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم ، هي كلمة
( اقرأ ) ، و هي أمر بالقراءة يشمل الرجل و المرأة ، و بناءً عليه يتعين على المرأة أن تدرس جميع العلوم ، و أن تتحمل جميع المسؤوليات العلمية تماماً مثل الرجل ، و أن تنافسه في الاختراعات العلمية . . . لأنها متساوية معه في كلِّ شيءٍ )) (2) .
أمَّا الصيحة الثانية التي أطلقها الرئيس ، فترمي إلى نقض فكرة منافسة المرأة للرجل في العمل ، الأمر الذي يترتب عليه إخراجها من خدرها إلى معترك الحياة الذي يموج بالفتن و المغريات .
و لما لم يكن بمقدور الرئيس أن يحظر العمل بالكلِّية على المرأة ، اكتفى بوضع ضوابط و شروط صارمة تحول دون تسيُّب الأمور ، فجاء طرحه للموضوع على النحو التالي :
يثبت علي عزّت أن المرأة المسلمة شريكة الرجل في حياته الاجتماعية ، و مماثلة له في كثيرٍ من الأمور ، و ربّما تفوّقت بعض النساء على بعض الرجال في بعض جوانب الحياة العلميّة و الأدبية .
و ما دام الأمر على هذه الحال فإن من حق المرأة ( و ربّما كان واجباً عليها في بعض الأحوال ) ممارسة العمل الملائم لفطرتها و في حدود طاقتها ، و هو ما يتطلب أحياناً خروجها من البيت .
و لكن الرئيس لا يدع الأمر على إطلاقه ، و لا يسوِّغ للمرأة الخروج للعمل ما لم يكن العمل ضرورياً و مناسباً و ليس على حساب أطفالها و وظيفتها الأساسية (الأمومة) ، و لا يكون كذلك إلا في حالات محدودة معدودة مثل :
أن تكون بلا زوج ، و عليها إعالة أطفالها أو والديها أحدهما أو كليهما .
أن لا يكون لديها أبناء ، سواء كانت عقيماً لم تنجب ، أو أنها أنجبت أبناء ثم استقلوا عنها على كِبَر .
أن يكون عملها مناسباً لجبلَّتها و الطبيعة التي خُلقت عليها (3) .
أن يكون عملها في الحالات الاستثنائية كالحروب و غيرها (4) .
و على أرض الواقع تعتبر هذه الضوابط حائلاً دون تسيُّب المرأة و خروجها إلى حدٍ بعيد لو قُدِّر لها أن تُطبَّق على أرض الواقع .
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 209 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 206 و ما بعدها .
(3) ... لعلَّ من نتائج الاستجابة المحدودة لهذه الدعوة بين نساء البوسنة المسلمات ، تأسيس عددٍ من الجمعيَّات النسائيَّة التي عملت من خلالها النساء المسلمات من البوشناق ، و من هذه الجمعيَّات جمعيَّة أوسوتيانة ، أي الشروق ، و هي من أقدم المنظمات الإسلاميَّة في البوسنة ، رأستها مدرِّسة مسلمة ، معروفة في ميدان الدعوة و التأليف ، و قد تصدت هذه الجمعيَّة لأعمال البرِّ ، و التربية و التعليم ، حتى أصبحت بمثابة مدرسة حافلة بالمُسلمات اللاتي حظين فيها بالتنوير و التعليم ، كما عملت على تعليم الفتيات المسلمات على الأشغال اليدوية على مُختلف أنواعها 0
و قد شهدت البوسنة ميلاد ( اتحاد النساء المُسلمات ) عام 1411 هـ / 1991 م قُبيل الحرب الأخيرة ، و مارست أعضاؤه نشاطاً مكثفاً في ظروف القتال ، مثل إيواء المهاجرين و النازحين ، و يُعرف هذا الاتحاد باسم ( سمية ) ، و تصدر عنه صحيفة دعوية تحمل الاسم ذاته ، و تعتبر المجلة الأولى للأسرة المسلمة في البوسنة.
و قد أسس الاتحاد ليُعبِّر عن رغبة النساء البوسنويات المسلمات في معرفة أمور دينهم ، بعد خمسة عقود من سعي الشيوعية لتغريبهن و إبعادهن عن دينهن ، و لهذا كان الهدف المعلن للاتحاد هو العودة بالمرأة المسلمة إلى عقيدتها ، و يضم الاتحاد نحو خمس و أربعين ألف امرأة ثُلُثُهن في سراييفو ، يستفدن و يُفِدن من برامج الاتحاد التي من بينها تعليم الخياطة و التطريز للمُحجبات ، و رعاية أسر الشهداء ، و كفالة الأيتام ، مع الالتزام بعدم الاختلاط ، و هو ما كان المسلمون الأوائل يربُّون أبناءهم عليه ، حتى في مراحل التعليم بالكتاتيب .
انظر : محب الدين الخطيب : المسلمون في البوسنة ( مقالٌ نشرته مجلَّة الفتح القاهريَّة ، ع : 98 ، السنة الثانية 1346 هـ ) ص : 6 .
و المسلمون في البوسنة ، للدكتور رشدي عزيز محمد ، ص : 117 .
و صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 18 / 2/ 1992 م .
و انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك للدكتور نياز شكريتش ، ص : 183 .
(4) ... بتصرُّف يسير عن : مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك ص : 43 ، 44 .(/5)
و لكن أمام حملات التغريب التي مارستها السلطة الشيوعيَّة الحاكمة ،لم يكن من السهل أن تلقى صيحات نذيرٍ كهذه أُذُناً صاغيةً ، أو أفئدةً واعية ، ممَّا جعل الأمور تستمرُّ في التردي و الانحلال .
إلاَّ أن بعض نساء البوسنة استيقظن على معاناة إحدى أخواتهم و هي تلقى العناء ، و تتعرَّض إلى البلاء ، بسبب عودتها إلى الحجاب بعد أن كانت مثلاً في البعد عن الدين ، بل و محاربته و الملتزمين به .
فقد فوجئ الحزب الشيوعي بشرخ في صفوفه ، حينما أعلنت عضوته الشهيرة و النشطة الدكتورة مليكة صالح بيكوفيتش – التي سبق ذكرها قريبا -رغبنها في ارتداء الحجاب ، ثمَّ نفذت قرارها بالفعل عام 1398هـ / 1978 م ، فكانت أوَّل امرأة بين ملايين النساء المُسلمات في يوغسلافيا ترتدي الحجاب الشرعي علانية ، و هنا بدأت مأساة مليكة الكاتبة و الشاعرة ، حيث تعرَّضت إلى أقسى و أعنف درجات الاضطهاد من الحزب الشيوعي الذي تحدَّته و هاجمته علَناً ، ممَّا أدى بها إلى غياهب السجون ، و أذاقها مُرَّ العذاب طوال خمس سنوات قضتها في السجن ، ثمَّ خرجت بعدها لتعيش مع ابنها الوحيد أمير على سطح أحد المباني و هي لا تملك شروى نقير ، و ازداد الأمر سوءاً حين مُنعت من الاتصال بالناس , و تُركت في مواجهة العوز و الفاقة و الوحدة حتى الموت (1)!!
إنه مثال ـ و أيُّ مثال رائعٍ هو ـ لامرأة من البوشناق آثرت اللحاق بركب الخالدات .
أمَّا في عهد الاستقلال الذي أعقب الحرب الأخيرة في البوسنة ، الذي غدت فيه مليكة أسوة حسنة ، و مثالاً يحتذى ، و رائدة للحركة النسائية المسلمة في البوسنة و الهرسك (2) ، فقد تغيرت أوضاع المرأة إلى حدٍ كبير ، و تركت المحنة أثراً إيجابياً في النفوس حينما عرَّفت المسلمين بقيمة دينهم الذي بُذلت التضحيات و أريقت الدماء في سبيله .
تقول فخيرة جنكيتش الكاتبة البوسنويًّة المسلمة : إنني أقرأ القرآن الكريم باستمرار ، و مع اندلاع الحرب بدأت أفهم الكثير من معانيه و مفاهيمه ، و بدأ معنى الجهاد يتضح لي ، كما أني بدأت أدرك الاهتمام الكبير الذي كان يوليه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لقطرة من دم الشهيد . الآن بدأنا نعرف قيمة دماء الشهداء بعد أن وضعتنا هذه الحرب في امتحان عسير ... إنني و أمثالي من النساء نزداد حماساً و شجاعة عندما تطرق آذاننا أخبار تضحيات المسلمين ، كنبأ مقتل مجموعة من الفتيات المسلمات على أبواب الجامعات في سراييفو (3).
و لا عجب في أن يكون للمرأة المسلمة دور في الجهاد تضطلع به في مؤازرة الرجال المجاهدين في سبيل الله دفاعاً عن دينهم ، و ذوداً عن ديارهم و أعراضهم ، و هذا الدور المشرف – بضوابطه الشرعيَّة - كانت المرأة البوسنوية المسلمة تقوم به كلَّما دارت رحى الحرب في بلادها ، فقد روى المؤرخ فلاديسلاف سكاريتش أحد شهود العيان على مقاومة المسلمين لاجتياح الجيش النمساوي المجري لسراييفو سنة 1294 هـ / 1878م ، أن النساء المسلمات شاركن مع الرجال في التحصن بجامع علي باشا القديم في سراييفو ، و إطلاق الرصاص على قوات الاحتلال من نوافذ الجامع و مئذنته ، و قد بقيت هذه المقاومة غير المتكافئة مستمرة حتى آخر رصاصة ، و بعدها صعد الجنود الغزاة المئذنة ، و ألقوا بالنساء المجاهدات إلى رفاقهم في الأسفل الذين مزًّقوهن بالحراب في وحشية لا يستبعد مثلها من أعداء الإسلام (4) .
و رغم أن دور المرأة المسلمة في الحرب الأخيرة كان أقل من هذا بكثير - لأنها كانت هدفاً و ضحية من ضحاياه ، و عرضةً لأفظع أنواع التعذيب و الإذلال جسمياً و نفسيّاً - فقد تأثرت تأثراً كبيراً بمسيرة الجهاد و المجاهدين في بلادها .
و ترك الجهاد و المجاهدون في حياة المرأة المسلمة أثراً لا يُنكره إلا مكابر ، حيث شهدت البلاد عودة الحجاب الشرعي من جديد ، و بعد أن اعتبر الحجاب الإسلامي مظهراً شاذاً و خارجاً عن المألوف في المجتمع البوسنوي ، و لم تعد ترتديه إلا ندرة من النساء المسلمات أو تعرفه إلا نساء بعض الأئمة و العُلماء ، عاد و دخل مُعظم البيوت ، و أقبلت عليه الفتيات المسلمات حتى الصغيرات اللاتي في سن التمييز منهن بشغف ، و أصبح من المظاهر التي لا تغيب عن العين في مُدن البوسنة و شوارعها 0
__________
(1) ... انظر : الدكتور محمد حرب : الإسلام في آسيا الوسطى و البلقان 218 - 219 .
(2) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 475 ، 476 .
(3) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 476 .
(4) ... انظر : الدكتور محمد الأرناؤوط : الإسلام في يوغسلافيا من بلغراد إلى سراييفو ، ص : 184 .(/6)
تقول الكاتبة فخيرة جنكيتش السالفة الذكر أيضاً : شهدت السنوات الأخيرة عودة ملموسة إلى الإسلام من قبل النساء عندنا ، و ظهر جليا التزامهن بالحجاب الإسلامي ، و تمسكهن بالتقاليد و الآداب الإسلامية و خصوصا في المدارس ... لقد سعى النظام الشيوعي السابق إلى إبعاد نساءنا عن الهوية الإسلامية الأصيلة . فعلى سبيل المثال كانت كلّ صورة شخصية بالحجاب مرفوضة من قبل الدوائر الرسمية و مؤسسات الدولة ، و لا تصلح لإصدار بطاقة الأحوال المدنية أو الهوية الشخصية ، أو جواز السفر . و لكن بعد اندلاع الحرب أخذ الاحساس بالروح الإسلامية يتنامى لدى النساء و بدأت مرحلة جديدة من العودة إلى الروح الإسلامية الأصيلة على كافة الصعد (1) .
نعم لقد عادت الكثيرات من المسلمات إلى ما كانت عليه السابقات من الحشمة و العفة ، فظهرت في ميادين سراييفو و مدن البوسنة الأخرى المسلمات متلفِّعات بالسواد ، ما بين محتجبةٍ و منتقية .
و عاد النقاب إلى البوسنة في كنف الجهاد ، و كان أعظم الأثر في عودته للمجاهدين العرب – و عامَّتهم من الحنابلة – الذين يرون وجوب النقاب .
و من خلال الدعوة المواكبة للجهاد ، ظهر النقاب بقوة حينما ارتدته مئات البوسنويات ، و بخاصَّة زوجات المجاهدين ، و المتأثرات بهم ، و ما أكثرهن !
و لم تكن عودة النقاب بدعةً محدثةً في حياة المسلمات البوسنويات ، و لكنه عودة إلى الجذور ، و تمسك بالأصول التي كانت عليها البوسنويَّات الأوليات في البوسنة ، بحسب ما يراه أنصاره (2).
أمَّا المشيخة الإسلامية التابعة لرئيس علماء البوسنة و الهرسك ، و المؤسسات التابعة لها كالكلية و المعاهد و المدارس الإسلامية ؛ مُمثَّلة في دُعاتها القدامى و من تربى على أيديهم ، فقد أوصدت أبوابها في وجه النساء المنتقبات (3) ، و تصدت لدعاة النقاب مُشككةً في علمهم و خبرتهم تارةً ، و متهمة لهم بتشويه صورة الإسلام تارة و التبعية للدعوة السلفية ( التي تُعارضها المشيخة ) تارةً أخرى .
و يرى أتباع المشيخة الإسلاميَّة أن مسألة النقاب تتجاذبها أدلَّة شرعية ، و أعراف و تقاليد بشرية ، و بالتالي فهم لا يُسلِّمون بكونها مسألة شرعية محضة لها ما يؤيِّدها في الكتاب و السنة ، و هم لا يخصون بهذه النظرة النقاب ، بل يقولون القول ذاته فيما يخصُّ الاختلاط ، و مسائل أُخرى تتعلّق بالمرأة المسلمة ، و بحسب نظرتهم فإنَّ (( وضع المرأة المسلمة اليوم يأتي نتيجة تأثير مشترك للشريعة الإسلاميَّة من جهة ، و العرف و الذوق و المستوى الأخلاقي للبيئة التي تعيش فيها من جهةٍ أخرى . . . فتغطية وجه المرأة أمر غير معروف في بعض البلدان ، في حين ترقى هذه المسألة في بلدان أخرى إلى مستوى الواجب الديني ، و يُدافع عنها بالأدلة
الشرعيَّة )) (4) .
و يعتبرها بعضهم من مظاهر تسلُّط الرجل على المرأة و استغلاله ( و ربما استعباده ) لها ، حيث (( كان يحبسها داخل البيت ، بعيداً عن الحياة و المجتمع ، و يسدل على رأسها الجلباب و النقاب ، حتى لا نتمكن من رؤية ما يجري حولها ، و يتهاون في تعليمها ، فظلت جاهلةً متخلفة )) (5) .
و بين الطرفين برز اتجاه وسطي يُقرُّ الأمرين ، و لا يُنكر على ذات خمار أو نقاب ، ما دام الأمران مستندين إلى أدلَّة شرعيَّة ، و قد قال بكلٍ منهما أئمة فقهاء ، و ارتضاهما جهابذة العلماء ، مؤثراً الانشغال بمسائل أخرى كدعوة غير المحجبات إلى الحجاب ، و تعليم الفتيات المسلمات أمور دينهن .
المبحث الثاني
حال المرأة البوسنويَّة المسلمة في ميزان السنة النبويَّة
بعد هذا العرض لحال المرأة المسلمة في البوسنة و الهرسك و التزامها بدينها و ما مرت به من ظروف و تحولات أثرت على انتسابها إلى الإسلام و التزامها بأحكامه سلباً و إيجاباً خلال قرن من الزمن تقريباً ، يمكننا أن نحصر البحث في ثلاث نقاط رئيسة هي :
الالتزام بالزي الشرعي ( كالحجاب و النقاب و ما إليهما ) .
الالتزام بالآداب الشرعية في الحياة الاجتماعية ( كعدم التشبه أو الاختلاط بالرجال في العمل و غيره ) .
التقيد بأحكام الشرع في الأحوال الشخصية ( كالتحلي بالعفة واشتراط موافقة الولي في النكاح ، و عدم الاقتران بغير المسلمين ) .
__________
(1) ... انظر : محمد قاروط : المسلمون في يوغسلافيا ، ص : 475 ، 476 .
(2) ... انظر : سنايد زعيموفيتش : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، ص : 4 .
(3) ... كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو ، و مدرسة الغازي خسرو بيك ، و سائر المدارس الشرعيَّة عدا الأكاديميّة الإسلامية في زينتسا تشترط خلع النقاب لقبول الطالبة للدراسة فيها بصفة منتظمة ، بينما تتساهل مع الطالبات المنتسبات بهذا الخصوص ، شريطة أن ينزعن النقاب في قاعات الامتحان النهائي . ( الباحث ) .
(4) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك 32 .
(5) ... الإسلام و العصر ، لحسين جوزو , ص : 212 .(/7)
و من خلال عرض حال المرأة المسلمة في البوسنة في هذه المجالات الثلاث على نصوص السنة النبوية يمكننا الوقوف على مدى التزامها بالهدي النبوي الكريم و هو ما سنبيِّنه من خلال المطالب التالية :
المطلب الأول : استدلال الدعاة البوسنويُّين بنصوص السنة النبويَّة في مجالات التزام المرأة المسلمة في البوسنة :
المقصد الأوّل - استدلال الدعاة البوسنويين بالسنة في دعوتهم إلى الحجاب و النقاب .
مع عودة النقاب إلى البوسنة و ظهوره بشكل ملحوظ في ملتزمة الحرب الأخيرة من النساء ، ظهرت كتابات كثيرة تؤيِّد القول بوجوب النقاب ، منها القديم الذي أعيد نشره ، و منها ما كتب حديثاً ، و الكلُّ من رسول الله مُقتبسٌ (1) .
و من أجود ما عرفته المكتبة الإسلاميَّة في البوسنة في هذا الباب كتاب تحت عنوان ( غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ) تأليف الحافظ سنايد زعيموفيتش ، و قد أشار في مطلعه إلى ما يؤيد قولنا و ذكر شهادات من ذكرنا على أنَّ النقاب ليس بدعاً في حياة المسلمات البوسنويات بل هو قديم قِدَم الفتح الإسلامي لبلادهن (2) .
و قد جمع المؤلف في هذا الكتاب عدّة آيات من القرآن الكريم ، ليس في أيِّ منها دلالة صريحة على وجوب النقاب ، ممَّا جعله يشفعها بطائفةٍ من أدلة السنة النبويَّة الشريفة ، تؤيد قوله ، و تجلي النزعة الحديثيَّة في دراسته ، حيث رواها مسندة ، باللغة العربية ، ثمَّ ترجمها إلى اللغة البوسنويَّة ، و خرَّجها من كتب الحديث المعتبرة ، و بيّن درجتها في ضوء أقوال أهل العلم القدامى و المعاصرين ، و
وجه دلالتها على المقصود ، و اعتراضات المخالفين ـ إن وُجدت ـ ثمَّ مناقشتها و الردُّ عليها .
فجاء عرضه على النحو التالي :
أوَّلاً : إيراد حديثين صريحين في الدلالة على وجوب احتجاب النساء عن الرجال و هما :
1 ) عن عبد الله بن مسعود ( ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان )) (3) .
و هذا نصٌ في المسألة – بحسب رأي القائلين بوجوب النقاب – لأنَّ التعريف بالألف و اللام يفيد العموم و الاستغراق ، و عليه فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المرأة عورة )) عامٌ ، لا يُستثنى منه وجهٌ و لا كفَّان و لا أيّ شيءٍ آخر .
2 ) عن الجعد أبي عثمان(4) ، عن أنس بن مالك ( ، قال : (( تزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بأهله ، قال فصنعت أمي أم سليم(5)
__________
(1) ... من علماء البوسنة الذين انتصروا للنقاب في كتاباتهم كلٌ من محمد بيكوفيتش ، و عبد الله عيني بوشاتليتش ، و و أحمد لطفي جوكيتش ، و و إبراهيم حقي جوكيتش ، و عبد اللطيف ديزدارفيتش ، و إبراهيم جافيتش ، و و أحمد جوميشيتش ، و مصطفى فورتو ، و علي قرة بيك ، و كثيرٌ غيرهم . ( الباحث ) .
... للاستزادة ، انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 5-6 .
(2) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 4 .
(3) ... ا نظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 22 .
و الحديث صحيح :
أخرجه الترمذي ( 1173 ) في الرضاع ، باب منه رقم ( 18 ) ، البزار في " مسنده " 5 / 427 ( 2061 ) و ابن خزيمة في " صحيحه " ( 1685 و 1687 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " 12 / 413 ( 5599 ) ، و الطبراني في " الكبير " 10 / 132 ( 10115 ) ، و ابن عدي في الكامل 3 / 423 من طرق عن قتادة ، عن مورق العجلي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد رجاله ثقات ، صحيح على شرط مسلم ، و أبو الأحوص ، هو : عوف بن مالك بن نضلة . و همام ، هو : ابن يحيى العوذي .
و الحديث صححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و قال فيه الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) .
و قال الدارقطني في " العلل " 5 / 314 – 315 ( 905 ) بعد أن ذكر الاختلاف في إسناده على قتادة و غيره في رفعه و وقفه : ( و رفعه صحيح من حديث قتادة ) .
و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 2 / 35 : ( رواه الطبراني في الكبير ، و رجاله موثقون ) .
(4) ... الجعد أبو عثمان هو : الجعد بن دينار اليشكري ، الصيرفي ، البصري , صاحب الحلي . قال ابن معين :
( ثقة ) , و روى له الجماعة سوى ابن ماجة .
انظر : العلل لأحمد 1 / 161 , 163 , التاريخ الكبير للبخاري 2 / 239 , تهذيب الكمال 4 / 560 .
(5) ... أم سليم رضي الله عنها : هي الغميصاء , و يقال : الرميصاء ، بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام ، الأنصارية ، الخزرجية ، أم أنس ( خادم الرسول ( ، شهدت حنين و أحد , تزوجها أبو طلحة الأنصاري ( , و كان صداقها إسلامه , بشرها النبي ( بالجنة , و كان ( يقيل في بيتها .
انظر ترجمتها في : طبقات ابن سعد 8 / 424 , سير أعلام النبلاء 2 / 304 .(/8)
حيساً فجعلته في تَوْر(1) فقالت : يا أنس ! اذهب بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقل : بعثت بهذا إليك أمي ، و هي تقرئك السلام و تقول : إن هذا لك منَّا قليل يا رسول الله . قال : فذهبت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إن أمي تقرئك السلام و تقول إن هذا لك منَّا قليل يا رسول الله . فقال : ضعه . ثم قال : اذهب فادع لي فلاناً و فلاناً و فلاناً و من لقيت ، و سمى رجالاً . قال : فدعوت من سمى و من لقيت ، قال الجعد : قلت لأنس عدَدَ كم كانوا ؟ قال : زهاء ثلاث مائة ، و قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أنس هات التَور . قال : فدخلوا حتى امتلأت الصُّفة و الحجرة ، فقال رسول الله ( : ليتحلق عشرة عشرة ، و ليأكل كل إنسان مما يليه . قال : فأكلوا حتى شبعوا . قال فخرجت طائفة و دخلت طائفة حتى أكلوا كلهم ، فقال لي : يا أنس ارفع ، قال : فرفعت فما أدري حين و ضعت كان أكثر أم حين رفعت ، قال : و جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس و زوجته مُولِّية و جهها إلى الحائط . فثقلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم على نسائه ثم رجع ، فلمّا رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رجع ظنُّوا أنهم قد ثقلوا عليه . قال : فابتدروا الباب فخرجوا كلهم و جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أرخى الستر و دخل و أنا جالس في الحجرة ، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليَّ و أنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قرأها على الناس : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } ] الأحزاب : 53 [ إلى آخر الآية ، قال الجعد : قال : أنس بن مالك أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآية و حجبن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - )) (2) .
و دلالة هذا الحديث على المراد من جهتين :
أولاهما : فعل أمّ المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كانت كما قال الراوي : (( مولِّيةً وجهها إلى الحائط )) .
و ثانيهما : قول أنس بن مالك ( ، بعد : (( و حُجبن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - )) بعدنزول الآية الكريمة .
فإذا كان هذا حال نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - و هنَّ أمهات المؤمنين ، فغيرهن من النساء المؤمنات أولى بالاحتجاب عن الرجال الأجانب .
ثانياً : إيراد أحاديث تدل بطريق قياس الأولى على وجوب احتجاب النساء عن الرجال ، و منها :
1 )عن أم سلمة(3) رضي الله عنها أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و
ميمونة رضي الله عنها (4)
__________
(1) ... التور : إناء من نحاس أو حجارة مثل الإجانة ، و قد يتوضأ منه . انظر " النهاية " لابن الأثير 1 / 199.
(2) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 23-24 .
و الحديث : أخرجه البخاري ( 5163 ) في النكاح ، باب : الهدية للعروس ، و مسلم ( 1428 ) في النكاح باب : زواج زينب بنت جحش ، و نزول الحجاب . و اللفظ الوارد لفظ البخاري .
(3) ... أم سلمة رضي الله عنها ، أم المؤمنين ، هي : هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومية , بنت عم خالد بن الوليد ( ، و أبو جهل بن هشام , من المهاجرات الأول , كانت قبل النبي ( عند أخيه من الرضاعة أبو سلمة المخزومي , تزوجها النبي ( سنة 4 هـ / 625 م , وكانت من أجمل النساء =
= ... و أشرفهن نسبا , و من فقهاء الصحابة ، وهي أول امرأة دخلت المدينة مهاجرة , و هي آخر من مات من أمهات المؤمنين سنة 61 هـ / 681 م ، عاشت نحوا من 90 سنة .
انظر ترجمتها في : مسند أحمد 6 / 288 , طبقات ابن سعد 8 / 86 , سير أعلام النبلاء 2 / 201 .
(4) ... ميمونة رضي الله عنها هي : أم المؤمنين بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم الهلالية , أخت أم الفضل زوجة العباس , وخالة خالد بن الوليد و ابن عباس - رضي الله عنهم - , تزوجها النبي ( سنة 7 هـ / 628 م بعد عمرة القضاء بسرف , وكانت من سادات النساء , ماتت سنة 51 هـ / 671 م ، و لها 80 سنة .
انظر ترجمتها في : طبقات ابن سعد 8 / 132 , أسد الغابة 7 / 272 , سير أعلام النبلاء 2 / 238 .(/9)
، قالت : (( فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم(1) فدخل عليه ، و ذلك بعد ما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا و لا يعرفنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه )) (2) .
و وجه الدلالة في هذا الحديث أن احتجاب المرأة عن الأجنبي البصير أولى من احتجابها عن الأعمى الضرير الذي لا يراها .
2 ) و عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( من جرَّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه )) قالت أم سلمة رضي الله عنها - يا رسول الله فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال : (( ترخينه شبراً )) قالت - إذاً تنكشفُ أقدامهن . قال : (( ترخينه ذراعاً لا تزدن عليه )) (3)
__________
(1) ... ابن أم مكتوم - رضي الله عنه -، هو : الصحابي الجليل عبد الله , و قيل عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري , مؤذن الرسول ( , مع بلال , و سعد بن القرظ , و أبي محذورة مؤذن مكة - رضي الله عنهم - ، وهو من السابقين المهاجرين هاجر بعد غزوة بدر بيسير , وكان النبي ( يحترمه , ويستخلفه على المدينة , فيصلي ببقايا الناس , وفيه نزل قوله تعالى { غير أولي الضرر } , و قوله { عبس و تولى } , شهد القادسية و كانت سنة 15 هـ / 636 م , وكان يقاتل وعليه درع حصينة سابغة , وقيل استشهد يومها , وقيل مات بعدها بالمدينة , فالله أعلم .
انظر ترجمته في : حلية الأولياء 2 / 4 , أسد الغابة 4 / 263 , سير أعلام النبلاء 1 / 360 , الإصابة 5764 .
(2) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص: 28 .
... و الحديث إسناده فيه مقال ، ثم إن ظاهر متنه معارض بأحاديث صحيحة ثابتة ، و قد جمع بينها بعض أهل العلم :
أخرجه أحمد 6 / 296 ، و أبو داود ( 4112 ) في اللباس ، باب : في قوله عز وجل { و قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } ، و الترمذي ( 2778 ) في الأدب ، باب : ما جاء في احتجاب النساء من الرجال و النسائي في عشرة النساء كما في " التحفة " 13 / 35 ، و أبو يعلى في " مسنده " 12 / 353 ، و ابن حبان ( 5575 ) ، و الطحاوي في ( مشكل الآثار " ( 288 و 289 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 7 / 91 – 92 ، و في الآداب ( 886 ) من طريق الزهري ، عن نبهان ، عن أم سلمة به .
و قال الترمذي : ( حديث حسن صحيح ) .
قلت : بل فيه نبهان مولى أم سلمة ، لم يرو عنه غير الزهري ، و محمد بن إبراهيم ، ولم يوثقه سوى ابن حبان في " ثقاته " 5 / 486 ، على قاعدته في توثيق المجاهيل . =
= ... قال الإمام أحمد : ( نبهان روى حديثين عجيبين ) . يعني : هذا الحديث ، و حديث (( إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه )) . قال ابن قدامة في " المغني " 6 / 564 تعقيباً قول الإمام أحمد : ( كأنه أشار إلى ضعف حديثه ؛ إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول ) .
و نقل ابن مفلح في " المبدع " 7 / 11 تضعيفه عن أحمد .
و قال ابن عبد البر في نبهان : ( مجهول ، لا يعرف إلا برواية الزهري عنه ) .
و قال ابن حزم – كما في المغني 2 / 694 للذهبي - : ( مجهول ) .
و قال ابن حجر في " التقريب " ( 7092 ) : ( مقبول ) .
و قال عن الحديث في " الفتح " 1 / 550 : ( هو حديث مختلف في صحته ) .
و قال عنه النووي في " شرح مسلم " 10 / 97 : ( حديث حسن ، رواه أبو داود و الترمذي و غيرهما ، قال الترمذي : هو حديث حسن ، و لا يلتفت إلى من قدح فيه بغير حجة معتمدة ، أما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم ، فليس فيه إذن لها في النظر إليه ، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها ، و هي مأمورة بغض بصرها ، فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة ) .
و قال ابن قدامة في " المغني " 6 / 563 بعد أن ذكر الخلاف في المسألة : ( و لنا قول النبي ( لفاطمة بنت قيس : " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ؛ فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك فلا يراك " متفق عليه ، و قالت عائشة : ( كان رسول ( يسترني بردائه و أنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ) متفق عليه ، و يوم فرغ النبي ( من خطبة العيد " مضى إلى النساء ، فذكرهن و معه بلال ، فأمرهن بالصدقة ) ، و لأنهن لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب ، كما وجب على النساء ، لئلا ينظرن إليهم ) .
و نقل عن الأثرم : ( قلت لأبي عبد الله – يعني أحمد - : كان حديث نبهان لأزواج النبي ( خاصة ، و حديث فاطمة لسائر الناس ؟قال : نعم ، و إن قدر التعارض ، فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال ) .
و من أراد التوسع ، فلينظر : تأويل مختلف الحديث ، لابن قتيبة ص 225 ، التمهيد ، لابن عبد البر 19 / 154 – 155 ، تلخيص الحبير ، لابن حجر 3 / 148 ، نيل الأوطار ، للشوكاني 6 / 248 .
(3) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 29 . =
= ... و الحديث صحيح :
أخرجه الترمذي ( 1731 ) في اللباس ، باب : ما جاء في جر ذيول النساء ، و النسائي 8 / 209 في " المجتبى " في الزينة ، باب : ذيول النساء ، و في " الكبرى " ( 9735 ) باب : ذيول النساء ، و معمر في " الجامع " 11 / 82 من طريق أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات ، رجال الصحيحين .
قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ) .
و للحديث عن نافع طرق أخرى ، منها :
ما أخرجه مالك في " الموطأ " ( 13 ) في اللباس ، باب : ما جاء في إسبال المرأة ثوبها ، وأحمد 6 / 295 و 309 ، و الدارمي في اللباس ، باب ذيول النساء ، و أبو داود ( 4117 ) في اللباس ، باب : في قدر الذيل ، النسائي 8 / 209 ، و في الكبرى ( 9740 و 9741 ) ، و أبو يعلى ( 6891 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 5451 9 ) ، و الطبراني في " الكبير " 23 / 416 ( 1007 ) ، و البيهقي في " الشعب " 5 / 149 ( 6143 ) ، من طرق عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، عن أم سلمة به .
و أخرجه أحمد 6 /293 و 315 ، و أبو داود ( 4118 ) في اللباس ، باب : في قدر الذيل ، و النسائي في " المجتبى " 8 / 209 ، و في " الكبرى " ( 9742 ) ، و ابن ماجه ( 3580 ) في اللباس ، باب : ذيل المرأة كم يكون ، و أبو يعلى ( 6890 ) ، و ابن أبي شيبة 8 / 408 ، و الطبراني في " الكبير " 23 / 384 ( 916 ) و البيهقي في " الشعب " ( 6142 ) من طرق عن عبيد الله العمري ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار ، عن أم سلمة به .
و أخرجه النسائي في " المجتبى " 8 / 209 ، و في " الكبرى " ( 9737 ) من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن نافع ، عن أم سلمة به .(/10)
.
... ... فإذا كان هذا التشديد كلّه على وجوب ستر قدمي المرأة ، و لو بسدل ذيلٍ بقدر ذراعٍ عليهما ، فمن باب أولى المبالغة في ستر وجها الذي هو مجمع حسنها ، و أدعى للافتتان بها .
3 ) ... عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعَتَها لزوجها كأنّه ينظر إليها )) (1) .
ثالثاً : إيراد أحاديث تدل بطريق المخالفة على وجوب احتجاب النساء عن الرجال ، و قد أورد المؤلِّف ثلاثة أحاديث في هذا السياق ، و هي :
عن المغيرة بن شعبة (2) - رضي الله عنه - قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له امرأة أخطبها فقال اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتُها إلى أبويها و أخبرتهما بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنهما كرها ذلك ، قال فسمعت ذلك المرأة و هي في خدرها ، فقلت : إن كان رسول - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تنظر فانظر و إلا فأنشدك كأنها أعظمت ذلك ، قال : فنظرت إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها )) (3) .
عن محمد بن مسلمة (4)
__________
(1) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 34 .
و الحديث : أخرجه البخاري ( 5240 ) في النكاح ، باب : لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها ، و أبو داود ( 2150 ) في النكاح ، باب : ما يؤمر به من غض البصر , و الترمذي ( 2793 ) في الأدب ، باب : ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل ، و المرأة المرأة .
(2) ... المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - : هو ابن أبي عامر بن مسعود الثقفي , الأمير ، أبو عيسى , كذا كناه النبي ( , من كبار الصحابة أولي الشجاعة و المكيدة , أسلم عام الخندق , و شهد بيعة الرضوان , و كان رجلا طوالا مهيبا , ذهبت عينه يوم اليرموك , وقيل : يوم القادسية , ولي العراق لعمر - رضي الله عنه - ، و كان قد اعتزل الفتنة ، فلما صار الأمر لمعاوية كاتبه ، فولاه الكوفة ، فبقي عليها حتى مات - رضي الله عنه - سنة 50 هـ / 670 م , و له 70 سنة .
انظر ترجمته في : تارخ بغداد 1/ 191 , طبقات ابن سعد 4 / 284 , 6 / 20 , سير أعلام النبلاء 3 / 21 الشذرات 1 / 245 .
(3) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 31 .
و الحديث صحيح :
أخرجه الترمذي ( 1087 ) في النكاح ، باب : ما جاء في النظر إلى المخطوبة ، و النسائي 6 / 69-70 في النكاح ، باب : إباحة النظر قبل التزويج ، و عبد الرزاق في " المصنف " 6 / 156 ( 10335 ) ، و ابن أبي شيبة في " مسنده " 4 / 244 ، وأحمد 4 / 244-245 و 246 ، و سعيد بن منصور في " سننه " ( 516 و 518 ) ، و الطبراني في " الكبير " 20 / 433 ، 434 ( 1052 و 1053 و 1055و 1056 ) ، و الدارمي في " سننه " 2 / 134 , و ابن الجارود في " المنتقى " ص 226 , 227 ( 675 ) , و الدارقطني في " سننه " 3 / 252, و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3 / 14 , و البيهقي في "الكبرى " 7 / 84 , 85 ، من طريق ثابت البناني ، و عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد صحيح .
و ذكر الدارقطني في " العلل " 7 / 137 – 139 ( 1260 ) الاختلاف في طرقه ثم قال : ( و مدار الحديث على بكر بن عبد الله المزني . قيل : سمع من المغيرة ؟ قال : نعم ) . =
= ... و قال الترمذي : ( هذا حديث حسن ) .
و أخرجه ابن ماجه ( 1865 ) في النكاح ، باب : النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4043 ) ، و ابن الجارود ( 676 ) ، و الدارقطني 3 / 253 ، و الحاكم 2 / 165 ، و البيهقي 7 / 84 من طرق عن عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، عن المغيرة - رضي الله عنه - به .
قال ابن حجر في " التلخيص " 3 / 168 : ( حديث أنس صححه ابن حبان ، و الدارقطني ، و الحاكم ، و أبو عوانة ، و هو في قصة المغيرة أيضا ) . ثم ذكر له شواهد عن جابر - رضي الله عنه - و غيره .
(4) ... محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - هو : ابن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة , أبو عبد الله , الأنصاري الأوسي الحارثي شهد بدرا و المشاهد كلها , استخلفه النبي ( على المدينة عام تبوك , و استعمله عمر - رضي الله عنه - على زكاة جهينة و كان عمر - رضي الله عنه - إذا شكي إليه عامل أنفذ محمدا - رضي الله عنه - إليهم ليكشف أمره , شهد فتح مصر ، و كان ممن اعتزل الفتنة , ولم يحضر الجمل , ولا صفين , بل اتخذ سيفا من خشب ، و تحول إلى الربذة فأقام بها مدة , مات سنة 43 هـ / 663 م ، عن 77 سنة .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد : 3 / 443 , 445 , تاريخ الفسوي : 1/ 307 سير أعلام النبلاء 2 / 369 .(/11)
- رضي الله عنه - قال : خطبتُ امرأةً فجعلتُ أتخبَّأُ لها حتى نظرت إليها في نخل لها ، فقيل له : أتفعل هذا و أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ألقى الله في قلب امرئ خِطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها )) (1) .
عن أبي حميدٍ(2) ( أو حميدة ) - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا خطب أحدكم امرأةً فلا جناح عليه أن ينظر إليها ، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته و إن كانت لا تعلم )) (3) .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال : (( لا تنتقب المرأة المحرمة و لا تلبس القفازين )) (4).
و من الظاهر أن وجه دلالة أحاديث الترخيص في نظر الخاطب إلى مخطوبته ، على المراد ؛ أنه لو لم يكن الأصل في ستر وجه المرأة الوجوب ، لما كان ثمَّة معنىً للترخيص في نظر الخاطب خاصَّةً .
أمَّا وجه دلالة حديث نهي المحرمة عن لبس النقاب و القفازين ، فهو أنَّ تقييد النهي بحالة الإحرام يدلُّ بطريق المخالفة على أن النهي يرتفع بمجرَّد ارتفاع حالة الحظر ، و لو لم يكن الأصل في ستر المرأة وجهها الوجوب – أو الاستحباب على أقلِّ تقدير – لما كان للنهي عنه في حالة الإحرام داع .
__________
(1) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 33 .
و الحديث إسناده ضعيف :
أخرجه ابن ماجه ( 1864 ) في النكاح ، باب : النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ، و سعيد ابن منصور في " سننه " ( 519 ) ، و ابن أبي شيبة في " مصنفه " 4 / 356 ، و أحمد 3 / 493 و 4 / 225 ، و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3 / 13 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4042 ) من طرق الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة ، عن عمه سهل ( و في الطحاوي : سليمان ) بن أبي حثمة ، عن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - به .
و فيه الحجاج بن أرطاة :كثير الخطأ و التدليس ، كما قال ابن حجر في " التقريب " ( 1119 ) ، و لم يصرح بالتحديث ، و قد اختلف عليه في إسناده على وجوه أخرى .
و سهل بن أبي حثمة ، و عمه سليمان بن أبي حثمة : لم يوثقهما غير ابن حبان في " ثقاته " 6/ 406 و 385 . =
= ... و أخرجه البيهقي 7 / 85 من طريق الحجاج ، عن ابن أبي مليكة ، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة ، بالإسناد السابق ، و قال : ( هذا الحديث إسناده مختلف فيه ، و مداره على الحجاج بن أرطاة ) .
و أخرجه الحاكم 3 / 434 من طريق إبراهيم بن صرمة , عن يحيي بن سعيد الأنصاري , عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة به . و قال : ( هذا حديث غريب , و إبراهيم بن صرمة ليس من شرط هذا الكتاب ) .
فتعقبه الذهبي بقوله : ( ضعفه الدارقطني , و قال أبو حاتم : شيخ ) .
و أخرجه الطيالسي ( 1186 ) من طريق حماد بن سلمة , عن الحجاج , عن محمد بن أبي سهل , عن أبيه قال : رأيت محمد بن مسلمة . فذكره .
و أخرجه أحمد 4 / 226 من طريق وكيع , عن ثور , عن رجل من أهل البصرة , عن محمد بن مسلمة .
(2) ... أبو حميد أو أبو حميدة - رضي الله عنه - ، ذكره البلاذري و غيره في الصحابة ، و قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " 7 / 46 : ( الظاهر أنه غير الساعدي ، إذ لو كان هو لم يشك زهير بن معاوية فيه ) .
(3) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 33 .
و الحديث صحيح :
أخرجه أحمد 5 / 424 ، و البزار في " مسنده " 9 / 165 – 166 ( 3714 ) ، و الطبراني في " الأوسط " 1 / 498 – 499 ( 915 ) ، من طريقين : زهير بن معاوية ، و قيس بن الربيع ، عن عبد الله بن عيسى ، عن موسى بن عبد الله ، عن أبي حميد - رضي الله عنه - به .
و تابعهما إسحاق بن راهويه في " مسنده " – كما في " نصب الراية " 4 / 242 – عن عيسى بن عبد الله به . قلت : هذا إسناد صحيح ، رجاله رجال مسلم ؛ عبد الله بن عيسى ، هو : ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري ثقة ، روى له الجماعة ، كما في " التقريب " ( 3523 ) .
و موسى بن عبد الله ، هو : ابن يزيد الخطمي ، ثقة روى له مسلم ، كما في " التقريب " ( 6984 ) .
و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 4 / 276 : ( رواه أحمد إلا أن زهيرا شك ، فقال : أبي حميد أو أبي حميدة ، و البزار من غير شك ، و الطبراني في الأوسط و الكبير ، و رجال أحمد رجال الصحيح ) .
(4) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 38 .
و الأثر صحيح موقوفا و مرفوعا :
أخرجه مالك في " الموطأ " 1 / 328 في الحج ، باب : تخمير المحرم وجهه ، عن نافع عن ابن عمر به . =
= ... و هذا من أصح الأسانيد .
و رواه البخاري مرفوعا من حديث ابن عمر أيضا به ( 1838 ) في جزاء الصيد ، باب : ما ينهى من الطيب للمحرم و المحرمة .(/12)
ثالثاً : إيراد بعض الأخبار الدالة على احتجاب النساء عن الرجال في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كان ذلك باعتزال مجالس الرجال أو بإسدال النقاب ، و من هذه الأخبار :
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : (( كان الرجال يمرُّون بنا و نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرماتٌ ، فإذا حاذَوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه )) (1) .
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : (( كُنَّ نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس )) (2) .
روى ابن هشام(3) عن أبي عون(4)ٍ قال - (( كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجَلبٍ لها فباعته بسوق بني قينقاع ، و جلست إلى صائغٍ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت . فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا منها ، فصاحت . فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله و كان يهودياً ، و شدّت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون . فوقع الشرّ بينهم و بين بني قينقاع )) (5)
__________
(1) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 38 .
و الحديث فيه ضعف :
أخرجه أحمد 6 / 30 ، و من طريقه أبو داود ( 1833 ) في الحج ، باب : المحرمة تغطي وجهها ، و من طريقهما البيهقي في " السنن الكبرى " 5 / 48 عن هشيم ، أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد عنها .
و تابع هشيم ، ثلاثة : محمد بن فضيل بن غزوان ، و عبد الله بن إدريس ، و جرير . الأولان : عند ابن ماجه ( 2935 ) في المناسك ، باب : المحرمة تسدل الثوب على وجهها ، و الأخريان ، و هشيم أيضا : عند ابن خزيمة في " صحيحه " ( 2691 ) .
قال ابن خزيمة : ( قد روي عن يزيد بن أبي زياد و في القلب منه ) . =
= ... و قال البيهقي : ( و كذلك رواه أبو عوانة ، و محمد بن فضيل ، و علي بن عاصم ، عن يزيد بن أبي زياد . و خالفهم ابن عيينة فيما روي عنه ، عن يزيد ، فقال : عن مجاهد ، قال قالت : أم سلمة ) .
و قال الخطابي في " مختصر السنن " 2 / 354 : ( ذكر شعبة ، و يحيى بن سعيد القطان : أن مجاهدا لم يسمع من عائشة ، و قال أبو حاتم الرازي : مجاهد عن عائشة مرسل . و قد أخرج البخاري و مسلم في صحيحيهما من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث ، و فيها ما هو ظاهر في سماعه منها ، و في إسناده يزيد بن أبي زياد ، و قد تكلم فيه غير واحد ، و أخرج له مسلم في جماعة غير محتج به ) . ا هـ .
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 2 / 32 : ( و في إسناده يزيد بن أبي زياد : ضعيف وقد قال فيه مرة عن مجاهد , عن عائشة , و مرة عن أم سلمة , كذا في الدارقطني , و الطبراني ) .
و قال أيضا في " تلخيص الحبير" 2 / 272 : ( و أخرجه ابن خزيمة ، و قال : " في القلب من يزيد بن أبي زياد ". و لكن ورد من وجه آخر , ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر , عن أسماء بنت أبي بكر , و هي جدتها نحوه . و صححه الحاكم ) .
(2) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 40 .
... و الحديث أخرجه البخاري ( 372 ) في الصلاة , باب : في كم تصلي المرأة من الثياب , و ( 578 ) في مواقيت الصلاة , باب : وقت صلاة الفجر , و ( 867 ) في الأذان , باب : انتظار الناس قيام الإمام العالم , و ( 872 ) في الأذان ، باب : سرعة انصراف الناس من الصبح ، و مسلم في المساجد , ( 645 ) (232 ) في المساجد , باب : استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها و هو التغليس و بيان قدر القراءة فيها .
(3) ... ابن هشام هو : عبد الملك بن هشام بن أيوب أبو محمد الذهلي السدوسي الحميري المعافري ، البصري , العلامة النحوي الإخباري , ولد بالبصرة ، ثم رحل إلى مصر ، و أقام بها ، هذب السيرة النبوية لابن إسحاق و له مصنف في أنساب حمير و ملوكها , و كان علامة أهل مصر بالعربية و الشعر , توفي سنة 218 هـ / 899 م .
انظر ترجمته في : وفيات الأعيان 3 / 177 , و سير أعلام النبلاء 10 / 428 ، و الوافي بالوفيات 6 / 26 ، و البداية و النهاية 10 / 281 ، و بغية الوعاة 2 / 115 .
(4) ... أبو عون ، هو : الدوسي ، المدني ، مولى المسور بن مخرمة الزهري ( ، روى عن المسور بن مخرمة ، و رأى ابن الزبير ( ، روى عنه ابنه شراحبيل ، و عبد الله بن جعفر المخرمي . =
= ... انظر : ترجمته في : تعجيل المنفعة , ص : 509 .
(5) ... انظر : غطاء الوجه بين الوجوب و الاستحباب ، لسنايد زعيمو فيتش ، ص : 35 ، 36 .
و الأثر إسناده ضعيف :
أخرجه ابن هشام في " سيرته " 3 / 5 ، قال : و ذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة ، عن أبي عون – فذكره .
قلت : و إسناده ضعيف ، للإرسال ، فإن أبا عون تابعي ، و لم يرو عنه سوى ابنه شراحبيل ، و عبد الله بن جعفر ، و لم يرد فيه جرح و لا تعديل . انظر : التعليق السابق .
أما عبد الله بن جعفر : فليس به بأس ، كما في " التقريب " ( 3252 ) .(/13)
.
فهؤلاء أمهات المؤمنين ، و نساء عهد النبوَّة الصحابيَّات الطاهرات ، يحتجبن عن الرجال إذا حاذوهنَّ ، بإسدال النقب على وجوههن ، و يخرجن مُغلساتٍ حتى لا يعرفهنّ الرجال .
و هذه إحداهن لا تضع النقاب عن وجهها في سوق عامّة تجّاره و روّاده من اليهود ، و يؤدي ذلك بتداعياتهو ما ترتب عليه إلى حربٍ ضروس بين المسلمين و اليهود ، فأين من يبحث عن الفتاوى ( العصريّة ) المتساهلة بدعوى أن بعض أحكام الإسلام ( و منها ستر الوجه ) يحسن عدم التمسك بها عند الإقامة في بلاد الكفّار أو المجتمعات الغربيّة ، و إن كان الأصل في أبناء بعضها الانتماء إلى الإسلام ( كما هو الحال في البوسنة ) من موقف هذه المرأة و من ناصرها من المسلمين الأوائل .
ثمَّ أورد المؤلِّف أدلةَ المخالفين في مسألة النقاب ، و هم القائلون بوجوب الخمار ( غطاء الرأس ) و الجلباب – بشروطه المقررة شرعاً - على سائر بدن المرأة عدا الوجه و الكفَّين ، و التزم في عرضه لهذه الأدلَّة من السنة النبوية المنهج الذي التزم به في عرض أدلَّة القول الأوَّل الذي اطمأنَّ له و رجَّحه ، حيث رواها مسندة باللغة العربية ، ثمَّ ترجمها إلى اللغة البوسنويَّة ، و خرَّجها من كتب الحديث المعتبرة ، ذاكراً أقوال أهل العلم فيها من جهة القبول و الردَّ ، و وجه دلالتها على المقصود ، ثمَّ ناقش شبه المخالفين و ردَّ عليها .
و أمام المنهج الذي سلكه الشيخ الحافظ سنايد ، يلزمنا الإقرار بأنَّ ما تحلَّت به النساء البوسنويَّات من الحشمة و العفة ، حيث أسدلن النقب على وجوههن ، ليس – كما يردد المخالفون - تأثراً بأبناء الأمم الأخرى ، أو تمسكاً بتقاليد و تراث الآباء و الأجداد ، و لكنه التزامً بهدي نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - ، و تمسُّكاً بسنَّته ، و اقتداءً بأمَّهات المؤمنين ، و الصحابيَّات الطاهرات رضوان الله عليهنَّ أجمعين ، و هو ما يبيِّن مدى تأثر المرأة البوسنويَّة بالسنة النبوية ، و احتكامها إلى الحديث الشريف في الدفاع عن نقابها و حجابها ، و سلوكها الإسلامي الرفيع .
المقصد الثاني - استدلال الدعاة البوسنويين بالسنة في الدعوة إلى التزام المرأة بالآداب الشرعية في حياتها الاجتماعية .
أمام السيل الجرار الذي جرف أمامه الكثير من الآداب الشرعية التي كانت تميّز المرأة المسلمة في البوسنة كان دور العلماء كبيراً ، و الواجب المناط بهم أداؤه جسيماً ، و من ذلك تبصير المرأة بحقيقة ما يكاد لها ، و ما يراد أن تصير إليه من فساد و إفساد .
و لذلك اشتد نكير العلماء البشانقة للمنكرات الطارئة على حياة المرأة في مجتمعهم الذي كان يوصف بالمحافظ ، فأنكروا تشبه المسلمات بغيرهن في اللباس ، و منافستهن الرجال في الخروج و العمل المختلط ، و إقحامهن فيما يصطدم بفطرتهن , كالانخراط في السياسة و التظاهر جنباً إلى جنبٍ مع الشيوعيين رجالاً و نساءً .
و كانت نصوص السنة النبويّة تُكأة العلماء في إقامة الحجة على ما يدعون إليه ، و لا تزال هذه النصوص راسخةً في أذهان الكثيرين و تتردد على ألسنة الطاعنين في السنّ الذين أدرك بعضهم الحكم النمساوي المجري لبلادهم ، و عاش معظمهم في عهد الملكية ثم الشيوعية اليوغسلافيتين ، و عاصروا مراحل الانحلال التي تقلّبت فيها المرأة المسلمة بعد إقصاء الإسلام عن حياتها ، و قد صدق قائلهم حين قال - (أنجبتنا النساء الطاهرات ، و أنجبْنا المتحرّرات الفاسدات ) ، و قال آخر - ( ربّانا آباؤنا ، و ربّى أبناءَنا أعداؤُنا ) .
و ممّا سمعت من هؤلاء ، أشير إلى جملة من الأحاديث النبويّة الشريفة الناهية عن اختلاط النساء بالرجال التي سمعوها و وعوها من العلماء البوشناق ، و رووها لي بالمعنى ( و إن لم يكن بوسعهم العمل بمقتضاها قبل استقلال
بلادهم ) ، و هي قليلٌ من كثير -
حديث تأخير صفوف النساء عن صفوف الرجال حين شهودهن الجماعة مع المسلمين في المساجد (1)، و خروجهن قبل الرجال
متلفّعات بمروطهنّ لا يعرفن من الغلس (2).
__________
(1) ... و هذا متواتر معروف ، و جاءت فيه نصوص ؛ منها حديث أنس بن مالك ( : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ، قال أنس ( : فصففت أنا و اليتيم وراءه ، و المرأة خلفنا ) .
أخرجه البخاري ( 373 ) في الصلاة ، باب : الصلاة على الحصير ، و ( 833 ) في الجماعة و الإمامة ، باب : صلاة النساء خلف الرجال ، و مسلم ( 266 ) في المساجد ، باب : جواز الجماعة في النافلة .
انظر " فتح الباري " 2 / 351 .
و منها حديث ابن عباس ( قال : (( صليت إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و عائشة خلفنا تصلي معنا ، و أنا جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلي معه )) . =
= ... أخرجه النسائي 2 / 86 في الإمامة ، باب : موقف الإمام إذا كان معه صبي و امرأة ، و أحمد في " المسند " 1 / 302 ، و صححه ابن خزيمة ( 1537 ) ، و ابن حبان ( 2204 ) .
(2) ... حديث صحيح ، أخرجه البخاري و مسلم : سبق تخريجه .(/14)
حديث تفضيل صلاة المرأة في بيتها عن صلاتها في المسجد ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، و بيوتهن خيرٌ لهن )(1) .
حديث ( على رسلكما إنها صفية (2) (3)
__________
(1) ... لفظه - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) :
أخرجه البخاري ( 900 ) في الجمعة ، باب : هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء و .. ، و مسلم ( 136 ) في الصلاة ، باب : خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ، و أنها لا تخرج مطيبة من حديث عبد الله بن عمر ( .
أما لفظ : ( و بيوتهن خير لهن ) :
فأخرجه أبو داود ( 565 ) في الصلاة ، باب : ما جاء في خروج النساء إلى المسجد ، و ابن خزيمة في " صحيحه " ( 1684 ) ، و الحاكم 1 / 327 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 3 / 131 من طريق العوام بن حوشب ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر ( أيضاً مرفوعاً ، و لفظه بتمامه :
(( لا تمنعوا نسائكم المساجد ، و بيوتهن خير لهن )) .
قال الحاكم : ( حديث صحيح على شرط الشيخين ، فقد احتجا بالعوام بن حوشب ، و قد سمع حبيب من ابن عمر ( ، و لم يخرجا فيه الزيادة : و بيوتهن خير لهن ) .
قلت : نعم رجاله كلهم ثقات ، لكن حبيب بن أبي ثابت كثير الإرسال و التدليس كما قال ابن حجر في " التقريب " ( 1084 ) ، و قد عنعن ، و لم يصرح بالسماع .
قال ابن خزيمة : ( إن ثبت الخبر ؛ فإني لا أقف على سماع حبيب بن أبي ثابت هذا الخبر من ابن عمر ) .
قلت : لكن يصح الحديث بشواهده و التي منها :
· ... حديث أم سلمة رضي الله عنها ، و لفظه : ( خير مساجد النساء قعر بيوتهن ) .
أخرجه أحمد في " المسند "6 / 297 ، و ابن خزيمة في " صحيحه " ( 1683 ) ، و الحاكم في " المستدرك "1 / 327 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 3 / 131 و القضاعي في " مسند الشهاب " ( 1252 ) من طرق عمرو بن الحارث ، أن دراج أبا السمح حدثه ، عن السائب مولى أم سلمة ، عن أم سلمة مرفوعاً به .
و إسناده حسن في الشواهد أيضا ؛ رمز له السيوطي في " الجامع " ( 4087 ) بالحسن .
وقال المناوي في " الفيض " 3 / 655 : ( قال في المهذب : إسناده صويلح ، و قال: الديلمي: صحيح). =
= ... قلت : رجال إسناده : عمرو بن الحارث ثقة فقيه حافظ ، كما في " التقريب " ( 5004 ) ، و تابعه ابن لهيعة عن دراج به ، عند أحمد 6/ 301 ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 7025 ) ، و الطبراني في " الكبير " 23 / 313 .
و دراج أبو السمح : قال فيه ابن حجر في " التقريب " ( 1824 ) : ( صدوق ، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف ) . قلت : و هذا ليس منها .
أما السائب مولى أم سلمة ، فهو تابعي انفرد ابن حبان بتوثيقه ، و قال ابن خزيمة : ( لا أعرف السائب مولى أم سلمة بعدالة و لا جرح ) . انظر : تعجيل المنفعة ص 145 .
· ... و له شاهد من حديث من حديث أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي بنحوه :
أخرجه أحمد 6 / 371 ، و صححه ابن خزيمة ( 1689 ) ، و ابن حبان ( 2217 ) .
قال الهيثمي في " المجمع " 2 / 33 – 34 : ( رواه أحمد و رجاله رجال الصحيح ، غير عبد الله بن سويد الأنصاري ، وثقه ابن حبان ) .
و للوقوف على باقي شواهده و طرقه انظر : التمهيد لابن عبد البر 23 / 396 – 407 ، فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب لأحمد الغماري 2 / 287 ( 766 ) .
(2) ... صفية رضي الله عنها ، هي : أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب ، من سبط اللاوي بن نبي الله إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، ثم من ذرية رسول الله هارون عليه السلام ، تزوجها قبل إسلامها سلام بن أبي الحقيق ، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقبق ، و كانا من شعراء اليهود ، فقتل كنانة يوم خيبر عنها ، و سبيت ، و صارت في سهم دحية الكلبي ، فقيل للنبي ( عنها ؛ و أنها لا ينبغي أن تكون إلا لك ، فأخذها من دحية ، و عوضه عنها سبعة أرؤوس ، فلما طهرت تزوجها ، و جعل عتقها صداقها ، و كانت شريفة عاقلة ، ذات حسب و جمال و دين و حلم و وقار ، توفيت 36 هـ / 656 م ، و قيل : 50 هـ /
670 م .
انظر ترجمتها في : طبقات ابن سعد 8 / 120 – 129 ، أسد الغابة 7 / 169 ، سير أعلام النبلاء 2 / 231 تهذيب التهذيب 12 / 429 .
(3) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2035 و 2038 و 2039 ) في الاعتكاف ، باب : هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد ، و باب : هل يدرأ المعتكف عن نفسه ، و ( 3101 ) في فرض الخمس ، باب : ما جاء في بيوت أزواج النبي ( ، و ( 3281 ) في بدء الخلق ، باب : صفة إبليس و جنوده ، و ( 6219 ) في الأدب ، باب : التكبير و التسبيح عند التعجب ، و ( 7171 ) في الأحكام ، باب : الشهادة تكون عند الحاكم في و لاية القضاء أو قبل ذلك للخصم ، و مسلم ( 2175 ) في السلام ، باب : بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة و كانت زوجه أو محرما له أن يقول : هذه فلانة ، ليدفع عنه ظن السوء به .
و لفظ الحديث : =
= ... عن صفية بنت حيي ، قالت : ((كان النبي ( معتكفا ، فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ، ثم قمت لأنقلب ، فقام معي ليقلبني ، و كان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي ( أسرعا ، فقال النبي ( : " على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي " ، فقالا : سبحان الله ! يا رسول الله ! قال : " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا " أو قال : " شيئا " )).(/15)
.
و أخيرا نجد أن ما عرف عن المرأة المسلمة في البوسنة , من حفاظ على العفة , و الآداب , و الحشمة , واللباس الشرعي , لم يكن عادة متوارثة , أو تقليدا لأخواتها في المشرق الإسلامي , و لكنه بباعث من اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - , والتأسي بأمهات المؤمنين , و الصحابيات الفضليات زضوان الله عليهن أجمعين .(/16)
حال المرأة على الصعيد الدولي
أ ـ وضعها بشكل عام:
وفي الحقيقة أنه لم يجد شيء من حقوق المرأة في غير المجال الإسلامي، إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين وذلك بعد أن توسعت النهضة الصناعية في أوربا وأوجدت مع توسعها أسلوباً جديداً للحياة، اضطرت المرأة معه أن تعمل لتعيل نفسها حتى ولو كانت زوجاً وأماً.
وسارت المرأة في طريقها المحتوم، وأصبح لها قضية ازدادت حدتها بعد الحرب العالمية العظمى.
وقد ذكر (ويل ديورانت) أسباب تغيير المرأة في هذا القرن في كتابه (لذات الفلسفة) إذ يقول: (تحرر المرأة كان من آثار الثورة الصناعية. إذ أصبح للمرأة قضية وازدادت قضيتها حدة بعد الحرب العالمية العظمى، وبعد أن افتقدت الملايين من أيدي الرجال العاملة. فاستغلت المصانع والمعامل حاجة المرأة الماسة إلى العمل، وشغلتها ساعات طويلة وأعطتها أجراً أقل بكثير من أجر الرجل الذي كان يقوم معها بنفس العمل في نفس المصنع! وكان لا بد بعد هذا التمييز في الأجر والإجحاف بالحق، من ثورة تعرب فيها المرأة عن استيائها من مظاهر الظلم والتمييز. فابتدأت بالإضراب عن العمل، وتظاهرت مع رفيقات لها مما أتاح لها بعد ذلك أن تتفوه بالمطالب وتقاضي الرجل بما يسمى (حقوق المرأة).
فالقضية إذن في بدء المسيرة، لم تكن قضية مساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الإنسانية، بقدر ما كانت قضية استياء وكفاح من أجل الوصول إلى مستوى المرأة في حق لقمة العيش الشريف، وتعادل الأجر الواحد للعمل الواحد بين المرأة والرجل، وعلى الأقل في المصنع الواحد!.
ب ـ استجابة الدول لصوت المرأة الثائرة:
وراحت أوروبا وأمريكا بعد ذلك في الخمسينيات تتنافسان في ادعاء الأسبقية والأولوية للمطالبة بحقوق الانسان بصورة عامة. وأخذتا تعقدان المؤتمر تلو الآخر للبحث في تقرير قاعدة المساواة بين الجنسين سواء أكان في الحقوق المدنية أو في الحقوق السياسية، إلى أن صدر أخيراً الإعلان العالمي لحقوق الانسان) التي أقرت بنوده الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1949، والذي يؤكد مبدأ عدم جواز التمييز، ويعلن أن جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وإن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز بما في ذلك التمييز القائم على الجنس.
وبلغ التطور ذروته فيما يتعلق (بحقوق المرأة) بعقد الاتفاق الدولي الذي صادقت عليه الجمعية العامة في 20/ 12/ 1952، الذي ينص صراحة على حق المرأة الكامل ومساواتها بالرجل في حق التصويت والترشيح وشغل الوظائف العامة.
بيد أن هذا التطور الذي بلغ مداه من الناحية القانونية، لم يبلغ المدى نفسه من الناحية التطبيقية في جميع البلدان. إذ ما زالت الكثرة الكثيرة من نساء العالم يعشن تجارب قاسية ويلقين معاملة سيئة من الرجال من الظلم والاستبداد. ولكن إن كان ثمة تفاوت كبير بالنسبة إلى حالة المرأة، في مختلف مناطق العالم، فإنه يعود إلى البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل بلد، بيد أن أوجه الشبه في نظرة الرجل للمرأة، كان من شأنه توحيد صفوف النساء لمقاومة أشكال التمييز ضدهن. وقد دفع هذا التحرك الواعي من النساء، المهتمين من الرجال بقضية المرأة، إلى أن يعملوا على بذل الجهود الآيلة إلى تطبيق ما يسن من القوانين تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة، حتى لا تبقى حبراً على ورق!!.
وتألفت لجان متخصصة من الرجال والنساء، لتدعم الحركة النسائية في مطاليبها الحقة، ولتدافع عنها وتناصرها ضمن أروقة الأمم المتحدة، التي أصدرت إعلانات خاصة وتفصيلية بحقوق المرأة، أهمها:
1 ـ اتفاقية حقوق النساء السياسية.
2 ـ إعلان إزالة التمييز ضد النساء.
وفيما يلي سرد سريع لأهم بنودهما:
أولاً: اتفاقية حقوق النساء السياسية عام 1953:
صدرت هذه الاتفاقية في العام 1953. وهي تتألف من إحدى عشرة مادة. وقد تنظمت ـ كما جاء في مقدمتها ـ تحقيقاً لمبدأ المساواة بين الجنسين الوارد في ميثاق الأمم المتحدة.
وقد صرحت هذه الاتفاقية بأن للمرأة بالتساوي مع الرجل، من دون أي تمييز، ثلاثة حقوق أساسية. وهي:
1 ـ حق الانتخابات في جميع الانتخابات الرسمية.
2 ـ وأهليتها لأن تنتخب لعضوية أي من الهيئات المؤسسة على الانتخاب بمقتضى القانون القومي.
3 ـ حق تولي المناصب العامة وممارسة الوظائف العامة.
ثانياً: إعلان إزالة التمييز ضد النساء عام 1967:(/1)
حضرت اللجنة الخاصة بوضع المرأة، واللجنة الفرعية الثالثة من الجمعية العمومية للأمم المتحدة صدور هذا الإعلان وتمت الموافقة عليه من قبل هذه الجمعية بالإجماع في جلستها المنعقدة في 7 تشرين الثاني سنة 1967. وهو مؤلف من إحدى عشرة مادة، تبحث في المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق، وإزالة كل تمييز بينهما فيها. وأوجب الإعلان على أعضاء المنظمة إدخال مبدأ المساواة في دساتير أو قوانينها المختصة بالموضوع، وإلغاء كل القوانين أو الأعراف المخالفة لذلك، واتخاذ التدابير المناسبة لتثقيف الرأي العام نحو هذا الاتجاه.
ثم عدد هذا الإعلان الحقوق السياسية الثلاثة المنوه بها في الاتفاقية السابقة، كما عدد سائر الحقوق الأخرى التي يجب الاعتراف بها للنساء المتزوجات والعازبات على قدم المساواة مع الرجال وخلاصتها:
أولاً: في الحقوق المدنية:
ذكر الإعلان حق المرأة في التملك والإرث، حق التمتع والإدارة والتصرف بأموالها، حتى التي اكتسبتها أثناء الزواج، والأهلية القانونية التامة من جهتي الوجوب والأداء، وحق اكتساب الجنسية وتغييرها من دون إجبار الزوجة على أخذ جنسية زوجها، وحق اختيار الزوج، وحقوق الزوجية أثناء الزواج وبعده والاشتراك في الولاية على الأولاد مع مراعاة مصلحة هؤلاء فيها.
ثانياً: في الأحكام الجزائية:
أوجب الإعلان إلغاء جميع ما كان فيها من تمييز بين المرأة والرجل.
ثالثا: في حقوق التربية:
ذكر الإعلان المساواة في حق الدخول إلى معاهد التعليم وتوابعها على اختلاف أنواعها. وحق اختيار البرامج وتعيين المعلمين، وفي تحديد المستوى المتساوي للمؤهلات المطلوبة وللامتحانات وفي حق مداومة التعليم، وفي حق الاستفادة من المنح المدرسية ومن المعلومات التربوية المفيدة لتأمين صحة العائلات ورفاهيتها.
رابعاً: في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
أقر الإعلان المساواة في حقوق التدريب المهني، وفي اختيار العمل ونوع المهنة والاستخدام، وفي حق الترقية، والمساواة في المعاملة والأجر العادل المتساوي في قيمته، والاستفادة من الإجازات المدفوعة الأجر، ومن حقوق التقاعد والتعويضات العائلية. ومن التأمين ضد البطالة والمرض والشيخوخة وسائر أسباب العجز عن العمل.
وأكد الإعلان على عدم تحريم تسريح المرأة بسبب زواجها أو أمومتها وعلى حقها في إجازة الأمومة المدفوعة الأجر، مع حقها بالرجع إلى عملها السابق، وحقها في الاستفادة من الخدمات الاجتماعية ومن تسهيل العناية بالأطفال.
ج ـ إعلان (عام 1975 السنة العالمية للمرأة):
وهكذا كان للحركات النسوية المحلية والإقليمية والعالمية، مع الفرق العالمية المختصة على إزالة أشكال التمييز ضد المرأة، أثر محسوس في بلورة هذه الحقوق. حتى كانت نتيجة لهذه الجهود الدولية المبذولة، إن اعتمدت الجمعية العمومية للأم المتحدة في جلستها المنعقدة في 18 / 12 / 1972، إعلان (عام 1975 السنة العالمية للمرأة) هدفها تشجيع مشاركة المرأة بشكل حقيقي وكامل في عملية إدماج تام لها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
د ـ مؤتمر (مكسيكوسيتي) 1975:
وكان عام 1975، بالفعل عاماً مميزاً بالنسبة إلى المرأة. إذ أعيد فيه تقييم مكانة المرأة في المجتمع الدولي من جهة وتقييم دورها البناء في بناء مجتمع إنساني يقوم على المساواة والتنمية والسلم من جهة ثانية.
وجاء نتيجة هذا الاعتبار، أن عقد المؤتمر العالمي للمرأة في مكسيكوسيتي من 19 تموز إلى 2 آب 1975، الذي اعتمد خطة عمل عالمية تبنتها جميع الدول المنظمة في هيئة الأمم المتحدة، كي تضمن مزيداً من عملية اندماج المرأة في مختلف المرافق الحياتية. وقد اعتمدت هذه الخطة على المواثيق والاتفاقات والإعلانات والتوصيات الرسمية والصكوك التي تهدف جميعاً إلى صون حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة دون تمييز، وعلى تطوير المبادئ الجوهرية وتنفيذها قصد القضاء على جميع أشكال التمييز الذي تعاني منه نساء العالم.
وقد أعلن مؤتمر مكسيكو تسمية الفترة الواقعة بين 1976 ـ 1985 (عقد الأمم المتحدة للمرأة العالمية) يقيناً منه أن هذا العقد قد يكون آونة زمنية كافية لتحقيق الأهداف أولاً، ولتنفيذ الخطط الموضوعة لها في المجال التطبيقي ثانياً.
أما أهداف العقد فهي: المساواة والتنمية والسلم. وقد صدر عن المؤتمر تفسيراً لمعنى هذه الأهداف الثلاثة وغاياتها:
أولاً: المساواة:(/2)
لا تعني هذه الكلمة، المساواة القانونية فقط. إنما تعني المساواة في الحقوق والمسؤوليات والفرص المتعلقة بإشراك المرأة في التنمية، بوصفها مستفيدة، وبوصفها فاعلة نشطة على حد سواء. وعلى ذلك، فإن تحقيق هذه المساواة يستلزم المساواة في فرص الحلول على الموارد، وسلطة الاشتراك على قدم المساواة، وعلى نحو فعال في توزيعها، وصنع القرارات على شتى المستويات. ومن ثم فإن قضية عدم المساواة بوصفها تمس السواد الأعظم من النساء في العالم، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلة التخلف التي يعود وجودها أساساً إلى نظام اقتصادي عالمي شديد الإجحاف ووفقاً لذلك يجب التسليم بأن تحقيق المساواة لمجموعات طال تضررها، قد يتطلب أنشطة تعويضية لتصحيح المظالم المشتركة.
ولبلوغ هذه الغاية تعتبر إعادة تقييم الوظائف والأدوار المسندة تقليدياً لكل جنس داخل الأسرة والمجتمع بوجه عام، أمراً أساسياً، ويجب التسليم بضرورة إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل والمرأة أيضاً!! ومن أجل السماح للمرأة بالمشاركة على نحو أكمل في كافة الأنشطة المجتمعية، ينبغي إنشاء خدمات منظمة تنظيماً اجتماعياً والاستمرار فيها بغية تخفيف أعباء الأعمال المنزلية الشاقة.
وينبغي على وجه الخصوص توفير الخدمات المتعلقة بالأطفال. وينبغي بذل جميع الجهود لتغيير المواقف الاجتماعية التي تستند أساساً إلى التعليم من قبول اقتسام المسؤوليات المتعلقة بالمنزل والأطفال بين الرجل والمرأة.
ثانياً: التنمية:
أما الهدف الثاني من أهداف (عقد المرأة العالمية)، فهو التنمية. وقد فسرها المؤتمر على أن المراد منها: التنمية الكاملة بما في ذلك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من أبعاد الحياة الانسانية، كذلك تنمية الموارد الاقتصادية وغيرها من الموارد المادية، وأيضاً النمو الجسدي والأخلاقي والفكري والثقافي.
وتحسين مركز المرأة، يستلزم العمل على كل من المستوى الوطني والمحلي والأسري. كما أنه يقضي تغييراً لمواقف وآراء الرجال والنساء على السواء. فلا ينبغي النظر إلى تنمية المرأة من زاوية التنمية الاجتماعية فحسب، بل ينبغي النظر إليها بوصفها عنصراً أساسياً في كل بعد من أبعاد التنمية.
وتحسيناً لمركز المرأة، ودورها في عملية التنمية، ينبغي أن تكون هذه التنمية جزءاً لا يتجزأ من المشروع العالمي لإقامة نظام اقتصادي جديد مبني على العدالة والمساواة في السيادة والتكامل والارتباط والمصلحة المشتركة والتعاون بين جميع الدول كافة.
وفي سبيل تحقيق هذه التنمية الشاملة، فقد عقدت عدة مؤتمرات غايتها بحث الوسائل في إشراك المرأة في التنمية الكاملة، لمواجهة الحواجز والقيود المفروضة على إشتراك المرأة في التنمية بشكل تام وكامل.
أما التوصيات التي صدرت عن هذه المؤتمرات بشأن إشراك المرأة في عملية التنمية الكاملة، فقد لخصها الخبير الاستشاري (انفريد بالمر) في التقرير العام الذي أعده لإدارة الشؤون الدولية الاقتصادية والاجتماعية بقوله:
(يمكن إيجاز المبادئ المعلن عنها في الخطط المتعلقة بالمرأة أثناء عملية التنمية في إثني عشر مؤتمراً عالمياً، على أنها مساواة المرأة والرجل في الحقوق والفرص والمسؤوليات، داخل الأسرة والمجتمع كليهما، وإزالة العقبات التي تعترض طريق تلك المساواة ومسؤولية الدولة عن تيسير إدماج المرأة في المجتمع عن طريق إتاحة الموارد اللازمة).
ثالثاً: السلم:
أما الهدف الثالث من أهداف العقد، فهو لاسلم وقد علق على تحقيق السلم أهمية كبرى إذ لا يمكن أن تتحقق أي تنمية بدون السلم والاستقرار.
وبذلك يكون السلم شرطاً مسبقاً للتنمية. وعلاوة على ذلك، فلن يدوم السلم بدون تنمية، وبدون القضاء على وجوه عدم المساواة والتمييز على جميع المستويات. وسيساهم الاشتراك على قدم المساواة في تنمية العلاقات الودية والتعاون بين الدول، في تنمية المرأة نفسها.
هـ ـ مؤتمر كوبنهاجن / الدنمارك 1980:
وحرصاً من المؤتمرين في (مكسيكوسيتي) على ضمان سير خطة العمل العالمية بمجراها الصحيح كي تحقق أهداف العقد الجسام، فقد رأت لجنة المتابعة إلى أن يصار إلى عقد مؤتمر عالمي آخر في منتصف العقد في مدينة كوبنهاجن/ الدنمارك) من 14 تموز إلى 30 منه من عام 1980 تحت شعار:
(عقد الأمم المتحدة للمرأة العالمية
المساواة، والتنمية، والسلم)
وذلك:
أولاً: لاستعراض التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر العالمي للسنة الدولية للمرأة.(/3)
وثانياً: لتعديل البرامج المتعلقة بالنصف الثاني للعقد في ضوء الاقتراحات والبحوث الجديدة المقدمة من قبل مؤتمر كوبنهاجن، وقد كان لي شرف الانضمام إلى الوفد الرسمي الذي مثل لبنان في هذا المؤتمر، والذي حضره ممثلون عن مائة وستين دولة بالإضافة إلى ممثلين عن لجان إقليمية من مختلف أصقاع الأرض، فضلاً عن تسع وكالات متخصصة، وثماني منظمات تابعة لهيئة الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الوطنية الرسمية وغير الرسمية التي اشتركت في المؤتمر.
و ـ مؤتمر نيروبي/ كينيا عام 1985:
تم عقد مؤتمر عالمي ثالث في نهاية العقد في مدينة نيروبي/ كينيا عام 1985. وذلك لاستعراض التقدم المحرز في تنفيذ خطة العمل العالمية بعد مرور عشر سنوات على وضعها قيد التنفيذ، ولدراسة العقبات والمعوقات التي حالت دون تنفيذها كاملاً في جميع بلدان العالم.
ومما تجدر الإشارة إليه، أنه بين مؤتمر مكسيكوسيتي عام 75 ومؤتمر نيروبي عام 85، عقدت مؤتمرات عدة قامت بها مختلف الوكالات المتخصصة والمنظمات الدولية، ولجان القضاء على التمييز ضد المرأة، تبحث كل فرقة منها عن برنامج عمل خاص ضمن دائرة اختصاصها لتعزيز دور المرأة فيها ودمجها دمجاً كاملاً في برنامج التنمية الشامل. ولكن انقضى العقد ومؤتمراته المحلية والإقليمية والدولية، ولم يستطع أن يحقق العقد غاياته وأهدافه ومقاصده العديدة، كما لم تحقق خطة العمل العالمية ما كان يصبو لها واضعوها من إقرار المساواة بين الجنسين في جميع مجالات الحياة الحقوقية التشريعية منها والتطبيقية إلا جزئياً رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في غالبية البلدان لتعزيز أهداف العقد: المساواة والتنمية والسلم. وهذا ما حدا بالأمين العام للمؤتمر أن يصرح قائلاً: (إنه على الرغم من ازدياد مشاركة المرأة على جميع الصعد في بعض البلدان، إلا أن التقدم المحرز لم يكن كافياً لتحقيق التحسن الكمي والنوعي المنشود في مركز المرأة. والسبب في ذلك يعود إلى أنه يوجد في العالم أجمع ثغرات بين القوانين والممارسات الاجتماعية. وأنه من الضروري منع هذه الثغرات وسدها من خلال اتخاذ إجراءات اجتماعية مثمرة، لأن المشاكل العالمية بلغت درجة من التشابك، تقتضي معها بذل جهود على عدة جبهات في آن واحد، فضلاً عن عقبات أخرى تتعلق بالمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكل بلد من بلدان العالم. وبما أن أهداف العقد الثلاثة لعقد المرأة، هي أهداف الأمم المتحدة ذاتها، فلا بد إذن لتحقيقها من زيادة التعاون الدولي. إذ بدون السلم ـ كما ترى اللجنة التحضيرية للمؤتمر ـ لا يمكن أن تكون هناك مساواة حقيقية، وبدون المساواة الحقيقية لا يمكن أن تكون تنمية حقيقية. لذلك لا يمكن فصل القضايا المقتصرة ظاهرياً على المرأة، عن المسائل الأوسع نطاقاً عالمياً).
وهكذا يبدو واضحاً جلياً أن العقبات التي تحول دون إحقاق المساواة بين المرأة والرجل على الصعيد الدولي، وفي كل بلد من بلدان العالم، هي عقبات جمة متداخلة ومتشابكة محلياً وإقليمياً ودولياً. ولكن على كثرتها سنتوقف عند أهمها، وبما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوعنا الأساسي: (حقوق المرأة بين الشرع الاسلامي، والشرعة العالمية لحقوق الانسان) معتمدين في ذكر هذه العقبات على ما ورد في تقرير (اللجنة التحضيرية لخطة العمل العالمية الثانية).
ز ـ العقبات التي حالت دون تحقيق أهداف العقد:
أولاً: أول العقبات الأساسية هي عقبات تتعلق بمواقف الدول. هذه المواقف التي ترتكز على صورة المرأة بوصفها تختلف عن الرجل وكثيراً ما تكون أقل شأناً منه. وهذه المواقف في رأي الحكومات، كما جاء في التقرير، تجيز وضع المرأة في مرتبة أدنى، وتجيز التقسيم المقولب للأدوار حسب الجنس المألوف في كثير من المجتمعات. إذ ينظر إلى المرأة على أنها تعتمد اقتصادياً على الرجال، وأنها أقل قدرة على الاضطلاع بالأنشطة الاقتصادية بنفسها. والمرأة في هذا النمط المقولب هي (مدبرة المنزل). أما الرجل فهو المعيل.
ثانياً: إن هذا الموقف القائم على التمييز الفعلي على أساس الجنس، هو من العقبات الأساسية التي تعترض مساواة المرأة بالرجل. وإن هذا التمييز والتفاوت الفعليين في المكانة بين الإثنين ناجم عن عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية على نطاق واسع. وهي عقبات تبرر على أساس الاختلافات الفسيولوجية. ورغم عدم وجود قاعدة فسيولوجية للنظر إلى المنزل والأسرة على أنهما مجال المرأة أساساً، وللحط من قيمة العمل المنزلي، ولاعتبار قدرات المرأة أدنى من قدرات الرجل، فإن الاعتقاد بوجود مثل هذه القاعدة يديم التفاوت ويمنع التغييرات الهيكلية والمواقفية اللازمة لإزالة هذا التفاوت. لذا تعتبر إعادة تقييم الوظائف والأدوار المسندة تقليدياً لكل جنس داخل الأسرة والمجتمع بوجه عام، أمراً أساسياً لبلوغ تحقيق غايات العقد: المساواة، والتنمية والسلم.(/4)
ثالثاً: ومن العقبات الأساسية التي تعترض أهداف العقد، وخاصة على الصعيد الوطني، هو استمرار وضع المرأة غير المتساوي في المجتمع في غالبية الدول.
وقد برهن العقد بوضوح على أن الإعلان الرسمي عن تدابير ترمي إلى القضاء على التمييز ضد المرأة، وإنشاء مؤسسات حكومية خاصة تتناول مشاكل المرأة، لم تكفل حتى الآن تنفيذ ضمانات الدولة والحماية اللازمة لحقوق المرأة في تلك البلدان على أساس المساواة في الأهلية والحالة القانونيتين للمرأة، وخصوصاً المرأة (المتزوجة) من حيث الجنسية والإرث والملكية والتصرف بالأموال، وحرية انتقال المرأة، وحضانة الأطفال وجنسيتهم، وحرية العمل في كافة الميادين... وما زالت هناك، قبل كل شيء مقاومة عميقة الجذور من جانب العناصر المحافظة في المجتمع للتغيير اللازم في الموقف، لغرض حظر تام على الممارسات التمييزية ضد المرأة على الأصعدة الأسرية والمحلية والوطنية والدولية).
لذلك، وفي سبيل تذليل هذه العقبات الأساسية والجوهرية التي حالت دون إنجاز خطة العمل العالمية في المدة المحددة لها، يدعو الأمين العام للمؤتمر، على أن يجري الآن حث الحكومات التي لم توقع بعد على (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، على أن تفعل ذلك. وعلى أن تتخذ كل الإجراءات اللازمة للتصديق عليها أو الانضمام إليها، وعلى أن تسعى سعياً حثيثاً إلى تعديل القوانين المدنية لا سيما ما كان منها مرتبطاً بالأسرة لتجنب الممارسات المنطوية على التمييز حيثما وجدت، وأينما اعتبرت المرأة قاصرة، كما ينبغي إعادة النظر في الأهلية القانونية للمرأة المتزوجة بحيث تمنح المساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل. لذا أعد المؤتمر في نهاية العقد ورقة عمل عالمية ثانية، استراتيجية استشرافية ـ هكذا سميت ـ من أجل النهوض بالمرأة ومن أجل اتخاذ تدابير ملموسة حتى تنفذ بنودها تنفيذاً فعالاً.
وعليه، يعتبر الأمين العام للمؤتمر بأن: (التحدي المطروح الآن أمام المجتمع الدولي، هو أن تكون ضمانات أوجه الأهلية قد أتيحت لكل النساء في العالم مع حلول عام 2000، لا بوصفها جانباً من التنمية فحسب، بل بوصفها واحد من حقوق الانسان الأساسية بحيث تكون القوانين التي تضمن المساواة للنساء في كل ميادين الحياة قيد التنفيذ الشامل.
ويضيف الأمين العام قائلاً: (إن مشاركة المرأة أمر حاسم لتحقيق أهداف العقد التي هي أهداف الأمم المتحدة بالذات لأن الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة من الضروري فيها استخدام قوة وطاقة المرأة في المجالات الجماعية إذا أريد بلوغ الأهداف المتفق عليها عالمياً: (المساواة والتنمية والسلم).
لذلك يعتبر الأمين العام أن نجاح العقد في إنجاز خطة العمل العالمية الأولى كان جزئياً، إلا أن أهم إنجازاته يكمن في اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة (وثيقة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) في جلستها المنعقدة في 18 / 12 / 1979.
ح ـ اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة:
ولعل من هم ما ورد من مواثيق واتفاقات دولية بشأن حقوق المرأة هو (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 18 / 12 / 1979.
وتدعو هذه الاتفاقية إلى المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل، بغض النظر عن حالتها الزوجية، في جميع الميادين: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية. كما أنها تدعو إلى استنان تشريعات وطنية لحظر التمييز ضد المرأة، وتوصي باتخاذ تدابير خاصة مؤقتة للتعجيل بالمساواة بين الرجل والمرأة، وباتخاذ خطوات لتعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تجعل من التمييز عرفاً متمادياً.
وإننا إذا ما عدنا إلى النص الكامل لهذه الاتفاقية، نرى أن الدول الأطراف تتعهد في المواد الست الأولى، أن تجسد مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في دساتيرها الوطنية. وبأن تتخذ المناسب من التدابير التشريعية وغيرها لتقر الحماية القانونية لحقوق المرأة، بما في ذلك التشريع لتعديل القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة، والأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف القضاء على كل أشكال التمييز بينهما.
أما في المواد الخمس التالية (76 ـ 11): فإن الدول الأطراف تتعهد بأن تتخذ جميع التدابير اللازمة للقضاء على التمييز ضد المرأة في الحياة السياسية العامة للبلد، في حق التصويت والانتخابات وحق المشاركة في صياغة سياسة الحكومة، وفي شغل الوظائف العامة، وفي حق التمتع بفرص التوظيف نفسها، وحرية اختيار المهنة والعمل، وحق المساواة في الأجر، وحق الرعاية الصحية، وحق التعلم على أساس التساوي بين الرجل والمرأة.(/5)
أما المادتان الأخيرتان: الخامسة عشرة والسادسة عشرة من الاتفاقية، فإنهما تنصان على منح المرأة المساواة مع الرجل أمام القانون. كما أنهما تدعوان الدول الأطراف إلى أن تكفل للمرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتكلات الخاصة بها، وحق الإشراف عليها والتمتع بها والتصرف فيها. كما أنهما تنصان على أساس المساواة. الحق نفسه للمرأة في عقد الزواج واختيار الزوج، وكذلك نفس المسؤوليات في أثناء الزواج وعند فسخه، والحقوق ذاتها فيما يتعلق بالقوامة والوصاية على الأطفال.
وفي أول آذار مارس سنة 1980 فتح باب التوقيع على هذه الاتفاقية من قبل الدول وأصبحت نافذة المفعول ابتداء من 3 أيلول سبتمبر سنة 1981. ولغاية 31 أيار مايو سنة 1987 كان 93 بلداً قد وافق على الالتزام بأحكامها، إما بتصديقها أو الانضام إليها.
-----
المصدر: حقوق المرأة بين الشرع الاسلامي والشرعة العالمية لحقوق الانسان(/6)
حال عمر رضي الله عنه
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
يوم نام إبراهيم ابن الرسول عليه الصلاة والسلام في حضن أمه ماريه
وكان عمره ستة عشر شهراً والموت يرفرف بأجنحته عليه والرسول عليه الصلاة والسلام ينظر إليه ويقول له:
يا إبراهيم أنا لا أملك لك من الله شيئاً..
ومات إبراهيم وهو آخر أولاده فحمله الأب الرحيم ووضعهُ تحت أطباق التراب وقال له:
يا إبراهيم إذا جاءتك الملائكة فقل لهم الله ربي ورسول الله أبي
والإسلام ديني..
فنظر الرسول عليه الصلاة والسلام خلفهُ فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُنهنه بقلب صديع فقال له:
ما يبكيك يا عمر ؟ فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله:
إبنك لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم وليس في حاجة إلى تلقين
فماذا يفعل ابن الخطاب! ، وقد بلغ الحلم وجرى عليه القلم ولا يجد ملقناً مثلك يا رسول الله!
وإذا بالإجابة تنزل من رب العالمين جل جلاله بقوله تعالى رداً على
سؤال عمر: } يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء(/1)
حاملة الأمانة
إن الله سبحانه وتعالى عرض حمل الأمانة على السماوات والأرض فأبين حملها، ثم حملها الإنسان لظلمه وجهله. والمرأة شريكة الرجل في حمل الأمانة وأعبائها، وعليها أمانات كثيرة، وقد بين الشيخ حفظه الله أموراً كثيرة من الأمانات التي يجب على المرأة تحملها.
أهمية الأمانة وعظمها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين. أيتها النساء الحاضرات: أيتها الفتيات المستمعات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فهذه فرصة أخرى من الفرص الطيبة التي نلتقي فيها من وراء حجاب كما أمر الله سبحانه وتعالى، في هذا المبنى وفي هذه الكلية، أسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً. أيتها الفتيات المسلمات: أيتها النساء! موضوعنا في هذا اليوم بعنوان: حاملة الأمانة، وهو موضوع خطير وحساس؛ لأنه ينبع من الأمانة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأدائها، قال الله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] هذه الأمانة التي أشفقت السماوات باتساعها والأرض بامتدادها والجبال بشموخها وثقلها أشفقن من حملها، وحملها الإنسان. والإنسان فيه ظلم وجهل، ولذلك كان حمله لهذه الأمانة يحتاج إلى إعانة من الله وتعليم وعون من الله ليقوم بهذه الأمانة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فيجب عليك -أيتها المسلمة- أداء الأمانة التي كلفت بها إلى أهلها، وأنت تعلمين أن من أشراط الساعة تضييع الأمانة كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). ما هي الأمانات المرتبطة بك أيتها المرأة المسلمة؟ إن هذه الأمانات متعددة، فمنها: أمانة الجوارح، وأمانة العبادة، وأمانة العلم، وأمانة الزوج، وأمانة الأولاد، وأمانة المال، وأمانة الدعوة، وأمانة المشاعر والأحاسيس. هذه بعض أنواع الأمانة المناطة بك والتي أنت مكلفة بالقيام بها وإعطائها حقها. إذاً -أنت أيتها المسلمة- تحملين أموراً ثقيلة، وأنت مكلفة بأداء مهمات صعبة، فاسألي الله العون والثبات لتحمل هذه الأمانة وأداء هذه المسئولية، والله قد وعدكِ بأنه سيعينك ويثيبك ويجزيك الجزاء الأوفى إذا كنت قمتِ بهذه الأمانات وتحملت التبعة: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء:124].. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].. مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] فالله قد وعدكِ أنه سيعطيك ويضاعف لك ويكون معك؛ إذا أنتِ آمنتِ وإذا حييتِ الحياة الطيبة وقمتِ بأداء الأمانة إلى أهلها وحملتِ هذه الأمانة فأعطيتها حقها، والويل كل الويل لمن تضيع أو تقصر في حمل هذه الأمانة بأنواعها. فلنأت أيتها المسلمات على بعض أنواع الأمانة، ولنذكر -يا حاملة الأمانة- لكِ شيئاً من هذه الأمانات علَّ الله تعالى أن يبصر بها، وأن يذكر المقصرات وأن يدفع المخلصات ويعينهن على حمل هذه الأمانات.......
أمانة الجوارح
أولاً: أمانة الجوارح: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36] فأنتِ محاسبة -أيتها المسلمة- على هذه الأعضاء والجوارح، أنتِ محاسبة على اللسان والسمع والبصر والتذوق والشم واللمس واليد والرجل وسائر الحواس والأعضاء والجوارح. فأنت أُعطيتِ هذه لتعبدي الله بها، فهذه أمانة ينبغي القيام بحقها، هذه الجوارح وسائل ينبغي أن توجه وتستعمل في طاعة الله سبحانه وتعالى.......
أمانة اللسان(/1)
اللسان يستعمل في طاعة الله: تلاوة القرآن.. الأذكار الشرعية.. أذكار الصلاة من التكبير والتسبيح والتشهد والدعاء.. أذكار الصباح والمساء.. أذكار النوم.. الاستيقاظ.. العطاس.. السلام.. دخول الخلاء.. كفارة المجلس.. الاستخارة، الأذكار كلها بأنواعها، هذه من عبودية اللسان.. استخدام اللسان في السلام، إلقاء ورداً.. والأمر بالمعروف باللسان.. والنهي عن المنكر باللسان.. تعليم الجاهل.. أداء الشهادة.. الصدق في الحديث.. مذاكرة العلم. وينبغي أن تكفي اللسان عن استعماله فيما حرم الله، كالنطق بالكفر والاستهزاء بالدين، ككثير من هذه النكت أو الطرائف الموجودة التي فيها استهزاء بالجنة أو النار، أو يوم المحشر والحساب والجزاء، أو صفات الله سبحانه وتعالى، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو صحابته، أو شيء من شعائر الدين والعبادات، وأن تكفي اللسان عن النطق بالبدع المخرجة عن الملة وغير المخرجة عن الملة، البدع التي هي شر ما عمل العباد، وتحسينها وتقويتها، فعليك الكف عن ذلك كله، والكف عن الدعوة إليها واتباع السنة، الكف عن القذف، كاتهام بريئة بأنها زانية، أو سارقة، أو أنها بنت حرام، أو سب وشتم ولعن، وما أكثر اللعن في أوساط النساء، عدي هذه الصفة الذميمة -اللعن- كما قال صلى الله عليه وسلم: من أسباب دخول النساء النار: (يكثرن اللعن) الكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم، ما أكثر اللاتي يفتين بغير علم وينقلن فتوى لا أساس لها، ما أكثر اللاتي يعطين الآراء المجردة عن الأدلة، يعطين الأدلة من عقولهن القاصرة مجردة عن العلم، فيقلن على الله بلا علم، ما أخطر القول على الله بلا علم! وما أعظمه! وما أشد إثمه! وما أكثر المتساهلات بالإفتاء! أو الكلام بأحكام الدين بغير دليل ولا بصيرة ولا نقل لأقوال أهل العلم، ظناً وتخرصاً، أو تقول: هكذا هو بالعقل. هذه الآفات من آفات اللسان خيانة للأمانة، أكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم -يا فتاة الإسلام- هو حصائد ألسنتهم، كم أودى اللسان بمسكينات إلى النار، وكم أدخلهن جهنم من أبواب عدة، هذه المكالمات الهاتفية المحرمة مع الرجال الأجانب تجري في النهار والليل معصية لرب العالمين، خيانة للأمانة، استخدام اللسان فيما حرم الله، كلمات فاحشة، أنواع من الخنا والفجور يقال بالهاتف يتكلم بها مع من حرم الله الكلام معه، وبطريقة حرم الله الكلام بها هذه الخيانة من نماذج الخيانة للأمانة.اللسان يستعمل في طاعة الله: تلاوة القرآن.. الأذكار الشرعية.. أذكار الصلاة من التكبير والتسبيح والتشهد والدعاء.. أذكار الصباح والمساء.. أذكار النوم.. الاستيقاظ.. العطاس.. السلام.. دخول الخلاء.. كفارة المجلس.. الاستخارة، الأذكار كلها بأنواعها، هذه من عبودية اللسان.. استخدام اللسان في السلام، إلقاء ورداً.. والأمر بالمعروف باللسان.. والنهي عن المنكر باللسان.. تعليم الجاهل.. أداء الشهادة.. الصدق في الحديث.. مذاكرة العلم. وينبغي أن تكفي اللسان عن استعماله فيما حرم الله، كالنطق بالكفر والاستهزاء بالدين، ككثير من هذه النكت أو الطرائف الموجودة التي فيها استهزاء بالجنة أو النار، أو يوم المحشر والحساب والجزاء، أو صفات الله سبحانه وتعالى، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو صحابته، أو شيء من شعائر الدين والعبادات، وأن تكفي اللسان عن النطق بالبدع المخرجة عن الملة وغير المخرجة عن الملة، البدع التي هي شر ما عمل العباد، وتحسينها وتقويتها، فعليك الكف عن ذلك كله، والكف عن الدعوة إليها واتباع السنة، الكف عن القذف، كاتهام بريئة بأنها زانية، أو سارقة، أو أنها بنت حرام، أو سب وشتم ولعن، وما أكثر اللعن في أوساط النساء، عدي هذه الصفة الذميمة -اللعن- كما قال صلى الله عليه وسلم: من أسباب دخول النساء النار: (يكثرن اللعن) الكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم، ما أكثر اللاتي يفتين بغير علم وينقلن فتوى لا أساس لها، ما أكثر اللاتي يعطين الآراء المجردة عن الأدلة، يعطين الأدلة من عقولهن القاصرة مجردة عن العلم، فيقلن على الله بلا علم، ما أخطر القول على الله بلا علم! وما أعظمه! وما أشد إثمه! وما أكثر المتساهلات بالإفتاء! أو الكلام بأحكام الدين بغير دليل ولا بصيرة ولا نقل لأقوال أهل العلم، ظناً وتخرصاً، أو تقول: هكذا هو بالعقل. هذه الآفات من آفات اللسان خيانة للأمانة، أكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم -يا فتاة الإسلام- هو حصائد ألسنتهم، كم أودى اللسان بمسكينات إلى النار، وكم أدخلهن جهنم من أبواب عدة، هذه المكالمات الهاتفية المحرمة مع الرجال الأجانب تجري في النهار والليل معصية لرب العالمين، خيانة للأمانة، استخدام اللسان فيما حرم الله، كلمات فاحشة، أنواع من الخنا والفجور يقال بالهاتف يتكلم بها مع من حرم الله الكلام معه، وبطريقة حرم الله الكلام بها هذه الخيانة من نماذج الخيانة للأمانة.
أمانة النظر(/2)
ثم أعطاك الله نظراً وبصراً، فكيف تقومين بأداء الأمانة والوفاء بحقها؟ النظر في المصحف عبادة.. قراءة القرآن ومتابعة هذه الأحرف والكلمات بالبصر والنظر في كتب أهل العلم لزيادة الإيمان ومعرفة الأحكام.. النظر في السلع والأغذية لتمييز الحلال من الحرام، فهذا فيه صورة ذات روح لا يؤخذ، وهذا فيه صليب لا يؤخذ، وهذا فيه أشياء من الأمور المحرمة والدهون المحرمة فلا يؤخذ ولا يشترى، النظر في أمانات الناس لردها إليهم، وتمييز بعضها عن بعض هذه أمانة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] النظر في آيات الله في المصاحف أو النظر في آيات الله المنثورة في الكون والآفاق، في الجبال والشجر والمياه والأمطار والنجوم والسماء وغيرها من الشواهد الدالة على وحدانية الله. إن من الخيانة لجارحة العين، والإخلال بحقها استعمالها في معصية الله من أنواع النظر المحرم، كالنظر إلى صور الرجال بالفتنة والشهوة، والنظر إلى العورات -حتى عورات النساء- بأنواعها سواء العورات من وراء الثياب أو عورات من وراء الأبواب، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وما أكثر اللاتي يخن الأمانة بالنظر إلى ما حرم الله من هذه الأفلام، التي تعلم الفحش وتعلم إقامة العلاقات المحرمة، والتي تنزع الحياء نزعاً من نفس المرأة المسلمة، والنظر إلى المجلات التي تلقي الشبه في الدين والعقيدة، المجلات التي تجرئ الفتاة المسلمة على الخروج وقول: لا، لتعاليم الشريعة، المجلات التي تجرئ الفتاة على إقامة العلاقات مع الجنس الآخر دون حياء ودون حواجز شرعية.ثم أعطاك الله نظراً وبصراً، فكيف تقومين بأداء الأمانة والوفاء بحقها؟ النظر في المصحف عبادة.. قراءة القرآن ومتابعة هذه الأحرف والكلمات بالبصر والنظر في كتب أهل العلم لزيادة الإيمان ومعرفة الأحكام.. النظر في السلع والأغذية لتمييز الحلال من الحرام، فهذا فيه صورة ذات روح لا يؤخذ، وهذا فيه صليب لا يؤخذ، وهذا فيه أشياء من الأمور المحرمة والدهون المحرمة فلا يؤخذ ولا يشترى، النظر في أمانات الناس لردها إليهم، وتمييز بعضها عن بعض هذه أمانة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] النظر في آيات الله في المصاحف أو النظر في آيات الله المنثورة في الكون والآفاق، في الجبال والشجر والمياه والأمطار والنجوم والسماء وغيرها من الشواهد الدالة على وحدانية الله. إن من الخيانة لجارحة العين، والإخلال بحقها استعمالها في معصية الله من أنواع النظر المحرم، كالنظر إلى صور الرجال بالفتنة والشهوة، والنظر إلى العورات -حتى عورات النساء- بأنواعها سواء العورات من وراء الثياب أو عورات من وراء الأبواب، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وما أكثر اللاتي يخن الأمانة بالنظر إلى ما حرم الله من هذه الأفلام، التي تعلم الفحش وتعلم إقامة العلاقات المحرمة، والتي تنزع الحياء نزعاً من نفس المرأة المسلمة، والنظر إلى المجلات التي تلقي الشبه في الدين والعقيدة، المجلات التي تجرئ الفتاة المسلمة على الخروج وقول: لا، لتعاليم الشريعة، المجلات التي تجرئ الفتاة على إقامة العلاقات مع الجنس الآخر دون حياء ودون حواجز شرعية.
أمانة السمع(/3)
أعطاك الله سمعاً، وأراد الله منك أن تستخدمي السمع فيما يحب، فمن القيام بالأمانة الإنصات بهذا السمع إلى ما يحبه الله ورسوله، استماع الإسلام وفروض الإيمان وقراءة الإمام في الصلاة الجهرية، واستماع العلم والفتاوى وذكر الله سبحانه وتعالى، والمواعظ، واستماع ما يحمي القلوب. وتجنب السماع المحرم، كاستماع الكفر والبدع إلا لمن يرد عليها، والتجسس على خلق الله، والتي تستمع إلى حديث امرأة وهي كارهة لاستماعها يصب في أذنها الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة.. استماع أصوات المغنين والمغنيات، بل حتى المنشدات التي يفتن النساء بأصواتهن حرام لا يجوز.. استماع المعازف وآلات اللهو والطرب، وما أكثر النساء اللاتي لا يبالين بسماع صوت وتر أو عود أو آلة موسيقية أو فرقة بأكملها.. قرآن الشيطان يصب في آذان المسلمات صباً تقبل عليه اللاتي لا يرجين الله ولا الدار الآخرة.. استماع الغيبة والنميمة والفحش، ثم استماع الصوت الفاجر عبر جهاز الهاتف في هذه الاتصالات المحرمة، هذا الاستعمال خيانة للسمع، وستحاسب هذه الفتاة على انتهاك حدود الله بهذا السماع المحرم.أعطاك الله سمعاً، وأراد الله منك أن تستخدمي السمع فيما يحب، فمن القيام بالأمانة الإنصات بهذا السمع إلى ما يحبه الله ورسوله، استماع الإسلام وفروض الإيمان وقراءة الإمام في الصلاة الجهرية، واستماع العلم والفتاوى وذكر الله سبحانه وتعالى، والمواعظ، واستماع ما يحمي القلوب. وتجنب السماع المحرم، كاستماع الكفر والبدع إلا لمن يرد عليها، والتجسس على خلق الله، والتي تستمع إلى حديث امرأة وهي كارهة لاستماعها يصب في أذنها الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة.. استماع أصوات المغنين والمغنيات، بل حتى المنشدات التي يفتن النساء بأصواتهن حرام لا يجوز.. استماع المعازف وآلات اللهو والطرب، وما أكثر النساء اللاتي لا يبالين بسماع صوت وتر أو عود أو آلة موسيقية أو فرقة بأكملها.. قرآن الشيطان يصب في آذان المسلمات صباً تقبل عليه اللاتي لا يرجين الله ولا الدار الآخرة.. استماع الغيبة والنميمة والفحش، ثم استماع الصوت الفاجر عبر جهاز الهاتف في هذه الاتصالات المحرمة، هذا الاستعمال خيانة للسمع، وستحاسب هذه الفتاة على انتهاك حدود الله بهذا السماع المحرم.
أمانة الذوق
حاسة التذوق نعمة من الله، تذوق الحلال وأكل الطعام لكي تحافظ على حياتها.. تذوق الدواء للعلاج.. تذوق الزوجة طعام الزوج أو طعام ضيوفه.. ومؤاكلة المرأة المسلمة لضيفتها وأكلها من طعام الوليمة -وبعض أهل العلم يرى وجوبه- كما إن إجابة الوليمة واجبة إذا كانت خالية من المنكرات. وأما التذوق المحرم فأنواع لا تعد ولا تحصى، كتذوق الخمور والمخدرات والسموم والتدخين، أو الأكل والشرب حال الصيام دون عذر شرعي، وتذوق الأمور المشتبهة، كالأكل من بيوت الذين كسبهم من الحرام كموظفي البنوك الربوية، والأكل فوق الحاجة والتخمة، وتذوق طعام الفجأة -أو الفجاءة- وهي المرأة المتطفلة على القوم التي تأتي بغير دعوة، أو تدخل على امرأة أخرى في بيتها دون أذن، فتذوقك لطعام من يطعمك حياء منك من غير طيب نفس لا يجوز، ومن أنواع التذوق أيضاً المنهي عنه: أكل طعام المرائين في الولائم والدعوات، الذين يعقدون الولائم والحفلات رياء ومفاخرة، فلا تتذوقي طعامهم.حاسة التذوق نعمة من الله، تذوق الحلال وأكل الطعام لكي تحافظ على حياتها.. تذوق الدواء للعلاج.. تذوق الزوجة طعام الزوج أو طعام ضيوفه.. ومؤاكلة المرأة المسلمة لضيفتها وأكلها من طعام الوليمة -وبعض أهل العلم يرى وجوبه- كما إن إجابة الوليمة واجبة إذا كانت خالية من المنكرات. وأما التذوق المحرم فأنواع لا تعد ولا تحصى، كتذوق الخمور والمخدرات والسموم والتدخين، أو الأكل والشرب حال الصيام دون عذر شرعي، وتذوق الأمور المشتبهة، كالأكل من بيوت الذين كسبهم من الحرام كموظفي البنوك الربوية، والأكل فوق الحاجة والتخمة، وتذوق طعام الفجأة -أو الفجاءة- وهي المرأة المتطفلة على القوم التي تأتي بغير دعوة، أو تدخل على امرأة أخرى في بيتها دون أذن، فتذوقك لطعام من يطعمك حياء منك من غير طيب نفس لا يجوز، ومن أنواع التذوق أيضاً المنهي عنه: أكل طعام المرائين في الولائم والدعوات، الذين يعقدون الولائم والحفلات رياء ومفاخرة، فلا تتذوقي طعامهم.
أمانة الشم(/4)
أعطاك الله حاسة الشم، تميزين بها بين الطيب والخبيث، والنافع والضار، وتشمين الروائح الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب ولا يرد الريحان. ثم طالبك الشارع بأن تمتنعي عن شم المحرمات وشم ما يحرم شمه في حالة معينة، كشم الطيب في الإحرام، أو شم الطيب المغصوب والمسلوب واستعماله، أو شم طيب الرجل الأجنبي والافتتان به، أو شم طيب الظلمة والتبخر ببخور أصحاب المحرمات.أعطاك الله حاسة الشم، تميزين بها بين الطيب والخبيث، والنافع والضار، وتشمين الروائح الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب ولا يرد الريحان. ثم طالبك الشارع بأن تمتنعي عن شم المحرمات وشم ما يحرم شمه في حالة معينة، كشم الطيب في الإحرام، أو شم الطيب المغصوب والمسلوب واستعماله، أو شم طيب الرجل الأجنبي والافتتان به، أو شم طيب الظلمة والتبخر ببخور أصحاب المحرمات.
أمانة اللمس
أعطاك الله حاسة اللمس تمسين بها ما يجب مسه ويستحب مسه، كمس الأرض في السجود، ومس الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف، ومس المصحف عند القراءة فيه وتقليب صفحاته، وكتب العلم، ومس ما تميزين به بين الحلال والحرام والطيب والخبيث، ومس الزوج بالحلال، ومس الأطفال بالحنان، ومصافحة الأخت المسلمة، وتقبيل الأبوين، ومصافحة المحارم بلا فتنة، ومس أجهزة التسجيل المفيدة لسماع مفيد. وحرم الله عليك لمس أمور ومحرمات كمس جسد الأجنبي ولو من وراء حائل كمصافحة الأجنبي مثلاً، ويحرم عليك لمس كل ما لا يجوز النظر إليه ولو عورة المرأة، فلا يجوز مس عورة امرأة بغير ضرورة شرعية، لا بحائل ولا من وراء حائل، وكذلك مس الزوج في الصيام مساً يؤدي إلى إفساد الصيام، أو مس الزوج بشهوة في الإحرام وقبل طواف الإفاضة، ومس الأمور الضارة، ومس صفحات المجلات وأزرار مذياع الموسيقى وفديو الأفلام الخليعة، ومس سماعة الهاتف بالإثم والعدوان.أعطاك الله حاسة اللمس تمسين بها ما يجب مسه ويستحب مسه، كمس الأرض في السجود، ومس الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف، ومس المصحف عند القراءة فيه وتقليب صفحاته، وكتب العلم، ومس ما تميزين به بين الحلال والحرام والطيب والخبيث، ومس الزوج بالحلال، ومس الأطفال بالحنان، ومصافحة الأخت المسلمة، وتقبيل الأبوين، ومصافحة المحارم بلا فتنة، ومس أجهزة التسجيل المفيدة لسماع مفيد. وحرم الله عليك لمس أمور ومحرمات كمس جسد الأجنبي ولو من وراء حائل كمصافحة الأجنبي مثلاً، ويحرم عليك لمس كل ما لا يجوز النظر إليه ولو عورة المرأة، فلا يجوز مس عورة امرأة بغير ضرورة شرعية، لا بحائل ولا من وراء حائل، وكذلك مس الزوج في الصيام مساً يؤدي إلى إفساد الصيام، أو مس الزوج بشهوة في الإحرام وقبل طواف الإفاضة، ومس الأمور الضارة، ومس صفحات المجلات وأزرار مذياع الموسيقى وفديو الأفلام الخليعة، ومس سماعة الهاتف بالإثم والعدوان.
أمانة اليد(/5)
وأعطاك الله يداً -يا فتاة الإسلام- أمانة من الأمانات، ماذا تفعلين بها؟ وكيف تقومين بأداء الأمانة بها؟ إعانة المسكينة.. إغاثة الملهوفة.. مساعدة الضعيفة.. رمي الجمار.. استلام الركن اليماني والحجر الأسود.. الوضوء وغسل الأعضاء، والتيمم عند عدم الوضوء وبالعذر الشرعي.. تكسير أدوات المنكر وإتلافها.. استعمال أنامل اليدين لكتابة ما فيه دفاع عن الدين ومصلحة للإسلام والدعوة إلى الله.. تعينين صانعة أو تصنعين لمرأة خرقاء لا تحسن أن تصنع، وإفراغك من دلوك في دلو أختك لك صدقة. وحرم الله استخدام اليد، فمن خيانة اليد قتل النفس التي حرم الله، وضرب من لا يحل ضربه، ولعب الألعاب المحرمة، مثل ما كان فيه نرد، أو ورق اللعب المعروف، وكتابة الكفر والإلحاد، وقد سمعنا عن بعض النساء اللاتي يكتبن المقالات ويدبجنها وفيها خروج عن ملة الإسلام، وتشكيك في أهل الدين واتباع لمنهج أهل الكفر والعلمنة، ويكتبن المقالات لدعم تيار العلمنة والفسق في المجتمع، وتيار البدع والحداثة: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] كذلك كتابة الزور والظلم والافتراء، وعمل السحر باليد ووضعه في البيت أو في الطعام.. كتابة خطابات الحب والغرام والفسق، يوم تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.. إمساك سماعة الهاتف لسماع الكلام المحرم، يوم تنادي عليهم جوارحهم بالويل والثبور يوم القيامة: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] فهل تريدين أن تشهد عليك يداك بالخير أو بالشر يوم القيامة؟ يوم يتبرأ الإنسان من هذه الحواس التي استخدمها في المعصية، وتقول المرأة لحواسها: تباً لكن فعنكن كنت أناضل، يوم يختم على فيها فتشهد عليها رجلها ويدها وعينها وسمعها ولسانها بما عملت: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25].وأعطاك الله يداً -يا فتاة الإسلام- أمانة من الأمانات، ماذا تفعلين بها؟ وكيف تقومين بأداء الأمانة بها؟ إعانة المسكينة.. إغاثة الملهوفة.. مساعدة الضعيفة.. رمي الجمار.. استلام الركن اليماني والحجر الأسود.. الوضوء وغسل الأعضاء، والتيمم عند عدم الوضوء وبالعذر الشرعي.. تكسير أدوات المنكر وإتلافها.. استعمال أنامل اليدين لكتابة ما فيه دفاع عن الدين ومصلحة للإسلام والدعوة إلى الله.. تعينين صانعة أو تصنعين لمرأة خرقاء لا تحسن أن تصنع، وإفراغك من دلوك في دلو أختك لك صدقة. وحرم الله استخدام اليد، فمن خيانة اليد قتل النفس التي حرم الله، وضرب من لا يحل ضربه، ولعب الألعاب المحرمة، مثل ما كان فيه نرد، أو ورق اللعب المعروف، وكتابة الكفر والإلحاد، وقد سمعنا عن بعض النساء اللاتي يكتبن المقالات ويدبجنها وفيها خروج عن ملة الإسلام، وتشكيك في أهل الدين واتباع لمنهج أهل الكفر والعلمنة، ويكتبن المقالات لدعم تيار العلمنة والفسق في المجتمع، وتيار البدع والحداثة: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79] كذلك كتابة الزور والظلم والافتراء، وعمل السحر باليد ووضعه في البيت أو في الطعام.. كتابة خطابات الحب والغرام والفسق، يوم تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.. إمساك سماعة الهاتف لسماع الكلام المحرم، يوم تنادي عليهم جوارحهم بالويل والثبور يوم القيامة: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] فهل تريدين أن تشهد عليك يداك بالخير أو بالشر يوم القيامة؟ يوم يتبرأ الإنسان من هذه الحواس التي استخدمها في المعصية، وتقول المرأة لحواسها: تباً لكن فعنكن كنت أناضل، يوم يختم على فيها فتشهد عليها رجلها ويدها وعينها وسمعها ولسانها بما عملت: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25].
أمانة الرجل(/6)
أعطاك الله الرجل فكيف تقومين بأداء الأمانة فيها؟ المشي إلى الصلاة.. الطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة.. السعي لطلب العلم.. المشي لحضور الحلقات والمواعظ.. المشي لإجابة الدعوة.. المشي لصلة الرحم وزيارة أخت في الله. وتخان أمانة الرجل عندما يمشى بها إلى المعاصي، وكل ماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس.. موعد محرم لحفلة بدعية، كعيد ميلاد أو مولد أو حفلة محرمات، زفاف موسيقى وتصوير، ومناسبة اختلاط وحضور مجالس غيبة. فهذه أمانة الجوارح وشيء منها، فهل ستقوم المرأة المسلمة بالوفاء بهذه الأمانة واستخدام هذه الجوارح فيما يرضي الله أم أنها ستندم ندماً يوم القيامة؟ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].أعطاك الله الرجل فكيف تقومين بأداء الأمانة فيها؟ المشي إلى الصلاة.. الطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة.. السعي لطلب العلم.. المشي لحضور الحلقات والمواعظ.. المشي لإجابة الدعوة.. المشي لصلة الرحم وزيارة أخت في الله. وتخان أمانة الرجل عندما يمشى بها إلى المعاصي، وكل ماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس.. موعد محرم لحفلة بدعية، كعيد ميلاد أو مولد أو حفلة محرمات، زفاف موسيقى وتصوير، ومناسبة اختلاط وحضور مجالس غيبة. فهذه أمانة الجوارح وشيء منها، فهل ستقوم المرأة المسلمة بالوفاء بهذه الأمانة واستخدام هذه الجوارح فيما يرضي الله أم أنها ستندم ندماً يوم القيامة؟ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
أمانة العلم(/7)
ثانياً: أمانة العلم. أمانة العلم أمانة عظيمة. فالمرأة الجاهلة أسهل شيء على إبليس وأهونه وأحقره، والمرأة العالمة بشريعة الله المتفقهة بدين الله ما أصعبها على إبليس وما أشد مراسها، بل إنه ربما يئس منها يأساً شديداً، حتى لا يكاد يستطيع أن يضرها بشيء. وهذا دين ليس بلهو ولا لعب، فلابد من القيام بأمانته: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وقد أمرك الله بالقيام بهذه الأمانة وهي أمانة طلب العلم الشرعي، فقال الله لك وللنساء من قبلك: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) لما أحست النساء المسلمات بهذه الأمانة قمن مجاهدات جاهدات في حقها، وفي سبيل تحصيل العلم أحست المرأة أنها أمانة فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن، فأتاهن، فعلمهن مما علمه الله). كان استشعار أمانة التعلم يدفع المرأة للاستجابة للأمر النبوي، للخروج لصلاة العيد حائضاً وغير حائض، وتقول إحداهن: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها). الأمانة يا أيتها الفتاة المسلمة! يا أيتها الأخت في الدين والعقيدة! الأمانة هي التي دفعت النساء إلى التفقه في الدين وعدم الحياء في هذا الأمر، كما قالت عائشة : [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -هذه مقدمة جميلة- فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة وكانت تسمع: يا رسول الله! أوتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك! فبم يشبهها ولدها؟!) إذاً هي لها ماء كماء الرجل، فإذا احتلمت وخرج منها الماء فإن عليها الاغتسال. فما منعها الحياء أن تسأل وتتفقه لأنها تعلم أن هذه أمانة، وأمانة طلب العلم لابد أن تقوم بها. الأمانة هي التي دفعت النساء الصالحات من أوائل هذه الأمة لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعلت حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم الفقيهة الربانية المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوجها وهي بنت تسع سنوات وأقام معها تسع سنوات، وفي هذه التسع السنوات تعلمت علماً جماً؛ لأنها أحست بالأمانة، وأنها لابد أن تحمل الأمانة، توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة، إنها أصغر منكن -يا أيتها المستمعات- إنها في السن أقل منكن -يا أيتها الحاضرات- في تسع سنين حفظت آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروتها، فلما مات عليه الصلاة والسلام ملأت أرجاء الأرض علماً، فروت علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، عن زوجها وعن أبيها وعن غيرهم. أمانة العلم هي التي دفعت نساء الصحابة إلى التعليم بعد أن حفظن العلم، رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض، ولو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علماً، كانت يتعجب من فقهها وعلمها ويقول الرجل: ما ظنكم بأدب النبوة. يقول عروة ابن أختها: لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم منها بآية نزلت، ولا بفريضة ولا بسنة ولا بشعر ولا أروى له ولا بيوم من أيام العرب ولا بنسب ولا بكذا ولا بفضائل، فقلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فينعت الشيء ويمرض المريض فينعت له -يعني: يوصف الدواء- وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. هذه الأمانة في طلب العلم هي التي دفعت النساء المسلمات بعد ذلك للحفظ وأداء الأحاديث، وجعلت من النساء عالمات فقيهات بلّغن الأمانة، كانت بنت الإمام مالك تسمع من وراء الباب قراءة طلابه عليه، فإذا غفل أبوها ولحن القارئ وأخطأ؛ دقت الباب، فيعلم أبوها أن القارئ قد أخطأ فيقول: ارجع فالغلط معك. حتى جارية الإمام مالك اشترى خضرة وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتينا نعطك الثمن، قالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولماذا؟ قالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية فقيل له: إنها جارية مالك بن أنس فهذا أشهب تعلم من جارية مالك بن أنس . وهذه بنت سعيد بن المسيب رحمها الله ورحم أباها، هذه المرأة التي حفظت عن أبيها علماً جليلاً، هذه المرأة لما تزوجت وأراد زوجها أن يخرج للقاء أبيها العالم، قالت له: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد ، اجلس أعلمك علم أبي. لما استشعرت النساء المسئولية قمن لله سبحانه وتعالى لتعلم أحكام الدين والشريعة، وحفظ القرآن(/8)
والأحاديث. كيف تقومين بأداء أمانة العلم الشرعي أيتها المرأة المسلمة؟ لابد أن تتعلمي كيف تقرئين القرآن، وكيف تحفظينه، وكيف تسمعينه، وكيف تتدبرين معاني القرآن؟ لابد على الأقل أن يكون عندك تفسير بسيط لمعاني القرآن، فتتعلمين معاني ما أنزل الله بدلاً من أن يكون طلاسم ومبهمات، وهو كلام ربك، وأنتِ تفهمين في الموضات والأزياء وفن الطبخ أكثر مما تفهمين من كلام الله، هذا لعمر الله من أعظم ما يسبب الخجل من النفس، مصيبة وطامة، بل هل تفهم سائر نسائنا معاني مفردات بسيطة في سور قصيرة يقرأنها دائماً، وهل يعرفن معنى الصمد والفلق والخناس والغاسق ووقب فضلاً عن معنى وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * <فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً [العاديات:1-2] أليس أمراً مؤسفاً ألا تعلم كثير من النساء معاني الآيات. ثم لابد أن تتعلمي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه، وتميزي بين الصحيح والضعيف، وما اشتمل عليه الحديث من الأحكام. لابد أن تتعلمي العقيدة، فأركان الإيمان الستة مهمة جدا،ً والسيرة النبوية والفقه وأركان الإسلام، وأحكام النكاح، خصوصاً إذا أردت الزواج. معرفة مخططات الأعداء، من حمل أمانة العلم -أيتها الفتاة المسلمة -الاستفتاء بالطريقة الشرعية.. سؤال الثقات من أهل العلم.. الصدق في السؤال وعدم التلاعب في صياغته كما يحدث من بعض النساء.. عدم تتبع الرخص والتنقل من شخص إلى آخر بحثاً عن منفذ اتباعاً للهوى، ولابد لك من القراءة في الكتب والبحث والاطلاع.......
أمانة المال(/9)
ثالثاً: أمانة المال. لقد أعطانا الله سبحانه وتعالى هذا المال واستخلفنا فيه؛ لينظر سبحانه وتعالى كيف نعمل بالمال، أنتِ تأخذين مكافأة من الكلية، وإذا توظفتِ تأخذين راتباً، وكثير من النساء عندهن أموال من عطايا الآباء أو الأزواج، وربما يكون عندها إرث؛ فتكون ذات مال، فماذا تفعل بهذا المال؟ والمال أمانة يجب القيام بها. هل تؤدين زكاته؟ بعض النساء لديهن أسهم في الشركات، وأموال وأرصدة في المصارف، ومَن مِن النساء ليس لديها حلي؟ هذا كله من أنواع المال، وقد يكون لها أرض باسمها مسجلة، هل تعلم المرأة أحكام الزكاة لتؤدي حق المال؟ وأمانة المال أن تأخذه من حله فتصرفه في حقه، فهل تكسبه من حلال؟ بعض النساء يسرقن، والله! سمعنا عن حوادث مخجلة من دخول بعضهن إلى محلات وأسواق فيأخذن خلسة، فيخفين في الثياب، ويضعن في هذه المحافظ الموجودة والشنط اللاتي يحملنها، وربما سرقت المرأة من بيت امرأة أخرى، وربما أتت بعد سنوات تتوب وتقول: ماذا أفعل الآن هذه الأسورة التي سرقتها من بيت فلانة محرجة في ردها؟ بعض النساء يعملن في أعمال راتبها حرام؛ كأن تعمل في بنك ربوي أو تعمل في مكان فيه اختلاط وتبرج وفتنة، فكيف يجوز لها أن تعمل وما حكم الراتب التي تأخذه؟ وأعداء الإسلام يخططون لكي يفتحون مجالات عمل محرمة للنساء، فتعمل النساء فيها. كثير من النساء في البلاد الإسلامية والعربية يعملن في مجالات عمل إما أن تكون محرمة أصلاً كالبنوك الربوية، أو محرمة لما يقترن بها من الاختلاط والسفور والتبرج واحتكاك الرجال بالنساء، ولمس المرأة للرجل ونحو ذلك، فهل هذا المال حلال عليها أم أنها ستسأل عنه يوم القيامة من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ أين تنفقين أموالك يا فتاة الإسلام؟ هل تنفق لشراء أفلام وقصص حب وغرام، أو لشراء مجلات تافهة تحطم العقيدة في النفوس وتزلزل كيان الدين، وتلقي الشبه عن النكاح وعن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تعدد الزوجات وعن أمور كثيرة جداً في عدل الشريعة، وأن الشريعة ما عدلت، وأن الشريعة ظلمت المرأة؟ المجلات المحرمة الموجودة الآن المنتشرة ابتداء من فتاة الغلاف وحتى دعاية التدخين الموجودة على الغلاف الآخر، وما بينهما طامات كثيرة تشترينها بأموالكِ أنتِ. تشترين ثياباً محرمة، تلبس إلى ما فوق الركبة، وعليها صور ذوات الأرواح، أو صور مغنيين. هذه الصورة الرعناء القبيحة، حيث تجد شعره كالمكنسة ويكتبون عليها سيدو ديدو، لا يكاد يوجد في محل من محلات السوق فنيلة أو قميص أو بنطلون أو فستان إلا وعليه شعار اللامبالاة والقباحة في الشكل والوساخة، يريدون أن يجعلوا من أجيال المسلمين نماذج من سيدو ديدو، وهذا مطبوع على كثير من هذه الملابس، فتشتريها النساء ويلبسنها. تنفقين أموالك على هذه الملابس المحرمة، على ثياب شهرة، تنفقين أموالاً كثيرة في تفصيل ثوب عند خياطة لا يساوي المال الذي تصرفينه وتنفقينه؛ لأن الذي تنفقينه إسراف في الحقيقة؛ لأن سعره غير معقول وفوق العادة، يحمل عليه المباهاة والفخر على خلق الله، ولكي تمشين به متبخترة في الحفلات والمناسبات، ويشار إليك بالبنان: صاحبة الفستان الـ...، تشترين حجاباً غير شرعي، وتشترين خماراً عليه تطريزات وزخارف ونقوشات وألوان، وتشترين الكاب أو تلبسينه فوق الكتفين ليظهر حجم الجسد والكتفين. تنفقين الأموال في تصفيف الشعر والموضات وفي التسريحات والنمص المحرم، لو كان تجملاً بطريقة شرعية؛ لقلنا نعم قبلنا ذلك، لكن قصات تشبه الرجال، وقصات تشبه قصات الكافرات فتشبه من جميع الأنواع. تنفقين المال في توافه الكماليات، أنت تعلمين أن من خطط أعداء الله إلهاء النساء بهذه الأشياء والركض وراء السراب، وتقذف دور الموضة وأدوات التجميل بأشياء كثيرة جداً، وأنواع من العطورات غالية الثمن لا تحتاج إليها المرأة في الحقيقة؛ لأنها في الغالب تستخدم في الحرام، ووضعها عند الخروج بين الرجال، لو وضعتها لزوج ولو وضعتها في مجتمع نساء بشكل معقول بحيث لا تصل الرائحة للرجال، لا هي داخلة ولا خارجة ولا أثناء جلوسها لقلنا: نعم، أليس من الإسفاف والسخف أن تشتري بعض النساء صوراً لمطربين يعلقنها في الثياب أو يضعنها في الشنط. تشترين ملصقات فيها عبارات إما تدعو إلى قومية أو حزبية أو عصبية جاهلية، فما هو مصير هذه الأموال؟ المرأة تدفع أموالها إلى بيوت الأزياء التي يديرها اليهود، وتتنافس مع زميلاتها في اقتناء الثياب الأوروبية بالأثمان الغالية، فتجدها تدخل إلى محل تطلب قماشاً يكون من النوع الذي لا بأس به.. بكم المتر؟ يقول: بكذا، تقول: هذا رخيص، ليس بجيد أما عندك أحسن؟ والبائع يجد فرصة للعب بالعقول والضحك والخداع، فيأتي لها بقماش مثله في النوعية، ولكنه يزيد في السعر لكي يرضي غرورها وجهلها، فتأخذه فرحة مسرورة، وتخرج إلى المحل ترقص على جبينها جهلاً وغروراً، وثمن الفستان يساوي راتب مدرس في شهر كامل، وفستان(/10)
العرس يعادل راتب مدرس مدة سنة كاملة، رحمة الله على عائشة لم تكن تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها الأول، وقد جاءها يوماً من عند معاوية رضي الله عنه -وقد كان يصل أمهات المؤمنين- ثمانون ألفاً فما أمسى درهم واحد عندها، قالت لها جاريتها: هلا اشتريت منه لنا لحماً بدرهم، قالت: لو ذكرتني لفعلت. قالت عائشة لعروة : [والله! يا بن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ناراً قط، قلت: يا خالة! ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح -شياه- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا].......
أمانة العبادة(/11)
أمانة أخرى من الأمانات ألا وهي: أمانة العبادة، عبادة الله سبحانه وتعالى.. الصلاة.. الزكاة.. الصيام.. الحج.. قراءة القرآن.. النوافل.. قيام الليل.. ذكر الله.. الدعاء.. تذكر الموت: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18] أمانة معرفة كيفية الصلاة لكي تصلين، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه نابعة من أمانة العلم، صفة ما هي الأموال التي يجب فيها الزكاة وكم نسبة الزكاة، ومازالت زكاة الحلي قضية غير واضحة في أذهان كثير من النساء حتى الآن، فضلاً عن زكاة بعض الأموال التي أسلفناها قبل قليل. تعبدين الله بالصلاة والصيام، فلابد لك من معرفة أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة.. الصفرة.. الكدرة.. الطهر.. تقطع الحيض.. اتصاله.. زيادته.. نقصانه.. آثار استخدام الحبوب واللولب.. أشياء متعلقة بالعبادات، فهذه أمانة. وكثير من النساء تفرط في هذه الأحكام، ولا تدري أين هي موجودة وموضوعة، وحتى بعض النساء اللاتي فيهن نوع من الدين والخير. والآن نحن في صيام الست من شوال، ما حكم صيام الست بغير إذن الزوج؟ إذا طهرت الحائض في النهار ماذا يلزمها في الليل؟ عندها مال للحج ويوجد محرم فما حكم الإنابة في الحج؟ إذا حاضت المرأة وهي تريد الإحرام ماذا تفعل؟ هل جدة ميقات للمرأة التي تذهب من هنا؟ وكيف تلبي المرأة؟ ما هي محظورات الإحرام؟ كيف تقصر شعرها في الحج والعمرة؟ العبادات أمانة ومسئولية، فمن من النساء اللاتي تعلم كيف تعبد الله؟ نسأل الله أن يكثرهن، ونحن على يقين أنه يوجد من الصالحات العابدات القانتات العالمات من تعرف كيف تعبد الله، لكننا نسأل الله أن يكثر هذا العدد وأن يزيل الجهل، ونسأل الله أن يفقه نساءنا في أمور الدين، وأن يصرفهن إلى العبادة، ويحبب العبادة إليهن. قال عبد الله بن الزبير : [ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة و أسماء ، أما عائشة فكانت تجمع الشيء، حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد، وكانت تسرد الصيام سرداً]. قال عروة : [كنت إذا عدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي]. ولما بُعث إلى عائشة بمائة ألف درهم قسمتها، قالت بريرة : أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت. قالت: يا جارية! هاتي فطوراً -لما جاء وقت الإفطار- فجاءتها بخبز وزيت. أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تصنع وتعمل بيدها وتتصدق في سبيل الله (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يد) كانت زينب تعمل وتتصدق، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود -اجتهاد من زينب- فقال: ( حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ) زينب أم المساكين، صالحة صوامة قوامة بارة زاهدة حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. هؤلاء النساء الصالحات اللاتي يتواضعن لله فيذكرن ذنوبهن وما أقل ذنوبهن! ونساؤنا اليوم مع كثرة الذنوب يتذكرن الأعمال الصالحة فقط. هنا عندنا نساء ولله الحمد فيهن خير كثير في المجتمع، يصلحن قدوات، يجمعن صدقات، ويرتبن مرتبات للعوائل، يتفقدن الأرامل والأيتام والأسر الفقيرة، يتصدقن من حليهن. الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا النساء إلى الصدقة صرن يلقين من الحلي والأقراط، ويوجد -ولله الحمد- نساء لو قلنا في المسجد: ألقوا ما أنتم ملقون، لألقوا من الحلي والأقراط اقتداء بالنساء الأول. كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباع جاريته لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا. يا أهل الدار! صلوا. فقالوا لها: نحن لا نقوم إلا الفجر، فجاءت إلى الحسن فقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، أخاف أن أكسل من نومهم، فردها الحسن إليه رحمه الله. كانت عجردة العمِّية تغشانا فتضل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت ثم قامت إلى المحراب، فلا زالت تصلي إلى السحر، يقول لها أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً؟ فتبكي وتقول: ذكر الموت لا يدعني أنام. قال الهيثم بن جماز : كانت لي امرأة لا تنام الليل وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها وتقول: أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ فوالله إني لأستحي مما تصنع. نحن الآن لا نطالب النساء أن يقمن كل الليل، لا والله! ولا أن يقمن كل النهار، لكن تضييع قراءة القرآن، والصيام، والسنن والنوافل فلا يعبدن الله إلا في رمضان وغيره من الأيام، منصرفات عن العبادات، أين أمانة العبادة في(/12)
القيام بها أو بفقهها ومعرفة ما تنطوي عليه من الأحكام؟......
أمانة حق الزوج
نوع آخر من الأمانة الآن: أمانة الزوج، المرأة إذا تزوجت دخل في رقبتها نوع آخر من الأمانة أمانة الزوج، اسمعي هذه الأحاديث -يا أمة الله- لكي تعلمي شيئاً عن عظم أمانة الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا تجاوز صلاتهما فوق رءوسهم عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عقت زوجها حتى ترجع) وفي رواية: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم... وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) وقال: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ).. (لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: ولا الطعام يا رسول الله؟ قال: ذلك أفضل أموالنا).. (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة).. (ثلاثة لا تسل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً، وعبد أبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنها).. (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه) فلو كانت على التنور ما تمنعه وتلبي طلبه، وقال في الحداد: ( المتوفى عنها زوجها: لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل ) فالمرأة المحدة من حق الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام لا تمس طيباً، ولا كحلاً، ولا حناء، ولا أصباغاً، ولا مكياجات، ولا تلبس ثياباً جميلة، ولا تخرج من البيت، ولا تلبس ذهباً ولا حلياً. ( لا تأذن المرأة في بيت زوجها إلا بإذنه ).. ( لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله! إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا ).. ( لا يحل لامرأةٍ أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ) ما عدا الصيام الواجب. فإذاً ستة من شوال يجب استئذان الزوج فيها.. (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها).. (والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم أقبلت تلحسه ما أدت حقه) حديث صحيح. استشعرت المرأة المسلمة الأولى حق الزوج، فقعدت عنده، وسمعت كلامه، وأطاعت أمره، ولبت طلبه، وقامت بخدمته، وكنست بيته، وطبخت طعامه، وهيأت ثيابه، وربت أولاده، وحفظت بيته أثناء غيابه، هل تعلمين كيف كانت المرأة تحمل أمانة الزوج؟ أخرج الشيخان عن أسماء قالت: [تزوجني الزبير بن العوام وماله في الأرض مالٌ ولا مملوك ولا شيء غير ناضح -جمل يسقي به- وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، فأعلفه وأسقيه الماء، وأغرز غربه -حتى الدلو ترقعه- وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي اقتطعه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ -تنقل النوى من أرض الزبير- قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني وقال: إخ إخ -يعني: ينيخ راحلته ليركبها- ليحملني خلفه، فاستحييت وعرفت غيرته -أي غيرة الزوج- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لي أركب فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، قال الزوج مشفقاً: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه، حتى أرسل إلي أبو بكر بخادمة، فكفتني سياسة الفرس -فقط- فكأنما أعتقني] هذا رد على كل من يقول: إن خدمة الزوجة لزوجها غير واجبة، بل يروح يأتي بخادمة. بعضهم من دعاة تحرير المرأة، وبعضهم من الذين يرجمون بالغيب، أو الذين لا يحسنون نقل أقوال الفقهاء يشيعون ذلك، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم جرت الرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، تطلب خادماً يقول لها صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك) رواه مسلم ، هذا دليل على أن ذكر الله -يا فتاة الإسلام- يقوي الجسد. إذاً أمانة الزوج طاعته.. دوام الحياء منه.. السكوت عند كلامه.. الابتعاد عما يسخطه.. طيب الرائحة له.. وغض الطرف أمامه، حفظ ماله لا إسراف ولا تبذير، وحفظ سمعته، فكيف تمشي المرأة متبرجة؟ أو كيف تمشي المرأة أو تذهب مع السائق وحدها؟ ماذا يقال عنه؟ يتهم بين الناس.. لا تدخل أحداً البيت إلا بإذنه.. تكليم الأجنبي من وراء الباب(/13)
وبالهاتف بحذر وقيود وحدود وإيجاز على قدر الحاجة، دون لين ولا تكسر. أمانة الزوج القيام بها في تربية أولادها، التجمل له، إذا نظر إليها سرته، الاعتناء بهندامها عند قدومه من سفره.. الابتسامة.. الطيب.. التجمل.. تحين الفرصة الملائمة لإخباره بالأشياء المؤلمة والمؤذية، قالت أم سليم لزوجها عن طفلها الميت: ( هو الآن أسكن ما يكون ) ثم أخبرته في الوقت المناسب. إذاً ما حال المرأة التي إذا غاب عنها زوجها تلعب من ورائه، وتخرج وتسلم من ورائه، إذا غاب في العمل أو غاب في السفر، إن ذلك خيانة للأمانة -أمانة الزوج وأمانة الزوجية. أما بالنسبة للفتاة المسلمة التقية النقية الزوجة الصالحة ما الذي يضمن ألا تلعب من وراء زوجها، ولا تكلم أجنبياً ولا تدخله إلى بيت زوجها، أو تخرج هي للفواحش؟ الجواب: حمل الأمانة التي هي موجودة في آية من كتاب الله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] حافظات بمعنى إذا غاب الأزواج حفظن أنفسهن، وحفظت فرجها ونفسها. ثم من قيام حق الزوج الأمانة أن تأمريه بالمعروف، فتأمريه بالصلاة وتوقظينه لصلاة الفجر وصلاة العصر، ولو كان راجعاً من الدوام ومتعب، فإن الرحمة به إيقاظه للصلاة وليس تركه نائماً. وإذا كان الزوج من أهل السوء والعياذ بالله، إذا كان من أهل الأفلام والمحرمات ومن أهل المسلسلات والصحف الفاسدة والمجلات، إذا كان من أهل رفقاء السوء والألعاب المحرمة، ما موقف الزوجة؟ تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وإذا كان زوجها قاسقاً، صاحب خمور ومخدرات، فتجاهد زوجها حتى يترك الخمور والمخدرات، ويجوز لها طلب الطلاق طبعاً؛ لأن هذه العيشة لا يصبر عليها، فالزوج الفاسق الذي يسافر إلى الخارج يزني ويتباهى بالصور أمام أصحابه، وربما تواقح وقال لها بعضاً ما يفعل ليؤذيها، هي تجاهد في الله وتدعوه إلى الله وتنصحه وترغبه وترهبه، فإذا كان كافراً بالله يستهزئ بالدين وبالحجاب وبالصلاة ويترك الصلاة بالكلية وهو يعلم حكمها ما هو الحل؟ فارقته ولا تقعد عنده لحظة، فالمسألة الآن مفاصلة وتبري من الزوج الكافر.......
أمانة تربية الأولاد(/14)
من أنواع الأمانة -يا أيتها المرأة المؤمنة- أمانة الأولاد. ليس عبثاً أن يقول عليه الصلاة والسلام لرجل لما سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ليس عبثاً أن تجعل الشريعة للأم ثلاثة أمثال ما للأب، إن هذا لم يأت من فراغ، ومعنى ذلك أن الأم قائمة بأمانة عظيمة تستحق أن تبر ثلاثة أمثال الأب، ليس عبثاً أن تجعل الجنة تحت قدم الأم، وهذا ليس مجاناً، معناه: أنها قامت بفضل عظيم، يخرج من حناياها الولد، وتحت جناحها يشب، إنها قوام البيت ومحوره، منه بدأ وإليه يعود. المرأة المسلمة التي تنجب الأطفال تقرباً إلى الله لزيادة عدد المسلمين ولتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم للأمم يوم القيامة، المرأة تموت في النفاس فهي شهيدة، المرأة هي حاملة تربية الأولاد، فلا تتخلى عن وظيفة التربية للخادمة، وتتفرغ هي للفساتين وصاحباتها وزياراتها وخروجاتها، كيف هذه المرأة تكون تحت قدمها الجنة؟ هذه المرأة دعاؤها لولدها أو على ولدها مستجاب. إذاً أنت تربين النشء، فعليك متابعة الأولاد في الصلاة، وتذكيرهم بأوقاتها، وأمرهم بها في السابعة. وكذلك تعليمهم الصوم والترغيب في الوضوء ومتابعتهم عليه، وحثهم على التلاوة وسماع وحفظ القرآن الكريم وملازمة حلق حفظ القرآن، ومعالجة مشكلات الشباب والميوعة والدلع الزائد عند الأطفال، ومحاربة قرناء السوء وأثر الشارع والمدرسة السلبي أحياناً، إزالة عقد الخوف.. الجبن.. الخجل.. الشعور بالنقص.. الأخلاق السيئة.. الحسد.. العناد.. الغضب، مسئولية من باب القيام بأمانة الولد. تعليم الأطفال الأخلاق الحسنة.. الرحمة.. الإيثار.. العفو، تعليمه آداب الطعام والشراب.. المجلس.. الحديث.. زيارة المريض.. السلام.. العطاس.. الأذكار هذه من القيام بأمانة الأطفال، عمل المسابقات للأطفال، قصص إسلامية تقرأ أسئلة عنها، أشرطة مسجلة طيبة. بناتك أمانة في عنقك، أمرهن بالحجاب.. الترديد مع المؤذن.. الصلاة قبل النوم.. الفجر في وقته.. الرحمة الحقيقية في حمل الأطفال على الصلاة، نساء الصحابة يصومن أولادهن ويعطونهم اللعب من العهن والصوف لتسكيت ألم الجوع إذا كان الصوم لا يضره.. التشجيع على الصدقة، مع تحفيظهم أذكار الصباح والمساء وأذكار دخول الخلاء والعطاس والسلام والنوم والاستيقاظ وأذكار الصلاة، إذا صاح الديك ونهق الحمار ونبح الكلب بالليل والأحلام المفزعة. تعليمه الاستئذان على الأبوين خصوصاً في دخول غرفة النوم، التفريق بينهم في المضاجع ومراقبة الذكور والإناث، وتحدث الطامات في البيوت بسبب غياب الوعي وموت الضمير.. محاربة الأخلاق السيئة كالكذب.. اصطحاب الأطفال في الحج والعمرة إذا تيسر.. تهيئة الألعاب المباحة وعرائس القطن والصوف والدمى المصنوعة من القماش للبنات، وتربيتهن على أعمال المنزل ورعاية الصغار وتحمل المسئولية، حتى ضرب الطفل ينبع من الأمانة الملقاة على عاتقك، أيتها الأم! فضربه فيه قيام بالأمانة الشرعية، وله حدود، فلا يجوز أن يتعدى عشر ضربات، ولا يجوز أن يكون بآلة قاسية، ويجب أن يباعد بين زمن الضربات ويفرقها ولا يجمعها في مكان واحد، ويجب أن يتجنب ضرب الرأس والوجه والعورة، ولا يجوز أن يضرب حال الغضب، ورفع اليد عن الضرب إذا توسل الطفل بالله تعالى، إعظاماً لله وإجلالاً له، ويجب أن يسبق الضرب ويتبعه شرح لسببه؛ لماذا حصل؟ قالوا لنا: المرأة اليابانية أفضل الأمهات في متابعة الأولاد، فهي تصطحب ولدها إلى الجامعة إذا أراد الاختبار في جامعة طوكيو، قالوا لنا: إحدى دور الحضانة التي تعذر فيها إجراء قبول للأطفال؛ لأن أعمارهم في حدود العامين، اختبرت أمهات الأطفال بالنيابة عن أطفالهن. قلنا نحن: دعوة الأم المسلمة لابنها عند خروجه من البيت تساوي هذا كله: وفقك الله يا ولدي! وقاك الشر يا ولدي! كان الله معك يا ولدي! لو صارت الأم مربية حقيقة تربي النشء والله تفوق كل الأمهات في العالم، عندها أمومة الأم قبل العطش والجوع، الرضيع يتعرف على أمه من رائحتها ثم من صوتها، لغة الأم أول لغة يقلدها الطفل. أثر غياب الأم أكثر سلبية على الأطفال بكثير من أثر غياب الأب؛ وهذا من أسباب قول الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] لأجل ذلك جعلت الحضانة للأم وكلف الرجل بالإنفاق عليها؛ لتقعد في بيتها وتتفرغ لصناعة الأجيال. ما هو الفرق بين الأم والخادمة؟ فهناك أمهات يقصرن في أمانة الأطفال فيلقينها على الخادمات. الفرق أن الأم تعتني بولدها بدافع الحب، والخادمة تعتني بدافع الواجب، في الوقت الذي تشعر الخادمة بالتعب والملل في خدمة الرضيع، تشعر الأم بالحب والحنان واللذة والسعادة في خدمة الرضيع، مساكين الأطفال الذين يعيشون أزمة حنان؛ لأن الأمهات انشغلن، وألقين بالأولاد على الخادمات، أزمة حنان تؤثر على مستقبلهم وتمزق نفسياتهم.......
أمانة التزام الحجاب(/15)
أمانة الحجاب التي ضيعت من كثير من النساء، قالت عائشة في البخاري : [يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله تعالى:وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها] لم ينتظرن حتى تحصل كل منهن على خمار، وإنما تنفيذ فوري، شعرن بالأمانة -أمانة الحجاب- فبادرت كل امرأة إلى شق مرطها، فتحصلت على خمار غطت رأسها وأسدلت على جيبها كما أمر الله. الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة عائشة لما جاء صفوان بن معطل السلمي وهو رجل أجنبي قريباً منها، فاسترجع فسمعت صوته فاستيقظت وقالت: [فخمرت وجهي]. الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة لما مر بها رجال أجانب في الحج وهي محرمة أن تغطي وجهها، فلما تجاوزوا كشفته، إحرام المرأة في وجهها، أين القيام بأمانة الحجاب الآن؟ أين أين .. ؟ هذه أنواع وأصناف الحجاب المزري تباع في الأسواق وتشتريها النساء، وثوب قصير، وثوب شفاف، وثوب ضيق، وثوب زينة في نفسه وشيء فيه مشابهة للرجال، وأنواع من الملابس فيها مشابهة للكفار، أين أمانة الحجاب يا أمة الله؟ A=6000287>وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. ......
أمانة الدعوة إلى الله(/16)
وأخيراً: أمانة الدعوة إلى الله، أنت أيتها المرأة! حاملة رسالة وأمانة، النساء داخلات مع الذكور في وجوب تبليغ الدعوة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] رجالاً ونساءً فالخطاب عام: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] مريم بنت عمران قامت بالأمانة، صدقت بكلمات ربها وكتبه، آسية امرأة فرعون قامت بأمانة الدعوة، دعت زوجها إلى الله وصبرت على الأذى حتى الموت. المرأة المسلمة داخلة ومخاطبة بقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. المرأة لها نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) المرأة داخلة في حديثه صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم حديث حفظت وأديت إلى الناس؟ يقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) كم حديث يا أيتها المرأة حفظت؟ فأنت عليك تكليف: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم أديتِ؟ قلن قولاً معروفاً، الدعوة في صفوف النساء من القيام بالأمانة، بيان الأحكام التي تختص بالنساء كأحكام الدماء الطبيعية مثلاً، دعوة الرجال من الأزواج والمحارم عليك أمانة، تعليم بنات جنسك أمانة، خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: ( والله ما مثلك -يا أبا طلحة- يرد، ولكنك رجل كافر -انظري إلى القيام بأمانة الدعوة- لكنك رجل كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك حتى تسلم، فذلك مهري وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت : فما سمعت بامرأةٍ قط كانت أكرم مهراً من أم سليم، مهرها الإسلام ) ما طلبت أساور ولا خواتم ولا أحزمة ذهب ولا معضدة فلان، ودمعة فلان وخزام فلان، عن معاذة قالت: [سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة]. عليك بأمانة في الدعوة إلى الله؛ لأن المرأة أقدر من الرجل على البيان والتبليغ في المجتمعات النسائية، المرأة قدوة متنقلة بين النساء، والرجل لا يمكن أن يتنقل بين النساء، المرأة إذا أمرت أختها بشيء فإنها تراعي حال المرأة لأنها امرأة مثلها. المرأة التي تعيش في مجتمع النساء تعرف الأولويات ومع توجيه الرجال يتم النجاح. المرأة تلاحظ الأخطار في واقع النساء، ولا يستطيع الرجل أن يلاحظ. المرأة قادرة على التنبيه المباشر والرجل لا يستطيع أن يمسك المرأة ويكلمها مباشرة إلا إذا كانت من المحارم أو شيئاً بسيطاً. المرأة عندها قدرة لإنكار المنكر، ونحن الرجال لا ندري عما يحصل في واقع النساء من المنكرات إلا إذا وصلنا من النساء، أنا إمام في المسجد لا أدري ما يحدث في مصلى النساء، لولا امرأة تخبرني أن بعض النساء يضعن عطورات، وبعضهن لا يكملن الصف، وتقف واحدة بينها وبين الأخرى متر، وهذه تأتي برائحة الطبيخ، وحفائظ الأطفال في المسجد، وبخور وطيب، والله ما أدري حتى يأتي الخبر من النساء فيتولى الرجل التنبيه، أنا المحاضر من وراء حجاب وجدران لا أعلم عن منكرات بنات الكلية، وما يدريني ما يفعلن حتى تأتي رسالة أو سؤال تقول: إن النساء بدأن في وضع علامة كرستيان ديور (HRISTIAN DUAR) ويخيطنها على الملابس، CHRISTIAN تعني: نصراني. المرأة يمكن أن تخلو بالمرأة فتنصحها، لكن الرجل لا يمكن أن يخلو بالمرأة فينصحها. صد تيارات العلمنة من النساء بشكل جماعي فصد تيار نزع الحجاب وقيادة السيارات وحرية الصداقات.. إلخ له معنى معين إذا جاء من النساء. فإذاً عليك أمانة في الدعوة إلى الله، كلمة تعدينها فتلقينها، تأني.. وتذكير.. واختيار ألفاظ.. ونقل كلام العلماء.. والدقة في النقل.. وصحة الأحاديث.. وجودة الإلقاء هذه أمانة. الكتابة والنصيحة والمراسلة هذه أمانة، إذا صرت مُدرِّسة فذلك مجال عظيم في الدعوة إلى الله هذه أمانة، تحفيظ القرآن ومشاركتك في تعليم النساء كيفية التلاوة أمانة، عقد الندوات أمانة. فإذاً المرأة المسلمة عليها أمانة عظيمة في مجال الدعوة إلى الله بين بنات جنسها بالذات: (( <فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ [الأحزاب:72] الرجال والنساء: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. أيتها المرأة المسلمة: هذه طائفة من الأمانات الملقاة على عاتقك فهل قمت بالأمانة؟ وإذا أردتِ أن أقول لك ختاماً شيئاً عن أمانة المشاعر والأحاسيس فأقول لك كلمة مختصرة؛ لأن هناك أسئلة عن الموضوع: أمانة المشاعر(/17)
والأحاسيس هذه أمانة، الحب في الله أمانة.. البغض في الله أمانة.. بغض أهل الكفر والإلحاد والعلمنة وبغض الفاسق على حسب فسقه أمانة.. بغض أهل البدع على حسب بدعهم إن كانت مكفرة أو مفسقة أمانة.. بغض الراقصات والممثلات والمغنيات والفاجرات هذه أمانة.. محبة العلماء وأولياء الله والصالحات الداعيات القانتات العالمات أمانة، ثم الأخوة في الله والحب في الله أمانة، فلا تعبثي بها ولا تخلطي الحب في الله بالعواطف الجياشة والتعلق المذموم والعشق الإجرامي الذي يوصل إلى الشرك بالله، وإلى اتباع قولها دون الله، وإلى التفكير بها كل وقت وحين، وإلى كتابة الخطابات التي أشبه ما تكون بألفاظها الغرامية، هذه كلها من العبث بأمانة المشاعر والأحاسيس التي صانها الإسلام، أن تعكف واحدة على واحدة فقط دون باقي أخواتها في الله هذا شيء مشبوه، وأن تكون الحركات مريبة هذا أمر مشبوه، وأن تكون الألفاظ مشبوهة هذه خيانة للأمانة. إذاً أمانة المشاعر والأحاسيس لا تخلطيها وتشوبيها بما يريب، وبما يغضب الله وبما يوصل إلى التعلق المذموم، وإلى عشق يفسد القلب ويزيل محبة الله. هذا ما أردت أن أقوله لكِ، وأسأل الله لي ولك التوفيق والسداد والإخلاص وحسن النية وحسن الختام، أسأل الله أن يجعلنا في قبورنا آمنين مطمئنين، ويوم الفزع ويوم الحسرة والندامة يجعلنا من الفائزين السعداء، وإذا افترق الناس إلى أهل الجنة وأهل النار أن يجعلنا في صف أهل الجنة بحوله وقوته إنه أكرم الأكرمين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولا تنسين الدعاء لنا وللجميع بالفلاح والنجاح، وأستودعك الله.......
================(/18)
حب البلدان والحنين إلى الأوطان سفيان علي آدم*
إن كانت العواطف هي المتحكمة في الإنسان والمسيرة لحياته والموجهة لتصرفاته، فإن أصدق هذه العواطف وأشدها لصوقاً بالمرء هي عاطفة الحب، فالحب هو المحرك للإنسان والموجه له وأصل كل حركة إنما هو الحب، كما قال ابن القيم رحمه الله: (وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة فهي علتها الفاعلية والغائية)انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وإن من أصدق الحب حب الأوطان والتعلق بها فالناس على اختلاف أصولهم وبلدانهم يتفقون في شيء واحد وهو حبهم لأوطانهم،وتمسكهم بها وإيثارها على ما سواها من البلدان، وها أمر معهود على اختلاف العصور وتعاقب الدهور. وإن مما يؤكد عظم حب الأوطان في نفوس البشر قول الله تعالى حين ذكر الديار يخبر عن موقعها في قلوب الناس: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم).النساء 66.
فسوى سبحانه بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم في عظمه في قلوبهم ومشقته عليهم، وقال تعالى على لسان بني إسرائيل: (وما لنا لا نقاتل وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)البقرة246.
هذا وإن الناس ليحنون إلى ديارهم وإن أبدلوا منها دياراً أشد خصباً وأوفر نعمة وأشد عمراناً. وهو مما تناقله الناس في كل عصر ومصر. وتناقلوا في ذلك الأمثال ونشروا العبارات التي تدعوا للتمسك بالبلد وهجر الغربة والاغتراب. فمن أقوالهم: ما قالته الهند: حرمة بلدك عليك من حرمة أبويك لأن غذاءك منهما وغذاءهما منه.
وقيل: احفظ بلداً رشحك غذاؤه، وادع حمى أكنك فناؤه.
وقيل: أولى البلدان بصابتك إليه بلد رضعت ماءه وطعمت غذاءه.
وقيل: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره فالإنسان يحن إلى أوطانه.
وقيل: الكريم يحن إلى جنابه كما يحن الأسد إلى غابه.
وقالت العرب: حماك أحمة لك،وأهلك أحفى بك.
وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب إلى عطنه.
وقيل: كما لحاضنتك حق لبنها كذلك لأرضك حق وطنها.
وذكر أعرابي بلده فقال: رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساءها.
وقد ذهب الناس مذاهب شتى في تفسير عاطفة حب الأوطان وعشق البلدان ، فاعتبرها العجم من علامة الرشد، فقالوا: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة.وقيل من أمارات العاقل بره لإخوانه وحنينه لأوطانه ومدراته لأهل زمانه.وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة، وطهارة الرشدة من كرم المحتد.وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن.
ولقد ذهب فلاسفة اليونان وأطباؤهم إلى الربط بين صحة الإنسان وطبيعة أرضه التي نشأ بها وترعرع فيها.فقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع لهوائها، وتنزع إلى غذائها.وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها.وقال جالينوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه كما تنبت الحبة ببل القطر.
ومما لا شك فيه أن حب الناس لأوطانهم وتعلقهم ببلدانهم هم من أسباب عمران البلدان، وإلا لهجرت الديار، وأقفرت بلاد. ولذا قيل:عمّر الله البلدان بحب الأوطان.وكان يقال:لولا حب الناس الأوطان لخسرت البلدان.
على أن الناس بقدر ما أطنبوا في الحديث عن حب الأوطان وأوجبوا التمسك بها بقدر ما ذموا الغربة في ذلك.قالت الحكماء: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك.وقال آخر: الغريب كالفرس الذي زايل أرضه، ففقد شربه، فهو ذاو لا يثمر، وذابل لا ينضر.وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنس نصيبك من الذل.وقيل: الغربة كربة.وقال آخر: لا تنهض من وكرك فتنقصك الغربة وتضيمك الوحدة.
إذا كنت في قوم عدى لست منهم ** فكل ما علفت من خبث وطيب
وقد شبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه فلا أم ترأمه ولا أب يحدب عليه.ولقد حفلت تواريخ الأمم وقصص الشعوب بشواهد تدل على حب الناس لبلدانهم وتعلقهم بها. ولعل أفضل من تناول هذا الباب من الأقدمين هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حيث ألف رسالة قيمة في حب البلدان والحنين إلى الأوطان، ومما جاء فيها:وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف.وقال أيضاً: وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان، وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده وجناب أنصب من جنابه واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره.وقال أيضاً: ولقد كانت الملوك على قديم الدهر لا تؤثر على أوطانها شيئاً.ثم إنه أورد طرفاً من سير الملوك في حب أوطانها ،ومن ذلك:
وحكى الموبذ أنه قرأ في سيرة إسفنديار بن يستاسف بن لهراسف بالفارسية، أنه لما غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر اعتل بها، فقيل له: ما تشتهي ؟، قال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها.(/1)
وكان الإسكندر الرومي جال في البلدان وأخرب إقليم بابل وأباد الخلق، فمرض بحضرة بابل، فلما أشفى أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلده، حبا للوطن.
ولما افتتح وهرز بن شيرزاد بن بهرام جور اليمن، وقتل ملك الحبشة المتغلب كان على اليمن، قام بها عاملاً لأنو شروان، فبنى نجران اليمن، وهي من أحصن مدن الثغور، فلما أدركته الوفاة أوصى ابنه شيرزاذ أن يحمل إلى أصطخر ناوس أبيه، ففعل به ذلك.
فهؤلاء الملوك الجبابرة الذين لم يعتقدوا اغترابهم نعمة ،ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنوا إلى أوطانهم ولم يؤثروا على تربتهم ومساقط رؤوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالغزو والمدن المغتصبة في ملوك الأمم.
غير أنا وإن كنا قد أتينا في الحديث على أخبار الملوك وأقوال الحكماء والفلاسفة ، فإن هنالك من لا بد من الوقوف على أقوالهم وإرهاف السمع لهم، وإعارتهم القلوب والعقول، لأنهم ينابيع يترقرق ماؤها ثم يتسرب إلى القلوب فيملؤها سعادة وهناء. ألا وهم الشعراء.
هذا وإن أدبنا العربي ليزخر بأشعار تصور عمق هذه العاطفة عند الشعراء وتجذرها في نفوسهم.فها هو ذا أحدهم يصف حبه وشوقه لبلده ولأهله مفضلاً ذلك على عظيم النعم ووافر الخير. قائلاً:
ألا يا حبذا وطني وأهلي ** وصحب يحين يدخر الصحاب
وما عسل ببارد ماء مزن ** على ظمأ لصاحبه يشاب
بأشهى من لقائكم إلينا ** فكيف لنابه ومتى الإياب
وها هو ذا حماد بن إسحاق الموصلي يصف حبه لبلاده وعشقه لها قائلاً:
أحب بلاد الله ما بين صارة ** إلى غطفان إذ يصوب سحابها
بلاد بها نيطت علي تمائم ** وأول أرض مس جلدي ترابها
وها هي ذي نائلة بنت الفرافصة تحمل إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه، لكنها تكره فراق أهلها وتتمنى لو أنها كانت من نصيب أحد بني قومها فتخاطب أخاها ضباً قائلة:
ألست ترى يا ضب أنني ** مرافقة نحو المدينة أركبا
أما كان في أولاد عوف بن مالك ** لك الويل ما يغني الخباء المطنبا
أبى الله إلا أن أكون غريبة ** بيثرب لا أماً لدي ولا أبا
وما أكثر القصص في هذا الباب ، فمنها أيضاً:
ما روي أن أبان بن دارم تزوج امرأة من كلب ، فنظرت ذات يوم إلى ناقة قد حنت فذكرت بلادها ، وأنشأت تقول:
ألا أيها البكر الأباني إنني ** وإياك في كلب لمغتربان
تحن وأبكي ذا الهوى لصبابة ** وإنا على البلوى لمغتربان
وإن زماناً أيها البكر ضمني ** وإياك في كلب لشر زمان
ولعلنا نختم بهذه القصة التي وردت في كتاب قصص العرب :
هوى بعض خلفاء بني العباس أعرابية فتزوج بها، فلم يوافقها هوى المدن، فجعلت تعتل وتتأوه، مع ما هي عليه من النعيم والراحة، والأمر والنهي ، فسألها عما بها فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري وأحاليب الرعاء، وورود المياه، فبنى لها قصراً على رأس البرية بشاطئ دجلة وأمر بالأغنام أن تسرح بين يديها وتتراءى لها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقاً إلى طنها.
ثم مر بها يوماً في قصرها منحيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي ، وارتفع صوتها وعلا نحيبها، ثم قالت:
وما ذنب أعرابية قذفت بها ** صروف النوى من حيث لم تك ظنت
تمنت أحاليب الرعاة وخيمة ** بنجد فلم يقض لها ما تمنت
إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه ** وبرد حصاه آخر الليل أنت
لها أنة عند العشاء وأنة ** سحيراً ولولا أنتها لجنت
فخرج عليها الخليفة وقال: قد قضي ما تمنيت ، فالحقي بأهلك من غير فراق، فما مر عليها وقت أسر من ذلك، وسرى ماء الحياة ف يوجهها من حينها، والتحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها،وظل الخليفة يزورها في أهلها بين الحين والحين.
وقبل أن نختم حديثنا نذكر بأن الأرض التي يحن إليها أولئك القوم لم تكن بأكثر خصباً ولا أوفر نعمة ، ولكنهم يحبونها مع ما فيها من شدة وضنك وهي عندهم من أخصب الأرض وعيشهم ألذ عيش كما قال أحدهم:
إذ ما أصبنا كل مذيقة ** وخمس تميرات صفا كنائز
فنحن ملوك الأرض خصباً ونعمة ** ونحن أسود الغاب عند الهزاهز
وكم متمن عيشنا لا يناله ** ولو ناله أضحى به حق فائز(/2)
حب الوطن من الإيمان
يا شام
isltmddn@hotmail.com
تكاد المرحلية تكون السمة العامة للحراك الإسلامي المعاصر والبناء البعيد نادر وحتى شديد الصعوبة، والضغوط اليومية تستهلكنا، وقلة أولئك الذين أدركوا مقاصد الإسلام البعيدة وسيره مع الفطر النقية فلم يغرق في المرحلية؛ ألم يكن مرحلياً التفكير بقتل ابن أبي سلول، و ألم يكن نظر النبي الهاديصلى الله عليه وآله وسلم أبعد غوراً فلم يأذن بقتله وقال كما جاء في الصحيحين: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ومثلما يفعل التجار الماكرون عندما يواسون الخاسر في منافساتهم فيعطونه جائزة ترضية، فكذلك يفعل ذوو النظر الضيق مع فارق أنهم هم الذين يطلبون جوائز الترضية من أصحاب النفوذ ثم يفرون بها منتشين وكأن الدنيا قد حيزت لهم!
بعض جوائز الترضية أمرها هين ورغم الغبن فيها إلا أن وبالها يقع على فرد يعشقها ، أما الخطير في الأمر فهو عندما تتحول جوائز الترضية لتبتسر جزءاً من شمول الدعوة ومعاقد القوة في الأمة .
من أخطر الأمثلة على ذلك ماشاع بين الأمة من أن المسلم ليس له وطن ، وأن جنسية المسلم عقيدته ، ووطني وقومي حيث يدعى إلهيا ، وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددته عين أوطاني ، وهذا الكلام يتحدث عن حق بين وصواب ليس فيه شك ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة-24. ويقول القرطبي في الآية : وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.
وهذه الآية لاتنفي باقي المحبوبات بل تؤكدها ، والإشكال يحصل إن قدم المسلم أياً من محبوباته على محبة الله ورسوله ، ويقول العلامة القاضي فيصل مولوي: (فالله تعالى لم ينكر علينا هذه الروابط وماينشأ عنها من حب ، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبنا لله ورسوله ... وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى) .
إن هناك إشكالاً خفياً وهو أن يُظن أن انعدام تلك المحبوبات إنما هو عين التوفيق والصواب.
تقديم أي أمر على محبة الله ورسوله هو عين الضلال والخسران المبين ، ولكن محو المحبوبات الأخرى (والتي تأتي في ظلال محبة الله ورسوله) سبب خلل عظيم .
وإنني أزعم أن من أسباب استبداد الظالمين بالديار قلة حب الوطن في نفوس البعض ، وربما اعتقادهم أن فيه شيئاً لا يتفق مع الإسلام! وأخشى أن يظن البعض أن حب الأوطان بدعة غليظة وأن يكون فقه من لاوطن له قد طغى على فقه من له وطن.
لا أعرف أحداً قرأ ماكتبه علامة الشام الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن دمشق إلا وتأثر بذلك تأثراً شديداً ، ومن تابع فقرأ كتابه: دمشق ، صور من جمالها وعبر من نضالها ، فلن يملك عينيه من البكاء شوقاً إلى تلك الديار .
إن الأنظمة الثورية التي حكمت بعض دول العرب والمسلمين أتت لقيطة التاريخ مجهولة النسب فخنقت عن قصد كل نسب عريق في الأمة ، وجهلت الناس ببلادهم بل كرهتهم إياها ، فتركوها هجرة أو إهمالاً ، فتحس كأن جيشاً من المغول ، وجحافلاً من الجراد قد نزلت بها ، وعَلَكَت تلك الأنظمة كلمة الوطن والوطنية عَلْكاً فذهب الحس الوطني من الناس ...
ياشام إن جراحي لاضفاف لها فمسِّحي عن جبيني الحُزن والتعبا(/1)
إن بعض الملتزمين من الشباب لم يذوقوا من الوطنية شيئاً ، بسبب أنه نشأ وربي في عهود محقت فيها الوطنية محقاً ، وتعمدت تلك الأنظمة أن تحطم في الناس مرجعياتهم بعد أن استولت على المرجعية السياسية بالحديد والنار وبانتخابات يعلم الكل كيف تدار وكيف تخرج نتائجها العجائبية، فصادرت المؤسسة الشرعية وصارت هي التي تعين من يتكلم بهواها ، بعد أن كان العلماء هم الذين يقدمون الصدور فيهم ، وصادرت المرجعية المهنية فوضعت يدها على كل نقابة وحرفة (كان في دمشق في العهد العثماني حوالي مائتي نقابة وزعيمها جميعاً نقيب النقباء وهو نقيب السادة أشراف أهل البيت ولم يكن حتى السلطان نفسه يستطيع خلعه) ، وصادرت المرجعية الاجتماعية فخلطت السكان خلطاً عجيباً وأصدرت قوانين أدخلت الحابل بالنابل فأصبح الناس غرباء في حيهم ، ولا كبير يجمعهم ، ثم أعانها البعض دون أن يدري في تفتيت المرجعية الأخيرة وهي المرجعية العائلية ، والتي لها الكثير من القوة ، فامتنع الكثيرون عن عميق الصلة مع أرحامهم ، بحجة أن هذا قليل التزام وذلك فيه طرف من ضعف ، وآخر امرأته سافرة ، ورابعهم شوهد يدخن ، فانفض سامر الأمة ، وتقطعت مزقاً ونتفاً ، ومادامت العقول لم تدرك الأثر الخطير لتفتت تلك المرجعيات فإنها بالتالي لم تفطن إلى أثر ذلك إلى أمر أعظم وهو انحسار الوطنية وقلة الغيرة على البلاد ، وفشو روح الإهمال والانتهازية بين الناس ، ونهبهم أموال بعض وكثرة شكاياتهم ضد بعضهم ، وملئهم المحاكم يرفعون فيها الظلم الصغير بالشكوى إلى ظالم أكبر.
لا أيها الإخوة والشباب ، ليس ذلك بالإنصاف إن لم ندر أغوار الأمور وعلاقة الأسباب بالنتائج ، فإن فقه التبسيط في عظائم الأمور ، وفقه التهويل في صغائرها أصاب الأمة أوكاد يصيبها بمقتل مفجع.
ولمن يريد الدليل على أن المؤمن يحب وطنه ، وأن الوطنية فيه لاتخبو ، تلك الأدلة التي اقتصرنا فيها على القليل ومن أراد الزيادة فليبحث:
- جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا) ... وفي رواية حميد: (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا ).
وقال المصنف ماخلاصته : قوله دَرَجَات (جمع درجة) أي طرقها المرتفعة، وللمستملي : دَوحات ، جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة
وفي رواية جُدُرات وهو جمع جُدُر بضمتين جمع جدار ... قال صاحب المطالع: جدرات أرجح من دوحات ومن درجات
قوله: (أوضع) أي أسرع السير
(من حبها) وهو يتعلق بقوله حركها أي حرك دابته بسبب حبه المدينة.
قال الإمام ابن حجر: وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه!
- جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، باب رقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا) قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كأن أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية.
وقال القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.
وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك.
وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا ، وفيه نظر.
- جاء في فتح الباري ، كتاب الحدود ، باب المحاربين من أهل الردة :
قول الله تعالى :(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ)(/2)
..... وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم).
وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.
- جاء في فتح الباري ، كتاب التعبير ، باب أول مابدئ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي :
( ... فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ فَقَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا).
وخلاصة ماذكره ابن حجر : قوله (أو مخرجي هم) ؟ . قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال " أو مخرجي هم "؟ قال ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام ، [وتلك البقاع ولا شك من أعز البقاع على المسلم ].
- جاء في فيض القدير : حرف الهمزة : (إذا قضى أحدكم) أي أتم (حجه) أو نحوه من سفر طاعة كغزو (فليعجل) أي فليسرع ندباً (الرجوع إلى أهله) أي وطنه وإن لم يكن له أهل (فإنه أعظم لأجره) لما يدخله على أهله وأصحابه من السرور بقدومه لأن الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، وإذا كان هذا في الحج الذي هو أحد دعائم الإسلام فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى. ومنه أخذ أبو حنيفة كراهة المجاورة بمكة وخالفه صاحباه كالشافعي. وفيه ترجيح الإقامة على السفر غير الواجب.
.... قال الذهبي في المهذب سنده قوي.
- وننقل خلاصة ماذكره العجلوني في كشف الخفاء ، حرف الحاء المهملة. الحديث رقم: 1102 : ( حب الوطن من الإيمان) : قال الصغاني موضوع ، ومعناه صحيح، ورد القاري قوله ومعناه صحيح بأنه عجيب، قال إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان، قال ورد أيضا بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم – الآية) فإنها دلت على حبهم وطنهم، مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير عليهم للمنافقين، لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان انتهى.
كذا نقله القاري ثم عقّبه بقوله ولا يخفى أن معنى الحديث : حب الوطن من علامة الإيمان وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصا بالمؤمن، فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصلح أن يكون علامة، قوله ومعناه صحيح نظرا إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا) فصحت معارضته بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا – الآية) ثم التحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له اختصاصه به مطلقا، بل يكفي غالبا ألا ترى إلى حديث : (حسن العهد من الإيمان) وهو حديث صحيح .. مع أن حسن العهد يوجد حتى في الكافرين
- ذكر ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر ، والخطابي في غريب الحديث قال قدم أُصيل - بالتصغير - الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة كيف تركت مكة؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها - الحديث، وروي أنه عليه الصلاو والسلام قال : حسبك يا أصيل لا تحزني، وفي رواية: ويهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر
- في صحيح البخاري، باب: كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة :
عن عائشة رضي الله عنها : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة). قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، قالت: فكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنا.
قال الإمام ابن حجر : وقوله: " كما أخرجونا " أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا.(/3)
وهناك سبب آخر لذهاب الوطنية هو مناهج ضيقة لا تتسع لغير حاملها جردت الأمة (ولو بحسن نية) من كثير من معاقد قوتها زاعمة التجرد والإخلاص ، وفاتها أن الإسلام دين للعالم وليس لبقعة من الأرض ضيقة ولا تنحشر رايته في مذهب بعينه ، ولو أن المسلمين في أي بلد قطنوه رفعوا رايتهم وسبقوا الناس في رعاية أوطانهم لكان من وراء ذلك خير عميم.
اقرؤوا ياشباب الإسلام وبناته لوعات القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري:
حَطِّميني ياريحُ ثم انثري أشلاءَ روحي في جوِّ تلكَ iiالجِنانِ
وزعيني في كل حقل على الأزهارِ بين القدودِ والأغصانِ
زفَراتي طوفي سماءَ بلادي وانهلي من شُعاعها iiالرَّيان
أطفئي لوعتي بها واغمسي روحي فيها وبرِّدي iiألحاني
وصِلي جيرتي وأهلي وأحبابي وقُصي عليهِمو iiمادهاني
وانثري في ثَراهمو قبلاتي واملئي رَحبَ أفقهِم من iiجِناني
وسليهم ماتصنعُ الروضةُ الغنَّا وأدواحُها الطِّوالُ iiالدواني
هل رثاني هَزارها هل بكاني وُرقَها هل شَجاهُ ماقد شجاني
ليتَ للروضِ مُهجةٌ فلعل الدَّهرَ يُبكيهِ مثلَ ما iiأبكاني
وعش مع الأستاذ عصام العطار في غربته وحنينه إلى وطنه :
غريبٌ يقلبهُ الحنينُ على iiالغَضى
تناءت به دارٌ وأوحشَ iiمَنزلٌ
فلا راحةٌ حتى ولو لان مَضجَعٌ
ألامحُ من خلفِ الحدودِ iiمنازلاً ...
ويُرمضُه شوقاً إلى كل iiشائقِ
وظلَّلَهُ هَمٌّ مَديد iiالسُرادِقِ
ولا رَوحَ حتى في ظلال البواسِقِ
تلوحُ كما لاح الشِّراعُ iiلغارِقِ
وعرج على شجون الأستاذ سليم عبد القادر
(( قلت العنوان ليس بحديث ))(/4)
حب لا يعرف الفناء
لم أطلب يوما ثامن المعجيزات
لم أطلب مصباح علاء
ولا الذهاب في رحلة إلى السماء
لم أطلب قصور من قوارير تحت الماء
لم أطلب شاعرا
ينظم الأبيات لي صباحا مساء
لم أطلب غير الحب
فهل أكون بذلك خرجت عن تعاليم السماء؟
إن أخطأت يا رب الأرض والسماء
فأسألك بكل الأسماء
أن تغفر لفتاة...
ذنبها الوحيد
أنها أحبت ككل النساء
ككل الطيور...ككل الزهور
كالأسماك في الماء
لم أقترف خطيئة
غير أنني أحببت بوفاء
وكتمت حبي لا خوفا ولا ضعفا ولكن حياء
وتجاهات قلبي لأن العقل زينة الحكماء
وتنسيت نعيم الحب وإعتبرته بلاء
وطلبت ربي رضاك
وهل لغيرك الطاعة والولاء؟؟
لا الحبيب بعدك حبيب
فمصير كل حب دونك فناء
ولا الخليل بعدك خليل
وهل لي بعدك اخلاء؟؟
انت ربي وانت أنسي
وانت مخرجي من كل ضيق و بلاء
مالك أنت لقلبي
والباقي كلهم عبيد وإيماء
فأعوذ بك أن أكون يوما بقدرك من الجهلاء
لا أطلب جاها ولا مالا
فهذا مطلب الأغبياء
اطلب أن أرتقي بحبك منزلة الشهداء
فلا يهم قرب حبيب في الدنيا
فبعد قربك كلهم عني غرباء
قالوا: كيف صبرت عن البعد؟
وكلنا على تحمله ضعفاء
قلت: قرب ربي جعلني من الاقوياء
قالوا: الحب مرض ليس لديه دواء
قلت: حب ربي أقوى من كل داء
فكيف الله يبخل عليّ بالشفاء؟
هو طبيبي وعلى قدرته يعجز الأطباء
قالوا:ألا تشتقين إلى كلام الهوى
وحبيب يطرب سمعك بالشعر و الغناء؟
قلت: سمعت كلام ربي ودعاني بالنداء
فأجبته بالصلاة والذكر والدعاء
يا ليت لائمي في هواه عرف
أنني أحبب الذي حبه في قلبي
لا يلحقه موت ولا فناء
وحبي إليه طاعة وولاء(/1)
حب نبيك كهؤلاء
مفكرة الإسلام : من أجل أن يعلم المسلمون مكانة نبيهم صلى الله عليه وسلم
ومن أجل أن يعلم المسلمون كيف يكون الحب الحقيقي لهذا الرسول العظيم ..........
كانت هذه المواقف......
أبو بكر رضي الله عنه
واليك هذ المشاعر التي يصيغها قلب سيدنا أبو بكر في كلمات تقرأ، يقول سيدنا أبو بكر: كنا في الهجرة وأنا عطش عطش [ عطشان جدا ، فجئت بمذقة لبن فناولتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت له:اشرب يا رسول الله، يقول أبو بكر: فشرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت!!
لا تكذّب عينيك!! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق .. هل ذقت جمال هذا الحب؟انه حب من نوع خاص..!!أين نحن من هذا الحب!؟واليك هذه ولا تتعجب، انه الحب.. حب النبي أكثر من النفس..
يوم فتح مكة أسلم أبو قحافة [ أبو سيدنا أبر بكر]، وكان اسلامه متأخرا جدا وكان قد عمي، فأخذه سيدنا أبو بكر وذهب به الى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن اسلامه ويبايع النبي صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم' يا أبا بكر هلا تركت الشيخ في بيته، فذهبنا نحن اليه' فقال أبو بكر: لأنت أحق أن يؤتى اليك يا رسول الله.. وأسلم ابو قحافة.. فبكى سيدنا أبو بكر الصديق، فقالوا له: هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟تخيّل.. ماذا قال أبو بكر..؟قال: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي الآن ليس أبي ولكن أبو طالب، لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر
سبحان الله ، فرحته لفرح النبي أكبر من فرحته لأبيه أين نحن من هذا؟
عمر رضي الله عنه
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: و الله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه'. فقال عمر: فأنت الآن و الله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله : 'الآن يا عمر' .
لن يشعر بهذه الكلمات من يقرأها فقط.. انها والله أحاسيس تحتاج لقلب يحب النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقاها كما هي.. غضة طريّة
ثوبان رضي الله عنه
غاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال اليوم عن سيدنا ثوبان خادمه وحينما جاء قال له ثوبان: أوحشتني يا رسول الله وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' اهذا يبكيك ؟ ' قال ثوبان: لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [69] سورة النساء
سواد رضي الله عنه
سواد بن عزيّة يوم غزوة أحد واقف في وسط الجيش فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجيش:' استوو.. استقيموا'. فينظر النبي فيرى سوادا لم ينضبط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' استو يا سواد' فقال سواد: نعم يا رسول الله ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسواكه ونغز سوادا في بطنه قال: ' استو يا سواد '، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقدني!فكشف النبي عن بطنه الشريفة وقال:' اقتص يا سواد'. فانكب سواد على بطن النبي يقبلها.يقول: هذا ما أردت وقال: يا رسول الله أظن أن هذا اليوم يوم شهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن تمس جلدي جلدك.ما رأيك في هذا الحب؟
وأخيرا لا تكن أقل من الجذع ....
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في مسجده قبل أن يقام المنبر بجوار جذع الشجرة حتى يراه الصحابة.. فيقف النبي صلى الله عليه وسلم يمسك الجذع، فلما بنوا له المنبر ترك الجذع وذهب إلى المنبر 'فسمعنا للجذع أنينا لفراق النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر ويعود للجذع ويمسح عليه ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم:' ألا ترضى أن تدفن هاهنا وتكون معي في الجنة؟'. فسكن الجذع..
للواجب العملي طالع المقالة التالية: فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا؟](/1)
"حتى إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرب فى عينٍ حَمِئَةٍ"
(رد على رسالة من أحد نصارى المهجر تدعونا إلى ترك الإسلام واعتناق التثليث)
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
بعث لى أحد إخواننا من نصارى المهجر فى الأسبوع الماضى برسالة مشباكية (مكتوبة بلغة إنجليزية لا بأس بها، وإن لم تخل من الأخطاء) يعقّب فيها على مقالى: "إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات"، الذى نُشِر يوم الجمعة الموافق 20/ 8/ 2005م، لكنه ترك تقريبا كل ما قلته فى مقالى المشار إليه فلم يردّ على شىء منه، اللهم إلا ما كتبته عن المعجزات وأن غيابها عن النسق العقيدى عندنا لا يضر الإسلام فى شىء، ورغم هذا جاء تناوله للموضوع على نحو لم أجد معه داعيا إلى الخوض فيه كَرّةً أخرى، وبخاصة أنه لم يحقِّق جيدا ما كتبته فى هذه النقطة. ثم ثنَّى فتحدَّى المسلمين أن يستطيعوا الرد على ما يوجَّه للقرآن من انتقادات علمية منها ما يتعلق مثلا بما جاء فى الآية 86 من سورة "الكهف" عن ذى القرنين ومشاهدته الشمس وهى تغرب فى عين ماء، مما يخالف حقائق علوم الفلك كما قال. وفى نهاية الرسالة لم ينس أن يرجو لنا أن نفيق من الغاشية التى تطمس على أبصارنا منذ أربعة عشر قرنا من الظلام وأن نعود إلى المسيح بعد أن بيَّن لنا هو وأمثاله مقدار الجهل الكبير الذى يتصف به الله ومحمد حسبما قال. يا شيخ، فأل الله ولا فألك! أتريدنا أن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ونعود إلى العصر الحجرى فى مسائل العقيدة والعبادة، ونترك التوحيد إلى التثليث، وندع الاحترام والتقدير العظيم الذى نكنّه فى أعماق قلوبنا للسيد المسيح عليه السلام بوصفه رسولا وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ونتخذه وثنا نشركه مع الله سبحانه وتعالى كما يفعل الكافرون؟ ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: "وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أَنَّى يُؤْفَكون؟" (التوبة/ 30)؟ لا يا عم، يفتح الله! خّلِّك فيما أنت فيه، ولْنَبْقَ نحن أيضا فى النور والهدى الذى أكرمنا الله به على يد سيد النبيين والمرسلين، صلَّى الله وسلَّم عليه وعليهم أجمعين. وقد كتبتُ هذه الكلمة على الطائر وأنا على جناح سفر، ولم يرنِّق النوم فى عينى طوال الليل إلا لساعة أو أقلّ دون سببٍ واضح، فلم يتسنّ لى تدقيق مراجعتها، ولعلى لم أخطئ فيها أخطاء فاحشة، وإلا فإنى أعتذر مقدما من الآن.
والآية التى يشير إليها صاحب الرسالة هى قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ (أى ذو القرنين) مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...". وأَدْخُل فى الموضوع على الفور فأقول: من المعروف فى كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعا فى استعمالها، بل إن فى اللغة توسعات كثيرة فى غير حروف الجر أيضا، وإن لم تكن هذه التوسعات دون ضوابط حتى لو لم نستطع فى بعض الأحيان أن نتنبه لها، أو على الأقل حتى لو لم نتفق عليها. وقد تُسَمَّى هذه التوسعات بـ"المجاز"، وهو ما يعنى أن الكلام لا ينبغى أن يؤخذ على ظاهره أو حرفيته. وهذا، كما سبق القول، معروف عند دارسى اللغات. ولْنأخذ حرف الجرّ "فى" (الموجود فى الآية) لنرى ماذا يقول النحاة فى استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ : الأول : الظرفية، زمانًا أو مكانًا، حقيقةً أو مجازًا، ومن الزمانية: "حضرتُ إلى الاجتماع فى العاشرة مساء"، ومن المكانية: "سكنتُ فى هذا البيت أعواما طوالا". الثاني : المصاحبة، نحو قوله تعالى: "ادخلوا فى أُمَمٍ"، أى بمصاحبتها (الأعراف / 38 ) . الثالث : التعليل، نحو : "فذلكم الذى لمتُنَّنى فيه"، أى بسببه (يوسف / 32). الرابع : الاستعلاء، نحو قوله تعالى: "ولأُصَلِّبَنَّكم فى جذوع النخل"، أى عليها (طه/ 71 ). الخامس : مرادفة الباء، نحو: "فلان بصير فى الموضوع الفلانى"، أى بصير به . السادس : مرادفة "إلى " نحو قوله تعالى: "فرَدّوا أيديهم فى أفواههم"، أى مَدَّ الكفار أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور (إبراهيم / 9). السابع : مرادفة " مِنْ ". الثامن : المقايسة، وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كما فى قوله سبحانه: "فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل"، أى أن متاع الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل (التوبة / 38). التاسع : التعويض، كما فى قولنا: "دفعتُ فى هذا الكتاب عشرين جنيها". العاشر : التوكيد، وأجازه بعضهم في قوله تعالى: "وقال: اركبوا فيها"، أى أن الركوب لا يكون إلا فى السفينة، ولذلك لا ضرورة للنص على ذلك إلا من باب التوكيد (انظر فى ذلك مثلا "مغنى اللبيب" لابن هشام).(/1)
وفى القرآن الكريم نقرأ قوله عز وجل: "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، والمقصود أن كلا منهم يضع طرف إصبع واحدة من أصابعه عند فتحة الأذن، لا فى داخلها. ونقرأ: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (البقرة/ 30)، وطبعا لم يجعل المولى الإنسان خليفة فى الأرض، أى فى باطنها، بل على سطحها. ونقرأ: "وأُشْرِبوا في قلوبهم العِجْل بكفرهم" (البقرة/ 93)، وليس المقصود العجل نفسه بل عبادته، وهى لا تُشْرَب ولا تدخل فى القلب بالمعنى الذى نعرفه. ونقرأ: "قل: أتحاجّوننا في الله، وهو ربنا وربكم" (البقرة/ 139)، أى أتحاجّوننا بشأن الله؟ ونقرأ: "قد نرى تقلُّب وجهك في السماء، فلنولينَّك قِبْلَةً ترضاها" (البقرة/ 144)، أى صوب نواحى السماء، وليس فى السماء فعلا. ونقرأ: "ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" (البقرة/ 177)، والإنسان لا ينفق ماله فى الرقاب، بل يعتق به الرقاب. ونقرأ: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم القِصَاص في القتلى" (البقرة/ 178)، أى مقابل جريمة القتل وتعويضا لأهل القتيل. ونقرأ: "وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفْسِد فيها" (البقرة/ 205)، أى فوقها. ونقرأ: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكةُ وقُضِيَ الامر؟" (البقرة/ 217)، أى يقع بهم عقاب الله فى هيئة ظلل من الغمام. ونقرأ: "والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويَذَرُون أزواجا وصيةً لأزواجهم متاعًا إلى الَحْول غيرَ إخراج. فإن خرجن فلا جُناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف" (البقرة/ 234)، أى فعلن بأنفسهن. ونقرأ: "وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكل شيء" (الأعراف/ 145)، أى على الألواح. ونقرأ: "وإذ يُريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا" (الأنفال/ 44)، أى أمام أعينكم وأعينهم. ونقرأ: "يا أيها النبي، قل لمن في أيديكم من الاسرى: ..." (الأنفال/ 70)، ولا يمكن إنسانا أن يكون فى يد إنسان آخر بالمعنى الحرفى كما هو واضح. ونقرأ: "الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذِكْرِي" (الكهف/ 101)، والعيون لا تكون فى الغطاء، بل تحت الغطاء. ونقرأ: "وأَذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالا" (الحج/ 27)، أى أذِّن بحيث يسمعك الناس. ونقرأ: "... وتقلُّبك في الساجدين" (الشعراء/ 219)، أى معهم. ونقرأ: "فإذا أُوذِيَ في الله جَعَل فتنة الناس كعذاب الله" (العنكبوت/ 10)، أى أُوذِىَ بسبب إيمانه بالله. ونقرأ: "لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ: جنتان عن يمينٍ وشِمال" (سبأ/ 15)، والجنتان لم تكونا فى مساكن سبإ، بل حولها أو قريبا منها. "أَوَمَنْ يُنَشَّا في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مُبِين؟" (الزخرف/ 18)، والنساء لا ينشأن فى الحلية بل مرتديات لها ومستمتعات بها. ونقرأ: "إن المتقين في جنّات ونَهَر" (القمر/ 94)، والمتقون فى الآخرة سيكونون فعلا فى الجِنَان، لكنهم بكل تأكيد لن يكونوا فى الأنهار، بل ستجرى الأنهار فى الجِنَان. ونقرأ: "في سِدْرٍ مخضود" (الواقعة/ 28)، وهم لن يكونوا فى الجنة فى شجر السِّدْر، بل سيأكلون منه. ونقرأ: "أولئك كَتَب في قلوبهم الإيمان" (المجادلة/ 22)، ولا كتابة فى القلوب بالمعنى الظاهرى بطبيعة الحال ولا حتى فوقها. ونقرأ: "ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعا فاسلكوه" (الحاقة/ 32)، أى اربطوه بها. ونقرأ: "في جِيدها حبلٌ من مَسَد" (المسد/ 5)، أى حَوْل جيدها... وهكذا.
وفى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أمثلة كثيرة على ما نقول، وهو أمر طبيعى، فهذه هى طبيعة اللغة، سواء فى كتاب الله أو فى كلام أهل الكتاب أو فى أى كلام آخر. وهذه بعض الأمثلة من الكتاب المذكور: " كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض" (تكوين/ 2/ 5)، " وكان قايين(/2)
عاملا في الارض" (تكوين/ 4/ 2)، "واما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، " كان نوح رجلا بارا كاملا في اجياله" (تكوين/ 6/ 9)، "تنجح طريقي الذي انا سالك فيه" (تكوين/ 24/ 42)، "فوضعت الخزامة في انفها" (تكوين/ 24/ 47)، "فاحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا" (تكوين/ 25/ 28)، "فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم" (تكوين/ 26/ 13)، "فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما انا آمرك به" (تكوين/ 27/ 8)، "ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الارض" (تكوين/ 28/ 14)، "وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه" (تكوين/ 41/ 42)، "فتقدموا الى الرجل الذي على بيت يوسف وكلموه في باب البيت" (تكوين/ 43/ 19)، "أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه؟" (تكوين/ 44/ 5)، "وحمل بنو اسرائيل يعقوب اباهم واولادهم ونساءهم في العجلات التي ارسل فرعون لحمله" (تكوين/ 46/ 5)، "ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل" (خروج/ 1/ 14)، "خرج الى اخوته لينظر في اثقالهم" (خروج/ 2/ 11)، "ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم" (خروج/ 2/ 18)، "وقال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع الى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون" (خروج/ 4/ 21)، "فذهب والتقاه في جبل الله وقبّله" (خروج/ 4/ 27)، "هما اللذان كَلّما فرعون ملك مصر في اخراج بني اسرائيل من مصر" (خروج/ 6/ 27)، " الدمامل كانت في العرّافين وفي كل المصريين" (خروج/ 9/ 11)، "تخبر في مسامع ابنك وابن ابنك بما فعلتُه في مصر وبآياتي التي صنعتها بينهم" (خروج/ 10/ 2)...إلخ، وهى بالمئات، إن لم تكن بالألوف. ومن هنا كان من السهل أن ندرك معنى قول القرطبى مثلا فى الآية المذكورة: "وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا (أى وراء العَيْن الحَمِئَة) أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه". يقصد أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن يُسْتَعْمَل بعضها فى مكان بعضها الآخر. وفى نفس المجرى يجرى ما نجده عند البغوى وأبى حيان، إذ نقرأ فى تفسير الأول نقلا عن القتيبى أنه بجوز أن يكون المعنى هو أنه كان "عند الشمس" أو "فى رأى العين" عين حمئة، أما الثانى فقد ذكر أن بعض البغداديين يفسر قوله تعالى: "فى عين حمئة" بمعنى "عند عين حمئة".(/3)
بل إن فى الكتاب المقدس عبارات كثيرة من نوع الآية القرآنية التى بين أيدينا بل أَوْغَل فى مضمار الاستخدامات المجازية، ويقرؤها هؤلاء الذين يرددون تخطئة القرآن كما تفعل الببغاوات الغبية، لكن دون فهم أو تمييز، ومن ثم لا يخطر فى بالهم أن يقفوا ويتدبروا ويفكروا فى أمر هذا التشابه فى الاستعمالات الأسلوبية وأنه مسألة عادية جدا لأنه هكذا كانت اللغة وهكذا ستظل إلى يوم يبعثون. وهم فى هذا كالكلب الذى ربّاه صاحبه على نباح المارة وعضِّهم، فكلما رأى شخصا مارًّا من أمام البيت نبحه وعضه دون تفكير. لنأخذ مثلا الشواهد التالية: "اما هما في عبر الاردن وراء طريق غروب الشمس في ارض الكنعانيين..." (تثنية/ 11/ 30)، "هكذا يبيد جميع اعدائك يا رب. واحباؤه كخروج الشمس في جبروتها" (قضاة/ 5/ 31)، "هكذا قال الرب: هانذا اقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك امام عينيك واعطيهنّ لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس" (صموئيل 2/ 12/ 11)، "وقلت لهما: لا تفتح ابواب اورشليم حتى تَحْمَى الشمس" (نحميا/ 7/ 3)، "قدام الشمس يمتد اسمه" (مزامير/ 72/ 17)، "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس" (الجامعة/ 4/ 1)، "ويخجل القمر وتَخْزَى الشمس" (إشعيا/ 24/ 23)، "واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه" (لوقا/ 23/ 44)، "انك قد طردتني اليوم عن وجه الارض ومن وجهك اختفِي واكون تائها وهاربا في الارض. فيكون كل من وجدني يقتلني" (تكوين/ 4/ 14)، "وفسدت الارض امام الله وامتلأت الارض ظلما" (تكوين/ 6/ 11)، "الآن قم اخرج من هذه الارض" (تكوين/ 31/ 13)، "وادخِلكم الى الارض التي رفعت يدي ان اعطيها لابراهيم" (خروج/ 6/ 8)، "واستراحت الارض من الحرب" (يشوع/ 14/ 15)، "دور يمضي ودور يجيء والارض قائمة الى الابد" (جامعة/ 1/ 4)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). ومن الواضح أن هذا كله على خلاف الواقع وينبغى ألا يأخذه القارئ مأخذا حرفيا، وإلا لم يكن للكلام معنى: فمثلا ليس هناك للشمس تحتٌ ولا فوقٌ، وإنما هو تعبير بشرى، فنحن أينما كنا على الأرض نتصور أن الشمس فوقنا، ومن ثم فنحن تحتها، على حين أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغى إذن أن نكون "فوق" الشمس بعد ستة أشهر من ذلك حين تدور الأرض نصف دورتها السنوية، وهذا لا يصير. كذلك فليس للشمس عين (ولا أذن ولا أنف) أصلا حتى نكون أوْ لا نكون فى عينها، كما أنها ليس لها طريق تسير فيه على الأرض، ودَعْك من أننا يمكن أن نسير نحن فيه أيضا. وبالنسبة لقول قابيل إنه هرب فى الأرض، فهو مجرد تعبير بشرىّ، وإلا فقولنا: "فى الأرض" إنما يعنى حرفيا: "داخل الأرض"، وهو ما لا يقصده قابيل ولا أى إنسان آخر فى مثل وضعه... وهكذا.(/4)
وقبل كل ذلك فإن الكلام هنا ليس كلاما فى علم الطبيعة أو الجغرافيا أو الجيولوجيا، بل هو كلام أدبى يقوم فى جانب منه على التعبيرات المجازية والتجسيدية والتشخيصية وما إلى ذلك. باختصار: هذه هى طبيعة اللغة، أما الكلاب التى تنبح المارة وتعضهم لا لشىء سوى أنه قد قيل لها: انبحى أىّ مارٍّ من هنا وعضّيه، فإنها لا تفهم هذا ولا تفقهه ولا تدركه ولا تتذوقه، إذ متى كانت الكلاب تستطيع أن تتذوق شيئا غير العظم المعروق الذى أُكِل ما عليه من لحم، ثم أُلْقِىَ به لها تعضعضه وتمصمصه تحت الأقدام؟ وعلى هذا فليس هناك أى متعلَّق لأى إنسان كائنا من كان كى ينتقد الآية القرآنية إلا إذا كان يريد النباح والعضّ والسلام، ولا يبغى فهما أو معرفة. فالحرف "فى" فى الآية الكريمة لا يعنى "داخل العين الحمئة" لأن الآيات القرآنية التى تذكر الشمس (كما سنوضح لاحقا) تتحدث عنها على أنها جِرْمٌ موجودٌ فى الفضاء لا يغادره أبدا، بل يعنى أنه قد تصادف وقوع غروب الشمس حين كان ذو القرنين فى ذلك المكان عند العين الحمئة، وإن كان ما شاهده بعينه يوحى أنها قد غربت فى تلك العين. وحتى لو قيل إنها لم تغرب فى العين بل وراء العين أو عند العين أو ما إلى ذلك، فإن هذا كله لا يصح من الناحية العلمية، فالشمس لا تبتعد ولا تختفى، بل الأرض هى التى تتحرك حولها، فتبدو الشمس وكأنها هى التى تغيب. لكنى قد عثرت أثناء تقليبى فى المشباك بمن يقول معترضا على الآية إن مثل هذا التوجيه كان يمكن أن يكون مقبولا لو أن الآية فالت إن ذا القرنين "رأى" أو "شاهد" الشمس تغرب فى العين، أمّا والآية تقول إنه "وجدها" تغرب فى عينٍ حمئةٍ فمعنى هذا أن المقصود هو أنها كانت تغرب فى العين فعلا. وقد جعلنى هذا أفكر فى استعمال هذا الفعل فى مثل ذلك السياق فى العربية لأرى أهو حقا لا يعنى إلا أن الأمر هو كذلك فى الواقع لا فى حسبان الشخص وإدراكه بغضّ النظر عما إذا كان هذا هو الواقع فعلا أو لا. وقد تبين لى أن الأمر ليس كما ذهب إليه ذلك المعترض الذى سمى نفسه: "جوتاما بوذا" أو شيئا كهذا، فنحن مثلا عندما يُسْأَل الواحد منا السؤال التالى عن صحته: "كيف تجدك اليوم؟" (أى "كيف حالك؟") يجيب قائلا: "أجدنى بخير وعافية"، وقد يكون هذا القائل مريضا لكنه لا يدرى لأن أعراض المرض ليست من الوضوح أو لأنه من الاندماج فى حياته اليومية بحيث لا يتنبه لحالته الصحية الحقيقية. وبالمثل يمكن أن يقول الواحد منا (صادقا فيما يظن) إنه وجد فلانا يضرب ابنه عند البيت، بينما الحقيقة أنه كان يداعبه أو كان يضرب ابن الجيران مثلا، لكن المتكلم توهم الأمر على ما قال. كذلك فالمصاب بعمى الألوان قد يقول إنه وجد البطيخة التى اشتراها خضراء على عكس ما أكد له البائع، ثم يكون العيب فى الشارى لا فى البائع ولا فى البطيخة. أما المتنبى فى قوله:
ومن َيكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا(/5)
فقد كفانا مؤنة التوضيح بأنّ وجْداننا الشىء على وضعٍ ما لا يعنى بالضرورة أنه على هذا الوضع فى الحقيقة والواقع. وفى القرآن مثلا: "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه" (الكهف/ 77)، وليس هناك فى أى مكان فى الدنيا جدار عنده إرادة: لا للانقضاض ولا للبقاء على وضعه الذى هو عليه، لأن الجدران من الجمادات لا من الكائنات الحية ذوات الإرادة. كذلك فعندنا أيضا قوله عز شأنه: "والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه" (النور/ 39)، ولا يمكن القول أبدا بأن الآية على معناها الحرفى، فالله سبحانه لا ينحصر وجوده فى مكان من الأمكنة، بل الكون كله مكانا وزمانا وكائنات فى قبضته عز وجل، ومن ثم لا يمكن أن ينحصر وجوده عند السراب، وهذا من البداهة بمكان لأنه سبحانه وتعالى هو المطلق الذى لا يحده حد. والطريف أن بعض المفسرين الذين رجعت إليهم بعد ذلك قد وجدتهم يقولون إنه لو كانت الآية قالت إن الشمس "كانت تغرب" فى العين فعلا لكان ثم سبيل لانتقادها، أما قولها إن ذا القرنين "وجدها تغرب" فى العين فمعناه أن ذلك هو إدراكه للأمر لا حقيقته الخارجية. ومن هؤلاء البيضاوى، وهذه عبارته: "ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب"، وهذا الذى قاله أولئك المفسرون هو الصواب. وفى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى شىء مثل ذلك، ومنه هذا الشاهدان: "واما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). فالنعمة لا توجد فى عين الرب على سبيل الحقيقة، فضلا عن أن الله لا يمكن أن يُرَى ولا أن تُرَى عينه (إن قلنا إن له سبحانه عينا لكنها ليست كأعيننا). كما أن المرأة التى وجدها ملاك الرب لم تكن "على" العين، بل "عند" العين. أى أن الحقيقة الخارجية فى كلا الشاهدين لم تكن على حَرْفِيّة ما جاء فى العبارتين.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نقرأ الشواهد الشعرية التالية: قال الأسعر الجعفى:
إِنّي وَجَدتُ الخَيلَ عِزّاً ظاهِراً تَنجي مِنَ الغُمّى وَيَكشِفنَ الدُجى
وقال الحارث بن عباد:
وَاِمتَرَتهُ الجَنوبُ حَتّى إِذا ما وَجَدَت فَودَهُ عَلَيها ثَقيلا
وقال امرؤ القيس:
أَلَم تَرَياني كُلَّما جِئتُ طارِقاً وَجَدتُ بِها طيباً وَإِن لَم تطَيَّب؟ِ
وقال الدحداحة الفقيمية:
* مِنْ معشرٍ وجدتهم لئاما *
وقال حاتم الطائى:
إِذا أَوطَنَ القَومُ البُيوتَ وَجَدتَهُم عُماةً عَنِ الأَخبارِ خُرقَ المَكاسِبِ
وقال سلامة بن جندل:
فَإِن يَكُ مَحمودٌ أَباكَ فَإِنَّنا وَجَدناكَ مَنسوباً إِلى الخَيرِ أَروَعا
وقال النابغة الذبيانى:
مَتى تَأتِهِ تَعشو إِلى ضَوءِ نارِهِ تَجِد خَيرَ نارٍ عِندَها خَيرُ مَوقِدِ
وقال مالك بن عمرو:
متى تفخَرْ بزَرْعَةَ أو بحِجْرٍ تجدْ فخرا يطيرُ به السناءُ
وقال الحصين بن الحمام الفزارى:
تَأَخَّرتُ أَستَبقي الحَياةَ فَلَم أَجِد لِنَفسي حَياةً مِثلَ أَن أَتَقَدَّما(/6)
ذلك أن وِجْدانك الشىء على وضع من الأوضاع إنما يعنى إدراكك له على هذا الوضع رؤيةً أو سماعًا أو شمًّا أو لمسًا أو شعورًا باطنيًّا أو استدلالا عقليًّا كما فى العبارات التالية: "نظرتُ فوجدتُه قائما"، أو "حينما اقتربتُ من الحجرة وجدتُه يغنى"، أو "قرّبت الزهرة من أنفى فوجدتها مسكيّة العبير"، أو "احتكت يدى بالحائط فوجدته خشن الملمس"، أو "وجدتُ وقع إهانته لى عنيفا"، أو "أعاد العلماء النظر فى هيئة الأرض فوجدوها أقرب إلى شكل الكرة"، ثم سواء عليك بعد هذا أكان هو فعلا فى الواقع والحقيقة كذلك أم لا. وفى ضوء ما قلناه نقرأ قول الزبيدى صاحب "تاج العروس": "وقال المُصَنّف في البصائرِ نقلاً عن أَبي القاسم الأَصبهانيّ: الوُجُودُ أَضْرُبٌ، وُجُودٌ بِإِحْدى الحَوَاسِّ الخَمْسِ، نحو: وَجَدْتُ زَيْداً وَوَجَدْتُ طَعْمَه ورائحتَه وصَوتَه وخُشُونَتَه، ووجُودٌ بِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ نحو: وَجَدْتُ الشبع ووجوده أيده الغضب كوجود الحَرْبِ والسَّخَطِ، ووُجُودٌ بالعَقْل أَو بِوسَاطَة العَقْلِ، كمَعْرِفَة الله تعالى، ومَعْرِفَة النُّبُوَّةِ. وما نُسِب إِلى الله تعالى مِن الوُجُود فبمَعْنَى العِلْمِ المُجَرَّدِ، إِذ كان اللهُ تعالَى مُنَزَّهاً عن الوَصْفِ بالجَوَارِحِ، والآلاتِ، نحو قولِه تَعالى: "وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ"، وكذا المعدوم يقال على ضِدّ هذه الأَوْجُهِ. ويُعَبَّر عن التَمَكُّنِ من الشيءِ بالوُجُودِ نحو: "فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" أَي حَيْثُ رَأَيْتُمُوهُم، وقوله تعالى: "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ"، وقوله: "وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ" وقوله: "وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ"، ووجود بالبصيرة، وكذا قوله: "وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا" وقوله: "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا"، أَي إِن لم تَقْدِروا على الماءِ".
ولقد كفانا مؤنة المضىّ أبعد من ذلك (على كفايته فى حد ذاته) كاتبان ألّفا بحثا عثرت عليه فى المشباك بعنوان: "Islam and the Setting of the Sun: Examining the traditional Muslim View of the Sun’s Orbit" يهاجمان فيه القرآن ويزعمان أن الرسول حين قال ما قال فى الآية التى نحن بإزائها هنا إنما كان يقصد فعلا أن الشمس تغرب فى عينٍ حمئةٍ على حرفية معناها، ومع هذا فقد بدءا كلامهما بالقول بما معناه أن تعبيرا مثل التعبير الذى فى الآية الكريمة لا يدل بالضرورة على أن صاحبه قد اجترح خطأ علميا أو أنه يعتقد أن الشمس تغرب فعلا فى العين. ثم أضافا أننا، حتى فى عصرنا هذا حيث يعرف الجميع تمامًا أن الشمس فى الواقع لا تشرق ولا تغرب، ما زلنا نقول إنها تشرق وتغرب. والكاتبان هما: Sam Shamounn و Jochen Katz، وهذا نَصّ ما قالاه:
we do need to make it clear that statements about the sun rising or setting do not, in and of themselves, prove that a person or author held to erroneous scientific views, or made a scientific error. One can legitimately argue that the person or author in question is using everyday speech, ordinary language, or what is called phenomenological language. From the vantage point of the person who is viewing the sun from the earth, the sun does indeed appear to be rising and setting. In fact, even today with all our advanced scientific knowledge we still refer to sunrise and sunset .Hence, an ancient book or writer may have not intended to convey actual scientific phenomena when describing the sun as rising or setting any more than today’s meteorologists, or newscasters, are speaking scientifically when referring to the rising and setting of the sun.(/7)
وقد أخذتُ أنقّر فى النصوص الإنجليزية والفرنسية الموجودة فى المشباك حتى عثرتُ على طائفة من الشواهد النثرية والشعرية يتحدث فيها أصحابها لا على أن الشمس تشرق وتغرب فحسب، بل عن سقوطها أو غوصها أو غروبها فى البحر أو فى السهل أو ما إلى هذا. وإلى القارئ عينةً مما وجدته من تلك النصوص: "Alone stood I atop a little hill, And beheld the light-blue sea lying still, And saw the sun go down into the sea " (من قصيدة بعنوان: "AN EPISTLE" لـ Numaldasan)، "The sun sinks down into the sea" (من رواية "The Water-Babies" لـCharles Kingsley)، " The Sun came up upon the left, out of the sea came he! And he shone bright, and on the right Went down into the sea " (من قصيدة "The Rime of the Ancient Mariner" لكوليردج)، "The red sun going down into the sea at Scheveningen" (من "Letter from Theo van Gogh to Vincent Gogh van Auvers-sur-Oise, 30 June 1890")، "The sun sank slowly into the sea" (من مقال "The Light Of The Setting Sun" لـRocky)، " Just then the sun plunged into the sea it popped out from behind the gray cloud screen that had obscured the fiery disk" (من مقال بعنوان "Taps for three war buddies" فى موقع "sun-herald.com")، "le soleil descendre dans l'ocean…" (من " L'ILE DES PINGOUINS" لأناتول فرانس)، " Le soleil, disparu dans la mer, avait laissé le ciel tout rouge, et cette lueur saignait aussi sur les grandes pierres, nos voisines" (من " En Bretagne" لجى دى موباسان)، "Spectacle saisissant, que le soleil couchant dans ces dunes impressionnantes" (من مقال "RAID EN LIBYE " لـRoger Vacheresse)، "On comprend aussi que la blessure de Réginald a quelque chose du Soleil plongeant dans la mer" (من "LES CHANTS DE MALDOROR " لـle comte de Lautréamont ).
هذا، ومن معانى "العين" فى العربية (فيما يهمنا هنا) حسبما جاء فى "لسان العرب": "عين الماء. والعين: التي يخرج منه الماء. والعين: ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض ويجري... ويقال: غارت عين الماء. وعين الركية: مَفْجَر مائها ومنبعها. وفي الحديث: "خير المال عينٌ ساهرةٌ لعينٍ نائمة"، أراد عين الماء التي تجري ولا تنقطع ليلا ونهارا، وعين صاحبها نائمة، فجعل السهر مثلا لجريها... وعين القناة: مصب مائها... والعين من السحاب: ما أقبل من ناحية القبلة وعن يمينها، يعني قبلة العراق... وفي الحديث: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عينٌ غديقة... والعين: مطر أيام لا يُقْلِع، وقيل: هو المطر يدوم خمسة أيام أو ستة أو أكثر لا يُقْلِع، قال الراعي:
وأنآء حيٍّ تحت عينٍ مطيرةٍ عظام البيوت ينزلون الروابيا(/8)
... والعين: الناحية". وعلى هذا فعندما يقول عبد الفادى (اقرأ: "عبد الفاضى") مؤلف كتاب "هل القرآن معصوم؟" (وهو جاهل كذاب من أولئك الجهلاء الكَذَبة الذين يَشْغَبون على كتاب الله المجيد) إن القرآن، بناء على ما جاء فى تفسير البيضاوى، يذكر أن الشمس تغرب فى بئرٍ، فإننا نعرف فى الحال أنه يتكلم بلسان الكذب والجهل: فأما الجهل فلأن المسألة، حسبما رأينا فى "لسان العرب"، أوسع من ذلك كثيرا بحيث تَصْدُق كلمة "العين" على البحر والسحاب والمطر أيضا. ولذلك وجدنا من المترجمين من يترجمها بمعنى "بحر" أو "بحيرة"، فضلا عن أنه من غير المستبعد أن يكون المعنى فى الآية هو ذلك النوع المذكور من السحاب أو المطر. وأما الكذب فلأن البيضاوى لم يقل هذا، بل قال: "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عينٍ حمئةٍ: "ذات حمأ"، من "حَمِئَتِ البئر" إذا صارت ذات حمأة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: "حامية"، أي حارة، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين، أو "حَمِيَة" على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها. ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال: "وجدها تغرب"، ولم يقل: "كانت تغرب"...". فكما ترى ليس فى البيضاوى أنها غربت فى بئر، بل كل ما فعله المفسر الكبير أنه اتخذ من "البئر" مثالا لشرح كلمة "حمئة"، لكنه لم يقل قط إن معنى "العين" هو "البئر"، بل قال ما نصه: لعل ذا القرنين قد بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك. وحتى لو قال ذلك فإن كلامه يبقى مجرد اجتهاد منه قد يصح أو لا يصح، ولا يجوز حمله على القرآن أبدا، وبخاصة أن كثيرا من المفسرين كذلك لم يفسروا العين بهذا المعنى. بيد أننا هنا بصدد جماعة من الطَّغَام البُلَداء الرُّقَعاء الذين كل همهم هو الشَّغْب بجهل ورعونة، إذ هم فى واقع الأمر وحقيقته لا يعرفون فى الموضوع الذى يتناولونه شيئا ذا بال، ومع هذا نراهم يتطاولون على القرآن الكريم! فيا للعجب! إن الواحد من هؤلاء الطَّغَام يتصور، وهو يتناول الكلام فى كتاب الله، أنه بصدد كراسة تعبير لطفل فى المرحلة الابتدائية، بل إن معلوماته هو نفسه لا تزيد بحال عن معلومات طفل فى تلك المرحلة كما تبين لى وبينته للقراء الكرام فى كتابى: "عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين"، الذى فَنَّدْتُ فيه كلام هذا الرقيع، ومسحت به وبكرامته وكرامة من يقفون وراءه الأرض!(/9)
وهأنذا أسوق أمام القارئ الكريم بعض ما جاء فى كتب التفسير القديمة: ففى القرطبى مثلا: "وَقَالَ الْقَفَّال: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الشَّمْس مَغْرِبًا وَمَشْرِقًا ووَصَلَ إِلَى جُرْمهَا وَمَسّهَا، لأَنَّهَا تَدُور مَعَ السَّمَاء حَوْل الأَرْض مِنْ غَيْر أَنْ تَلْتَصِق بِالأَرْضِ، وَهِيَ أَعْظَم مِنْ أَنْ تَدْخُل فِي عَيْن مِنْ عُيُون الأَرْض، بَلْ هِيَ أَكْبَر مِنْ الأَرْض أَضْعَافًا مُضَاعَفَة، بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى آخِر الْعِمَارَة مِنْ جِهَة الْمَغْرِب وَمِنْ جِهَة الْمَشْرِق، فَوَجَدَهَا فِي رَأْي الْعَيْن تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة، كَمَا أَنَّا نُشَاهِدهَا فِي الأَرْض الْمَلْسَاء كَأَنَّهَا تَدْخُل فِي الأَرْض. وَلِهَذَا قَالَ: "وَجَدَهَا تَطْلُع عَلَى قَوْم لَمْ نَجْعَل لَهُمْ مِنْ دُونهَا سِتْرًا"، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تَطْلُع عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُمَاسّهُمْ وَتُلاصِقهُمْ، بَلْ أَرَادَ أَنَّهُمْ أَوَّل مَنْ تَطْلُع عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْقُتَبِيّ: وَيَجُوز أَنْ تَكُون هَذِهِ الْعَيْن مِنْ الْبَحْر، وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه. وَاَللَّه أَعْلَم". وفى ابن كثير: "وَقَوْله: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِب الشَّمْس"، أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يُسْلَك فِيهِ مِنْ الأَرْض مِنْ نَاحِيَة الْمَغْرِب، وَهُوَ مَغْرِب الأَرْض. وَأَمَّا الْوُصُول إِلَى مَغْرِب الشَّمْس مِنْ السَّمَاء فَمُتَعَذِّر، وَمَا يَذْكُرهُ أَصْحَاب الْقَصَص وَالأَخْبَار مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الأَرْض مُدَّة، وَالشَّمْس تَغْرُب مِنْ وَرَائِه،ِ فَشَيء لا حَقِيقَة لَهُ. وَأَكْثَر ذَلِكَ مِنْ خُرَافَات أَهْل الْكِتَاب وَاخْتِلاق زَنَادِقَتهمْ وَكَذِبهمْ. وَقَوْله: "وَجَدَهَا تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة"، أَيْ رَأَى الشَّمْس فِي مَنْظَره تَغْرُب فِي الْبَحْر الْمُحِيط. وَهَذَا شَأْن كُلّ مَنْ اِنْتَهَى إِلَى سَاحِله يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُب فِيه،ِ وَهِيَ لا تُفَارِق الْفَلَك الرَّابِع الَّذِي هِيَ مُثْبَتَة فِيهِ لا تُفَارِقهُ". وفى الجلالين: "..."حَتَّى إذَا بَلَغَ مَغْرِب الشَّمْس": مَوْضِع غُرُوبهَا "وَجَدَهَا تَغْرُب فِي عَيْن حَمِئَة": ذَات حَمْأَة، وَهِيَ الطِّين الأَسْوَد. وَغُرُوبهَا فِي الْعَيْن: فِي رَأْي الْعَيْن، وَإِلاّ فَهِيَ أَعْظَم مِنْ الدُّنْيَا". وأرجو ألا يغيب عن ناظر القارئ الحصيف كيف أن ابن كثير يلقى باللوم فى أمر التفسيرات الخرافية فى الآية على زنادقة أهل الكتاب وكذابيهم، مما يدل على أن القوم هم هكذا من قديم لم تتغير شِنْشِنَتهم، وأن فريقا من علمائنا كانوا واعين بالدور الشرير الذى كانوا يضطلعون به لتضليل المسلمين بإسرائيلياتهم، وكانوا يعملون على فضح سخفهم ومؤامراتهم.(/10)
أما الرازى فإنى أود أن نقف معه قليلا لنرى كم يبلغ جهل عبد الفاضى وبلادته وتدليسه هو وأشباهه، إذ إن مفسرنا العظيم قد أشبع القول فى هذا الموضوع بما يكفى لقطع لسان كل زنديق كذاب. قال العلامة المسلم عليه رضوان الله: "{حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا: يا ذا القرنين، إما أن تعذِّب وإما أن تتخذ فيهم حُسْنا* قال: أما من ظَلَم فسوف نعذبه ثم يُرَدّ إلى ربه فيعذبه عذابا نُكْرا* وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاءً الحسنى وسنقول له من أمرنا يُسْرا* ثم أَتْبَعَ سببا}: اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه، أما قوله: {وجدها تغرب فى عينٍ حَمِئَة} ففيه مباحث: الأول: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "في عين حامية" بالألف من غير همزة، أي حارة... وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر، والباقون: "حمئة"، وهي قراءة ابن عباس ... واعلم أنه لا تنافي بين "الحمئة" و"الحامية"، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا. البحث الثاني: أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: {ووجد عندها قوما}، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: {تغرب فى عين حمئة} من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عينِ وهدةٍ مظلمةٍ، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية، وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء، فقوله: {تغرب فى عين حمئة} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر، وهو موضع شديد السخونة. الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة، وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: "حصل هذا الكسوف في أول الليل"، ورأينا المشرقيين قالوا: "حصل في أول النهار"، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يُصَار إلى التأويل الذي ذكرناه. ثم قال تعالى: {ووجد عندها قوما}. الضمير في قوله: "عندها" إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الشمس، ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني: أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ".
ومع هذا كله يريد الكاتبان المذكوران آنفا ( Sam Shamounو Jochen Katz) أن يعيدانا مرة أخرى إلى المربع رقم واحد، إذ يقولان إن مؤلف القرآن (يقصدان بالطبع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. نعم عليه الصلاة والسلام رغم أنفهما وأنف رشاد خليفة وتابِعه قُفّة) قد ذكر أن ذا القرنين وجد الشمس تغرب فى عين حمئة، ولم يقل إنها كانت تبدو له كذلك. وهذا رغم قولهما إننا لا نزال حتى الآن، ورغم كل التقدم العلمى والفلكى والجغرافى، نقول إن الشمس تشرق وتغرب، ولم يقولا إن على الواحد منا أن يوضح أن الأمر إنما يبدو فقط كذلك. فلماذا الكيل بمكيالين هنا؟ ترى أى خبث هذا الذى أتياه حين أرادا فى البداية أن يتظاهرا بالموضوعية والحياد والبراءة كى يخدّرا القارئ ويوهماه أنهما لا يريدان بالقرآن شرا ولا تدليسا، ثم سرعان ما يستديران بعد ذلك ويلحسان ما قالاه؟(/11)
ثم يمضى العالمان النحريران فيقولان إن القرآن يؤكد أن ذا القرنين قد بلغ فعلا المكان الذى تغرب فيه الشمس، وهو ما لا وجود له على الأرض، مما لا معنى له البتة إلا أن مؤلف القرآن قد ارتكب خطأ علميا فاحشا بظنِّه أن القصة الخرافية التى وصلت إلى سمعه هى حقيقة تاريخية: "However, the Quran goes beyond what is possible in phenomenological language when it states that Zul-Qarnain reached the place where the sun sets, i.e. the Quran is speaking of a human being who traveled to the place of the setting of the sun. Such a statement is wrong in any kind of language, since such a place does not exist on this earth. This is a serious error that was introduced into the Quran because the author mistook a legend to be literal and historical truth". أى أن سيادتهما يريان أن كلمة "مغرب الشمس" لا تعنى إلا مكان غروب الشمس، وأن معنى الكلام لا يمكن أن يكون إلا ما رأياه بسلامتهما. فلننظر إذن فى هذا الكلام لنرى نحن أيضا مبلغه من العلم أو الجهل: فأما أن "غروب الشمس" لا تعنى هنا إلا المكان الذى تغرب فيه الشمس فهو كلامٌ غبىٌّ كصاحبيه، إذ إن صيغة "مَفْعل" (التى جاءت عليها كلمة "مغرب") قد تعنى المكان، أو قد تعنى الزمان، بل قد تعنى المصدرية فقط، وهو ما يجده القارئ فى كتب الصرف والنحو فى بابَىِ "اسم الزمان والمكان" و"المصدر الميمى". أى أن الآية قد يكون معناها أن ذا القرنين قد بلغ مكان غروب الشمس أو أن يكون قد بلغ زمان غروبها، إذ البلوغ كما يقع على المكان فإنه يقع على الزمان أيضا (فضلاً عن الأشياء والأشخاص). جاء فى مادة "بلغ" من "تاج العروس": "بَلَغَ المَكَانَ، بُلُوغاً، بالضَّمِّ: وَصَلَ إليْهِ وانْتَهَى، ومنْهُ قوْلُه تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلا بشِقِّ الأنْفُسِ. أو بَلَغَه: شارَفَ عليْهِ، ومنه قولُه تعالى: فإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ. أي قارَبْنَهُ. وقالَ أبو القاسِمِ في "المُفْرَداتِ": البُلُوغُ والإبْلاغُ: الانْتِهَاءُ إلى أقْصَى المَقْصِدِ والمُنْتَهَى، مَكَاناً كان، أو زَماناً، أو أمْرَاً منَ الأمُورِ المُقَدَّرَةِ. ورُبَّمَا يُعَبَّرُ بهِ عن المُشارَفَةِ عليهِ، وإن لم يُنْتَهَ إليْهِ، فمنَ الانْتِهَاءِ: "حتى إذا بَلَغَ أشُدَّهُ وبَلَغ أرْبَعِينَ سنَةً"، و"ما هُمْ ببالغِيه"ِ، "فلما بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ"، و"لَعلِّي أبْلُغُ الأسْبَاب"َ، و"أيْمانٌ عَلَيْنَا بالِغَةٌ"، أي مُنْتَهِيَةٌ في التَّوْكيدِ، وأمّا قَوْلُه: "فإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفٍ"، فللمُشارَفَةِ، فإنّهَا إذا انْتَهَتْ إلى أقْصَى الأجَلِ لا يَصِحُّ للزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا وإمْسَاكُها. وبَلَغَ الغُلامُ: أدْرَكَ، وبَلَغَ في الجَوْدَةِ مَبْلَغَاً، كما في "العُبَاب"ِ، وفي "المُحْكَمِ": أي احْتَلَمَ، كأنَّهُ بَلَغَ وَقْتَ الكِتابِ عليْهِ والتَّكْليفِ، وكذلكَ: بَلَغَتِ الجارِيَةُ...".
فإذا كان بلوغ الزمان (أو حتى بلوغ الحدث، أى المصدر) هو المقصود فى الآية الكريمة فلا مشكلة، إذ سيقال حينئذ إن ذا القرنين حين أتى عليه وقت المغرب قد وجد كذا وكذا. لكن ماذا لو كان مكان غروب الشمس هو المراد؟ والجواب هو أن الكاتبين الألمعيين أنفسهما قد ذكرا ما معناه أنه لا غضاضة فى أن يقول المتكلم حتى فى عصرنا هذا إن الشمس قد غربت فى البحر أو فى السهل أو فيما وراء الجبل...إلخ. أليس كذلك؟ فهذا إذن هو مغرب الشمس طبقا لما تجيزه اللغة الظاهراتية (phenomenological language) حسب تعبيرهما، وعليه فإنه يجوز أيضا أن يقال إن فلانا أو علانا أو ترتانا قد بلغ مغرب الشمس، أى وصل إلى البحر أو الجبل أو السهل الذى رآها تغرب عنده. وعلى هذا أيضا فلا مشكلة! وأنا أحيلهما إلى ما سقتُه فى هذا المقال من تعبيرات مشابهة فى الكتاب المقدس، ومنها ما هو أبعد من الآية القرآنية فى انتجاع هذه الاستعمالات المجازية! فما قول سيادتهما إذن؟ ألا يرى القارئ معى أن الأسداد قد ضُرِبت عليهما تماما فلا يستطيعان أن يتقدما خطوة ولا أن يتأخرا؟ وبالمناسبة فقد تكرر الفعل "بلغ" فى صيغتى الماضى والمضارع هنا سبع مرات، وهو ما لم يتحقق لأية سورة أخرى غيرها. كما تعددت صيغة "مفعل" فيها: "مسجد، موعد (مرتين)، موبق، مصرف، موئل".(/12)
والعجيب أنهما يُورِدان بعد ذلك عددا من النصوص القرآنية المجيدة التى تتحدث عن لزوم الشمس والقمر مسارا سماويا دائما لا يخرجان عنه، وهو ما يعضد ما قلناه من أن الأمر فى قصة ذى القرنين إنما هو استعمالٌ مجازىٌّ أو وَصْفٌ لما كان يظنه ذلك الرجل فى نفسه بخصوص غروب الشمس لا لما وقع فعلا خارج ذاته لأن القرآن يؤكد وجود مسارات سماوية دائمة لهذين الجِرْمَيْن، بَيْدَ أنهما كعادتهما يحاولان عبثا لىّ الآيات الكريمة عن معناها كى تدل على ما يريدان هما على سبيل القسر والتعنت! وعلى هذا فقول المؤلفين إنه إذا كان المفسرون المسلمون يشرحون الآية القرآنية بما يصرفها عن معناها الحرفى فذلك لأنهم يعرفون أن الشمس أكبر من الأرض، ومن ثم يستحيل أن تسعها أى عين فيها، ولأنهم أيضا يؤمنون بعصمة القرآن مما يدفعهم من البداية إلى تأويل الآية بحيث لا تدل على أن ثمة خطأ علميا قد ارتُكِب هنا، أكرر أن قول المؤلفين هذا هو قول متهافت بناء على ما أورداه هما أنفسهما من آيات قرآنية تنص على أن لكل من الشمس والقمر مسارا فلكيا دائما لا يفارقه، ومن ثم فمن المضحك أن نتمسك بحرفية المعنى فى الآية المذكورة بعد كل الذى قلناه وقالاه هما أيضا. والعجيب أيضا أن المؤلفين يَعْمَيَان، أو بالحرى: يتعاميان عن أنه كان أولى بهما، بدلا من تضييع وقتهما فى محاولتهما الفاشلة لتخطئة القرآن الكريم، أن يحاولا إنقاذ الإنجيل مما أوقعه فيه النص التالى مثلا من ورطة مخزية ليس لها من مخرج. قال متى: "ولما وُلِد يسوع في بيت لحم في أيام هيردوس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين. أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمة في المشرق وأتينا لنسجد له… وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جدا" (متى/ 2/ 1- 10)، فها نحن أولاء إزاء نجمٍ حجْمه ضِعْف حجم الأرض مراتٍ ومراتٍ ومراتٍ...يتحرك من مكانه فى الفضاء ويهبط مقتربا منها إلى حيث البيت الذى كان فيه الطفل الرضيع مع أمه وخطيبها السابق يوسف النجار، وهذا هو المستحيل بعينه، ولا يمكن توجيهه على أى نحوٍ يخرج كاتبه من الورطة الغبية التى أوقعه سوء حظه العاثر فيها. إن النص لا يقول بأى حال إن النجم قد صدر منه مثلا شعاع اتجه إلى المكان المذكور، بل قال إن النجم نفسه هو الذى اقترب من البيت، كما أنه لم يقل إن جماعة المجوس وجدوا النجم يقترب أو بدا لهم أنه يقترب، بما قد يمكن أن نقول معه إنهم كانوا يُهَلْوِسُون، ومن ثم ننقذ كاتب الإنجيل من ورطته ولو على حساب جماعة المجوس المساكين، وأمْرنا إلى الله، بل كان الكلام واضحا قاطعا فى أن النجم هو الذى تحرك هابطًا حتى بات فوق المكان تماما!(/13)
وإلى القارئ شيئا من النصوص القرآنية التى تبين أن هناك مسارا سماويا دائما للشمس والقمر: "فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا" (أى بنظام وحساب دقيق: الأنعام/ 96)، "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ (يونس/ 5)، "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار" (إبراهيم/ 33)، "وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" (لقمان/ 29)، "لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار" (يس/ 40)، "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا" (أى فى السماوات السبع)، "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" (أى خُلِعَتْ من مسارها يوم القيامة، بما يعنى أنها لا تفارق هذا المسار قبل ذلك الحين: التكوير/1). وقد صادفتُ بحثا فى المشباك بعنوان " Orbits of Earth, Moon, & Sun: 18 RELEVANT VERSES REGARDING THE SUN’S & MOON’S: ORBIT, ROTATION AND LIFE " لكاتب وقَّع باسم "Frank" يستشهد بهذه الآيات وأمثالها على ما قلناه هنا، ويردّ من خلالها على من يتهمون القرآن بأن ثمة أخطاء علمية فى حديثه عن الشمس والقمر والأجرام السماوية. ثم إنه يؤكد أيضا أننا ما زلنا نقول حتى الآن إن "الشمس غربت فى البحر" كما جاء فى الآية التى يدور حولها هذا المقال: "we still use expressions such as the sun set into the sea, as is used in verse 18:86". وفى النهاية أحب أن أقول للقارئ إن هناك وجها آخر فى تفسير الآية الكريمة يجنِّبها كل هذا اللغط رأيت ابن حزم فى كتابه العبقرى العظيم: "الفِصَل فى الملل والنِّحَل" يقول به ويرفض كل ما سواه، وهو أن الذى كان فى "عينٍ حمئةٍ" ليس هو الشمس، بل ذو القرنين نفسه. والمعنى حينئذ هو أن الرجل قد أدركه المغرب (أو أدرك هو المغرب) وهو فى العين الحمئة. وتركيب الجملة يسمح بهذا بشىء غير قليل من الوجاهة، وإن لم يكن هو المعنى الذى يتبادر للذهن للوهلة الأولى. وشِبْه جملة "فى عين حمئة" فى هذه الحالة سيكون ظرفًا متعلقًا بفاعل "وجدها" وليس بالمفعول، أى أنه يصور حال ذى القرنين لا الشمس، وإن كان من المفسرين من يرفض هذا التوجيه كأبى حيان فى "البحر المحيط"، إذ يرى فيه لونا من التعسف. وسأضرب لهذا التركيب مثلا أَبْسَط يوضح ما أقول، فمثلا لو قلنا: "ضرب سعيدٌ رشادًا واقفا" لجاز أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، وسعيد واقف، أو أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، ورشاد واقف. والسياق هو الذى يوضح ما يراد.
وأخيرًا أختم المقال بإيراد نص الرسالة التى بعث بها الأخ النصرانى المهجرى إلى العبد لله، والتى يصلنا منها الكثير منه ومن أمثاله لكننا نُغْضِى عنها عادة ولا نحب أن نشير إليها حتى لا يتحول الأمر إلى مسألة شخصية. وهذا هو النص المذكور:
Mr. Ibrahim Awad
Articles Writer
Online El Shaab Newspaper August 24,2005
Cairo, Egypt.
In your article titled, 'Sayed Qumni retires', in the 8/20/05 issue of the Online El Shaab Newspaper. Even though the article subject was a critical review of Mr. Qumni's response to a threat on his life, you could not help but inject your venomous hate to Christianity, Christians and the West at large. What concerns me here is that you made two, equally absurd, Claims.
First claim : Christianity needs Islam ,because it is the only religion that witness to the legitimacy of the lord Jesus Christ.
Second claim : Denying miracle occurrence, matters not to Islam, Muhammad or the Quran because of its absence in their make up. Unlike Christianity with it's theology that relies heavily on belief in miracles.
To address the first claim: Make no mistake, Christianity never admitted that Islam is a God inspired religion, nor Christians ever appealed to(/14)
Muslim's god 'Allah', his prophet Muhammad or the Quran to vouch for it's legitimacy.. It would be absolutely inappropriate for God, Jesus Christ, to ask a human to testify for Him. In the Gospel of John chapter 5, the lord Jesus Christ explained what would be acceptable as witness for Him. I chose 3 verses to quote. John 5:31 "If I bear witness to myself, my witness is not true." He goes on to say in 5:34 "But I receive not testimony from man, but these things I say that you may be saved." then He drives in the point in 5:36 " But I have greater witness than that of John (the Baptist). For the works which the Father has given me to finish. The same works that I do bears witness of Me that the Father has sent me."
You Are a writer and your works are articles and books. we know you as good or bad writer through your works, likewise a taxi driver, his works is to drive safely his customers, a teacher's work is to teach and so on..., God's work is to create. and all his works to us humans are supernatural.
No one else but Him can do it, we call it miracles.
The works that Jesus Christ did, Mr. Awad, bears witness to Him, and all His works can only be explained as the works of God. No sane person can deny that God's work s are miracles.
Responding to your second claim : By contrast you claim that denying miracles, matters not to Islam.
A close examination of this statement reveals fast that it is unfounded. on account that Hadith and Sunnah recite that Muhammad experienced a miracle at the start of his mission. Whereupon, while in a cave in the mountain an angel Gabriel appeared to him Then holding Muhammad three times and ordering him to read in the name of Allah, Sura 96:1-5. He Muhammad-an illiterate man-learned to read. Would not you say that was a miracle of substantial importance to the advent of Islam.
However the internal evidence within the Quran reveals that it was a lie....!, Because if Allah the creator had performed the miracle of causing Muhammad learned to read. It would have stayed with him for the rest of his life....! Alas a short while later when Muhammad had doubts about what Allah says to him. Allah in Sura Yunis 10:94 says If you Muhammad had doubts about what I said to you then ASk those who read the
Book before thee.. This clearly shows that if Allah had taught him how to read, then He would have told him in this Sura to read what is written in the Book. The truth always has a funny way of being shouted out loud from the roof top of buildings and it prevails.
Without miracles, how else can you explain the events of the Israa and Mi'raj ?
No discussion of the Quran miracles is complete without talking about what I call the 'MOTHER' of all miracles. Most miracles we know of are recitation of a single supernatural event that ceased to occur anymore and there are no ways to verify it. Not so,with the Mother of all miracles because it is an event that recurs once daily since the creation of earth and will keep going on strong until the hereafter. It is out there for every one to see and verify, should He/she will. If you are now anxious enough to know about it, read Sura El-Kahf 18:83-85. In response To the people curiosity about where does the sun go at night...? The all knowing Allah creator of the Earth and heavens provided the answer in the above said sura (18)
in which Allah instructed his macho man "'Zul Qurnain" to follow the sun, so he followed it until he saw it submerse in a hot murky spring.
The American philosopher Mark Twain said:" It is better to keep your mouth shut and appear stupid, than to open it and remove all doubts."
Little did Allah and his prophet Muhammad know neither about mark Twain, nor that the sun that appears to the human as big as a Basketball or a big round water melon, if you will, in the sky is actually the largest body in the solar system.
Consider these scientific facts before you embark on doing unwise thing.:
The sun's diameter is : 1,390,000 kilometers(/15)
The Earth's diameter is : 12,106 kilometers
That means that the sun is 115 times bigger than the earth.
downscale it to visualize it. The sun would be the size of a Basketball or a large round water melon, then the earth would be the size of one grapes and the hot murky spring, may be a dot, if can see it all, on the outer skin of this one grapes.
need I say anything more to show how hopelessly impossible the situation is and how pathetically ignorant Allah and Muhammad turned to be.
Tank you Mr. Awad, for giving me the challenge to respond to your unfounded allegations about Christianity and I pray that Lord Jesus Christ would break the shackles and locks that holds a steal veil of darkness upon Muslim people mind, so they would come out from 1400 years of ignorance to the light of knowing the one and only true God; the Father; His Word (Jesus Christ);and the Holy Ghost.(/16)
حتى الشياطين تهتدي !!
جاءني وهو يشتكي ـ هكذا ظننت بادئ الأمر ـ من سوء الصحبة، وأنهم لا يعينونه وهو يحاول أن يخطو أولى خطواته إلى عالم الصلاة والطاعة، وجعل يحكي عن مشهد قد كنت أظن أني سمعت من القصص ما لا يدعوني للعجب بعد
ذلك ولكن من يعش يرى العجب كل العجب ... جعل يحكي عن مشهد كيف أنه انطلق من منزله للصلاة في المسجد, وقد أعجبه وهو يتوضأ أن يترك الماء يقطر من أعضائه، وبينما هو يسير في الشارع إذ لمح جمعًا من أصحابه يتهامسون خلفه, ثم يتبعه أحدهم فلم يأبه بهم انطلق صاحبنا إلى داخل المسجد وبدأ يتعرف على أركانه وأجزائه بنظرات العطش لمكان طالما اشتاق إليه ولم يره إلا من الخارج لكنه يشعر معه بألفة شديد، وتقام الصلاة ويصطف، إنه لم يكن يومًا من الأيام يسمح لأحد أن يقاربه بجسد هكذا إلا لمعصية, لكنه اليوم يفعلها لطاعة, وتبدأ مجموعة من الحركات، ومع كل حركة تنفعل نفسه هبوطًا وصعودًا تذللاً للعظيم وانكسارًا للجبار، شعور لم يعهده من قبل.
وبعد ختام الصلاة يرى صاحبه المراقب له في الصفوف الخلفية وهو يرقبه من جانب يظنه خفيًا، فيذهب إليه ويجلس بجواره ويصمت، فيبادر صاحبه المراقب له بسؤال عجيب: هل الشيطان هنا؟!
أجابه صاحبنا: نحن في مسجد بالتأكيد لا يوجد شيطان هنا.
فيرد: فلماذا تأتي هنا إذًا؟ أنت شيطان.
فيرد صاحبنا: لا تقلق فحتى الشياطين تهتدي!!
أخي الشاب:
حفظك الله ورعاك وهداك وثبتك وأعانك هل أنت شيطان؟
لا تقلق .. فحتى الشياطين .. تهتدي، وأنت بالتأكيد لست كذلك ـ بحمد الله تعالى ـ لقد كنت أظن صاحبنا هذا يشتكي ـ كما قلت في بادئ الأمر ـ ولكنه ما إن بدأ يسرد أحداث هذا الموقف الفريد حتى تأكدت أني أمام شخصية قوية ثابتة بتثبيت الله تعالى لها، وتلمحت ذلك في مواقف منها:
ـ خروجه إلى الطريق وأعضاؤه تقطر بماء وضوئه، فكأنه يريد بذلك إخبار الجميع أنه قد أصبح سعيدًا بانضمامه إلى فئة المؤمنين وتحيزه إلى مجتمعهم, فهو فرح بطهارته منتشٍ بإيمان يلامس شغاف قلبه، يرفع قدميه عن الأرض ويملأ جوانحه برفعة وارتقاء وعلو لم يشهده من قبل في مسكر أو مفتر.
ثم لمحتها مرة أخرى: في أنه لم يأبه لهؤلاء الذين خلفه يتهامسون ويتعجبون وقد يضحكون ويهزأون فقد عرف الصواب وتيقن الحق فهو ماض غير آبه بم لم يرغب في اللحاق به.
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي
غير آبه بالمتهامسين حوله والمشيرين إليه.
ولمحتها ثالثة: في وصفه العجيب لتأمله في بيت الله، ووصفه لنفسه بالعطش الشديد الذي يجعل من وجد الماء يسكب أغلبه وهو يحاول الإسراع بشربة لشدة عطشه، عطش إلى مكان لم يره من قبل لكنه رأى فيه طوق نجاته وملاذًا آمنًا من كل خوف سبق وشعر به في الدنيا.
وأخرى في ذهابه للجلوس بجوار من جاء يرقب فعله بكل اطمئنان وثقة. لكن أعجب ما دعاني إلى الضحك هو هذا الحوار الفريد من نوعه حول اهتداء الشياطين، ذكرني بذلك الحوار الذي دار في أول الإسلام حول إسلام عمر بن الخطاب وصدر تعليق من أحد الصحابة بقوله: [ لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم الخطاب ]
لا تقلق فحتى الشياطين تهتدي:
إن الرد يوحي لنا أننا أمام نفسية واضحة الهدف صادقة العزم شديدة التصميم، هذا مع أن صاحبنا لا يدري حقيقة ما سيحدث له بعد ذلك لكنه حسن الظن بالله ' نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا '.
إن من أراد الله فلن يخذله الله ولن يرده الله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد:17].
وتلك هي النفسية في أول الطريق وهي الحقيقة أن تستمر معك حتى النهاية.
عزيزي الشاب:
كان عمر رضي الله عنه يرفع يديه يدعو ويقول: 'اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة' وهو يضع بهذه الكلمات يده على موضع الداء ومكمن الدواء في الوقت ذاته.
يا من وقفت أمام شهوتك عاجزًا ولم تقو قدماك على حملك للقيام بعد الوقوع وتراءى أمام عينيك عدد مرات السقوط وكثرتها فشق عليك القيام، وصعب الاستمرار، يا هذا انتبه فما ذاك إلا وهم، وهم: إني لا أستطيع الاستمرار، لا أملك قدرة المقاومة، وهم: إنى ضعيف، وهم الاستسلام.
يا من سافرت بك أحلامك وأمانيك وطموحاتك بعيدا في الآفاق ثم بعد ذلك وجدت من يجرك إلى الأرض مانعا إياك من الحلم ومجرد التفكير في إمكانية تحقيقه أفق فما هذا الذي يجرك إلا وهم.
وكأني ثانية بمشهد ذاك الصديق يخاطب الفاروق، الأسيف يخاطب من يخاف الناس لقاءه، يرتفع صوته ويحمر وجهه ينادي: 'يا عمر أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام' كلا بل هو مجرد وهم سرعان ما زال عن ذهن الفاروق ـ رضي الله عنه ـ فيا ترى متى يزول عن ذهنك، أخي الحبيب هذا الأمر لوهم الشهوة تملك حياتك وتقودها هي وليست كذلك.
إنها معركة خصمك فيها يصف الله تعالى كيده ومكره بالضعف: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76].(/1)
إن أهم قاعدة لا بد من ترسيخها ونحن نتعامل في مأساة الشهوة المعاصرة أن الأمر في حقيقته يمكن مداواته بإرادة صادقة وعزم أكيد، ومهما سقط المرء في وحل المعصية مرات ومرات فإن حسن الثقة بالله واليقين به يدفعها جلد الثقة [أي عزمه وتصميمه وإرادته] لا بد لها من النصر في النهاية.
إننا ونحن نعالج قضية الشهوة لشباب الأمة بصورها غير الطبيعية المختلفة حول النفس والله تعالى والشيطان نكسر المشوه منها ونبني السليم المعافى, فلا يبقى بعد ذلك إلا شهوة في الجسد مجردة عن كل ذلك يسهل قيادها بشرع الله تعالى، فيدًا بيد ننجز المراد ونحقق المطلوب ولا تنسَ ولا تيأس ... فحتى الشياطين .... تهتدي.
حفظك الله من كل سوء وشر وأعانك دوما على طاعته ومرضاته..... اللهم آمين
وإلى لقاء قريب على المحبة والمودة نلتقى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
حتى الكلاب تغضب لرسول الله
شريف عبد العزيز
shreef@islammemo.cc
مفكرة الإسلام: لا أدرى كيف أبدأ الكلام ولا كيف أنقل هذا الخبر الذي رواه العلامة ابن حجر العسقلاني في كتابه النفيس الدرر الكامنة، فنحن الآن نعيش فتر ة عصيبة من حياة أمة الإسلام، أصبح فيها سب الدين والانتقاص من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ديدن كل كافر وملحد وزنديق وعدو حاقد، من شتى الملل والأجناس، من يهود وعباد الصليب وعباد البقر وممن لا دين لهم، وهكذا أصبح ذات النبي صلى الله عليه وسلم غرضاً لأنجاس البشر في كل مكان، وآخرهم الدنمارك، التي أجرت مسابقة صحفية في سب النبي صلى الله عليه وسلم بالرسوم الساخرة والمهينة، هكذا جهاراً نهاراً تحت سمع وبصر مليار وربع مسلم، والذي دفعهم لذلك علمهم بأن المسلمين لن يتحركوا ولن يغضبوا، بل سيكتفون بالألم النفسي وحسرة القلوب، والشجب والإدانة كما هي العادة، مع دعاءٍ بالويل والثبور من على منابر الجمعة، وكيف بنا إذا وقفنا بين يدي ربنا، وعلى حوض نبينا ماذا سنقول لهم؟ وللذين لا يتحركون ولا يغضبون، وللذين قتل اليأس قلوبهم، وأعمت الدنيا أبصارهم، ورضوا منها بالمأكل والمشرب والسلامة، نقص عليهم هذا الخبر:
{كان النصارى ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول طمعاً في تنصيرهم وقد مهد لهم الطاغية هولاكو سبيل الدعوة بسبب زوجته الصليبية ظفر خاتون، وذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى لحضور حفل مغولي كبير عقد بسبب تنصر أحد أمراء المغول، فأخذ واحد من دعاة النصارى في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك كلب صيد مربوط، فلما بدأ هذا الصليبي الحاقد في سب النبي صلى الله عليه وسلم زمجر الكلب وهاج ثم وثب على الصليبي وخمشه بشدة، فخلصوه منه بعد جهد ..
فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حق محمد عليه الصلاة والسلام،
فقال الصليبي : كلا بل هذا الكلب عزيز النفس رآني أشير بيدي فظن أني أريد ضربه، ثم عاد لسب النبي وأقذع في السب، عندها قطع الكلب رباطه ووثب على عنق الصليبيي وقلع زوره في الحال فمات الصليبي من فوره، فعندها أسلم نحو أربعين ألفاً من المغول} الدرر الكامنة جزء 3 صفحة 202 .
فيا معشر المسلمين هل الكلاب أشد منكم حباً للنبي صلى الله عليه وسلم .(/1)
حتى تجمع مليون في رمضان
...
...
التاريخ : 05/10/2005
الكاتب : ابو هشام النجدي ... الزوار : 2240
< tr>
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه المبين " وما أنفقتم من شيء فإن الله يخلفه " والقائل " وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " .
والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين أسوة المؤمنين ، وإمام المتقين ، ورحمة العالمين القائل :" أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا" والقائل : " ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا وملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفا " رواه الشيخان .
أما بعد .......
فإن الإنفاق وبذل المال من أجل الطاعات وأفضل القربات ، التي ترضي رب الأرض و السموات ، ويتوصل بها إلى تحصيل الحسنات وتكفير السيئات ،وبلوغ الجنات قال الله عز وجل :" يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله"
وقال أيضا :" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء "
أخي الحبيب : دعني أهمس في أذنك بشيء أستحلفك بالله لو وعدك أحد الأثرياء أو الكبراء فقال لك : يا فلان أعط فلانا كذا وكذا من مالك وتعال غدا وأنا أعطيك أفضل منه .هل تراك تتأخر لحظة عن إجابة هذه الدعوة ؟ لا والله ، فما بالك إذا كان الذي وعدك هو الله عز وجل ذي الجلال والإكرام حيث يقول في كتابه الكريم :" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا"
وقال :" من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم "
فأي حافز للصدقة أوقع وأعمق من شعور المعطي بأنه يقرض الغني الحميد ، وأنه يتعامل مع مالك الوجود ؟ وأن ما ينفقه مخلف عليه مضاعفا ، وأن له بعد ذلك كله أجرا كريما ؟ ومجرد تصور المسلم بأنه هو الفقير الضئيل يقرض الله ، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيرانا ...
فياعباد الله : هلموا هلموا بأموالكم بارك الله فيكم لتدخلوا السرور والبهجة في قلوب الحيارى والبؤساء فمن يعطيهم سواكم ، فأموالكم اليوم بأيديكم ولا تدرون إذا جن الليل هل ستبقى معكم أو تنتقل إلى ورثتكم ، ولا تدري يا أخي إذا بخلت اليوم بمالك فربما ذهبت إلى البيت فتجد أن جائحة قد اجتاحت مالك فذهبت به فتصبح كسير النفس محتاجا فبادر بالخير يبارك الله لك وابذل ما عندك يحفظك الله في مالك وأهلك وولدك.
عباد الله : من منا قرأ واستشعر قول الله عز وجل :" وسيتجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى "
ماذا ينتظر هذا الأتقى ، الذي يؤتى ماله تطهرا ، وابتغاء وجه ربه الأعلى ؟
إنه " ولسوف يرضى " ... يرضى بدينه ... يرضى بربه ... ويرضى بقدره، يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء ولا يستبعد الغاية ... إن هذا الرضى جزاء - جزاء أكبر من كل جزاء - جزاء يستحقه من يبذل لله نفسه وماله ، من يعطي ليتزكى ، ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى .
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم , فيما يرويه عن ربه عز وجل :"يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني؟. قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه , أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ,ابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟. قال: يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه , أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي , ابن آدم مرضت فلم تعدني ؟, فقال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال :أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ,أما لو عدته لوجدتني عنده " أخرجه مسلم .
وماروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم :" لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتكفاَ , فأرساها بالجبال , فاستقرت فتعجبت الملائكة من شدة الجبال .
فقالت: ياربنا ,هل خلقت خلقاَ أشد من الجبال ؟ قال : نعم، الحديد , قالوا : يارب، فهل خلقت خلقا أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار ؛ قالوا : يارب فهل خلقت خلقا أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء . قالوا: يارب فهل خلقت خلقا أشد من الماء ؟ قال: نعم ، الريح . قالوا : يارب ، فهل خلقت خلقاَ أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن أدم إذا تصدق بصدقه بيمينه فأخفاها عن شماله ".
وقال رسول صلى الله عليه وسلم :" أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً,أو تقضي عنه ديناً ,أو تطعمه خبزاً"
وقال أيضاً "كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ".
وقال عمر بن الخطاب أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم يوماَ أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ، فجئت بنصف مالي ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت لأهلك ؟ فقلت : مثله ، قال : وأتى أبو بكر بكل ما عنده ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله . فقلت لا أسابقك إلى شيء أبداً "(/1)
أخي الكريم : لا تنهر سائلاَ ، فلو عرفت ما يحمله لك من الخير لحملته في فؤادك ، لا على رأسك فقد كان سفيان الثوري – رحمه الله - ينشرح إذا رأى سائلاً على بابه ويقول : مرحباً بمن جاء ليغسل ذنوبي . وكان الفضيل بن عياض يقول : يحملون أزوادنا إلى الآخرة بغير أجرة ، حتى يضعوها في الميزان بين يدي الله تعالى . واسمع أيضاَ إلى قول يحيى بن معاذ : ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة . وقول عمر بن عبد العزيز : الصلاة تبلغك نصف الطريق , والصوم يبلغك باب الملك , والصدقة تدخلك عليه .
ولله در عبد الرحمن بن الحارث الذي ورث مالاً فبعث بها سراً إلى إخوانه وقال : قد كنت أسأل لهم الجنة في صلاتي ، أفأبخل عليهم بالدنيا .
وقال عبيد بن عمير : يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط ، وأعطش ما كانوا قط ، وأعرى ما كانوا قط ، فمن أطعم لله أشبعه الله ، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ,ومن كسا لله كساه الله .
واعلم أخي الكريم بأن المعروف لا يتم إلا بثلاثة أمور : تصغيره وتعجيله وستره .
فقد كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ، فيتصدق به ويقول : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل .
وقال عمر بن ثابت : لما مات علي بن الحسين فغسلوه ، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره ، فقالوا : ما هذا ؟ فقيل : كان يحمل جراب الدقيق ليلاَ على ظهره ، يعطيه فقراء أهل المدينة .
وقد سبق في علمنا أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات .
وأذكر لك قصة من واقعنا المعاصر ذكرها أحد علمائنا فيقول – حفظه الله - : كان هناك رجل كتب الله عليه أن يصاب بمرض السرطان فأخذ يسافر هنا وهناك حتى قيل له : أن حياتك ميؤوس منها .....
وعندما كان في إحدى مراجعاته في المستشفى وجد كلباَ يلهث من شدة العطش وكان معه ملء فسقى الكلب ، وعندما جاء موعد المراجعة الأخرى،استغرب الطبيب وفاجأه بأن السرطان قد اختفى 40 %
من جسمه وبعد أسبوعين اختفى بمقدار 60% وهو الآن في أتم الصحة والعافيه والحمد لله ...
وقصة أخرى حدثت لإحدى الأخوات في الجامعة ... قد حصل لها بعض الإشكاليات مع الجامعة وتم حذف الكثير من مكافآتها ، وفي إحدى المرات كانت في عملها وكان في شدة الصيف خرجت من عملها – وهو في المستشفى – لتشتري لها ماء فوجدت أمامها امرأة مع ابنتها الصغيرة قد كتب لها الخروج من المستشفى وكانت الصغيرة من شدة فقرهم لا تلبس الحذاء .فقالت الأخت : يارب إنك تعلم أني لا أملك غير هذه الخمسة ريالات وقد قدمتها الصغيرة على نفسي ....
فأعطتها إياها وعادت أدراجها . وفي اليوم التالي اتصل مدير الجامعة بالدكتور المشرف عليها وطلب منه أن يبلغها أن مدير الجامعة يريد منها الحضور لمقر العمادة بنفسها .. فأبلغها الطبيب ذلك فرفضت ,, وفي اليوم الذي يليه رفضت لهم طلبهم مرة أخرى وعندما ذهبت في اليوم الرابع أعطاها المدير شيك بـ 125 ألف ريال .... وأختم بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : ( استنزلو الرزق بالصدقة ).
فجزى الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندما أرشدنا بقوله لبلال :" يا بلال أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا"
نعم أخي أنفق أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب . وارحم من في الأرض يرحمك من في السماء ..
أخي الكريم : وبعد سماعك لهذه الكلمات من الآيات والأحاديث والآثار ما عساك أنك فاعل بنفسك ... هل سوف تري الله في نفسك خيراً ...(/2)
حتى تكون أسعد الناس
عائض بن عبدالله القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه , وبعد :
فهذا كتاب خفيف لطيف اختصرت فيه مؤلفات وعصرت فيه مصنفات , وسميته : [ حتى تكون أسعد الناس ] وجعلته في قواعد لعلك تكررها وتطالب نفسك بتنفيذها والعمل بها , وقد اخترت كثيراً من كلماته من كتابي [لا تحزن] وعشرات الكتب غيره في السعادة وأسأل الله لي ولك سعادة أبدية في الدارين , وفلاحاً دائماً إنه على كل شيء قدير, وتقبل تحياتي
عائض القرني
4/2 /1421 هـ
حتى تكون أسعد الناس
الإيمان يذهب الهموم ,ويزيل الغموم , وهو قرة عين الموحدين , وسلوة العابدين .
ما مضى فات , وما ذهب مات ,فلا تفكر فيما مضى ,فقد ذهب وانقضى .
ارض بالقضاء المحتوم , والرزق المقسوم , كل شيء بقدر فدع الضجر .
ألا بذكر الله تطمئن القلوب , وتحط الذنوب , وبه يرضى علام الغيوب , وبه تفرج الكروب .
لا تنتظر شكراً من أحد , ويكفي ثواب الصمد , وما عليك ممن جحد , وحقد , وحسد .
إذا أصبحت فلا تنتظر المساء , وعش في حدود اليوم , وأجمع همك لإصلاح يومك .
اترك المستقبل حتى يأتي , ولا تهتم بالغد لأنك إذا أصلحت يومك صلح غدك .
طهر قلبك من الحسد , ونقه من الحقد , وأخرج منه البغضاء , وأزل منه الشحناء
اعتزل الناس إلا من خير , وكن جليس بيتك , وأقبل على شأنك , وقلل من المخالطة .
الكتاب أحسن الأصحاب , فسامر الكتب , وصاحب العلم , ورافق المعرفة .
الكون بُني على النظام , فعليك بالترتيب في ملبسك وبيتك ومكتبك وواجبك .
اخرج إلى الفضاء , وطالع الحدائق الغناء وتفرج في خلق الباري وإبداع الخالق .
عليك بالمشي والرياضة ,واجتنب الكسل والخمول, واهجر الفراغ والبطالة
اقرأ التاريخ وتفكر في عجائبه وتدبر غرائبه واستمتع بقصصه وأخباره .
جدد حياتك , ونوع أساليب معيشتك , وغير من الروتين الذي تعيشه .
اهجر المنبهات والإكثار منها كالشاي والقهوة , واحذر التدخين والشيشة وغيرها .
اعتن بنظافة ثوبك وحسن رائحتك وترتيب مظهرك مع السواك والطيب .
لا تقرأ بعض الكتب التي تربي التشاؤم والإحباط واليأس والقنوط .
تذكر أن ربك واسع المغفرة يقبل التوبة ويعفو عن عباده , ويبدل السيئات حسنات .
اشكر ربك على نعمة الدين والعقل والعافية والستر والسمع والبصر والرزق والذرية وغيرها.
ألا تعلم أن في الناس من فقد عقله أو صحته أو هو محبوس أو مشلول أو مبتلى ؟!
عش مع القران حفظاً وتلاوة وسماعاً وتدبراً فإنه من أعظم العلاج لطرد الحزن والهم .
توكل على الله وفوض الأمر إليه , وارض بحكمه , والجأ إليه , واعتمد عليه فهو حسبك وكافيك .
اعف عمن ظلمك , وصل من قطعك , وأعط من حرمك , واحلم على من أساء إليك تجد السرور والأمن .
كرر [لا حول ولا قوة إلا بالله ] فإنها تشرح البال وتصلح الحال , وتحمل بها الأثقال , وترضي ذا الجلال
أكثر من الأستغفار , فمعه الرزق والفرج والذرية والعلم النافع والتيسير وحط الخطايا .
اقنع بصورتك وموهبتك ودخلك وأهلك وبيتك تجد الراحة والسعادة .
اعلم أن مع العسر يسراً ، وأن الفرج مع الكرب وأنه لا يدوم الحال ، وأن الأيام دول .
تفاءل ولا تقنط ولا تيأس , وأحسن الظن بربك وانتظر منه كل خير وجميل .
افرح باختيار الله لك , فإنك لا تدري بالمصلحة فقد تكون الشدة لك خير من الرخاء .
البلاء يقرب بينك وبين الله ويعلمك الدعاء ويذهب عنك الكبر والعجب والفخر .
أنت تحمل في نفسك قناطير النعم وكنوز الخيرات التي وهبك الله إياها .
أحسن إلى الناس وقدم الخير للبشر لتلقى السعادة من عيادة مريض وإعطاء فقير والرحمة بيتيم .
اجتنب سوء الظن واطرح الأوهام والخيالات الفاسدة والأفكار المريضة .
اعلم أنك لست الوحيد في البلاء , فما سلم من الهم أحد , وما نجا من الشدة بشر .
تيقن أن الدنيا دار محن وبلاء ومنغصات وكدر فاقبلها على حالها واستعن بالله
تفكر فيمن سبقوك في مسيرة الحياة ممن عزل وحبس وقتل وامتحن وابتلي ونكب وصودر .
كل ما أصابك فأجره على الله من الهم والغم والحزن والجوع والفقر والمرض والدين والمصائب .
اعلم أن الشدائد تفتح الأسماع والأبصار وتحيي القلب وتردع النفس وتذكر العبد وتزيد الثواب
لا تتوقع الحوادث , ولا تنتظر السوء, ولا تصدق الشائعات , ولا تستسلم للأراجيف .
أكثر ما يُخاف لا يكون , وغالب ما يُسمع من مكروه لا يقع , وفي الله كفاية وعنده رعاية ومنه العون .
لا تجالس البغضاء والثقلاء والحسدة فإنهم حمى الروح , وهم رسل الكدر وحملة الأحزان .
حافظ على تكبيرة الإحرام جماعة , وأكثر المكث في المسجد , وعود نفسك المبادرة للصلاة لتجد السرور .
إياك والذنوب , فإنها مصدر الهموم والأحزان وهي سبب النكبات وباب المصائب والأزمات .
داوم على (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء 87] فلها سر عجيب في كشف الكرب , ونبأ عظيم في رفع المحن .(/1)
لا تتأثر من القول القبيح والكلام السيئ الذي يقال فيك فإنه يؤذي قائله ولا يؤذيك .
سب أعدائك لك وشتم حسادك يساوي قيمتك لأنك أصبحت شيئاً مذكوراً ورجلاً مهماً .
اعلم أن من اغتابك فقد أهدى لك حسناته وحط من سيئاتك وجعلك مشهوراً وهذه نعمة .
لا تشدد على نفسك في العبادة , والزم السنة واقتصد في الطاعة , واسلك الوسط وإياك والغلو .
أخلص توحيدك لربك لينشرح صدرك , فبقدر صفاء توحيدك ونقاء إخلاصك تكون سعادتك .
كن شجاعاً قوي القلب ثابت النفس لديك همة وعزيمة , ولا تغرك الزوابع والأراجيف .
عليك بالجود فإن صدر الجواد منشرح وباله واسع والبخيل ضيق الصدر مظلم القلب مكدر الخاطر .
أبسط وجهك للناس تكسب ودهم , وألن لهم الكلام يحبوك , وتواضع لهم يجلوك .
ادفع بالتي هي أحسن , وترفق بالناس , وأطفئ العداوات , وسالم أعداءك , وكثر أصدقاءك .
من أعظم أبواب السعادة دعاء الوالدين , فاغتنمه ببرهما ليكون لك دعاؤهما حصناً حصيناً من كل مكروه .
اقبل الناس على ما هم عليه وسامح ما يبدر منهم , واعلم أن هذه هي سنة الله في الناس والحياة .
لا تعش في المثاليات بل عش واقعك , فأنت تريد من الناس ما لا تستطيعه فكن عادلاً.
عش حياة البساطة وإياك والرفاهية والإسراف والبذخ فكلما ترفه الجسم تعقدت الروح .
حافظ على أذكار المناسبات فإنها حفظ لك وصيانة , وفيها من السداد والإرشاد ما يصلح به يومك .
وزع الأعمال ولا تجمعها في وقت واحد بل اجعلها في فترات وبينها أوقات للراحة ليكن عطاؤك جيداً.
انظر إلى من هو دونك في الجسم والصورة والمال والبيت والوظيفة والذرية لتعلم أنك فوق ألوف الناس .
تيقن أن كل من تعاملهم من أخ وابن وزوجة قريب وصديق لا يخلو من عيب، فوطن نفسك على تقبل الجميع.
الزم الموهبة التي أعطيتها، والعلم الذي ترتاح له، والرزق الذي فتح لك ، والعمل الذي يناسبك.
إياك وتجريح الأشخاص والهيئات، وكن سليم اللسان ،طيب الكلام ، عذب الألفاظ ، مأمون الجانب.
اعلم أن الاحتمال دفن للمعائب ،والحلم ستر للخطايا , والجود ثوب واسع يغطي النغائص والمثالب .
انفرد بنفسك ساعة تدبر فيها أمورك وتراجع فيها نفسك وتتفكر في آخرتك وتصلح بها دنياك
مكتبتك المنزلية هي بستانك الوارف , وحديقتك الخضراء ,فتنزه فيها مع العلماء والحكماء والأدباء والشعراء .
اكسب الرزق الحلال وإياك والحرام , واجتنب سؤال الناس , والتجارة خير من الوظيفة , وضارب بمالك واقتصد في المعيشة
البس وسطا, لالباس المترفين ولا لباس البائسين ,ولا تشهر نفسك بلباس , وكن كعامة الناس .
لاتغضب فإن الغضب يفسد المزاج ويغير الخلق ويسيء العشرة ويفسد المودة ويقطع الصلة
سافر أحياناً لتجدد حياتك وتطالع عوالم أخرى وتشاهد معالم جديدة وبلداناً أخرى ، فالسفر متعة.
احتفظ بمذكرة في جيبك ترتب لك أعمالك ، وتنظم أوقاتك ، وتذكرك بمواعيدك ، وتكتب بها ملاحظاتك.
ابدأ الناس بالسلام وحيهم بالبسمة وأعرهم الاهتمام لتكن حبيباً إلى قلوبهم قريباً منهم .
ثق بنفسك ولا تعتمد على الناس واعتبر أنهم عليك لا لك وليس معك إلا الله ولا تغتر بإخوان الرخاء .
احذر كلمة سوف وتأخير الأعمال والتسويف بأداء الواجب ، فإن هذا أول الفشل والإخفاق .
اترك التردد في اتخاذ القرار ، وإياك والتذبذب في المواقف بل اجزم واعزم وتقدم.
لا تضيع عمرك في التنقل بين التخصصات والوظائف والمهن ، فإن معنى هذا أنك لم تنجح في شيء.
افرح بمكفرات الذنوب كالصالحات والمصائب والتوبة ودعاء المسلمين ورحمة الرحمن وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
عليك بالصدقة ولو بالقليل فإنها تطفئ الخطيئة وتسر القلب وتذهب الهم وتزيد في الرزق .
اجعل قدوتك إمامك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه القائد إلى السعادة , والدال على النجاح والمرشد إلى النجاة والفلاح .
زر المستشفى لتعرف نعمة العافية , والسجن لتعرف نعمة الحرية , والمارستان لتعرف نعمة العقل لأنك في نعم لا تدري بها .
لا تحطمك التوافه , ولا تعط المسألة أكبر من حجمها , واحذر من تهويل الأمور والمبالغة في الأحداث .
كن واسع الأفق والتمس الأعذار لمن أساء إليك لتعش في سكينة وهدوء , وإياك ومحاولة الانتقام .
لا تفرح أعداءك بغضبك وحزنك فإن هذا ما يريدون , فلا تحقق أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك .
لا توقد فرناً في صدرك من العداوات والأحقاد وبغض الناس وكره الآخرين , فإن هذا عذاب دائم .
كن مهذباً في مجلسك , صموتاً إلا من خير , طلق الوجه محترماً لجلاسك منصتاً لحديثهم , ولا تقاطع أثناء الكلام .
لا تكن كالذباب لا يقع إلا على الجرح , فإياك والوقوع في أعراض الناس وذكر مثالبهم والفرح بعثراتهم وطلب زلاتهم .
المؤمن لا يحزن لفوات الدنيا ولا يهتم بها ولا يرهب من كوارثها لأنها زائلة ذاهبة حقيرة فانية .
اهجر العشق والغرام والحب المحرم فإنه عذاب للروح ومرض للقلب , وافزع إلى الله وإلى ذكره وطاعته(/2)
إطلاق النظر إلى الحرام يورث هموماً وغموماً وجراحاً في القلب , والسعيد من غض بصره وخاف ربه .
احرص على ترتيب وجبات الطعام , وعليك بالمفيد واجتنب التخمة ولا تنم وأنت شبعان .
قدر أسوأ الاحتمالات عند الخوف من الحوادث , ثم وطن نفسك لتقبل ذلك فسوف تجد الراحة واليسر
إذا اشتد الحبل انقطع , وإذا أظلم الليل انقشع , وإذا ضاق الأمر اتسع , ولن يغلب عسر يسرين .
تفكر في رحمة الرحمن ،غفر لبغي سقت كلباً، وعفا عمن قتل مائة ، نفس ، وبسط يده للتائبين ودعا النصارى للتوبة.
بعد الجوع شبع ، وعقب الظمأ ري، وإثر المرض عافية ، والفقر يعقبه الغنى، والهم يتلوه السرور ، سنة ثابتة.
تدبر سورة {ألم نشرح لك صدرك}[الشرح :1] وتذكرها عند الشدائد ، واعلم أنها من أعظم الأدوية عند الأزمات .
أين أنت من دعاء الكرب " لا إله إلا الله العظيم الحليم ،لا إله إلا الله رب العرش العظيم ،لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم " (1)
إذا غضبت فاسكت و تعوذ من الشيطان وغير مكانك ، وإن كنت قائماً فاجلس وتوضأ وأكثر من الذكر.
لا تجزع من الشدة فإنها تقوي قلبك وتذيقك طعم العافية وتشد من أزرك وترفع شأنك وتظهر صبرك.
التفكر في الماضي حمق وجنون وهو مثل طحن الطحين ونشر النشارة وإخراج الأموات من قبورهم .
انظر إلى الجانب المشرق من المصيبة وتلمح أجرها واعلم أنها أسهل من غيرها وتأس بالمنكوبين .
ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك , وجُفَّ القلم بما أنت لاقٍ , ولا حيلة لك في القضاء .
حوًل خسائرك إلى أرباح , واصنع من الليمون شراباً حلواً , وأضف إلى ماء المصائب حفنة سكر ,وتكيف مع ظرفك .
لا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله ولا تنس عون الله , فإن المعونة تنزل على قدر المؤونة .
الخيرة فيما تكره أكثر منها فيما تحب , وأنت لا تدري بالعواقب , وكم من نعمة في طي نقمة ومن خير في جلباب شر.
قيد خيالك لئلا يجمح بك في أودية الهموم , وحاول أن تفكر في النعم والمواهب والفتوحات التي عندك .
اجتنب الصخب والضجة في بيتك ومكتبك , ومن علامات السعادة الهدوء والسكينة والنظام .
الصلاة خير معين على المصاعب , وهي تسمو بالنفس في آفاق علوية وتهاجر بالروح إلى فضاء النور والفلاح .
إن العمل الجاد المثمر يحرر النفس من النزوات الشريرة والخواطر الآثمة والنزعات المحرمة .
السعادة شجرة ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها الإيمان بالله والدار الآخرة .
من عنده أدب جمٌ وذوق سليم وخلق شريف أسعد نفسه وأسعد الناس ونال صلاح البال والحال .
روّح على قلبك فإن القلب يكل ويمل , ونوع عليه الأساليب , والتمس له فنون الحكمة وأنواع المعرفة ,
العلم يشرح الصدر ويوسع مدارك النظر ويفتح الآفاق أمام النفس فتخرج من همها وغمها وحزنها .
من السعادة الانتصار على العقبات ومغالبة الصعاب ,فلذة الظفر لا تعدلها لذة وفرحة النجاح لا تساوبها فرحة .
إذا أردت أن تسعد مع الناس فعاملهم بما تحب أن يعاملوك به ولا تبخسهم أشياءهم ولا تضع من أقدارهم .
إذا عرف الإنسان نفسه والعلم الذي يناسبه وقام به على أكمل وجه وجد لذة النجاح ومتعة الانتصار.
المعرفة والتجربة والخبرة أعظم من رصيد المال ،لأن الفرح بالمال بهيمي والفرح بالمعرفة إنساني .
إذا غضب أحد الزوجين فليصمت الآخر ، وليقبل كل منهما الآخر على ما فيه فإنه لن يخلو أحد من عيب.
الجليس الصالح المتفائل يهون عليك الصعاب ويفتح لك باب الرجاء ، والمتشائم يسود الدنيا في عينك.
من عنده زوجة وبيت وصحة وكفاية مال فقد حاز صفو العيش ، فليحمد الله وليقنع ، فما فوق ذلك إلا الهم.
"من أصبح منكم آمناً في سربه , معافى في جسده ،عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا" (2).
من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً كان حقاً على الله أن يرضيه ، وهذه أركان الرضا.
أصول النجاح أن يرضى الله عنك وأن يرضى عنك من حولك وأن تكون نفسك راضية وأن تقدم عملاً ًمثمراً.
الطعام سعادة يوم ، والسفر سعادة أسبوع ، والزواج سعادة شهر ، والمال سعادة سنة، والإيمان سعادة العمر كله ،
لن تسعد بالنوم ولا بالأكل ولا بالشرب ولا بالنكاح ، وإنما تسعد بالعمل وهو الذي أوجد للعظماء مكاناً تحت الشمس .
من تيسرت له القراءة فإنه سعيد لأنه يقطف من حدائق العالم ويطوف على عجائب الدنيا ويطوي الزمان والمكان.
محادثة الإخوان تذهب الأحزان ،والمزاح البريء راحة ، وسماع الشعر يريح الخاطر .
أنت الذي تلون حياتك بنظرك إليها ،فحياتك من صنع أفكارك ، فلا تضع نظارة سوداء على عينيك .
فكر في الذين تحبهم ، ولا تعط من تكرههم لحظة واحدة من حياتك،فإنهم لا يعلمون عنك وعن همك.
__________
(1) رواه البخاري (5869 ، 5870 ، 6879 ) . ومسلم (2730) وأحمد (1908 ، 2227 ، 2406 ) واللفظ للبخاري .
(2) رواه الترمذي (2268) وابن ماجه (4131) بمعناه .(/3)
إذا استغرقت في العمل المثمر بردت أعصابك، وسكنت نفسك، وغمرك فيض من الاطمئنان.
السعادة ليست في الحسب ولا النسب ولا الذهب، وإنما في الدين والعلم والأدب وبلوغ الأرب.
أسعد عباد الله عند الله أبذلهم للمعروف يداً، وأكثرهم على الإخوان فضلاً ، وأحسنهم على ذلك شكراً.
إذا لم تسعد بساعتك الراهنة فلا تنتظر سعادة سوف تطل عليك من الأفق أو تنزل عليك من السماء .
فكر في نجاحاتك وثمار عملك وما قدمته من خير وافرح به واحمد الله عليه ، فإنه هذا مما يشرح الصدر.
الذي كفاك هم أمس يكفيك هم اليوم وهم غداً، فتوكل عليه، فإذا كان معك فمن تخاف ؟ وإذا عليك فمن ترجو؟
بينك وبين الأثرياء يوم واحد، أما أمس فلا يجدون لذته ، وغد فليس لي ولا لهم ، وإنما لهم يوم واحد ، فما أقله من زمن !
السرور ينشط النفس ويفرح القلب ويوازن بين الأعضاء ويجلب القوة ويعطي الحياة قيمة والعمر فائدة.
الغنى والأمن والصحة والدين وركائز السعادة، فلا هناء لمعدم ولا خائف ولا مريض ولا كافر , بل هم في شقاء .
من عرف الاعتدال عرف السعادة , ومن سلك التوسط أدرك الفوز , ومن اتبع اليسر نال الفلاح .
ليس في ساعة الزمن إلا كلمة واحدة : الآن , وليس في قاموس السعادة إلا كلمة واحدة : الرضا .
إذا أصابتك مصيبة فتصورها أكبر تهن عليك, وتفكر في سرعة زوالها,فلولا كرب الشدة ما رجيت فرحة الراحة.
إذا وقعت في أزمة فتذكر كم أزمة مرت بك ونجاك الله منها ، حينها تعلم أن من عافاك في الأولى سيعافيك في الأخرى .
العاق ليومه من أذهبه في غير حق قضاه ،أو فرض أداه ،أ وحمد حصله أو علم تعلمه، أو قرابة وصلها، أو خير أسداه.
ينبغي أن يكون حولك أو في يدك كتاب دائم، لأن هناك أوقات تذهب هدراً، والكتاب خير ما يحفظ به الوقت ويعمر به الزمن .
حافظ القرآن ، التالي له آناء الليل وأطراف النهار لا يشكو مللا ًولا فراغا ًولا سأماً، لأن القران ملأ حياته سعادة .
لا تتخذ قراراً حتى تدرسه من كافة جوانب, ثم استخر الله وشاور أهل الثقة, فإن نجحت فهذا المراد و إلا فلا تندم.
العاقل يكثر أصدقاءه ويقلل أعداءه ، فإن الصديق يحصل في السنة والعدو يحصل في يوم ، فطوبى لمن حببه الله إلى خلقه .
اجعل لمطالبك الدنيوية حداً ترجع إ ليه ،وإلا تشتت قلبك وضاق صدرك وتنغص عيشك وساء حالك .
لا تجعل الصحة ثمناً أو الشهوة أو المنصب فتخسر الجميع ،لأن من فاتته الصحة لا ينعم بمتعة .
ينبغي لمن تظاهرت عليه نعم الله أن يقيدها بالشكر ويحفظها بالطاعة ويرعاها بالتواضع لتدوم .
من صفت نفسه بالتقوى ،وطهُر فكره بالإيمان ،وصقلت أخلاقه بالخير نال حب الله وحب ا لناس .
الكسول الخامل هو المتعب الحزين حقيقة ،أما العامل المجد فهو الذي عرف كيف يعيش وعرف كيف يسعد .
إن لذة الحياة ومتعتها أضعاف أضعاف مصائبها وهمومها، ولكن السر كيف نصل إلى هذه المتعة بذكاء .
لو ملكت المرأة الدنيا وسيقت لها شهادات العالم وحصلت على كل وسام وليس عندها زوج فهي مسكينة .
الحياة الكاملة أن تنفق شبابك في الطموح ،ورجولتك في الكفاح ،وشيخوختك في التأمل.
لُم نفسك على التقصير ، ولا تلم أحداً فإن عندك من العيوب ما يملأ الوقت إصلاحه فاترك غيرك .
أجمل من القصور والدور كتاب يجلو الأفهام ،ويسر القلوب، ويؤنس الأنفس، ويشرح الصدر، وينمي الفكر.
اسأل الله العفو والعافية ،فإذا أعطيتهما فقد حزت كل خير ونجوت ومن كل شر فزت بكل سعادة .
رغيف واحد وسبع تمرا ت وكوب ماء وحصير في غرفة مع مصحف ،وقل على الدنيا السلام .
السعادة في التضحية وإنكار ا لذات ، وبذل الندى وكف الأذى ،والبعد عن الأنانية والاستئثار .
الضحك المعتدل يشرح النفس ويقوي القلب ويذهب الملل وينشط على العمل ويجلو الخاطر .
العبادة هي السعادة، والصلاح هو النجاح، ومن لزم الأذكار وأدمن الاستغفار وأكثر الافتقار فهو أحد الأبرار.
خير الأصحاب من تثق به وترتاح وتفضي إليه بمتاعبك ويشاركك همومك ولا يفشي سََّرك .
لا تتوقع سعادة أكبر مما أنت فيه فتخسر ما بين يديك ،ولا تنتظر مصائب قادمة فتستعجل الهم والحزن .
لا تظن أنك تعطي كل شيء، بل تعطي خيراً كثيراً،أما أن تحوي كل موهبة وكل عطية فهذا بعيد .
امرأة حسناء تقية ، ودار واسعة ، وكفاف من رزق، وجار صالح .. نعم جهلها الكثير.
فن النسيان للمكروه نعمة ،وتذكر النعم حسنة ، والغفلة عن العيوب الناس فضيلة .
العفو ألذ من الانتقام ، والعمل أمتع من الفراغ ، والقناعة أعظم من المال ، والصحة خير من الثروة .
الوحدة خير من الجليس السوء ،والجليس الصالح خير من الوحدة ،والعزلة عبادة ، والتفكر طاعة .
العزلة مملكة الأفكار ، وكثرة الخلطة حمق ، والوثوق بالناس سفه ، واستعداؤهم شؤم.
سوء الخلق عذاب ،والحقد سم ، والغيبة رذالة ،وتتبع العثراث خذلان .
شكر النعم يدفع النقم ، وترك الذنوب حياة القلوب ، والانتصار على النفس لذة العظماء.(/4)
خبز جاف مع أمن ألذة من العسل مع الخوف ، وخيمة مع ستر أحب من قصر فيه فتنة.
فرحة العالم دائمة ، ومجده خالد ، وذكره باق ، وفرحة المال منصرمة ،ومجده إلى الزوال ،وذكره إلى نهاية .
الفرح بالدنيا فرح الصبيان ، والفرح بالإيمان فرح الأبرار ،وخدمة المال ذل ، والعمل لله شرف.
عذاب الهمة عذب ،وتعب الإنجاز راحة ، وعرق العمل مسك ،والثناء الحسن أحسن طيب .
السعادة أن يكون مصحفك أ نيسك ، وعملك هوايتك ، وبيتك صومعتك ، وكنزك قناعتك .
الفرح بالطعام والمال فرح الأطفال ، والفرح بحسن الثناء فرح العظماء ، وعمل البر مجد لا يفنى.
صلاة الليل بهاء النهار، وحب الخير للناس من طهارة الضمير ، وانتظار الفرج عبادة.
في البلاء أربعة فنون : احتساب الأجر ، ومعايشة الصبر ، وحسن الذكر ، وتوقع اللطف.
الصلاة جماعة، وأداء الواجب، وحب المسلمين، وترك الذنوب، وأكل الحلال صلاح الدنيا والآخرة.
لا تكن رأساً فإن الرأس كثير الأوجاع، ولا تحرص على الشهرة فإن لهل ضريبة، والكفاف مع الخمول سعادة.
علامة الحمق ضياع الوقت ،وتأخير التوبة ، واستعداء الناس ، وعقوق الوالدين ، وإفشاء الأسرار.
يعرف موت القلب بترك الطاعة ،وإدمان الذنوب ، وعدم المبالاة بسوء الذكر ، والأمن من مكر الله ،واحتقار الصالحين .
من لم يسعد في بيته لن يسعد في مكان آخر ،ومن لم يحبه أهله لن يحبه أحد ، ومن ضيع يومه ضيع غده.
أربعة يجلبون السعادة : كتاب نافع ، وابن بار، وزوجة محبوبة، وجليس الصالح ، وفي الله عوض عن الجميع .
إيمان وصحة وغنى وحرية وأمن وشباب وعلم هي ملخص ما يسعى له العقلاء ، لكنها قل أن تجتمع كلها .
اسعد الآن فليس عندك عهد ببقائك ، وليس لديك أمان من روعة الزمان، فلا تجعل الهم نقداً والسرور ديناً.
أفضل ما في العالم إيمان صادق ،وخلق مستقيم، و عقل صحيح وجسم سليم، ورزق هانىء وما سوى ذاك شغل .
نعمتان خفيتان: الصحة في البدن والأمن، في الأوطان. نعمتان ظاهرتان: الثناء الحسن، والذرية الصالحة.
القلب المبتهج يقتل ميكروبات البغضاء ، والنفس الراضية تطارد حشرات الكراهية
الأمن أمهد وطاء، والعافية أسبغ غطاء ،والعلم ألذ غذاء ،والحب أنفع دواء ، والستر أحسن كساء.
السعادة لا يكون فاسقاً ولا مريضا ولاً مديناً ولا غريباً ولا حزيناً ولا سجيناً ولا مكروهاً.
السعادة :انجلاء الغمرات ، وإزالة العداوات ، والعمل الصالحات ، والانتصار على الشهوات.
أقل الطرق خطراً طريقك إلى بيتك ، وأكثر الأيام بركة يوم تعمل صالحاً، وأشأم زمن تسيء لأحد .
إن سبك بشر فقد سبوا ربهم تعالى ، أوجدهم من العدو فشكوا في وجوده ، وأطعمهم من جوع فشكروا غيره ، وآمنهم من خوف فحاربوه.
لا تحمل الكرة الأرضية على رأسك ،ولا تظن أن الناس يهمهم أمرنا إن زكاماً يصيب أحدكم ينسيهم موتي وموتك .
السرور كفاية ووطن ، وسلامة وسكن ، وأمن من الفتن ، ونجاة من المحن ، وشكر على المنن ، وعبادة طيلة الزمن.
" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل "(1) ، " وصل صلاة المودع "(2) ، " ولا تكلم بكلام تعتذر منه "(3) ،" وأجمع اليأس عما في أيدي الناس"(4)،
ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما يحبك الناس ، واقنع بالقليل واعمل بالتنزيل واستعد للرحيل ، وخف الجليل .
لا عيش لممقوت ، ولا راحة لمعاد ، ولا أمن لمذنب ، ولا محب لفاجر ، ولا ثناء على كاذب ، ولا ثقة بغادر .
"عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ،وأن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "(5).
الابتسامة مفتاح السعادة ، والحب بابها ، والسرور حديقتها ، والإيمان نورها ، والأمان جدارها .
البهجة : وجه جميل ، وروض أخضر، وماء بارد ، وكتاب مفيد مع قلب يقدر النعمة ويترك الإثم ويحب الخير .
ينام المعافى على صخر كأنه على ريش حرير ، ويأكل خبز الشعير كالثريد ، ويسكن الكوخ كأنه في إيوان كسرى.
البخيل يعيش فقيراً أو يموت غنياً خادم لذريته ، حارس لماله ، بغيض عند الناس ، بعيداً، بعيداً من الله ، سيء السمعة في العالم .
الأولاد أفضل من الثروة ،والصحة خير من الغنى ،والأمن أحسن من السكن ، والتجربة أغلى من المال.
اجعل الفرح شكراً، والحزن صبراً، والصمت تفكراً، والنظر اعتباراً، والنطق ذكراً،والحياء طاعةً ، والموت أمنيةً.
كن مثل الطائر يأتيه رزقه صباح مساء ،ولا يهتم بغد ولا يثق بأحد ولا يؤذي أحداً، خفيف الظل رفيق الحركة .
من أكثر مخالطة الناس أهانوه ، ومن بخل عليهم مقتوه ،ومن حلم عليهم وقروه، ومن أجاد عليهم أحبوه ،ومن احتاج إليهم ابغضوه .
الفلك يدور ،والليالي حبالى ،والأيام دول ،ومن المحال دوام الحال ، والرحمن كل يوم هو في شأن .. فلماذا تحزن ؟.
__________
(1) رواه البخاري (5937) والترمذي (2255) وابن ماجه (4104) وأحمد (4534 ، 5881 ) .
(2) رواه ابن ماجه (4161) وأحمد (22400 ) .
(3) نفسه ؟
(4) رواه ابن ماجه (4161) .
(5) رواه مسلم (2999) .(/5)
كيف على أبواب السلاطين ونواصيهم في قبضة رب العالمين ، تسأل المال من فقير، وتطلب بخيلاً ، وتشكو إلى جريح .
ابعث رسائل وقت السحر: مدادها الدمع وقراطيسها الخدود وبريدها القبول ووجهتها العرش : وانتظر الجواب .
إذا سجدت فأخبره بأمورك سراً فإنه يعلم السر وأخفى ، ولا تسمع من بجوارك لأن للمحبة أسراراً والناس حاسد وشافع .
سبحان من جعل الذل له عزة ، والافتقار إليه غنى ، ومسألته شرفاً ،والخضوع له رفعة ، والتوكل عليه كفاية .
إذا دارهم ببالك وأصبح حالك من الحزن حالك ،وفجعت في أهلك ومالك ، فلا تيأس لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً .
لا تنس { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }[آ ل عمران:173] فإنها تطفىء الحريق ،وينجو بها الغريق ، ويعرف بها الطريق ، وفيها العهد الوثيق .
طوبى لك يا طائر : ترد النهر ، وتسكن الشجر ، وتأكل الثمر، ولا تتوقع الخطر ، ولا تمر على سقر ، فأنت أسعد حالاً من البشر .
السرور لحظة مستعارة والحزن كفارة ،والغضب شراره ، والفراغ خسارة ، والعبادة تجارة .
أمس مات،واليوم في السياق، وغداً لم يولد ، وأنت انب الساعة فاجعلها طاعة ، تعد لك بأربح بضاعة.
نديمك القلم، وغديرك الحبر، وصاحبك الكتاب، ومملكتك بيتك، وكنزك قوتك، فلا تأسف على ما فات.
ربما ساءت أوائل الأمور وسرتك أواخرها ، كالسحاب أوله برق ورعد وآخره غيث هنيء .
الاستغفار يفتح الأقفال، ويشرح البال، ويذهب الأدغال، وهو عربون الرزق ودر وازة التوفيق .
ست شافية كافية : دين وعلم وغنىً ومروءة وعفو وعافية .
من الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وينقذ الغريق إذا ناداه، ويكشف الكرب عن من قال يا الله ؟ إنه الله .
ابتعد عن الجدل العقيم، والمجلس اللاغي، والصاحب السفيه، فإن الصاحب ساحب والطبع لص والعين سارقة.
التحلي بحسن الاستماع ، وعدم مقاطعة المتحدث ، ولين الخطاب ،ودماثة الخلق ، أوسمة على صدور الأحرار .
عندك عينان وأذنان ويدان ورجلان ولسان وإيمان وقرآن وأمان .. فأين الشكر يا إنسان { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن : 13].
تمشي على قدميك وقد بترت أقدام ، وتعتمد على ساقيك وقد قطعت سيقان ، وتنام وغيرك على شرد الألم نومه ، وتشبع وسواك جائع .
سلمت من الصمم والبكم والعمى والبرص ،ونجوت من البرص والجنون والجذام ، وعوفيت من السل والسرطان ، فهل شكرت الرحمن ؟!
مصيبتنا أننا نعجز عن حاضرنا و نشتغل بماضينا ، ونهمل يومنا ونهتم بغدنا فأين العقل وأين الحكمة ؟!
نقد الناس لك معناه أنك فعلت ما يستحق الذكر، وأنك فقتهم علماً أو مالاً أو منصباً أو جاهاً.
تقمص شخصية غيرك ، والذوبان في الآخرين ، ومحاكاة الناس انتحار وإزهاق لمعالم الشخصية .
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ }، [البقرة : 60 ]، { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا }[البقرة :148 ] ((لا تكون إمعة))(1) ، { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } [الرعد : 4 ].
مع الدمعة بسمة ، ومع الترحة فرحة ، ومع البلية عطية ، ومع المحنة محنة ، سنة ثابتة وقاعدة مطردة .
انظر هل ترى إلا مبتلى ،وهل تشاهد إلا منكوباً ، في كل دار نائحة ، وعلى كل خد دمع ، وفي كل واد بنو سعد .
صوت من شكر معروفك أجمل من تغريد الأطيار ، و نسيم الأسحار ،وحفيف الأشجار، وغناء الأوتار .
إذا شربت الماء الساخن قلت الحمد لله بكلفة ، وإذا شربت الماء البارد قال كل عضو فيك : الحمد لله .
أرخص سعادة تباع في سوق العقلاء ترك مالا يعني ، وأغلى سلعة عند العالم أن تألف الناس ويألفوك .
إياك والهم فإنه سم ، والعجز فإنه موت ، والكسل فإنه خيبة ، واضطراب الرأي فإنه سوء تدبير.
جار السوء شر من غربة الإنسان ، واصطناع المعروف أرفع من القصور الشاهقة ، والثناء الحسن هو المجد .
من عنده دين يرشده ، وعقل يسدّده ، وحسبٌ يصونه ، وحياء يزينه ، فقد جمع الفضائل .
من ترك الخلاف ، واجتنب التفاخر ، وسلم من الكذب ، ورضي بالقدر ، وهجر الحسد ، عكف الله عليه قلوب عباده.
من استخف بالسلطان ذهبت دنياه ، ومن استخف بالعالم ذهب دينه ، ومن استخف بالصديق ذهبت مروءته ، ومن استخف بالله ذهبت دنياه وأخراه .
حاجة الناس إليك نعمة فلا تملها فتصبح نقمة ، واعلم أن أحسن أيامك يوم تكون مقصوداً لا قاصداً.
قبل أن تنام سامح الأنام ، واغسل قلبك بالعفو سبع مرات وعفره بالغفران تجد حلاوة الإيمان .
العلم أنيس في الوحدة ، صاحب في الغربة ، رقيب في الخلوة ، دليل إلى الرشد ،معين في الشدة ذخر بعد الموت.
لا يضر من عنده ثوب ممزع وحذاء مقطع ، ولديه قلب يخشع وعين تدمع ونفس تشبع .
سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا, فهذا الذي دخل السجن المؤبد فلا هو حي فيرجى ولا ميت فينعى.
خير المال عين خرارة في أرض خوارة ، تسهر إذا نمت ، وتشهد إذا غبت ، وتكون عقباً إذا مت .
__________
(1) رواه الترمذي (1930) ، وهو حديث ضعيف(/6)
التمس حظك بالسكوت فإن الصامت مُهاب والمنصت محبوب والبلاء موكل المنطق
الحياة: تزود لمعاد ، أو تدبير معاش ، أو لذة في غير محرم ، إثراء العقل ، أو صقل النفس ، وما سوى باطل .
العزلة تحميك من الحاسد والشامت الثقيل والمتكبر والمغتاب والمعجب . . . وكفى بها نفعاً .
لن تسعد بالسفر من بلد إلى بلد وهمك معك ، لكن انتقل من شعور إلى شعور لتجد السرور .
إذا كانت النفس جميلة رأت الفجر غديراً، والليل مهرجاً ، والناس أحبة ، والكوخ قصراً مشيداً .
من رحمة الله بعباده أن كل من أطاعه جعل غناه في قلبه ، فلو لم يكن عنده إلا لقيمات يحسب أنه ملك الدنيا .
الدنيا العافية، والشباب الصحة، والمروءة الصبر، والكرم التقوى، والحسب المال.
أتعس الناس من أراد أن يكون غير نفسه ،ومن سخط القضاء وتبرم من رزقه وضاق خلقه .
من لزم المسجد استفاد آية محكمة ، وأخاً صادقاً ، وعلماً صالحاً ، ورحمة منتظرة ، وكلمة نافعة ، وتوبة نصوحاً .
من صام طاب طعامه , ومن قام طاب منامه , ومن جاد كثر حامده , ومن ساد كثر حاسدة.
لا سعادة إلا إذا عشت حراً من كل سيطرة على جسمك وعقلك ووجدانك وخيالك لتكون عبداً لله وحده .
السعيد من ينسى مالا سبيل إلى إصلاحه , ومن يذكر إحسان الناس وينسى إساءتهم .
رزقك أعرف بمكانك منك بمكانه ، وهو يطاردك مطاردة الظل ولن تموت حتى تستوفي رزقك .
العديم من احتاج إلى لئيم ، والفقير من استقل الكثير ، والأعمى من لم ير عيوبه .
من بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره ، إلا عبادة الله فنهايتها رضوانه ودخول الجنة .
أحق الناس بزيادة النعم أشكرهم ، وأولاهم بالحب من بذل نداه ومنع أذاه وأطلق محياه .
السرور محتاج إلى الأمن ، والمال إلى صدقة ، والجاه محتاج إلى الشفاعة ، والسيادة محتاجة إلى التواضع .
لا تنال الراحة إلا بالتعب،ولا تدرك الدعة إلا بالنصب ،ولا يحصل على الحب إلا بالأدب.
الأبناء أهم من الثروة ، والخلق أجل من النصب ، والهمة أعلى من الخبرة ، والتقوى أسمى من المجد.
لا تطمع في كل ما تسمع ، ولا تركن لكل صديق ، ولا تفش سرك إلى امرأة ، ولا تذهب وراء كل أمنية .
ما رأيت الراحة إلا مع الخلوة ، ولا الأمن إلا مع الطاعة ، ولا المحبة مع الوفاء ، ولا الثقة إلا مع الصدق .
رب أكلة تمنع أكلات , وكلمة تجلب عداوات ,وسيئة تمنع الخيرات ,ونظرة تعقب حسرات .
لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك سرفاً ، ولا حياتك ترفاً ، ولا تذكرك أسفاً ، ولا قصدك شرفاً.
كل امرىء في بيته أمير لا يهينه أحد ، ولا يحجبه بشر ، ولا يذله جبار ولا يرده بخيل.
أفضل الأيام ما زادك حلماً ، ومنحك علماً، ومنعك إثماً ، وأعطاك فهماً، ووهباك عزماً .
الحياة فرصة لا نعرفها إلا بعد أن نفقدها ، والعافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى .
متى يسعد من له ابن عاق ، وزوجة مشاكسة ، وجار مؤذ ، وصاحب ثقيل ، ونفس أمارة ، وهوى متبع ،
إن لربك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولعينك عليك حقاً ، ولزوجك عليك حقاً ، ولضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه .
استمتع بالنظر إلى الصباح عند طلوعه فإن له جمالاً جلالاً إشراقاً يفتح لك الأمل والتفاؤل .
عليك بالبكور فإنه بركة ، فأنجز فيه عملك من ذكر أو تلاوة أو حفظ أو مطالعة أو تأليف أو سفر .
كن وسطاً ، وامش جانباً ، وارض خالقاً ، وارحم مخلوقاً ، وأكمل فريضة ، وتزود بنافلة تكن راشداً .
التوفيق : حسن الخاتمة، وسداد القول، وصلاح العمل، والبعد عن الظلم، وقطيعة الرحم.
رب كلمة سلبت نعمة ، ورب زلة أ وجبت ذله ، وكم خلوة حلوة ، وصاحب العزلة فيها عٌّز له
(( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ))(1) ، (( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))(2) .
خير مالك ما نفعك ، وأجل علمك ما رفعك ، وخير البيوت ما وسعك ، وخير الأصحاب من نصحك.
إذا لم يكن لك حاسد فلا خير فيك ، وإذا لم يكن لك صاحب فلا خلق لك ، وإذا لم يكن لك دين فلا مبدأ لك .
سرَّ نفسك بتذكر حسناتك ، وأروح قلبك بالتوبة من سيئاتك ، وطوق الأعناق بأيديك البيضاء .
السمنة غفلة ، والبطنة تذهب الفطنة ، وكثرة النوم إخفاق ، وكثرة الضحك تميت القلب، والوسوسة عذاب .
الإمارة حلوة الرضاع مرة الفطام ، وفرحة الولاية يذهبها حزن العزل ، والكرسي دوار .
من لذائد الدنيا : السفر مع من تحب ، والبعد عمن تبغض ، والسلامة من يؤذي ، وتذكر النجاح .
البر يستبعد الحر ، والإحسان يقيد الإنسان ، الحلم يقهر الخصم ، والصبر يطفىء الجمر
الدنيا أهنا ما تكون حين تهان ، والحاجة أرخص ما تكون حينما يستغنى عنها .
إذا أهمك رزق غد فمن يكفل لك قدوم غد ، وإذا أحزنك ما حدث بالأمس فمن يعيد لك الأمس
__________
(1) رواه الترمذي (2551) والنسائي (4909) .
(2) رواه البخاري (9 ، 6003 ) والنسائي (4910) وأبو داود (2122) وأحمد (6228 ، 6515 ، 6618 ، 6659 ، 6661 ) .(/7)
توفيق قليل خير من مال كثير ، وعزل في عزة خير من ولاية في ذلة ، وخمول في طاعة خير من شدة في معصية .
القانع ملك ، والمسرف أهوج ، والغضبان مجنون ، والعجول طائش ، والحاسد ظالم.
ذكر الله يرضى الرحمن ، ويسعد الإنسان ، ويخسىء الشيطان ، ويذهب الأحزان ، ويملأ الميزان .
سعيد من طال عمره وحسن عمله ، وموفق من كثر ماله فكثر بره ، ومبارك من زاد عمله فزادت تقواه.
جزاء من اهتم بالناس أن ينسى همومه ، وثواب من خدم مولاه أن يخدمه الناس ، وجائزة من ترك الدنيا أن يأتيه رزقه رغداً .
لا تستقل شيئاً من النعم مع العافية ، ولا تحتقر شيئاً من الذنب مع عدم التوبة ، ولا تكثر طاعة مع عدم الإخلاص .
الفرح بالدنيا فرح الأطفال ، والفرح بالثناء الحسن فرح الرجال ، والفرح بما عند الله فرح الأولياء الأبرار .
الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، والحياء صيانة، والعلم حجة، والبيان جمال، والصمت حكمة .
حلاوة الظفر تمحو مرارة الصبر ، ولذة الانتصار تذهب وعثاء المعاناة ، وإتقان العمل يزيل مشقته.
أطيب ما في الدنيا محبة الله ، وأحسن ما في الجنة رؤية الله ، وأنفع الكتب كتاب الله ، وأبر الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
السعيد من اعتبر بأمسه ونظر لنفسه وأعد لرمسه وراقب الله في جهره وهمسه.
الحرص ذل والطمع مهانة، والشح خسة، والهيبة خيبة، والغفلة حجاب .
(( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ))(1)
اجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك ، واجعل مالك صيانة لحالك ، واجعل عمرك طاعة لربك .
رب لذة أو جبت حسرة ، وزلة أعقب ذلة ، ومعصية سلبت نعمة ، وضحكة جرت بكاء .
النعم إذا شكرت قرّت ، وإذا كفرت فرّت ، والدنيا إذا سرت مرّت ، وإذا برّت غرّت.
السلامة إحدى الغنيمتين ، وصحة الجسم قلة الطعام , وصحة الروح قلة الآثام, وصحة الوقت البعد عن المقت.
دقيقة الألم يوم, ويوم اللذة دقيقة, وليلة السرور قصيرة, ويوم الهم طويل ثقيل.
البؤس ذكرك النعيم, والجوع حبب إليك الطعام, والسجن ثمن لديك للحرية, والمرض شوقك للعافية.
عليك بثلاثة أطباء: الفرح والراحة والحمية وإياك وثلاثة أعداء: التشاؤم والوهم والقنوط.
السعادة هي أن تصل النفس إلى درجة كمالها, والفوز أن تجد ثمرة أعمالها, والحظ أن تخدمه الدنيا بإقبالها.
اجلس في السحر ومد يديك وأرسل عينيك وقل: وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل ياجليل .
من النعم السلامة من الألم والسقم والهرم, ولا تشرب حتى تظمأ, ولا تأكل حتى تجوع, ولا تنم حتى تتعب.
من تأنى حصل على ما تمنى, ومن للخير تعنى فبالفوز تهنى, والعجلة عقم, والأماني إفلاس.
ارض عن الله فيما فعله بك, ولا تتمن زوال حالة أقامك فيها, فهو أدرى بك منك وأرحم بك من أمك.
قضاء الله كله خير, حتى المعصية بشرطها من ندم وتوبة, وانكسار واستغفار, وإذهاب الكبر والعجب.
داوم على الاستغفار فإن لله نفحات في الليل والنهار, فعسى أن تصيبك منها نفحة تسعد بها إلى يوم الدين.
طوبى لمن إذا أنعم عليه شكر, وإذا ابتلي صبر, وإذا أذنب استغفر, وإذا غضب حلم, وإذا حكم عدل.
من فوائد القراءة فتق اللسان, وتنمية العقل, وصفاء الخاطر, وإزالة الهم, والاستفادة من التجارب واكتساب الفضائل.
غذاء القلب في الإخلاص والتوبة والإنابة, والتوكل على الله, والرغبة فيما عنده والرهبة من عذابه, وحبه تعالى.
الزم " يا ذا الجلال والإكرام "(2) وداوم على " يا حي يا قيوم برحمتك استغيث "(3) لترى الفرج والفرح والسكينة.
إذا آذاك أحد فتذكر القضاء وفضل العفو وأجر الحلم وثواب الصبر وأنه ظالم وأنت مظلوم, فأنت أسعد حظاً.
القضاء نافذ والأجل محتوم والرزق مقدر, فلماذا الحزن؟ والمرض والمصيبة والفقر بأجرها فلم الهم؟.
في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وهي ذكره سبحانه وطاعته وحبه والأنس به والشوق إليه.
رضي الله عنهم لأنهم أطاعوا أمره واجتنبوا نهيه ورضوا عنه لأنه أعطاهم ما أملوا م وآمنهم مما خافوا .
كيف يخزن من عنده رب يقدر ويغفر ويستر ويرزق ويرى ويسمع ، وبيده مقاليد الأمور .
الرحمة واسعة والباب مفتوح ، والعفو ممنوح ، وعطاؤه يغدو ويروح ، والتوبة مقبولة ، وحلمه كبير .
لا تحزن لأن القضاء مفروغ منه ، والمقدور واقع ، والأقلام جفت ، والصحف طويت والأجر حاصل ، والذنب مغفور .
أحسن العمل وقصر الأمل وانتظر الأجل ، وعش يومك ، وأقبل على شأنك واعرف زمانك واحفظ لسانك .
لا أفيد من كتاب، ولا أوعظ من قبر، ولا أشام من معصية، ولا أشرف من زهد، ولا أغنى من قناعة.
بقدر همتك وجدك ومثابرتك يكتب تاريخك، والمجد لا يعطى جزافاً وإنما يؤخذ بجدارة وينال بتضحية .
__________
(1) رواه أحمد (2666) .
(2) جزء من حديث رواه السته إلا البخاري ، ولفظه في مسلم ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )
(3) رواه الترمذي (3446) .(/8)
هون الأمر يهون ، واجعل الهم الآخرة فحسب وتهيأ للقاء الآخرة ، واترك الفضول من كل شي .
فضول المباحات من المزعجات كفضول الكلام والطعام والمنام والخلطة والضحك, وهي سبب الغم.
{ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] فلا تذوبوا حسرة وندماً, ولا تهلكوا بكاءً وأسفاً, ولا تنقطعوا عويلاً وتسخطاً.
{ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال:64] يكفيكم الله فيسددكم ويرعاكم ويدفع عنكم ويحميكم فلا تخافون.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (النحل: من الآية128) يدفع عنهم الأعداء, يعافيهم من البلاء, يشافيهم من الداء, يحفظهم في البأساء والضراء.
( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: من الآية40) يرانا, يسمع كلامنا, ينصرنا على عدونا, ييسر لنا ما أهمنا, يكشف عنا ما أغمنا.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1) أما جعلناه فسيحاً وسيعاً مبتهجاً مسروراً ساكناً مطمئناً فرحاً معموراً؟
( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: من الآية127) فنحن نكفيك مكرهم, ونصد عنك كيدهم, ونرد عنك أذاهم فلا تضق ذرعاً.
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) (آل عمران: من الآية139) وأنتم الأعلون عقيدة وشريعة, والأعلون منهجاً وسيرة, والأعلون سنداً ومبدءاً, وأخلاقاً وسلوكاً.
( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (لنجم: من الآية32) يعفو عن المذنب, يقبل التوبة, يقيل العثرة, يمحو الزلة, يستر الخطيئة, يتوب على التائب.
( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) (يوسف: من الآية87) فإن فرجه قريب, ولطفه عاجل, وتيسيره حاصل, وكرمه واسع, وفضله عام.
( وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: من الآية64) يشافي ويعافي ويجتبي ويختار, ويحفظ ويتولى, ويستر ويغفر, ويحلم ويتكرم.
( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ) (يوسف: من الآية64) يحفظ الغائب, يرد الغريب, يهدي الضال, يعافي المبتلى, يشفي المريض, يكشف الكرب.
( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) (المائدة: من الآية23) فوضوا الأمر إليه, وأعيدوا الشأن إليه, واشكوا الحال عليه, ارضوا بكفايته, اطمئنوا لرعايته.
( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) (المائدة: من الآية52) فيفتح الأقفال, ويكشف الكرب الثقال, ويزيل الليالي الطوال, ويشرح البال, ويصلح الحال.
( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (الطلاق: من الآية1) فيذهب غماً ويطرد هماً ويزيل حزناً ويسهل أمراً ويقرب بعيداً.
( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن: من الآية29) يكشف كرباً ويغفر ذنباً ويعطي رزقاً ويشفي مريضاً ويعافي مبتلى ويفك مأسوراً ويجبر كسيراً.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5) مع الفقر غنى, وبعد المرض عافية, وبعد الحزن سرور, وبعد الضيق سعة, وبعد الحبس انطلاق, وبعد الجوع شبع.
( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: من الآية7) سيحل القيد, وينقطع الحبل, ويفتح الباب, وينزل الغيث, ويصل الغائب, وتصلح الأحوال.
( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف: من الآية18) فسوف يبدل الحال, وتهدأ النفس, وينشرح الصدر, ويسهل الأمر, وتحل العقد, وتنفرج الأزمة.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) (الفرقان: من الآية58) ليصلح حالك, ويشرح بالك, ويحفظ مالك, ويرعى عيالك, ويكرم مآلك, ويحقق آمالك.
( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: من الآية173) يكشف عنا الكروب, ويزيل عنا الخطوب, يغفر لنا الذنوب, يصلح لنا القلوب, يذهب عنا العيوب.
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1) هديناك واجتبيناك, وحفظناك ومكناك, ونصرناك وأكرمناك, ومن كل بلاء حسن أبليناك.
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: من الآية67) فلا ينالك عدو, ولا يصل إليك طاغية, ولا يغلبك حاسد, ولا يعلو عليك حاقد, ولا يجتاحك جبار.
(وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء: من الآية113) خلقك ورزقك, علمك وفهمك, هداك وسددك, أرشدك وأدبك, نصرك وحفظك, تولاك ورعاك.
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: من الآية53) أعطى الخلق والرزق, والسمع والبصر, والهداية والعافية, والماء والهواء, والغذاء والدواء, والمسكن والكساء.
إذا سألت فاسأل الله تجد العون والكفاية والرشد والسداد, واللطف والفرج, والنصر والتأييد.
على الله توكلنا وبدينه آمنا ولرسوله اتبعنا ولقوله استمعنا وبدعوته اجتمعنا, فلا تحزن إن الله معنا.
ولينصرن الله من ينصره, فيرفع قدره ويعلي شأنه ويتولى أمره ويخذل عدوه ويكبت خصمه ويخزي من كاده.
"لا حول ولا قوة إلا بالله"(1) لا إرادة ولا قدرة ولا تأييد ولا نصر ولا فرج ولا عون ولا كفاية ولا طاقة إلا بالله العظيم.
__________
(1) رواه السته وأحمد ومالك والدارمي .(/9)
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (البلد:8) يطالع كتاب الكون ويقرأ دفتر الجمال, ويتمتع بمشاهد الحسن ويرح طرفه في مهرجان الحياة.
(وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) (البلد:9) يتكلم بالبيان المشرق, ينطق بالحديث الجذاب, يتحدث بالكلمات الآسرات, يترجم عما في قلبه.
( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (إ براهيم: من الآية7) فيعظم علمكم ويزيد فهمكم ويبارك في رزقكم ويتحقق نصركم ويكثر خيركم.
( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ) (لقمان: من الآية20) ظاهرة وباطنة, عامة وخاصة, في الدين والدنيا, في الأهل والمال, في المواهب والجوارح, في الروح.
( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) (غافر: من الآية44) أرفع شكايتي إليه, أعرض حالي عليه, أحسن ظني به, أتوكل عليه, أرضى بحكمه, أطمئن إلى كفايته.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) (الشورى: من الآية19) يرزقهم إذا افتقروا, يغيثهم إذا قحطوا, يغفر لهم إذا استغفروا, يشفيهم إذا مرضوا, يعافيهم إذا ابتلوا.
( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) (الزمر: من الآية53) لم يغلق بابه, لم يسدل حجابه, لم تنفد خزائنه, لم ينته فضله, لم ينقطع حبله.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: من الآية36) يكفيه ما أهمه وأغمه, يحميه ممن قصده, يمنعه ممن كاد له, يحفظه ممن مكر به.
( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) (العنكبوت: من الآية17) فعنده الخزائن ولديه الكنوز وبيده الخير, وهو الجواد المنان الفتاح العليم.
( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: من الآية11) يكشف كربه ويغفر ذنبه, ويذهب غيظه وينير طريقه ويسدد خطاه.
( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (المائدة: من الآية20) كنتم أمواتاً فأحياكم, وضلالاً فهداكم, وفقراء فأغناكم, وجهلة فعلمكم, ومستضعفين فنصركم.
كم مرة سألت فأعطاك, كم مرة طلبت فحباك, كم مرة عثرت فأقالك, كم مرة أعسرت فيسر عليك, كم مرة دعوته فأجابك.
الصلاة والسلام على المعصوم تذهب الغموم وتزيل الهموم, وتشافي القلب المكلوم وتفتح العلوم ويحصل بها الفضل المقسوم.
( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (غافر: من الآية60) ارفعوا إلى الله أكفكم, قدموا إليه حوائجكم, اسألوه مرادكم, اطلبوه رزقكم, اشكوا عليه حالكم.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) (النمل: من الآية62) فيزيل كربه وبلواه ويذهب ما أضناه, ويعطيه ما تمناه, ويحقق مبتغاه.
تصدق بعرضك على فقراء الأخلاق, واجعلهم في حل إن شتموك أو سبوك أو آذوك فعند الله العوض.
إذا خاف ربان السفينة نادى: يا الله, إذا ضل الحادي هتف: يا الله, إذا اغتنم السجين دعا: يا الله, إذا ضاق المريض صاح: يا الله.
(اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص:2) تصمد إليه الكائنات, تقصده المخلوقات, تدعوه البريات بشتى اللغات ومختلف اللهجات في سائر الحاجات.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (محمد: من الآية11) ينير لهم الطريق, يبين لهم المحجة, يوضح لهم الهداية, يحميهم من الضلالة, يعلمهم من الجهالة.
رفقاًَ بالقوارير ولطفاً بالقلوب ورحمة بالناس ورويداً بالمشاعر وإحساناً للغير وتفضلاً على العالم.. أيها الناس.
اكتم الغيظ, وتغافل عن الزلة, وتغاض عن الإساءة, واعف عن الغلطة, وادفن المعائب تكن أحب الناس إلى الناس.
باب ومفتاح, وغرفة تدخلها الرياح, وقلب مرتاح, مع تقوى وصلاح, وقد نلت النجاح.
فضول العيش أشغال, والزائد عن الحاجة أثقال, وعفاف في كفاف خير من بذخ وإسراف.
لا تحمل عقدة المؤامرة, ولا تفكر في تربص الآخرين, ولا تظن أن الناس مشغولون بك, فكل في فلك يسبحون.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية137) فيرد كيدهم ويبطل مكرهم ويخذل جندهم ويفل حدهم, ويمحق قوتهم, ويذهب بأسهم ويشتتا شملهم.
( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) (الفتح: من الآية18) فشفى غليلهم, وأبرد عليلهم, وأطفأ لهب صدورهم, وأراح ضمائرهم, وطهر سرائرهم.
" الكلمة الطيبة صدقة "(1) لأنها تفتح النفس وتسعد القلب وتدمل الجراح وتذهب الغيظ وتعلن السلام.
" تبسمك في وجه أخيك صدقة "(2) لأن الوجه عنوان الكتاب, وهو مرآة القلب ورائد الضمير وأول الفأل.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (المؤمنون: من الآية96) بترك الانتقام ولطف الخطاب ولين الجانب, والرفق في التعامل ونسيان الإساءة.
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2) ولكن لتسعد وتفرح روحك وتسكن نفسك وتدخل به جنة الفلاح وفردوس السعادة.
( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78) بل يسر وسهولة ومراعاة للمشقة وبعد عن الكلفة وسلامة من التعب والإرهاق.
__________
(1) رواه البخاري (2767) ومسلم (1009) ، ,احمد (8514) .
(2) رواه الترمذي (1879) .(/10)
( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (لأعراف: من الآية157) فيسعدون بعد شقاء ويرتاحون بعد مشقة ويأمنون بعد خوف ويسرون بعد حزن.
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (طه:26) فأرى النور أمامي ، وأحسن الهدى بقلبي ، وأمسك الحبل بيدي ، وأنال النجاح في حياتي والفوز بعد مماتي .
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)(الأعلى:8) فتعبد ربك بحب وتطيعه بود وتجاهد فيه بصدق فيصبح العذاب فيه عذاباً والعلقم في سبيله شهداً.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) (البقرة: من الآية286) فلا تكليف فوق الطاقة ، وإنما على حسب الجهد وعلى قدر الموهبة وعلى مقدار القوة.
( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) (البقرة: من الآية286) أنا نهم أحياناً ونغفل أوقاتاً ، ويصيبنا الشرود ويعترينا الذهول فعفوك يارب.
( أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286) فلسنا معصومين ولسنا من الذنب بسالمين ، ولكنا في فضلك طامعون وفي رحمتك راغبون .
( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً) (البقرة: من الآية286) فنحن عباد ضعفاء وبشر مساكين ، أنت الذي علمتنا كيف ندعوك فأجبنا كما دعوتنا .
( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286) فنعجز وتكل قلوبنا وتمل نفوسنا ، بل يسر علينا وقد فعلت ، وسهل علينا وقد أوجبت .
(وَاعْفُ عَنَّا ) (البقرة: من الآية286) فنحن أهل الخطأ والحيف ومنا تبدر الإساءة ، وفينا نقص وتقصير ، وأنت جواد كريم رحمان رحيم
(وَاغْفِرْ لَنَا ) (البقرة: من الآية286) فلا يغفر الذنوب إلا أنت ، ولا يستر الذنوب إلا أنت ، ولا يحلم عن المقصر إلا أنت ، ولا يتفضل على المسيء إلا أنت .
( وَارْحَمْنَا) (البقرة: من الآية286) فبرحمتك نسعد, وبرحمتك تعيش آمالنا, وبرحمتك تقبل أعمالنا, وبرحمتك تصلح أحوالنا.
"بعثت بالحنيفة السمحة"(1) فلا عنت فيها ولا تنطع ولا تكلف ولا مشقة ولا غلو, بل فطرة وسنة ويسر واقتصاد.
"إياكم والغلو"(2) بل الزموا السنة, اتباع لا ابتداع, وسهولة لا مشادة, وتوسط لا تطرف, واقتفاء بلا زيادة.
"أمتي أمة مرحومة"(3) تولاها ربها, فرسولها سيد الرسل ودينها أحسن الأديان وهي أفضل الأمم وشريعته أجمل الشرائع.
"ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً "(4) وهذه الثلاثة أركان الرضا وأصول الفلاح.
إياك والتسخط فإنه باب الحزن والهم والعم وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال وضياع العمر.
الرضا يكسب في القلب السكينة والدعة والراحة والأمن والطمأنينة وطيب العيش والسرور والفرح.
الرضا يجعل القلب سليماً من الغش والغل والدغل والتسخط والاعتراض والتذمر والملل والضجر والتبرم.
من رضي عن الله ملأ قلبه نوراً وإيماناً ويقيناً وحباً وقناعة ورضىً وغنىً وأمناً وإنابة وإخباتاً.
أيها الفقير: صبر جميل, فقد سلمت من تبعات المال, وخدمة الثروة, وعناء الجمع ، ومشقة وحراسة المال وخدمته ، وطول الحساب عند الله .
يا من فقد بصره : أبشر بالجنة ثمناً لبصرك ، واعلم أنك عرضت نوراً في قلبك ، وسلمت من رؤية المنكرات, ومشاهدة المزعجات والملهيات.
يا أيها المريض: طهور إن شاء الله فقد هُذبت من الخطايا, ونقيت من الذنوب, وصُقل قلبك وانكسرت نفسك, وذهب كبرك وعجبك.
لماذا تفكر في المفقود ولا تشكر على الموجود, وتنسى النعمة الحاضرة, وتتحسر على النعمة الغائبة, وتحسد الناس وتغفل عما لديك.
"كن في الدنيا كأنك غريب"(5) قطعة خبز, وجرعة ماء, وكساء, وأيام قليلة, وليال معدودة, ثم ينتهي العالم,فإذا قبر أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء سواء.
يدفن الملك بجانب الخادم, والرئيس بجوار الحارس, والشاعر المشهور مع الفقير الخامل, والغني مع المسكين والفقير والكسير, ولكن داخل القبر أعمال مختلفة ودرجات متباينة.
إذا زارك يوم جديد فقل له مرحباً بضيف كريم, ثم أحسن ضيافته بفريضة تؤدى, وواجب يعمل وتوبة تجدد, ولا تكدره بالآثام والهموم فإنه لن يعود.
إذا تذكرت الماضي فاذكر تاريخك المشرق لتفرح, وإذا ذكرت يومك فاذكر إنجازك تسعد, وإذا ذكرت الغد فاذكر أحلامك الجميلة لتتفاءل.
طول العمر ثروة من التجارب, وجامع من المعارف, ومستودع من المعلومات, وكلما مر بك يوم تلقيت درساً في فن الحياة, إن طول العمر بركة لقوم يعقلون.
لا بد من شيء من الخوف يذكرك الأمن, ويحثك على الدعاء, ويردعك عن المخالفة, ويحذرك من خطر أعظم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (21260) .
(2) رواه النسائي (3007) وابن ماجه (3020) وأحمد (1754 ، 3087)
(3) رواه أحمد في مسنده (17847 ، 18917 )
(4) رواه مسلم (34) والترمذي (2547) وأحمد (1682 ، 16839) واللفظ لمسلم .
(5) رواه البخاري (5937) والترمذي (2255) وابن ماجه (4104) واحمد (4534) .(/11)
ولا بد من شيء من المرض يذكرك العافية, ويجتث شجرة الكبر ودرجة العجب ليستيقظ قلبك من رقدة الغافلين.
الحياة قصيرة فلا تقصرها أكثر بالنكد, والصديق قليل فلا تخسره باللوم, والأعداء أكثر فلا تزد عددهم بسوء الخلق.
كن كالنملة في المثابرة, فإنها تصعد الشجرة مائة مره وتسقط ثم تعود صاعدة حتى تصل, ولا تكل ولا تمل.
وكن كالنملة فإنها تأكل طيباً وتضع طيباً وإذا وقعت على عود لم تكسره وعلى زهرة لا تخدشها.
لا تدخل الملائكة بيت فيه كلب, فكيف تدخل السكينة قلباً فيه كلاب الشهوات والشبهات.
احذر مجالس الخصومات ففيها يباع الدين بثمن بخس, ويحرج على المروءة, ويداس فيها العرض بأقدام الأنذال.
وسابقوا, ليس إلا المسابقة فالزمن يمضي, والشمس تجري, والقمر يسير , والريح تهب, فلا تقف فلن تنتظرك قافلة الحياة.
(وَسَارِعُوا)(آل عمران: من الآية133) ثب وثباً إلى العلياء فإن المجد مناهيه, ولن يقدم النصر على أقدام من ذهب ولكن مع دموع ودماء وسهر ونصب وجوع ومشقة.
عرق العامل أزكى من مسك القاعد, وزفرات الكادح أجمل من أناشيد الكسول, ورغيف الجائع ألذ من خروف المترف.
الشتم الذي يوجه للناجحين من حسادهم هي طلقات مدفع الانتصار, وإعلانات الفوز, ودعاية مجانية للتفوق.
التفوق والمثابرة لا تعترف بالأنساب والألقاب ومستوى الدخل والتعليم, بل من عنده, همة وثابة, ونفس متطلعة, وصبر جميل, أدرك العلياء.
لا تتهيب المصاعب فإن الأسد يواجه القطيع من الجمال غير هياب, ولا تشك المتاعب فإن الحمار يحمل الأثقال ولا يئن, ولا تضجر من مطلبك فإن الكلب يطارد فريسته ولو في النار.
لا تستقل برأيك في الأمور بل شاور فإن رأي الاثنين أقوى من رأي الواحد, كالحبل كلما قُرن به حبل آخر قوي وأشتد.
لا تحمل كل نقد يوجه إليك على أنه عداوه, بل استفد منه بغض النظر عن مقصد صاحبه فإنك إلى التقويم أحوج منك إلى المدح.
من عرف الناس استراح, فلا يطرب لمدحهم ولا يجزع من ذمهم, لأنهم سريعو الرضا, سريعو الغضب, والهوى يحركهم.
لا تظن العاهات تمنعك من بلوغ الغايات, فكم من فاضل حاز المجد وهو أعمى أو أصم أو أشل أو أعرج, فالمسألة مسألة همم لا أجسام.
عسى أن يكون منعه لك سبحانه عطاء وحجزك عن رغبتك لطف, وتأخرك عن مرادك عناية, فإنه أبصر بك منك.
إذا زارتك شدة فاعلم أنها سحابة صيف عن قليل تقشع, ولا يخيفك رعدها ولا يرهبك برقها فربما كانت محملة بالغيث.
اخرج بأهلك في نزهة عائلية كل أسبوع فإنها تعرفك بأطفالك أكثر وتجدد حياتك وتذهب عنك الملل.
من لم يسعد في بيته فلن يسعد في أي مكان, واعلم أن أنسب مكان لراحة النفس وهدوء البال والبعد عن التكلف هو بيتك.
العلم والثقافة مجدها باق خاصة لمن علم الناس وألف, أما مجد الشهرة والمنصب فظل زائل وطيف زائف.
الفكر إذا تُرك ذهب إلى خانة المآسي, فجر الآلام والأحزان, فلا تتركه يطيش ولكن قيده فيما ينفع.
مما يشوش البال ويقسي القلب مخالطة الناس وسماع كلامهم اللاهي وطول مجالستهم, وما أحسن العزلة مع العبادة والعلم.
أشرف السبل سبيلك إلى المسجد, وآمن الطرق طريقك إلى بيتك, وأصعب المواقف وقوفك أمام السلطان, وأعظم الهيئات سجودك للديان.
سماع القرآن بصوت حسن, والذكر بقلب حاضر, والإنفاق من مال حلال, والوعظ بلسان فصيح موائد للنفس وبساتين للقلب.
الأخلاق الجميلة والسجايا النبيلة, أجمل من وسامة الوجوه وسواد العيون ورقة الخدود, لأن جمال المعنى أجلُ من جمال الشكل.
صنائع المعروف تقي مصارع السوء, وجدار العقل يمنع من مزالق الهوى, وجروس التجارب أنفع من ألف واعظ.
إذا رأيت الألوف من البشر وقد أذهبوا أعمارهم في الفن واللهو واللعب والضياع فاحمد الله على ما عندك من خير, فرؤية المبتلى سرور للمعافى.
إذا رأيت الكافر فاحمد الله على الإسلام, وإذا رأيت الفاجر فاحمد الله على التقوى, وإذا رأيت الجاهل فاحمد الله على العلم, وإذا رأيت المبتلى فاحمد الله على العافية.
خلقت الشمس لك فاغتسل بضيائها, وخلقت الرياح لك فاستمتع بهوائها, وخلقت الأنهار لك فتلذذ بمائها, وخلقت الأنهار لك فاهنأ بغذائها, واحمد من أعطى جل في علاه.
الأعمى يتمنى أن يشاهد العالم, والأصم يتمنى سماع الأصوات, والمقعد يتمنى المشي خطوات, والأبكم يتمنى أن يقول كلمات, وأنت تشاهد وتسمع وتتكلم.
لا تظن أن الحياة كملت لأحد, من عنده بيت ليس عنده سيارة, ومن عنده زوجة ليس عنده وظيفة, ومن عنده شهية قد لا يجد الطعام, ومن عنده المأكولات فقد منع من الأكل.
المسجد سوق الآخرة, والكتاب صديق العمر, والعمل أنيس في القبر, والخلق الحسن تاج الشرف, والكرم أجمل ثوب.
إياك وكتاب الملاحدة فإن فيها رجس ينجس القلب, وسماً يقتل النفس, ولوثةً تعصف بالضمير وليس أصلح لك من الوحي يطهر روحك ويشفى داءك.
لا تتخذ قراراً وأنت مغضب فتندم لأن الغضبان بفقد الصواب وتفوته الروية وينقصه التأمل.(/12)
الحزن لا يرد الغائب, والخوف لا يصلح للمستقبل, والقلق لا يحقق النجاح, بل النفس السوية والقلب الراضي هما جناحا السعادة.
لا تطالب الناس باحترامك حتى تحترمهم, ولا تلُمهم على فشل حصل لك, بل لُم نفسك, وإن أردت أن يكرمك الناس فأكرم نفسك.
على صاحب الكوخ أن يرضى بكوخه إذا علم أن القصور سوف تخرب, وعلى لابس الثياب الممزقة أن يقنع بثيابه إذا تيقن أن الحرير سوف يبلى.
من أعطى نفسه كلما تطلب تشتت قلبه, وضاع أمره, وكثر همه, لأنه لا حد لمطالب النفس فهي أمارة غرارة.
يا من فقد ابنه: لك قصر الحمد في الجنة, ويا من فاته نصيبه من الدنيا: نصيبك في جنات عدن تنتظرك.
الطائر لا يأتيه رزقه في العش, والأسد لا تقدم له وجبته في العرين, والنملة لا تعطي طعامها في مسكنها, ولكن كلهم يطلبون ويبحثون فاطلب كما طلبوا تجد كما وجدوا.
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ )(المنافقون: من الآية4) يموتون قبل الموت, وينتظرون كل مصيبة, ويتوقعون كل كارثة, ويخافون من كل صوت وخيال وحركة لأن قلوبهم هواء ونفوسهم ممزقة.
إذا أقامك الله في حالة فلا تطلب غيرها لأنه عليم بك, فإن أفقرك فلا تقل ليته أغناني وإن أمرضك فلا تقل ليته شفاني.
عسى تأخيرك عن سفر خيراً, وعسى حرمانك زوجة بركة, وعسى ردك عن وظيفة مصلحة, لأنه يعلم وأنت لا تعلم.
الصخر أقوى من الشجر, والحديد أقوى من الصخر, والنار أقوى من الحديد, والريح أقوى من النار, والإيمان أقوى من الريح المرسلة.
كل مأساة تصيبك فهي درس لا ينسى, وكل مصيبة تصيبك فهي محفورة في ذاكرتك, ولهذا هي النصوص الباقية في الذهن.
النجاح قطرات من المعاناة والغصص والجراحات والآهات والمزعجات, والفشل قطرات من الخمول والكسل والعجز والمهانة والخور.
الذي يحرص على الشهرة المؤقتة ولا يسعى للخلود بثناء حسن وعلم نافع صالح إنما هو رجل بسيط لا همة له .
"يا بلال, أقم الصلاة, أرحنا بها"(1) لأن الصلاة فيض من السكينة, ونهر من الأمن, وريح طيبة باردة تهب على النفس فتطفىء نار الخوف والحزن.
إذا لم تعص رباً ولم تظلم أحداً فنم قرير العين, وهنيئاً لك فقد علا حظك وطاب سعيك فليس لك عدو.
هنيئاً لمن بات والناس يدعون له, وويل لمن نام والناس يدعون عليه, وبشرى لمنى أحبته القلوب, وخسارة لمن لعنته الألسن.
إذا لم تجد عدلاً في محكمة الدنيا فارفع ملفك لمحكمة الآخرة فإن الشهود ملائكة, والدعوى محفوظة, والقاضي أحكم الحاكمين.
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(البقرة: من الآية152) لو لم يكن للذكر من فائدة إلا هذه لكفى, ولو لم يكن له نفع إلا أن يذكرك ربك لكفى به نفعاً, فيا له من مجد وسؤدد وزلفى وشرف.
بشرى لك. . فالطهور شطر الإيمان فهو يذهب الخطايا ويغسل السيئات غسلاً ويطهرك لمقابلة ملك الملوك تعالى.
طوبى لك فالصلاة كفارة تذهب ما قبلها, وتمحو ما أمامها, وتصلح ما بعدها, وتفك الأسر عن صاحبها, فهي قرة العيون.
الرجل الذي يسعى دائماً للظفر باحترام الناس ولا يتعرض لنقدهم, كثيراً ما يعيش شقياً بائساً, والسعي وراء الظهور والشهرة عدو للسعادة.
النظريات والدروس في فن السعادة لا تكفى, بل لا بد من حركة وعمل وتصرف كالمشي كل يوم ساعة أو السفر أو الذهاب إلى المنتزهات.
تتعرض البعوضة للأسد كثيراً وتحاول إيذاءه فلا يعيرها اهتماماً ولا يلتفت إليها لأنه مشغول بمقاصده عنها.
احذر المتشائم, فإنك تريه الزهرة فيريك شوكها, وتعرض عليه الماء فيخرج لك منه القذى, وتمدح له الشمس فيشكو حرارتها.
أتريد السعادة حقاً؟ لا تبحث عنها بعيداً, إنها فيك, في تفكيرك المبدع, في خيالك الجميل, في إرادتك المتفائلة, في قلبك المشرق بالخير.
السعادة عطر لا يستطيع أن ترشه على من حولك دون أن تعلق به قطرات منه.
مصيبتنا أننا نخاف من غير الله في اليوم أكثر من مائة مره: نخاف أن نتأخر, نخاف أن نخطىء, نخاف أن نستعجل, نخاف أن يغضب فلان, نخاف أن يشك فلان.
كثيرون من الناس يعتقدون أن كل سرور زائل ولكنهم يعتقدون أن كل حزن دائم, فهم يؤمنون بموت السرور ويكفرون بموت الحزن.
بعضنا مثل السمكة العمياء تظن وهي في البحر أنها في كأس صغير, فنحن خلقنا في عالم الإيمان فأحطنا أنفسنا بجبال الكرة والخوف والعداوة والحزن.
إن الحياة كريمة ولكن الهدية تحتاج لمن يستحقها, وإن الذين تضحك لهم الحياة وهم يبكون وتبتسم لهم وهم يكشرون لا يستحقون البقاء.
وضع صياد حمامة في قفص فأخذت تغني فقال الصياد: أهذا وقت الغناء؟ فقالت: من ساعة إلى ساعة فرج.
قيل لحكيم: لماذا لا تذهب إلى السلطان فإنه يعطي أكياس الذهب؟ قال: أخشى منه إذا غضب أن يقطع رأسي ويضعه في أحد تلك الأكياس ويقدمه هدية لزوجتي.
لماذا تسمع نباح الكلاب ولا تنصت لغناء الحمام؟ لماذا تشاهد من الليل سواده ولا تشاهد حسن القمر والنجوم؟ لماذا تشكو لسع النحل وتنسى حلاوة العسل؟
__________
(1) رواه أبو داود (4333)(/13)
تاب أبوك آدم من الذنب فاجتباه ربك واصطفاه وهداه, وأخرج من صلبه أنبياء وشهداء وعلماء وأولياء, فصار أعلى بعد الذنب منه قبل أن يذنب.
ناح نوح والطوفان كالبركان فهتف: يا رحمان يا منان, فجاءه الغوث في لمح البصر فانتصر وظفر, أما من كفر فقد خسر واندحر.
أصبح يونس في قاع البحر في ظلمات ثلاث فأرسل رسالة عاجلة فبها اعتراف بالاقتراف, واعتذر عن التقصير, فجاء الغوث كالبرق لأن البرقية صادقة.
غسل داود بدموعه ذنوبه فصار ثوب توبته أبيض لأن القماش نسج في المحراب والخياط أمين, وغسل الثوب في السحر.
إذا اشتد عليك الأمر وضاق بك الكرب وجاءك اليأس فانتظر الفرج.
إذا أردت الله يفرج عنك ما أهمك فاقطع طمعك في أي مخلوق صغر أم كبر, ولا تعلق على أحد أملاً غير الله وأجمع اليأس من كافة الناس .
نفسك كالسائل الذي يلون الإناء بلونه ، فإن كانت نفسك راضية سعيدة رأيت السعادة والخير والجمال ، وإن كانت ضيقة متشائمة رأيت الشقاء والشر والقبح .
إذا أطعمت المعبود ، ورضيت بالموجود ، وسلوت عن المفقود ، فقد نلت المقصود وأدركت كل مطلب محمود .
من عنده بستان في صدره من الإيمان والذكر ، ولديه حديقة في ذهنه من العلم والتجارة فلا يأسف على ما فاته من الدنيا .
إن من مؤخر السعادة حتى يعود ابنه الغائب, ويبني بيته ويجد وظيفة تناسبه، إنما هو مخدوع بالسراب، مغرور بأحلام اليقظة .
السعادة: هي عدم الاهتمام وهجر التوقعات واطراح التخويفات.
البسمة : هي السحر الحلال ، وهي عربون المودة وإعلان الإخاء ، وهي رسالة عاجلة تحمل السلام والحب ، وهي صدقة متقلبة تدل على أن صاحبها راض مطمئن ثابت .
أنهاك عن الاضطراب والارتباك والفوضوية, وسببها ترك النظام وإهمال الترتيب, والحل أن يكون للإنسان جدول متزن فيه واقعية ومران.
إذا وقعت عليك مصيبة أو شدة فافرح بكل يوم يمر لأنه يخفف منها وينقص من عمرها, لأن للشدة عمراً كعمر الإنسان لا تتعداه.
ينبغي أن يكون لك حد من المطالب الدنيوية تنتهي إليه, فمثلاً تطلب بيتاً تسكنه وعملاً يناسبك وسيارة تحملك, أما فتح شهية الطمع على مصراعيها فهذا شقاء.
( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد:4) سُنة لا تتغير لهذا الإنسان فهو في مجاهدة ومشقة ومعاناة, فلا بد أن يعترف بواقعه ويتعامل مع حياته.
يظن من يقطع يومه كله في الصيد أو اللعب أو اللهو أنه سوف يسعد نفسه, وما علم أنه سوف يدفع هذا الثمن هماً متصلاً وكدراً دائماً لأنه أهمل الموازنة بين الواجبات والمسليات.
تخلص من الفضول في حياتك, حتى الأوراق الزائدة في جيبك أو على مكتبك, لأن ما زاد عن الحاجة في كل شيء ما كان ضاراً.
كان الصحابة أسعد الناس لأنهم لم يكونوا يتعمقون في خطرات القلوب ودقائق السلوك ووساوس النفس, بل اهتموا بالأصول واشتغلوا بالمقاصد.
ينبغي أن تهتم بالتركيز وحضور القلب عند أداء العبادات, فلا خير في علم بلا فقه, ولا صلاة بلا خشوع, ولا قراءة بلا تدبر.
( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ )(النور: من الآية26) فالطيبات من الأقوال والأعمال والآداب والأخلاق والزوجات للأخيار الأبرار, لتتم السعادة بهذا اللقاء ويحصل الأنس والفلاح.
( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)(آل عمران: من الآية134) يكظمونه في صدورهم فلا تظهر آثاره من السب والشتم والأذى والعداوة, بل قهروا أنفسهم وتركوا الانتقام.
( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ )(آل عمران: من الآية134) وهم الذين أظهروا العفو والمغفرة وأعلنوا السماح وأعتقوا من آذاهم من طلب الثأر, فلم يكظموا فحسب بل ظهر الحلم والصفح عليهم.
( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: من الآية134) وهم الذين عفوا عمن ظلمهم بل أحسنوا إليه وأعانوه بمالهم وجاههم وكرمهم, فهو يسي وهم يحنون إليه, ولهذا أعلى المراتب وأجل المقامات.
حدد بالضبط الأمر الذي يسعدك : سجل قائمة بأسعد حالاتك : هل تحدث بعد مقابلة شخص معين؟ أو ذهابك إلى مكان محدد؟ أو بعد أدائك عملاً بذاته؟ إذا كنت تتبع روتيناً جيداً, ضعه في قائمتك. تجد بعد أسبوع أنك ملكت قائمة واضحة بالأفكار التي تجعلك سعيداً.
تعود على عمل الأشياء السارة : بعد تحديد الأمور التي تسعدك أبعد كل الأمور الأخرى عن ذهنك. أكد الأمور السعيدة, وانس الأمور التي لا تسعدك. وليكن قرارك بمحاولة بلوغ السعادة تجربة سارة في حد ذاتها.
ارض عن نفسك وتقبلها : من المهم جداً أن تنتهي إلى قرار بالرضا عن نفسك, والثقة في تصرفاتك, وعدم الاهتمام بما يوجه إليك من نقد, طالما أنت ملتزم بالصراط المستقيم, فالسعادة تهرب من حيث يدخل الشك أو الشعور بالذنب.
اصنع المعروف واخدم الآخرين : لا تبق وحيداً معزولاً, فالعزلة مصدر تعاسة, كل الكآبة والتعاسة والتوتر تختفي حينما تلتحم بأسرتك والناس, وتقدم شيئاً من الخدمات. وقد وصف العمل أسبوعين في خدمة الآخرين كعلاج لحالات الاكتئاب.(/14)
أشغل نفسك دائماً : يجب أن تحاول – بوعي وإرادة – استخدم المزيد من إمكاناتك. سوف تسعد أكثر إن شغلت نفسك بعمل أشياء بديعة, فالكسل ينمي الاكتئاب.
حارب النكد والكآبة : إذا أزعجك أمر, قم بعمل جسماني تحبه تجد أن حالتك النفسية والذهنية قد تحسنت. ويمكنك أن تمارس مسلكاً كانت تسعدك ممارسته في الماضي, كأن تزاول رياضة معينة أو رحلة مع أصدقاء.
لا تبتئس على عمل لا تكمله : يجب أن تعرف أن عمل الكبار لا ينتهي. من الناس من يشعرون أنهم لن يكونوا سعداء راضين عن أنفسهم إلا إذا أنجزوا كل عملهم. والشخص المسؤول يستطيع أن يؤدي القدر الممكن من عمله بلا تهاون, ويستمتع بالبهجة في الوقت نفسه, مادام لم يقصر.
لا تبالغ في المنافسة والتحدي : تعلم ألا تقسو على نفسك, خاصة حينما تباري أحداً في عمل ما بدون أن تشترط لشعورك بالسعادة أن تفوز.
لا تحبس مشاعرك : كبت المشاعر يسبب التوتر, ويحول دون الشعور بالسعادة. لا تكتم مشاعرك. عبر عنها بأسلوب مناسب ينفث عن ضغوطها في نفسك.
لا تتحمل وزر غيرك : كثيراً ما يشعر الناس بالابتئاس, والمسؤولية, والذنب, بسبب اكتئاب شخص آخر, رغم أنهم برآء مما هو فيه, تذكر أن كل إنسان مسؤول عن نفسه, وأن للتعاطف والتعاون حدوداً وأولويات. وأن الإنسان على نفسه بصيرة ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الأنعام: من الآية164)
اتخذ قراراتك فوراً : إن الشخص الذي يؤجل قراراته وقتاً طويلاً, فإنه يسلب من وقت سعادته ساعات, وأياما, بل وشهوراً. تكر إن إصدار القرار الآن لا يعني بالضرورة عدم التراجع عنه أو تعديله فيما بعد.
اعرف قدر نفسك : حينما تفكر في الأقدار على عمل تذكر الحكمة القائلة : "رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه" إذا بلغت الخمسين من عمرك, وأردت أن تمارس رياضة, فكر في المشي أو السباحة أو التنس – مثلاً – ولا تفكر في كرة القدم. وحاول تنمية مهاراتك باستمرار.
تعلم كيف تعرف نفسك : أما الاندفاع في خضم الحياة بدون إتاحة الفرصة لنفسك كي تقِّيم أوضاعك ومسؤولياتك في الحياة, فحماقة كبرى. فهؤلاء الذين لا يفهمون أنفسهم لن يعرفوا إمكاناتهم.
اعتدل في حياتك العملية : اعمل إن استطعت جزءاً من الوقت ، فقد كان الإغريق يؤمنون بأن الرجال لا يمكن أن يحتفظ بإنسانيته إذا حرم من الوقت الفراغ والاسترخاء
كن مستعداً لخوض مغامرات : الطريقة الوحيدة لحياة ممتعة هي اقتحام أخطارها المحسوبة ، لن تتعلم ما لم تكن عازماً على مواجهة المخاطر ، خذ مثلاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً بتعلم السباحة بمواجهة خطر الغرق .
لا قفل إلا سوف يفتح، ولا قيد إلا سوف يفك، ولا بعيد إلا سوف يقرب، ولا غائب إلا سوف بصل.. ولكن بأجل مسمّى .
(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ )(البقرة: من الآية153) فهما وقود الحياة ، وزاد السير ، وباب الأمل ، ومفتاح الفرج ، ومن لزم الصبر وحافظ على الصلاة فبشره بفجر صادق، وفتح مبين ، ونصر قريب.
جلد بلا ل وضرب عذب وسحب وطرد فأخذ يردد : أحد أحد ، لأنه حفظ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(الاخلاص:1)، فلما دخل الجنة احتقر ما بذل واستقل ما قدم لأن السلعة أغلى من الثمن أضعافاً مضاعفة .
ما هي الدنيا ؟ هل هي الأثواب إن غاليت فيه خدمته وما خدمك ، أو زوجة إن كانت جميلة تعذب قلبها بحبها ، أو مال كثر أصبحت له خازناً . . هذا سرورها فكيف خزنها؟
كل العقلاء يسعون لجلب السعادة بالعلم أو بالمال أو بالجاه ، وأسعدهم بها صاحب الإيمان لأن سعادته دائمة على كل حال حي يلقى ربه.
من السعادة سلامة القلب من الأمراض العقدية كالشك والسخط والاعتراض والريبة والشبة والشهوة .
أعقل الناس أعذرهم للناس ، فهو يحمل تصرفاتهم وأقوالهم على أحسن المحامل ، فهو الذي ألاح واستراح .
{فخذ ما ءاتيتك وكن من الشكرين }[الأعراف :144] اقنع بما عنك ، ارض بقسمك ، استثمر ما عنك من موهبة ، وظف طاقتك فيما ينفع واحمد الله على ما أولاك.
لا يكن يومك كله قراءة أو تفكراً أو تأليفاً أو حفظاً بل خذ من كل عمل بطرف ونوع فيه الأعمال فهذا أنشط للنفس .
الصلوات ترتب الأوقات فجعل كل صلاة عملا من الأعمال النافعة .
إن الخير للعبد فيما اختار له ربه ، فإنه أعلم به وأرحم به من أمه التي ولدته ، فما للعبد إلا أن يرضى بحكم ربه ويفوض الأمر إليه ويكتفي بكفاية ربه وخالقه ومولاه.
ولعبد لضعفه ولعجزه لا يدري ما وراء حجب الغيب، فهو لا يرى إلا ظواهر الأمور أما الخوافي فعلمها عند ربي، فكم من محنة وكم من بلية أصبحت عطية، فالخير كامن في المكروه .(/15)
أبونا آدم أكل من الشجرة وعصى ربه فأهبطه إلى الجنة ، فظاهر المسألة أن آدم ترك الأحسن والأصوب ووقع عليه المكروه ، ولكن عاقبة أمره خير عظيم وفضل جسيم ، فإن الله تاب عليه وهداه واجتباه وجعله نبياً وأخرج من صلبه رسلاً وأنبياء وعلماء وشهداء وأولياء ومجاهدين وعابدين ومنفقين ، فسبحان الله كم بين قوله(اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ )(البقرة: من الآية35)، وبين قوله( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)(طه:122) فإن حالة الأول سكن وأكل وشرب وهذا حال عامة الناس الذين لا هم لهم ولا طموحات ، وأما حاله بعد الاجتباء والاصطفاء والنبوة والهداية فحال عظيمة ومنزلة كريمة وشرف باذخ.
وهذا داود عليه السلام ارتكب الخطيئة فندم وبكى, فكانت في حقه نعمة من أجل النعم, فإنه عرف ربه معرفة العبد الطائع الذليل الخاشع المنكسر, وهذا مقصود العبودية فإن من أركان العبودية تمام الذل لله عز وجل. وفد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله صلى الله عليه وسلم : "عجباً للمؤمن لا يقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له"(1) هل يشمل هذا قضاء المعصية على العبد, قال نعم, بشرطها من الندم والتوبة والاستغفار والانكسار. فظاهر الأمر في تقديم المعصية مكروه على العبد وباطنه محبوب إذا اقترن بشرطه.
* وخيرة لله وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة, فإن كل مكروه وقع له صار محبوباً مرغوباً, فإن تكذيب قومه له ومحاربتهم إياه كان سبباً في إقامة سوق الجهاد ومناصرة الله والتضحية في سبيله, فكانت تلك الغزوات التي نصر الله فيها رسوله, وفتح عليه, واتخذ فيها من المؤمنين شهداء جعلهم من ورثة جنة النعيم, ولولا تلك المجابهة من الكفار لم يحصل هذا الخير الكبير والفوز العظيم, ولما طرد صلى الله عليه وسلم من مكة كان ظاهر الأمر مكروهاً ولكن في باطنه الخير والفلاح والمنة, فإنه بهذه الهجرة أقام صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ووجد أنصاراً وتميز أهل الإيمان من أهل الكفر, وعرف الصادق في إيمانه وهجرته وجهاده من الكاذب. ولما غُلب عليه الصلاة والسلام وأصحابه في أحد كان الأمر مكروهاً في ظاهره شديداً على النفوس لكن ظهر له من الخير وحسن الاختيار ما يفوق الوصف, فقد ذهب من بعض النفوس العجب بانتصار يوم بدر والثقة بالنفس والاعتماد عليها, واتخذ الله من المسلمين شهداء أكرمهم بالقتل كحمزة سيد الشهداء, ومصعب سفير الإسلام, وعبدالله بن عمر والد جابر الذي كلمه الله وغيرهم, وامتاز المنافقون بغزوة أحد وفضح أمرهم وكشف الله أسرارهم وهتك أستارهم. . وقس على ذلك أحواله صلى الله عليه وسلم ومقاماته التي ظاهرها المكروه وباطنها الخير له وللمسلمين.
ومن عرف حسن اختيار الله لعبده هانت عليه المصائب وسهلت عليه المصاعب, وتوقع اللطف من الله واستبشر بما حصل ثقة بلطف الله وكرمه وحسن اختياره حينه يذهب حزنه وضجره وضيق صدره, ويسلم الأمر لربه جل في علاه فلا يتسخط ولا يعترض ولا يتذمر بل يشكر ويصبر حتى تلوح له العواقب وتنقشع عنه سحب المصائب.
نوح عليه السلام يُؤذى ألف عام إلا خمسين عاماً في سبيل دعوته, فيصبر ويحتسب ويستمر في نشر دعوته إلى التوحيد ليلاً ونهاراً, سراً وجهراً, حتى ينجيه ربه ويهلك عدوه بالطوفان.
إبراهيم عليه السلام يُلقى في النار فيجعله الله عليه برداً وسلاماً, ويحميه من النمرود وينجيه من كيد قومه وينصره عليهم ويجعل دينه خالداً في الأرض.
موسى عليه السلام يتربص به فرعون الدوائر ويحيك له المكائد ويتفنن في إيذائه ويطارده, فينصره الله عليه ويعطيه العصا تلقف ما يأفكون, ويشق له البحر ويخرج منه بمعجزة ويهلك الله عدوه ويخزيه.
عيسى عليه السلام يحاربه بنو إسرائيل ويؤذونه في سمعته وأمه ورسالته, ويريدون قتله فيرفعه الله إليه وينصره نصراً مؤزراً ويبوء أعداؤه بالخسران.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (19401)(/16)
رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يؤذيه المشركون واليهود والنصارى أشد الإيذاء, ويذوق صنوف البلاء من تكذيب ومجابهة ورد واستهزاء وسخرية وسب وشتم واتهام بالجنون والكهانة والشعر والسحر والافتراء, ويُطرد ويُحارب ويُقتل أصحابه ويُنكل بأتباعه, ويُتهم في زوجته ويذوق أصناف النكبات ويهدد بالغارات ويمر بأزمات, ويجوع ويفتقر ويجرح وتكسر ثنيته ويشج رأسه ويفقد عمه أبا طالب الذي ناصره, وتذهب زوجته خديجة التي واسته, ويحصر في الشعب حتى يأكل هو وأصحابه أوراق الشجر, وتموت بناته في حياته وتسيل روح ابنه إبراهيم بين يديه, ويُغلب في أحد, ويُمزق عمه حمزة, ويتعرض لعدة محاولات اغتيال, ويربط الحجر على بطنه من الجوع ولا يجد أحياناً خبز الشعير ولا رديء التمر, ويذوق الغصص ويتجرع كأس المعاناة, ويُزلزل مع أصحابه زلزالاً شديداً وتبلغ قلوبهم الحناجر, وتعكس مقاصده أحياناً ويبتلى بتيه الجبابرة وصلف المتكبرين وسوء أدب الأعراب وعجب الأغنياء وحقد اليهود ومكر المنافقين وبطء استجابة الناس, ثم تكون العاقبة له والنصر حليفه والفوز رفيقه فيظهر الله دينه وينصر عبده ويهزم الأحزاب وحده ويخذل أعداءه ويكبتهم ويخزيهم, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وهذا أبو بكر يتحمل الشدائد ويستسهل الصعاب في سبيل دينه وينفق ماله ويبذل جاهه ويقدم الغالي والرخيص في سبيل الله حتى يفوز بلقب الصديق.
وعمر بن الخطاب يضرج بدمائه في المحراب بعد حياة ملؤها الجهاد والبذل والتضحية والزهد والتقشف وإقامة العدل بين الناس.
وعثمان بن عفان ذُبح وهو يتلو القرآن, وذهبت روحه ثمناً لمبادئه ورسالته.
وعلي بن أبي طالب يُغتال في المسجد بعد مواقف جليلة ومقامات عظيمة من التضحية والنصر والفداء والصدق.
والحسين بن علي يرزقه الله الشهادة ويقتل بسيف الظلم والعدوان.
وسعيد بن حبير العالم الزاهد يقتله الحجاج فيبوء بإثمه.
وابن الزبير يكرمه الله الشهادة في الحرم على يد الحجاج بن يوسف الظالم.
ويُحبس الإمام أحمد بن حنبل في الحق ويُجلد فيصير إمام أهل السنة والجماعة.
ويقتل الواثق الإمام أحمد بن نصر الخزاعي الداعية إلى السنة بقوله كلمة الحق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يُسجن ويُمنع من أهله وأصحابه وكتبه, فيرفع الله ذكره في العالمين.
وقد جلد الإمام أبو حنيفة من قبل أبو جعفر المنصور.
وجُلد سعيد بن المسيب العالم الرباني, جلده أمير المدينة.
وضرب الإمام بن عبدالله العالم المحدث, ضربه بلا ل بن أبي برده.
ولو ذهبت أعدد من ابتلى بعزل أو سجن أو جلد أو قتل أو أذى لطال المقام ولكثر الكلام, وفيما ذكرت كفاية.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
***
لطائف الله وأن طال المدى كلمحة الطرف إذا الطرف سجى
***
أتيأس أن ترى فرجاً فأين الله والقدرُ
***
فما يدوم سرورُ ما سررت به ولا يرد عليك الغائب الحزنُ
***
أعز مكانٍ في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
***
سيكفيك عمن أغلق الباب دونه وظن به الأقوام خبز مقمر
***
أطعت مطامعي فاستبعدتني ولو أني قنعت لكنت حرا
***
إن كان عندك يا زمان بقية فما يهان به الكرام مهاتها
***
لعل الليالي بعد شحط من النوى ستجمعنا في ظل تلك المآلف
***
قل للذي بصروف الدهر عيَّرنا هل عاند الدهر إلا من له خطر
***
لا أشرئب إلى ما لم أنل طمعاً ولا أبيت على ما فات حسرانا
***
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
مابين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
***
وأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يئسا
***
ربما أشفى على الآمال يأس والليالي بعدما تجرح بالمكروه تأسو
***
ولربما كره الفتى أمراً عواقبه تسره
***
كم مرة حفت بك المكاره خار لك الله وأنت كاره
***
من راقب الناس مات هماً وفاز باللذة الجسور
***
اتخذ الله صاحباً واترك الناس جانبا
***
أزمعت يأساً مقيماً من نوالكمو ولا يرى طارداً للحر كاليأس
***
وفي السماء نجوم لا عداد لها وليس يكسف إلا الشمس والقمرُ
***
رغيف خبز يابس تأكله في عافيه
وكوز ماء بارد تشربه من صافيه
وغرفة ضيقة نفسك فيها راضيه
ومصحف تدرس مستنداً لساريه
خير من السكنى بأبراج القصور العاليه
وبعد قصر شاهق تصلى بنار حاميه
***
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
***
والناس يأتمرون الأمر بينهمو والله في كل يوم محدث شانا
***
وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الصبر ما الله صانع
***
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاوزت ما كان يعرف عرف طيب العود
***
إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهمو
***
عسى الهم الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريبُ
***
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيبُ
وأوطنت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنه الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر نفعاً وما أجدي بحيلته الأريبُ
أتاك الله على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيبُ(/17)
وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها فرج قريبُ
***
رب أمر تتقيه جر أمراً ترتجيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
***
كم نعمة لا تستقل شكرها لله في جنب المكاره كامنه
***
أجارتنا أن الأماني كواذب وأكثر أسباب النجاح مع اليأسِ
***
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بالقوم بعض النعمِ
***
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنبأك كيف نعيمها
***
والدهر لا يبقى على حالة لا بد أن يقبل أو يدبرا
***
رب زمان ذله أرفق بك ولم يدم شيء على مر الفلك
***
أتحسب أن البوس للمرء دائم ولو دام شيء عده الناس في العجبِ
***
فلا تغبطن المكثرين فإنه على قدر ما يعطيهم الدهر يسلبُ
***
أيها الشامت العير بالدهر أأنت المبرؤ الموفور؟
***
ألم تر أن الليل لما تكاملت غياهبه جاء الصبح بنوره
***
عسى فرج يأتي به الله أنه له كل يوم في خلقه أمرُ
***
عسى الله أن يشفي المواجع إنه إلى خلقه قد جاد بالنفحات
***
عوى الذئب ما استأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطيرُ
***
نزداد هماً كلما ازددنا غنى والحزن كل الحزن في الإكثارِ
***
كنز القناعة لا يخشى عليه ولا يحتاج فيه إلى الحراس والدول
***
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
***
الجوع يدفع بالرغيف اليابس فعلام أكثر حسرتي ووساوسي
***
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غداً قبحاً لها من دار
***
عسى فرج يكون عسى نعلل نفسنا بعسى
***
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلجِ
***
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازبِ
***
ليس من كربةٍ تصيبك إلا سوف تمضي وسوف تكشف كشفا
***
وقلت لقلبي إن نزا بك نزوة من الهم أفرخ أكثر الروع باطله
***
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنعُ
***
ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما يحمدُ
***
تخوفني ظروف الدهر سلمى وكم من خائف ما لا يكون
***
لا يملؤ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
***
تسل الهموم فليس شيء يقيم وما همومك بالمقيه
***
أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
***
ربما تجزع النفوس لأمر ولها فرجة كحل العقالِ
***
انعم ولذ فللأمور أواخر أبداً كما كانت لهن أوائلُ
***
فلا تحسبن سجن اليمامة دائماً كما لم يدم عيش بسفح ثبير
***
إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غد ما يكون
***
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
***
منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
***
رب أمر سُر آخره بعدما ساءت أوائلهُ
***
ولا هم إلا سوف يفتح قفلهُ ولا حال إلا للفتى بعدها حالُ
***
أكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
***
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيدُ
***(/18)
حتى لا تضيع الفرحة في رمضان
عبد الحافظ الصاوي /إسلام أون لاين
في شهر رمضان الكريم يمنحنا الله فرحة غامرة، يدل عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"، كما أن الله عز وجل يفرح بنا حين نلجأ إليه راجين رضاه، وها هو شهر الفرح يأتينا برحمة الله ومغفرته والعتق من عذابه، نفرح فيه بمنح الله التي لا تحصى، نفرح لفتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار، نفرح لنداء من قبل الله "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"، نفرح لصناعتنا الفرحة على وجوه الفقراء والمساكين راجين ثواب الله، نفرح لتكافلنا لتراحمنا لصلة أرحامنا. فرح منقوص! نلاحظ أن المسلمين في هذه الأيام يقبلون على المواسم الدينية والأعياد بأداء لا تكاد تشعر فيه بروح الفرح، مع أن الفرح بالعبادة دافع للإقبال على الحياة، ومعين على طاعة الله، فالإنسان الفرِحُ بلا شك مقبل على الحياة محب للناس، يفرح معهم ويفرح لهم، فالمؤمن إلف مألوف. وعلى العكس.. فالإنسان المكتئب الحزين، لا شأن له بدنيا الناس، لا يعرف أفراحهم ولا أتراحهم، لا تعنيه البسمة غابت عن وجوه الناس أو حضرت، لكن إذا تعانق الفرح مع الإيمان تصبح للحياة بهجة في رمضان، وحينها نجعل الفرح سلوكا نعيشه ونحياه، ونبشر الناس به وندعوهم إليه، فبالفرح نبدأ صفحة جديدة من التفاؤل والأمل في نصر الله لنخرج من نفق الحزن المظلم، الذي خيم على حياتنا منذ زمن، فيه سقطت الخلافة الإسلامية وافتقدنا القيم والأخلاق وأصبحنا في ذيل الأمم، بل أصبحنا مستهدفين لكي نعيش في قاع من التخلف لا يحدونا أمل في رقيٍّ أو تقدّم، ولا نهفو لفرح كسائر البشر!!! فلماذا يفرح غيرنا... ولا نفرح؟ معايشة لفرح الآخرين أفكر كثيرا في ذلك الشعور الذي سيطر علينا في أعيادنا ومواسمنا الدينية، حيث نلاحظ أننا إلى الحزن أقرب منه إلى الفرح.. -ففي أحد البلاد رأيت احتفال غير المسلمين بعيد لهم، كانت الفرحة ترقص على وجوههم، وفرحتهم بالعيد غير مصطنعة، فقلت لعل هذا خاص بهم فسأذهب لمناطق المسلمين بهذه البلاد، وسرني ما رأيت أن الناس هناك تجمعهم الفرحة بقدوم العيد قد زينوا الشوارع، وغمروك بالفرح. -وفي بلد إسلامي آخر كان رمضان والأعياد تمر ولا نشعر بفرح، في الوقت الذي كان العيد القومي على غير ذلك؛ حيث يتبادل الناس الحلوى والتهاني ويرتدون الملابس الجديدة، ويخرجون إلى المتنزهات العامة. ترى هل من الحق أن ندعو الجميع للخروج من الشعور بالحزن وسيطرته علينا في مواسمنا وأعيادنا الدينية بل في حياتنا بشكل عام؟. موانع الفرح بأعيادنا ومناسبتنا عدم شعورنا بالفرح في مناسبتنا الدينية له أسباب ثلاثة ذكرها أهل الاختصاص: 1. حالة الانغلاق على النفس التي نعيشها بشكل عام، فلم نعد نطّلع ونلم بما لدى الآخرين من ثقافات وعقائد وسلوك ؛ لذلك فقدنا الشعور بقيمة ما لدينا من دين عظيم، لكن المسلم الذي تتاح له الفرصة للانفتاح على الآخرين يشعر بعظمة الإسلام وحلاوة شعائره، وهو ما نلمسه من روح عالية لدى المسلمين الجدد، ومن أتيحت له الفرصة ليعيش بعض المناسبات الدينية في بلد غير إسلامي. 2. ما تم من اللعب في أذواقنا، نحو ما نحب وما لا نحب، وما نحتفل به وما لا نحتفل، فوسائل الترفية لدينا أصبحت بعيدة عن مفهومنا الشرعي. فإذا أراد الإنسان أن يرفه عن نفسه في مجتمعنا الآن، فهو محصور بين شاشات اإلكترونية تبعده عن دنيا الناس، بين شاشة الهاتف المحمول أو الكمبيوتر أو التلفاز والفضائيات، فأصبح الفرح بعيدا عن حضارتنا وثقافتنا، والمطلوب أن نعيش شعائرنا ومشاعرنا بفرح يتفق مع مشروعنا الإسلامي، فالإنسان يلمس الفرح في كل عبادات الإسلام بوجوده مع الناس لا باعتزالهم، ففي الحج نفرح بالعبادة مع الناس، في الصلاة في المساجد مع الناس، في مساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم تقربا إلى الله، فمعايشة الناس أصل يمكن أن نطلق عليه "مرجعية الشريعة = حاكمية الأمة" وطرفي هذه المعادلة وجهين لعملة واحدة ؛ ولا ينزل الإسلام للواقع إلا بحاكمية الأمة. 3. ما نعانيه من ضغوط متنوعة سواء كانت نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية، فأصبحنا نحسب تكاليف الفرح وهل هي في استطاعتنا أم لا. فضلا عن ما تسببه لنا مشاركة الآخرين في الفرح من تكاليف. لا بد من أن نعيش الفرح في رمضان يقول د.عمرو خليل إن الفرح له مظهر وجوهر، والمظهر قديما أخذ شكل الفانوس وتوافر أطعمة معينة، أما حاليا فقد أصبحنا نشاهد صورا متعددة من تزيين الشوارع والمحال، وتطوير الوسائل القديمة التي كانت تستخدم في الاحتفال والفرح بقدوم رمضان. والشيء الأهم هو أن يكون الفرح جوهرا نعيشه. فالحضور لصلاة القيام الجماعية يجب أن يكون مصدر فرح ولا بد أن نستحضر هذه الروح، فهذا لا يتعارض مع حرصنا على الصلاة الطويلة ذات الخشوع، أو خلف من يحسن القراءة لكي نتدبر التلاوة، ولكن المطلوب أن أفعل هذا وأنا فرح،(/1)
والابتسامة تملئ وجهي وقلبي. لا بد أن نتبادل الابتسامات وتعلو وجوهنا فرحة العبادة واستقبال أعيادنا ومناسبتنا الدينية. ويقول د.عمرو: لكن للأسف هناك ما يعكر هذه الروح من أمور سياسية واجتماعية عامة تجعل الناس تفقد الشعور بهذا الفرح. هدايا الورد في رمضان كتبت أ.هبة رءوف مقالا بعنوان "اشتروا لأولادكم وردا"حكت فيه كيف أدخلت الفرح والسرور على أولادها، بشرائها الورد وتعليمهم قدرة خلق الله من إبداع الألوان وتناسق الأوراق، واختتمت مقالها بنصيحة "في طريق العودة للمنزل اليوم اشتروا..وردا". وجعلني ذلك أفكر، لماذا لا نتهادى في رمضان بالورد؟. لقد تعارفنا على أن يكون الورد معبرا عن مشاعر عاطفية بين المحبين والعشاق، أو هدايا المرضى والناجحين، ولكن ما المانع أن يكون الورد هدايا الصائمين، ما المانع أن نقدمه لجيراننا تهنئة بقدوم رمضان وطوال أيام رمضان عندما نتزاور، ولا أعني أننا سوف ننسى روح التكافل من تقديم المأكل والمشرب والملبس وكل الصور الجميلة للتكافل وفرح المسلمين برمضان، ولكننا نقترح أن نضيف إليها الورد، أو يكون من بينها الورد، لنقبل على كل ألوان الطاعات بفرح المحبين ولنودع الحزن وروح اليأس في رمضان.(/2)
حتى لا تغرق السفينة
... حتى لا تغرق السفينة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله النبي صلي الله عليه وسلم والصلاة والسلام علي رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
مكة موطني ونجد مقامي
وعسير من البلاد مصيفي
ورسولي بطبية ، ومناخي
حائل، والحساء ظلي وريفي
وبجازان إخوتي ، وسحابي
نحو نجران ماطري ووكيفي
مبدأ:
ربنا واحد، ورسولنا واحد، وكتابنا واحد، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، ونحن مجتمع واحد، (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) .
إن ما حدث في الرياض يوم الاثنين بتاريخ 11/3/1424هـ لهو أمر محرم شرعاً، خاطئ عقلاً، وهو عمل إرهابي إجرامي، يستهدف النيل من أمننا، وقد ساءنا وكدرنا، وأزعجنا، واستثار مكنون خواطرنا، وهو مهدد لأمننا، ولراحتنا، وإنني أنادي الجميع حكاماً ومحكومين أن يكونوا أمة واحدة ، قال سبحانه وتعالي: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: الآية103) وقال:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )(الحجرات: الآية10).
أمة الوسط:
نحن الأمة الوسط : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(البقرة: الآية143)، علماؤنا ، فقهاؤنا، قضاتنا، دعاتنا، عقلاؤنا، أدباؤنا، طلابنا، رجالنا، نساؤنا، كلهم وسط، وهم جماعة الاعتدال، (( فعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ، ومن شذ شذ في النار))النبي صلي الله عليه وسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (( لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا ، وكونوا عباد الله إخواناً)) وقال سبحانه وتعالي: )وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63) .
حرمة دم المسلم:
إن دم المسلم وعرضه، وماله حرام علي المسلم، كحرمة الشهر المحرم، في البلد المحرم ، في اليوم المحرم ، يقول سبحانه وتعالي: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق)(الاسراء: الآية33)، وقال صلي الله عليه وسلم : (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والنفس بالنفس))، وقال صلي الله عليه وسلم : لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل امرئ مسلم))، وقال صلي الله عليه وسلم : (( ولو اجتمع أهل السموات والأرض علي قتل امرئ مسلم لكبهم الله علي وجوههم في النار))، قال سبحانه وتعالي: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)، وقال صلي الله عليه وسلم : (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، ونظر ابن عمر رضي الله عنه إلي الكعبة، فقال: ما أعظمك وأشد حرمتك عند الله ، والمؤمن أشد حرمة منك.
الأمن مطلب الجميع:
فإن الأمن ينشده الوالي، وينشده الراعي والرعية، والعلماء والعامة، والرجال والنساء، فإذا ذهب الأمن فلا أمان:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحيي دينا
والرسول عليه الصلاة والسلام عد الأمن من أعظم النعم، فقال: من اصبح في سربه، معافى في بدنه، عنده قوته وقوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))، فالواجب علينا أن نسعي في استتباب الأمن ، وأن نأخذ علي يد مهدد أمننا، ولا نرضي بسلوك منهجهم، ولا إتباع طريقهم، ولا نقرهم علي خطئهم، ونبرأ إلي الله من فعلهم.
ألا نعتبر مما حصل في دول فقدت الأمن، وقدمت صوت البندقية علي صوت العقل، واستخدمت حوار الرصاص علي حوار المنطق، ألا ننظر ما حل في بعض البلدان؛ من سفك للدماء، وهتك للأعراض، واقتحام للبيوت، بقر بطون حوامل، قتل أطفال، تمزيق شيوخ، إغلاق مدارس، خراب مؤسسات، ذهاب اقتصاد، سلب ونهب، فرقة وخلاف، قلق واضطراب، فرع وخوف، بعد أن كانوا قبل ذلك مقبلين علي عودة صادقة إلي الله، كانت مساجدهم ممتلئة بالمصلين، وكان بينهم أخوة ووفاق ، ثم انحرف الحال، قتمزقوا أيدي سبأ، وصاروا شذر مذر، وأطلقوا السلاح علي بعض، وهددت طرقاتهم، ونسفت مساجدهم، وصاروا عظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين، فمزقوا كل ممزق، وذهب ذاك الهدوء والأمن، وتعطلت التنمية ، ودمرت المساكن، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)، ألا نعتبر بما حصل بأفغانستان، يوم أ صاروا شيعاً وأحزاباً ، وصار فيهم ما يقارب عشرة أحزاب، كلها ترفع لافتة الإسلام، فتقاتلوا فيما بينهم، واستحل بعضهم دم بعض، فاصبحوا شيعاً وأحزاباً، ثم تسلط عليهم عدو من خارجهم، فاستباح أرضهم،وسفك دماءهم، ووطئ ترابهم، وغيرها من البلدان التي ذهب الأمن منها والأمان والإيمان، فصار الإنسان لا يأمن علي نفسه، ولا أهله، ولا أبنائه.
طاعة ولي الأمر في طاعة الله:(/1)
إن علينا واجب طاعة ولي الأمر في طاعة الله، نناصحه ولا ننافقه، ولا نحرج عليه، ما لم نر كفراً بواحاً، لأن الله سبحانه وتعالي يقول: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: الآية59)، وقال عليه الصلاة والسلام: (( ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن طاعتهم تحيط بمن وراءهم))، أو كما قال صلي الله عليه وسلم.
وبين يدي خطاب وجهه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن مؤسس هذه الدولة، إلي بعض رعيته عام 1335هـ ، يقول في أحوال مشابهة لأحوالنا : (( وقد بلغنا عن أناس يدعون انهم علي طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أموراً مخالفة لما هو عليه، وهي أنهم يتجاسرون علي الإفتاء بغير علم، ويطلقون التكفير والتضليل بغير علم، بل بالجهل ومخافة الدليل. ويتناولون النصوص علي غير تأويلها، ويسعون في تفريق كلمة المسلمين ، ويتكلمون في حق من لم يساعفهم علي ذلك من علماء المسلمين بما لا يليق. فمن اعظم ذلك الشرك الأكبر، نصب أوثان تعبد من دون الله وحكمهم بالقوانين، وغير ذلك مما يطول ذكره، وهذا أمر بين لا يخفي علي من له بصيرة، فمن كان ثابتاً عنده أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجدد لهذا الدين الذي هو توحيد رب العالمين، ومتابعة سيد المرسلين فهذه كتبه مشهورة فليعتمد علي ذلك، ومن كان عنده شك فليسأل الله الهداية ، ويطلب بيان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلمن ويسأل من يثق به من العلماء المحققين. إذا فهمتم ذلك، فاعلموا هداكم الله أننا إن شاء الله بحول الله وقوته أنصار لمن دعا إلي ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، قائمون بما قام به أجدادنا الذين نصروه، ومن خالف ذلك إما بتفريط أو إفراط، فلا يلومن إلا نفسه.
الحكمة سلاح العقلاء:
ألا يسعنا ما وسع علماء الأمة، ودعاتها، وقضاتها، وعقلاءها، ألا يسعنا ما وسع العالمين الفاضلين المعاصرين؛ سماحة الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمن وغيرهما من علمائنا الأجلاء؛ حيث دعوا إلي الله عز وجل في هذا المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة، وأخرجوا طلاباً وعلموا تلاميذ، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأسسوا، ودرسوا، وألفوا، ومع ذلك نصحوا بالتي هي أحسن، فأقاموا المعوج،ونبهوا علي الخطأ، وأبرأوا ذممهم، وهم في التقوى والورع من هم في محلتهم وميزانهم، أن علي الجيل أن يسعه ما وسع هؤلاء الأئمة العلماء، وأن يتقي الله عز وجل ، فلن يأتي هو بعلم كعلمهم، ولا فضل كفضلهم.
لماذا نترك ما اجتمعت عليه الأمة ونأخذ بالشاذ؟ نترك الحجة والمحجة والطريق المستقيم، ونذهب إلي الطريق الملتوي، الذي يؤدي إلي الهلكة، لماذا نهجر الألفة وندعو للفرقة؟ لماذا نعرض عن اليقين إلي الظن؟ وعن الواضح إلي المشتبه؟ لماذا نعمل تحت الأرض في الظلام، ولا نبني فوق الأرض في رابعة النهار؟ لماذا نترك الواضحات من المسائل والمشتهرات، ونذهب غلي الشبهات؟ لماذا نهجر الحديث الصحيح الصريح إلي الحديث الضعيف الواهن؟ لماذا لا نثق بعلمائنا، ودعاتنا، وولاة أمرنا، وعقلائنا، ونذهب إلي آخرين لا نعرف علمهم، ولا نصحهم، ولا صدقهم؟
ليس في ديننا أسرار ولا ألغاز، مبادئنا تعلن من علي المنابر والمنائر، وفي المحافل والأعياد والمنتديات، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت الناس يتناجون في دينهم ، فاعلم أنهم دسيسة، فإذا كان العلم سرا، في الأقبية ، وفي المخابئ، وتحت الأرض، وفي الجلسات السرية، اصبح هناك خطورة، وأصبح هناك ظن، واصبح هناك وهم، واصبح هناك ريبة، ولذلك أظهر صلي الله عليه وسلم دعوته علي الصفان وأظهرها في المحافل، وفي أسواق العرب، ودعا جهاراً نهاراً ، وقال له ربه: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107) وقال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94) ، فلماذا نتستر بدعوتنا إذا كنا صادقين؟ ولماذا نتخفى إذا كنا واثقين؟ ولماذا نعمل خلايا سرية إذا كنا ربانيين عالميين؟ لماذا لا نعمل في الجامعات، والمساجد، والمدارس، والمحافل ، والنوادي، والمعاهد؟
أهداف الداعية:
نحن نريد باختصار أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فليس للداعية، ولا لطالب العلم، أهداف من وراء دعوته، بل الهدف أن يصلح الناس، وأن يكونوا عباداً صالحين أتقياء أخياراً ، بررة، مهيئين لدخول الجنة، مهذبين في أخلاقهم، مؤدبين في سلوكهم، يؤدون حق الله، وحق الوالي ، وحق الجار، وحق الضيف، كما اقل صلي الله عليه وسلم: (( إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً،فأعط كل ذي حق حقه))، فهاذ هو واجب الداعية، فليس له مقصد سياسي، ولا هدف دنيوي غير رفع لا إله إلا الله، وتعبيد الناس لرب العالمين.(/2)
عن علي الجيل أن يدعو إلي هداية الناس إلي الطري المستقيم، قال سبحانه: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: الآية52)وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب وهو يرسله إلي اليهود : (( فوالذي نفسي بيده لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)).لماذا لا نكون رحمة لا عذاباً ؟ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107) لماذا لا نكون برداً وسلاماً علي الناس بدل أن نكون مصدراً لشقاوتهم وتخويفهم، وزعزعة أمنهم، واضطراب أحوالهم؟، لماذا لا نكون فجراً جديداً علي العالم ، نبشره بالرسالة الربانية والنبي الخاتم، والدين الخالد، والرحمة المهداة، والنعمة المسداة؟
أين التيسير يا دعاة التعسير ، (( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين))، ويقول سبحانه وتعاليك )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(آل عمران: الآية159)، اين دعاة الحكمة يا دعاة الغلظة؟، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: الآية125) (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44) ، وقال صلي الله عليه وسلم : (( ما كان الرفق في شئ إلا زانة، وما نزع من شئ إلا شانه))، وقال صلي الله عليه وسلم (( يا عائشة ، إن الله يعطي علي الرفق ما لا يعطي علي العنف))، أين البشرى برحمة الله والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)).
إن علينا أن لا نجعل الممارسات الخاطئة جهاداً ، ولا ننفرد بالراي الشاذن ولا نتبع الأهواء الشخصية،ولا نصدق الأفهام الفردية التي لا تنطلق من علم راسخ، ولا من فهم قويم ، وإنما تأتي سداد في النظرةن ولا من دراسية للمصلحة ، وإنما تأتي باندفاعات عاطفية، وبعقول طائشة، وبتخرصات ظنية، لا دليل ولا برهان، ولا نور ولا محجة:
ومن يثني الأصاغر عن مراد
إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإن تصدر الوضعاء يوماً
علي الشرفاء من إحدى الرزايا
إذا استوت السافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا
لماذا لا نعرض الإسلام عبر الدروس، والخطبة، والكتاب، والشريط، والقناة، وعبر الخلق القويم، والسيرة العطرة، والمواهب الجليلة، ونفع الناس، وتقديم المساعدات لهم، ومد يد العون لهم؟ لا عرضه عبر فوهات البناديق ، وأزير الرصاص، ورائحة البارود، فإن هذا هو التنفير من دين الله، وهذه هي الإساءة للإسلام ، وتشويه صورته، والصد عن سبيل الله ـ عز وجل ـ ، لقد دعا الرسول عليه الصلاة والسلام جاره اليهودي إلي الدين بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، فلما أسلم اليهودي، ثم مات، قال عليه الصلاة والسلام: (( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)). وكان لعبد الله بن المبارك الإمام العادل ، المجاهد الزاهد حار يهودي، فكان إذا اشتري لأهل بيته طعاماً بدأ باليهودي فأعطاه، وإذا لبس أطفاله بدأ باليهودي فلبسهم ، فأتي اليهودي إلي ابن المبارك، وقال : والله ، إن ديناً أخرجك لهو دني حق، اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ماذا نريد؟
نريد جيلاً ربانياً مؤمناً بالله ، يعبد الله في المسجد،والجامعة، والعيادة، والثكنة العسكرية، والمعمل، والمصنع، ولا نريد أن نربي في بلادنا ملحداً زنديقاً، يحارب الله، ويستهزي بالدين ، ويغمز الصالحين، ويصد عن منهج الله، ولا نريد بالمقابل أن نربي غالياً متنطعاً منفراً، مكفراً، يحمل السلاح في بلاد الإسلام، ويهدد أمن المؤمنين ، ويزعزع الثقة فيما بينهم، ويورث الفتنة، ويزرع الشر في المجتمع، قال سبحانه: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة)(النساء: الآية77) وقال سبحانه: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )(لأعراف: الآية56) .(/3)
نريد أن نعيد الجاليات الأجنبية مسلمين، ولا نعيدهم جنائز محمولين، ندلهم علي الله وكتابه ورسوله صلي الله عليه وسلم م ولا نكرههم في ديننا وقيمنا، بل نحبب لهم الطاعة، ونقدم لهم الرسالة في أحسن صورها، وفي أبهى حللها، رسالة ، إسلامية ، طيبة، نقية، سهلة، ميسرة، تخاطب العقل ، توافق المنطق، ولها دليل وبرهان، وليس بالتعسف، وركوب الصعب، ب واستخدام العنف، والغلظة في الخطاب، واستخدام القوة، وفرض السيطرة، وحمل البندقية: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99) (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية:22)، )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)(البقرة: الآية256) . إن الوافدين إلي بلادنا أما يكونوا مستأمنين، أو معاهدين، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))، وقد تقرر عند الفقهاء أن من دخل بلداً من بلاد المسلمين علي قدر من الأمان ، أو العهد، حرم دمه ولو كان عهد الأمان فيه مخالفة لبعض مسائل الشريعة، فتأمينه واجب علي المسلمين وهو عقد لازم بين ولي الأمر وهؤلاء المعاهدين والمستأمنين من غير المسلمين.
لسنا معصومين:
لسنا مجتمعنا ملائكياً ، لا حكاماً ولا محكومين، ولسنا معصومين، لا الراعي ولا الرعية، ولكننا مسلمون، عندنا أخطاء نعم، ولدينا تقصير أجل، ومعنا ذنوب بالطبع، ولكننا عند النعم نشكر، وعند المصائب نصبر، وعند الذنوب نستغفر، فنحن مسلمون، لا نريد غير الإسلام ديناً ، نقدم دماءنا، وأموالنا، وأرواحنا، فداء لديننا، وهو أعز مطالبنا، وغايتنا ، نصره، ونشره في الأرض، والتمكين له.
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
دولتنا إسلامية، وشعبنا شعب مسلم، ولا خيار لنا إلا الإسلام ، وهو قدرنا، وقضيتنا الكبرى، ولن نحيد عنه إن شاء الله، وهذا الذي اجمعنا عليه في طول هذه البلاد وعرضها، ومن شرقها إلي غربها، ومن شمالها، إلي جنوبها، وما اجتمعنا إلا علي راية الإسلام، ولو أن المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله جمعنا علي غير الدين لما اجتمعنا ، فلم يجمعنا علي قومية، ولا عرقية، ولا حزبية، إنما أعلن أن دولته إسلامية، فاجتمعنا علي أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتآخينا ، وتصافينا، وتوافقنا، واتحدنا، فصار هذا الإنجاز ، وصار هذا الانتاج، وصارت هذه البركة ـ والحمد لله ـ في العلم والدعوة، والإصلاح وجمع الشمل، وإقامة مشاريع الخير في الأرض ، ونشر الفضيلة بين الناس.
حينما نفقد الأمن:
إذا ذهب أمننا تعطلت المدارس ، وأغلقت الجامعات، ودمرت المصانع، وكسدت السواق، وأقفلت المستشفيات، وصرنا خائفين لا نستطيع الخروج من بيوتنا، والصلاة في مصلياتنا، ولا ممارسة أعمالنا، ولا إقامة مشاريعنا، والليل مخيفاً، والظلام مرعباً، والفرقة حاصلة، والشتات وارداً.
لماذا لا نوحد الخطاب في الدروس والمحاضرات، والندوات، والتلفزيون، والإذاعة ، والصحف ، والمنبر؟ لماذا لا نجعل كلمتنا واحدة، خطاباً راشداً واعياً وسطاً، حطاباً سهلاً ليناً وقوراً؟ قال سبحانه وتعالي: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( الكلمة الطيبة صدقة)).
لا للصوت النشاز!:
لماذا يخترقنا صوتات نشزان غاويان، صوت يسب الدين وأهله، ويحتقر المصحف والرسالة والصالحين: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:14،15)). ويقول سبحانه عن هؤلاء الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات: (ِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة: الآية79).
وصوت في الطرف الآخر، يغلو في الدين، ويلوي أعناق النصوص، ويفسر الشريعة علي هواه دون علم، ولا فقه، ولا ورع، قال سبحانه : ) لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )(النساء: 171). وقال صلي الله عليه وسلم : (( إياكم والغلو)). فنحن أمة واحدة لا نقر ولا نقبل إلا أمة إسلامية واحدة، ومجتمعنا إسلامياً واحداً ، لا أحزاب، فلا حزب اشتراكياً النبي صلي الله عليه وسلم ولا قوميا، ولا علمانياً، ولا بعثياً، ولا وحدوياً تحررياً ، نحن جميعاً ننادي بملء أفواهنا حكاماً ومحكومين : (( رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولاً)).
فإما حياة نظم الوحي سيرها
وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً
وبالمصطفي شهماً وهاديا
الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، الجماعة أمن وإيمان ، والفرقة عذاب وحرمان.
السفيه قد يغرق السفينة:(/4)
علينا أن نأخذ علي يد السفيه؛ لأن السفيه قد يغرق السفينة، وقد وصف صلي الله عليه وسلم المجتمع المسلم بالسفينة، (( فمثل من يسكت عن السفيه؛ كقوم علي السفينة، وقوم في أسفل السفينة، فكان أناس يأخذون الماء يريدون خرق السفينة لأخذ الماء، فيمرون عليهم قال: فإذا سكتوا عنهم غرقوا وغرقوا جميعاً ، وإذا نهوهم وأخذوا علي أيديهم نجوا جميعاً)) أو كما قال صلي الله عليه وسلم.
وجرم جرة سفهاء قوم
وحل بغير جانيه العذاب
والسفيه في مجتمعنا علي قسمين:
ـ سفيه يحارب الدين: فهو منخلع من الديانة، سيئ المعتقد ، خبيث النفس نذل الطباع، رذيل النهج، ينال القداسة، ويغمز الرسالة، ولا يحترم القبلة، ولا يعرف للدين قيمته وحرمته، همه أن يكون طابوراً خامساً، وسوسة تنخر في جسم الأمة، وغدة مليئة بالسم، ووباء قاتلاً في جسم هذا المجتمع الطاهر البريء ، فهو مريض القلب، سيئ الإرادة، منحرف الطباع، فهذا سفيه يؤخذ علي يديه.
ـ ويقابله سفيه يغلو في الدين: ركب من هواه الاعوجاج، واتخذ الغلو سفينة، فألغي آراء العلماء، وأخذ بالرأي المنفرد الشاذ، وجعل الشدة والعنف والقسوة سبيلا له، وهانت عليه الدماء، وقلب النصوص ظهراَ لبطن، وفهم من الدليل فهماً معوجاً، فقبل أن تغرق هذه السفينة علينا أن نتناصح، وأن يقوم الجمهور الوسط العاقل ، من الولاه والعلماء، والدعاة والعقلاء، والمصلحين، قياماً واحداً ، وصفا واحداً ، واجتماعاً موسعاً في مدارسة أمرهم، ومعرفة الخلل في صفوفهم، وإخراج السفيه من الطائفتين، قال عمر بن الخطاب في الطائفتين:
قصم ظهري رجلان: (( فاجر متهتك، وجاهل متنسك))، فالفاجر المتهتك لا هم له إلا النيل من هذا الدين الذي أكرمنا الله به، واجتمعنا عليه، ونادت به دولتنا وأسست عليه، فنصرها الله وأعلي قدرها، وشرفها بين بلاد العالم، لا لشيء إلا لأنها مهبط الوحي، ولأنها رفعت لا إله إلا الله، ولأنها احترمت القبلة، ولأنها قدمت الدعوة الإسلامية، فهذا الفاجر المتهتك لا يريد هذا، يريد مبدءاً آخر ، وشريعة أخري، وقيماً أرضية، فهو يتخذ من حماة الدين وحملته والمنتسبين إليه خصماً وعدواً لدوداً، ينالهم في كتاباته، ومجالسه، وتأليفه، فهذا هو الفاجر المتهتك الذي قصده عمر.
وجاهل متنسك: تدين ولكنه جاهل بالعلم، لم يحقق المسائل، ولم يطلب الدليل علي يد المشايخ، ولم يثن ركبه عند العلماء، ولم يغض في معرفة الحق، ولم يرسخ في فهم الدليل، بل ركب الصعب والذلول في تحقيق أغراضه ، فكلما فهم من الدليل شيئاً أصدره، فهو المكفر، والمبدع، والمفسق، والمضلل، وهو الناجي وحده ، والسالم من الخطأ، ومن خالفه زنديق أو كافر، أو مرتد، أو ضال، أو فاسق، فهذا هو الذي عناه عمر بقوله: (( جاهل متنسك))، يقول صلي الله عليه وسلم : (( من قال هلك الناس فهو أهلكهم)) رواه مسلم، والمعني: لإعجابه براية وانفراده بالشاذ من أحكامه، فحذار من هذا الفاجر المتهتك، ويصير خنجراً مسموماً في ظهر الأمة، وحذار أيضاً من الجاهل المتنسك، الذي يشد في الرأي ، ويلغي الدليل، ويخالف العلماء.
كيف كنا.. وكيف أصبحنا:
أما كنا قبل توحيدنا بهذه الدولة، متفرقين مختلفين لا يأمن المقيم ولا المسافر، قوافل الحجاج تنهب، بضائع التجار تسلب، القبائل يقتل بعضهم بعضاً، الدنيا فوضي، اللصوص عصابات، تحزب وطائفية، نعرات جاهلية، اختصام وقتال، تفرق وجدال، فجمعنا الله ـ جل ذكره ـ علي يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، فأقيم الشرع، وفتحت المدارس، وأسست الجامعات، وبنيت المستشفيات، وأمن الناس علي دمائهم وأموالهم، وأعراضهم، فلا نسبة ولا تناسب بين الخير الموجود المتحقق في مجتمعنا، والشر القليل والتقصير الوارد الذي لا يخلو منه بشر، فلماذا لا نكون عادلين في الحكم علي الدول، والهيئات، والأشخاص؟، قال سبحانه: ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(النساء: 58) .
قولوا لي بربكم: لو انفرط زمام الوحدة في هذه البلاد ، وانحل عقد الأمن في هذا الشعب، علي شراسة قبائله وامتداد مساحته، واختلاف تضاريسه، كيف يكون الحال؟ يصبح الناس في خوف وقلق، ونهب وسلب، وفتك وسفك، واعتداء ، لكن الله دمع الشمل، وأكرم وأنعم: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (لأنفال:26) )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:4،3) فغفر الله لذاك المؤسس ورحمه، فلم يكن بلشفيا احمر، يكفر ولا يشكر، ينادي بالبرجوازية، بل كان حنيفاً مسلماً ، وقائداً ملهماً، ولم يكن زعيماً يدعو للنازية، ويبشر بالليبرالية، بل كان إماماً عادلاً، وحاكماً فاضلاً، له في التاريخ جولة، ومع الدهر صوله، حتى أقام دولة.(/5)
لم يكن عبد العزيز حزبياً، ولا عنصرياً ، ولا أجنبياً، بل وحد رب العباد براية الوحدانية، ووحد البلاد بالرسالة الإيمانية.
إذا كان نهرو منقذاً فهو أهوج
وإن كان تيتو قائداً فهو مدبر
ولينين سفاك وهتلر طائش
وصوالات نابليون موت مقطر
وهذا حنيف مسلم ثابت الخطا
صلاة تؤذي أو كتاب يفسر
وفد ماركس بمشروع الإلحاد ، تحت مسمي الشيوعية والاتحاد، فقتل الرجال، وابتز الأموال، وفعل الأهوال، وأطل هتلر بتفضيل الألمان، علي بني الإنسان، حتى أحرق من خالفه في الأفران، وانتهي أمره إلي الهوان، وباء بالخسران، وأشرق عبد العزيز بمشروع الوحدة، تحت شعار الله وحده: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَار)(التوبة: الآية109)، وولدت معه مملكة قوية، ودولة فتية، دستورها من السماء، وتعاليمها من غار حراء، ووثيقتها شريعة سمحاء.
أقول لمن يحسد هذا البلد، ويناله ويتعرض له، ويغمز من أهله، ويحط من قدره: اتقوا الله واعدلوا، أليس دار العروبة، ومهبط الوحي، ومهد الرسالة، وقبلة المسلمين، نحن التاج، والمنهاج، عندنا البداية والنهاية، أرض الطهر والقداسة:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أري غيري له الدهر مالكا
وحبب أوطان الرجال إليهموا
معاهد قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
بلدنا أرض التوحيد، والمجد التليد، والنهج الرشيد، وهي أرض الإنسان، والبيان، والإيمان، والقرآن؛ لأنها دار الإنسان السوس، والمؤمن الرضي، التابع للمنهج المحمدي؛ ولأنها أرض البيان الخلاب، ولأنها بلاد الإيمان، فمنها أرسل الإيمان إلي العالم أنواره، وبعث إلي الدنيا قصصه وأخباره؛ ولأنها مهبط القرآن، بها نزل جبريل ، علي المعلم الجليل، بآيات التنزيل.
ونقول لمن حسدنا، أو شمت بنا، أو فرح بمصابنا كما قال الأول:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا
هل عائد الدهر إلا من له خطر
أما تري البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى قعره درر
وفي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
عندنا قداسة الإنسان، وقداسة البيان ، وقداسة الزمان، وقداسة المكان، فقداسة الإنسان: ماثلة في الرسول العظيم، والنبي الكريم ، وقداسة البيان: قائمة في القرآن ، الذي أعجز الإنس والجان ، وقداسة الزمان: كامنة في عشر ذي الحجة ورمضان، وقداسة المكان: في الحرمين الطاهرين والمسجدين الزاهدين ، ليس للزمان بدوننا طعم، وليس للتاريخ بسوانا رسم، وليس للناس إذا غفلنا اسم، نحن شهداء علي الناس ، ونحن مضرب المثل في الجود والبأس . كأن النور ولد معنا، وكأن البشر لفظ ونحن معني، جماجمنا بالعزة مدججة ، وخيولنا بالعزائم مسرجة، نحن الأمة الوسط، لا غلط في منهجنا ولا شطط ، وسط في المكان: فنحن قلب الكره الأرضية ، وزعماء الأخلاق المرضية، ووسط في الزمان: فلم نأت في طفولة الإنسانية ولم نتأخر إلي شيخوخة البشرية، ووسط العقيدة: فنحن أهل التوحيد والمذاهب السديدة ، فلم نعتنق الرهبانية، ولم ننتهج نهج المزدكية، ولا مذهب الزرادشتية، ولا نحلة المانوية، بل أمتنا معصومة من الضلالة، مصونة من الجهالة.
عشنا أعزاء ملء الأرض ، ما لمست
جباهنا تربها إلا مصلينا
لا ينزل النصر إلا فوق رايتنا
ولا تمس الظبا إلا نواصينا
يوم من الدهر لم تصنع أشعته
شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً
أن نبتدئ بالأذى من ليس يؤذينا
بيض صنائعنا، سود وقائعنا
خضر مرابعنا ، حمر مواضينا
أليس في بلدنا الركن والمقام، والبلد الحرام ، وعندنا عرفات ومني، حيث الجمرات، وزمزم والحطيم، والمشعر العظيم، وفي أرضنا غار حراء، مشرق الشريعة الغراء ، ونزل في أرضنا جبريل، علي المعلم الجليل، وحمى الله بيته من الفيل ، بطير أبابيل.
من كتب التأريخ وأهمل الجزيرة، فخطيئته كبيرة، وقد أتي بجريرة، كيف يهمل الرسول والأصول ، وأهل المنقول والمعقول؟! كيف يأخذ البدن بلا روح ، ويجرد البستان من الدوح؟! كيف يبني القصر علي غير أساس، ويقيم الجسم بلا رأس؟! تريد المسجد بلا محراب، والمدرسة بلا كتاب ، نحن الفصول والأبواب ، ونحن السيف والنصاب، لسجل المكرمات كتاب، ولأرقام المجد حساب، وعلي قصر الرسالة حجاب .(/6)
نحن قلوب المعمورة ، وأصحاب المناقب المأثورة ، العالم يتجه إلي قبلتنا كل يوم خمس مرات، والدنيا تنصب لندائنا بالصلوات، والكون يستمع لتلاوتنا بالآيات ، زارنا بلال بن رباح، فصار مؤذن دولة الفلاح، وجاءنا سلمان من أرض فارس، فلما أسلم صار كأنه علي قرن الشمس جالس، وفد إلينا صهيب من أرض الروم ،فأصبح من سادات القوم، من بلادنا تشرق شمس المعارف، ويقام للعلم متاحف، وتنشر للهدى مصاحف ، حتى ماؤنا يفوق كل ماء ، فماء زمزم شفاء، ومن كل داء دواء، ونحن بيت العرب العرياء ، وعندنا سادات الكرماء، ولدينا أساطين النجباء، وأساتذة الحكماء، إن ذكرت العلياء فنحن وقدوها، وإن ذكرت الملة فنحن أسودها وإذا سمعت بالرسالة فنحن جنودها.
فغربنا أرض النبوة المحمدية، والسنة الأحمدية أرض قدمت للعالم أشرف هدية، وشرفنا أرض الخيرات، وبلد المسرات، ودار الهبات، والأعطيات، ووسطنا دار الملك والإمارة، وبيت الجدارة، ومحل الوزارة ، والسفارة، وشمالنا أرض الجود، والند والعود، والأسود، وحفظ العهود، وإكرام الوفود، وجنوبنا أرض الهمم الوثابة، والطبيعة الخلابة، والأخلاق الجذابة، والفهم والنجاية، والشعر والخطابة.
أنجينا العلماء، وأنتجنا الحكماء، وأرسلنا للعالم الزعماء، وأهدينا الدنيا الحلماء.
وأقول لمرتزقة الأفكار الذين ينالون بكتاباتهم ولاة الأمر ، والعلماء، والدعاة، والصالحين ومؤسسات الدين من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكاتب الدعوة والمؤسسات الخيرية، والإغاثية: ويحكم اسكتوا ، ويلكم اصمتوا، هذه ليست بلاد ماركس، ولا لينين، ولا استالين، هذه بلاد محمد صلي الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر، وعثمان، وعلي، ومحمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود.
ونقول للغلاة، أهل الغلظة والجفاء، متتبعي الأخطاء، المستهزئين بالعلماء، الخارجين علي الإجماع: عودوا إلي الجادة ، راجعوا أنفسكم، حكموا الشرع في تصرفاتكم ، اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
إن الدين ليس مصدر شقاء لكنه منبع سعادة، وليس دعوة إرهاب لكنه رسالة رحمة، وليس جانب خوف ولكنه ميثاق أمان، إن الدين يخرج بنجباء عقلاء، وليس مسؤولاً عن الحمقى الأغبياء، وينتج عباقرة عقلاء ، أبراراً ، ولا يصنع أقزاماً أشراراً ، الدين يخاطب العقل السوي، والفطرة الراشدة، والضمير الحي، والروح المهذبة، ولكنه لا يتحمل تبعة النفس اللئيمة، والخلق الدنيء ، والطباع الدنسة، والأفكار الموبوءة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90) .
يا أيها المربون:
إن علينا واجب التربية لأبنائنا بحيث نرعاهم الرعاية الحقة؛ لقوله تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(التحريم: الآية6)وقوله صلي الله عليه وسلم: (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، فالتربية والتعليم أصلان عظيمان في تنشئة الجيل، قال تعالي: ) وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران: الآية79) وإنما يخشى علي أبنائنا من مسلكين خطرين: مسلك الانحراف والفجور والإعراض عن طاعة الله وتعطيل أوامره وارتكاب نواهيه، ومسلك الغلو والخروج علي جماعة المسلمين، ونبذ إجماعهم ، وشق صفهم، وتفريق كلمتهم، وإنما أرادنا سبحانه أن نكون إخوة متحابين صالحين، قال سبحانه: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)(لأعراف: الآية56) وقال سبحانه: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)
متفقون لا مختلفون:
نحن اليوم أكثر من أي وقت مضى توحيداً ووحدة واتحاداً، متفقون لا مختلفون ، متحابون لا متباغضون، مؤتلفون لا متفرقون، الله ربنا، محمد رسولنا، الإسلام ديننا ، الكعبة قبلتنا، الشريعة دستورنا، ولي أمرنا منا، نسدده وندعو له وننصحه ونطيعه، في طاعة الله، ولا نخرج عليه، نجمع ولا نفرق، نوحد ولا نشتت، نبشر ولا نفرق، نيسر ولا نعسر، نتوسط ولا نتطرف، نعتدل ولا نغلو، )يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ )(النساء: الآية171) ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(الحج: الآية78).
والله ما أبطنا غير ما أظهرنا ، ولا أسررنا غير ما أعلنا ولا أخفينا غير ما أبدينا، لأننا لسنا في بلادنا بحاجة إلي العمل السري ، ولباس الأقنعة والاختفاء في الظل، والتستر في الظلام، الذي نقوله في المجلس نعلنه في المسجد، والتستر في الظلام، والذي ندعو له في المحاضرة نذيعه في التلفاز، وهو منهج الإسلام، ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:45/46) .(/7)
منهج خطا.. ومسلك خطير:
ماذا كسب الذين حملوا السلاح في مجتمعاتهم بغير حق ولا جهاد مشروع؟ لقد حكموا علي أنفسهم بالإعدام، وعلي دعوتهم بالموت، وعلي رسالتهم بالانتحار ، هل اهتدي علي أيديهم ضال؟ هل تاب بدعوتهم عاص؟ هل رجع بدروسهم مبتدع؟ هل أسلم علي مؤلفاتهم أحدا؟ لا ، بل خاف منهم القريب قبل البعيد، وشك فيهم الصديق قبل العدو، وحذر منهم العالم، ولم يستفد منهم الجاهل، ونبذهم المجتمع، ووقفت ضدهم الأمة، )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:204/205).
بدل أن يتألف غير المسلمين بحسن الضيافة، والدعوة بالتي هي أحسن للدخول في هذا الدين، يبيتون بالقنابل ، ويمسون بالرصاص، ويقدم لهم الموت علي أطباق العنف والجهل، أين نحن من وقل الله تعالي: ) وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا )(البقرة: الآية83) وقال تعالي: (ِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: الآية125)، وإنني من هذا المقام أدعو المسؤول ، والعالم، والداعية، لفتح باب الحوار، والسماع من المخالف برحابة صدر، وسعة بال، حتى نعذر إلي الله ، ولا يبقي لمخالف حجة، فنحن أهل الدليل والبرهان والمنطق السليم، وأقول لمن حمل السلاح علينا، وعلي مجتمعنا: ويلك من الله، أما سمعت قول الرسول صلي الله عليه وسلم : (( من حمل علينا السلاح فليس منا)). وقوله صلي الله عليه وسلم: (( من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جمعكم، فأضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)).
إن أخطر ما يكون انشقاق المجتمع السعودي، وهذا الانشقاق يساهم فيه فئتان:
الفئة الأولي: أهل التفجير والتكفير الذين يعبثون بالأمن.
الفئة الثانية: المستغربون الذين يدينون مؤسسات المجتمع، ومدارسه، ومناهجة، ورجالاته فيجب إيقاف هؤلاء وهؤلاء؛ حفاظاً علي وحدة المجتمع وانسجامه، وإن مجتمعنا لا يصلح إلا بالدعوة الإسلامية الراشدة القائمة علي الوسطية التي كان عليها رسولنا صلي الله علينا وسلم، والحل هو: تدعيم وتقرير المناهج الوسطية المعتدلة، والطرح الإعلامي الوسط ، وإيقاف جميع صور الاستفزاز للجميع سواء من الغلاة المارقين، أو المنحرفين المغرضين، فدين الله وسط بين الفئتين، قال شيخ الإسلام في (( الوصية الكبرى)).: (( دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله ما أمر عباده بأمر إلا أعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط أو تفريط، وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه قد اعترض الشيطان كثيراً ممن ينتسب إليه حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأروعها عنه)).
هل نحن في حاجة لاستفزاز أمم أقوي منا سلاحاً، وعدة وعتاداً؟ لماذا يتحرش بعضنا بقوي عالمية تفتعل الذرائع والأسباب للاستيلاء علي خيرات الشعوب، ومقدرات الأمم؟ هل من العقل والحكمة أن تأتي وأنت ضعيف أعزل إلي قوي جبار يحمل بيده رشاشاً ، وتطلب منه المنازلة، إن الفرق المبعثرة لا تصنع نصراً ، ولا تحقق هدفاً، وإن العصابات بلا قيادة لا تقطف ثمرة، ولا تنال نجاحاً ، وإن العمل في السراديب لا يبني أمة، ولا يقيم حضارة:
فقل للعيون الرمد للشمس أعين
تراها بحق في مغيب ومطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
لا للفتنة:
مما ندين الله به تحريم سفك الدماء المحرمة تحت أي تأويل، فنؤكد علي كافة المسلمين من أهل هذا البلد، أو من دخله أنه يحرم نشر الفتنة، وسفك الدم بالتأويل ، وليعلم أن من الجناية علي المسلمين جرهم إلي مواجهات ليسوا مؤهلين لتحملها، وتوسيع رقعة الحرب بحيث تصبح بلاد المسلمين الآمنة ميداناً لها، ولذا فلابد من تدبر عواقب الأمور ونتائج الأعمال وآثارها، والموزانة بين المصالح والمفاسد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها علي تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويري ذلك من الورع)). ( مجموع الفتاوى 20/54،10/514)، وذكر العز بن عبد السلام في (( قواعد الأحكام)) (8): (( إن مصالح الدنيا ومفاسدها تعرف بالضرورة والتجربة والعادة والظن المعتبر، وإن من أراد أن يعرف المصلحة والمفسدة فليعرض ذلك علي عقله ثم يبني عليه الحكم ، ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان من باب التعبد المحض)).(/8)
وليعلم أن تحقيق الأمن أخص مقاصد المرسلين، وفي قول الله عن الخليل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (ابراهيم:35) ، دليل ظاهر علي أن المجتمع المستقر الآمن هو الميدان الفاضل لانتشار دعوة التوحيد ورسوخها.
والله لقد كنا قبل هذا الاجتماع علي دولة التوحيد في نزاع وانقطاع، وقتال وجدال، وشقاق وعدم اتفاق، وسلب ونهب، وسفك وفتك، ودمار وشنار، ثم اجتمعنا علي ائتلاف فريد، علي وحدة وتوحيد ، منائر ومنابر، جوامع وجامعات، محافل ومؤسسات ، معامل وجمعيات، أخوة ووفاق ، محبة وعناق:
فالذئب والشاة في الدنيا قد اصطلحا
لا الذئب يعدو، ولا شاة الحمى تجف
كأنما نحن في عيد تعانقنا
أرواحنا أو كأن الخلد يزدلف
وصايا العقلاء:
هذه عشر توصيات لمواجهة الأزمة:
1- قيام العلماء والدعاة بدورهم في توعية الشباب ورعايتهم.
2- تحمل وسائل الإعلام مسئوليتها في الخطاب الراشد الواعي.
3- رعاية الآباء لأبنائهم بالتربية، وكذلك الأساتذة.
4- فتح باب الحوار علي مصراعيه من قبل المسؤول والعالم.
5- ترك استفزاز الناس في دينهم، وحماية المؤسسات الدينية.
6- تقوية المنهج الوسط ، وإفساح المجال له، ودعمه، وتأييده.
7- تأليف الرسائل والنشرات، والأشرطة التي تحذر من الإفراط والتفريط.
8- أخذ العبرة مما وقع في بعض البلدان التي عصف بها الغلو والانحراف.
9- إدراك مسؤولية المحافظة علي لحمة الوطن، وحفظ أمنه.
10- تصور الحال لو انفلت حبل الأمن ، وأصبح الأمر فوضى.
إلا السعودية:
دنت الساعة وانشق القمر
وفؤادي من هموم مستعر
ما لقلبي كلما سكنته
كاد من حر لظاه ينفجر
قلت يا قلب أما ترفق بي
مرة تغلي ويوماً تستقر؟
قال شوقي عارم أكتمه
ضج بالتبربج من ذاك الضجر
قلت من يطفئه يا خافقي
روض زهر أم نخيل أم نهر؟
قال كلا فالبساتين التي
طرزت بالحسن شيء قد عبر
قلت فارحل في البراري منشداً
أو فسافر آه ما أحلي السفر!
قال في أي بلاد دلني؟
قلت روما أو أثينا أو كنر
أو ضفاف الران أو أرض المها
أرض شيراز ومغني يزدجر
أو ربي سنجار أو أرض مخا
أو مغاني إرم ذات الصور
قال كلا كلها لا تشتهى
السعودية قصدي والوطر
مهبط الوحي وآيات الهدي
والرسول المصطفي خير البشر
والصحاري العفر والجو البهي
وفيافي الصيد والشاطي الأغر
وجزامى مسكها ينعشني
ورمال مثل حبات الدرر
ونخيل باسفات وسنا
لونه الفضي من وجه القمر
وزلال الماء من نبع الصفا
لؤلؤ فوق المرايا منتثر
وهضاب بالرياحين زهت
يقطر الآسي علي خد الحجر
وطيور راقصات في الربى
هذه تنشد أم تتلو السور؟!
وشباب صالح متقد
جده سعد وزيد وعمر
ونساء قانتات للهدي
اسلمي يا دارنا من كل شر
ابتهال:
يا رب فرج همنا، أمن خائفنا، أصلح حالنا، اشرح بالنا ، قو حبالنا، اهد ضالنا، اجمع كلمتنا، وحد فرقتنا، وفق أمتنا، أصلح ولاتنا، أيد علماءنا، احفظ أبناءنا، ارفع أعلامنا، ثبت أقدامنا، سدد سهامنا، أرشد جاهلنا، اشف مبتلانا، ارحم أمواتنا، قو عزائمنا، لم شعثنا، اجمع شملنا، احمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، جنبنا المحن، أمنا في الوطن، شافنا في البدن.
اللهم اغفر الخطيئة ، واجبر الكسر، وأقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز عن الخطأ ، واحلم علي المذنب، وارحم الميت، وأصلح الحي.
اللهم آمن روعتنا، واستر عوراتنا ، ونسألك عيش السعداء، ومرافقة الأنبياء، ومصاحبة الأولياء.
اللهم أحفظ الدار، ونجنا من النار، وجنبنا الدمار، يا عزيز يا غفار، يمن كتابنا، يسر حسابنا، أجزل ثوابنا، سدد جوابنا، ارحم الدموع ، اقبل الركوع، تقبل الخشوع ، ارحم الركع، احفظ الرضع، اعط الرتع، وفق المقيم والمودع، لا نخاف وأنت ربنا، لا نحزن وأنت ولينا، لا نهزم وأنت ناصرنا، لا نذل وأنت معنا، لا نبأس وأنت ملجؤنا، لا نقلق وأنت ملاذنا، لا نهتم وأنت عضدنا، لا نفتقر وأنت رازقنا ، لا خيب وأنت مقصدنا، لا نعث وأنت عزنا، لا نهضم وأنت معنا، عليك توكلنا، إليك أنبنا، منك سألنا ، بك استعنا، لديك أنحنا، عندك وقفنا، لك أسلمنا، بك آمنا، فيك خاصمنا، إليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا، وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، عندك القوة إذا ضعفاء، عندك العز إذا ذللنا، عندك الغني إذا عندك الشفاء إذا مرضنا، عندك الهدي إذا ضللنا ، عندك السرور إذا حزنا، لك العظمة والكبرياء ، لك المجد والعلياء، عز جاهك ، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت ، وصلي الله وسلم علي نبيه ومصطفاه وآله وصحبه ومن والاه(/9)
حتى لا نفقد التوازن مع أحداث العراق
الخطبة الأولى
الحمد لله الآخر الأول، الذي لا يزول ملكه ولا يتحول، صرف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة ومهلك الأمم المخالفة، لم يمنعهم منه ما اتخذوه معقلا وحرزا، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، بتقديره النفع والضر وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين، المنزل عليه نبأ القرون الاولين، سيد العرب والعجم، المبعوث إلى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظلم،
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21} المجادلة
عباد الله:
ها هي القوات الصليبية الغازية لا زالت تحاول بكل شكل، إنزال الهزيمة بالعراق، وقد فقدت صوابها وبدأت في التدمير والتقتيل بصورة همجية وحشية، بعد ما رأت من قوة التصدي التي أبداها العراقييون، وبعد أن شعرت بشيء من الإخفاق في تحقيق أهدافها في الأيام الأولى التي وعدت من قبل بأنها ستنهي هذه الحرب خلالها، وهاهم إخوان لنا يواجهون آلة حربية مدمرة فتاكة، نسأل الله جل وعلا أن ينزل بها الهزيمة الماحقة، وأن يردها على أدبارها، وأن يكشف ظهورها للمسلمين، وأن يجعل من آلتها وعددها، وعدتها غنيمة للمسلمين.
دك العراق بذنب غير مقترف.......... وأصعر الخصم خديه من الصلفِ
فيا عراق دموع الحزن نسكبها ........ على ثراك بدمع هاطل وكفِ
وياعراق بديع الشعر نُنشده .......... على رباك بلحنٍ والهٍ أسفِ
وياعراق حشود الساخطين مشوا....... وأضربوا عن لذيذ النوم في الغرفِ
فهل ترى ياعراق الحزنَ نجدُتنا.......... وهل ترى حزننا في النائبات يفي
قال العراق وقد جفت محاجره ....... ياضيعة العمر خاب الظن في الخلف
يامسلمون دموع الحزن لو بلغت..... هام السماء فلن تحمي حمى شرفي
يامسلمون خطيب العرب قد رقصت....... على صدى قوله الغيداء في هيفِ
يامسلمون قوافي الشعر لو جمعت ......... في ألف ملحمةٍ لن ينطفي لهفي
عباد الله: ونحن نعيش قلب المعركة، لا بد لنا من التنبه إلى منعطفات خطبرة تمر بنا، علينا أن نحذر منها حتى لا نفقد التوازن الذي يبحر بنا إلى شاطئ آمن في هذه المعامع، وإليكم عباد الله هذه النصائح التي تحفظ توازننا بين طرفين في العلم والعمل:
النصيحة الأولى
حذار ثم حذار يا عباد الله من تعميم الأحكام على طوائف المسلمين من أهل السنة، سواء كانت تلك الطوائف تنتمي إلى بلدان معينة، أو إلى أصول معينة.
وأعني بالتعميم هذا أن نسحب حكمًا واحداً على فئات هذه الطائفة كلها، صغيرها وكبيرها، ذكرها وأنثاها، بسبب خطأ بعض أفرادها أو حتى كثير من أفرادها.
عباد الله: ومن أمثلة هذا التعميم أن يقول القائل بعد أن رأى أن دولة الكويت مثلا فتحت أرضها وأحلت سماءها للمعتدي الأجنبي حتى ينطلق منها في إهلاك المسلمين، حيث لا خيانةَ أعظم من هذه الخيانة، ولا جرم أبلغ من هذا الجرم، إذ هي مظاهرة للكفار على المسلمين، وقد عد العلماء مظاهرة الكافر على المسلم كفر مخرج من الملة، قال الله جل وعلا (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا {139}
وقال جل من قائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ {52}
قال ابن جرير الطبري (لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برىء من الله وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. "إلا أن تتقوا منهم تقاة " : إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل) والآيات في حكم المظاهرة متواردة، وكلام أهل العلم أكثر من أن يحصى.(/1)
عباد الله فلو قال قائل مثلا: الكويتيون كلهم خونة، أو الكويتوين أولياء الصليبين، أو الكويتيون أعداء لله أو نحو ذلك، فهذا التعميم حكم جائر، وذنب عظيم، ويزداد جرم هذا الفعل إذا بنى عليه صاحبه أحكاما دنيوية أخرى، كأن يبغض كلّ من كان كويتيا، أو يعاديه ونحو ذلك.
أيها المؤمنون: نحن نعلم والكل يعلم أن الكويتين ليسوا كلهم كذلك، فمنهم المجاهدون الصادقون الذين ضحوا بأموالهم، وأهلهم، ودمائهم وكل ما يملكون في سبيل الله جل وعلا، فهل ينطبق على مثل هؤلاء ينطبق عليهم ذلك التعميم الجائر؟
أيها المسلمون : و نعلم كذلك، والجميع مثل ذلك يعلم أن من الكويتين من هم أصحاب علم ودعوة، جهروا بكلمة الحق، ولم يخشوا في الله لومة لائم، مع أنهم في أحرج المواقف وأصعبها، فهم يسبحون في عكس تيار بلادهم، بل قد يتهمون بالخيانة والتواطء مع العدو بسبب هذه المواقف الجريئة الشجاعة في هذه المحنة.
ومثل هذه الحال أيها الإخوة تنطبق على الشعب الكردي المسلم، ذلك الشعب الذي أخرج يوما من الأيام قاهر الصليبين وداحر المعتدين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
نحن نرى ويرى الجميع خيانة جماعات كردية تعيش في شمال العراق، ونرى تواطئها القذر مع الولايات المتحدة الأمريكية لذبح العراق وإحكام السيطرة عليه من الشمال والجنوب لخنقه وإزهاق روحه، خابوا وخسروا.
لكننا نعلم يا عباد الله: أن الأكراد ليسوا كلهم كذلك، ففيهم طوائف مجاهدة، ظاهرة على الحق، تدافع عن بيضة الإسلام، بل نرى منهم طوائف تقاتل خونة الأكراد، وتحاول دفع شرهم ومنع خطرهم حتى يأتي الله بفرجه.
أيها المؤمنون: وحينما نتحدث عن تعميم الأحكام على طائفة معينة، لا ينبغي أبدا أن نقصر هذا المنع على الأحكام السالبة، بل تعميم الأحكام سلبا وإيجابا أمر خاطئ، فتعميم الأحكام الموجبة كتعميم الأحكام السالبة أمر مخالف للشرع والعقل، وذلك كأن يمتدح الإنسان أهل بلد معين، ويعمم حكم المدح عليهم جميعا، فمثلا نحن نرى العراقيين في هذه الأيام يقاومون الغازي المعتدي، ويقدمون كل يوم شهداء أو قتلى، ونرى هذا الشعب يتضرج بدمائه كل يوم بل كل ساعة، فهل كل العراقييين هكذا؟ هل كل العراقيين يضحون بأنفسهم من أجل مقاومة الصائل الذي اعتدى على بلادهم؟ هل كل العراقيين أهل نخوة وشرف وإباء، يرفضون الضيم، ويأبون الذل؟
لقد شاهدنا، وشاهد الجميع يا عباد الله ثللا من خونة العراقيين لا سيما أولئك الذين تلقوا تدريبات في معسكرات أجنبية على خيانة بلادهم وأهلهم، ولا نستبعد أيضا أن يظهر خونة ممن يعيشون في العراق نفسها.
عباد الله: تعميم الأحكام بهذه الصورة مصيبة ابتلي بها المسلمون في هذه الأيام، ففرقت وحدتهم، وزرعت الأحقاد فيما بينهم، وولدت في صفوفهم نزاعات سرطانية خبيثة، استفحلت حتى صعب علاجها، هذا التعميم من شأنه أن يزيدنا فرقة فوق الفرقة، ويزيدَنا وهنا في وقت نحن أحوج ما نكون إلى توحيد الصف، ولملمة القوى.
أيها المؤمنون: هذا التعميم بهذه الصورة يتضمن الظلم والبغي، وهو من أعظم ما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ثبت في الحديث القدسي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ: قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) رواه مسلم
قال أبو الليث السمرقندي: "ليس شيء من الذنوب أعظمَ من الظلم، لأن الذنب إذا كان بينك وبين الله تعالى فإنّ الله تعالى كريم يتجاوز عنك، فإذا كان الذنب بينك وبين العباد فلا حيلة لك سوى رضا الخصم، فينبغي للظالم أن يتوب من الظلم ويتحلّل من المظلوم في الدنيا، فإذا لم يقدر عليه فينبغي أن يستغفر له، ويدعو له فإنه يُرجى أن يحلّله بذلك"
أيها المؤمنون: إن من أسباب تعميم الأحكام هذا، ذلك الوثن المنتن الذي عبده كثير من الناس من دون الله جل وعلا، إنه وثن القومية والعصيبية للعرق والبلد.
في مسند الإمام أحمد وغيره عن الحارث ابن الحارث الأشعري أن النبي e قال (و من دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم، أو حثاء -وفي بعض الروايات من جمر جهنم- و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله) ( )
يجب علينا أيها المسلمون أن نوازن بين بغضنا لتصرفات أفراد أو طوائف معينين وقفوا موقفا مخزياً ينتمون إلى بلد أو قبيلة، وبين تعميمنا حكم البغض وتوابعَه لجميع أفراد ذلك البلد و تلك القبيلة.(/2)
فكل إنسان يعامل بحسب ما صدر منه لا ما صدر من غيره، يعامل بذلك وفق الشريعة الإسلامية، لا وفق عواطفنا المندفعة والمنعتقة من أوامر الشريعة، قال الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {8} المائدة
النصيحة الثانية:
عباد الله: نحن نشاهد بأم أعيننا راعية الظلم والإرهاب وربيبتها بريطانيا تفتك بهذا البلد المسلم، وتحاول جاهدة تدمير أكبر قدر من بنيته التحتية، وهاهي تسفك دماء مئات الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ دون أن يردعها عن إراقة هذه الدماء رادع، وقد شاهدنها من قبل كيف فعلت في أفغانستان، ونحن نصحوا كل يوم، ونغفوا على مشاهد الظلم الصارخ والقتل الفظيع، والتدمير والقهر الذي يجري على إخواننا في فلسطين على يد أبغض الخلق، وأحقر البشر إن كانوا من سلالة البشر أصلا، اليهود الصهاينة، وبغطاء أمريكي متطرف.
نصبح على صور جديدة من الهنجهية الأمريكية، ونضحي على غطرسة نتنة، ونتجرع غصص الحنظل بدل أن نأكل الطعام الشهي حينما نشاهد الحقير بوش يتحدث بكل استعلاء ووقاحة، منتفشا كالطاوس ومتبخترا كقارون.
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إلا الصَّابِرُونَ {80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص
ثم نشاهد من جهة أخرى وقاحة منقطعة النظير من قادة البلاد الإسلامية، فقد تعاون بعضهم علانية مع مصاصي الدماء من أجل مزيد من القتل والتدمير، وكان للبعض الآخر شيء من الخجل فتعاون مع المعتدي سرًا ومن وراء الكواليس، ووالله ما هو بخجل بل هو مرود على النفاق، وطعن في الظهر، ومظاهرة سافرة للكافر على المسلم، نسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن ينتقم لجراحات المسلمين منهم.
ومن سلم من التعاون بشتى صوره فقد ألجم الحجارة في فهمه، وصمت عن قول الحق، فهو شيطان أخرس، فخذل المسلمين، وأصابهم في مقتل.
ثم نشاهد يا عباد الله بعد هذا كله: الرئيس العراقي وقد ظهر في مظهر البطل الذي يقاوم هذه الغطرسة الأمريكية، ويقف بكل صلابة متحديا آلتها المدمرة، وتصوره أمريكا أنه عدوها الأول، وخصمها الكبير.
بعد كل هذا نندفع بعواطفنا التي تأججت بكره الظلم الأمريكي، والمحبطة من صنيع قادتنا، إلى حب الرئيس العراقي، ونظامه، ورجاله.
ثم لا نلبث بعد ذلك أن نتحيل بكل وسيلة لإقناع أنفسنا بأنه البطل المغوار، والمجاهد البطل، والرجل الشهم، وربما الصادق المجاهد الذي وقف حينما ركع الباقون، وصمد حين انخنس الجبناء.
عباد الله: علينا الحذر كل الحذر من فقدان التوازن بهذه الصورة في هذا المزلق الخطير، فبغضنا لأمريكا وظلمها لا يعني أبدا حبنا لصدام ونظامه.
إن القاعدة التي تقول عدو عدوي صديقي، والتي يبني عليها كثير من الناس ولائاتهم شعروا أو لم يشعروا، خاطئة، وخاطئة جدا.
إن المسلم متوازن في جميع الأحوال، متماسكٌ حتى في أوقات الفتن، لا يحمله الهوى، ولا تجرفه العاطفة، يزن الأمور بميزان الشرع.
إن ولاء المسلم وبراءه، وحبه وبغضه مبني على قاعدة الشرع الحكيم، فيحب من أطاع الله وسار في مرضاته كائنا من كان، ويبغض من حارب الله وعاداه ولو كان من أقرب المقربين، ولو ظهر على أنه البطل المغوار، والفارس الكرار.
لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22}
الخطبة الثانية(/3)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله القوي المتين، الحمد لله الذي أعز عباده المؤمنين، الحمد لله الذي وعد عباده بالنصر والتمكين، وتوعد الكفار بالعذاب المهين.
والصلاة والسلام على النبي الأمين، المبعوث رحمة للعاملين، وحجة على المعاندين، ونكالا على الجاحدين
والصلاة والسلام على الغر الميامين، خير المجاهدين، الذين حملوا راية هذا الدين، وعلى من تبعهم من السابقين، من الأولين والآخرين.
وبعد، أما النصيحة الثالثة:
النصيحة الثالثة:
فيا أمة الإسلام: ويا عباد الله: نحن وإن كنا نعلنها صريحة أن بغضنا لأمريكا لا يعني أبدا حبنا لصدام البعث، فإننا يجب كذلك أن نكون متوازنين في طرحنا لهذه القضية في هذه الأيام العصيبة.
نحن نعيش أيها المؤمنون أياما عصيبة، لها ما بعدها، تكالبت قوى الشر على غزو المسلمين، واتحدت على اختلافها، وتضافرت على كل التنافر بينها، هذا الرئيس الروسي سيء الطلعة والذكر يصرح اليوم الجمعة، بعد أن صرح مفتى المسلمين في روسيا بضرورة جهاد الأمريكان يصرح بأنه لن يسمح للعواطف المندفعة من التأثير على علاقة الصداقة التي تربط بين أمريكا وروسيا، وهاهو الاتحاد الأوربي في لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي اليوم لم يطالب ولو لمجرد المطالبة الولايات المتحدة الأمريكية بإيقاف الحرب، كل ما فعله أن تمنى أن تنتهي الحرب في أسرع وقت، بل إنه أعلنها صريحة مدوية أنه يتمنى أن يكون النصر حليف الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا التكالب والتآزر على حرب المسلمين، يوجب علينا نحن أن نتآزر ونتكاتف، والله جل وعلا قال (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)
لست هنا بصدد الحديث عن ضرورة الوحدة الإسلامية فهذا موضوع يطول، والحديث عنه أشهر من أن يذكر به، لكنني هنا أشير إلى أمر هام جدا، وهو أننا يجب أن لا نثير دواعي الفرقة في الصف الذي يقف ضد العدوان الأمريكي، فمصلحة دفع الكافر الصائل المعتدي على بلاد المسلمين أعظم من مصلحة بيان انحراف بعض الذين تخندقوا مع المسلمين في صف واحد ضد هذا الكافر الذي لن يكتفي باجتياح تلك البلدة، ولكنه سيجتاحها، وسيجتاح معها مأزر الإسلام ومهبط الوحي، و أرض الرسالة.
عباد الله: إننا ونحن نقول أنه يجب علينا أن لا يدفعنا بغض أمريكا واعتدائها إلى حب صدام وعقيدته، فإننا نتحدث عما يعقد عليه القلب من ولاء وبراء، وحب وبغض، لكن العمل بقانون المصلحة والمفسدة الذي أقرته الشريعة إقرارا ماله مثيل، يوجب علينا النظر بكل روية وتعقل قبل الحديث عما من شأنه أن يثير الخلاف بين المدافعين عن بيضة العراق، ويمزق صفهم ويوهن وحدتهم.
نحن نعلم يا عباد الله أنه يشترك في الدفاع عن العراق في هذه الأيام البعثي والسني والشيعي، ونحن أول من يكره البعث والشيعة ويحذر منهم، لكن ينبغي أن نكون حذرين، فبغضنا للبعث وللشيعة لا يجوز بحال من الأحوال أن يحركنا لإثارتهم ضدنا وشق الصف في هذه المعركة المصيرية.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك
ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك
ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا
اللهم بأسماعنا و أبصارنا وقوتنا ما أحييتنا
واجعله الوارث منا
واجعل ثأرنا على من ظلمنا
اللهم انصرنا على من عادانا
ولا تجعل مصيبتنا في ديننا
ولا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا
اللهم إنا نسألك أن تذل الشرك وأهله، اللهم إنا نسألك أن تحفظ إخواننا المسلمين من أهل العراق
اللهم إنا نسألك أن تضرب الظالمين بالظالمين وأن تخرج المسلمين الصادقين من بينهم سالمين غانمين.
اللهم أنا نسألك أن تشدد وطأتك على هذه الدولة الظالمة ومن عاونها
اللهم سلط عليها سيف انتقامك
اللهم اقذف في قلوب جنودها الرعب، واجعلهم يولون مدبرين آمين، آمين يارب العالمين
هيثم بن جواد الحداد(/4)
حتى لا ننسى رسول الله
أتذكر تلك الرسوم التي أساءت لنبيك صلى الله عليه وسلم؟
أتذكر غضبة العالم الإسلامي كله من الشرق والغرب؟
أتذكر حماسك عندها وكيف كنت على استعداد لبذل الغالي والنفيس من أجله صلى الله عليه وسلم ؟
هل تذكر كل هذا أم أن الدنيا استطاعت أن تشغلك في متاهاتها الكثيرة التي لا تعد؟
كنا قد تكلمنا عن هذه الأحداث في مرة سابقة وقلنا إن ما حدث للمسلمين كان بسبب المسلمين أنفسهم والضعف الشديد الذي أصابهم.
كما قلنا أن أهم الأسباب هي عدم احترام المسلمين أنفسهم لنبيهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم وإذا رغبت في قراءة المقال الخاص بهذا الموضوع اضغط هنا
فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا ؟]
حسنا ما الداعي لفتح هذا الموضوع من جديد؟
السبب الذي دعانا إلى فتح الموضوع مرة أخرى أن هذا الموضوع يختلف عن أي موضوع أثير ضد المسلمين في الماضي كان أي موضوع يأخذ نشوة من الحماس ثم يفتر الحماس وتعود الأمور مرة أخرى إلى ما كانت عليه قبل ذلك وهذه عادتنا التي ألفناها منذ أمد بعيد.
ولكن كما قلنا فإن الموقف يختلف هذه المرة فليس لنا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كرامة ولا عزة, ولذلك أحببت أن أذكر أحبائي بما حدث حتى لا يمر الموضوع مر الكرام ....
ما أخبار المقاطعة؟
ما أخبار رسائل الاحتجاجات؟
ثم أخيًرا ما أخبار احترامنا للنبي صلى الله عليه وسلم؟
هل فعلاً التزمنا بسنته واقتفينا أثره؟
أيها الأحبة الأمر لا زال خطيرًا وأعداء الأمة لن يتوقفوا عند هذا الحد بدليل أن العديد من الصحف الأوروبية أعادت نشر الصور المسيئة مرة أخرى على الرغم من احتجاجات المسلمين في كل مكان بل ونشرتها على موقعها على الإنترنت بلا خوف أو حياء.
المشكلة فينا أيها الأحبة أنا وأنت وهو وهي, ووالله لم يتجرأ هؤلاء الناس على نبينا إلا بعد أن رأوا من المسلمين ذلك التجرؤ من قبل.
إن سنن الله أيها الأحبة لا تحابي أحدًا على أحد بل تسير كما أحكمها الله عز وجل فهو القائل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [11] سورة الرعد.
قال صاحب الظلال رحمه الله في تفسيره لهذه الآية:
'فإنه لا يغير نعمة أو بؤسًا, ولا يغير عزًا أو ذلة, ولا يغير مكانة أو مهانة . . . إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم, ويجيء لاحقًا له في الزمان بالقياس إليهم'.
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [53] سورة الأنفال.
إذن أيها الأحبة السنن لا تحابي أحدًا
قال صلى الله عليه وسلم: 'إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم'.
انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترجعوا إلى دينكم!!
إنه كعادته صلى الله عليه وسلم يصف الدواء في كلمات بسيطة معبرة لا تحتاج لجهد كبير لكي نفهمها.
هذا هو الطريق الصحيح أيها الأحبة وكل ما عداه وسائل مساعدة أو مسكنات للجسد المريض, فالمؤتمرات والمقاطعة والاحتجاجات والمظاهرات كلها وسائل جيدة ومفيدة ولكن الأهم هو العمل على استئصال المرض من أساسه عن طريق الطبيب المختص الذي يعرف الداء جيدًا والذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم.
أخي في الله ......... ألا يستحق منك النبي صلى الله عليه وسلم اهتمامًا أكثر؟
هل ستنتظر حتى تصل الإساءة إلى الله عز وجل؟
أما تخشى أن تقابل النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فيسألك ماذا فعلت لنصرتي في الدنيا؟
لقد امتلأ قلبي بالسعادة مثل الجميع عندما علمت أن أكبر موقع غنائي على مستوى العالم العربي قد أعلن توبته من الغناء وتحويل الموقع إلى موقع إسلامي.
عندها شعرت أن هذه الأمة لا زالت بخير وأننا قادرون نحن الشباب على أن ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا على الرغم من صعوبة ذلك في العصر الحديث.
وعندها أيضا تمنيت أن يعلم الجميع مثلي هذا الخبر السعيد حتى يتأكد الجميع أن العودة إلى الله ليست من الصعوبة بمكان ولكن على من يسر الله عليه.
أخي الحبيب أما آن الأوان أن تعود أنت أيضًا نصرة لنبيك الذي سيشفع لك يوم القيامة بإذن الله؟
الطريق أمامك أخي الحبيب والله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
فهيا بنا جميعًا نهب لنصرة نبينا صلى الله عليه وسلم ونغيظ أعداء الله في كل مكان(/1)
حتى لا ننسى...جون قرنق الوجه الآخر
وليد الطيب*
تسابقت أقلام الكُتاب في الخرطوم في تمجيد د. جون قرنق في ذكرى وفاته الأولى، وكانت الصورة التي ترسمها تلك الأقلام حسناء لا تُضاهى في جمالها، بيضاء لا يخالط السواد بريقها، وهذا التمجيد هو عادة سودانية صميمة؛ فما زال السودانيون يمارسون السياسية والكتابة بسودانييتهم؛ حتى إنها لتغلب المهنية والموضوعية أحيانا كثيرة، وهذه العادة يتساوى فيها (الهِتِّيفة) في الأسواق مع الكُتّاب في منابر التنوير والتوجيه؛ كما سمعنا ونحن أطفال (الجنيه أبو عمة شرطوه؛ سوّى ليّ الحمى قطعوه.. يا بثينة حمارك عينة).. ولم تمض سنوات قلائل حتى خرج ذات الهِتِّيفة يصرخون: (عائد عائد يا نميري)!!؛ كما خرج أسلافهم بالأمس: (ضيعناك يا عبود، ضيعناك وضعنا معاك)!!..
فما من سياسي كتب إلا وذكر موقفا طريفا لقرنق تشرف بحضوره، أو كان أحد أبطاله؛ وكأن ذلك جواز مرور، وشهادة حسن سير وسلوك!!؛ وهل جهل السودانيون أن النكتة (القرنية) - نسبة إلى قرنق - ما هي إلا أسلوب من أساليب خداعة التاريخية!!..
وحتى لا يزعم زاعم أننا نفتري عليه فهو نفسه يعترف بذلك؛ كما في سرده لتخطيطه للتمرد أن كان طوال الشهور السابقة للتمرد يتقرب من كبار الضباط بالنكتة المضحكة، والتعليق الساخر؛ مع تأدب، وحسن سيرة؛ حتى يعّمي بذلك على رجال الاستخبارات، ويسقط قيمتها عند الضباط الكبار بأن يقولوا: (جون دا ولد ظريف، وكويس؛ وما ممكن يعمل كدا)!!.. كما أوردت مجلة الزمن السودانية في سردها لتلك الأحداث.. فماذا يمنع قرنق أن يستخدم ذات الأسلوب مع مولانا محمد عثمان، والسيد الصادق، والأستاذ عبدالرسول النور القائد الفارس؛ ما دام السودانيون تخدرهم النكتة؟!..
* قرنق الذي لايرحم:
ما زالت دفاتر الثوار الجنوبيين تحفظ أسماء القادة الذين قضوا بأوامر من قرنق؛ رغم أن بعضهم من مؤسسي الحركة؛ فأين وليم نون الآن، وصموئيل قاي توت، ومارتن قاي، ووليم نيون يانق، ووليم شول دينق؟!..
وقد خاض قرنق حربا ضروسا؛ كما كتب د. مصعب الطيب في قراءات إفريقية العدد الأول ضد المجموعات العرقية التي تخالف الرأي؛ فقد قاتل النوير طوال الفترة من 1983-1989م، وحارب المورلى، والتبوسا، والمورو؛ حتى إن أحد أعضاء مجلس الشعب الإقليمي للجنوب - عقب توقيع اتفاقية أديس أبابا 1973م – قال: (قد قاتل السودانيون 50 عاما لإنهاء الاستعمار البريطاني، و17سنة للتحرر من هيمنة الشماليين، وسيحتاجون إلى 100 للتخلص من سيطرة قبيلة الدينكا)؛ التي وضعها عليهم قرنق، وظل قرنق يلقن تلاميذه التعاليم البربرية: (عليكم أن تعيشوا من أفواه بنادقكم، الغذاء والزوجة والممتلكات أين ما تجدونها فهي لكم)!!..
أما وأد طفولة الصبيان فقد قدمت الحركة الشعبية بقيادة قرنق أسوء النماذج له؛ فقد اختطفت الأطفال، وجندت الصغار في سنهم، وكلفتهم خوض حرب ضروس لا يدرون لماذا قامت؟ ولا إلى أيّ برٍّ سترسي؟!..
والحركة لا تستحيي أن تعلن تسريح أؤلئك الصغار الآن دون التزام سياسي وأخلاقي بتأهيلهم نفسيا لممارسة الحياة المدنية، وتعويضهم عن الحرمان من التعليم والصحة طوال تلك السنوات؛ ولكن لا أحد ينتصر لهؤلاء!!.. إلا أن نكات قرنق تعمي العيون عن الحقائق!!.. وإلا فما معنى الصمت عن اغتيال براءة أكثرمن خمسة آلاف طفل جندوا (استعبدوا) بواسطة الجيش الشعبي؟! وهل الثورات المطلبية تبرر هذه الجرائم الموجهة ضد الإنسانية؟!.. اللهم لا..
* قرنق مثير الفتنة:
يكرر أهل السودان الكلمة الحكيمة (الفتنة نائمة؛ لعن الله من أيقظها)، والفتنة كانت نائمة في دار فور ملء جفونها، وجاء قرنق وألّب بُولاد، ومدّه بالسلاح، وعلا صوت سلاح قرنق، وقواته أيقظت الفتنة في دارفور مذعورة؛ تأكل كل شيء أو تركته كالصريم؛ فخربت البيوت، وأفسدت إنسان دارفور؛ إنسان القرآن، وعرفت دارفور ولأول مرة اغتصاب النساء بفضل قرنق، وفقدت دارفور أكثر من ثلاثين ألف قتيل حسب تقديرات مناوي..
وفي الشرق كانت الفتنة نائمة وأيقظها قرنق..
والنيل الأزرق كان مطمئنا إلى قرار وجاء قرنق وأسمعه صوت الرصاص، وأذاقه طعم الموت والدمار.. ولك أن تحدث عن جبال النوبة، وأبييي
* ....... الذي دمر الجنوب:
بينما ينعم أبناء قرنق بالدراسة في أوربا يهيم أبناء الجنوب على وجوههم في شوارع رومبيك - مقر الحركة - الخربة، وعلى أحسن الأحوال ينزحون إلى الشمال الذي تقاتله الحركة؛ ليواجهوا واقعا مختلفا عما تركوه في الجنوب؛ حيث هنا توجد مدنية وحياة حديثة لم يألفوها في الجنوب، وهذا الوضع جعل حتى الصف الأول من الحركة لا يحسن التعامل مع السلطة؛ بل ولا يعرف أبسط مقومات الاتصال بها؛ ناهيك عن إدارتها.. كما في التقرير الذي نشرته رويترز: (هناك وزير لم يسبق له أن قرأ خبرا من ثلاثة أسطر طوال العشرين سنة الماضية - وهي سنوات تمرد قرنق - وقراءته لفقرة واحدة بصوت مسموع تحتاج إلى عشر دقائق)!!..(/1)
يقول عديل محمد موسى - الموظف بوزارة العدل بمدينة ملكال؛ والذي يجلس وحيدا محاطا بأكوام من الأوراق؛ تمنعه مشادات الجيران بسبب الغسيل من مزاولة عمله داخل كوخ متهالك يسمي مبني وزارة العدل - يقول عديل: (سنحتاج إلى الجنوبيين النازحين بالشمال، واللاجئين بالخارج، ولكن لن يعودوا!!.. لا يمكننا اجتذابهم؛ فإنه لا توجد منازل لائقة، وطرق معبدة، بل ولا مقاعد يجلسون عليها!!.. نريد أناسا يطورون الجنوب؛ ولن يعودوا إلا بعد إحداث التنمية!!.. ومع هذا الواقع المزري لا أدري كيف تحدث تنمية؟!.. إنها دائرة مفرغة!!.. ومشكلة التأهيل تواجه حتى أعضاء البرلمان الـ 48؛ حيث إن كثيرا منهم لم يعملوا في مؤسسة حكومية قط، وبعضهم أُمِّيٌّ؛ لا يحسن القراءة، ولا يجيد الكتابة؛ بل منهم من لم ير جهاز كمبيوتر طوال حياته)!!..
هل نسي السودانيون وعيد قرنق بأنه سيلقي بالعرب في الصحراء التي جاؤوا منها، أم أننا نعامله بقاعدة اذكروا محاسن موتاكم؛ التي على ضوءها جعله بعض الكتاب من عصافير الجنة البريئة!!.(/2)
حتى لا يتحول الحوار عن المسار!!
د.سعيد بن ناصر الغامديّ *
عناوين فرعية:
- الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي)
- فرق بين من يتخذ الإسلام فرصة لتثبيت كمال الإسلام وبين من ينظر إليه بمنظار غربي أو يقيسه بمقياس بنيوي أو أركوني أو صفوي أو طرقي .
- يجب التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة .
- يحدث الخلل عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية .
- ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية .
- عند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار .
- الغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة .
- المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) .
المتابع لمجريات الحوار الوطني يسمع كثيراً من الثناء والمدح، والتفاؤل وهذا ظاهرة صحية جيدة، لها آثارها الجيدة في تخفيف الاحتقان، وتفريغ الشحنات السلبية، بيد أن من المهم في تقديري - الالتفات إلى جوانب مهمة حتى يؤدي الحوار وما يليه من مشروعات نتائجه الإيجابية المتوخاة، يمكن الإشارة إلى جوانب مهمة، لا أدري هل ذكرت ونوقشت أو وضعت كضوابط ومعايير أم لا:
الجانب الأول : أحسب أن من الأهمية بمكان الاتفاق على معايير أساسية لتقييم الأقوال والأفعال والمواقف والمشروعات وأهم هذه المعايير في نظري أمران:
الأول:
معيار الحرص على حفظ حقيقة الإسلام وصورته - كما هي - من غير إضافات أهل " الإحداث"، ولا انتقاصات أهل " الحداثة" وأحلافهم، ولا تشويهات أهل الغلو، ولا تفلتتات أهل التفريط.
الثاني:
الحرص على المصالح العامة للوطن حرصاً ينأى عن كل وسيلة تؤدي إلى ما يفسد هذه المصالح أو يضعفها أو يقللها.
وتحت مظلة هذين المعيارين يمكن أن يتحاور العقلاء والحكماء بعقل وحكمة بعيداً عن تصفية الحسابات وتنفيس الضغائن.
فإن حصل ذلك فسوف نجد البرهان القاطع على جودة عقول المتحاورين وسلامتها من نوازع الشبهات التي تشوه جمال دين الإسلام وروعة عقائده وأصوله وتشريعاته، ونجد البرهان أيضاً على سلامة قلوبهم من الحظوظ الذاتية والأنانية الشخصية أو الفكرية أو الفئوية، مع الإقرار بأن كل طرف من الأطراف له هدفه (السياسي) المعلن أو المضمر، بيد أنه يجب وفق المعيارين السابقين دمج المطالب السياسية الخاصة في التيار المصلحي العام القائم أصلا على الثابتين السابقين.
الجانب الثاني: من المستفيض تاريخياً أنه لن يستقيم السلوك الإنساني حتى يستقم (الفكر) أولاً، فالفكر المنحرف ينبني عليه سلوك منحرف، والتفجيرات دليل ذلك، والفكر المستقيم ينتج سلوكاً مستقيماً.
فإن صح المنطلق الفكري ـ للحوار أو غيره ـ صح العمل والتصرف والإجراء المتخذ والنتائج المتوخاه. فمن تعامل مع الحوار على أساس أنه فرصة لتثبيت حقائق الإسلام وتجلية كلياته وترسيخ أصوله وإظهار كمال عدله وكمال تضمنه مصلحة البشرية، فسيكون سلوكه مغايراً لسلوك من يرى الإسلام بمنظار غربي، أو يقيسه بمقياس (بنيوي) أو (أركوني) أو (صفوي) أو (طرقي).
وقل مثل ذلك عن مصلحة البلد ومنافع الناس.
الجانب الثالث: الحذر من أن تفخخ مناوأة الإرهاب بأجندة التحالف (الطائفي الاستغرابي) فإن ذلك - إن حدث - سيؤدي في المستقبل إلى نار ذات (جو حار) وليس إلى (جو حوار) وقد تستفز هذه الأجندة الأغلبية التي ترى أن حقها قد هضم، لصالح آخرين، وقد يفسرون ذلك بأنه هجوم على (منابرهم) و (مناهجهم) واستخفاف (برموزهم وعلمائهم) وغير ذلك من مفردات، تتم ممارستها واقعيا تحت مظلة المتاح من فرص التعبير والحرية، ويخشى أن تتحول من وصفة دواء، إلى جرعة سم، وأن تصبح ملحاً يوضع على الجراح، فيكون الحال كمن أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً، ولا حاجة إلى التنبيه هنا إلى مزايدات متوقّعة تحاول أن تصف هذا التنبيه وأمثاله بالتحجر والخوف والتراجع، والجمود والطائفية والفئوية ومحاكمة النوايا، إلى آخر مفردات الردح المتداولة والمعهودة.
الجانب الرابع: التنبّه لمحاولات الذين يسعون إلى تحويل الأزمات إلى مكتسبات خاصة، فإن ذلك - وإن تستر بالمصلحة العامة والموضوعية التامة - سيقود حتماً إلى أزمات أشد ومشكلات أكبر، ومضاعفات، ربما أبشع مما نحن فيه الآن ، والمعيار الصحيح لكل عمل صالح نافع هو مراعاة مصالح الأمة وتحصينها وتكثيرها واستدامتها، وليس مراعاة مصالح فئة محدودة أو طائفة معينة، أو الانزلاق إلى مستنقعات ضيّقي الأهداف.(/1)
الجانب الخامس: يجب أن يدرك الجميع نسبة التوزيع الفكري والعقدي في هذه البلاد، حيث الأغلبية الكبيرة هم أهل السنة والجماعة، وهناك ثلاث طوائف عقدية ذات نسبة ضئيلة، كما أن هناك أفراد قلائل من أصحاب التوجهات الفكرية الحديثة (ليبراليون ، بقايا القومية ، واليسار ، عصرانيون) ومن المعروف أن حقوق الأغلبية في كل مكان في الدنيا غير حقوق الأقليات، ونتاج الاستقراء الموضوعي الفاحص لاضطرابات البلدان والمشاكل الداخلية فيها يشير إلى أن الخلل يحدث عندما تهضم الأغلبية حق الأقلية، أو عندما تحاول الأقلية فرض أفكارها ومشاريعها على الأغلبية، أو تسعى في النيل من مرتكزات ومنطلقات أكثرية الناس، أو يعلو صوتها الفئوي أو الطائفي وهيمنتها الإعلامية على صوت وحضور الأغلبية.
الجانب السادس: ينبغي عدم الانزلاق في الفرح بالضغط الخارجي لتحقيق مآرب داخلية، لأن مآل ذلك الوقوع في التحكمات الخارجية، ولو على المدى البعيد، ويبرهن على استلاب وانخزال واستعارة خطيرة العاقبة.
الجانب السابع: لا يمكن بحال القبول في الحوار بمنطق "الثأر" فالثأر عادة جاهلية، وعند ما تجد أحداً (من أي اتجاه كان) يمارس الثأر فهو في حلبة صراع وليس في ميدان حوار.
فعندما تحاول امرأة ما - مثلا - ممارسة شيء ما من السلوك الشخصي (الليبرالي) في أجواء الحوار ومناخاته تحت حجّة مقاومة الكبت، فهي تمارس "الثأر" من عادة اجتماعية ذات أصل ديني.
وقل مثل ذلك في التعاطي مع الأفكار والاتجاهات.
وقد لا تستطيع النية الحسنة أن تطفي نيران (الثأر) المتأججة في الألفاظ والسلوكيات.
ومن خير الحوار وأهله أن يلغي كلية مفهوم الثأر والانتقام لمخالفته للحوار أولاً، ولقدرته الهائلة على تأجيج ثأر مقابل.
الجانب الثامن: من الخطأ العظيم الاعتقاد بأن التخفيف من صيغ التديّن والتضييق على مفاهيم الإسلام وعلومه سبيل إلى مكافحة الإرهاب المستتر بالدين.
فإن هذا المسلك غير سوي ولا ذكي.
فالغلو في الدين لن يستأصل بالتخفيف من صيغ التديّن - كما يوصي بذلك الأمريكان ومن تأثر بهم - وإنما يعالج بترسيخ حقائق الإسلام الناصعة، في التوسط والاعتدال والتسامح والرفق والعدل والأناة وحقوق الإنسان وغيرها، وسوف يخطئ من يظن أن (تخفيفاً) لما يظنه (سمنة) إسلامية في المجتمع سيؤدي إلى استقرار.
لأن هذا المسلك المفتقر (للذكاء) سينشئ الإرهاب إنشاء، ويوقد نيرانه، ويمنح أصحابه الحجة القوية لمزيد من التطرف، ومزيد من العنف والدمار والشتات، تحت ذريعة أن الحوار ودعاته ورعاته إنما تصدو للدين نفسه تشذيباً وتقليصاً من خلال تقليل حظه في الإعلام والتعليم والثقافة، فحقيقة الصراع - حسب هذا المؤدي عندهم - ليس بين فئة معينة ودولة، بل بين الإسلام والدولة، فتعظم الفتنة ويشتد الخطر من حيث أردنا أن ندرأها.
ودرءاً للمقتنصين أقول بأن هذا وصف للحال والمآل وليس تسويغاً للباطل والضلال.
الجانب التاسع : الحذر من المعالجة الانتقائية.
فإذا أريد - مثلاً - معالجة الإرهاب - ثقافياً - فلابد من النظر الشمولي لأسبابه، وعدم قصرها في اتجاه واحد كالمناهج التعليمية التي حاول بعض التيارات تحميلها إثم ما حصل.
فأين الحديث عن " الإعلام" وما ينطوي عليه من ثقافات غير سوية حيث يوجد في إعلاميات عديدة ، وبوضوح صارخ أحياناً، تلك المعطيات المتمثلة في : (الثقافة المهملة للدين، والمعادية له، أو المحذرة منه والمخوفة منه) ويوجد ـأحياناًـ (الثقافة المنحرفة باسم الدين ، فضلاً عن الحضور القوي لثقافة الضياع والتيه اللهو، وثقافة العنف غير الديني، وثقافة التبعية والهزيمة والاستلاب، وثقافة الاستغراب).
ولا يجترئ منصف على إنكار هذه الثقافات الإعلامية وآثارها الخطيرة في إيجاد أجيال هشة، وإيجاد براهين لأهل الغلو يتذرّعون بها لتسويغ غلوهم وعنفهم، وسيجدون من يصغي إليهم في حال قبول الطرح المناوئ للمناهج والسكوت عن الحمولات الهائلة للثقافة الإعلامية المنحازة في الجملة.
ومهما كان إعداد لقاءات الحوار وأعداد المتحاورين وقوة التوصيات، وسرعة الإجراءات فإنها لا تكفي وحدها في معالجة ظاهرة العنف، بل قد تكون في حال الانحياز ضد الصيغ الدينية في المناهج -والسكوت عن الصيغ الأخرى في الإعلام- سبباً في تفاقم المشكلة، أو نشوئها في أزمنة لاحقة بشكل أخطر مما هي عليه الآن.
وأعنى بكل هذا أن الاهتمام بالمعالجة الثقافيّة يستوجب (استراتيجية ثقافية) حقل نشاطها الذهن والتفكير والتصور، بصورة شمولية يمكن معها حل مشكلة (التطرف والتطرف المضاد) في أدوارها الأولى باعتبار أن التفكير والتصور هو الأساس الذي تنبثق منه المشاعر والسلوكيات، ولنا أن نتساءل:(/2)
كيف يمكن أن نقنع شاباً بجدوى المقترحات الموجهة نحو السمة الدينية في المناهج وهم يتصورون قصوراً في شمولية أو عمق هذه السمة؟ بل كيف يمكن أن نثبت لهم جودة المقترحات وهم يرون أنها ركزت على جانب ثقافي واحد بل على جزء من هذا الجانب، وأهملت أو تغاضت عن الجوانب الثقافية (الإعلامية خصوصاً) وهي الأكثر حضوراً والأقوى جذباً والأعمق تأثيراً.
فلنتصور أن بعض المفاهيم الإسلامية قلصت حظوظها في الثقافة والتعليم، وشذبت المناهج مما يتصور أنه سبب العنف والغلو، وترك الحال الثقافي في وجهه الإعلامي على ما هو عليه في غلو وتسارع وقوة تأثير، ماذا سيكون الحال عليه بعد عقد أو عقدين من الزمن على أبعد تقدير؟
إن النظر العاقل الحصيف ليدرك أن المطلوب هو ثقافة سوية( تعليمية وإعلامية) (تبعث) حركة التفكير ولا (تعبث ) به ، وتوجد فكراً (مبدعاً) لا (مبتدعاً) وتصوراً (حديثاً) لا (حداثياً) وتحرراً فكرياً منضبط الاتجاه لا فوضوياً مدمراً، ومفاهيم دينية سوية تغسل العقول من لوثاث الغلو الديني والشهواني والأهوائي.
وبهذا تتم المعالجة الثقافية الشاملة التي لا يجرؤ عاقل ذو ضمير وعلم وعدل على إنكار وجوبها وحتمية العناية بها.
الجانب العاشر: التنبه من عمليات الاختطاف
فمع أن إحسان الظن ينبغي أن يكون أساساً ومنطلقاً، إلا أنه في الوقت ذاته يجب الحذر من اختطاف الحوار، وارتهان أجواء الانفتاح، وتوجيهها توجيها منحازاً (طائفياً ، أو فكرياً فئوياً ، أو سياسياً أو أمنياً) ومما يأسف له كثير من المتابعين تلك الممارسات الإعلامية القائمة على مبدأ اختطاف المشروعات، ومن أدواته:
- التركيز على بعض المشاجرات ( الحوارية) في أروقة اللقاء.
- انتقائية المقابلات وانحيازها لمفاهيم فئة مسيطرة على الإعلام أساساً أو لها نصيب كبير منه.
- انحيازية المقالات والتحليلات الإعلامية نحو أفكار واتجاهات ومقاصد فئوية.
- اقتطاع أجزاء من الأبحاث المقدمة وإغفال أجزاء أخرى، بل أحياناً إهمال شبه كامل لأبحاث مخالفة لنسق فئة معينة.
- انتقاء فقرات معينة من التوصيات، وتوسيع حاشيتها، لأنها تخدم أغراضاً معينة لدى فئة محدودة.
- أخيراً بروز اللهجة الخطابية المتوشّحة بالفئوية من البعض في لقاء ولي العهد لاختطاف النتائج والتوصيات وتوجيهها توجيهاً منحازاً، وتكييفها تكييفاً إقصائياً ولَكْم المتحاورين - المتفقين على نتائج محددة - بقفازات الحوار والتفاهم، في (نسق مضمر أصله الهجاء وتفكرته تدمير الخصم عبر تصوير بصورة بشعة.. كتوظيف للقانون الثقافي النسقي قانون الرغبة والرغبة والرهبة) [انظر: كتاب النقد الثقافي د/ عبد الله الغذامي ص 162].
إن مفاهيم الابتسار والاختزال والانحياز تشكل بؤرة (افتراق) و(فتنة) طائفية أو فئوية أو حزبية (والفتنة أكبر من القتل) ولا فكاك من ذلك إلا بإقرار فرص شبه متكافئة إعلامياً، ولا أقول فرص بحسب نسب الأغلبية والأقلية؛ لأن ذلك ـ بكل وضوح ـ لن يحدث في ظل هيمنة تيارات معينة على الإعلام، وعجز المقابل -رغم كثرته- عن التوغل.
ومن المهم –جداً- تثبيت فرص التعامل الفكري والثقافي وجعلها واضحة سافرة مثل الشمس في جو من الصدق، وعلى قاعدة من العلم والعدل.
-------------------
* عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
المصدر : موقع إسلاميات - صفحة المرأة والحوار(/3)
حتى لا يُغرقنا الطوفان
دلال الضبيب
</TD
يتردد على مسامعنا بين فترة وأخرى أخبار الزلازل والكوارث والأعاصير .. وباختصار –الكوارث طبيعية- التي تجلجل القلوب وترْهب النفوس. ومن إعصار كاترينا إلى زلزال الهند وباكستان الذي بلغت قوته سبع درجات بمقياس ريختر و قتل فيه أكثر من3500 شخص، ويتراءى أمام أعيننا مشاهد البيوت المحطمة والمنازل المتهشّمة وأشلاء الجثث المترامية في الشّوارع وتحتَ الأنقاض. شواهدْ يرتعشُ لها البدن ويقشعرّ لرؤيتها و يقف عندها القلب المؤمن ويتأملها ويتفحصها كثيراً قبل أن تتلاشى من ذاكرتهْ.
فكمْ من كارثةٍ صارت في أصقاع الأرض ومشارقها .. وَ أراضٍ من حولنا أصابها امتحان الله وقوته، و برحمة الله وعفوه نجانا سُبحانه منها، ولو تأمّل المرء قليلاً لوجد أنّ الله تعالى قد نجانا بنعمة الإسلام .. وبامتثالنا لأوامره واجتنابنا لنواهيه، فكم من قومٍ هلكوا لطغيانهم واستكبارهم، فعندما نقرأ كتاب الله تعالى .. يزيد إيماننا بأنه سبحانه قدِ ابتلى الأمم من قبلنا لمعصيتهم لهُ وإعراضهم عنْ ذكره، فعذّبهم في دنياهم وتوعّدهم في آخرتهم. فالله تعالى الخالق البارئ بيده كلّ شئ، بيده هلاكُنا ونجاتنا، بيده رزقنا ومثوانا، وما قصّ لنا تلك القصص إلا لنأخذ العظة والعبرة، و لا تقترف أيدينا ما فيه هلاكُنا .. وما الحوادث في هذا العالم إلا شواهد أُخرى تُبت لنا في كلّ يوم أنّنا ما خُلقنا إلا لنعبدَ الله تعالى ولا نُشرك به شيئاً، والاستكبار والكفر والاستنكار ما همْ إلا بداية النهاية.
قرأت ذات مرّة حكاية صارت بين حلاّق وزبون في أحد المحلات الصغيرة في إحدى الدوَل الأوربية، بدأت عندما دخل رجلٌ قاصداً الحلاق ليُهذّب شعره، وعندما جلس صاحبنا .. بدأ الحلاق بسرد القصص والحكايا ولملة أطراف الحديث لنسجها، وبَلغَ فيهم الحديث عن الإيمان، قال الحلاّق: "أنا لا أؤمن بالرب."، سأل صاحبنا بعفوية:"لماذا؟"، فرد:" أنا لا أؤمن حتى بوجوده فكل الدلائل التي حولنا تُشير إلى ذلك"، "كيف؟" علق الزبون."تأمّل الدُنيا و الحال وراء هذا الزجاج، وراقب تعاسة الناس وحزنهم، أنظر إلى ذلك المُتشرّد .. كلّ يوم في هذا الوقت أجده يخرج متسحباً من ناصيته في داخل الزقاق القذر في محاولة يائسة لإيجاد شئ يسدّ به جوعه ويروي ضَمأه، وانظر إلى هذا الطفل الجالس في الكرسي الذي أمام محلي .. يتيم الأب له أمٌ ينهُش المرض جسدها كل يوم، ولو وسعت نطاق نظرك .. فلا تغفل عن الدول الفقيرة والأكيد أنها تحت خطّ الفقر. أوبعد كلّ هذا يُقال أنه يوجد رب؟ رحيم؟ عطوف؟ ويترك خلقهُ هكذا؟ .... لا أعتقد". صمت صاحبنا ولم يُعقّب على الرجل حتى فرغ، فدفع إليه الحساب وتيسّر وبعد دقائق عاد إلى الحلاق وقال: "أنا لا أعتقد بوجود حلاق واحد في هذه المدينة" ضحك الرجل واستنكر: "ألا تراني؟" ردّ عليه:" إذاً لماذا أرى الكثير من الرجال بشعر طويل وآخرين غير مُهذّبين؟" رد عليه:"لأنهم لم يأتوا إليّ!" ابتسم صاحبنا وقال:"كذلك الله".(/1)
حتى لو فشل الزرقاوي !!.....حامد العلي
كانت الصورة التي أطلقها الزرقاوي يوم الثلاثاء الماضي ، وغَشَت مستعلنةً بعزّ عزيز ، أو بذلّ ذليل ، آفاق العالم ، أطلقها بوعي عميق لوسائل العصر أولاً ، وإدراك أعمق لكيفية مواجهة أسلوب الأمريكيين (الرامبوي) المفضّل ، في التعامل مع العالم من حولهم ، ثانيا ،
كانت كارثة بحجم إمبراطوري ، على الحلم الإمبراطوري الأمريكي ، أصابته في سويداء قلبه بذبحه قلبيّة مفاجئة ، حتى هرعت ا(لكوندي) مع غلامها الشقي ،لإنعاش القلب المذبوح ،ولكن هيهات !!
عجبا ،، كم هي المسافة تثير الدهشة ،
بين صورة بوش وهو في ذروة نشوة الغرور المشوب بالحمق ، عندما قال قبل نحو ثلاث سنوات ، وهو يحشد جيوشه لإحتلال دار الخلافة الإسلامية ـ كأن لم تكن بينه وبين العرب البائسة مودّة! ـ سنقاتل بكلّ قوتنا وعظمتنا ،
والأمّة آنذاك كلّها مشلولة بلا حراك ، مخدرّة بلا هذا ولا ذاك ، إلا بقايا من أهل الجهاد .
بين تلك ، وصورة المتوشِّح بالسواد ، أمير قاعدة الجهاد ، وهو يرفع السبابة متوعّدا ، مبشّرا الأحمق المطاع بحرب ضروس ، مهدّدا بحرق أقوى جيش في العالم ، ترتعد فرائص الدول من قوته وجبروته !
ومذكِّرا بأنّ الهزيمة قد لحقت بالفعل بذلك الجيش ،
ومعلنا: لقد كانت المرحلة الزمنية بين الصورتين ، جحيما أطبق على جيش الإمبراطور ،وسدَّت عليه أبواب النجاة ،حتى انسدت الطرق أمام إنحطاط معنويات الجنود فلم يبق سوى الإنتحار الذي استشرى فيهم ، إنهم يبكون من هول ما رأوا فينتحرون !
لكن ،، هل سمعتهم قط في التاريخ ، بجيش إمبراطوري هائل العدّة ، والعتاد ، يغزو أرض قوم ، فتفتح له الملوك الخائبة كلها ، المسالك ، والطرق ، جواً ، وبحراً ، وبراً ، وتحيّيه ، بل تسير في ردفه وتلبيّه ،
حتى إذا استقر حيث أراد ، وملك البلاد ، وظنّ أنّه استرقّ العباد .
قام له رجالٌ ، أشبه بالأشباح ، ليس لديهم طائرات ،ولا يملكون الصواريخ ، ولافي حوزتهم ولا دبابة ، لاتحملهم مدرعات ،
وليس عليهم نياشين الجيوش العربية الفاشلة، ولا يعرفون نجومها ، ولا رتبها التي لاتسمن ، ولا تغني من جوع .
فيُنزلون بذلك الجيش ، أشدّ البأس ، ويسقط متعثرا ، ويخرّ على أم الرأس ، فيرجع الجيش الغازي ثلثه في مرض نفسي ، وثلثاه في غمرة اليأسِ ,
وبعدما ينزف ثلاث سنوات ، يتخبّط في مستقنع الفشل إثر الفشل ، ويتكتّم على خسائره ، فينحصر همّه في إيجاد مخرج ، يحفظ ماء وجه الإمبراطور المغرور الكذاب وهو يجرّ أذيال الخيبة منهزما .
أو سمعتم بمثل هذا قط ؟! اِئْتُونِي بمثله في التاريخ ،ولكم أكبر من الجائزة التي رصدت للقبض على الزرقاوي ، وأنا بها زعيم !
تُرى ما الذي رآه جيش الإمبراطور بوش هناك في صحراء الأنبار ، وبين أزقّة الرمادي ، والفلوجة ، وأحياء بغداد ، وبيوت تلعفر ، ومزارع القائم ، وأفنية الموصل ، وبرية اللطيفية ..إلخ ؟!!
الجواب في الصور التي بثتها وسائل الإعلام ، لقد رأوْا هؤلاء الذين شاهدهم العالم أجمع ، فلم يعرف أحدٌ أحداً منهم بوجه ، ولا بإسم ،
إلاّ الذي رصدوا مكافأة القبض عليه ، ففاقت جائزة القبض على أيّ عدوّ آخر لهم في العالم ،
فهو وحده الذي أسفر عن وجهه .
ولسان حاله يقول : بفيكم الحجر جميعا ، تعالوا خذوني إن استطعتم !!
إنكم جاهلون لاتدرون من أمركم شيئا، وعاجزون لاتقدرون على شيء ، وحيارى لاتهتدون إلى شيء ، أنتم لاشىء
وهو بين أظهرهم ، وهم عاجزون عن الوصول إليه ، ويتحدّاهم ، ( فكيدوني جميعا ثم لاتنظرون )
وتلك هي الرسالة :
لقد اصطدم الغزاة بعقيدة أشد أثراً من الصواريخ العابرة للقارات ، وعزيمة أعظم نكاية من المدافع والدبابات ، لم يكونوا يحسبون حسابها .
فقد كانت كامنة في ضمير العراق وأهله ، جثمت عليها العقيدة البعثية القومية اللادينية الهشّة ، حينا من الدهر ، فما لبثت أن سقطت وشيكا ، عند أوّل مواجهة .
فأذن ذلك بظهور عقيدة التوحيد الإسلامية الجهادية ، أصلها ثابت ، وفرعها السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ,
وكانت بحاجة إلى من يوقظها، فأيقظها من أعدّه الله فاستعمله ، سوطاً يوقظ الأمة .
وأما تلك الصور ، فقد أطلقت المعادلة السهلة الواضحة التي تتميز بها الحضارة الإسلامية ، كما هي عقيدتها وثقافتها الفطريّة .
وتلكم هي المعادلة التي قد استقرت في أمّتنا منذ بدر الأولى، فغارت بذرتها المباركة ، في تربتها الخصبة ، فلا تزال تثمر الأبطال .
نحن قومٌ أعزّنا الله بهذه العقيدة التي تجعل الموت في سبيلها أعظم شرف ، فسندمغ بها هيبة الباطل المصطنعة ، حتى إذا سقطت هيبته الكاذبة ، وانكشف الغطاء عن غروره المنتفش زورا ، تهاوي أمام صولة الحق الصارم .
وبهذه المعادلة ذاتها ضرب فتيان القدس كذبة الجيش الصهيوني الذي لايقهر ، فقُهر.
كما ضرب بها أبطال الأفغان جيش الإتحاد السوفيتي فمزّقوه شرّ ممزّق .(/1)
إنّ أهم عنصر في مشاريع الإمبراطوريات هو عنصر الهيبة ، وقد سقطت هيبة أمبراطورية الشر الأمريكية في العراق سقوطاً مروعاً مفاجئاً ومأساويّاً.
لقد نجح الزرقاوي حتى لو فشل ، وكفاه ما فعل ،
لقد سجّل بدمه منعطفا في تاريخ الأمّة ، وبه قد مضت صحائفه محفورة فيها ،وكذا الأمجاد إذا سجلها التاريخ بالدماء ،، لاتُنسى ،
إذا كان توكّلنا على الله ، ونهضت عزائمنا بالله ، ورخصت دماؤنا لله ، فلن يقف في وجوهنا أحد ,,(/2)
حتى متى يا أمة الإسلام؟!
حياة بنت سعيد با أخضر 8/1/1427
07/02/2006
منذ أن خلق الله تعالى المخلوقات ميّز كلاً منها بميزات تخالف الآخر، ولكنها تجتمع في أنها جميعاً مخلوقة لله تعالى وحده لا خالق لها سواه سبحانه، وفي أنها واجب عليها عبادته وحده لا شريك له، وأنها ستعود إليه سبحانه بعد مماتها لمحاسبتها وجزائها على جميع أعمالها. ومن هذه المخلوقات من جعل الله تعالى -و لحكمة عظيمة- العداوة بينها إلى يوم القيامة، وهم شياطين الجن و الأنس، والمسلمون مع غيرهم من أصحاب الأهواء والديانات وهذا الأمر مطّرد منذ خلق آدم عليه السلام في الجنة ومحاولة إبليس ـ لعنه الله ـ الحط من قد ره، وهو قد رفعه بدون أن يعلم. فالملائكة لما اعترضت على خلق آدم عليه السلام أذعنت فوراً لما أخبرها العليم الخبير سبحانه بقوله: (...إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)[البقرة: من الآية30] فقالوا: -كما أخبرنا تعالى-: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]. وكتب الله لها التزكية الدائمة بفضله سبحانه (...لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: من الآية6] أما إبليس فعلى الرغم من علمه بهذا إلا أنه أبى واستكبر، ورد على الخالق سبحانه بأسلوب الاعتراض مع التهديد لآدم عليه السلام وذريته مما أوجب عليه غضب الخالق العظيم سبحانه. يقول تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (لأعراف:12-17). واستمرت هذه العداوة بين إبليس وذريته من شياطين الإنس والجن وبين مؤمني ذرية آدم تترى، وستبقى إلى قيام الساعة.
وقد استهزئ بالأنبياء والرسل عليهم السلام جميعهم، والقرآن ذكر لنا ذلك منذ صالح عليه السلام لما اتهموه بأنه ساحر، إلى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وما حدث من تطاول على النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي من المسلمين الوقفات التالية:
1/ سنن الله في الكون:(/1)
إن العداء بين الحق والباطل لن يقف أبداً إلا بدخول أهل الحق المحض للجنة برحمة من الله، ودخول أهل الباطل المحض إلى النار، وسيظل أعداء الرسل في كل وقت يقذفون بحمم حقدهم في كل اتجاه في تعاون شيطاني أخبرنا عنه الله تعالى لما قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام:112-113). وتنطبق هاتان الآيتان على كل من يسيء للإسلام ورسله عليهم السلام. وما نجده من تكالب الكفار وتعاونهم في-سبيل ذلك رضا وقناعة كما وصفهم خالقهم، وهو ما حد ث في هذا الوقت من تطاول على نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- من شخص واحد تعاونت معه الصحيفة، ثم أصغت الحكومتان النرويجية والدنمركية بل ورضيتا، واقترفوا كل منقصة في سبيل تبرير ذلك كحرية رأيهم المزعومة، وسيجدون نتيجة افتراءاتهم في الدنيا والآخرة. يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: "يقول تعالى مسلياً لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك ويحاربونك ويحسدونك فهذه سنتنا أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء من شياطين الإنس والجن يقومون بضد ما جاءت به الرسل (...يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً...) أي يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة، فيعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً، ولهذا قال تعالى: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة يحملهم على ذلك (وليرضوه) بعد أن يصغوه إليه، فيصغون إليه أولاً فإذا مالوا إليه و رأوا تلك العبارات المستحسنة رضوه وزُيّن في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة وصفة لازمة ثم ينتج من ذلك أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون أي يأتون من الكذب بالقول والفعل ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة، فهذه حال المغتربين بشياطين الإنس والجن المستجيبين لدعوتهم، وأما أهل الإيمان بالآخرة، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة فإنهم لا يغترون بتلك العبارات، ولا تخلبهم تلك التمويهات، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق، وهل هي حق فيقبلونها. ومن حكمة الله تعالى في جعله للأنبياء أعداء وللباطل أنصاراً قائمين بالدعوة إليه أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان ليتميز الصاد ق من الكاذب، والعاقل من الجاهل والبصير من الأعمى، ومن حكمته أن في ذلك بياناً للحق وتوضيحاً له؛ فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه، فإنه حينئذ يتبين من أدلة الحق وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته ومن فساد الباطل وبطلانه ما هو أكبر المطالب التي يتنافس فيه المتنافسون" وفي ظلال القرآن يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: " ...المؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر وهو الذي يأذن خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدعى ومن هنا هذا التوجيه العلوي للرسول صلى الله عليه وسلم (فذرهم وما يفترون) أي دعهم وافتراءهم، فالله من ورائهم قادر على أخذهم مدخر لهم جزاءهم ............. والمشهد الذي يوضحه لنا القرآن الكريم للمعركة التي بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة، هذا المشهد جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة: إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون لإمضاء خطة مقررة هي عداء الحق المتمثل في رسالات الأنبياء وحربه ووسائل الحرب ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) فالشياطين يتعاونون فيما بينهم، ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً، ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً فهم لا يضرون أولياء الله بشيء إلاّ بما أراده الله في حدود الابتلاء، وهذا من شأنه أن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، ويعلق قلوبهم بقدرة الله تعالى القاهرة فيمضون في طريقهم". وصدق الله العظيم لمّا بين لنا سبب وقوفهم في وجه كل نبي وأتباعه فقال تعالى: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) [نوح:13]. والتوقير: العظمة، والكافرون الذين اقترفوا –ومازالوا- الاستهزاء بحبيبنا صلى الله عليه وسلم. ما فعلوا ذلك إلا من جهة عدم تعظيمهم لله خالقهم ومرسل عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم.
2/محنة تقود للتطبيق الصحيح:(/2)
نحن المسلمين في واقع حياتنا أين نحن من التطبيق الصحيح القائم على الإخلاص والاتّباع للسنة، فنريد نصرة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وغثاء أمتنا يعلن بفخر المخالفة الصريحة لسنته ولدينه في واقع مخز؟ فكل ما حولنا صور مخزية للمجاهرة بالمعاصي والخجل من إظهار الإسلام الصحيح سواء من وسائل الإعلام، وما تقدمه من عفن ومجون جهري، مما تئن منه الأرض والسماوات ومن مظاهر حياتنا الاجتماعية سواء كانت في حفلاتنا وأزيائنا ومنازلنا .... والاقتصادية من ارتكاب المعاصي كالربا بأنواعه والرشوة والغش وبيع ما حرم الله من الأزياء والحجاب.....وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة، و فما حدث فرصة لكي نقيم برامج شاملة في مواقع التعليم والإعلام ومراكز الأحياء وغير ذلك لإحياء الفرائض والسنن الصحيحة، وبطريقة صحيحة شرعية، وترافقها شروح صحيحة للسيرة والشمائل المحمدية، وذكرت اشتراط الصحة لنرتفع بتوحيدنا وعقولنا عن أباطيل الموالد والبدع، ونكون نحن أهل السنة والجماعة من يقدم الدواء الكافي لمن سأل عن العلاج الشافي، وهاهي الفرصة أمامنا فلا نتركها لأرباب البدع يستغلونها لنشر فسادهم العقدي بين المسلمين الذين يندفعون الآن بقوة العاطفة الدينية المتمثلة في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه المحنة كشفت لنا الكثير من العيوب التي نعانيها في مجتمعاتنا الإسلامية، وتحتاج منا إلى إصلاح فوري لنستحق نصر الله.
ونشر السنة له طرق عدة منها :
- إحياء فريضة و سنة نبوية كل شهر بين أهل الحي الواحد ومدارسهم ودكاكينهم ونواديهم وغير ذلك، وتستخدم كل وسيلة إعلامية تعين على ذلك مثل: النظافة وقيام الليل والسواك والتبسم والحجاب الصحيح وترك الغيبة.......
- دروس علمية ميسرة للجميع في كيفية الصلاة الصحيحة والسيرة وحفظ القرآن مع تفسيره والسنة مع شرحها وسير الصحابة.............
3/(...إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ...)(النساء: من الآية104)
إذا كانت الحروب الاقتصادية التي شنتها رؤوس البغي والكفر قد أضرت بعدد من الدول الإسلامية فلنستخدمها بقوة لا تعرف التوقف حتى يذعنوا وهم صاغرون، لذا أين نحن من المقاطعة المستمرة لكل من أساء لديننا سواء الدنمرك والنرويج وفرنسا وأمريكا وغيرها من الدول التي تحاربنا علانية؟ وهناك فرق بين تحريم الشراء من أهل الكتاب وبين ترك الشراء منهم ردعاً وتأديباً لهم ووسيلة لنصرة ديننا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء قوم يعبدون الدرهم والدينار، ويقيمون الحروب المدمرة وباسم دينهم المحرف أحياناً من أجل السيطرة الاقتصادية على منابع الثروات الاقتصادية والبشرية ليظل تفوقهم، وبالتالي سيطرتهم على الآخرين المستضعفين، لذا تؤثر فيهم الحروب الاقتصادية، وتؤلمهم وهم الذين جعلوها العصا التي يلوحون ويضربون بها كل من يجرؤ على مخالفتهم كما نشاهد في واقعنا المعاصر، فاستخدام حرب المقاطعة خير سلاح بتّار يقصف بنيانهم، ويزلزل أركانهم ويجعلهم يعيدون التفكير في حربهم ضدنا. وعلى كل مسلم ألاّ ينسى في وسط الزخم الإعلامي المنصب على الدنمرك والنرويج الدول الكافرة الأخرى التي مارست –ومازالت- حربها ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدين الصحيح الذي أرسله الله تعالى به كفرنسا التي مازالت تمنع الحجاب و تبعتها بلجيكا وأمريكا التي عرضت فيلما إباحياً بعنوان "الحياة الجنسية للنبي محمد" ـ لعنهم الله في الدارين ـ ورغم الاحتجاجات التي تلقتها دار السينما من مسلمي ولاية تكساس التي عُرض فيها الفيلم إلا أن دار السينما رفضت إيقاف عرض الفيلم، واستعانت بالشرطة لصد المتظاهرين. فهل ستستمرون في مقاطعة كل هذه الدول؟
فعلينا كمسلمين أن نتخذ جميع الأسباب المشروعة لرفع قدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- وديننا وقرآننا، فكما أن من السماء ملائكة ينزلون، ففي الأرض جند لله يقومون، وكل رد عادل منضبط عليهم يعني حياة الأمة وفلاحها يقول تعالى: (...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[لأعراف: من الآية157]. وإن لم نكن هؤلاء فسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ...)[المائدة: من الآية54] ويقول تعالى: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ...)[التوبة: من الآية40].
4/ غضب وفرص ذهبية(/3)
علينا أن نستثمر هذا الغضب المحمود في أعمال تفيد الأمة ولا تكون مجرد انفعالات تذهب بذهاب أسبابها، بل يجب أن يكون غضباً يثمر فرصاً ذهبية، وذلك ببذل الجهد المتواصل لنشر ديننا على كل المستويات، وبكل الوسائل المتاحة، وهذه دعوة لقناة المجد بإنشاء قناة خاصة لدعوة غير المسلمين للإسلام، وستجد دعما ونصرة في ظل الأحداث الراهنة، كما تقيم دروساً في السيرة النبوية على مستوى الأطفال والناشئة والكبار من المتعلمين وغيرهم كل بما يناسبه، كذلك في القناة العلمية وفي حلقات الدروس والدورات العلمية أتمنى شرح كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن تيمية الذي كتبه وعمره (32) سنة وأربعة أشهر تقريباً لما وقعت حادثة سب عسّاف النصراني للنبي -صلى الله عليه وسلم- وضُر ب على أثرها شيخ الإسلام ابن تيمية وسُجن من قبل نائب الأمير، فصنف في هذه الواقعة كتابه هذا، وفيه تفصيل لكيفية النصرة في حال قوة المسلمين وضعفهم وشرح مبسوط لآراء الأئمة.
وهي دعوة أيضا لكبار رجال الأعمال الذين يحبون الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- للمساهمة في شراء ساعات في عدد من القنوات الفضائية ذات الجمهور العريض في عدة دول؛ لشرح حقيقة الإسلام وصفات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه وسيرته، وهم لا يتحركون إلا بالمادة فإن دفعت لهم تركوا لنا المجال. كذلك الكتابة بلغاتهم في كل وسيلة متاحة فعندنا وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يتميز بالسهولة أنزله الله للعالمين جميعاً نخاطب به الأمي والمتعلم والصغير والكبير.
- الدعوة للإسلام بكل الوسائل المتاحة من كل فرد مسلم خاصة في دولهم، وإن التطبيق الصحيح للإسلام لهو أكبر وسيلة دعوية.
- / فتح معاهد خاصة في جامعاتنا لتعليم الدين الإسلامي ببيان حقيقته وحقيقة رسولنا العظيم -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل دورات خاصة لذلك، تُفتح للوافدين غير المسلمين في الدول الإسلامية تتعاون مع مكاتب دعوة وتوعية الجاليات، ودعم هذه المكاتب ودعاتها لنجعل من هؤلاء وسائل إعلامية لديننا بل وفي كل دولة كافرة نتمنى زيادة الدعم لكل مؤسسة إسلامية لتواصل نشر المفاهيم الصحيحة عن ديننا، والمجال يتسع ليفكر كل المسلمين كيف ينشرون دينهم وينصرون نبيهم صلى الله عليه وسلم.
5/ متى نعيش من عمل أيدينا؟!
هذه الحوادث تعطينا فرصة لمراجعة حياتنا الاقتصادية، وذلك بأن نعتمد على أنفسنا في احتياجاتنا؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، وأرشد الصحابة لوجوب العمل الشريف وعدم التسول وانتظار الصدقات، وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما إن وصل المدينة فاراً بدينه غريباً عن طبيعة المجتمع المدني إلا أنه قال قولته الخالدة: "دلوني على السوق"، ونحن كدول إسلامية لدينا كل مقومات النهضة في جميع المجالات، فلنجعل هذه الأحداث دافعاً قوياً لنضع أيدينا في أيدي بعضنا دولاً وجماعات لنعيش مما نصنع، وهل (مهاتما غاندي) الوثني أفضل منا لما استنهض همة بلاده ليعيشوا من عمل أيديهم ـ مع ملاحظة أنه أيقظ همة الهندوس فقط، لذا لما جاءه فقيران يطلبان المساعدة أحدهما هندوسي والثاني هندي مسلم ـأعطى المسلم فقط، فلما سئل: لماذا قال: حتى يذهب الهندوسي، ليعمل ويبقى المسلم معتاداً التسول فيعتمد على غيره!! لا والله بل نحن أقوى فمتى نتحرك؟
6/اليقين بنصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
يقول تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) [الحجر:95]. و (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر:3]. (...وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...)[المائدة: من الآية67]. و(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ...) [الزمر: من الآية36] } و(...وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة: من الآية61) و(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (الأحزاب:57) إن الله تعالى ينتقم لنبيه ويكفيه أذى من يناله؛ لأن من آذى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد آذى الله، ومن آذى الله تعالى أهلكه وأذله، وانتقم منه في الدنيا قبل الآخرة.(/4)
فالله تعالى يغار على دينه وعلى نبيه المجتبى، ولنا في الأحاديث الصحيحة السيرة النبوية ما يؤيد ذلك. ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رجلا نصرانيا رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد نصرانياً فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه".وفي لفظ آخر عند مسلم "فتركوه منبوذاً".
وكسرى فارس لما مزّق كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قُتل على يدي ابن أخيه، ومزّق الله تعالى ملك فارس إلى الأبد فلم تقم لهم دولة، كذلك ما ذكرته لنا كتب السيرة من مقتل النفر الذين آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولن أذكر القصة حتى يرجع القارئ للسيرة يتصفحها كلها لنبدأ من الآن هذه الخطوة الجادة.
7/ الخوف من انتشار الإسلام:
يلاحظ كل متابع للأحداث أن أعداء الإسلام كلما وجدوا أعداد المسلمين تتزايد في دولهم ويدخله أبناؤهم أربكهم الخوف والحقد والحسد فيعملون كل ما بوسعهم لتشويه الإسلام وصرف الناس عنه وشغل المسلمين بذلك، ولكن كل مؤامراتهم تعود عليهم؛ إذ هذه المحن تزيد من شعبية الإسلام، وبحث الناس عن حقيقته (...وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[لأنفال: من الآية30]. يقول تعالى واصفاً لنا حقيقتهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً...)[النساء: من الآية89] و (...قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر...)[آل عمران: من الآية118] و(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ...)[البقرة: من الآية109]
وقد ذكرت مجلة الكوثر عدد شهر ذي القعدة أن الاستخبارات الدنمركية تدعو مواطنيها إلى مراقبة الشبان المسلمين لجنوحهم نحو التطرف، وقد أدلى مسؤول أمني لصحيفة بولاند بوست ـ بتصريحات قال فيه: إن مشاركة المجتمع يجب أن تكون مبكرة وقبل تفاقم الأمر، وعلينا مواجهة الحقيقة المرة، وهي أنه لا تزال هناك مجموعة خارجة على القانون لم يتم تحديدها بعد ليس في المجتمع الدنمركي فحسب بل في جميع المجتمعات العالمية ...... كما وردت مقالة في صحيفة المدينة المنورة العدد (156519)يوم الجمعة 27/12/1426 بعنوان (15 فبراير يوم الإساءة العلنية) وفي المقالة: "سيوجد سيناريو مختلف يوم 15 فبراير القادم حيث سيتم جمع الكتاب المعروفين بمواقفهم المتشددة ضد الإسلام والمسلمين في ندوة عن الإسلام وعلاقة المسلمين بأبناء الديانتين النصرانية واليهودية، وستُعقد الندوة بالولايات المتحدة الأمريكية وبذلك ستكون الإساءة علنية".
8/ الضبط والتحقق:
يقول تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء:83]. ويقول صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ونحن في كل محنة تمر بها أمتنا نجده على طوائف عدة في نشر الأخبار والإشاعات:
فطائفة تتثبت وتسأل أولي العلم الصحيح والرأي السد يد لتقف على المصلحة الراجحة من النشر وعدمه.
وطائفة تلجأ لعاطفتها بلا ضابط فتتعجل وتسرع في نشر الأخبار بكل وسيلة فترسل رسائل الجوال وتد ير الأحاديث التي تصل إلى الإضرار بأعراض المؤمنين باتهامهم بالخيانة والكذب، ومن هنا ينفذ أعداؤنا للصيد في الماء العكر بقذ ف العديد من الأكاذيب والإشاعات المرجفة التي تضر بساحتنا، وتكون فرصة لإظهارنا بمظهر السذج قليلي الفهم والتدبير.
وطائفة تقفل بابها تماماً، فلا تسمع وتتحقق وتقف ضد الإشاعات بل تعيش حياتها وكأن الأمر لا يعنيها وتعيش في برج عاجي.(/5)
وعلينا كمسلمين -لدينا بفضل الله علماء وأولو رأي سديد- أن نلجأ إليهم ونقرأ لهم. يقول الشيخ السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره للآية: "هذا تأديب من الله تعالى لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، وما يتعلق بالأمن وسور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر بل يردوه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون مصالحها وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال (...لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...)[النساء: من الآية83] أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه. هل فيه مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لأ ؟ فيحجم عنه ثم قال تعالى: (...وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ...)[النساء: من الآية83] أي في توفيقكم وتأديبكم وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون (...لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً)[النساء: من الآية83]؛ لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل فلا تأمره نفسه إلا بالشر، فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك لطف به ربه ووفقه لكل خير وعصمه من الشيطان الرجيم".
وأخيراً علينا أن نفرق بين من يحاربنا، وبين من يقف معنا من غير المسلمين فنستفيد من المتعاطفين لدعم مواقفنا، ونعطي كل فريق ما يستحقه، ثم أكرر لنكن نحن خير الصور التي تظهر الإسلام في جميع حياتنا، فكيف ننصر إسلاما لانطبق منه إلا ما يوافق أهواءنا؟ وأبشركم بأنه كلما تجرأ أحد على حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- إلا وكان علامة على نصر قادم للإسلام كما أخبرنا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله في كتابه ـ الصارم المسلول ـ عما يحدث أثناء حصار المسلمين لحصون بني الأصفر لأكثر من شهر وهو ممتنع عليهم حتى يكاد يبلغ اليأس منهم، فإذا تعرض أهله لسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- تعجلوا وتباشروا فتحه ويتم ذلك بعد يوم أو يومين .
لذا فسنظل في جهاد لا يقف مع مناوئي الإسلام، وهذا شرف لأمة محمد عليه السلام، وأقصد أمة الإجابة، فهي أمة لا تركن للهوان والذل، ورزقها الله حلماً وعلماً تواجه به كل ما يستجد في حياتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(/6)
حتى نكون أخوة في الله
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام.
سنطرق احبتي في الله الى موضوع هام وذو ابعاد انسانية واسعة ويحتاج منا جميعا الصبر علي نهج سلفنا الصالح في تطبيق مفهومه ومقاصده لما له من حس انساني ومسلم ان جاز التعبير مرهف يعكس مدى حب المسلم الحق لاخيه المسلم وطلب العفو والغفران له ان ما زل او انحرف عن المسار والمسلك والمنهج السليم لمعطيات ديننا الحنيف والمنبثق من كتاب الله عز وجل ومن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام..
وبعد فان الاخوة الاسلامية لها اهمية كبيرة ,ولذلك عنى الاسلام عناية تامة ورعاها رعاية كاملة, قال الله تعالى..
((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (10 , الحجرات)
وقال تعالى ..
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ))(178 , البقرة)
عبّرالله تعالى في هذه الآية القاتل اخا للمقتول مما يدل قيمة الاخوة الاسلامية واهميتها في المجتمع الاسلامي.
ومما يدل باهميتها ان النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر الى المدينة ودخل فيها بدأ بعمله بناء مسجده ثم آخى بين المهاجرين والانصار في دار انس ابن مالك رضي الله عنه.
ومما يدل باهميتها ان الله سبحانه وتعالى نهى ما يخل ويهدم الاخوة الاسلامية في آيات من القران الكريم قال الله تعالى..
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) ( 11-12 , الحجرات )
هذه الايات تدل على عدة من المحرمات الشرعية التي تقضي اتلاف الاخوة الاسلامية وتعطيلها بين المسلمين والتي تسبب العداوة والبغضاء بينهم ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى ومن هذه الحرمات:-
1- السخرية.
2- اللمز في الانفس.
3- التنابز بالالقاب الجاهلية.
4- الغيبة.
5- الظن السوء.
6- التجسس في شؤون الخاصة وتتبع عورات المسلمين.
هذه الامور وغيرها مما لم يذكر الايات تسبب انكسار الاخوة بين المسلمين ولهذا يجب ايها الاخوة علينا التجنب عنها لئلا يحول بيننا بين اخواننا المسلمين.
ومن هذه الامور احتقار المسلمين الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله..
( المؤمن اخو المؤمن لا يظلمه ولا يخذله الى قوله : بحسب امرء من الاثم ان يحقر اخاه المؤمن )
ومنها الظلم والتدابر والتهاجر – بدون دافع ديني – والنجش في البيع والخطبة على الخطبة والخدلان وعدم النصرة في مكانها. روى مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره. التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات.
والاحاديث التي تدل على صيانة الاخوة واهميتها كثيرة لكن نكتفي قدر ما اشرناها لانها ستؤدي المقصود منها, وعلى كل مسلم ومسلمة صيانة الاخوة وترك ما يخل بها ليكون مجتمعنا الاسلامي مجتمعا متماسكا يوجد بين افراده المحبة والمودة الناشئة من الاخوة الاسلامية.
ونسأل المولى ان يجمع كلمة وصف المسلمين واسأله ان يعين جميع المسلمين علي التمسك بتعاليمه والحذر من الانزلاق الى شهوات النفس ورغباتها التى ساهمت في تأخره وبطلان اهدافه الخيرة ..
اللهم انر لنا طريق الحق وارزقنا اللهم اتباعه وابعدنا اللهم عن مزالق الشياطين واتباعه ونسألك بأسمك الاعظم الذي اذا دعيت به اجبت ان تعيد لنا عزنا وكرامتنا وتسيدنا علي جميع الامم بما يكفل لنا نشر دينك ونهجك الخالص من كتابك تباركت وتعاليت وما الهمت به نبيك نبي الرحمة المزجاة عليه صلواتك وسلامك..
اجمعنا اللهم جميعا اخوة واخوات في مستقر رحمتك بصحبة الاهل والاحبة انك بنا رؤوف رحيم وبالاجابة جدير.(/1)
حتى همزة الوصل.. ذبحوها!!
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
عفوا يا قارئي العزيز إذ تراني في مقالي هذا أخرج علي نهجي المتبع في كتابة مقالاتى فاصدر مقالى هذا بأبيات من نظمي.... من قصيدة طويلة نظمتها من عشر سنين عنوانها «بكائية بين يدي بشار بن برد», أبكي فيها علي «أطلال» القيم والمروءات التي كان لها المقام الأول في مجتمعاتنا, وبلغ الاختلال فيها درجة النقيض, فمن كان مكانه القاع والمستنقع أصبح يحتل القمم, ويمتطي السحاب:
وارتدت لبدةَ الأسود كلاب
وجلودَ النمور سربُ الحمير
وذُرا الراسيات أمٍسَتٍ مطايا
لحصَي الأرض والغُثاء الحقير
والفقاقيعُ قد علتٍ قمة السيٍـ
ـل وصارتٍ أميرةً للبحور
وتذكرت ساعتها قول رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما سئل عن أمارات الساعة «.. أن تلد الأمَةُ ربٍتها, وأن تري الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان» وقوله صلي الله عليه وسلم: «إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة, وإذا وُسَّد الأمرُ غيرَ أهله فانتظر الساعة».
اصل الداء .
إن الأبيات السابقة تصور - في إيجاز وتعميم - أصل الداء, وهو «التناقضية الفادحة بين الواقع الحقيقي, والادعاء المطروح». ولكن الذي يهمنا - في هذا المقال - عرض بعض ما نظمتهُ مصورًا لحالة «الانهيار اللغوي» الذي وقع بأيدي قوم يسعدهم التخريب والتدمير لأنهم يتنفسون بروح البوم, و«يقرضون» بغريزة فيران السفينة. وفي قصيدتي المتواضعة أقول:
يا ابن برد هل يعلمنَّ «سباويٍـ
ـهُ» بمأساة «نحوًنا» المنكور
«فالمفاعيلُ» توجوها «برفع»
بينما «الفاعلون» في المجرور
و«المواضي» مضارع, وحروفُ الٍـ
ـجرًّ «نصب» وهان أمر الضمير
و«صلاتُ الموصول» أفقدها الوصٍـ
ـلَ جهول متوَّج بالغرور
و«انتصابُ» الأخبار أمر بسيط
سائغ هين علي التفسير
فإذا قلتُ... أوٍقفوا الجهل حتي
ندركَ الداءَ فهُو جدُّ خطيرً
هتفَ الأدعياءُ «منٍ ذا حَبَاكمٍ
إمرةَ النحو, أو إقامَ الكسور»?
فإذا قلت «إنما النحوُ قانو
ن لضبط المنظوًم والمنثور
... أجمعُوا أمرهم بليل وصاحُوا
«لستَ فيها بمنكر... ونكير
سقطتٍ أمة تراختٍ فصارت
لغة الدين نهبَ كل عقور
والغ عرضَها الشريفَ بدعوي
«طبًّه» الناجع الجديد القدير
فإذا طبُّه خداع وزور
يجعل السهلَ ألفَ ألف عسير
هكذا يُستباحُ كلُّ أصيل
ويفض البيانَ كلُّ صغير
ويصيرُ التراثُ عهنا نفيشا
تائهَ الخطٍوً ما لَهُ من نصير
وإذا أنكر الجذور نبات
مات في لفحٍةً الهجير المرير
. انهيار لغوى مستمر.
والانهيار اللغوي لا يتوقف أبدًا, بل إنه يتسع في اطراد دائم في كل المجالات, في المدرسة نري مدرس العربية يشرح دروسه بالعامية, قلت لواحد من هؤلاء: يا فلان إن عليك أن تشرح دروسك بالعربية الفصحي. أجاب - بلهجة ساقطة, وعلي وجهه علامة تعجب خطيرة - الله!! يعني سيادتك عاوزني اتكلم «بالنحَوًي» دا التلامذه تدحك عليّ «يقصد تضحك». ومش حيفهموا حاجة....
قلت: أنا لا أقصد العربية الغريبة المتقعرة, ولكن أقصد العربية السهلة الواضحة.
قال: برضه مش حيفهموا... علشان فيهم ليبيين وسعوديين, وشوام. قلت: هذا مبرر لأن تتحدث بالعربية الفصحي» فهؤلاء «العرب» أقدر علي فهمها من العامية المصرية. ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياةَ لمن تنادي
التفازيون .. والتلفازيات
وقد كتبنا كثيرًا عن لغة «أهل التليفزيون» المصري بقنواته الفضائية والمحلية... الحكومية والخاصة وما تزخر به من أخطاء نحوية وأسلوبية, وما يتميز به بعضهم من «عيوب» في النطق ذاته: فلانة يسميها الجمهور «المدفع الرشاش»... وأخري عندها قدرة سبك الحروف والكلمات كلها في نفخة متواصلة بلا تفريق بين مخارج الحروف, وثالثة ألغت الصاد والقاف والطاء والثاء والذال والضاد والظاء من معجم العربية. فكلمات مثل: صدقني - القيادة - الطرب - الثقوب - الذمة - الضمير - يظهر. تصبح: سدأني - الكيادة - الترب - السكوب - الزمة - الدمير - يزهر.
ورأيت واحدًا منهم يقرأ من ورقة «... ومن أبطال هذه المعركة عمر بن مَعٍدًيَكَرٍب فارس زيد» والصحيح - كما هو معروف - أنه عمرو بن معدًيكَرًب فارس زَبًيد - وزبيد قبيلته اليمنية التي ينتسب إليها.
وفي الشهر الماضي, أسمع وأري أحدهم يقول: «وهذا الكتاب من تأليف الدكتور كمال بَشَر» (بفتح الباء والشين). وهو يقصد أستاذنا العظيم الدكتور كمال بشر – بكسر الباء وتسكين الشين -.. وهو أشهر من علم.
. . .
ومن مظاهر الانهيار - وهو مظهر مؤسف جدًا - أن يقع هؤلاء في أخطاء لا يقع فيها تلاميذ المرحلة الابتدائية: يظهر ذلك في العجز العملي عن التفريق بين همزتي الوصل والقطع, وهو درس من دروس النحو في المرحلة الابتدائية . فالعبارة التالية:(/1)
(وقد استغرق الاجتماع الحزبي في القاهرة ثلاث ساعات) ليس فيها همزة قطع واحدة, وما فيها نسميه همزة وصل, لأننا نصل الكلمات نطقًا كأن الحرف لا وجود له, بالصورة الآتية: وقد سٍتَغرق لجٍتماعُ لٍحزبي في لقاهرة......
ولكن النطق «التلفازي» - منها أو منه - يجعل كل الهمزات همزات قطع, مع وقفات مؤسفة علي النحو التالي: وقد - إستغرق - ألإجتماع - ألحزبي - في - ألقاهرة... وتشبه همزة الوصل الحرف الصامت في الإنجليزية, كما نري في الفعل (Know) - أي (أعرف) فحرف- K- لا ينطق.
هذا وننبه كذلك إلي أن همزة الوصل تنطق قطعًا إذا كانت في بداية الكلام فتقول: إستخرجنا النفط. ولكنها لا تنطق إذا سبقها سابق كحرف أو اسم أو فعل فنقول: ثم استخرجنا النفط.
أما همزة القطع فلا بد من نطقها في أي موقع كانت, كما نري في العبارة الآتية: أحمد وإبراهيم أخوان فاضلان, وقد ألزمهما أبوهما بأداء حق كل أمين...
. . .والتفوق – فى بلادنا - خطيئة
هذا من «بدايات النحو» الذي يجهله التلفازيون والتلفازيات, قصدت أن أقدمه لأقول: ابدءوا يا هؤلاء من الصفر بدلاً من تضييع الوقت في التظرف المرفوض, وحشر الأجساد في «الجنز» الخانق.
وفي النهاية أدلي بشهادة حق في هيئة سؤال - بعيد عن المجاملة أو الاتهام -: أين عاصم بكري ذلك الشاب الذي دخل كل بيت?! أين درسه اللغوي الخفيف الذي كان أبناؤنا يتزاحمون عليه أمام الشاشة الصغيرة? وأين برامجه الاجتماعية والسياسية التي كان يقدمها بلغة عربية فصيحة عفوية دون تكلف أو تعسف, وبإلقاء جميل? سألت عنه فقال لي بعضهم «اتقصّ» منه حاجات كتير, ورفعوا الأضواء عنه». سألت عن السبب, قالوا: هو اللي غلطان.. حد قال له ينجح ويتفوق في كل أعماله??!!(/2)
حتى همزة الوصل.. ذبحوها!!
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
عفوا يا قارئي العزيز إذ تراني في مقالي هذا أخرج علي نهجي المتبع في كتابة مقالاتى فاصدر مقالى هذا بأبيات من نظمي.... من قصيدة طويلة نظمتها من عشر سنين عنوانها «بكائية بين يدي بشار بن برد», أبكي فيها علي «أطلال» القيم والمروءات التي كان لها المقام الأول في مجتمعاتنا, وبلغ الاختلال فيها درجة النقيض, فمن كان مكانه القاع والمستنقع أصبح يحتل القمم, ويمتطي السحاب:
وارتدت لبدةَ الأسود كلاب
وجلودَ النمور سربُ الحمير
وذُرا الراسيات أمٍسَتٍ مطايا
لحصَي الأرض والغُثاء الحقير
والفقاقيعُ قد علتٍ قمة السيٍـ
ـل وصارتٍ أميرةً للبحور
وتذكرت ساعتها قول رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما سئل عن أمارات الساعة «.. أن تلد الأمَةُ ربٍتها, وأن تري الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان» وقوله صلي الله عليه وسلم: «إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة, وإذا وُسَّد الأمرُ غيرَ أهله فانتظر الساعة».
اصل الداء .
إن الأبيات السابقة تصور - في إيجاز وتعميم - أصل الداء, وهو «التناقضية الفادحة بين الواقع الحقيقي, والادعاء المطروح». ولكن الذي يهمنا - في هذا المقال - عرض بعض ما نظمتهُ مصورًا لحالة «الانهيار اللغوي» الذي وقع بأيدي قوم يسعدهم التخريب والتدمير لأنهم يتنفسون بروح البوم, و«يقرضون» بغريزة فيران السفينة. وفي قصيدتي المتواضعة أقول:
يا ابن برد هل يعلمنَّ «سباويٍـ
ـهُ» بمأساة «نحوًنا» المنكور
«فالمفاعيلُ» توجوها «برفع»
بينما «الفاعلون» في المجرور
و«المواضي» مضارع, وحروفُ الٍـ
ـجرًّ «نصب» وهان أمر الضمير
و«صلاتُ الموصول» أفقدها الوصٍـ
ـلَ جهول متوَّج بالغرور
و«انتصابُ» الأخبار أمر بسيط
سائغ هين علي التفسير
فإذا قلتُ... أوٍقفوا الجهل حتي
ندركَ الداءَ فهُو جدُّ خطيرً
هتفَ الأدعياءُ «منٍ ذا حَبَاكمٍ
إمرةَ النحو, أو إقامَ الكسور»?
فإذا قلت «إنما النحوُ قانو
ن لضبط المنظوًم والمنثور
... أجمعُوا أمرهم بليل وصاحُوا
«لستَ فيها بمنكر... ونكير
سقطتٍ أمة تراختٍ فصارت
لغة الدين نهبَ كل عقور
والغ عرضَها الشريفَ بدعوي
«طبًّه» الناجع الجديد القدير
فإذا طبُّه خداع وزور
يجعل السهلَ ألفَ ألف عسير
هكذا يُستباحُ كلُّ أصيل
ويفض البيانَ كلُّ صغير
ويصيرُ التراثُ عهنا نفيشا
تائهَ الخطٍوً ما لَهُ من نصير
وإذا أنكر الجذور نبات
مات في لفحٍةً الهجير المرير
. انهيار لغوى مستمر.
والانهيار اللغوي لا يتوقف أبدًا, بل إنه يتسع في اطراد دائم في كل المجالات, في المدرسة نري مدرس العربية يشرح دروسه بالعامية, قلت لواحد من هؤلاء: يا فلان إن عليك أن تشرح دروسك بالعربية الفصحي. أجاب - بلهجة ساقطة, وعلي وجهه علامة تعجب خطيرة - الله!! يعني سيادتك عاوزني اتكلم «بالنحَوًي» دا التلامذه تدحك عليّ «يقصد تضحك». ومش حيفهموا حاجة....
قلت: أنا لا أقصد العربية الغريبة المتقعرة, ولكن أقصد العربية السهلة الواضحة.
قال: برضه مش حيفهموا... علشان فيهم ليبيين وسعوديين, وشوام. قلت: هذا مبرر لأن تتحدث بالعربية الفصحي» فهؤلاء «العرب» أقدر علي فهمها من العامية المصرية. ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياةَ لمن تنادي
التفازيون .. والتلفازيات
وقد كتبنا كثيرًا عن لغة «أهل التليفزيون» المصري بقنواته الفضائية والمحلية... الحكومية والخاصة وما تزخر به من أخطاء نحوية وأسلوبية, وما يتميز به بعضهم من «عيوب» في النطق ذاته: فلانة يسميها الجمهور «المدفع الرشاش»... وأخري عندها قدرة سبك الحروف والكلمات كلها في نفخة متواصلة بلا تفريق بين مخارج الحروف, وثالثة ألغت الصاد والقاف والطاء والثاء والذال والضاد والظاء من معجم العربية. فكلمات مثل: صدقني - القيادة - الطرب - الثقوب - الذمة - الضمير - يظهر. تصبح: سدأني - الكيادة - الترب - السكوب - الزمة - الدمير - يزهر.
ورأيت واحدًا منهم يقرأ من ورقة «... ومن أبطال هذه المعركة عمر بن مَعٍدًيَكَرٍب فارس زيد» والصحيح - كما هو معروف - أنه عمرو بن معدًيكَرًب فارس زَبًيد - وزبيد قبيلته اليمنية التي ينتسب إليها.
وفي الشهر الماضي, أسمع وأري أحدهم يقول: «وهذا الكتاب من تأليف الدكتور كمال بَشَر» (بفتح الباء والشين). وهو يقصد أستاذنا العظيم الدكتور كمال بشر – بكسر الباء وتسكين الشين -.. وهو أشهر من علم.
. . .
ومن مظاهر الانهيار - وهو مظهر مؤسف جدًا - أن يقع هؤلاء في أخطاء لا يقع فيها تلاميذ المرحلة الابتدائية: يظهر ذلك في العجز العملي عن التفريق بين همزتي الوصل والقطع, وهو درس من دروس النحو في المرحلة الابتدائية . فالعبارة التالية:(/1)
(وقد استغرق الاجتماع الحزبي في القاهرة ثلاث ساعات) ليس فيها همزة قطع واحدة, وما فيها نسميه همزة وصل, لأننا نصل الكلمات نطقًا كأن الحرف لا وجود له, بالصورة الآتية: وقد سٍتَغرق لجٍتماعُ لٍحزبي في لقاهرة......
ولكن النطق «التلفازي» - منها أو منه - يجعل كل الهمزات همزات قطع, مع وقفات مؤسفة علي النحو التالي: وقد - إستغرق - ألإجتماع - ألحزبي - في - ألقاهرة... وتشبه همزة الوصل الحرف الصامت في الإنجليزية, كما نري في الفعل (Know) - أي (أعرف) فحرف- K- لا ينطق.
هذا وننبه كذلك إلي أن همزة الوصل تنطق قطعًا إذا كانت في بداية الكلام فتقول: إستخرجنا النفط. ولكنها لا تنطق إذا سبقها سابق كحرف أو اسم أو فعل فنقول: ثم استخرجنا النفط.
أما همزة القطع فلا بد من نطقها في أي موقع كانت, كما نري في العبارة الآتية: أحمد وإبراهيم أخوان فاضلان, وقد ألزمهما أبوهما بأداء حق كل أمين...
. . .والتفوق – فى بلادنا - خطيئة
هذا من «بدايات النحو» الذي يجهله التلفازيون والتلفازيات, قصدت أن أقدمه لأقول: ابدءوا يا هؤلاء من الصفر بدلاً من تضييع الوقت في التظرف المرفوض, وحشر الأجساد في «الجنز» الخانق.
وفي النهاية أدلي بشهادة حق في هيئة سؤال - بعيد عن المجاملة أو الاتهام -: أين عاصم بكري ذلك الشاب الذي دخل كل بيت?! أين درسه اللغوي الخفيف الذي كان أبناؤنا يتزاحمون عليه أمام الشاشة الصغيرة? وأين برامجه الاجتماعية والسياسية التي كان يقدمها بلغة عربية فصيحة عفوية دون تكلف أو تعسف, وبإلقاء جميل? سألت عنه فقال لي بعضهم «اتقصّ» منه حاجات كتير, ورفعوا الأضواء عنه». سألت عن السبب, قالوا: هو اللي غلطان.. حد قال له ينجح ويتفوق في كل أعماله??!!(/2)
حتى يغيروا ما بأنفسهم
المحتويات
مقدمة
السنن في القرآن
السنن في السنة النبوية
السنن في عالم المادة وفي حياة الإنسان
موقفنا من السنن
سنة التغيير
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد :
فحديثنا هذه الليلة حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح.
إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين -أيا كانت ثقافته وتدينه-:هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى ؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، إن معظم المسلمين الصادقين اليوم يتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدركون وهم يعيشون في هذه المرحلة سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟
إن هذه السنة واحدة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة –ربما تطول – حول هذه السنن التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها.
إن الله تبارك وتعالى سن سننا تحكم هذا الكون وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهما سليما دقيقا، وتجعلهم يتنبؤون أو يتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضا تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.
السنن في القرآن
إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلا حتى ندرك أهمية هذه السنن وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيرا في كتاب الله تبارك وتعالى.
أول أمر يدل على ذلك إيراد القصص في القرآن، فهذا دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفرادا أم مجتمعات، والقرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين قال تعالى :( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) ،وقال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ). ولعلنا أن نتسأل لماذا تورد هذه القصص ؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين ؟أليس للاعتبار والاتعاظ ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس ؟ كيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم سيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم سيحصِّلون ما حصَّل أولئك.
ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأُهلكوا؟ أو أن قوما من الأقوام آمنوا فنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة؛ فيقيس حاله بحالهم.
ثانياً: يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار؛ فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، قال تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، قال واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة :(مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد) ، إذا فلئن سلك قومٌ سبيل قوم لوط فهم معرَّضون أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط وماهي من الظالمين ببعيد.
ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم -ولهم قصب السبق في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائه من قبل -: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، إذاً لو فعلتم ما فعل أولئك سيصيبكم ما أصابهم؛ فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك سيصيبه ما أصابهم لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ.
وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيبا على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم :(إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم ).(/1)
ويقول تبارك وتعالى أيضا في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيبا على هذه المواطن في سورة القمر :(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر. كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر) إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك ويأمر عباده أن يتعظوا بمواقفهم.
والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصا بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضا في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عبادة كما قال عز وجل :(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر علية فنادي في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )، فمن كان كمثل ذي النون علية السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى استحق النجاة.
وقال عز وجل :(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) والآيات في هذا الباب كثيرة.
إذا فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن أمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن التي تحكم حياة الناس.
ثالثا: يأتي أيضا في قصص القرآن التعليل للجزاء - سواء أكان بالعقوبة أم بالأنعام- بوصف مناسب؛ والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنة علة –كما يقول أهل الأصول- يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم :(إنهم كانوا قوما عمين) ،فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوما عمين، وهذا يعني أن هذا هو العلة في إهلاكهم، ويعني أن من شابههم في العلة سيشابههم في المصير ويصل إلى ما واصلوا إليه.
وقال تبارك وتعالى :(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) ،فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين.
وقال عز وجل في جزائه للمؤمنين: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) ،وهذا يعني أن العلة في نجاتهم هي الإيمان والإسلام، وبالتالي فمن شاركهم في الوصف شاركهم النتيجة والنهاية .
وقال تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف علية السلام، الذي تعرضت له الفتن فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً (رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ،يقول تبارك وتعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنة كيدهن) ، ثم يقول تبارك وتعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ،فعلة صرف السوء والفحشاء عنة أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم.
رابعا: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابة بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة كما قال تبارك وتعالى :(وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) ،ويقول: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وأثاروا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وماكان لهم من الله من واق )، ويقول تبارك وتعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
والآيات التي تأمر بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني أن هناك سننا ثابتة وأن هناك سننا تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس ويعتبرون؟ إنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه.
الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس،أفراداً ومجتمعات.
فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المترفون ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أيا كانت هذه القرية ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )، وتبقى هذه الآية نذيرا يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله فيخشون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو هؤلاء لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك فليسوا يعلمون الغيب، وليسوا يقرؤون ما وراء الأحداث، لكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.(/2)
ويخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمتكبرين المتجبرين، هي أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ يقول تبارك وتعالى :( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) على أحد القولين في تفسير هذه الآية ،ويقول تبارك وتعالى :( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) ،كأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة قد تواصوا عليها واتفقوا، إنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم، أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء واتهامهم بما ليس فيهم.
ويخبر تبارك وتعالى متوعداً أولئك الذين نجم نفاقهم من أهل الإرجاف والنفاق أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى، فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، قال عز وجل :(لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ، إنها سنة الله أن يحل بهؤلاء المنافقين المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.
ويخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه فيقول :( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ).
ويقول تبارك وتعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) ، ثم يقول تبارك وتعالى : ( وقد خلت سنة الأولين ).
ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ،ثم يأتي التأكيد على أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.
ويقول تبارك وتعالى أيضا مخبرا عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب :( فلما رأوا بأسنا قالوا أمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) .
هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، يعطينا دلالة قاطعة أن هناك سننا تحكم حياة الناس، جدير بهم أن يتأملوها، وأن يعوها ويتدبروها، وأولى الناس بالاعتناء بها هم أولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم.
السنن في السنة النبوية
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين :" فوا الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم " فهي سنة لا تتخلف، حين يتنافس الناس في الدنيا والدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم .
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لايقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يارسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا. فقال:"ثكلتك أمك يازياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟" فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء.(/3)
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة، امرأة من بني مخزوم سرقت أو كانت تستعير المتاع فتجحده، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأرادوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد ويسقط عنها هذه العقوبة، وقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه؟ فكلموا أسامة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال :"أتشفع في حد من حدود الله؟" ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشعر أن هذه المعالجة كافية لهذه القضية الخطيرة التي إن بدت في الأمة فهي نذير عقوبة وهلاك، فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، إنما يصعد المنبر صلى الله عليه وسلم ويقول: " إنما أهلك من كان قبلكم إنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "، إذا فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، أما الشرفاء وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم.
السنن في عالم المادة وفي حياة الإنسان
كما أن لله عز وجل سنناً تحكم عالم المادة ودنيا الناس، حين اكتشفها الناس استطاعوا أن يستفيدوا منها وأن يوظفوا هذه القوانين وهذه السنن توظيفا في خدمة الناس في أمور دنياهم، فمن ذلك مثلا " قانون الجاذبية " وهي قضية يراها كل الناس ويجهدون أنفسهم في التفكير فيها ولا يجهدون أنفسهم في تفسير هذا الموقف الذي يرونه والذي لا يتغير ولا يتبدل، وحين اكتشف العالم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره فيعبر القارات ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون.
وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تتقبل الاحتراق، والتي لا تتقبل الاحتراق؛ فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مصالح الناس في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"مثل القائم في حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وهي أنه حين يقع الناس في المعاصي ويتجرأون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة، حين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا سبب لأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها، ولو كان فيها طائفة لم يكن لم دور في خرق هذه السفينة.
ويذكر صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات يقول صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر بالحمى والسهر ).
إذا ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بـ: قوانين الطبيعة؟ أترى الناس مثلا يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟
وكم استفاد العلم المعاصر من استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وأمور دنياهم؟ ولكن هل نحن – في تطلعنا لتغيرنا الاجتماعي وفي قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر – نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن والحديث عنها، ولم نكلف عبأ في محاولة اكتشافها ودراستها.
موقفنا من السنن
الموقف الأول: السعي لاكتشافها، من خلال قراءة ما حكاه الله تبارك وتعالى لنا من قصص السابقين والأولين، يحكمنا فيها قوله تبارك وتعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فنسعى من خلال ذلك إلى أن نكتشف السنن التي تحكم حياة المجتمعات، وأن نقرأ تاريخ أمتنا، وأن نقرأ تاريخ الأمم الغابرة الماضية، بل ونقرأ تاريخ الأمم المعاصرة، ثم نتأمل ما فيه ونستنبط منه هذه السنن التي تحكم حركة الناس وحياة الناس.(/4)
وهذا ما سعى إليه ابن خلدون رحمه الله في كتابه الرائع " مقدمة ابن خلدون " فقد سعى جاهداً لاكتشاف سنن الله في الدول والمجتمعات ومن قرأ فيه رأى فيه شيئا كبيرا من ذلك .
الأمر الثاني : تفسير الأحداث من خلال هذه السنن، تحصل أحداث كثيرة تمر بالناس سواء ما يحصل للمسلمين في مجتمعاتهم، أو ما يحصل للمجتمعات الأخرى المعاصرة، من التمكين لأمة من الأمم، أو إهلاك أخرى، أو أمة يجعل الله تبارك وتعالى بأسها بينها، إنها أحداث تمر بالمؤمنين ومع ذلك يعجز الناس عن تفسيرها، ولو وعى الناس سنن الله تبارك وتعالى في التاريخ والمجتمعات وربطوها بهذا الواقع المعاصر الذي يعيشونه، لأضاءت لهم الرؤية ولأصبحوا يملكون رؤية واضحة تعينهم على تفسير هذه الأحداث واكتشاف مغازيها.
الأمر الثالث : الرؤية المستقبلية للأحداث أو التنبؤ بها؛ فيتوقع المسلمون ما سيحل بمجتمعاتهم أو ما سيحل بالمجتمعات القريبة لهم.
لقد قرأنا لكثير من العلماء والمفكرين الإسلاميين في هذا العصر أنهم كانوا يتنبأون بسقوط الشيوعية وانهيارها، فكيف استطاع هؤلاء أن يتنبأوا بذلك أهم يعلمون الغيب؟ أبدا إنهم علموا ذلك من خلال هذه السنن.
وحين ولى الفرس عليهم امرأة قال صلى الله عليه وسلم :"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فأدرك صلى الله عليه وسلم من هذه السنة أن هذه أمارة ودليل على زوال الفلاح عن هؤلاء لماذا ؟ لأنهم ولَّوا أمرهم امرأة ومن يولي أمره امرأة فإن هذا إيذان بزوال الفلاح عنه.
الأمر الرابع: أن نستثمر هذه السنن ونستفيد منها ونحن نتطلع للغير في مجتمعاتنا ونسعى إلى عالم أفضل، إننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فحين نتطلع للنهضة والرقي فعلينا أن نسلك هذه العوامل ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار ونحن إن كنا نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله تبارك وتعالى فيجدر بن أن نجتنب هذه الأسباب وأن نحذِّر بني قومنا منها.
أليس جدير بنا - ونحن نتطلع للتغيير ونحن نتطلع للإصلاح ونحن نسعى للتغيير في مجتمعات المسلمين- أن نتأمل هذه السنن وأن نعيها وأن ننزلها على واقعنا ونسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟
وهذا يضيف علينا عبئاً كبيراً ويجعلنا ندرك أن المسؤولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد جهود مرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها.
سنة التغيير
قال تعالى في بيان هذه السنة :(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وقال عز وجل (ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله :"إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لن يرفعه عنكم حتى ترجعوا لدينكم" وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا :"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها" قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله ؟ قال:"أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" قالوا ما الوهن ؟ قال:"حب الدنيا وكراهية الموت".
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, أن لا يهلك أمته لسنة بعامة, وسأل ربه أن لا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعه الله تبارك وتعالى ذلك، قال:"حتى يكون بعضهم يقتل بعضا ويسبي بعضا ".
ويقول صلى الله عليه وسلم :"يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا (هذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر وتبقي نذير خطر لأولئك الذين يسعون لإغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية) ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" ، إنها سنن كونيه نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله تبارك وتعالى بهذه العقوبات بما كسبت أيديها، وهذا أيضا مصداق لقوله تبارك وتعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، وهو أيضاً مصداق قوله تبارك وتعالى :( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) وقوله :( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ).(/5)
والحديث عن هذه السنة يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله تبارك وتعالى تؤيد هذا المعنى وتشهد له.
إن دراسة سنة التغيير هذه تعطينا نتائج:
النتيجة الأولى: أننا نحن المسؤولين عن هذا الواقع، وأن الأمة إنما أتيت من داخلها، فليس الكيد الخارجي والتآمر، وليس فلان أو فلان هم المسؤولين عما حل بالأمة، بل نحن المسؤولون عما حل بنا (ذلك بأن الله لم بكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، فالحال التي وصلنا إليها والواقع المر الذي نعانيه ونعيشه الآن إنما هو نتيجة للتغير الذي كان بأنفسنا، فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولانحيل مشاكلنا على غيرنا ولا نتهم بها سوانا ولا نحمل المسؤولية من لا يتحملها، فنحن وحدنا الذين نتحمل كل المسؤولية.
إن ما حل في مجتمعات المسلمين من بعد عن دين الله، من تخلف، من جهل، من أمية، من فقر من حروب، إن كل ذلك نتيجة منطقية لما كسبت أيدينا.
النتيجة الثانية : أن التغيير لن يتم إلا إذا غيرنا ما بداخلنا، إننا ونحن نتطلع إلى عالم أفضل، ونسعى إلى تغيير ما في الناس من بعد عن دين الله تبارك وتعالى، ونسعى إلى إعادة الناس إلى دين الله عز وجل لا يمكن أن يتحقق لنا ذلك دون أن نغير ما بأنفسنا، وإذا غيرنا ما بداخلنا فهي الخطوة الأولى للتغيير وللإصلاح.
النتيجة الثالثة: أن هذا يعطينا الاقتناع بأن التغيير ممكن، وأن الواقع المعاصر ليس أمراً حتماً ولازما؛ فالأمة يمكن أن تنتقل إلى عالم أفضل.
إننا حين ننظر إلى حال المسلمين وإلى حال هذه الأمة، نرى أن هناك أزمة تعانيها الأمة وأنها بحاجة إلى من يقنعها بالتغيير؛ فالكثير من الناس يعتقد أن هذا الواقع يفرض نفسه، ولهذا حين تحدثه عما في نفسه أو تحدثه عن قضية يعاني منها المجتمع، وتطالبه أن يأخذ بيد الساعين والقائمين للتغيير يقول لك : " إن المفروض شيء والواقع شيء آخر " وهذا يعني الاستسلام للواقع، وأنه ضربة لازمة لا سبيل ولا مناص إلى تغييره.
ثانيا والأمة مصابة بإلقاء التبعية على الجيل السابق أو اللاحق، وهي ثالثاً مصابة بداء تسويغ الواقع الذي تعيشه الأمة الآن.
إنها جريمة عظمى يرتكبها هؤلاء الذين يقفون حجر عثرة في سبيل أي جهد يبذل للإصلاح والتغيير، ويسعون لتبرير الواقع وتسويغه، وتسويغ الانحراف الذي تعاني منه الأمة والذي لم يعد خافيا على ذي بصيرة ، إن هناك من يدافع عن تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأمة؛ فيدافع ويبرر كثيرا من مظاهر الشرك والوثنية التي تعاني منها الآن ويلبسها لباس المصلحة تارة ولباس الجهل تارة أخرى، لأن أولئك يفقهون مالا يفقهون ويعملون مالا تعملون ويريدون مالا تريدون، والمصلحون حين ينزلون الحكم الشرعي على هذه الوقائع؛ فيقررون أن هذا الأمر جريمة، أو أن ذلك العمل صد عن سبيل الله، أو أن هذا مظهر من مظاهر الكفر بالله تبارك وتعالى، فهم يسعون إلي إثارة البلبلة وإلى تمزيق صف الأمة ووحدتها، وكأن هذه الأمة مدعوة لأن تتحد على الخنا والفجور، وأن تحافظ على هذا الاتحاد في ولو كان ذلك على حساب قضية الإيمان والتوحيد والعفة والنزاهة . إن جريمة من يسعى لتسويغ الواقع وتبريره، أشنع وأشد من جريمة القاعدين والناكصين.
وسلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعورهم بأن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلين ولهذا فالمسلمون دائما يتساءلون أين ابن تيمية ؟ أين صلاح الدين ؟ أين خالد بن الوليد ؟ أين فلان وفلان من الناس ؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئا، ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لايمكن أن يتغبر إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوم والبطل القادم، الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين والناكصين.
إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة ومرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوس كثير منهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لايجرؤون على أن يحملوا أنفسهم مسؤولية ما آل إليه واقعهم؛ فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يكن له من الناس عون وظهير فإنه سيقول كما قال موسى ( إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) ، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم ولم يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.(/6)
وأخيرا قد يلجأ الناس إلى الهروب من التفكير في القضية أصلا؛ فيهربون من التفكير في الواقع ومرارته، أو يهربون من المناقشة الصريحة في وسائل التغيير والإصلاح، ويصرفون القضية يمنة ويسرة، وهذا فرار من المسؤولية وتخل عن التبعة لن يفيدهم شيئا، ولن يغني عنهم أمام الله تبارك وتعالى.
النتيجة الرابعة (من نتائج فقه سنة التغيير): ضرورة القراءة المتأنية في داخل النفوس لاكتشاف العلة والسعي لإحداث التغيير، فما دام قد تقرر لدينا أن هذا التغيير الذي أصاب الأمة -وقد كانت أمة العز والنصر والتمكين- إنما أتاها من أنفسها ومن داخلها يدعونا إلى دراسة متأنية لما في النفوس، حتى نسعى إلى اكتشاف العلة، والبحث عن مكمن الداء، ثم نسعى بعد ذلك إلى العلاج والإصلاح.
إذا فقضية الإصلاح والتغيير تحتاج جهدا ضخما من القراءة في سنن الله تبارك وتعالى، ومن خلال قراءة ما في النفوس ووعيها، ثم إقناع الناس بواجب التغيير وضرورته وإمكان التغيير.
النتيجة الخامسة: شمولية الأمر لجميع جوانب الحية المختلفة فالله تبارك وتعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بأنفسهم ) فالله تبارك وتعالى لم يكن ليغير حال الناس من تدين وصلاح وتقوى إلى فجور إلا وقد غيروا ما بأنفسهم والعكس كذلك.
ويدخل في هذا الأمر أيضا ما يعاني منه المسلمون في أمور عالمهم المادي؛ فالأمة الإسلامية الآن مدرجة ضمن العالم المتخلف؛ فهي تعاني الأمية والجهل والفقر والتخلف والتأخر الاقتصادي والمديونية والتفرق والتمزق؛ إنها تحمل رصيدا هائلا من الأمراض البشرية التي تحملها المجتمعات المعاصرة؛ فهي حين تريد تغيير ما بها ينبغي أن تعلم أن التغيير إنما يتم من الداخل، فإن كانت الأمة صريحة مع نفسها فإنها يمكن أن تغير وإن أخلدت إلى الأرض، فإن هذا الواقع لن يتغير حتى يغير ما بواقع الناس.
النتيجة السادسة: ينبغي أن نربط هذه القضية بركن من أركان الإيمان، ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر؛ فلا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وحتى يعلم أن الأمور كلها تجري بقدر الله تبارك وتعالى.
إن المؤمنين يدركون جميعا هذه الحقيقة إدراكا نظريًّا، ويعلمون أن الأمور كلها في عالمهم المادي وغير المادي إنما هي بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويؤمنون ويدركون أيضا بأن الله تبارك وتعالى قد جعل لهذه الأمور أسباباً، وأن من تمام الإيمان بالقضاء والقدر أن يسلك الناس فعل الأسباب.
إن الناس كل الناس يدركون أن الجوع والمرض أمر بقدر الله تبارك وتعالى لكنهم يسعون إلى منع المرض عنهم ومنع الجوع عنهم، وإلى دفعه عنهم بالطعام والشراب والعلاج، إنهم يدركون جميعا أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى، وأنه لا يزيده ولا يرده حرص حريص، وأنه لن تموت نفس منفوسة حتى تستكمل رزقها، وأنه لن يحصل رزقهم إلا إذا فعلوا الأسباب؛ فيجتهدون ويبذلون وهم يعلمون أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى.
ولكن هل نحن في أمور مجتمعاتنا وفي نظرتنا إلى واقعنا ندرك هذه القضية وهذه الحقيقة، وهي ارتباط السبب بالنتيجة؟ هل ندرك أن الأمور بيد الله تبارك وتعالى؟ وما أكثر ما نردد: الأمور بيد الله، ونقول القضية قضاء وقدر ونلجأ إليه بالدعاء، لكن هل نحن مع ذلك نفعل الأسباب؟ هل نحن نسعى لفعل الأسباب ؟ إننا لن نحصل على رزقنا إلا بفعل الأسباب فلن ندرك التغيير أيضا في مجتمعاتنا والإصلاح إلا بفعل الأسباب والاجتهاد في ذلك وينبغي أن تكون الأسباب على قدر الهدف الذي نتطلع إليه ونسعى إليه.
ما بال الناس يجتهدون في دفع المرض عنهم؛ فينفقون الأموال الطائلة، ويسافرون يمنة ويسرة في محاولة علاج هذا المرض، مدركين أن ذلك من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور بيد الله لكنهم يبذلون هذا الجهد، فهل نحن نبذل هذا الجهد في تصحيح واقعنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في علاج أمراضنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في دفع هذا الفساد الذي حل بأمة الإسلام؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في إزالة هذه المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين؟
إنه من الجهل بقضاء الله وقدره، بل من مخادعة النفس أن نضع يداً على يد ونقول إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن نبكي وننتحب على أمة الإسلام؛ فالبكاء لن يجدي ولن ينفع، والدعاء وحده لن يؤتي ثمرته إلا إذا كان معه جهد وبذل وتضحية وتحمل، إننا ما لم نشعر أننا يجب أن ندفع ثمنا باهظًا لإزالة المنكرات، وتصحيح الواقع للنهوض بهذه الأمة فإننا غير مؤهلين للتغيير؛ لأننا لم نغير ما بأنفسنا.
إن من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل هنالك علاقة مطردة في حياة الناس بين السبب والنتيجة؛ فكل نتيجة يوصل لها سبب معروف يعرفه الناس، بدءًا بأقل القضايا إلى الأمور المعقدة، سواء في عالمهم المادي أو حياة مجتمعاتهم وحركة التاريخ، وهذا يعني أن يسعى الناس إلى اكتشاف الأسباب، وإلى بذل الأسباب إذا كانوا يتطلعون إلى نتيجة.(/7)
إن إدراك هذه الحقائق معشر الأخوة الكرام ضرورة لأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير فهل ندرك هذه الحقائق وهل نسعى إلى غرسها في مجتمعات المسلمين ؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن يبدل ذل المسلمين إلى عز، وأن يغير معصيتهم إلى طاعة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه بشرعك، وينتصر فيه للمظلوم والضعيف؛ إنك سميع قريب مجيب ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(/8)
حتى يكون إسلاميا
محمد جلال القصاص
</TD
القانون: نص مُلزم؛ أو قل: مادة + سلطة. مادة يُؤخذ منها صيغته، وسلطة تعطيه الصفة الإلزامية، و تميزه عن صيغة الطلب والدعاء والإرشاد... إلخ.
وحتى يكون القانون إسلامياً لابد فيه من أمرين:
الأول: أن يكون نصه ـ صيغته ـ مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله علية وسلم ـ.
الثاني: ولا بد أن يكون الالتزام به سببه فقط أنه من عند الله _عز وجل_.. أن الله أمر بهذا، لا لأنه يحقق مصلحة دنيوية، ولا لأنه أفضل من غيره من القوانين الوضعية.
وهذا هو بعينه معنى الإسلام.. إذ الإسلام هو الاستسلام الخالص لله _عز وجل_.. قبول شرع الله ورفض شرع ما سواه؛ والاثنان معاً، فمن قبل شرع الله وقبل معه غيره فقد أشرك ومن رفض شرع الله بالكلية فقد جحد وكفر.
وهو بعينه معنى العبودية.. الذل والخضوع لله _عز وجل_، فمن خضع وذل وانقاد لهواه ـ وإن وافق الشرع ـ فهو عبد هواه قال الله: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" (الفرقان: من الآية43)، وقال الله: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً" (الجاثية: من الآية23).
وهو السلطان الذي تكلمت عنه الآيات "إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ" (النجم: من الآية23)، "أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ" (الروم:35).
وهو الإذن الذي أٌشير إليه في قوله _تعالى_: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" (يونس:59)، "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ" (الشورى: من الآية21).
ولابد أن تُعرض القضية على الناس على أنها قبول شرع الله قبول بمحبة وإذعان ورفض شرع ما سواه.. رفض ببغض وعداء، على أنها أمر يدور على الإيمان والكفر لا على الراجح والمرجوح.
إذ إن (الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة ولا تطوعاً ولا موضع اختيار، إنما هو موضع الإيمان أو... فلا إيمان "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" (الأحزاب: من الآية36)، "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الجاثية:18) كما يقول صاحب الظلال.
أقول: فرق أي فرق بين أن تعرض القضية على أنها إيمان أو كفر ـ أكبر أو أصغر ـ وبين أن تعرض على العباد ليبدوا رأيهم فيها. أيحكمونها أم لا؟
وكي تستسلم الجماهير وتُذعن... كي تقبل الخطاب الإسلامي وتنقاد لرموزه لابد أن تخاطب بقضية أخرى قبل هذه.
لابد أن تُعَرَّف بربها... تَتَعرف على أسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته. وأنه ما خلقها وما أراد منها إلا عبادته وحده لا شريك له، وأنه أعدَّ لمن أطاع الجنة وفيها وفيها، وأعد لمن عصاه النار وفيها وفيها، ثم بعد ذلك يقال لهم: "إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" (آل عمران: من الآية154). "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" (النساء: من الآية59).
وهذه هي طريقة القرآن حين يخاطب الناس بالتحاكم إلى الله ورسوله، قال _تعالى_: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (الشورى:10-12). والمعنى: لأن الله هو ربي الذي عليه أتوكل وإليه أنيب وهو فاطر السموات والارض الذي جعل لكم من..... لذلك إن اختلفتم في شيء فحكمه إلى الله.
ومثله "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (الأعراف: من الآية54) فمن له الخلق لابد ـ عقلاً وشرعاً ـ أن يكون له الأمر.
ومثله قول الله _تعالى_: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (النساء: من الآية59).(/1)
وهو ما حدث على يد المُعلم الأول _صلى الله عليه وسلم_، فقد ظل القرآن حينا لا يتكلم إلا على الجنة والنار، ويعرف الناس بربهم، يقص عليهم حال من سبقوا.. حال من أطاع منهم ومن عصى ليعتبروا، ثم بعد ذلك كانت التشريعات.
وكي يستقيم الأمر لا بد أن يقف مَن يحاولون أسلمة القوانين في المجالس النيابية ويتركون حِلَق العلم ويسلكون طرق السياسة، لا بد أن يقفوا مع أنفسهم لمراجعة منطلقاتهم وتصحيح أهدافهم.
فنحن نُعبد الناس لله، ولسنا نطوع الشرع على هوى الناس، والفكرة هي التي تغير السلوك المنحرف لا أننا نأتي للسلوك المنحرف بفكرة تصححه أو تبرره.
ما أريد قوله هو أن: الإذن والسلطان لا يفترقان.. ولا تدرج في هذا، لا يقال اليوم النص وغدا السلطة... لا يستقيم هذا الكلام. وما استقام من قبل، فقرن ونصف من الزمان والمحاولات تبذل والنتيجة أننا نحن الإسلاميين الذين نقدم التنازلات والعلمانيون هم الرابحون، وإنما التدرج يكون في تعليم الناس التوحيد ثم مطالبتهم بتطبيق الشرع تماماً كما بدأت أول مرة.(/2)
حج وهو مضيع للصلاة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الصلاة/ حكم الصلاة وحكم تاركها/حكم تارك الصلاة
التاريخ ... 05/04/1425هـ
السؤال
رجل كان تاركاً للصلاة بالكلية، ولا يصوم من رمضان إلا قليلاً ، ثم أراد الحج مع أمه ليكون محرماً لها ويؤدي فريضته، فقبيل الحج بدأ يصلي، ولكنه عند طواف الإفاضة نوى قطع حجته بسبب الزحام، ولكنه أكمل الطواف والسعي وباقي مناسك الحج مع أمه لكيلا تعلم بحاله، وبعد عودته إلى المخيم في اليوم الحادي عشر رجع إلى ترك الصلاة، ولا يدري بالكلية أو بعض الصلوات، وشك هل كان طاهراً في طواف الوداع أم لا؟ وشك كذلك في الجمرات، هل رماها كلها أم لا؟ علماً أنه لما عاد إلى بلده داوم على الصلاة مدة قصيرة، ثم عاد كما كان، وقبل سنتين منّ الله عليه بالتوبة، وقد حفظ تسعة أجزاء من القرآن، ولا يزال مستمراً في حفظه، وفي حضور الدروس العلمية.
-ما حكم حجه؟
الجواب
من ترك الصلاة بالكلية يستتاب، فإن تاب ورجع إلى الصلاة وإلا قتل بإجماع أهل العلم من السلف والخلف بلا منازع، ولكن اختلفوا هل يقتل كفراً أي لردته، أو يقتل حداً؟ ذهب الإمامان مالك، وأبو حنيفة، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه يقتل مرتداً فلا يرث ولا يورث، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين استناداً إلى نصوص كثيرة منها قوله –تعالى-: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [البقرة:217]، وقوله –تعالى-: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون" [الماعون:5]، فإذا كان هذا العذاب الشديد قد توعد الله به من انشغل عن الصلاة فلم يصلها إلا بعد خروج وقتها، فعذاب من تركها بالكلية أشد وأعظم، وبمثل قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه مسلم (82) من حديث جابر – رضي الله عنه -، وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد في الرواية الأخرى، والصحيحة عنه إلى أن من ترك الصلاة تهاوناً أو كسلاً يقتل حداً لا كفراً، ومعنى ذلك: أنه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، واستدلوا لهذا القول بأدلة أيضاً من القرآن والسنة، كقوله –تعالى-: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [النساء:48]، فهذا نص على أن كل الذنوب ومنها ترك الصلاة يغفره الله إذا شاء ما عدا الشرك، فإن من مات عليه لا يغفر الله له فهو خالد مخلد في النار، وبمثل قوله –تعالى- حكاية عن قول الحواريين: "إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" [المائدة:112]، وجه الاستدلال: أن الشك في قدرة الله كفر بدليل قوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، ومع هذا لم يكفر الحواريون بقولهم هذا، واستدلوا من السنة بحديث رواه البخاري (7506) ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وفيه: قصة الرجل الذي أوصى بنيه إذا مات أن يحرقوه ويذروه ويرموا رماده في البحر، وقال: "والله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من خلقه فبعثه الله، وقال له: ما الذي حملك على ذلك، قال: مخافتك يا رب قال الله: أدخلوا عبدي الجنة"، ووجه الاستدلال: أن الرجل شك في قدرة الله، والشك في ذلك كفر بلا نزاع بين أهل العلم قاطبة، وهو أعظم من ترك الصلاة ومع هذا غفر الله، وأيضاً لم ينقل في التاريخ الإسلامي كله إلى يومنا هذا أن أحداً قتل مرتداً لتركه الصلاة علاوة على ما يترتب على هذا القول –مع كثر من يترك الصلاة- طلاق زوجته، وأن أولاده أولاد غير شرعيين... إلخ.
والذي يظهر لي -والله أعلم- القول بعدم تكفير تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً، مع وجوب قتله حداً إن لم يتب ويقيم الصلاة.
وبعد تحرير هذه المسألة ينبني عليها القول في حكم الردة في إبطال الأعمال، مثل رجل حج حجة الإسلام ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام، فهل حجته الأولى قبل ردته تكفيه أو يلزمه أن يحج من جديد؟
اختلف العلماء فيه على قولين: الأول: أن الردة تبطل الأعمال التي قبلها، واستدلوا بقوله: "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فقد حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" [البقرة:217]، فعلق بطلان العمل على مجرد الردة، وبقوله –تعالى-: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن في الآخرة من الخاسرين" [الزمر:65]، إذا كان في خطاب الرسول –صلى الله عليه وسلم- وحاشاه عن ذلك بأبي هو وأمي، فما بالك بمن دونه، وعلى هذا القول يلزم السائل أن يحج مرة أخرى عن حجته الأولى؛ لأنها بطلت بالردة وهي تركه للصلاة بالكلية.(/1)
والقول الثاني في المسألة: أن الردة لا تبطل العمل السابق لها ولا يلزم إعادته أخذاً من القيد في توبة "فيمت وهو كافر" فقيد بطلان العمل بالموت على الكفر لا غير، واستدلوا من السنة بحديث حكم بن حزام – رضي الله عنه -: أنه قال: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرأيت أشياء كنت أتحنث (أتعبد) بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم، فهل فيها من أجرٍ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "أسلمت على ما أسلفت من خير" رواه البخاري (1436)، ومسلم (123). فالأعمال الحسنة التي عملت في الجاهلية تكتب لأصحابها بعد إسلامهم كما في الحديث الآخر: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"رواه البخاري (4689) ومسلم (2378) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وعلى هذا القول لا يلزم السائل أن يعيد حجه مرة أخرى، بل تكفيه حجته الأولى، والذي يظهر لي –والله أعلم- رجحان هذا القول؛ لقوة أدلته، ولأن عدم الإلزام بإعادة الأعمال هو المتفق مع أدلة يسر الشريعة وسماحتها "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر".
وخلاصة الجواب: أن حج السائل صحيح، ولا يؤثر عليه تردده في قطعه نتيجة الزحام ولا شكه في الطهارة في طواف الوداع أو عدد رميه الجمار.(/2)
حجاب أميركية سبب في إسلام أستاذ جامعي أميركي
قرأت عن قصة إسلام أستاذ جامعي أميركي ؛هل تعرفون ما السبب المباشر لإسلامه ؟ لقد كان السبب الأول لإسلامه حجاب طالبة أميركية مسلمة, معتزة بدينها, و معتزة بحجابها, بل لقد اسلم معه ثلاثة دكاترة من أستذة الجامعة و أربعة من الطلبة. لقد كان السبب المباشر لإسلام هؤلاء السبعة, الذين صاروا دعاة إلى الإسلام. هو هذا الحجاب.
يحكي الدكتور محمد أكويا قصته فيقول:
قبل أربع سنوات, ثارت عندنا بالجامعة زوبعة كبيرة, حيث التحقت للدراسة طالبة أميركية مسلمة, و كانت محجبة, و قد كان من بين مدرسيها رجل متعصب يبغض الإسلام و يتصدى لكل من لا يهاجمه. فكيف بمن يعتنقه و يظهر شعائره للعيان؟ كان يحاول استثارتها كلما وجد فرصة سانحة للنيل من الإسلام.
وشن حربا شعواء عليها, و لما قابلت هي الموضوع بهدوء ازداد غيظه منها,فبدأ يحاربها عبر طريق آخر,حيث الترصد لها بالدرجات, و إلقاء المهام الصعبة في الأبحاث, و التشديد عليها بالنتائج, و لما عجزت المسكينة أن تجد لها مخرجا تقدمت بشكوى لمدير الجامعة مطالبة فيها النظر إلى موضوعها. و كان قرار الإدارة أن يتم عقد بين الطرفين المذكورين الدكتور و الطالبة لسماع وجهتي نظرهما و البت في الشكوى.
و لما جاء الموعد المحدد. حضر أغلب أعضاء هيئة التدريس, و كنا متحمسين جدا لحضور هذه الجولة التي تعتبر الأولى من نوعها عندنا بالجامعة. بدأت الجلسة التي ذكرت فيها الطالبة أن المدرس يبغض ديانتها. و لأجل هذا يهضم حقوقها العلمية, و ذكرت أمثلة عديدة لهذا, و طلبت الاستماع لرأي بعض الطلبة الذين يدرسون معها, وكان من بينهم من تعاطف معها و شهد لها, و لم يمنعهم اختلاف الديانة أن يدلوا بشهادة طيبة بحقها.
حاول الدكتور على أثر هذا أن يدافع عن نفسه, و استمر بالحديث فخاض بسب دينها.
فقامت تدافع عن الإسلام. أدلت بمعلومات كثيرة عنه, و كان لحديثها قدرة على جذبنا,حتى أننا كنا نقاطعها فنسألها عما يعترضنا من استفسارات.
فتجيب فلما رآنا الدكتور المعني مشغولين بالاستماع و النقاش خرج من القاعة.
فقد تضايق من اهتمامنا و تفاعلنا. فذهب هو و من لا يرون أهمية للموضوع.
بقينا نحن مجموعة من المهتمين نتجاذب أطراف الحديث, في نهايته قامت الطالبة بتوزيع ورقتين علينا كتب فيها تحت عنوان " ماذا يعني لي الإسلام؟" الدوافع التي دعتها لاعتناق هذا الدين العظيم, ثم بينت ما للحجاب من أهمية و أثر.و شرحت مشاعرها الفياضة صوب هذا الجلباب و غطاء الرأس الذي ترتديه. الذي تسبب يكل هذه الزوبعة.
لقد كان موقفها عظيما, و لأن الجلسة لم تنته بقرار لأي طرف, فقد قالت أنها تدافع عن حقها, و تناضل من أجله, ووعدت أن لم تظفر بنتيجة لصالحها أن تبذل المزيد حتى لو اضطرت لمتابعة القضية و تأخير الدراسة نوعا ما, لقد كان موقفا قويا, و لم نكن أعضاء هيئة التدريس نتوقع أن تكون الطالبة بهذا المستوى من الثبات و من أجل المحافظة على مبدئها. و كم أذهلنا صمودها أمام هذا العدد من المدرسين و الطلبة, و بقيت هذه القضية يدور حولها النقاش داخل أروقة الجامعة.
أما أنا فقد بدأ الصراع يدور في نفسي من أحل تغيير الديانة ,فما عرفته عن الإسلام حببني فيه كثيرا, و رغبني في اعتناقه, و بعد عدة أشهر أعلنت إسلامي, و تبعني دكتور ثان و ثالث في نفس العام, كما أن هناك أربعة طلاب أسلموا. و هكذا في غضون فترة بسيطة أصبحنا مجموعة لنا جهود دعوية في التعريف بالإسلام والدعوة إليه, و هناك الآن عدد من الأشخاص في طور التفكير الجاد, و عما فريب إن شاء الله ينشر خبر إسلامهم داخل أروقة الجامعة.
و الحمد لله وحده.(/1)
حجة الوداع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
في حجة الوداع تلك الحجة التي أرسى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قواعد الإسلام، وأبطل عادات الجاهلية وتقاليدها، وبين للناس أمور دينهم ومناسك حجهم، فيكون - صلى الله عليه وسلم - بذلك قد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة وأكمل المهمة التي ابتعثه الله بها، وكان يشير - صلى الله عليه وسلم - في خطابه وتوجيهه لتلك الحشود التي شرفت بالحج معه - صلى الله عليه وسلم - بأن وقت المغادرة قد حان وأنه الوداع للأمة في تلك المشاعر الطاهرة والأماكن المقدسة فقد كان يقول: "أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً".
وكأني بالناس وقد سكنوا وأنصتوا، وكأن الدنيا أنصتت كذلك إلى تلك الكلمات العظيمة المودعة التي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أنست به الدنيا كلها منذ أكرمه الله به من النبوة والرسالة فكان رحمة للعالمين ، فها هو اليوم يلمح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه، وغرس الأرض بغراس الإيمان والتوحيد، هذا هو - صلى الله عليه وسلم - يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في حجة الوداع في كلمات موحية مؤثرة ويحمل أمته مسئولية الدعوة والبلاغ والسير على الصراط المستقيم ثم يريد - صلى الله عليه وسلم - أن يطمئن بأن الأمة قد دعت رسالتها وفقهت عنه ما أمره الله بتبليغه وبيانه، وماذا سيقولون لربهم يوم القيامة عندما يسألهم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - في ختام خطبته العظيمة، في حجة الوداع على صعيد عرفات موجهاً خطابه إلى تلك الجموع: إنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ وارتفعت الأصوات من حوله قائلة: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. عندئذ اطمأن الرسول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، وبدت ملامح الرضا في عينيه الكريمتين ونظر بهما إلى السماء مشيراً بسبابته إليها ثم إلى الناس ، قائلاً: اللهم اشهد .. اللهم اشهد .. اللهم اشهد"
أيها الإخوة المؤمنون: في حجة الوداع وفي تلك المشاهد وهاتيك البقاع أنزل الله على عبده ورسوله قوله الكريم: ? ... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً...?[التوبة:3]، نزلت هذه الآية بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر والرسول - صلى الله عليه وسلم - على ناقته، وفي هذه الآية الكريمة إعلان بكمال الرسالة، وتمام النعمة، فقد أكمل الله الدين فليست فيه زيادة لمستزيد، وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج القويم والشرع الحكيم والدين الكامل الشامل في عقائده وعبادته ، وأحكامه وآدابه، ورضي الله لهم الإسلام ديناً، فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته إذاً، إنما يعلن رفضه وتمرده على ما ارتضاه الله للمؤمنين. وإن الإنسان المؤمن ليقف خاشعاً أمام منَّة الله عز وجل ونعمته العظيمة الجليلة المتمثلة في إكمال الدين وإتمام النعمة واختيار الله لنا هذا الدين القويم ، وارتضاه لنا ديناً قيماً، ربط الخير والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة باعتناق الإسلام والقيام بفرائضه وتطبيقه في الصغيرة والكبيرة، والعظيم والحقير من أمور حياتنا، كما أن الله تبارك اسمه وتعالى جده جعل الشقاء والضنك والخسران في الدنيا والآخرة في الابتعاد عن الإسلام والإعراض عنه، واعتناق دين سواه فقال سبحانه : ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[ آل عمران:85].(/1)
ولقد حدد الله للبشر جميعاً الدين الذي ارتضاه ، وأوجب عليهم الدخول فيه بصدق وإخلاص وهو الإسلام فقال عز وجل: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ?[البقرة:208]. إنه أمر صريح من الله عز وجل لعباده بأن يدخلوا في الإسلام دخولاً كاملاً شاملاً، بحيث لا يجوز لهم ولا ينبغي أن يتخيروا بين شرائعه وأحكامه، فما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق أهوائهم وسياستهم ردوه أو تركوه وأهملوه كما هو حاصل ومشاهد اليوم في عالمنا الإسلامي الذي يعيش انفصاماً نكداً بين ما يريده الله عز وجل وبين ما يريده الطواغيت من البشر ?... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ...? [البقرة:85].
فهناك من يريد الإسلام انتساباً فقط ويعطل أحكامه وفرائضه، وهناك من يجعل الإسلام ديناً شخصياً فحسب بمعنى أن يؤمن الإنسان بقلبه ويدع مالقيصر لقيصر، ليترك الظلم والفساد وليدع الناس وشأنهم يعربدون ويفجرون، وينتهكون الحرمات والحرام، هذا خلاف ما يريده الله عز وجل .
وهناك من يأخذ من الإسلام ما يتعلق بالأحوال الشخصية فقط مثل الزواج والطلاق والميراث فحسب، ويرفض الباقي وهذا خلاف دين الله الذي ارتضاه ورضيه لنا .
وهناك من يطبق بعض الحدود فقط وينتقي منها ما يثبت به رغباته ومصالحه، ويترك الحدود كلها وهذا خلاف دين الله الذي ارتضاه ورضيه لنا . في بلاد الإسلام اليوم من يريد أن يسلخ الأمة من دينها فيفسد التعليم والإعلام ويغيب عن أجيال الأمة معاني الإيمان والقرآن ثم يتشدقون بعد ذلك بالإسلام.
وهناك من يأخذ من الإسلام الصلاة ويلغي الزكاة والحدود والأحكام، في بلاد المسلمين اليوم من يبيح المحرمات والفواحش وينظمها بالقوانين واللوائح فالربا يمارس جهاراً نهاراً وقد علمتم ما قال الله في الربا والمتعاملين به، والخمرة وهي أم الخبائث تصنع وتصدر وتشرب ويتاجر بها، وبعض الدول تأخذ عليها الضرائب وتمنحها التصاريح ثم نزعم بعد ذلك بأنها مسلمة، وكذا الزنا واللواط له محلاته ورواده في كثير من البلاد التي تنتسب إلى الإسلام.
في بلاد الإسلام اليوم من يعطل فرائض الله ويلغي أحكامه ففريضة الجهاد قد اختفت ولم يعد لها وجود .. كيف ألغيت؟ من وراء إزاحتها وإلغائها؟ ثم لماذا تلغى؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ألغي هو الآخر من حياتنا وترك للمنكر والفساد أن ينتشر ويتفشى ، ويحميه مع ذلك الدستور والقانون في كثير من البلدان ثم يزعمون بأنهم مؤمنون مسلمون.
في بلاد الإسلام فئات تطالب بمحاربة الحشمة والحجاب وتدعوا إلى التعري والاختلاط والتبرج والسفور والله تعالى يقول لنساء النبي ونساء المسلمين: ? يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... ? [الأحزاب:32]وقال: ? وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ?[ الأحزاب:33].
أيها المؤمنون إن الإسلام هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لنا فهو دين ودولة كما رسمه الله لأنبيائه عموماً، ولخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً، وكما سار عليه في حياته، وسار عليه خلفاؤه من بعده، لأن معنى الدين مشتق من الإدانة، التي هي الحكم والإخضاع، فمعنى (دان يدين) أي خضع بالطاعة والولاء والانقياد لأوامر الشريعة ونواهيها ، فمبدأ الإسلام الذي بينه ونفذه محمد - صلى الله عليه وسلم - بجميع معانيه وأنظمته ومفاهيمه التشريعية والتعبدية ، يجب على المسلمين جميعا أن يدينوا بها، رضاً منهم بما ارتضاه لهم ربهم بقوله: ?... وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ...?[المائدة:3]، دون اقتصار على شيء دون شيء ، فإن المقتصر على بعضها فقط، يكون غير راض بما رضيه الله له وغير راض بإتمام النعمة من الله بدينه الإسلام، الذي يجب أن يؤخذ كله ويعمل به كله دون تفريق ولا تشطير، فمن عمل ببعضه دون بعض يكون مؤمناً بالبعض وكافراً بالبعض الآخر، فقد حكم الله على بني إسرائيل من قبلنا بالكفر حيث ساروا على هذا المنهج والمنوال في الأخذ بالبعض وترك البعض الآخر، وتوعدهم الله على ذلك بعذاب الخزي في الدارين كما قال تعالى: ?... َفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ?[البقرة:85].
ولقد صدق وعيد الله إذ أصاب المسلمين بخزي كبير وذلة مرذولة جزاء تركهم لفرائض الله وأحكامه ، فكانوا في هذا الواقع المرير والصورة الأليمة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم ولن يرفع ما حل بالأمة إلا بالرجوع وأخذ الإسلام جملة والدخول فيه .
الخطبة الثانية:(/2)
ستحل علينا أيام شريفة فاضلة ، يضاعف فيها الأجر عند الله عز وجل إنها أيام عشر ذي الحجة التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشرـ قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء".
إنها فرصة عظيمة ونفحة من نفحات ربنا وباب من البركات والخيرات يفتح علينا، على العاقل أن يبادر إلى اغتنام هذه الأوقات التي لا تعوض، بالإكثار من فعل الخير والإقبال على الله عز وجل.
وطرق الخير كثيرة بحمد الله ومتعددة، فذكر الله عز وجل وقراءة القرآن من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله وكذا الإكثار من نوافل الصلاة والصوم والصدقة، ومساعدة المحتاجين، وقد سأل أبو ذر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال (إيمان بالله وجهاد في سبيله) . قلت فأي الرقاب أفضل ؟ قال ( أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها) . قلت فإن لم أفعل ؟ قال ( تعين صانعاً أو تصنع لأخرق) . قال فإن لم أفعل ؟ قال ( تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك" .
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "يصبح على كل سٌلامى ـ المفصل ـ من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"
قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" وذلك لما فيه إيناس للمسلم وإدخال البهجة والسرور عليه ودفع الوحشة عنه وجبر لخاطره وبذلك يحصل التآلف والتآخي بين المسلمين والتعاون على البر والتقوى وهذا ما يريده الله منا.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل سٌلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" وقال - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم:"يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" يعني لا تمتنع جارة من فعل الخير من الهدية والصدقة على جارتها مهما كان ذلك الشيء يسيراً أو قليلاً ، بل تجود بما تيسر فهو خير من العدم، قال تعالى: ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ?[ الزلزلة:7].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين".
وإذا كان إزالة شجرة من الطريق تؤذي المسلمين عمل يدخل الإنسان الجنة فكيف بمن يزيل عنهم المظالم النازلة عليهم بسبب السياسات الجائرة والخاطئة التي تمس حياتهم ومعيشتهم وتلحق بهم الضرر والأذى؟ إن من يسعى في ذلك محتسباً أجره عند الله فسوف يؤتيه الله أجراً عظيماً ، فيا ليت الحكومة تزيل عنا المظالم والجرعات التي يفرضها علينا أعداؤنا.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة"
أيها الإخوة المؤمنون: إن أحب الناس إلى الله أنفعهم لعباده وإن أمة الإسلام تحتاج إلى جهود كبيرة للإسهام في التخفيف من معاناتها، فالمسلمون في الشيشان الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا لله بحاجة إلى وقوف إخوانهم معهم بالدعم المالي والسياسي وبالدعاء وبكل ما يمكن أن يقدم لهم.
وكذلك الأمر في فلسطين التي تواطأ عليها اليهود والنصارى والذين أشركوا، لتحويلها من بلد إسلامي إلى بلد يسيطر عليه اليهود أعداء الله وأعداء دينه وأوليائه، الذين شردوا الشعب المسلم في فلسطين وارتكبوا أفضع وأبشع المجازر خلال وجودهم منذ عام 1948م وحتى اليوم، وهناك بقية صامدة تكافح التآمر اليهودي والصليبي ، وهؤلاء بحاجة إلى الدعم والمساندة حتى يستمر جهادهم، وكفاحهم حتى يأذن الله بالنصر والفتح.
وفي بلادنا ومجتمعنا حالات مروعة من الفقر والحاجة فالناس قد طحنهم الغلاء، وانخفاض العملة وقلة الأعمال، وكثرة المظالم هم بأمس الحاجة إلى من يتفقد أحوالهم ويواسي جراحاتهم ومشكلاتهم.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ سنن ابن ماجه. ج2. باب الوقوف بجمع. الحديث رقم: 3023 و سنن الترمذي ،أَبواب الحَجِّ [والعمرة] عن رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بابُ ما جاءَ في الإفاضةِ من عرفاتٍ.الحديث رقم: 887 صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص175 باب الحج والعمرة والزيارة رقم الحديث:2449(/3)
ـ صحيح البخاري،باب: الخطبة أيام منى. الحديث رقم:1654:
ـ سنن ابن ماجه.ج1 باب صيام العشر.الحديث رقم1727 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج1 ص289 رقم الحديث: 1404
ـ البخاري 2/ 891، حديث رقم: 2382.
ـ صحيح البخاري، ج2 باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم. الحديث رقم: 2560 وصحيح مسلم.ج1كتاب صلاة المسافرين وقصرها.باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست، والحث على المحافظة عليها. الحديث رقم: 720 واللفظ لمسلم.
ـ صحيح مسلم ج4 باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء. الحديث رقم: 2626.بلفظ ( تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"
ـ صحيح البخاري، ج2 باب: فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم. الحديث رقم: 2560 وصحيح مسلم. ج2 باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. الحديث رقم: 1009 .
ـ صحيح البخاري ج4 ، باب: لا تحقرن جارة لجارتها الحديث رقم: 5671 وصحيح مسلم. ج2 باب الحث على الصدقة ولو بالقليل، ولا تمتنع من القليل لاحتقاره.الحديث رقم الحديث: 1030
ـ صحيح البخاري،ج1. باب: أمور الإيمان. الحديث رقم: 9 وصحيح مسلم ج1، كتاب الإيمان. باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان.الحديث رقم: 35
ـ صحيح مسلم. ج4 باب فضل إزالة الأذى عن الطريق.الحديث رقم: 1914
ـ صحيح مسلم ج3 كتاب المساقاة.باب فضل الغرس والزرع.الحديث رقم: 1552(/4)
حجوا قبل ألا تحجوا ... ... ...
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..أما بعد:
فاحمد الله عز وجل – أخي المسلم – أن مد في عمرك لترى تتابع الأيام الشهور, فأمامك الآن موسم الحج الذي قد أشرق،وهاهم وفود الحجيج بدءوا يملأون الفضاء ملبين مكبرين أتوا من أقصى الأرض شرقاً وغرباً وبعضهم له سنوات وهو يجمع درهماً على درهم يقتطعها من قوته حتى جمع ما يعينه على أداء هذه الفريضة العظيمة.
أخي الحبيب إذا تيسرت لك الأسباب وتهيأت لك السبل فلماذا تؤخر وإلى متى تؤجل؟ أما سمعت قول الله عز وجل: ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) [آل عمران :97]
وقوله تعالى: ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) [البقرة: 196] وقوله جلا وعلا: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) [الحج :27]
أخي المسلم: الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلاالله وأن محمداً رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج بيت الله لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً)[متفق عليه].
ويجب على المسلم المستطيع المبادرة إلى الحج حتى لا يأثم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )[رواه أحمد ]
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار, فينظروا كل من كان له جدةٌ ولم يحج, فيضربوا عليهم الجزية, ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين ) [رواه البيهقي ].
فيجب عليك أخي المسلم المبادرة والإسراع إلى أداء هذه الفريضة العظيمة فإن الأمور ميسرة ولله الحمد , فلا يقعدنك الشيطان ولايأخذنك التسويف ولا تلهينك الأماني .. واسأل نفسك .. إلى متى وأنت تؤخر الحج إلى العام القادم؟ ومن يعلم أين أنت العام القادم؟! وتأمل في حال الأجداد كيف كانوا يحجون على أقدامهم وهم يسيرون شهوراً وليالي ليصلوا إلى البيت العتيق؟!
أخي المسلم : إن فضل الحج عظيم وأجره جزيل , فهو يجمع بين عبادة بدنية ومادية , فالأولى بالمشقة والتعب والنصب والحل والترحال والثانية بالنفقة التي ينفقها الحاج في ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) متفق عليه.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال:( إيمان بالله ورسوله ) قيل: ثم ماذا ؟ قال: ( جهاد في سبيل الله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال: ( حج مبرور) رواه البخاري .
وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على التزود من الطاعات والمتابعة بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير الحديد والذهب والفضة, (وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة ) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث يحرك المشاعر ويستحث الخطى: ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) رواه مسلم.
وأبشر بيوم عظيم تقال فيه العثرة وتغفر فيه الزلة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ) رواه مسلم.
فلتهنأ نفسك ولتقر عينك واستعد للقاء الله عز وجل واستثمر أوقاتك فيما يعود عليك نفعها في الآخرة فإنها ستفرحك يوم لا ينفع مال ولا بنون .. يوم تتطاير الصحف, وترتجف القلوب, وتتقلب الأفئدة, وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. ولكن عذاب الله شديد.
أخي الحبيب: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها وللآخرة بقدر بقائك فيها, ولا تسوف فالموت أمامك والمرض يطرقك والأشغال تتابعك ولكن هرباً من كل ذلك استعن بالله وتوكل عليه وكن من الملبين المكبرين هذا العام.
أخي المسلم : أما وقد انشرح صدرك وأردت الحج وقصدت وجه الله عز وجل والدار الآخرة أذكرك بأمور :
1- الاستخارة والاستشارة: فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار، فاستخر الله في الوقت والراحلة والرفيق ، وصفة الاستخارة أن تصلي ركعتين ثم تدعو دعاء الاستخارة المعروف.
2- إخلاص النية لله عز وجل: يجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة لتكون أعماله وأقواله ونفقاته مقربة إلى الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
3- تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما: وتعلم شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم، وحتى لا تقع في الأخطاء التي قد تفسد عليك حجك. وكتب الأحكام ولله الحمد متوفرة بكثرة.(/1)
4- توفير المؤونة لأهلك والوصية لهم بالتقوى: فينبغي لمن عزم على الحج أن يوفر لمن تجب عليه نفقتهم ما يحتاجون إليه من المال والطعام والشراب وأن يطمئن على حفظهم وصيانتهم وبعدهم عن الفتن والأخطار.
5- التوبة إلى الله عز وجل من جميع الذنوب والمعاصي: قال الله تعالى: ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [النور:31].
وحقيقة التوبة: الإقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي وتركها ، والندم على فعل ما مضى والعزيمة على عدم العودة إليها، وإن كان عنده مظالم للناس ردها وتحللهم منها سواء كانت عرضا أو مالا أو غير ذلك.
6- اختيار النفقة الحلال : التي تكون من الكسب الطيب حتى لا يكون في حجك شيء من الإثم.
إذا حججت بمال أصلُه سحتٌ ----- فما حججتَ ولكن حجَّتِ العيرُ
لا يقبلُ الله إلا كلَّ صالحة ----- ما كلُّ من حجَّ بيت الله مبرور.
7- اختيار الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر؛ يذكرونك إذا نسيت ويعلمونك إذا جهلت ويحوطونك بالرعاية والمحبة. وهم يحتسبون كل ذلك عبادة وقربة إلى الله عز وجل.
8- الالتزام بآداب السفر وأدعيته المعروفة ومنها: دعاء السفر والتكبير إذا صعدت مرتفعا والتسبيح إذا نزلت وادياًَ، ودعاء نزول المنزل وغيرها.
9- توطين النفس على تحمل مشقة السفر ووعثائه وصعوبته : فإن بعض الناس يتأفف من حر أو قلة طعام أو طول طريق. فأنت لم تذهب لنزهة أو ترفيه، اعلم أن أعلى أنواع الصبر وأعظمها أجرا هو الصبر على الطاعة.. ومع توفر المواصلات وتمهيد السبل إلا أنه يبقى هناك مشقة وتعب.. فلا تبطل أعمالك أيها الحاج بالمن والأذى وضيق الصدر ومدافعة المسلمين بيدك أو بلسانك بل عليك بالرفق والسكينة.
10- غض البصر عما حرم الله: واتق محارم الله عز وجل فأنت في أماكن ومشاعر عظيمة ، واحفظ لسانك وجوارحك ولا يكن حجك ذنوبا وأوزارا تحملها على ظهرك يوم القيامة.
تقبل الله طاعاتنا وتجاوز عن تقصيرنا وجعلنا ووالدينا من المغفور لهم الملبين هذا العام والأعوام القادمة .
كاتب المقال: عبدالملك القاسم
المصدر: موقع مسلمة
...(/2)
حجوا قبل أن لا تحجوا
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..أما بعد:
فاحمد الله عز وجل – أخي المسلم – أن مد في عمرك لترى تتابع الأيام الشهور، فأمامك الآن موسم الحج الذي قد أشرق،وهاهم وفود الحجيج بدأوا يملأون الفضاء ملبين مكبرين أتوا من أقصى الأرض شرقاً وغرباً وبعضهم له سنوات وهو يجمع درهماً على درهم يقتطعها من قوته حتى جمع ما يعينه على أداء هذه الفريضة العظيمة.
وأنت هنا - أخي الحبيب – قد تيسرت لك الأسباب وتهيأت لك السبل فلماذا تؤخر وإلى متى تؤجل؟ أما سمعت قول الله عز وجل: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
وقوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:196] وقوله جلا وعلا: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
أخي المسلم: الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، قال رسول الله : { بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلاالله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،وحج بيت الله لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً } [متفق عليه].
ويجب على المسلم المستطيع المبادرة إلى الحج حتى لا يأثم، قال رسول الله : { تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له } [رواه أحمد].
وعن عبد الرحمن بن سابط يرفعه: (من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس، أو سلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال، يهودياً أو نصرانياً).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: { لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدةٌ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين } [رواه البيهقي].
فيجب عليك أخي المسلم المبادرة والإسراع إلى أداء هذه الفريضة العظيمة فإن الأمور ميسرة ولله الحمد، فلا يقعدنك الشيطان ولايأخذنك التسويف ولا تلهينك الأماني.. واسأل نفسك.. إلى متى وأنت تؤخر الحج إلى العام القادم؟ ومن يعلم أين أنت العام القادم؟ ! وتأمل في حال الأجداد كيف كانوا يحجون على أقدامهم وهم يسيرون شهوراً وليالي ليصلوا إلى البيت العتيق؟!
أخي المسلم: إن فضل الحج عظيم وأجره جزيل، فهو يجمع بين عبادة بدنية ومادية، فالأولى بالمشقة والتعب والنصب والحل والترحال والثانية بالنفقة التي ينفقها الحاج في ذلك.
قال : { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة }، وقال : { من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه } [متفق عليه].
وسئل النبي : { أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" } [رواه البخاري].
وحث الرسول على { التزود من الطاعات والمتابعة بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة } [رواه الترمذي].
وقال في حديث يحرك المشاعر ويستحث الخطى: { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } [رواه مسلم].
ومع هذا الأجر العظيم فإن أيام الحج قليلة لا تتجاوز أسبوعاً لمن هم في هذه البلاد ولله الحمد وأربعة أيام لأهل مكة وما حولها !! أليست أخي المسلم نعمة عظيمة؟ ! فلا تتردد ولا تتهاون فالدروب ميسرة والطرق معبدة والأمن ضارب أطنابه ورغد العيش لا حد له.. نعم تحتاج إلى شكر، وحياة خلقت فيها للعبادة فلا تسوف ولا تؤخر وأبشر فأنت من وفد الرحمن، وفد الله، دعاهم فأجابوا وسألوه فأعطاهم.
وأبشر بيوم عظيم تقال فيه العثرة وتغفر فيه الزلة فقد قال : { ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة } [رواه مسلم].
فلتهنأ نفسك ولتقر عينك واستعد للقاء الله عز وجل واستثمر أوقاتك فيما يعود عليك نفعها في الآخرة فإنها ستفرحك يوم لا ينفع مال ولا بنون.. يوم تتطاير الصحف، وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. ولكن عذاب الله شديد.
أخي الحبيب: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها وللآخرة بقدر بقائك فيها، ولا تسوف فالموت أمامك والمرض يطرقك والأشغال تتابعك ولكن هرباً من كل ذلك استعن بالله وتوكل عليه وكن من الملبين المكبرين هذا العام.
أخي المسلم: أما وقد انشرح صدرك وأردت الحج وقصدت وجه الله عز وجل والدار الآخرة أذكرك بأمور:
1- الاستخارة والاستشارة: فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار، فاستخر الله في الوقت والراحلة والرفيق، وصفة الاستخارة أن تصلي ركعتين ثم تدعو دعاء الاستخارة المعروف.(/1)
2- إخلاص النية لله عز وجل: يجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة لتكون أعماله وأقواله ونفقاته مقربة إلى الله عز وجل، قال : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } [متفق عليه].
3- تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما: وتعلم شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم، وحتى لا تقع في الأخطاء التي قد تفسد عليك حجك. وكتب الأحكام ولله الحمد متوفرة بكثرة.
4- توفير المؤنة لأهلك والوصية لهم بالتقوى: فينبغي لمن عزم على الحج أن يوفر لمن تجب عليه نفقتهم ما يحتاجون إليه من المال والطعام والشراب وأن يطمئن على حفظهم وصيانتهم وبعدهم عن الفتن والأخطار.
5- التوبة إلى الله عز وجل من جميع الذنوب والمعاصي: قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وحقيقة التوبة: الإقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي وتركها ، والندم على فعل ما مضى والعزيمة على عدم العودة إليها، وإن كان عنده مظالم للناس ردها وتحللهم منها سواء كانت عرضا أو مالا أو غير ذلك.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمة الله تعالى: من حج وهو تارك للصلاة فإن كان عن جحد لوجوبها كفر إجمتاعاً ولا يصح حجه، أما إن كان تركها تساهلاً وتهاوناً فهذا فيه خلاف بين أهل العلم: منهم من يرى صحة حجه، ومنهم من لا يرى صحتة حجه، والصواب أنه لا يصح حجه أيضاً لقول النبي : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر }. وقوله : { بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة } وهذا يعم من جحد وجوبها، ويعم من تركها تهاوناً والله ولي التوفيق.
6- اختيار النفقة الحلال: التي تكون من الكسب الطيب حتى لا يكون في حجك شيء من الإثم. فإن الذي يحج وكسبه مشتبه فيه لا يقبل حجه، وقد يكون مقبولا ولكنه آثم من جهة أخرى. ففي الحديث عن الرسول أنه قال: { إذا خرج الحاج بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، حجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الحرام الخبيثة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك. ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك. زادك حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور } [رواه الطبراني].
إذا حججت بمال أصلُه سحتٌ *** فما حججتَ ولكن حجَّتِ العيرُ
لا يقبلُ الله إلا كلَّ صالحة *** ما كلُّ من حجَّ بيت الله مبرور
7- اختيار الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر؛ يذكرونك إذا نسيت ويعلمونك إذا جهلت ويحوطونك بالرعاية والمحبة. وهم يحتسبون كل ذلك عبادة وقربة إلى الله عز وجل.
8- الالتزام بآداب السفر وأدعيته المعروفة ومنها: دعاء السفر والتكبير إذا صعدت مرتفعا والتسبيح إذا نزلت وادياًَ، ودعاء نزول منازل الطريق وغيرها.
9- توطين النفس على تحمل مشقة السفر ووعثائه وصعوبته: فإن بعض الناس يتأفف من حر أو قلة طعام أو طول طريق. فأنت لم تذهب لنزهة أو ترفيه، اعلم أن أعلى أنواع الصبر وأعظمها أجرا هو الصبر على الطاعة.. ومع توفر المواصلات وتمهيد السبل إلا أنه يبقى هناك مشقة وتعب.. فلا تبطل أعمالك أيها الحاج بالمن والأذى وضيق الصدر ومدافعة المسلمين بيدك أو بلسانك بل عليك بالرفق والسكينة.
10- غض البصر عما حرم الله: واتق محارم الله عز وجل فأنت في أماكن ومشاعر عظيمة، واحفظ لسانك وجوارحك ولا يكن حجك ذنوبا وأوزارا تحملها على ظهرك يوم القيامة.
تقبل الله طاعاتنا وتجاوز عن تقصيرنا وجعلنا ووالدينا من المغفور لهم الملبين هذا العام والأعوام القادمة.(/2)
حدث في رمضان
1- نزول الكتب السماوية
نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضين من رمضان.
2- نزول الوحي
في يوم الاثنين 17 من رمضان وقيل في 24 عام 13 ق.هـ الموافق يوليو 610م، كان بدء نزول القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء كما ورد في السيرة النبوية لابن كثير.
3- وفاة خديجة بنت خويلد
في 10 رمضان بعد عشر سنين من البعثة النبوية (3 ق. هـ) الموافق 620م توفيت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- وفاة أبو طالب
في رمضان 3 ق . هـ الموافق 620م توفي أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فحزن عليه كثيراً.
5- أول سرية في الإسلام وأول لواء عقده الرسول
في رمضان 1هـ الموافق 623 عقد النبي صلى الله عليه وسلم ، أول لواء لأول سرية مسلحة وجعل قائدها حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ، وأدت السرية مهمتها بنجاح إذا اعترضت قافلة تجارية لأهل مكة جاءت من الشام. وهذه أول سرية في الإسلام.
6- أول رمضان صامه المسلمون
يوم الأحد 1 رمضان 2هـ الموافق 26 فبراير 624م هو أول رمضان صامه المسلمون ، وقيل : إن فرض صيام رمضان كان يوم الاثنين 1 شعبان 2هـ.
7- غزوة بدر الكبرى ووفاة السيدة رقية
في 17 رمضان 2هـ الموافق 12 مارس 624م حدثت غزوة بدر الكبرى أول انتصارات قوى الحق على شراذم الباطل ويطلق عليها (غزوة الفرقان) ، وكذلك توفيت السيدة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
8- فرض الزكاة وصلاة العيد والأمر بالجهاد
في التاسع والعشرين من رمضان 2هـ الموافق 24 مارس 624م فرضت زكاة الفطر ، وفرضت الزكاة ذات الأنصبة وشرعت صلاة العيد ، وفي نفس الشهر كان الأمر بالجهاد.
9- مولد الحسين بن علي بن أبي طالب
في 15 رمضان 3هـ الموافق 1 مارس 625م ولد الحسن بن علي بن أبي طالب.
10- تأليب المشركين المنهزمين في بدر للقبائل والتحالف معهم
في شهر رمضان عام 3هـ الموافق 625م كان المشركون المنهزمون في بدر قد قاموا بتأليب القبائل وتحالفوا معهم ، وأخذوا يستعدون للثأر ، بينما أخذت الجماعة المسلمة تستعد لصد العدوان الذي وقع فعلاً في (أحد) في السابع من شوال عام 3هـ.
11- زواج الرسول صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب بنت خزيمة
في 28 رمضان وقيل في 5 رمضان 4هـ الموافق 626م تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث التي لقبت (أم المساكين).
12- الاستعداد لغزوة الخندق
في رمضان 5هـ الموافق 627م كان الاستعداد لغزوة الخندق حيث وقعت في شهر من نفس العام.
13- إرسال زيد بن حارثة لفاطمة بنت ربيعة
في رمضان 6هـ الموافق 628م بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة لفاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية بناحية وادي القرى.
سببها أنها كانت ملكة في قومها وكان زيد مر بهم في بضاعة المسلمين فضربوه. وأخذوها منه. فسار إليهم يكمن نهاراً ويسير ليلاً فقلتها وكانت أمنع امرأة. ويقال في المثل : أمنع وأعز من أم قرفة ، يعنون فاطمة هذه. إذ كان يعلق في بيتها خمسون سيفاً لخمسين رجلاً كلهم محارمها.
14- فتح مكة المكرمة
في 21 رمضان 8 هـ الموافق 11 يناير 630م تم فتح مكة المكرمة ، وسمي هذا العام عام الفتح. ويسمى هذا الفتح (فتح الفتوح) حيث دخل الناس على إثره أفواجاً في دين الله. وكان فيه إسلام أبي سفيان.
15- موقعة الطائف
في الثاني والعشرين من شهر رمضان عام 8هـ الموافق 12 يناير 630م حدثت موقعة الطائف.
16- هدم الأصنام
في الخامس والعشرين من شهر رمضان 8هـ الموافق 15 يناير 630م بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم الأصنام ومنها العزى ، كما بعث عمرو بن العاص لهدم سواع ، وبعث سعد بن زيد الأشهلي لهدم مناة ، فأدى كل منهم مهمته بنجاح.
17- غزوة تبوك (العسرة)
في الثامن من شهر رمضان 9هـ الموافق 18ديسمبر 630م كانت غزوة تبوك ، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة في الشهر نفسه بعد أن أيده الله تعالى فيها تأييدا كبيراً.
18- دخول ثقيف في الإسلام
في الثامن والعشرين من شهر رمضان 9هـ الموافق 1 يناير 631م جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنوا دخولهم في الإسلام.
19- قدوم وفد ملوك حمير
في رمضان 9هـ الموافق 631م قد وفد ملوك حمير يعلنون إسلامهم فأكرم الرسول صلى الله عليه وسلم وفادتهم وكتب لهم كتاباً حدد فيه الحقوق والواجبات ، ويعتبر هذه الكتاب وثيقة هامة من وثائق التاريخ.
20- هدم صنم اللات
في 23 رمضان 9هـ الموافق 631 تم هدم الصنم اللات.
21- سرية علي بن أبي طالب:
في رمضان 10هـ 631م بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في سرية من المسلمين إلى بلاد اليمن وخاصة قبيلة همدان التي أسلم جميع أفرادها في يوم واحد وصلوا جماعة خلف علي رضي الله عنه.(/1)
22- وفاة فاطمة الزهراء رضي الله عنها
في الثالث من شهر رمضان الموافق 21 نوفمبر 632م توفيت فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأم سبطي الرسول الحسن والحسين رضي الله عنهما.
23- موقعة الفراض
في رمضان 12 هـ الموافق 633م حدثت موقعة الفراض بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد والروم وانتصر المسلمون في هذه الواقعة ، وتشير بعض المصادر لوقوعها في شهر ذي القعدة 12هـ.
24- معركة البويب
في شهر رمضان عام 13هـ ، حدثت معركة البويب بين المسلمين والفرس ، وكان لها أثر حاسم في كسر شوكة المجوس وفتح العراق وفارس ، وقد حدثت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان قائد المسلمين القائد البطل المثنى بن حارثة ، و(البويب) مغيض متفرع من نهر الفرات وقعت عنده هذه المعركة.
25- وصول عمر بن الخطاب إلى فلسطين وفتح بيت المقدس
في 13 رمضان 15هـ الموافق 18أكتوبر 636م وصل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى فلسطين بعد معارك ضارية لجنود الإسلام لفتح ديار الشام ، وتسلم مفاتيح مدينة القدس وكتب لأهلها يؤمن أرواحهم وأموالهم.
26- موقعة القادسية
في شهر رمضان عام 15هـ الموافق 636م كانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً على الفرس.
27- دخول الفتح الإسلامي مصر
في الأول من رمضان عام 20هـ الموافق 13 أغسطس 641م وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل الفتح الإسلامي مصر على يد القائد البطل عمرو بن العاص رضي الله عنه وأصبحت مصر بلاداً إسلامية.
28- حصار حصن بابليون
في الأول من شهر رمضان عام 20هـ الموافق 13 أغسطس 641م ، حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون بعد أن اكتسح في طريقه جنود الروم.
29- بناء مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط
في الرابع والعشرين من شهر رمضان عام 20هـ الموافق 5 سبتمبر 641م تم بناء مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه بالفسطاط.
30- انتصار المسلمين على الساسانيين
في 23 رمضان 31هـ الموافق 652م وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه انتصر المسلمون على الساسانيين بعد مقتل قائدهم يزد جرد بن شهريار آخر ملوك الفرس وانتهت بذلك دولة الفرس.
31- حادثة التحكيم
في الثالث من شهر رمضان عام 37هـ الموافق 11 فبراير 658م عقد التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما والذي حدث بعد موقعة الجمل وبين جند علي من ناحية ، وبين بني أمية وعائشة وطلحة والزبير من ناحية أخرى في شهر شعبان عام 36هـ ، وبعد موقعة صفين في محرم عام 37هـ بين جند علي ومعاوية ، وقد اقترن بالتحكيم ظهور الخوارج واستيلاء معاوية على مصر. رضي الله عن الصحابة أجمعين .
32- ولاية محمد بن أبي بكر الصديق على مصر
في الخامس عشر من شهر رمضان عام 37هـ الموافق 23 فبراير 658م تولى محمد بن أبي بكر الولاية على مصر.
33- وفاة عبيد الله بن عمر بن الخطاب
في 15 رمضان 37هـ الموافق 23 فبراير 658م توفي عبيدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
34- استشهاد علي بن أبي طالب
في فجر 17 رمضان 40هـ الموافق 23 يناير 661م اغتيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد اغتاله الخارجي عبد الرحمن بن ملجم الحميرى وهو ابن ثمان وخمسين.
35- مبايعة الحسن بن علي بالخلافة
في 18 رمضان 40هـ الموافق 24 يناير 661 بويع الحسن بن علي رضي الله عنهما بالخلافة بعد مقتل أبيه.
36- وفاة عمرو بن العاص
في 30 رمضان 43هـ الموافق 664 توفي عمرو بن العاص رضي الله عنه وعمره 100 عام.
37- بناء مدينة القيروان
في 29 رمضان 48هـ الموافق 9 نوفمبر 668م أمر عقبة بن نافع ببناء مدينة القيروان لتكون حصناً منيعاً للمسلمين ضد اعتداءات الروم والصليبيين.
38- بناء مسجد القيروان
في العشرين من شهر رمضان 51هـ الموافق 29 سبتمبر 671م بني مسجد القيروان على يد عقبة بن نافع رضي الله عنه.
39- فتح جزيرة رودس
في رمضان 53هـ الموافق 673م فتح المسلمون جزيرة رودس بقيادة جنادة بن أبي أمية الأزدي.
40- وفاة زيد بن أبيه
في رمضان 53هـ الموافق 673م توفي زياد بن أبيه في الكوفة ، وهو أحد دهاة العرب وساستها وخطبائها وقادتها.
41- وفاة السيدة عائشة
في ليلة الثلاثاء 17 رمضان 85هـ الموافق 12 يوليو 678م توفيت السيدة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ودفنت بالبقيع.
42- ولاية سعيد بن زيد على مصر
في الأول من شهر رمضان عام 62هـ الموافق 13 مايو 682م عين سعيد بن زيد والياً على مصر بعد وفاة واليها مسلمة بن مخلد.
43- مبايعة عبدالله بن الزبير بالخلافة
في رمضان 64هـ الموافق 684م بايع الناس عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة بالخلافة ، وهو الصحابي ابن الصحابي الجليل رضي الله عنهما.
44- وفاة مروان بن الحكم ومبايعة ابنه(/2)
في الأول وقيل الثامن عشر من شهر رمضان 65هـ الموافق 685 توفي مروان بن الحكم رابع خلفاء بني أمية وبويع ابنه عبد الملك بن مروان للخلافة الأموية ، ويعتبر عبد الملك المؤسس الثاني للدولة الأموية.
45- فتح المغرب الأوسط
في 2 رمضان عام 82هـ كانت الجيوش الإسلامية في شمال أفريقيا تواجه الروم من جهة والبربر من جهة أخرى ، وكانت زعيمة البربر تسمى الكاهنة وقد استطاعت أن تجمع شملهم وتحارب المسلمين سنوات طويلة ، ولم يستطع القائد المسلم زهير بن قيس أن ينتصر عليها حتى جاء الحسان بن النعمان الذي صمم على فتح جميع بلاد المغرب إذ انطلق متوجهاً إلى أواسط المغرب والتقى بجيوش الكاهنة وانتصر عليها في رمضان عام 82 هـ.
46- بدء فتح الأندلس
في 1 رمضان 91هـ الموافق 710م نزل المسلمون بقيادة طريف بن مالك البربري إلى الشاطئ الجنوبي لبلاد الأندلس وغزوا بعض الثغور الجنوبية وبدأ فتح الأندلس ، وكان موسى بن نصير قد بعث طريف لاكتشاف الطريق لغزو الأندلس.
47- واقعة شذونة
في يوم الأحد 28 رمضان 92هـ الموافق 19 يوليو 711م بدأت واقعة شذونة التي استمرت ثمانية أيام بين المسلمين والقوط ، وقد وقعت في كورة (شذونة) في جنوب غرب أسبانيا ، وكان انتصار المسلمين في شذونة قد فتح أبواب الأندلس أمام المسلمين تماماً ، وكان قائد المسلمين طارق ابن زياد.
48- قيام موسى بن نصير باستكمال غزو الأندلس
في التاسع من شهر رمضان عام 93هـ الموافق 18 يونيو 712م ، قام القائد المسلم موسى بن نصير بحملة لاستكمال غزو الأندلس ، وتم فتح إشبيلية وطليطلة.
49- استشهاد سعيد بن جبير
في 11 رمضان 95هـ الموافق 714م استشهد سعيد بن جبير على يد الحجاج بن يوسف الثقفي.
50- وفاة الحجاج بن يوسف الثقفي
في السابع عشر وقيل الحادي والعشرين من شهر رمضان عام 95هـ الموافق يونيو 714م توفي الحجاج بن يوسف الثقفي ، قبل انتهاء مدة خلافة الوليد بن عبد الملك بأقل من سنة ، وكانت وفاته بالعراق ، وله من العمر 54 سنة.
51- فتح بلاد السند
في 6 رمضان 63هـ الموافق 14 مايو 682 م انتصر محمد بن القاسم على جيوش الهند عند نهر السند وتم فتح بلاد السند ، وكان ذلك في آخر عهد الوليد بن عبد الملك.
52- مولد عبد الرحمن الداخل
في 5 رمضان 113هـ الموافق 9 نوفمبر 731م ولد عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) في دمشق ، وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس.
53- وقعة بلاط الشهداء
في التاسع من شهر رمضان 114هـ الموافق أكتوبر 732م حدثت وقعة بلاط الشهداء في (تور – بواتيه) بين شارل مارتل قائد الفرنجة وبين عبد الرحمن الغافقي ، وفي هذه الواقعة هزم العرب وقتل الغافقي ، وتعرف لدى الفرنجة بموقعة (تور) أو (بواتييه).
54- ظهور دعوة بني العباس في خراسان
في الحادي عشر من شهر رمضان عام 129هـ الموافق 25 مايو 477م ، ظهرت دعوة بني العباس في خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني.
55- سقوط الدولة الأموية وقيام العباسية
في الثاني من شهر رمضان عام 132هـ الموافق 13 إبريل 750م استولى عبد الله أبو العباس على دمشق ، وبذلك سقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية.
56- مقتل الوليد بن معاوية
في العاشر من شهر رمضان عام 132هـ الموافق 21 إبريل 750 م قتل الخليفة الأموي الوليد بن معاوية.
57- عبور عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس
في 15 رمضان 138هـ الموافق 20 فبراير 756 م عبر عبد الرحمن الداخل المعروف بـ (صقر قريش) البحر إلى الأندلس ليؤسس دولة إسلامية قوية وهي الدولة الأموية في الأندلس.
58- مقتل النفس الزكية (محمد بن عبد الله)
في الثاني عشر وقيل الرابع عشر من شهر رمضان عام 145هـ الموافق ديسمبر 762م ، حدثت معركة بين الجيش العباسي بقيادة عيسى بن موسى ، والعلويين بقيادة النفس الزكية (محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب) في المدينة أدت إلى فشل العلويين ومقتل النفس الزكية.
59- تنصيب علي الرضا ولياً لعهد المأمون
في رمضان 201هـ الموافق 817م نصب الخليفة المأمون العباسي علي الرضا ولياً لعهده دون بني العباس ، وعلى إثر ذلك قامت الفتنة.
60- فتح صقلية
في 9 رمضان 212هـ الموافق 1 ديسمبر 827م نزل المسلمون على شواطئ جزيرة صقلية واستولوا عليها لينشروا الإسلام في ربوعها ، وتم فتح صقلية على يد زياد بن الأغلب.
61- تأسيس مدينة كانديا
في رمضان 217هـ الموافق 832م أسس المسلمون مدينة كانديا بجزيرة كريت.
62- القضاء على حركة (بابك الخرمي)(/3)
في التاسع من شهر رمضان عام 222هـ الموافق 837م ، تمكن القائد حيدر بن كاوس الأشروسني – المعروف باسم (الأفشين) والذي كلفه الخليفة العباسي المعتصم ، من دخول مدينة (البذ) مقر بابك الخرمي ، ففر بابك غير أن الأفشين ألقى القبض عليه وحمله إلى سامراء مع بعض أتباعه ، فقتل ومن حمل معه من الأسرى ، وبهذا انتهت حركة بابك الخرمي التي أقضت مضاجع المسلمين مدة تزيد على عشرين عاماً ، وقد نشأت طائفة الخرمية البابكية في بلاد فارس.
63- فتح عمورية
في 6 رمضان 223هـ الموافق 31 يوليو 838م لبى الخليفة العباسي المعتصم نداء طلب النجدة في عمورية وفتحها.
64- بناء مدينة فاس وجامع القرويين
في رمضان 234هـ الموافق 849م بنيت مدينة فاس وجامع القرويين على يد يحي بن محمد الإدريسي.
65- انفصال مصر عن الدولة العباسية
في رمضان 254هـ الموافق 867م انفصلت مصر عن الدولة العباسية بقيادة أحمد بن طولون.
66- دخول أحمد بن طولون مصر
في الثاني عشر من شهر رمضان عام 254هـ الموافق 3 سبتمبر 867م دخل أحمد بن طولون مصر من قبل باكباك والي العراق.
67- بدء ثورة الزنج
في 26 رمضان 255هـ الموافق 869م بدأت ثورة الزنج ، وهو القبائل الزنجية التي تقطن ساحل أفريقيا الشرقي ، وقد أطلق مؤرخو العرب هذا الاسم على العبيد المنتفضين الذين أثاروا الرعب في القسم الأسفل من العراق 15 عاماً حتى عام 884م ، وكانت فتنة الزنج على جانب كبير من الأهمية ، ونشبت بزعامة علي بن محمد بن عيسى المعروف بـ (البرقعي) وبمعاونة القرامطة.
68- تفرد ابن طولون بالحكم في مصر
في الثاني عشر من شهر رمضان عام 259هـ الموافق 11 يوليو 873م ، مات يادجوخ صاحب إقطاع مصر ، فتفرد أحمد بن طولون بالحكم.
69- سيطرة المسلمين على سرقوسة
في الرابع عشر من شهر رمضان عام 264هـ الموافق 19 مايو 878م ، سيطر المسلمون على مدينة سرقوسة في جزيرة صقلية.
70- بناء جامع ابن طولون بالقاهرة
في الثاني عشر من شهر رمضان عام 265هـ الموافق 7 مايو 879م ، بني جامع ابن طولون في القاهرة.
71- وفاة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي
في 28 رمضان 368هـ الموافق 899م توفي الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في القاهرة ، وهو الذي فتح مصر وأسس الدولة الفاطمية.
72- قيام الدولة العباسية الثانية
في الثاني من شهر رمضان عام 331هـ الموافق 9 مايو 943م دخل توزون بغداد من قبل ناصر الدولة ابن حمدان وقيام الدولة العباسية الثانية.
73- فتح مصر
في 15 رمضان 358هـ الموافق 968م دخل جوهر الصقلي مصر وفتحها ، وهو قائد المعز لدين الله الفاطمي وصعد يوم الجمعة وخطب في الناس.
74- وضع حجر الأساس للجامع الأزهر
في الرابع عشر من شهر رمضان عام 359هـ الموافق 20 يوليو 970م وضع حجر الأساس والبدء في بناء الجامع الأزهر بالقاهرة ، وتم بناؤه في حوالي سنتين تقريباً.
75- افتتاح الجامع الأزهر للعبادة والعلم
في السابع من رمضان عام 361هـ الموافق 971م أقيمت الصلاة لأول مرة في الجامع الأزهر بالقاهرة ، وهكذا صار الأزهر جامعاً وجامعة ، جامع للعبادة ، وجامعة للعلم.
76- القاهرة تصبح حاضرة الدولة الفاطمية
في اليوم السابع من رمضان عام 632هـ ، أصبحت (القاهرة) ، حاضرة الدولة الفاطمية حيث أعلن الخليفة المعز (القاهرة) عاصمة لدولته بعد أن كانت مدينة (المهدية) هي حاضرة الدولة الفاطمية.
77- وفاة الخليفة المعز لدين الله
في 26 رمضان 386هـ الموافق 13 أكتوبر 996م توفي الخليفة الفاطمي المعز لدين الله ، الذي آلت إليه الخلافة عام 952م.
78- وفاة المنصور الخليفة الأموي في الأندلس
في السابع والعشرين من شهر رمضان عام 392هـ الموافق 1002م ، مات المنصور رابع الخلفاء الأمويين في الأندلس وهو في سن الخامسة والستين ، واسمه كاملاً هو : الحاجب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري ، وامتدت فترة حكمه خمسة وعشرين عاماً (367 – 392هـ).
79- مبايعة عبد الرحمن بن هشام بالخلافة في قرطبة
في الثالث عشر من شهر رمضان عام 414هـ الموافق 28 نوفمبر 1023م ، بويع عبد الرحمن بن هشام بالخلافة في قرطبة ، وهو أموي تلقب بالمستظهر بالله، وكانت خلافته لمدة شهر واحد وسبعة عشر يوماً.
80- هزيمة القاسم بن حمود
في رمضان414هـ الموافق 1023م انهزم القاسم بن حمود آخر الحموديين، وتمت إعادة الخلافة لقرطبة.
81- دخول جلال الدولة سلطان بني بويه بغداد
في اليوم الثالث من شهر رمضان عام 418هـ ، دخل أبو طاهر جلال الدولة بغداد ، بعد أن خرج الخليفة القادر للقائه ، وخلفه واستوثق منه ، وبذلك استقر جلال الدولة في بغداد ، بعد الاستيلاء عليها وإقامة الخطبة لنفسه.
82- موقعة (ملاز جرد)(/4)
في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 463هـ الموافق 1070م ، حقق المجاهد (ألب آرسلان) قائد جيوش المسلمين ، وسلطان الدولة السلجوقية ، انتصاراً عسكرياً فريداً في التاريخ الإسلامي ، على الدولة البيزنطية ، وحلفائها الصليبيين ، ووقع إمبراطور الدولة البيزنطية (رومانوس الرابع) أسيراً في هذه الموقعة الحربية (ملاز كرد) أو (ملاز جرد) ، والتي تقع بالقرب من (أخلاط) غربي آسيا الصغرى.
83- معركة الزلاقة
في 9 رمضان 479هـ، الموافق 17 ديسمبر 1086م انتصر يوسف بن تاشفين قائد جيوش المرابطين على الفرنجة بقيادة الفونس السادس في معركة الزلاقة ، و وقد نجا الفونس مع تسعة فقط من أفراد جيشه. وتشير بعض المصادر إلى أن معركة الزلاقة وقعت يوم الجمعة 12 رجب 479هـ الموافق 23/10/1086م.
84- يوسف بن تاشفين يجمع شمل المسلمين في الأندلس
في 18 رمضان 484هـ الموافق 1091م استطاع القائد يوسف بن تاشفين أن يجمع شمل المسلمين في الأندلس ويقضي على التفرقة بين ملوك الطوائف هناك.
85- مقتل الوزير (نظام الملك)
في العاشر من شهر رمضان عام 485هـ الموافق 13 أكتوبر 1092م قتل نهاوند نظام الملك أبو الحسن علي بن إسحاق ، الذي كان وزيراً للسلطان ألب آرسلان ثم وزيراً لابنه ملكشاه نحو ثلاثين عاماً ، وكان نظام الملك عالماً وجواداً وحليماً ، وقد اشتهر ببناء المدارس في البلاد المفتوحة.
86- حصار قلعة الباطنية
في رمضان 500هـ الموافق 1106م حاصر السلطان محمد قلعة الباطنية في أصفهان وملكها.
87- أول نصر للمسلمين على الصليبيين
في السادس من شهر رمضان عام 532هـ الموافق 17 مايو 1138م ، حدث أول نصر للمسلمين على الصليبيين بقيادة عماد الدين زنكي شمال الشام بحلب.
88- مقتل الخليفة العباسي الراشد بالله
في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 532هـ الموافق 5 يونيو 1138م ، قتل الخليفة العباسي الراشد بالله في أصفهان ، حيث اغتالته جماعة من أهالي خراسان.
89- نهاية دولة المرابطين في المغرب
في 18 رمضان عام 539هـ ، كانت نهاية دولة المرابطين في المغرب العربي ، وقيام دولة الموحدين ، فعندما اشتد الصراع بين (المرابطين) بقيادة تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين ، وبين ( الموحدين) بقيادة عبد المؤمن بن علي ، حصل قتال ومطاردة بين الجيشين وقتل تاشفين بعد أن هوى من فوق الصخرة ، فقطع الموحدون رأسه وحملوه إلى (تينمل) مركز الدعوة الموحدية ، وكان هذا الحادث هو نهاية دولة المرابطين في المغرب ، علماً بأن المرابطين ولوا بعد تاشفين أخاه إسحاق الذي لم يكن له أي أثر في التاريخ فيما بعد.
90- مولد العالم فخر الدين الرازي
في الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 544هـ الموافق 25 يناير 1150م ، ولد العالم الجليل فخر الدين الرازي.
91- استسلام قلعة صفد
في الخامس عشر من شهر رمضان عام 584هـ الموافق 6 نوفمبر 1188م سلمت قلعة صفد للقائد المسلم صلاح الدين الأيوبي.
92- معركة حطين
في 26 رمضان 584هـ الموافق 17 نوفمبر 1188م انتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين على الصليبيين وأسر قائدهم أرناط.
93- تحصين بيت المقدس
في رمضان 588هـ الموافق 1192م قام صلاح الدين الأيوبي بتحصين بيت المقدس وشيد الأسوار حولها.
94- امتلاك يعقوب بن يوسف الأندلس
في رمضان 591 هـ الموافق 1194م تمكن سلطان المغرب يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن من امتلاك بلاد الأندلس التي كانت محتلة من قبل الإفرنج في ذلك الوقت وكسر شوكتهم.
95- الملك العادل يصد الصليبيين
في رمضان 595هـ الموافق 1198م صد الملك العادل جموع الصليبيين الذين هاجموا مدينة صور.
96- معركة المنصورة
في 10 رمضان 648هـ الموافق 1250م انتصرت شجرة الدر ( زوجة الملك الصالح) في معركة المنصورة على لويس التاسع حيث أسر هو وقتل عدد كبير من جنوده.
97- رسالة هولاكو إلى الخليفة المستعصم بالله
في الحادي عشر من شهر رمضان عام 655هـ الموافق 21 سبتمبر 1257م كتب القائد المغولي هولاكو رسالة إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله يدعوه للاستسلام والخضوع والحضور لحضرته وإعلان ذلك.
98- معركة عين جالوت
في يوم الجمعة 25 رمضان 658هـ الموافق 1260م انتصر المسلمون على التتار، حيث هزم المماليك حشود التتار وأوقعوا بجحافلهم هزيمة منكرة في معركة عين جالوت ، وكان القائد هو السلطان المظفر سيف الدين قطز.
99- فتح أنطاكية
في الثاني عشر من رمضان عام 666هـ الموافق 25 مايو 1268م ، فتحت أنطاكية على يد الظاهر بيبرس ، وأنطاكية كما هو معروف مدينة عربية في جنوب تركيا.
100- الاستيلاء على حصن عكا
في رمضان 669هـ الموافق هاجم الملك الظاهر بيبرس ضاحية حصن عكا وامتلكه واستولى عليه من الصليبيين.
101- هزيمة الصليبيين نهائياً
في رمضان 675هـ الموافق 1276م هزم الملك الظاهر بيبرس وجيشه الصليبيين نهائياً.
102- موقعه الخازندار (مرج الصفر)(/5)
في التاسع والعشرين من شهر رمضان عام 699هـ الموافق 17 يونيو 1300م ، حدثت موقعة الخازندار والتي تسمى (مرج الصفر) جنوب شرق دمشق ، والتي استطاع فيها القائد أحمد الناصر بن قلاوون أن يهزم التتار.
103- أسر التتار جنوبي دمشق
في رمضان 702هـ الموافق 1302م تصدى الجيش المصري لإمدادات التتار وأسر عشرة آلاف منهم جنوبي دمشق.
104- تنازل بيبرس عن عرش مصر
في السابع عشر من شهر رمضان عام 709هـ الموافق 17 فبراير 1310م ، تنازل السلطان بيبرس عن عرش مصر ، بعد مرور عام ونصف على حكمه.
105- مولد المؤرخ والفيلسوف ابن خلدون
في الثاني من شهر رمضان عام 732هـ الموافق 27 مايو 1332م ولد المؤرخ والفيلسوف العربي المسلم عبد الرحمن بن خلدون.
106- بناء مسجد السلطان حسن بالقاهرة
في رمضان 765هـ الموافق 1363م بني مسجد السلطان حسن بالقاهرة.
107- وفاة المؤرخ المقريزي
في السادس عشر من شهر رمضان عام 845هـ الموافق 27 يناير 1442م، توفي أحمد بن علي المقريزي ، المؤرخ المشهور ، وصاحب كتاب ( المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) ، وله كتب أخرى.
108- الاستيلاء على بلاد القرم
في رمضان 889هـ الموافق 1474م استولى السلطان العثماني محمد الفاتح على بلاد القرم.
109- تعرض المسجد النبوي لصاعقة
في الثالث عشر من شهر رمضان عام 886هـ الموافق 5 نوفمبر 1481م تعرض المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة لصاعقة أحرقت المبنى وسلمت القبة والقبر.
110- معركة بحرية بين العمانيين والبرتغاليين
في 19 رمضان 1121هـ الموافق 30 نوفمبر 1806م جرت معركة بحرية بين أسطول العرب العمانيين والأسطول البرتغالي ، تراجع فيها الأسطول العربي إلى رأس الخيمة.
111- وصول مجاهدي الحجاز إلى مصر لمحاربة الحملة الفرنسية
في التاسع من شهر رمضان عام 1213هـ الموافق 18 فبراير 1899م وصلت إلى ميناء (القصير) في مصر فيالق المجاهدين الحجازيين للمشاركة في الجهاد إلى جانب إخوانهم المصريين ضد الصليبية الفرنسية.
112- اندحار نابليون أمام عكا
في السادس عشر من شهر رمضان 1213هـ الموافق 20 فبراير 1799م تمت مطاردة نابليون بونابرت للمماليك في العريش ثم اندحاره أمام عكا.
113- الاستيلاء على كريت
في 2 أو 3 رمضان 1239هـ الموافق 1824م استولى المصريون على جزيرة كريت.
114- الاستيلاء على ميسولونجي
في رمضان 1241هـ الموافق 1826م استولى إبراهيم باشا على مدينة (ميسولونجي) من بلاد اليونان ، ورفع فيها راية الإسلام.
115- وفاة محمد علي باشا
في 14 رمضان 1265هـ الموافق 3 أغسطس 1849م توفي محمد علي باشا الكبير حاكم مصر.
116- حفرة قناة السويس
في 22 رمضان 1275هـ الموافق 25 إبريل 1859م بدئ بحفر قناة السويس في مصر.
117- موقعة التل الكبير
في رمضان 1299هـ الموافق 1882م حدثت موقعة التل الكبير بين عرابي والإنجليز.
118- مطالبة الشريف حسين بن علي باستقلال العرب
في رمضان 1333هـ الموافق 1915م أرسل الشريف حسين بن علي رسالة إلى مكماهون نائب الملك البريطاني في مصر مطالباً بحق العرب في الاستقلال.
119- سقوط مكة في يد الشريف الحسين بن علي
في رمضان 1334هـ الموافق 1916م سقطت مكة المكرمة في يد الشريف الحسين بن علي واستسلمت الحامية التركية بعد قتال عنيف.
120- حرب أكتوبر 1973م
في 10 رمضان 1393هـ الموافق 6 أكتوبر 1973م انتصر العرب على العدو الصهيوني.(/6)
حدثان..؟!
د. لطف الله خوجه 13/1/1427
12/02/2006
هما حدثان:
- نصرة المسلمين للنبي صلوات الله وسلامه عليه بعامة.
- وحرصهم على صيام تاسوعاء وعاشوراء بعامة.
كشفا عن: حب المسلمين لدينهم، ونبيهم.
ودلاّ على: تدينهم، وقربهم من الدين. وحرصهم على الخير والبر.
وأعطيا أملاً: أن جهد الصالحين والأخيار، لن يذهب سدى.
وأثبتا: خطأ من أساء الظن بالمسلمين، وحكم بهلاكهم، لما يرى من كثرة معاصيهم.
وحملا: على التساؤل: إذا كان هذا هو حب المسلمين لدينهم، ونبيهم: فلِمَ كثرت فيهم الشهوات المحرمة، حتى ضج العقلاء والأخيار من حال آلت إليه أمة الإسلام؟!
وأوجب: على العلماء والدعاة أن يتمثلوا الصدق في قولهم وعملهم، حتى لا يكونوا فتنة لغيرهم.
****
في الأيام المنصرمة وقع أمر عظيم، وعدوان كبير على المسلمين، لما تجرأت الصحف الدنمركية بنشر رسومات تسيء إلى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد وقع ما لم يكن في حساب الغرب والشرق: قام المسلمون بحملة استنكار شملت كل دول الإسلام.. هذا بقلمه.. وهذا بفكره.. وهذا بقوله.. وهؤلاء بمظاهرة.. ودول وحكومات بالتنديد وسحب السفراء.. والجميع بمقاطعة اقتصادية شاملة لجميع المنتجات الدنمركية.. وما زالت كل هذه سارية المفعول إلى هذا الوقت.
وقد حرك هذا القيام للمسلمين بنصرة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: العالم كله.
حتى بابا الفاتيكان نفسه اعترض على هذه الرسومات، وكذا الأمين العام للأمم المتحدة، والرئيس الأمريكي، والرئيس الفرنسي، ووزير خارجية بريطانيا، وغيرهم، وباتت الدنمرك في وضع قلق لا تُحسد عليه، اضطر فيه رئيس تحرير الصحيفة إلى الاعتذار. ولا تزال الحكومة مترددة..!!
وفي اليومين الماضيين صام سواد المسلمين اليوم التاسع والعاشر من محرم، اتباعاً لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في صيام العاشر، وصيام التاسع معه مخالفة لليهود [مسلم]، وأخبر أنه يوم تكفر فيه ذنوب سنة كاملة [الترمذي]، وقد رأيتَ الناس فيه، وكأنه يوم من رمضان، من صيام الصغير والكبير، والشيخ والشاب، والمرأة والرجل، حتى العمال صاموه وهم يعملون في يوم مشمس حار، يطلبون الأجر والكفارة.
هذان الحدثان كشفا عن شيء مهم للغاية، ربما غفل عنه بعض الناس من العقلاء والأخيار، هو:
أن في الناس حباً للدين كبير:
- فما مسارعتهم لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والذبّ عنه، إلا لحبهم دينهم.
- وما مسارعتهم لصيام يوم تطوعاً، دون فرض عليهم، إلا لحبهم دينهم.
وقد كان من الممكن أن يتقاعسوا.. قد كان من الممكن أن يقوم به قليلون، وينام كثيرون.. ولن يجدوا أحداً يسوقهم بعصاه، أو يأطرهم أطراً إلى البذل والتضحية والمسارعة.. لكنهم مع ذلك تحركوا، تحركوا بملء إرادتهم، ورغبتهم.. حركهم حب صحيح، وعاطفة صادقة.
****
فذلك دلّ دلالة واضحة على: أن المسلمين متدينون. فمن لم يكن التدين ظاهراً عليه، فباطنه فيه خير كثير، وربما كان باطنه خيراً من ظاهره، كما أن بعض الناس ظاهره خير من باطنه.
هذا الحدث دل على أن التدين ليس في الظاهر فحسب، بل الباطن كذلك، نعم تدين الظاهر مطلوب، وهو دليل على حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن تدين الباطن مطلوب كذلك، وهو الأول طلباً. والأحسن والأقوم تدين الظاهر والباطن كليهما، حتى يكون ظاهر الإنسان مرآة باطنه، يشف ويُبين ما في نفسه وداخل قلبه، يراه الناس كما يرون ما وراء زجاج، كله صفاء ونقاء.
****
هذان الحدثان أعطيا أملاً، لكل ساعٍ في الإرشاد والنصح: أن جهده في هذه الأمة ليس بضائع، فالثمرة قريبة، متى حصل: الصدق، والإخلاص، والاجتماع.
فلو سألت أحداً: هل كنت تتوقع مثل هذا الموقف العام من المسلمين، الشديد العاطفة والألم، والاستعداد لفعل أي شيء، رداً على انتهاك عرض النبي صلى الله عليه وسلم؟
لقال لك: كنت أتوقع رداً، وعاطفة، واستعداداً، لكن ليس بهذا القدر والاجتماع.
ومثله: هل كنت تتوقع من المسلمين أن يتواطؤوا على صيام يوم عاشوراء، كما لو كان فرضاً؟
لقال لك: كنت أتوقع صيامهم، لكن ليس بهذا الكم.
لكن الذي حدث غيّر كل التوقعات، وقلب كل الحسابات، وبيّن أن المسلمين على خير كبير، وما فيهم من مخالفات ومعاصٍ هي ظاهرة مؤقتة، ليست أصيلة، يحتاجون إلى مواقف كهذه تستفز إيمانهم، وتستحث قلوبهم لفعل الخير. وما على الناصحين والعلماء والداعين للخير إلا البذل، ومعرفة طرائق تبليغ الدين للناس، ودلالتهم على الخير بأحسن الوسائل، ليجدوا بعدها كل استجابة من الناس.
فإذا لم يستجيبوا، وتقاعسوا، فليس بالضرورة أن يكون داء في الناس منعهم من الاستجابة، بل قد يكون الداء في طريقة: التبليغ، والإصلاح، والنصح. فالإخفاق إما من الملقي، أو من المتلقي.(/1)
وإن من أسباب نجاح النصرة وحصول أثرها: أن المسلمين اجتمعوا في هذه الحادثة على كلمة الإسلام، ولم يلتفوا إلى: شعارات، أو أحزاب، أو جماعات. بل طالبوا كل من له اسم الإسلام أن يهب لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يشترطوا لذلك شرطاً سوى الإسلام. وهذا الاجتماع الذي يحبه الله تعالى، وأمر به كثيراً في كتابه، وأبان أن التنازع سبب الفشل:
- (...وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[لأنفال: من الآية46].
- (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ...)[آل عمران: من الآية105].
وهذا الاجتماع مطلوب، وبيان الحق ووجوب اتباع السنة والصحابة مطلوب.. ولا يتعارضان، وكل مسلم فيه من الخير بحسبه، لا يخلو من ذلك، والواجب أن ينمّي الخير الذي فيه، ولا يترك لأجل ما فيه المخالفة للسنة والإسلام، بل يناصح بحكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن.
****
فهذان الحدثان أثبتا خطأ من أساء الظن بالمسلمين، وقضى بأنه لا خير يُرجى، فحكم بهلاكهم، لما يرى من كثرة معاصيهم، وجرأتهم على المخالفة، واستعلانهم بها، وسعيهم فيها كسعي النار في الهشيم.
كلا، بل هذه الأحداث أنبأت أن المسلمين يسعون في الخيرات، كسعي الماء في الجداول والأنهار، وأنه كما قال صلى الله عليه وسلم وسلم:
- "أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير، أم آخره" [أحمد 3/130].
فهذه الأمة فيها الخير، والعاقل الموفق هو القادر على استخراج هذا الخير، أما الفاشل فهو الذي إذا عجز جلس يقول: هلك الناس. وإذا قال كذلك فهو الهالك، كما قال عليه الصلاة والسلام:
- "إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلَكُهم". [مسلم، البر، باب: النهي من قول: هلك الناس].
أي فهو أولهم وأكثرهم هلاكاً، وهذا على رواية الضم للكاف. وأما على الفتح فمعناه: فهو الذي أعانهم على الهلاك، وتسبب في ذلك. وفي كلا الحالتين هو أعظمهم إثماً وجرماً.
****
وإن السؤال الذي يرد في هذا المقام: إذا كان هذا حال المسلمين في النصرة، والمسارعة في قضاء النافلة، فلِمَ هم يسابقون إلى الشهوات المحرمة الظاهرة؟
- أليس من التناقض: الجمع بين الإيمان والمعصية؟
- أم عودة صادقة، وانتفاضة إيمانية مخلصة؟
- أم شبهات مضللة، ومضلون لبّسوا عليهم دينهم؟
والجواب: كل هذه الأسباب والحالات واردة:
- فهناك من المسلمين من يفعل الخطايا والطاعات على حد سواء، ولا يستغرب من مثلهم أن ينصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يجوز للمسلم أن يكون جامعاً بين الطاعة والمعصية، مع كرهه للمعصية، وحبه للطاعة، والأمثلة على هذا كثيرة: كالرجل الذي كان يشرب الخمر، ويُجلد فيه، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يحب الله ورسوله. ومثل هذا يَعلم بمعاصيه، وأنها مشؤومة وخاطئة، ويرجو من الله تعالى أن يعافيه، ويغفر له، ويتمنى الهداية والصلاح، وهذا من الله قريب، ورحمته إليه أقرب، والغالب في مثله: الإقلاع عن معاصيه الظاهرة، والاستقرار على الطاعة. كأبي محجن الثقفي الذي نكل بالفرس في معركة القادسية، وكان حبسه سعد بن أبي وقاص في شربه الخمر، فانفلت من قيده، فقاتل وأبلى بلاء حسناً، ثم عاد إلى قيده موفياً وعداً قطعه لزوجة سعد بذلك، فلما علم بأمره سعد أطلقه، فعاهده ألاّ يشرب الخمر بعدها.
- وهناك من المسلمين من انتفض وعاد إلى إيمانه مخلصاً، بسبب هذا العدوان، فالاستفزاز يحفز الإيمان، ويعيده جذعاً، حتى إنك لتجد الغارقين في الذنوب من ينقلب صالحاً، بسبب عدوان صريح أظهره كافر على الإسلام، لا يحتمله، ولا يرضى به، فيظهر من النصرة والغيرة شيئاً يحبه الله تعالى، فيكافئه على ذلك بصلاح الحال والمآل.
- وهناك من المسلمين مضللون، بالشبهات والشهوات، حتى زُين لهم الإثم. ففي الأمة أئمة مضلون، يضلون الناس بعلم وبغير علم، يجعلون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، منهم الذين يلبسون لباس الدين، فيلبسون على الناس بالشبهات، ومنهم الذين ينشرون الشهوات، في كل مكان وزمان، حتى يصدوا الناس عن الخير، والأخطر من ذلك: ربط هذه الخطايا بالأرزاق. فلا يكون سبيل للرزق إلا بركوب معصية وخطيئة، فيضطر الناس اضطراراً إليها، ويحتمل وزرها الأكبر من دفعهم إليها. ففي المسلمين من هذا النوع كثير، وهؤلاء لا يُستغرب منهم القيام لله تعالى بنصرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإنهم أخيار، ولولا هذه الأحوال المغرية بالمعصية، وربطها بالعيش والرزق، لوجدتهم من عباد الله الصالحين.
****(/2)
وإن هذا الصنف من المسلمين ليلقي على: العلماء، وطلبة العلم، والدعاة. حملاً ثقيلاً من الأمانة، والصدق، والتقوى. فإن الناس مهما أغرقوا في الشبهات والشهوات، إذا وجدوا: صادقين، مخلصين، أتقياء، زاهدين في الدنيا، أبعد الخلق عن الشبهات: تمسكوا بسبيلهم، واقتدوا بهم. فكانوا أحسن مثال لهم في الخير، ونوراً وبرهاناً لهم في ظلمات الشبهات والشهوات. ولهم أجر وثواب جزيل؛ أن كانوا سبباً في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وما أسوأ أن يكونوا على الدنيا مقبلين، وللشبهات والشهوات تحت أي ذريعة مقتحمين، من: تأوّل، واجتهاد، وتخريج، واختلاف في المسألة، وحاجة، ومواكبة عصر، وملائمة زمان.. الخ. فكل هذه الأعذار لا تهتك حرمة الشريعة فحسب، بل تضل هؤلاء المسلمين الصادقين في حبهم دينهم، ونبيهم، وتبعدهم على الطريق المستقيم، وتبقيهم في: حيرة، وألم، وعطش. لا يجدون: دليلاً يدل، ولا طبيباً يداوي، ولا ساقياً يروي..!! وكيف يجدونهم، وقد تركوا الطريق ورقوا إلى الشرفات يطلبون الدنيا، كما يطلبها أولادها وعبادها..؟!!. إنهم غرقى، إنهم غرقى.. وكيف ينقذ الغريق الغريق؟!(/3)
حدثني من لا أتهم
حدثني من لا أتهم, أو حدثني أحد الثقات: عبارة يصدِّر بها بعض الدعاة والأخيار حديثهم حول ظاهرة من الظواهر, وتكون مستندهم في إصدار الأحكام عليها.
ويكثر ذلك في القضايا التي تعني واقع المسلمين ومجتمعاتهم; ولعل القضية الأفغانية خير شاهد على ذلك; فكثيرًا ما يذكر المتحدث أن مصدره شخص ثقة قدم من هناك.
ويكثر ذلك أيضًا في إصدار الأحكام على الإسلاميين والجماعات الإسلامية; فالناقل شخص خالطهم, وربما كان منهم, وقابل فلانًا وفلانًا; وهو ثقة.
وتعظم الرزية حين ترى رجلاً له مكانته في العلم والخير لدى الناس يُصدر أحكامًا بناءً على آراء هؤلاء الثقات! وقد تكون هذه الأحكام جائرة بعيدة عن الصواب, رغم أن الناقل والمصدر ثقة كما يقال.
وثمة مداخل على رواية هذا الرجل الثقة أدت إلى ضرورة إعادة النظر في خبره, فقد يكون ثقة في دينه, بعيدًا عن الكذب لكنه لا يسلم من غفلة وتخليط وضعف ضبط, وكم ردَّ أهل الحديث رواية بعض الرجال مع بلوغهم الغاية في الزهد والصلاح.
وقد يكون هذا الثقة نقل عن مصدر وشخص آخر لا يسلم من الطعن في ضبطه وحفظه, أو في صدقه وديانته, وكثيرًا ما يحدِّث هؤلاء الثقات عن فئات من السذج والبسطاء, فيتلقون منهم الأخبار وتقويم الواقع, فيغيب عمن يروي عن الثقة حقيقة مصدره.
وقد يكون له هوى في المسألة، والهوى من المداخل الخفية؛ فيؤثر الهوى في تلقيه وتلقفه أي خبر, ويكون لديه الاستعداد لسماعه ورؤيته كما يريد, ويغفل عما سوى ذلك; فمن يعجب بشخص أو فئة تشده المحاسن, ويوغل في النظر إليها وتضخيمها والحديث عنها, ومن يكون غير ذلك تشده المساوئ, ويبحث عنها ويفرح بها, بل يضخمها ويتمحل في إثباتها.
وحين يجتمع هذا الهوى والاتجاه لدى كل من الناقل والمنقول له, أو لدى الثقة! والذي حُدث بذلك: تتهيأ الأرضية المناسبة لتحويل الأوهام إلى حقائق, والظنون إلى قطعيات لا تقبل الجدل.
وقد يكون الراوي ثقة في نفسه, لكنه يخلط تقويمه وموقفه الشخصي من القضية بخبره, فيختلط الأمر على السامع, وهذا مأخذ دقيق; فتقويم الشخص مهما بلغ من الثقة والعمق والديانة يبقى رأيًا شخصيًا يجب أن يُفرَّق بينه وبين الرواية, وقليل من الناس من يجيد التفريق بين الرأي والتقويم الشخصي وبين الرواية التي مبناها على الثقة والأمانة.
وقد يؤتى الثقة من جهة التعميم فيرى واقعًا وصورة محدودة فيعممها; كما هي الحال لدى أولئك الذين يسافرون إلى بلاد أخرى, فيرون زاوية ضيقة محدودة من الواقع, فيتحدثون بها على أنها تمثل المجتمع وتنطبق عليه, ويصدرون أحكامهم بناء على أنهم يعون هذا الواقع وعيًا تامًا.
وقد يكون الشخص الثقة بطبيعته ميالاً للمبالغة, وما أكثر ما يتلقى الناس أخبارًا لو حكموها بعقولهم لشعروا أنها غير معقولة, ولذا كان الذهبي رحمه الله يرد بعض الأخبار التي تُروى من هذا القبيل, كما قال عما روي أنه حرز من يحضر مجلس ابن الجوزي بمائة ألف: "ولا ريب أن هذا ما وقع, ولو وقع لما قدر أن يسمعهم, ولا المكان يسعهم"([1]).
وكما قال عما روي عن أبي منصور الخياط أنه أقرأَ سبعين ألفًا من العميان: "قلت: هذا مستحيل, والظاهر أنه أراد نفسًا, فسبقه القلم فخط ألفًا"([2]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1])سير أعلام النبلاء (21/37).
([2])سير أعلام النبلاء (19/223).(/1)
حدثوا الناس بما يعرفون
إن ثمرة دعوتنا للناس وخطابنا لهم تتحقق حين يفهمون الخطاب ويعقلونه، ثم يتحول الأمر إلى سلوك عملي واستجابة.
وما لم يكن الخطاب مناسباً للناس تبلُغُه عقولهم وتدركه أفهامهم فلن يتحقق المقصود منه.
لذا صح عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"(رواه البخاري (127)).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(رواه مسلم في مقدمة الصحيح).
وتحديث الناس بما يعرفون له جانبان:
الأول: يتعلق بأسلوب الخطاب؛ وذلك بأن يُخاطب الناس بلغة سهلة واضحة، وأن يبتعد المتحدث عن التقعُّر والتكلُّف والبحث عن الألفاظ الغريبة، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك فقال: "إن الله - عز وجل - يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها"(رواه أحمد (6507)، وأبو داود (5005)، والترمذي (2853).
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق"(رواه أحمد (2180)، والترمذي (2027)) قال الترمذي: والعي قلة الكلام، والبذاء: هو الفحش في الكلام، والبيان: هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسعون في الكلام ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله.
وأحياناً يدفع التكلف صاحبه إلى هجر المصطلحات الشرعية، والبحث عن مصطلحات حادثة.
الثاني: يتعلق بمضمون الخطاب، فليس كل ما يُعلم يقال، والعامة إنما يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة، بخلاف دقائق المسائل سواء أكانت من المسائل الخبرية، أم من المسائل العملية.
وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبي يختلف باختلاف الناس، وهو في دائرة العامة أوسع منه في دائرة طلبة العلم.
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم إمام الدعاة وقائدهم حين يأتيه رجل يسأله عما يدعو إليه، أو يسأله عما يجب عليه أن يفعله، يجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بالجمل الثابتة الظاهرة من دعوته صلى الله عليه وسلم: توحيد الله تبارك وتعالى ، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، الصوم، الحج، صلة الأرحام، كسر الأوثان... إلخ، ولم يَدْعُ النبي صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء إلى مسائل فرعية أو خفية.
ومن ذلك ترك تحديث الناس بما يُشكِلُ عليهم فهمُه، أو يُخشى أن ينزلوه على غير تنزيله ويتأولوه على غير تأويله. قال الحافظ ابن حجر في شرحه لخبر علي رضي الله عنه : "وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة. وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي"(فتح الباري، ج 1، ص 272).
فحري بالدعاة إلى الله -تبارك وتعالى - أن يتدارسوا هذه الآداب، ويعتنوا برعايتها وتطبيقها.(/1)
حددي بوصلتك الذاتية
كفاح شاق ... ولكن ....
هذه القصة لإحدى الفتيات الغربيات، هي حقاً قصة كفاح، ولكن يا ترى هل وصلت إلى ما كانت تبحث عنه؟؟؟
هذه القصة تحكيها الفتاة بنفسها، فهيا معي نسمعها سوياً، ولسان حالها يقول: ...
نشأت في أسرة فقيرة، وكان أبي موظف صغير وأمي لا تعمل، كنت أعاني أنا وأخوتي عندما نجد أصدقاءنا مع ذويهم بالخروج إلى المتنزهات وما هم فيه من الترف، ونحن لا نستطيع أن نأكل الكثير من الحلوى؛ لأن المال لا يكفي.
من وقتها قررت أن أجعل حياتي عندما أكبر مختلفة تماماً عن الذي عشت فيه، فأحصل على كل وسائل السعادة والتمتع بالرضا عن النفس، وبدأت أول خطوة في تحقيق حلمي يوم التحقت بالمدرسة، فلقد كنت متفوقة جداً وبخاصة في المدرسة العليا، فكان تقديري لا يقل عن جيد جداً، وكانت حالات نادرة، فالأصل هو ممتاز، وكان الجميع حولي يتوقعون لي مستقبل باهر.
ولعبت كرة السلة، تفوقت فيها أيضاً حتى أني صعدت إلى الفريق القومي، وبعد انتهاء دراستي التحقت مباشرة بعمل مرموق ذو أجر كبير فلقد كان تقديري في المدرسة يؤهلني لذلك، وارتقيت بسهولة في عملي حتى أصبحت بعد سنوات قليلة نائب مدير، وتزوجت وأنجبت, ولدي من الأولاد اثنان، وكما رأيتم أصبح عندي المال، المنصب، الشهرة، الزوج، الأولاد، ... ولكن ... ها أنا أصبحت في الخمسين من عمري ولم أحصل على ما فعلت كل هذا من أجله .. فأنا لست سعيدة، وأطلب المساعدة من كل من يسمع قصتي، قولي لي كيف أكون سعيدة وأشعر بالرضا والتوافق مع نفسي؟؟؟
بالطبع سوف نساعدك فتابعي معنا...
يقول كارل جوستاف يونج:
[سوف تصبح رؤيتك واضحة فقط؛ عندما تمعن النظر في أعماق ذاتك، فمن ينظر خارج حدود ذاتهم يحلمون، أما من ينظرون داخلها؛ فيستيقظون لتحقيق الحلم].
نعم أخيتي.
فكما هو معروف؛ أن لكل فعل دافع أدى إلى حدوث ذلك الفعل، فإن جميع تصرفاتنا لابد لها من دافع وهدف يحركها.
لذلك: فلابد أولاً أن تعرفي بوصلتك الذاتية، فلكل منا مركز اهتمام في هذه الحياة تدور حوله جميع أفعاله وتحركاته، وتبنى عليه آماله، فعليك أن تكتشفي هذا المركز أولاً، ومن ثم تعملي على تقويمه لتنظري هل هذا المركز يستحق فعلاً أن يكون محور حياتك، وأن يكون مصدر تصبح منه رسالتكِ في الحياة؟!
من أجل هذا؛ دعيني أخيتي أصحبك في جولة سريعة؛ نتعرف بها على تلك المراكز الرئيسية التي يضعها أكثر الناس في بؤر اهتماماتهم.
واطلب منك أن تمعني النظر في ذاتك خلال تلك الجولة، وان تصَّدقي مع نفسكِ لتري أي مركز من تلك المراكز يحوز على اهتمامك ويشكل بوصلتك الداخلية.
1- المال:
يضع الكثير من الناس جمع المال كهدف أكبر لهم في الحياة، ولاشك أن المال عصب الحياة، وأنه ضروري جداً؛ لتحقيق الكثير من أهداف الإنسان، وتكوين الأسرة، وإقامة المشروعات، وغير ذلك، ولكن ينبغي أن نفهم أن المال وسيلة وليس غاية، ولنر ماذا يحدث للإنسان إذا جعل من جمع المال الهدف الأكبر له في الدنيا؟
فكما تقول المقولة الشهيرة: إذا كنت أنا من أمتلك، فإذا فقدته فمن أكون؟
فإن الإنسان الذي يسيطر عليه هم جمع المال؛ يستمد إحساسه بالأمان وبقيمته الذاتية من مقدار ما يملك من ثروة، وحيث أن المال عرض زائل يجيء ويذهب، فقد يؤدي تردي حالته الاقتصادية إلى فقدانه لهذا الإحساس بالأمان أو الثقة بالنفس.
لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [[ تعس عبد الدينار وعبد الدرهم]] رواه البخاري.
والذي يضع همه هو جمع المال، غالباً تجديه يهمل في أسرته وأبناؤه، وبعد الحصول على المال تحدث المفاجأة, وهي تمزق الأسرة ودمار الأبناء.
يحكي ستيفن كوفي أن أحد زملائه أعلن في أحد السنوات أن هدفه هذا العام هو جمع مليون دولار، عمل هذا الرجل على تطوير وتسجيل منتج مبتكر له علاقة بالرياضة البدنية، ودار في كل المناطق يبيعه، أحياناً كان يأخذ أحد أولاده معه، واشتكت الزوجة من ذلك لأنه سبب في إهمال الأولاد لدروسهم وواجباتهم المدرسية وفي نهاية العام أعلن هذا الشخص أنه حقق هدفه وكسب المليون دولار، ولكن بعد ذلك بقليل طلق زوجته، وأدمن اثنان من أبنائه المخدرات بينما خرج الثالث ولم يعد.
وحينما يجعل الإنسان هدفه المال، فإنه قد يسبب له التكبر والغرور، والذي يدمر الدنيا والآخرة.
وهذا هو ما حدث مع قارون، لم تعرف الدنيا له مثيلا في غناه، وفحش ثرائه، كما أخبرنا الله عز وجل: [[وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ .... ]] [ القصص: 76]
لكن ماذا كانت عاقبته عندما قصر همومه على جمع المال وأعرض عن نصح قومه له؟
[[وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ]][القصص : 77](/1)
فكان رده مليئاً عجباً وتيهاً وجحوداً لنعمة المنعم وفضله:
[[قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ....]][القصص : 78]. وبغي على قومه وأفسد في الأرض، وخرج عليهم في استعراض عظيم لكنوزه وأمواله كبراً وأشراً، فماذ كانت النتيجة؟
[[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ...]][القصص : 81].
وهذه قصة أغنى امرأة في العالم، كرستينا أوناسيس ابنته الملياردير اليوناني: أوناسيس، مات والدها وترك لها المليارات، شركات ومؤسسات، قصوراً، وناطحات سحاب، تزوجت هذه الفتاة عدة مرات، في كل مرة يحدث طلاق، وعندما سُئلت، قالت: أبحث عن السعادة حتى إنها تزوجت في آخر المطاف برجل شيوعي من الإتحاد السوفيتي السابق، وذهبت لتعيش معه في بلده، تسكن في غرفتين تعيش على ما تصرفه لهم الدولة الشيوعية من مؤن ويذهب إليها الصحفيون ويسألونها: كيف تلتقي قمة الرأسمالية مع الشيوعية فتقول: أبحث عن السعادة، ثم انفصلت عن زوجها هذا، وانتهى أمرها بأن وجدوها ميتة في إحدى شاليهاتها بالأرجنيتن.
أخيتي: مما سبق يتأكد لنا أن المال وإن كان ضرورياً لتحقيق الأهداف، إلا أنه لا يصلح أبداً أن يكون على رأس اهتماماتنا في هذه الحياة.
2- العمل:
وبعض الناس يهتمون بأعمالهم أكثر مما يهتمون بأولادهم وأسرتهم وأنفسهم، وهذا ما يسمى[ إدمان العمل] ويستمد هؤلاء إحساسهم بقيمتهم الذاتية من عملهم، وفي هذا خطورة شديدة؛ لأن مثل هؤلاء إذا قعدوا عن عملهم، أصيبوا بعاهة أو مرض، وشعروا أنه لم يبق شيء يعيشون من أجله بعد ذلك.
وقد يدفع أحدهم الانشغال الزائد بالعمل إلى تفريط في حقوق الله تبارك وتعالى، كما هو حال كثير من المسلمين، فتجد الواحد منهم ينهمك في عمله حتى إذا حان وقت الصلاة بخل على نفسه ببضع دقائق يؤدي فيها حق الله تعالى بحجة أن العمل عبادة، وينسى أن الله تعالى الذي يقول في كتابه الكريم [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]][الملك : 15]، وهو أيضاً الذي يقول: [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ]] [المنافقون : 9]
فالذي أمر بالسعي في العمل وتعمير الأرض, هو نفسه سبحانه الذي أمر ألا يلهينا ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة.
3- المتعة واللهو والترفيه:
وهناك فريق آخر يضع المتعة كهدف رئيسي في حياته، فيقضون أوقاتهم في مشاهدة البرامج الترفيهية في التلفزيون, أو المسارح والملاهي، أو ألعاب الكمبيوتر، أو الذهاب إلى السينما، وغير ذلك من أنواع اللهو سواء أكان حلالاً أم حراماً.
ولاشك أيضاً أن وجود بعض الترفيه المباح الذي لا يتعدى حد الاعتدال, هو أمر مهم لتحقيق الصحة النفسية والتوازن في حياة الإنسان، لاسيما بعد العمل المرهق، أو الانشغال بمشاكل الحياة المعقدة.
ولنا في مشهد حنظله وأبي بكر معيناً على فهم القاعدة في التعامل مع اللهو والترفيه، حيث يحكي حنظله الأسدي فيقول: [ لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظله؟ قلت نافق حنظله، قال:سبحان الله، ما تقول؟! قال: قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار، حتى كأنها رأي العين، فإذا خرجنا من عنده انشغلنا بالأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا. فقال أبو بكر: وإني ألقى مثل الذي تقول، هيا بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكيا إليه ما يجدان، فهدأ من روعهما، وقال لهما: [[ ... يا حنظله ساعة, وساعة]]. رواه مسلم.
ولكن اللهو في حد ذاته لا يحقق أية سعادة دائمة باقية في حياة الإنسان، فالشخص الذي يمضي أغلب وقته في المتعة واللهو سيمل منه ويسأمه فيطلب مستوى أعلى من المتعة واللهو، وهكذا حتى يمل من كل شيء فلا يجد في النهاية ما يمتعه أو يسليه ويفقد إحساسه بقيمة الحياة.
وقد تأخذه فنون اللهو من الأفلام والمسلسلات إلى التعلق بعالم من الأوهام والخيالات، لا يوجد إلا في شاشات السينما، فيقد إحساسه تدريجياً بالواقع الذي يعيش فيه، وبالطبع فإن هذا سوف يؤثر على إنتاجيته وإحساسه بالمسؤولية تجاه عمله وبيته وأسرته وأصدقائه.
وهكذا يضيع حياته ذاتها هباءً دون أن يدري، وقد يجره سأمه من أنواع اللهو البريء المباح إلى أن يطلب اللذة في لهو محرم.
ومن ثم يصدق فيه قوله تعالى: [[أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً]] [الفرقان : 43]
وإذا وصل إلى ذلك فقد حاز الشقاء في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
هذا ليس كل شيء فهناك محاور أخرى يدور حولها بعض الناس ويجعلونها مركز إهتمامهم.
هل هي المحاور الصحية؟ أم هي مثل تلك المحاور هالكة؟ أم .. أم .. ؟
إذا أردت أن تعرفي فتابعينا في المقال القادم إن شاء الله
ـــــــــــــــــــــــــــ
المصادر.. صناعة الهدف.(/2)
حديث احفظ الله يحفظك دراسة عقدية
بقلم د/
د. محمد بن عبد العزيز بن أحمد العلي
أستاذ مساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - بكلية أصول الدين-الرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملخص البحث
هذا البحث هو شرح لحديث رسول الله e في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما حينما قال له وهو رديفه: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
وهذا الحديث، وإن سبق شرحه قديماً وحديثاً، إلا أني لم أقف على من درسه دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل كثيرة تتعلق بأساس الدين وأصله، إذ فيه من المسائل المتعلقة بألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته ونحو ذلك مما يؤكد الحاجة الضرورية لدراسته.
ولهذا كتبت فيه هذا البحث الذي بدأته بمقدمة ذكرت فيها أهميته وسبب اختياره، ثم كتبت تمهيداً ضمنته ذكر الحديث برواياته، ثم شرحه إجمالاً، مع بيان مكانته وما قاله العلماء فيه، ثم قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، جعلت كل فقرة من فقراته في مبحث خاص، ثم ختمته بخاتمة ذكرت فيها أهم نتائجه، ثم وضعت فهرساً لأهم المصادر والمراجع التي أفدت منها.
وإني لأنبه إلى أن هذا الحديث لا يزال بحاجة إلى عناية خاصة بالتأليف لما اشتمل عليه من مسائل عظيمة.
أسأل الله إخلاص النية، وصلاح العمل وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله صحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد.
فإن رسول الله e أعطي (فواتح الكلام وجوامعه وخواتمه) ( )، ويتضح ذلك لكل من تتبع سنته واقتفى أثره، وكان e حريصاً كل الحرص على نجاة أمته، بتعليمها وتربيتها التربية النبوية العقدية القويمة، يفعل ذلك في كل أوقاته، حتى أثناء تنقله من مكان إلى آخر، كما في أحاديث، منها وصيته e لابن عباس رضي الله عنهما عندما كان رديفه على الدابة، وهو موضوع هذا البحث، وهذا الحديث العظيم وإن كان موجهاً من رسول الله e إلى ابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه وصية عظيمة القدر للأمة جمعاء، وإرشاد نبوي لكل من أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
هذا وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث، قديماً وحديثاً، شرحاً وتفصيلاً، فتتبعت ما كتب فيه فرأيت أنه بحاجة إلى دراسة عقدية تظهر ما فيه من مسائل عظيمة تتعلق بأشرف العلوم وأجلها قدراً، وأوجبها مطلباً، وهو علم التوحيد، لأنه مفتاح الطريق إلى الله e وأساس الشرائع قال تعالى : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [ ( ).
فإن كثيراً مما كتب في شرح هذا الحديث اعتنى ببسط مسائله الوعظية، وفي هذا خير عظيم، والأمة بحاجة ماسة إلى من يذكرها ويعظها بما جاء في كتاب الله تعالى وثبت في سنة رسوله e، إلا أن التركيز على مسائله العقدية من أهم المهمات.
وهذا لا يعني أن من كتب في شرحه أغفل مسائل العقيدة لكنه أجمل في ذكرها مقارنة مع ما في الحديث من مسائل كبيرة.
ومن أفضل ما قرأته المملكة العربية السعودية ما كتبه أسلافنا شرح ابن دقيق العيد (ت 702هـ) في كتابه (شرح الأربعين حديثاً النووية)، وشرح ابن رجب (ت 795 هـ) في كتابه (جامع العلوم والحكم) و (نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي e لابن عباس) وغيرهما، وبخاصة ممن كتب في شرح الأربعين النووية.
إلا أنه كما ذكرت آنفاً رأيت أن الحديث بحاجة إلى دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل أُجمل في ذكرها، وبخاصة أنه قد تناوله بالشرح ممن هو ليس على عقيدة السلف، فظهرت آثار ذلك في شرحه.
وقد بدأت البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية وسبب الكتابة في هذا الموضوع، ثم تمهيداً ذكرت فيه الحديث ومكانته وشرحه إجمالاً.
بعد ذلك قسمت البحث إلى اثني عشر مبحثاً، كل فقرة في الحديث جعلتها في مبحث مستقل.
ثم ختمت هذه الدراسة بخاتمة كتبت فيها أهم ما توصلت إليه إجمالاً.
أسأل الله إخلاص النية وصلاح العمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد:
متن الحديث:(/1)
عن أبي العباس عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – قال: كنت خلفَ النبي e يوماً فقال: (يا غلامُ إني أُعَلِّمُك كلمات: احفظِ الله يحفظك، احفظِ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف) ( ).
وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك،واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
وفي رواية: (يا فتى ألا أهب لك ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنه قد جف القلم بما هو كائن، واعلم بأن الخلائق لو أرادوك بشيء لم يردك الله به لم يقدروا عليه، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) ( ).
مكانة الحديث:
حديث ابن عباس هذا حديث عظيم – وكل أحاديث الرسول e عظيمة وشريفة - فهو أمر نبوي كريم بحفظ الدين، وبيان لنتيجة ذلك، وهو نصر الله وتأييده وحفظه لمن حفظ دينه، وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولاً عظيمة، من الإيمان بالله والإخلاص له بالعبادة والتوكل عليه والاستعانة به، والقضاء والقدر، والاتباع لما جاء به رسوله e.
ومما يدل على مكانته اختيار النووي (ت 676هـ) له أن يكون ضمن الأربعين حديثاً التي جمعها، وكان رقمه التاسع عشر، وذكر سبب اختياره لها بقوله: ((وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً …، ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها، وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، قد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك…، وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره)) ( ).
كما اختاره النووي أيضاً ليكون ضمن كتابه القيم (رياض الصالحين)، ووضعه في الباب الخامس، باب المراقبة، من الكتاب الأول، فكان رقمه الثاني والستين من جملة الأحاديث التي بلغت 1896 حديثاً، وقد قال في مقدمتها: ((فرأيت أن أجمع مختصراً من الأحاديث الصحيحة، مشتملاً على ما يكون طريقاً لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلاً لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعاً للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح، وإزالة اعوجاجها،وغير ذلك من مقاصد العارفين)) ( ).
وقد وجد هذان الكتابان قبولاً عظيماً عند العلماء، وطلبة العلم بعد النووي، إذ كثر انتشارهما، واعتني بهما بالشرح والتعليق.
وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث خاصة، وشرحوه، وبينوا منزلته، ومن ذلك ما ذكره ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) حيث قال: ((هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة،وقواعد كلية من أهم أمور الدين، وأجلِّها، حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه (صيد الخاطر): تدبرت هذا الحديث، فأدهشني، وكدت أطيش، فوا أسفي من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه)) ( ).
وقال ابن حجر الهيتمي (ت 974هـ) بأن هذا الحديث اشتمل على ((هذه الوصايا الخطيرة القدر، الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر)) ( ).
وقال ابن عثيمين: ((فهذا الحديث الذي أوصى به عبد الله بن عباس ينبغي للإنسان أن يكون على ذكر له دائماً، وأن يعتمد على هذه الوصايا النافعة، التي أوصى بها النبي e ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما)) ( ).
شرح الحديث إجمالاً:
قوله: (كنت خلف النبي e) أي راكباً معه، ورديفه.
قوله: (فقال: يا غلام…) قال له: (يا غلام)؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن الرسول e توفي وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة ( ).
قوله: (إني أعلمك كلمات) ذكر له ذلك قبل ذكر الكلمات، ليكون ذلك أوقع في نفسه، وجاء بها بصيغة القلّة؛ ليؤذنه أنها قليلة اللفظ؛ فيسهل حفظها( ).
قوله e : (احفظ الله) أي احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره ونواهيه.
وحفظ ذلك يكون بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله.(/2)
وأعظم ما يجب حفظه التوحيد، وسلامة العقيدة، فهي الأصل والأساس لبقية أركان الإيمان والإسلام، التي يجب حفظها، بالإيمان بها قولاً وعملاً واعتقاداً، إخلاصاً لله تعالى، واتباعاً لما جاء به رسول الله e.
قال ابن دقيق العيد (ت 702هـ) في معنى (احفظ الله): ((ومعناه كن مطيعاً لربك، مؤتمراً بأوامره، منتهياً عن نواهيه)) ( ).
وكذلك من حفظ الله أن يتعلم المسلم من دينه ما يقوّم به عباداته ومعاملاته، ويدعو به إلى الله e.
وقوله: (يحفظك) يعني أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه حفظه الله، في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من أنواع العقوبات، جزاء وفاقاً.
فكلما حفظ الإنسان دين الله حفظه الله.
وحفظ الله لعبده الحافظ لدينه، يكون في أمرين:
الأول: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفّاه على الإيمان.
هذا هو الأمر الأول، وهو أعظمهما وأشرفهما، وهو أن يحفظ الله عبده من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله هدى، وكلما ضل ازداد ضلالاً.
الثاني: حفظ الله للعبد في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله( ).
إذن من حفظ حدود الله حفظه الله في دينه، وفي بدنه وولده وأهله وماله.
قوله e: (احفظ الله تجده تجاهك) أي احفظ الله أيضاً، بحفظ حدوده وحقوقه، وشريعته بالقيام بأمره واجتناب نهيه.
(تجده تجاهك)، وفي رواية: (أمامك)، ومعناهما واحد، أي من حفظ حدود الله وجد الله تجاهه وأمامه، في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويوفقه ويسدده، كما قال تعالى: ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [ ( ).
نعم من حفظ الله وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، ولا سيما إذا حفظ الله بالاستعانة به؛ فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، فلن يناله سوء. ( )
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذه العبارة: ((أي اعمل له بالطاعة، ولا يراك في مخالفته؛ فإنك تجده تجاهك في الشدائد)) ( ).
قوله e: (إذا سألت فاسأل الله) سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه، فدل هذا التوجيه النبوي الكريم على أن يسأل الله e، ولا يسأل غيره، فسؤال الله e دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وجلب المنافع، ودفع المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده.
والله سبحانه يحب أن يُسأل، ويُلَحّ في سؤاله، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يُسأل، ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجت( ).
قوله e: (وإذا استعنت فاستعن بالله) دل هذا الحديث على أن يستعان بالله دون غيره، وأن لا يعتمد على مخلوق، فالاستعانة هي طلب العون، ولا يطلب العون من أي إنسان ((إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً تعتمد عليه …)) ( ).
يقول ابن رجب: ((وأما الاستعانة بالله e دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا لله e، فمن أعانه الله فهو المعان…، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات)) ( ).
قوله e: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). المراد أن كل ما يصيب الإنسان في دنياه، مما يضره أو ينفعه، فهو مقدر عليه، فلا يصيب الإنسان إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً.
فالرسول e يخبر في هذا الحديث أن الأمة لو اجتمعت كلها على نفع أحد لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإذا وقع منهم نفع له فهو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه، وكذلك لو اجتمعوا على أن يضروا أحداً بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه( ).
ولهذا جاء في الحديث: (إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ( ).
قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) هذا إخبار من الرسول e عن تقدّم كتابة المقادير، وأن ما كتبه الله فقد انتهى ورفع، والصحف جفّت من المداد، ولم يبق مراجعة، فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك( ).
قوله e: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه، إذا صبر عليها نصره الله، وجعل في صبره خيراً كثيراً.(/3)
يقول صاحب شرح رياض الصالحين في شرح هذا الحديث: ((يعني اعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبرت، وفعلت ما أمرك الله به من وسائل النصر ؛ فإن الله تعالى ينصرك.
والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة)) ( ).
قوله : (وأن الفرج مع الكرب) أي كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج من الله قريب، يقول ابن حجر الهيتمي : (… (وأن الفرج) يحصل سريعاً (مع الكرب) فلا دوام للكرب، وحينئذ فيحسن لمن نزل به أن يكون صابراً، محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه في جميع أموره، فالله e أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه، فهو e أرحم الراحمين)) ( ).
وقوله: (وأن مع العسر يسراً) أي أن كل عسر فإن بعده يسراً، بل إن العسر محفوف بيُسرَيْن، يُسر سابق، ويُسر لاحق، لقوله تعالى: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [ ( ). فالعسر لا يدوم لمن احتسب وصبر، وعلم أن ما أصابه بمقدور الله تعالى، وأنه لا مفر له من ذلك، واستقام كما أمر ربه؛ إخلاصاً وحسن اتباع( ).
المبحث الأول
في قوله e : (يا غلام: إني أعلمك كلمات)
مما يؤخذ من هذا الجزء في حديث الرسول e الأمور التالية:
1- ... وجوب تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتربيتهم عليها، وعل العلم النافع، ويكون ذلك بأسلوب مختصر، وكلم جامع واضح، فلو تأملت هذا الحديث لوجدته جامعاً لمسائل عقدية كثيرة بأسلوب موجز.
2- ... الحرص على تربية الناشئة على العلم النافع، ويبدأ بتربيتهم على العقيدة الصافية الخالصة؛ فإن الرسول e وجه هذه الكلمات النافعات إلى ابن عباس وهو صغير؛ إذ قال له : (يا غلام: إني أعلمك كلمات)؛ ليتربى الشاب المسلم على معرفة الله وتوحيده، وحفظ حدوده، يلجأ إلى الله في الرخاء والشدة، ويسأله ويستعين به، ويتوكل عليه e، فيصبح شجاعاً مقداماً؛ لأنه يعلم أنه لا يملك أحد من البشر له نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله تعالى، ولأن الله معه ينصره ويؤيده وييسر له أموره، ما دام متمسكاً بشرع الله إخلاصاً واتباعاً.
فعلى الجميع الحرص على غرس الإيمان في نفوس الأبناء، وتربيتهم على فهم أصول الإيمان، والعمل بأحكام الإسلام، وتعويدهم على المراقبة والمحاسبة منذ الصغر، قبل أن تصلهم الفلسفات الإلحادية والشبهات البدعية والشهوات المغرضة، وغير ذلك مما تشنه تلك الحملات المسعورة من حرب ضروس ضد شباب الأمة ذكوراً وإناثاً، مرة باسم التثقيف، وباسم التسلية والترفيه مرات أخرى.
3- ... استحباب تشويق المتعلم، وتهيئته بلطف العبارة، وتنبيهه إلى أهمية ما يلقى إليه، وإشعاره بسهولة حفظه ووعيه ليسهل عليه تلقيه واستيعابه، وبالتالي حفظه ووعيه، وبخاصة المسائل العقدية التي يحتاج إلى دقة في حفظها ونقلها، ويؤخذ هذا من فعل الرسول e عندما قال لابن عباس مقدماً له هذه المسائل: (يا غلام: إني أعلمك كلمات).
4- ... ومما يؤخذ من هذا الحديث حرص الرسول e على توجيه الأمة، وتنشئة الجيل المسلم على العقيدة الصحيحة والشرع القويم، وقد قال الله تعالى في وصفه e: ] لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ ( )، أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته، ويشق عليها، حريص على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم( )، ولهذا ورد عن أبي ذر e أنه قال: تركنا رسول الله e وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً، قال: فقال رسول الله e: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم) ( ).
المبحث الثاني
في قوله e: (احفظ الله)
ومما يؤخذ في هذا الجزء ما يلي:
1- إثبات صفة الحفظ لله تعالى، أخذاً من قوله e: (احفظ الله يحفظك)، فهنا أثبت أن الله e متصف بأنه يحفظ عباده الذين يحفظون حدوده، فدل على إثبات صفة الحفظ لله تعالى، وأنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وهذه الصفة ثابتة لله U في القرآن الكريم، لقوله تعالى : ] فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين[ ( (، وقوله سبحانه: ] إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ [ ( ).
وقد ذكر العلماء أن من أسماء الله تعالى (الحافظ) و(الحفيظ)؛ أخذاً من الآيتين السابقتين، ومن المعلوم أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة، وأسماء الله تعالى إن دلت على وصف فقد تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله U.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله U.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها( ).
مثال ذلك (الحافظ) يتضمن إثبات (الحافظ) اسماً لله تعالى، وإثبات الحفظ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه سبحانه يحفظ عباده، الذين يحفظونه.(/4)
ومن الأدلة أيضاً على تسمية الله بالحفيظ قوله تعالى: ] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [ ( )، وقوله: ] وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ [ ( ).
يقول صالح البليهي (ت 1410هـ): ((الحفيظ من أسماء الله الحسنى، واشتقاقه من الحفظ، والحفظ لغة هو الحراسة والصيانة والحياطة، والله جل وعلا سمى نفسه حفيظاً … فالله تقدّس اسمه هو الحافظ والحفيظ، هو تعالى على كل شيء حفيظ، أي شاهد وحافظ، يحفظ على عباده أقوالهم وأفعالهم، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر …، والله تعالى من فضله ولطفه ورحمته وإحسانه يحفظ عباده المؤمنين، وهو خير الحافظين، يحفظهم من كل شر، ومن كل محنة وبلاء، يحفظهم تعالى ] وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ[ يحفظهم بشرط أن يحافظوا على ما أوجب الله عليهم في شريعة الإسلام، وبشرط أن يحفظوا جوارحهم عن كل ما حرم الله…، ودعاء الله بأسمائه مشروع، وكيفيته يا غفور اغفر لي، يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا معافي عافني، ونحو ذلك، فالله تعالى هو الحافظ والحفيظ … اللهم يا حافظ ويا حفيظ احفظنا وأنت خير الحافظين))( ).
2 - وجوب حفظ العقيدة، والحرص على سلامتها مما قد يشوبها، وأن ذلك أعظم أسباب حفظ الله للعبد، كما يجب حفظ الشريعة، وذلك بالعمل بها، والدعوة إليها، والدفاع عنها.
فإذا كان قوله e: (احفظ الله) يعني حفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره ونواهيه، فإن أعظم حقوقه توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، واتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله e، المصدرين لتلقي العقيدة، والحذر من الانزلاق مع الهوى، أو تقديم العقل على النص الشرعي مما أوقع كثيراً من الفرق والنحل في الشرك والبدع والمخالفات.
وحفظ العقيدة يكون بتعلمها والإيمان بها والعمل بمقتضاها،وتعليمها والدعوة إليها.
فقوله: (احفظ الله) أمر بحفظ توحيده، وأوامره ونواهيه، وحقوقه وحدوده، كما أنه أمر بحفظ الجوارح كالسمع والبصر واللسان والبطن والفرج.
ولهذا يقول الله تعالى: ] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (( ) يقال للمتقين على وجه التهنئة: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أواب حفيظ) أي هذه الجنة وما فيها، هي التي وعد الله لكل أواب، أي رجاع إلى الله، في جميع الأوقات، بتوحيده وذكره، وحبه، والاستعانة به، (حفيظ) أي محافظ على ما أمر الله به، من توحيده وشرعه، على وجه الإخلاص، والإكمال له على أتم الوجوه، حفيظ لحدوده ( ).
وخصت بعض الأعمال بالتنصيص على حفظها اعتناء بشأنها، ومن ذلك قوله تعالى: ] حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [ ( ). وقوله تعالى: ] قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [ ( )، وقوله: ]وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ ( )، وقوله: ] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون [ ( )، وقوله: ] وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [ ( )، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله e: (من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة) ( )، وفي رواية: (من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة) ( )، وقوله e: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) ( ).
إذن من فعل الواجبات وترك المحرمات فقد حفظ حدود الله تعالى، ومن ثم فقد حفظ الله، وأعظم ما أوجبه الله على عباده، توحيده، وعبادته سبحانه إخلاصاً له، ومتابعة لما جاء به رسوله e، فهي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، قال تعالى: ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون[ ( ).
فمن آمن بذلك وعمل به فهو من الحافظين لحدود الله تعالى، الذين أثنى الله عليهم سبحانه بقوله : ]وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[( )، وقوله سبحانه : ]هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ[ ( ).
ومن الأدلة على حفظ الجوارح ما جاء في حديث ابن مسعود المرفوع: (الاستحياء من الله حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى) ( ).
وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ اللسان من الكذب والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والقول الحرام، وحفظ السمع عن الأصوات المحرمة، وحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله تعالى النظر إليه، ونحو ذلك.
وحفظ البطن وما حوى: يدخل فيه حفظ القلب عن الاعتقاد الباطل، والإصرار على المحرم، وحفظ البطن من إدخال ما حرم الله من المأكولات والمشروبات الممنوعة شرعاً( (.(/5)
قال تعالى: ] وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً[ ( )؛ أي ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبّت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يُعدّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله تعالى، وإخلاص الدين له، وكفها عما يكرهه الله جل وعلا( ).
((وكما هو معروف الجزاء من جنس العمل فمن حفظ الله حفظه الله، وحفظ الله لا يحصل إلا بفعل الواجبات وترك المحرمات، فمن فعل جميع ما أوجب الله عليه، وترك جميع ما حرم الله عليه حفظه الله بما يحفظ به عباده الصالحين، ومن المعروف أن هذه الحياة في غالب الأزمان تموج بالشرور والفتن، والحروب الطاحنة، ولكن من حفظ الله حفظه الله))( ).
ومما يلزم التنبيه عليه أن ((الله عزوجل ليس بحاجة إلى أحد حتى يحفظه، ولكن المراد حفظ دينه وشرعه، كما قال تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [ ( )، وليس المعنى تنصرون ذات الله؛ لأن الله I غني عن كل أحد، ولهذا قال في آية أخرى: ]ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُم [ ( )، ولا يعجزونه ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض [ ( ))) ( ).
وهذا الفهم الخاطئ قد يفهمه الجهلة أو يثيره الأعداء، فإن اليهود عندما سمعوا قول الله تعالى: ] مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة[ ( )، قالوا : يا محمد : افتقر ربك فسأل عباده القرض، ما بنا إلى الله من حاجة، وإنه إلينا لفقير، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا – كما نُقل ذلك عنهم( ) – فأنزل الله U قوله: ] لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [ ( ).
المبحث الثالث
في قوله e (يحفظك)
إذا حفظ العبد توحيده، وراعى حقوق ربه، فعندئذ يحفظه الله؛ في دينه، وفي بدنه وماله وأهله.
وأعظم هذه الأمور حفظ الله تعالى دين العبد، بأن يسلّمه من الزيغ والضلال، والانحراف، لأن الإنسان كلما حرص على حفظ توحيده، وسلامة عقيدته من البدع والخرافات والضلالات، حفظ الله عليه عقيدته وتوحيده، وكلما التزم الهداية زاده الله هدى، قال تعالى: ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم[ ( )، وكلما ضل الإنسان، والعياذ بالله، فإنه يزداد ضلالاً، ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين: ] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ [ ( )، أي: ختم على قلوبهم، وسد أبواب الخير التي تصل إليه بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل( ).
ولهذا جاء في الحديث: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: ] كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ ( ).
يحفظ الله U عبده الحافظ لدينه في حياته، وعند موته، فيتوفاه على الإيمان، إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه قوله تعالى: ] وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ ( )، وقوله تعالى: ] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [ ( )، وقوله: ] إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [ ( )، وقوله e: (إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصَنِفة إزاره ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعده، وإذا اضطجع فليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ( ).
فمن حفظ الله في حياته، بإخلاص العبادة له سبحانه، وحسن الاتباع لرسوله e حفظه الله بالإسلام ونصره وأيده؛ وقد علّم رسول الله e عمر بن الخطاب t أن يقول: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً ولا حاسداً، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك)( ).
وقال e: (من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلِّف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)( ).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول للرجل إذا أراد سفراً: ادنُ منِّي أودعك كما كان رسول الله e يودّعنا، فيقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) ( ).
وجاء في الحديث عن رسول الله e أنه قال: (إن الله إذا اسْتُودع شيئاً حفظه) ( ).(/6)
فالله U يحفظ العبد الحافظ لدينه، المخلص في عبادته، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه من مفسدات الشبهات والشهوات، من البدع والخرافات، وأنواع المغريات، فيحفظه الله منها بأنواع الحفظ، قد يخفى بعضها عليه؛ إذ يكون في ظاهرها بلاء، وفي حقيقتها صرف السوء عنه، كما قال تعالى في قصة يوسف u : ] كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين [ ( ).
يقول السعدي (ت 1376هـ) في حديثه عن قصة يوسف u : ((فصبر عن معصية الله مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هماً تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف عن هذه المعصية الكبيرة، (قال معاذ الله) أي أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح؛ لأنه مما يسخط الله، ويبعد عنه …، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة سيده، الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم، الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما من الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله: أن الله صرف عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله، واختارهم واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه)) ( ).
وقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[ ( ).
روي عن ابن عباس أنه قال: ((يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان)) ( ).
فمن حافظ على سلامة توحيده من الشبهات والانحرافات، وقام بحقوق الله عليه؛ فإن الله يحفظه بحفظ جميع مصالحه في الدنيا والآخرة، فمن أراد أن يتولى الله حفظه في أموره كلها فليراعِ حقوق الله عليه، وأعظمها حق توحيده، وإفراده بالعبادة، والعمل بشريعته، اتباعاً لرسوله e، وقد أخبر الله تعالى بأنه ولي المؤمنين وكافيهم وحسبهم، قال تعالى: ] اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُر [ ( )، وقال تعالى: ] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ [ ( )، وقال سبحانه: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه [ ( )، وقال: ]أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[ ( ).
فالحافظ لدينه يحفظه الله في دينه ودنياه، ويحييه حياة طيبة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ[ ( ) روى الطبري (ت 310هـ) عن ابن عباس قوله بأن المعقبات ((هم ملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه)) ( ).
وروى الطبري أيضاً، عن مجاهد (ت 104هـ) قوله: ((ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك، إلا شيئاً يأذن الله فيه فيصيبه)) ( ).
وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: لم يكن النبي e يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ( (.
ويقول الله U: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ ( )، فهذه الآية ((وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله e، من ذكر أو أنثى، من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، أن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه الله بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت)) ( )، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه، ويرزقه العافية والرزق الحلال( ).
فلو أن الأمة رعاة ورعية حفظوا شرع الله تعالى، واحتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله e وحكموهما في جميع مجالات الحياة، لسلمت الأمة من كثير من الأخطار والفتن والابتلاءات كالجوع والخوف والغزو ونحو لك؛ إذ إن ما أصابها من تشتت وفرقة هو بسبب تهاونها في حفظ حدود الله تعالى والقيام بشرعه.(/7)
وإن انتصار الأمة مرهون بنصرها دين الله تعالى، بالعمل به والدعوة إليه، والدفاع عنه، يقول تعالى: ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ( ) ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى ((أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصرة رسله واتباعهم، ونصرة دينه، وجهاد أعدائه، وقهرهم، حتى تكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى، ثم إن الله جل وعلا بيّن صفات الذين وعدهم بنصره؛ ليميزهم عن غيرهم، فقال مبيناً من أقسم أنه ينصره ؛ لأنه ينصر الله جل وعلا: ] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَر [ ( ) الآية، وفي قوله: ] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [ دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر إلا مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض، ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فليس لهم وعد من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه، الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له)) ( ).
وخلاف ذلك، من كفر بأنعم الله تعالى وضيّع حدوده، فقد عرّض نفسه للهلاك، يقول تعالى: ]وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ ( ). قال الشنقيطي (ت 1393هـ) بعد تفسيره هذه الآية: ((وعلى كل حال، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان؛ لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة، ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علماً؛ لقوله U : ]وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون[ ( ))) ( ).
((ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه لله في حال كبره، وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله)) ( ).
ذكر ابن كثير (ت 774هـ) أن أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري الشافعي (ت 450هـ)، قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبة شديدة، فعوتب في ذلك فقال: ((هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر))( ).
وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخاً يسأل الناس، فقال بأن هذا الشيخ لم يحفظ الله في صغره، فلم يحفظه الله في كبره( )
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته، في ذريته، بدليل قوله تعالى : ]وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّك[ ( ).
قال ابن كثير: ((وقوله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا، والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم))( ).
وروي عن ابن عباس أنه قال: ((حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً)) ( ).
وقال السعدي في تفسير الآية السابقة: ((أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما؛ لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضاً بصلاح والدهما))( ).
وذكر ابن رجب أن سعيد بن المسيب قال لابنه : ((لأزيدن في صلاتي من أجلك ؛ رجاء أن أُحفظ فيك))( ) ثم تلا هذه الآية وكان أبوهما صالحاً (.
ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : ((ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه))( ).
وقال أبو نعيم (ت430هـ) بأن ابن المنكدر (ت130هـ) قال : ((إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر)) ( ).
وجاء في الحديث أن النبي e قال: (كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزاً، وصيصيتها( ) كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزاً لها وصيصيتها، فقالت: يا رب، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزاً من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي) قال: وجعل رسول الله e يذكر شدّة مناشدتها ربها تبارك وتعالى، ثم قال رسول الله e: (فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها) ( ).(/8)
ومن حفظ الله تعالى لعبده الحافظ لحدود الله أن يجعل الحيوانات المؤذية، حافظة له من الأذى، كما حدث لسفينة مولى النبي e، حيث كسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى أسداً، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع عنه( ).
ومن ضيع حدود الله واتبع الشبهات أو غرق في الشهوات، ولم يحفظ الله، لم يحفظه الله، وكان عرضة لعقاب الله وسخطه، ودخل عليه الضرر والأذى، وربما أصابه ذلك ممن كان يرجو نفعه من أهله وماله، كما نقل عن الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) أنه قال: ((إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي))( ).
المبحث الرابع
في قوله e : (احفظ الله تجده تجاهك)
وفي الرواية الأخرى: (احفظ الله تجده أمامك)
من حفظ الله بحفظ توحيده وشريعته، وقام بأوامر الله تعالى، واجتنب نواهيه وجد الله تجاهه وأمامه، ومعناهما واحد، أي وجد الله أمامه يدله على كل خير، ويذود عنه كل شر، وبخاصة إذا حفظ الله بالاستعانة به والتوكل عليه، فإن الإنسان إذا استعان بالله، وتوكل على الله كان الله حسبه وكافيه، ومن كان الله حسبه؛ فإنه لا يحتاج إلى أحد بعد الله، قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[ ( )، ((أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض المغالطين؛ إذ هو وحده كاف نبيه، وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول)) ( ).
وقال تعالى: ] وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ [ ( )؛ فإذا كان الله حسب الإنسان، أي كافيه؛ فلن ينالوه بسوء، ولا يزال عليه من الله حافظ، ولهذا قال e : (احفظ الله تجده تجاهك).
قال ابن حجر الهيتمي: ((أي تجده معك بالحفظ، والإحاطة والتأييد والإعانة، حيثما كنت، فتأنس به، وتستغني به عن خلقه …، على حد قوله تعالى: ] أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[ ( )، ]إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ( )…، المعنى تجده حيثما توجهت وتيممت وقصدت من أمر الدين والدنيا)) ( ).
ومعية الله لخلقه نوعان:
الأولى: المعية الخاصة بالمؤمنين، الحافظين حدود الله، وهي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، وتوجب لمن آمن بها كمال الثبات والقوة. ودليل هذه المعية الخاصة قوله تعالى : ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [( )، وقوله تعالى: ]إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[ ( )، وقوله تعالى عن موسى أنه قال: ]إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[( )، وقول النبي e لأبي بكر وهما في الغار : ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ]لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[ ( )، وقوله تعالى: ]وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ ( ).
فمن حفظ الله حفظه الله وأيده ونصره.
الثانية: المعية العامة لجميع الخلق، وهي تقتضي الإحاطة بجميع الخلق من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، في العلم، والقدرة، والتدبير، والسلطان،وغير ذلك من معاني الربوبية.
وهي توجب لمن آمن بها كمال المراقبة لله U.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى: ] وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ [) )، وقوله تعالى : ]مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [ ( )، وقوله : ] وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْل [ ( ).
والكتاب والسنة يدلان على قرب الله تعلى من عبده الحافظ لدينه، يقول الله U: ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ ( ).
وقول الله تعالى في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) ( ).
والمراد أن الله U يسدد هذا الولي في سمعه وبصره وعمله، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره، وعمله بيده، كله لله تعالى، إخلاصاً، وبالله تعالى استعانة، وفي الله تعالى شرعاً واتباعاً، فيتم له بذلك كمال الإخلاص والاستعانة والمتابعة، وهذا غاية التوفيق) ( ).
وقوله e فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: (من تقرّب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) ).(/9)
فالله I يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه جل وعلا، ويأتي عبده كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): ((وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر))) ).
وروى ابن رجب عن قتادة (ت 118 هـ) أنه قال: ((من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل)).
وذكر أن بعض السلف كتب إلى أخ له يقول: ((أما بعد، فإن كان الله معك فممن تخاف ؟! وإن كان عليك فمن ترجو؟! والسلام)) ( ).
ولا شك أن الذي يحفظ عقيدته من الانحراف، وعمله من الشرك، ويتقي الله يكون الله معه، بنصره وتأييده، يهديه ويحفظه، ويؤمنه، ومن اتبع الشبهات، أو ضيع حدود الله فقد عرّض نفسه للهلاك.
فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها، فليراعِ حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره، فلا يأتِ شيئاً مما يكرهه الله منه، وعلى قدر اهتمام العبد بحقوق الله ومراعاة حدوده وحفظه لها، يكون حفظ الله له ونصره وتأييده، ومن كان غاية همه توحيد الله ومعرفته وطلب قربه ورضاه؛ فإن الله يكون له حسب ذلك، بل هو سبحانه أكرم الأكرمين، فهو يجازي بالحسنة عشراً ويزيد، ومن تقرّب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
المبحث الخامس
في قوله e: (وإذا سألت فاسأل الله)
قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أي لا تعتمد على أحد من المخلوقين، وإذا احتجت فاسأل الله وحده، يأتيك رزقك من حيث لا تحتسب، أما إذا سأل الإنسان المحتاج الناس فربما أعطوه أو منعوه، ولهذا جاء في الحديث: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب ثم يبيعه لكان خيراً له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) ( ).
فعلى المسلم أن يتجه بسؤاله لله وحده، ويدعوه بإلحاح، مثل أن يقول: (اللهم ارزقني)، و(اللهم أغنني بفضلك عمَّن سواك) وما أشبه ذلك من الكلمات( ). وفي قوله: (إذا سألت فاسأل الله) أمر بإفراد الله I بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره.
وقال الله I: ] وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ[ ( )، وقال جل وعلا: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين[( ).
((وهذا من لطفه بعباده، ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعّد من استكبر عنها)) ( ).
فيجب على المسلم أن يتوجه بسؤاله لله وحده، لاسيما في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، فمن طلبها من غير الله فقد أشرك مع الله غيره، كمن يدعو أصحاب القبور ونحوهم، قال تعالى: ] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَة [ ( ).
أما سؤال الناس في الأمور التي يقدرون عليها، فقد وردت نصوص كثيرة تذم طلبها منهم، وتثني على المتعففين الذين لا يسألون الناس، قال تعالى: ]لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[( ).
وقد بايع النبي e جماعة من أصحابه عل ألا يسألوا الناس شيئاً منهم : أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه (( ).(/10)
وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيل الحكم في هذه المسألة فقال: ((وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافيته، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، أو غفران ذنبه، أو دخول الجنة، أو نجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن والعلم، أو أن يصلح قلبه، ويحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك، فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لا لملك ولا نبي، ولا شيخ، سواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولااشف مريضي، ولا عافني وعافي أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقاً – كائناً من كان - فهو مشرك بربه، من جنس المشركين، الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل، التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، وقال تعالى: ] وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [ ( )، وقال تعالى: ] اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[( ).
وأما ما يقدر عليه العبد، ويجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهياً عنها، وقال تعالى: ]فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)[ ( )، وأوصى النبي e ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وأوصى النبي e طائفة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولني إياه…، ومن الأمر المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمرنا النبي e بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له، وأخبرنا بمالنا بذلك من الأجر إذا دعونا بذلك ( )… ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه، وممن هو دونه … لكن النبي e لما أمرنا بالصلاة عليه، وطلب الوسيلة له، ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشراً، وان من سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من طلب من غيره شيئاً لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط)) ( ).
وكيف يطلب من غير الله كشف الضر أو جلب النفع، وذلك كله بيده I، قال تعالى: ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [ ( )، وقال سبحانه: ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [ ( ).
والله I يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، قال e: (من لم يدْعُ الله سبحانه يغضب عليه)( ).، ويستدعي من عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك.
وقال تعالى : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[ ( )، ويقول الرسول e: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ( ).
وعن أبي ذر t عن النبي e فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ( ).(/11)
يقول ابن القيم (ت 751 هـ) في شرح هذه المسألة: ((وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر، وأنه لا رب غيره، ولا خالق سواه، ولا يملك المخلوق لنفسه، ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل الأمر كله لله، ليس لأحد سواه منه شيء، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحسنهم إليه: ] لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء[ ( ) وقال جواباً لمن قال: ] هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [ ( ) ] قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ[ ( )، فالملك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ] قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون[( ) ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ[ ( )، ] مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[( ) فاستعذ به منه، وفرّ منه إليه، واجعل لجاك منه إليه، فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئاً، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سم ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء))( ).
ولذلك قال تعالى؛ مخبراً عن نوح u أنه قال لقومه: ] إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ [ ( ).
فنوح u قال لقومه: إن كان عظم عليكم مقامي فيكم بين أظهركم، وتذكيري إياكم بحجج الله وبراهينه، ] فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ [؛ فإني لا أبالي، ولا أكف عنكم، سواء عظم عليكم، أولا، فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم، الذين تدعون من دون الله، من صنم ووثن، ]ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً[، أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إليّ ولا تتأخروا ساعة واحدة، مهما قدرتم فافعلوا؛ فإني لا أباليكم، ولا أخاف منكم؛ لأنكم لستم على شيء( ).
وقال تعالى، مخبراً عن هود u:] قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ ( ).
يبين هود u أنه واثق غاية الوثوق أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى؛ ولهذا أشهد الله وأشهدهم أنه u بريء من جميع الأنداد والأصنام، ثم قال لهم: ] فَكِيدُونِي جَمِيعًا [ أي اطلبوا لي الضرر كلكم، أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً، بكل طريق تتمكنون بها مني ولا تمهلون طرفة عين، ]إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ[ واعتمدت عليه في أمري كله، فهو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلوا اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي، لم تقدروا على ذلك؛ فإن سلطكم فلحكمة أرادها، ] إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ أي على عدل وقسط وحكمة، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم، التي يحمد، ويثنى عليه بها ( ).
أما سؤال الناس فيما يقدرون عليه فتركه أولى، وذلك أن في طلب الناس وسؤالهم ذلة وخضوعاً، والمسلم مطالب بإظهار كمال الذل والخضوع لله وحده لا شريك له.
يقول ابن رحب: ((واعلم أن سؤال الله تعالى، دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر، ونيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده، لأنه حقيقة العبادة)) ( ).
وقال في كتاب آخر: ((واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، وذلك من وجوه متعددة، منها: أن السؤال فيه بذل ماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة.(/12)
ومنها أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره ؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر، وليس هو بقادر.
ومنها أن الله يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه،…
ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فاستجيب له …، فأي وقت دعاه العبد وجده سميعاً قريباً مجيباً، ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق؛ فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات)) ( ).
ولهذا كان عقوبة من سأل الناس تكثراً أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، كما ثبت عن النبي e أنه قال: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)( ).
وقال e : (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة، حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً)( ).
في هذا الحديث يبين الرسول e أن من يحل له المسألة من الناس ثلاثة: الأول صاحب الحمالة، وهو أن يكون بين القوم تشاحن، في دم أومال، فيسعى رجل في إصلاح ذات بينهم، ويضمن مالاً يبذل في تسكين ذلك التشاحن، فإنه يحل له السؤال، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ ذمته عن الضمان، وإن كان غنياً، والثاني: أن يكون معروفاً بالمال، فيهلك ماله بسبب ظاهر كالجائحة، فهذا يحل له الصدقة، حتى يصيب ما يسد خلته به، ويعطى من غير بينة، تشهد على هلاك ماله؛ لأن سبب ذهاب ماله أمر ظاهر، والثالث: صاحب مال هلك ماله بسبب خفي من لص، أو خيانة، أو نحو ذلك، فهذا تحل له المسألة، ويعطى من الصدقة بعد أن يذكر جماعة من أهل الاختصاص به، والمعرفة بشأنه أنه قد هلك ماله)) ( ).
وقد ذكر النووي (ت 676 هـ)، اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: ((واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق)) ( ).
وإذا علم المسلم أن الغني القادر الذي بيده الخير كله هو الله I، تربى على الأنفة والاستغناء عن المخلوقين، وعلم أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو التعلق بالله تعالى والتوكل عليه، وعبادته والالتجاء إليه، مع الأخذ بأسباب الجد والعمل، وبذلك يحفظ المسلم ماء وجهه من التذلل والسؤال، وخفض الأكف والانكسار للأشخاص مهما كانوا، فيحفظ كرامته، وتبقى له عزته ومكانته.
المبحث السادس
في قوله e : (وإذا استعنت فاستعن بالله)
الاستعانة طلب العون من الله تعالى، بلسان المقال، كأن تقول، عند شروعك بالعمل: اللهم أعني، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى الله تعالى أن يعينك على هذا العمل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز، أو طلب العون بهما جميعاً، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال( ).
فتجب الاستعانة بالله تعالى على تحمل الطاعات، وترك المنهيات، كما تجب الاستعانة به سبحانه على الصبر على المقدورات؛ فإن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الإتيان بهذه الأمور، ولا بد له من طلب الإعانة من ربه I، ولا معين للعبد على مصالح دينه ودنياه إلا الله U، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن فرط في حق الله تعالى، لم يعنه الله، فهو المخذول.
يذكر ابن كثير (ت 774 هـ) أن الدين كله يرجع إلى العبادة والاستعانة، فالعبادة تبرؤ من الشرك، والاستعانة تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله U، وهذا المعنى في غير آية من القرآن( )، مثال ذلك قوله تعالى: ] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ ( )، وقوله تعالى: ] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا[ ( )، وقوله: ]رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً[ ( )، وقوله: ] وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [( )، ونحو ذلك من الآيات.
ولهذا أشار الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، أن معنى الاستعانة: ((سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة)) ( )(/13)
ويعرف أحد العلماء الاستعانة بقوله : ((والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى، في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك))( )
ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين ( ) (
هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة، التي (هي أعظم السور في القرآن) ( )
ومعنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : أي نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور وفيه عما عداه، فإنه يقول: نعبدك،ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك، أي نوحدك ونطيعك خاضعين، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا( ).
((وللقيام بعبادة الله تعالى، والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله e، مقصوداً بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى ؛ فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي))( )
وجاء في الحديث الصحيح قوله e: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولاتعجز)( )، أي احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة( ).
ولهذا كان النبي e يعلم أصحابه خطبة الحاجة، وهي: (أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره…)( ) الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وتستحب هذه الخطبة في افتتاح مجالس التعليم، والوعظ،والمجادلة، وليست خاصة بالنكاح) ( ).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله e أخذ بيده، وقال : (يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
وكان النبي e يدعو ويقول : (رب أعني، ولا تُعن عليّ) ( ) الحديث.
فالمسلم مطالب بالاستعانة بالله تعالى في فعل المأمورات، واجتناب المنهيات.
يقول ابن تيمية عند تفسير قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): ((وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وإذا كان قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه …، كما أمر بهما في قوله: ] فاعبده وتوكل عليه [، والأمر له ولأمته، وأمره بذلك في أم القرآن، وفي غيرها، لأمته؛ ليكون فعلهم ذلك طاعة لله، وامتثالاً لأمره، لا تقدماً بين يدي الله ورسوله، وإلى هذين الأصلين كان النبي e يقصد في عبادته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله في الأضحية: (اللهم هذا منك ولك وإليك) ( )؛ فإن قوله: منك، هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله : لك، هو معنى العبادة)) ( ).
وقال في موضع آخر: ((فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[، فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء)) ( ).
ويذكر ابن القيم أن آية ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ ((متضمنة لأجلّ الغايات وأفضل الوسائل، فأجلّ الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل …، وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته …، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه)) ( ).
كما أن العبد مطالب بالصبر والاستعانة بالله تعالى عند وقوع المصائب والابتلاءات، ولهذا قال يعقوب u، عند وقوع مصيبته: ] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ ( ).
ولما قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة رضي الله عنها قالت: ((والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: ] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[، فبرأها الله مما قالوا)) ( ).
وعندما هدد فرعون موسى وقومه، ] قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[( )، فجاء الأمر على خلاف ما أراد فرعون؛ إذ أعزهم الله وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده ( ).
وأخبر الله تعالى عن الرسول e أنه لما كذبه قومه: ] قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون [ ( )، أي والله المستعان عليكم فيما تقولون وتفترون من التكذيب والإفك ( ).(/14)
وكان عمر بن الخطاب t يدعو في قنوته بقوله: (اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك) ( ).
ولما بشَّر الرسول e عثمان بن عفان t بالجنة، مع بلوى تصيبه، قال t: ((اللهم صبراً، الله المستعان)) ( ).
وقد قال الرسول e لأحد الصحابة: (قل لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة) ( ). يقول ابن حجر (ت 852 هـ)، ((تسمى هذه الكلمة كنزاً؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس …؛ لأن معنى (لا حول) لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله …، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة)) ( ). ويقول النووي: ((قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له …)) ( ). فهي كلمة عظيمة تتضمن اعتراف العبد بأنه لا تحول له من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بإعانة الله وحده. فالاستعانة لا تطلب من أي إنسان، إلا عند الضرورة، وفيما يقدر عليه فقط، وإذا اضطر العبد الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فعليه أن يجعل ذلك وسيلة وسبباً، لا ركناً يعتمد عليه، وإنما الركن الأصيل الذي يعتمد عليه في الدعاء والسؤال والاستعانة هو الله وحده لا شريك له. كما أنّ على العبد إذا احتاج إلى الاستعانة بالمخلوق، كحمل صندوق مثلاً، أن لا يشعر نفسه أن هذه استعانة كاستعانته بالخالق، وإنما عليه أن يشعر أنها كمعونة بعض أعضائه لبعض، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة، فإنه يستعين على حمله باليد الأخرى ( ). وعلى هذا فالاستعانة بالمخلوق، فيما يقدر عليه، كالاستعانة ببعض الأعضاء، فلا ينافي ذلك قوله e : (فاستعن بالله). فإذا وقع العبد في مكروه وشدة فلا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله بعد الاستعانة بالله تعالى، ولا يكون هذا شكوى للمخلوق؛ فإنه من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس، بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف u للذي ظن أنه ناج من الفتيين ( ): ] اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ[ ( ). والمصيبة العظيمة، والخطر الجسيم فيمن يسأل أو يستعين بأصحاب القبور، أو غيرهم ممن يسمون بالأولياء والصالحين، سواء أكانوا أمواتاً أم أحياء فيسألهم ويستعين بهم فيما لا يقدرون عليه من جلب نفع أو دفع ضر، أو رزق ولد، أو دخول الجنة، أو النجاة من النار، ونحو ذلك مما هو واقع في بعض البلاد، فإن هذا شرك بالله تعالى، إذ هو وحده القادر على كل شيء، وما دونه من نبي أو ولي لا يملك لنفسه جلب الخير أو دفع الشر إلا بإذنه I، ولهذا قال الله I لنبيه محمد e: ] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء [ ( )، فهذه الآية تبين جهل من يقصد النبي e، ويدعوه لحصول نفع، أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه الله. ويقول I: ] وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ ( )، هذه صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه، ولا لغيره، نفعاً ولا ضراً ] ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ[ الذي بلغ في البعد حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني، وأقبل على عبادة مخلوق مثله، أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب؛ ولهذا قال ] يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ[؛ فإن ضرره في العقل والبدن، والدنيا والآخرة معلوم، ] لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [ أي لبئس هذا المعبود والقرين، الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى والعشير حصول النفع، ودفع الضر، فإذا لم يحصل شيء من هذا، فإنه مذموم ملوم ( ). ولهذا ينبه الله تعالى على حقارة الأصنام، وسخافة عقول عابديها بقوله تعالى:: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ ( ). يقول ابن دقيق العيد في شرح هذا الجزء من توجيه رسول الله e لابن عباس: ((أرشده إلا التوكل على مولاه، و أن لا يتخذ(/15)
إلهاً سواه، ولا يتعلق بغيره، في جميع أموره، ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه[ ( )، فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى، بطلبه، أو قلبه، أو بأمله، فقد أعرض عن ربه، بمن لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله))( ). ومما يدل عليه قوله e: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) أن الإيمان يشمل العقائد القلبية، والأقوال، والأعمال، كما هو المذهب الحق، وهو قول أهل السنة والجماعة؛ فإن (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)( )، وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. ويدل هذا الحديث العظيم على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله، ولهذا قال العلماء بكراهية المسألة لغير الله U، في قليل أو كثير، والله I إذا أراد إعانة أحد يسر له العون، سواء أكان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يعين الله العبد بسبب غير معلوم له، فيدفع عنه من الشرّ ما لا طاقه لأحد به، وقد يعينه الله على يد أحد من الخلق يسخره له، ويذلّله له حتى يعينه، ولكن مع ذلك لا يجوز للعبد إذا أعانه الله على يد أحد أن ينسى المسبب وهو الله e ( ).
المبحث السابع(/16)
في قوله e: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) يبين الرسول e في هذا الكلمات أن الأمة لو اجتمعت واتفقت كلها على نفع إنسان بشيء لم يستطيعوا نفعه إلا بشيء قد كتبه الله وقدره له، وإن وقع منهم نفع له فإنما هو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه وقدره. فالرسول e لم يقل لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، وإنما قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)، فالناس ينفع بعضهم بعضاً، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل فيه لله U أولاً، فهو الذي سخر لك من ينفعك، ويحسن إليك، ويزيل كربتك. وكذلك لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ((والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقاً بربه، ومتكلاً عليه، لا يهتم بأحد؛ لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وحينئذ يعلق رجاءه بالله، ويعتصم به، ولا يهمه الخلق، ولو اجتمعوا عليه، ولهذا نجد الناس في سلف هذه الأمة لما اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه لم يضرّهم كيد الكائدين، ولا حسد الحاسدين: ]وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط [ ( )…)) ( ). فالإيمان بالقضاء والقدر، والاعتماد على الله وحده، في كل الشؤون، سكينة واطمئنان للعبد، إذ لا يبالي بما يدبره الخلق أو يهددونه به، لأنه يعلم أن الخير والشر بتقدير الله تعالى، والنفع والضر بإرادته وحكمته سبحانه، فلا يستطيع أحد من الخلق أن يحقق للعبد أذى أو ابتلاء إلا بإذن الله تعالى لحكم يريدها سبحانه، بل الله يدافع عنه وينصره ويؤيده، وكذلك لا يستطيع أحد من الخلق تحقيق منفعة للعبد لم يأذن بها الله تعالى. كما أن الإيمان بالقضاء والقدر، وبما جاء في هذا الجزء من الحديث، من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد، فلن يستطيع الأعداء أن يضروا أحداً بشيء مهما خططوا وتآمروا إلا بشيء قد كتبه الله وقدره لحكم أرادها. والشجاعة ليست هي قوة البدن، فقد يكون الرجل قوي البدن، ضعيف القلب، وإنما الشجاعة قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن، وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم ( ). فهذا الحديث العظيم يوجب الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، والإيمان به يتضمن الإيمان بمراتبه الأربع، وهي: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وأقوالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم، وإسرارهم وعلانياتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، قال تعالى: ] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة [ ( )، وقال سبحانه: ] عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ[ ( )، وقال: ]وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[ ( )، وقال e: (إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)( )، ولما سئل e عن أولاد المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)( )، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث: ((أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة t عن النبي e قال: (إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، و يبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم)) ( ). المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن، وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح والقلم. قال تعالى: ] وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين[ ( )، وقال سبحانه: ]إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب[( )، وقال: ] وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [ ( )، وقال e : (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتب شقية أو سعيدة)( ). المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون، ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا(/17)
محالة، وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه، لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك: ] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [ ( ). ومن أدلة هذه المرتبة قوله :I ] وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّه[ ( )، وقوله تعالى : ] مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ ( )، وقوله تعالى : ] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ ( )، وقوله e : (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)، ثم قال e : (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)( ). المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه ما من ذرة في السموات ولا في الأرض ولا فيما بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها، I لا خالق غيره ولا رب سواه، قال تعالى: ] اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[ ( )، وقال سبحانه: ] هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْض[ ( )، وقال تعالى : ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ [ ( )، وقال تعالى: ] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[ ( )، وعن حذيفة t مرفوعاً: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)( ). والإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع، فمن نفى القدر زاعماً منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته، وجعل العبد مستقلاً بأفعاله خالقاً لها، فأثبت مع الله تعالى خالقاً، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون، ومن أثبت القدر محتجاً به على الشرع، نافياً عن العبد قدرته واختياره فقد نسب الله تعالى إلى الظلم. وليعلم أن الله I الذي أمرنا بالإيمان بالقضاء والقدر، أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب، فقال تعالى: ] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ [ ( )، وقال الرسول e: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)( )، وفي هذا رد على المتخاذلين، المستسلمين لأهوائهم وشهواتهم، محتجين بتقدير الله تعالى ذلك عليهم، فعلى المسلم أن يحرص على حسن الاتباع لما جاء به الرسول e، مع إخلاص العمل لله تعالى، وسلامة العقيدة، والاجتهاد بالأخذ بالأسباب، والسعي وبذل الجهد، فمن ترك الأسباب محتجاً بالقدر فقد عصى الله تعالى وخالف شرعه. والمؤمنون حقاً يؤمنون بالقدر خيره وشره وأن الله خالق أفعال العباد، وينقادون للشرع أمره ونهيه، ويحكمونه في أنفسهم سراً وجهراً، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله ( (. قال أبو بكر محمد بن الحسبن الآجُرِّي (ت 360هـ): ((قد جرى القلم بأمره U في اللوح المحفوظ بما يكون، من بِرّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء ]ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ ( )، وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء))( ).(/18)
وقوله e في الرواية الثانية: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هو توجيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فقوله: (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم يصل إليك، (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك)؛ لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك، (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك)، وإنما هو مقدر عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير وشر، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك، قال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [ ( )، وقال تعالى: ]قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا[( ). وقال سبحانه: ] قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [ ( ). وثبت في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: (لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال: ففيم العمل ؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)( ). فلابد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً. قال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ ( ). يعني أن من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قال، في قوله تعالى: ] وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[ : يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ( ). يقول ابن دقيق العيد: ((هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجب، خيره وشره، و إذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به)) ( ). ومما يجب أن يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح وحسن الاتباع، ولهذا لما أخبر النبي eأصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، قال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال e(اعملوا فكل ميسر)( )، ثم قرأ: ] فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[ ( ). ((فالله I قدر المقادير وهيأ لها أسباباً، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلاً من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهاداً في فعلها والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن)) ( ). وقد قال النبي e: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)( )، وروى عنه e أنه لما قيل له: أرأيت دواءً نتداوى به ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: (هي من قدر الله)( )، يعني إن الله I قدر الخير والشر، وأسباب كل منهما ( ). والأسباب وإن عظمت إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئاً، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، وعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، ((وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير)) ( ).ولهذا جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله e : (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)( ). يقول ابن رحب: ((واعلم أن مدار جميع هذه الوصية من النبي e لابن عباس على هذا الأصل، وما بعده وما قبله متفرع عليه وراجع إليه، فإنه إذا علم العبد أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم جميعاً على خلاف المقدور غير مفيد شيئاً البتة، علم حينئذ أن الله تعالى وحده هو الضار النافع، والمعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه U، وإفراده بالاستعانة والسؤال والتضرع والابتهال، وإفراده أيضاً بالعبادة والطاعة، لأن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله I من يعبد ما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن(/19)
عابده شيئاً، وأيضاً فكثير ممن لا يحقق الإيمان وقلبه يقدّم طاعة مخلوق على طاعة الله رجاء نفعه أو دفعاً لضره، فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر، وبالعطاء والمنع، أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة، ويقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، كما يوجب ذلك أيضاً إفراده سبحانه بالاستعانة به والطلب منه)) ( ).ثم قال أيضاً شارحاً حديث ابن عباس : ((ثم عقب ذلك بذكر إفراد الله بالسؤال و إفراده بالاستعانة، وذلك يشمل حال الشدة وحال الرخاء، ثم ذكر بعد هذا كله الأصل الجامع الذي تنبني عليه هذه المطالب كلها،وهو تفرد الله I بالضر والنفع والعطاء والمنع، وإنه لا يصيب العبد في ذلك كله إلا ما سبق تقديره و قضاه له، و أن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدر في الكتاب السابق، و تحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق، وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة و العبادة أيضاً، وأن يقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً)) ( ). وفي قوله e: (وما أصابك لم يكن ليخطئك) أعظم وقاية ضد القلق النفسي، وسائر الهواجس والاضطرابات النفسية، التي يشتكي منها كثير من الناس، حتى سماها بعضهم بمرض العصر، فمن آمن بهذا الحديث اطمأن قلبه وانشرح صدره، وعلم أن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وأنه خير له، فيبتعد عن التضجر والزفرات والحسرات، جاء في الحديث الصحيح قوله e: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) ( ).
المبحث الثامن
في قوله e :(رفعت الأقلام وجفت الصحف) أي تركت الكتابة في الصحف، لفراغ الأمر وانبرامه منذ أمد بعيد، فقد تقدم كتابة المقادير كلها، فما كتبه الله فقد انتهى ورُفع، والصحف جفت من المداد، ولم يبق مراجعة. فما أخطئك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ( )، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به، ولهذا قال : (رفعت الأقلام وجفت الصحف): أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل ( ).
ويشهد لهذا قوله تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير[ ( )
وقوله e (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يارب، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ( ).
وقوله: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)( ).
وعن أبي الدرداء t عن النبي e أنه قال: (فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من أجله، ورزقه، وأثره، ومضجعه، وشقي أو سعيد) ( ).
وعن جابر tأن رجلاً قال: يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال: (لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) قال: ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر) ( ).
وعن ابن مسعود t عن النبي e قال: (خلق الله كل نفس، وكتب حياتها، ورزقها، ومصائبها)( ).
وفي قوله: (رفعت الأقلام) جاءت (الأقلام) في هذا الحديث وفي غيره، مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً، وقد ذكر العلماء أقساماً للأقلام، وهي ( ):
القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو القلم الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وهذا أول الأقلام وأفضلها وأجلها، كما دل على ذلك قوله e : (أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: يارب، وما أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
القلم الثاني: قلم الوحي: وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وقد رفع النبي e ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ( )، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوجبه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسُّفلي.
القلم الثالث: حين خلق آدم u، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم.
القلم الرابع: حين يُرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما قال e: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)( ) الحديث.(/20)
القلم الخامس: الموضوع على العبد، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما قال تعالى: ] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [ ( ).
وقوله e: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم)( ).
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟
- ... فقيل بأن العرش قبل القلم لقوله e : (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم.
- ... وقيل بأن القلم أول المخلوقات بدليل قوله e: (أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
ولعل القول الأول أصح للحديث الصريح الصحيح السابق الذي يدل على أن العرش مخلوق قبل تقدير الله مقادير الخلق، أما قوله e : (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب) فإن معناه: عند أول خلقه قال له اكتب، ويدل عليه لفظ: (أول ما خلق الله القلم قال له اكتب)، بنصب (أولَ) و (القلمَ)، وحملت رواية الرفع (أولُ) و(القلمُ) على أن القلم أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث القول الأول يدل على أن العرش سابق على التقدير، وحديث القول الثاني يدل على أن التقدير مقارن لخلق القلم ( ).
وقد رجح القول الأول ابن تيمية، وذكر أنه مذهب ((كثير في السلف والخلف)) ( ).
هذا وقد رجح بعض أهل العلم أن القلم أول مخلوق، واستدل برواية: (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون) ( )، قال الألباني: ((وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق، ولا نص في ذلك عن رسول الله e …، فالأخذ بهذا الحديث – وفي معناه أحاديث أخرى – أولى؛ لأنه نص في المسألة، ولا اجتهاد في مورد النص، كما هو معلوم، وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل؛ لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها، ومنها القلم، أما ومثل هذا النص مفقود، فلا يجوز هذا التأويل)) ( ).
والإيمان باللوح والقلم هو من الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا يذكرهما هل العلم ضمن الإيمان بالمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر، وهي مرتبة الإيمان بكتابة المقادير، ويدخل في هذه المرتبة خمسة من التقادير هي:
الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم، قال تعالى: ] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [، وقال الرسول e : (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)( )، وقال e : (أول ما خلق الله القلم، فقال له: أكتب، فقال: يا رب وماذا أكتب ؟ فقال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ( ).
الثاني: التقدير العمري، حين أخذ الميثاق، قال تعالى: ] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين[ ( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي e قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم u بنعمان - يعني عرفه - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنشرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال U : ] أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا [ إلى قوله تعالى : ] المبطلون [ ( ).
الثالث: التقدير العمري أيضاً، عند تخليق النطفة في الرحم، قال تعالى: ] هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ ( ) وقوله e : (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد …) ( ) الحديث.
الرابع : التقدير الحولي، في ليلة القدر، قال تعالى: ]فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا) [ ).
الخامس: التقدير اليومي، قال تعالى: ]كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [ ) (.(/21)
((وكل هذه التقادير كالتفصيل في القدر السابق، وهو الأزلي الذي أمر الله تعالى القلم عند خلقه أن يكتبه في اللوح المحفوظ، وبذلك فسر ابن عمر وابن عباس y قوله تعالى : ]إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [( )، وكل ذلك صادر عن علم الله الذي هو صفته تبارك وتعالى)) ( ).
المبحث التاسع
في قوله e :(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرف بذلك إلى الله، فعرفه ربه في الشدة، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة.
يذكر ابن رجب أن معرفة العبد لربه نوعان: ((أحدهما – المعرفة العامة، وهي معرفة الإقرار به والإيمان، وهذه عامة للمؤمنين.
والثاني - معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه)).
كما يذكر ابن رجب أن معرفة الله لعبده نوعان، أيضاً، هما: الأول: معرفة عامة، وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه عليهم، قال تعالى: ] هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم [ وقال تعالى: ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ[.
والثاني: معرفة خاصة، وهي تقتضي المحبة وإجابة الدعاء ونحو ذلك( ).
ويقول ابن علان (ت 1057 هـ): ((…، (تعرّف) بتشديد الراء: أي تحب (إلى الله في الرخاء) بالدأب في الطاعات، والإنفاق في وجوه القرب والمثوبات، حتى تكون متصفاً عنده بذلك، معروفاً به، (يعرفك في الشدة) بتفريجها عنك، وجعله لك من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، بواسطة ما سلف منك من ذلك التصرف)) ( ).
والمراد بقوله e (يعرفك في الشدة): أي المعرفة الخاصة التي تقتضي النصر والتأييد والقرب، قال e فيما يرويه عن ربه U: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)( ).
فمتى تعرّف العبد إلى الله في الرخاء المعرفة التامة الخاصة، وذلك بحرصه على إكمال إخلاص عبادته، وخضوعه لله تعالى، واتباعه لرسوله e، عرفه الله في كل وقت، وبخاصة في وقت الشدائد والكرب، فينصره الله ويؤيده، ويسدده في سمعه وبصره، ويده ورجله، ويعطيه سؤاله، ويعيذه ويحفظه.
يقول e : (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء) ( ).
ويونس u إنما نجاه الله بسبب ذكره الله في الرخاء، قال تعالى: ] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ ( ).
يقول الطبري: ((يقول تعالى ذكره: (فلولا أنه) يعني يونس كان من المصلين لله، قبل البلاء، الذي ابتلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون...، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء؛فأنقذه ونجاه)) ( )، وأشار إلى هذا القول ابن كثير بقوله : ((قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء)) تم نسبه إلى بعض أهل العلم.( ) واستدل عليه بحديث ابن عباس( )، وقيل معناه لولا أنه سبح الله في بطن الحوت، وقال ما قال من التهليل والتسبيح، والتوبة إلى الله( ).
وفرعون كان طاغياً باغياً، فلما أدركه الغرق ]قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين [ ( ) فقال الله تعالى له: ] آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ ( )، أي أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه، وكنت من المفسدين في الأرض الذين أضلوا الناس، فهو سبحانه يبين أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له( ).
ومن اتقى الله في جميتع أحواله جعل الله له مخرجاً من المضائق والمحن، يقول الله تعالى : ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب[ ( ) أي من يتق الله يجعل له مخرجاً ونجاه من كل كرب في الدنيا والآخرة، ومن كل شيء ضاق على الناس، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله، ولهذا يروى عن ابن مسعود tأنه قال عن هذه الآية بأنها أكبر آية في القرآن فرجاً ( )، ((فكل من اتقى الله ولازم مرضاته في جميع أحواله، فإن الله يثبته في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل شدة ومشقة، …، ويسوق الله الرزق للمتقي من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به)) ( ).(/22)
وإذا كان من يتقي الله يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإن من لم يتق الله يقع في الآصار والأغلال والشدائد التي لا يقدر على التخلص منها، والخروج من تبعاتها ( )، قال تعالى : ] إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ[( ).
وقال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ[( ).
وقوله سبحانه: ] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ ( ).
فمن عرف الله واستقام على شرعه تنزلت عليه الملائكة بأن لا يخاف ولا يحزن، ويبشرونه بالجنة، وذلك عند موته وفي قبره وحين يبعث، وقيل بأن هذا التنزّل عند الاحتضار، والصحيح بأنه في الأحوال الثلاثة المذكورة آنفاً؛ ولهذا قال ابن كثير بعد ذكره أن البشارة من الملائكة للعبد تكون عند الموت، وفي القبر، وحين البعث: ((وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع))( ).
وإذا علم من قوله e : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) أن التعرف إلى الله في الرخاء يؤدي إلى معرفة الله لعبده في الشدة، وعلم بأن شدة الموت من أعظم الشدائد التي يلقاها العبد المؤمن، فالواجب المبادرة بالاستقامة والاستعداد للموت بالأعمال الصالحة وإخلاصها لله وحده لا شريك له، فهي السبيل إلى تنزل الملائكة على العبد المؤمن عند الاحتضار بألا يخاف ولا يحزن والبشارة له بالجنة؛ كل ذلك في وقت الشدائد والكرب عند الموت، وفي القبر، وحين البعث، فلا بد من الاستعداد لتلك الأهوال العظيمة؛ فإن المرء لا يدري متى يفاجئه الموت، ويقبل على تلك الشدائد.
يقول الطبري في تفسير الآيات السابقة في سورة فصلت: ((يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا ربنا الله وحده لا شريك له، وبرئوا من الآلهة والأنداد، ثم استقاموا على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى …، تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم …، قائلة: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم …، وقيل إن ذلك في الآخرة، وقوله : ] وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [ يقول: وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله واستقامتكم على طاعته)) ( )
ويقول في تفسير آية الأحقاف : ((يقول تعالى ذكره: إن الذين قالوا ربنا الله الذي لا إله غيره ثم استقاموا على تصديقهم بذلك فلم يخلطوه بشرك، ولم يخالفوا الله في أمره ونهيه، فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم بعد مماتهم، وقوله تعالى: ] أولئك أصحاب الجنة [ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا أهل الجنة وسكانها ] خالدين فيها[ يقول: ماكثين فيها أبداً، ] جزاء بما كانوا يعملون [ يقول: ثواباً منا لهم، آتيناهم ذلك على أعمالهم الصالحة، التي كانوا في الدنيا يعملونها)) ( ).
فلا بد من الاستقامة على شرع الله، والحرص على سلامة التوحيد مما قد يشوبه، في حال الصحة والرخاء، وفي جميع الأحوال، والاستعداد للقاء الله، فمن عرف الله في هذه الأحوال عرفه الله عند الشدائد فكان معه بتأييده وتوفيقه، يعينه ويتولاه، ويثبته على التوحيد، في الحياة وعند الممات، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد للقائه نسيه الله، قال تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ ( ).(/23)
ويجب التعرف إلى الله في رخاء العيش، وتكاثر الأموال، وذلك بأن تكون مصادرها حلالاً، بعيدة عن الربا، ونحوه، وأن تؤتى زكاتها، وينفق على أوجه الخير منها، ويحذر من الطغيان والإنفاق على المحرمات والمنهيات، فمن تعرف إلى الله في أمواله، وتصرف فيها وفق الشرع الحكيم عرفه الله في الشدة، و ذلك بأن يسهل له أبواب الرزق، ويسدده لاستعماله على الوجه المطلوب شرعاً، ويلهمه شكره وحمد الله تعالى عليه، قال تعالى: ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب[ ( )، وقال سبحانه: ]وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا[( )، وقال عن أهل الكتاب: ] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم[ ( )، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تبديل، ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً e ؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه، والأمر باتباعه، حتماً لا محالة، ومن ثم (لأكلوا …) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء، والنابت لهم من الأرض( ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله e فقال: (يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).
ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم.
ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولو لا البهائم لم يمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلّط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم) ( )
وفي رواية: (ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله U عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة، إلا حبس الله عنهم القطر) ( ).
فمن عمل لله بالطاعة في جميع أوقاته، ولا سيما في الرخاء، عرفه الله في الشّدة ووجده تجاهه ينصره ويؤيده ويفرج عنه، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى غار فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها، فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة سبقت له مع ربه في الرخاء، فانحدرت عنهم الصخرة، فخرجوا يمشون ( ).
المبحث العاشر
في قوله e :(واعلم أن النصر مع الصبر)
يجب على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن النصر مع الصبر، فإذا صبر وفعل ما أمره الله به من وسائل النصر؛ فإن الله تعالى ينصره؛ لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيستحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد، فإذا أصابه الأذى استحسر، وتوقف، وقد يستمر، فيصيبه الألم من عدوه، فيكون عرضة لليأس والخذلان، فهذه الأمور كلها يجب الصبر عليها، والحذر من اليأس وأسبابه، وليعلم المسلم أن الصبر من أعظم أسباب النصر ( )، قال تعالى: ]وَلاَتَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [( ).
في هاتين الآيتين يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد، وقتل منهم سبعون، مسلياً لهم قائلاً: ] ولا تهنوا [ أي لا تضعفوا بسبب ما جرى ]ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ أي العاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون، ] إن يمسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، ثم قال تعالى: ] وتلك الأيام نداولها بين الناس [ أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة؛ ولهذا قال تعالى: ] وليعلم الله الذين آمنوا [ أي لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء، ]ويتخذ منكم شهداء[ يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته، ثم قال تعالى: ]وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(( )، أي يكفر عنهم ذنوبهم، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، أما الكافرون فإنهم إذا ظفروا وبغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم. ( )(/24)
ومن كلام السعدي في تفسير هذه الآيات قوله : ((يقول تعالى مشجعاً لعباده المؤمنين، ومقوياً لعزائمهم، ومنهضاً لهممهم، ]ولا تهنوا ولا تحزنوا[ أي: ولا تهنوا أو تضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى؛ فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وأعون لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبكم، وصبروها، وادفعوا عنها الحزن، وتصلبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المبتغي ما وعد الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك …)) ( )
وقال تعالى: ]وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[ ( )
أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدّوا فيهم، وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فكما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، وأنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله e، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه، وفي إقامة كلمة الله وإعلانها، وهو I أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه، وينفذه ويمضيه في أحكامه الكونية والشرعية، فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط؛ فإن الله سبحانه ينصره ( ).
فهذه النصائح والتوجيهات توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط، والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزّه الدنيوي، إن ناله، ليس كمن يقاتل ويصبر لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته ( ).
وفي قوله e : (واعلم أن النصر مع الصبر) تنبيه على أن الناس في هذه الدار معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب، لا سيما الصالحون منهم، فينبغي للمسلم أن يصبر ويحتسب، ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد الله تعالى له بأن عليه صلوات من ربه ورحمة وبأنه المهتدى، قال تعالى: ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون[( )، فالنصر من الله تعالى للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنما يوجد (مع الصبر) على طاعته، وعن معصيته، فهو سبب للنصر، ولهذا فإن الغالب على من انتصر لنفسه عدم النصر والظفر، وعلى من صبر ورضي بقضاء الله تعالى وحكمه تعجيلهما له كما هو المعهود من مزيد كرمه وإحسانه ( ).
ولهذا يقول الله تعالى: ] وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين [ ( )؛ لأنه سبب لنصرهم على أعدائهم وأنفسهم وإعلاء لدرجاتهم، وقال تعالى: ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين [ ( ).
يقول السعدي في تفسير قوله تعالى : ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع….[ الآيات: ((أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، هذه فائدة المحن …، فهذه الأمور لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها؛ فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب؛ فلهذا قال تعالى: ]وبشر الصابرين …[ أي: بشّرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة…، فكون العبد لله، وراجعاً إليه، من أقوى أسباب النصر…..(/25)
ودلّت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة والضلال والخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين …، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها؛ لتخف وتسهل إذا وقعت، وبيان ما تقابل به إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابرين من الأجر، ويعلم حال غير الصابر بضد حال الصابر…)) ( ).
ويقول e : (عجباً لأمر المؤمن. إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)( ).
وقال e : (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)( )، يدل هذا الحديث على أن صاحب البلاء يكون محبوباً عند الله تعالى إذا صبر على البلاء ورضي بقضاء الله U.
ومن الأدلة التي تؤكد أن النصر مع الصبر كثرة الآيات والأحاديث التي تأمر بالصبر عند لقاء العدو، منها: قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُون[ ( )، وقوله: ] فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ ( )، وقوله تعالى في قصة طالوت : ]فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين [ ( )، وقوله : ]بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [( )، وقوله: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون[ ( ).
وقوله e : (لا تمنّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا) ( ).
والمسلم في هذه الحياة معرض لفتن كثيرة، ومعارك متنوعة، وابتلاءات في الأموال والأنفس، وأذى من المشركين والمخالفين، وأعظم أسباب الانتصار على كل هذا العقيدة السليمة، والعمل الصالح، والصبر والاحتساب، قال تعالى: ] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور [ ( ).
وإذا عظمت المحنة كان الصبر للمؤمن الصالح ((سبباً لعلو الدرجة، وعظيم الأجر، كما سئل النبي e أي الناس أشد بلاء ؟ قال: (الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) ( )، وحينئذ يحتاج من الصبر إلى ما لا يحتاج إليه غيره، وذلك هو سبب الإمامة في الدين كما قال تعالى: ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[( )، فلابد من الصبر على فعل الحسن المأمور، وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى، وعلى ما يُقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر، ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، وهو اليقين،..؛ فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا بهما)) ( ). فالذي يستقيم على شرع الله ويحفظ حدوده، ويصبر على العبادة، وعلى ما يصيبه من الابتلاءات، ويرضى بقضاء الله وقدره، يتولاه الله، ويوصل إليه مصالحه، وييسر له منافعه الدينية والدنيوية، وينصره على عدوه، ويدفع عنه كيد الفجار وتكالب الأشرار، قال تعالى: ]فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[ ( )، ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عزّ له، ولا قائمة تقوم له ( ).(/26)
فالصبر أمر واجب لا بد منه ؛ فإن الله تعالى أمر بالصبر ووعد عليه الأجر العظيم، قال تعالى : ] إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب[ ( )، وقال سبحانه: ] وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ[ ( )، وقال: ] وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ ( )، وقال: ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ ( ).
ويقول الرسول e : (من يتصبّر يصبّره الله، وما أعطى أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر) ( ).
ولهذا قال عمر بن الخطاب: ((وجدنا خير عيشنا الصبر ))( ).
كما يجب أن يكون الصبر عند الصدمة الأولى للمصيبة أو الحادثة، قال e : (إنما الصبر عند الصدقة الأولى) ( ).
قال ابن حجر: ((والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل، الذي يترتب عليه الأجر)) ( )، ثم نقل قول الخطابي (ت388هـ): ((المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو)) ( ).
فالصبر واجب في كل الأحوال، فيجب الصبر على العبادة وإقامة شرع الله تعالى، ويجب الصبر وحبس النفس عن المحرمات والمنهيات، ويجب الصبر عند وقوع المصائب والابتلاءات، وفي ميادين القتال ومنازلة الكفار.
أما بالنسبة إلى الرضا بالقضاء، فيختلف حكمه باختلاف الأمور السابقة؛ فإن الرضا بالواجبات الشرعية واجب من حيث إنه قدر الله وقضاؤه، ومن حيث المقضي إذ الرضا بالواجبات الشرعية والعمل بهما واجب، أما بالنسبة للمعاصي والمحرمات فمن حيث القضاء الذي هو فعل الله فيجب الرضا و أن الله تعالى حكيم ولولا حكمته اقتضت وجودها ما وقعت، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله والوقوع في المحرمات فيجب عدم الرضا بها والسعي لإزالتها، أما المصائب والابتلاءات فيجب الرضا بها من حيث إنها قضاء الله وفعله، أما الرضا من حيث وقوعها على العبد فإنه مستحب عند جمهور أهل العلم ( ).
وأما الفرق بين الصبر والرضا؛ فإن الصبر كف النفس و حبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم، لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم ( ).
يقول ابن القيم: ((وأما حديث (الرضا بالقضاء) فيقال: أولاً: بأي كتاب: أم بأي سنة، أم بأي معقول علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره ؟ بل بجواز ذلك، فضلاً عن وجوبه ؟ هذا كتاب الله وسنة رسوله e، وأدلة العقول ليس في شيء منها الأمر بذلك، ولا إباحته، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخطه ويمقته، فلا نرضى بكل قضاء..، ويقال: ثانياً: هاهنا أمران (قضاء) وهو فعل قائم بذات الرب تعالى ؛ و (مقضي) وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء خير كله، وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان، منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به …، ويقال: ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به كله، الوجه الثاني: تعلقه بالعبد، ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به، وإلى ما لا يرضى به)) ( )
وفي موضع آخر ذكر ابن القيم أن الناس تنازعوا في الرضا بالقضاء ((هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله رباً، وذلك واجب …، ومنهم من قال هو مستحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلاً شرعياً، ولا دليل يدل على الوجوب، وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان، التي هي من أعلى المندوبات)) ( )، ولعل مراده هنا الرضا بالمصائب من حيث وقوعها على العبد، بدليل قوله بعد ذلك : ((الحكم والقضاء نوعان: ديني وكوني، فالديني يجب الرضا به، وهو من لوازم الإسلام، والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم، التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها: الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب، وفي وجوبه قولان، هذا كله في الرضاء بالقضاء الذي هو المقضي، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله، كعلمه وكتابته وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله رباً وإلهاً ومالكاً ومدبراً)) ( )
المبحث الحادي عشر
في قوله e : (واعلم أن الفرج مع الكرب)
كلما اشتدت الأمور واكتربت وضاقت؛ فإن الفرج بإذن الله تعالى قريب؛ يدل على ذلك قوله تعالى: ] أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ[( ). ((فكلما اشتدت الأمور فانتظر الفرج من الله I))( ).(/27)
يقول السعدي في تفسير هذه الآية: ((أي: هل يجيب المضطرب، الذي أقلقته الكروب، وتعسر عليه المطلوب، واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده ؟، ومن يكشف السوء، أي : البلاء، والشر، و النقمة إلا الله وحده؟، ومن يجعلكم خلفاء الأرض، يمكنكم منها، ويمد لكم بالرزق، ويوصل إليكم نعمه، وتكونون خلفاء من قبلكم، كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم، أإله مع الله، يفعل هذه الأفعال؟
لاأحد يفعل مع الله شيئاً من ذلك، حتى بإقراركم أيها المشركون ؛ ولهذا كانوا إذا مسهم الضر، دعوا الله مخلصين له الدين، لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه و إزالته، ] قليلاَ ما تذكرون [ أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادكرتم، ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم، فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم)( ).
والكرب إذا اشتد و أيس العبد من جميع المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم ما تطلب به الحوائج، ومن توكل على ربه كفاه ( )، ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه[ ( ).
فالفرج يحصل سريعاً مع الكرب، فلا دوام للكرب، وحينئذ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابراً محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه، في جميع أموره، فالله I أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه؛ إذ هو I أرحم الراحمين.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [ ( )، وقوله تعالى: ] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [ ( )، فهؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قانطين من نزوله إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم جاءهم على كرب وشدة وفاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فكان فرجاً وتيسيراً.
وقد قصّ الله تعالى في كتابه قصصاً كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، كقصة نجاة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن معه، في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض، وقصة نجاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار التي ألقاه المشركون فيها، وأنه سبحانه جعلها عليه برداً وسلاماً، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ولده الذي أمر بذبحه، ثم فداه الله بذبح عظيم، وقصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجى الله موسى في البحر وأغرق عدوه، وقصص أيوب ويونس ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وقصص محمد e في نصره على أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن، مثل قصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وكذا قصة عائشة في حديث الإفك، والبراءة منه، وقصة الثلاثة الذين خلفوا، وغير ذلك من قصص القرآن الكريم وأخباره ( ).
وفي السنّة أخبار كثيرة من تفريج الكرب عند اشتدادها، كقصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم( )، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسارة مع الجبار الذي طلبها من إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرد الله كيد الظالم ( )، وعندما اشتكى رجل إلى النبي e، وهو قائم يخطب يوم الجمعة، احتباس المطر وجهد الناس، فرفع رسول الله e يديه فاستسقى لهم، فنشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى، حتى قاموا إليه e وطلبوا منه أن يستصحي لهم، ففعل فأقلعت السماء( )، إلى غير ذلك من القصص و الأخبار الثابتة.
والعبد معرض للمصائب والفتن، فقد تشتد عليه الأمور، وتضيق عليه الدنيا، ويتمكن منه الهم والحزن؛ فإذا صبر واحتسب، ولم ييأس من نصر الله وفرجه، والتجأ إلى مولاه بالدعاء والتضرع، في جميع أحواله، جاءه النصر والتأييد والفرج.
يروى عن الشافعي (ت 204هـ) قوله :
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا
من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى
ومن رجاه يكون حيث رجا ( )
المبحث الثاني عشر
في قوله e :(وإن مع العسر يسراً)
أي أن كل عسر بعده يسر، بل إن العسر محفوف بيسرين، يُسر سابق ويسر لاحق، قال تعالى: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[( )
يقول السعدي : ((وقوله: ] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[: بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة؛ فإن اليسر يقاربه ويصاحبه … وتعريف (العسر) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر) يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين.
وفي تعريفه بالألف واللام، الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عسر، وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره اليسر ملازم له)) ( ).(/28)
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : ]سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[( )، ففي هذه الآية بشارة للمعسرين بأن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة، ويرفع عنهم المشقة ( ).
والكرب والعسر والشدة أمور تصقل العبد وتصفيه من الشوائب؛ إذ تزيد من تعلقه بربه والالتجاء إليه بإخلاص وحسن اتباع، فتطهره من ذنوبه إذا صبر واحتسب، وأخلص وتابع، والعسر لا يدوم بالعبد بل معه اليسر والفرج.
وقد استدل ابن كثير ( ) على هذه المسألة، بحديث عن رسول الله e، جاء في إحدى رواياته، عن أبي هريرة t قال: أصاب رجلاً حاجةٌ، فخرج إلى البرية، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجن، وما نختبز، فجاء الرجل والجفنة ملأى عجيناً، وفي التنور حبوب الشواء، والرحى تطحن، فقال: من أين هذا ؟ قالت: من رزق الله، فكنس ما حول الرحى، فقال رسول الله e : (لو تركها لدارت أو طحنت إلى يوم القيامة) ( ).
و يدل على أن العسر إذا اشتد بالعبد؛ فإن بعده اليسر بإذن الله تعالى، قوله سبحانه: ]حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا[ ( ). وقوله:] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب[ ( )، فهنا يذكر الله تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله، في أحرج الأوقات، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ( ).
يقول السعدي عند تفسير الآية السابقة من سورة البقرة: ((يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة، كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه؛ فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقعة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها، ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان؛ فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه، فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ] مستهم البأساء والضراء [ أي الفقر والأمراض في أبدانهم، ] وزلزلوا [ بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه ] يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: ] ألا إن نصر الله قريب [ فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت – إذا صابر وثابر على ما هو عليه – انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشاق راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء، وشفاء ما في قلبه من الداء)) ( ).
وأخبر I عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف عليه الصلاة والسلام وأخيه، وقال: ] عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا[ ( )، وقال لبنيه: ] يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون[( ).
فمن فوائد هذه القصة ((أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً؛ فإنه لما طال الحزن على يعقوب، واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب، ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، وحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطراراً، فتم بذلك الأجر، وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء والعسر واليسر، ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد بذلك إيمانهم ويقينهم وعرفانهم)) ( ).
وقد ذكر بعض أهل العلم أموراً عدّوها من حكم اقتران الفرج باشتداد الكرب، واقتران اليسر بالعسر، فمن ذلك :
1-أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، ووقع التعلق بالله وحده، I، فحينئذ يستجيب الله له ويكشف عنه ما به، فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، والاعتماد على الله وحده لا شريك له، والتوكل على الله من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[.(/29)
2-أن العبد إذا وقع في عسر، واشتد عليه الكرب؛ فإنه يحتاج إلى مجاهدة نفسه، والشيطان، لأن الشيطان قد يأتيه فيقنطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب ذلك دفع البلاء عنه، وتيسير أمره، وتفريج كربته، ولهذا جاء في الحديث: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدَعُ الدعاء) ( ).
3-أن العبد إذا استبطأ الفرج، ولا سيما بعد الدعاء والتضرع، رجع باللائمة إلى نفسه، وبحث عن تقصيره، فأصلح خطأه، وعالج نقصه ( ).
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين.
وبعد.
فإنه من خلال دراسة هذا الحديث العظيم، وهذه الوصية الكريمة من رسول الله e، يتبين ما يلي :
1- ضرورة تربية الناس، وبخاصة النشء على التعلق بالله تعالى، وحفظ حقوقه.
2- أن أعظم حقوق الله تعالى توحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والحرص على سلامة العقيدة مما قد يشوبها من الشرك والبدع والضلالات، إذ إن سلامة العقيدة وإخلاص العمل لله تعالى مع حسن المتابعة لرسوله e هي شروط قبول العبادة؛ التي إن تأخر أحدها حبط العمل.
3- أن من حفظ حدود الله، بفعل المأمورات واجتناب المنهيات فإن الله يحفظه في دينه ودنياه.
4- أن تحقيق هذا الحديث والعمل به يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق وعن سؤالهم، واستعانتهم، ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله I بالطاعة والعبادة، وتقديم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعاً، والحذر مما يسخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً.
5- وجوب تربية الناس وتعليمهم الإيمان بالقضاء والقدر وأن ذلك لا يناقض العمل والاجتهاد في العبادة، بل يوجبه ويدعو إليه.
6- وجوب التعرف إلى الله والالتزام بشرعه في جميع الأوقات، وبخاصة في أوقات الرخاء، الذي هو مظنة الفتور والنسيان، وأن ذلك التعرف هو سبب نصر الله وتأييده في الشدة وعند الكرب والعسر.
7- فهم هذا الحديث والعمل به من أعظم أسباب الشجاعة والإقدام والجهاد في سبيل الله، وذلك أن المسلم يعلم أن الضر و النفع بيد الله، وأن العبد لا يصيبه ضر ولا نفع إلا ما قدر عليه.
الحواشي والتعليقات
( ) ... جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد 1/ 408، و1/ 437. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/472 ح 1483.
( ) ... سورة النحل، الآية 36.
( ) ... رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب 59، ح 2516، والإمام أحمد 1/ 293، 303، وأخرجه الطبراني في الكبير ح 1298، وأبو نعيم في الحلية 1/ 314. وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير 2/ 1318 ح 7957.
( ) ... الروايتان في مسند الإمام أحمد 1/ 293، و1/ 303،307 وعند أبي يعلى 2/ 665، والحاكم في مستدركه 3/ 541، والطبراني في المعجم الكبير 3/ 121. وصححه الألباني: انظر كتاب السنة لابن أبي عاصم، تخريج الألباني 1/ 138،139، ورياض الصالحين بتحقيق الألباني ص 63، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 496، 497 ح 2382.
( ) ... متن الأربعين النووية ص 11- 12.
( ) ... رياض الصالحين ص 28.
( ) ... جامع العلوم والحكم ص 462.
( ) ... فتح المبين لشرح الأربعين ص 172.
( ) ... شرح رياض الصالحين ص 456.
( ) ... انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 10/ 53.
( ) ... انظر فتح المبين لشرح الأربعين ص 171.
( ) ... شرح الأربعين حديثاً النووية ص 55.
( ) ... انظر جامع العلوم والحكم ص 248، 249. وشرح رياض الصالحين 2/ 451.
( ) ... سورة النحل، الآية 128.
( ) ... انظر جامع العلوم والحكم ص251، وشرح رياض الصالحين 2/ 451، 452.
( ) ... شرح الأربعين حديثاً النووية ص 55.
( ) ... انظر جامع العلوم والحكم ص 256، 257.
( ) ... انظر شرح رياض الصالحين 2/ 425، 453.
( ) ... جامع العلوم والحكم ص 257.
( ) انظر جامع العلوم والحكم ص 258، وشرح رياض الصالحين 2/ 454.
( ) ... رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 441، وابن أبي عاصم في السنة ح 246. وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير ح 2150.
( ) ... انظر شرح رياض الصالحين 2/ 455.
( ) المصدر السابق 2/ 455.
( ) ... فتح المبين لشرح الأربعين ص 177.
( ) ... سورة الشرح، الآيتان 5،6.
( ) ... انظر قواعد وفوائد من الأربعين النووية ص 178.
( ) ... سورة التوبة، الآية 128.
( ) ... انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 385.
( ) ... رواه أحمد 5/ 153، و162، والبزار ح 147، والطيراني في المعجم الكبير ح 1647، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 416 ح 1803.
( ) سورة يوسف، الآية 64.
( ) سورة هود، الآية 57.
( ) ... انظر القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 10، 15، 21.
( ) ... سورة الشورى، الآية 6.
( ) ... سورة سبأ، الآية 21.
( ) ... عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين 2/ 37 – 41.
( ) ... سورة ق، الآيات 31- 33.(/30)
( ) ... انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 1364.
( ) ... سورة البقرة، الآية 238.
( ) ... سورة النور، الآية 30.
( ) ... سورة الأحزاب، الآية 35.
( ) ... سورة (المؤمنون)، الآية 5.
( ) ... سورة المائدة، الآية 89.
( ) ... رواه الحاكم في المستدرك 4/ 357، وصححه، ورواه الترمذي وحسنه ح 2409، وصححه ابن حبان ح 5703، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 23.
( ) ... رواه الترمذي 2/ 66، وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 22 ح 510.
( ) ... رواه أحمد في المسند 5/ 282، والدارمي 1/ 168، وصححه ابن حبان ح 1037، وصححه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب ح 192، 1/ 86.
( ) ... سورة الذاريات، الآية 56.
( ) ... سورة التوبة، الآية 112.
( ) ... سورة ق~، الآية 32.
( ) ... رواه أحمد في المسند 1/ 387، والترمذي ح 2458 في كتاب صفة القيامة باب (24)، والحاكم 4/ 323، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح 2000.
( ) ... انظر: نور الاقتباس ص 10.
( ) ... سورة الإسراء، الآية 36.
( ) ... انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 409.
( ) ... عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين 2/ 38.
( ) ... سورة محمد، الآية 7.
( ) ... سورة محمد، الآية 4.
( ) ... سورة فاطر، الآية 44.
( ) ... انظر شرح رياض الصالحين 2/ 450، 451.
( ) ... سورة البقرة، الآية 245.
( ) ... انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 410، وأسباب النزول ص 98، 99.
( ) ... سورة آل عمران، الآية 181.
( ) ... سورة محمد، الآية 17.
( ) ... سورة محمد، الآية 16.
( ) ... انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 731.
( ) ... رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ح 3334 في كتاب التفسير، وابن ماجه، كتاب الزهد ح 4244، وأحمد في مسنده 2/ 297.
( ) ... سورة البقرة، الآية 40.
( ) ... سورة البقرة، الآية 152.
( ) ... سورة محمد، الآية 7.
( ) ... رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى 11/ 107، ورواه مسلم، كتاب الذكر، باب ما يقول عند النوم ح 2714.
( ) ... رواه الحاكم في المستدرك 1/ 525، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح 1540.
( ) ... رواه أحمد 2/ 403، وابن ماجه ح 2825 في كتاب الجهاد، باب تشييع الغزاة ووداعهم، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح 16.
(71) ... رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب 45، ح 3439، وأحمد 2/7 و 25 و 38، وصححه ابن حبان، ح 2376، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح 14.
( ) رواه أحمد في المسند 2/87، وابن حبان 3376، وصححه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/21.
( ) ... سورة يوسف، الآية 24.
( ) ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 351، 352.
( ) ... سورة الأنفال، الآية 24.
( ) ... ذكره ابن كثير في تفسيره 2/ 285، وقال: رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً. وانظر المستدرك 2/ 328.
( ) ... سورة البقرة، الآية 257.
( ) ... سورة محمد، الآية 11.
( ) ... سورة الطلاق، الآية 3.
( ) ... سورة الزمر، الآية 36.
( ) ... سورة الرعد، الآية 11.
( ) ... انظر جامع البيان في تفسير القرآن 13/ 77.
( ) ... انظر المصدر السابق ص 78.
( ) ... رواه أبو داود، في الأدب ح 5074، وابن ماجه، في الدعاء ح 3871، والحاكم في مستدركه 1/ 517، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2/ 332.
( ) ... سورة النحل، الآية 97.
( ) ... تفسير القرآن العظيم 2/ 566.
( ) ... انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/ 352- 355.
( ) ... سورة الحج، الآية 40.
( ) ... سورة الحج، الآية 41.
( ) ... أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/ 703، 704.
( ) ... سورة النحل، الآيتان 112، 113.
( ) ... سورة العنكبوت، الآية 43.
( ) ... أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/377.
( ) ... انظر جامع العلوم والحكم، ص 466.
( ) ... انظر البداية والنهاية 12/85، وسير أعلام النبلاء 17/668 – 671، وجامع العلوم والحكم، ص 466.
( ) ... انظر جامع العلوم والحكم، ص 466.
( ) ... سورة الكهف، الآية 82.
( ) ... تفسير القرآن العظيم 3/ 97.
( ) ... انظر المصدر السابق، وذكر هذا الأثر ابن المبارك في الزهد (332)، والطبري في جامع البيان في تفسير القرآن 16/ 7، والحاكم 2/ 369
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 432.
( ) ... جامع العلوم والحكم، ص 467.
( ) ... المصدر السابق، الصفحة نفسها.
( ) الحلية 3/ 148، ورواه ابن المبارك في الزهد (330)، والحميدي (373)، وانظر جامع العلوم والحكم.
( ) الصيصية: هي الصنّارة التي يغزل بها وينسج. انظر لسان العرب 2/ 501، والنهاية في غريب الحديث والأثر ص533.
( ) رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 67، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 277 وقال: رجاله رجال الصحيح.(/31)
( ) رواه الطبراني في الكبير (6432)، وصححه الحاكم 3/ 606، وانظر الحلية 1/ 369.
( ) حلية الأولياء 8/ 109، وجامع العلوم والحكم ص 468.
( ) سورة الأنفال، الآية 64.
( ) انظر الرسالة التدمرية ص 153.
( ) سورة الأنفال، الآية 62.
( ) سورة البقرة، الآية 194.
( ) سورة البقرة، الآية 153.
( ) فتح المبين لشرح الأربعين ص 172.
( ) سورة النحل، الآية 128.
( ) سورة طه، الآية 46.
( ) سورة الشعراء، الآية 62.
( ) سورة التوبة، الآية 40، والحديث رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، ح3653، ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر t ح 2381.
( ) سورة الأنفال، الآية 19.
( ) سورة الحديد، الآية 4.
( ) سورة المجادلة، الآية 7.
( ) سورة البقرة، الآية 108.
( ) سورة البقرة، الآية 186.
( ) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع ح 6502.
( ) انظر القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 69.
( ) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى ح 2687، وروى البخاري نحوه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ] وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [ ح 7405.
( ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 5/ 466.
( ) انظر نور الاقتباس ص 22.
( ) رواه البخاري، كتاب الزكاة ح 1471.
( ) انظر شرح رياض الصالحين 2/ 452.
( ) سورة النساء، الآية 32.
( ) سورة غافر، الآية 60.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 687.
( ) سورة الأحقاف، الآية 5.
( ) سورة البقرة، الآية 273.
( ) رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة للناس ح (1043).
( ) سورة المائدة، الآية 116.
( ) سورة التوبة، الآية 31.
( ) سورة الشرح، الآيتان 7،8.
( ) يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم، كتاب الصلاة 1/ 288، 289.
( ) اللمعة في الأجوبة السبعة ص 22- 26، ومجموع الفتاوى 27/ 67 – 69.
( ) سورة يونس، الآية 107.
( ) سورة فاطر، الآية 2.
( ) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب رقم (3) ح 3370، وأحمد 2/ 442، وابن ماجه ح 3827، وقال الألباني عنه بأنه حديث حسن، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح 2654، وصحيح ابن ماجه 3085.
( ) سورة البقرة، الآية 186.
( ) رواه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، ح 1145.
( ) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ح 2577.
( ) سورة آل عمران، الآية 128
( ) سورة آل عمران، الآية 154.
( ) سورة آل عمران، الآية 154.
( ) سورة الزمر، الآية 38.
( ) سورة الأنعام، الآية 17.
( ) سورة فاطر، الآية 2.
( ) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص 273.
( ) سورة يونس، الآية 71.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 2/407.
( ) سورة هود، الآيات 54-56.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 2/231، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 340.
( ) جامع العلوم والحكم ص 481.
( ) نور الاقتباس ص31؛ وانظر الوافي في شرح الأربعين النووية ص 127.
( ) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثراً، ح (1474). ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، ح (1040).
( ) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة، ح 1044.
( ) انظر شرح السنة 6/125، 126.
( ) صحيح مسلم بشرح النووي 7/127.
( ) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 3/130.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 1/24.
( ) سورة هود، الآية 123.
( ) سورة الملك، الآية 29.
( ) سورة المزمل، الآية 9.
( ) سورة هود، الآية 88.
( ) تفسير الفاتحة، ص 52.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 22.
( ) سورة الفاتحة، الآية 5.
( ) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب ما جاء في الفاتحة.
( ) انظر : معالم التنزيل 1/41، وتفسير القرآن العظيم 1/24، 25.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 22.
( ) رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، ح2664.
( ) صحيح مسلم بشرح النووي 16/215.
( ) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح، ح 2118، والترمذي في النكاح، ح 1105، والنسائي، في الجمعة، باب كيف الخطبة، 3/105، وابن ماجة، في النكاح، باب خطبة النكاح، ح 1892، وانظر : صحيح ابن ماجة 1/319، ح 153.
( ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 18/287.
( ) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاستغفار، ح 1522، والنسائي، في السهو، باب نوع آخر من الدعاء 3/53، واحمد في المسند 5/245، وانظر: صحيح الكلام الطيب، ح 115، وصحيح الجامع الصغير 2/1320، ح 3063.(/32)
( ) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، ح 1510، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي e، ح 3546، وقال : هذا حديث حسن صحيح، وانظر : صحيح سنن الترمذي 3/461، ح 3551، وصحيح سنن ابن ماجة 2/324، ح 3830.
( ) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح 2795.
( ) دقائق التفسير 1/173، 174، وانظر منهاج السنة 4/244.
( ) دقائق التفسير، ص 212.
( ) كتاب الصلاة وحكم تاركها، ص 104.
( ) سورة يوسف، الآية 18.
( ) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً، ح 2661.
( ) سورة الأعراف، الآية 128.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 2/229.
( ) سورة الأنبياء، الآية 112.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 3/197.
( ) أخرجه ابن أبي شيبة 2/61/1 و 12/42/1، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 2/170 ح 428.
( ) أخرجه مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان بن عفان t ح 2403.
( ) رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، ح 6384.
( ) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/188، 500، 501.
( ) صحيح مسلم بشرح النووي 17/26.
( ) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 3/130، وشرح رياض الصالحين 2/452، 453.
( ) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 365.
( ) سورة يوسف، الآية 42.
( ) سورة الأعراف، الآية 188.
( ) سورة الحج، الآيات 11-13.
( ) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 484.
( ) سورة الحج، الآيتان 73-74.
( ) سورة الطلاق، الآية 3.
( ) شرح الأربعين حديثاً النووية ص 55.
( ) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، ح 3.
( ) انظر شرح رياض الصالحين 2/453.
( ) سورة آل عمران، الآية 120
( ) انظر شرح رياض الصالحين 2/454-455
( ) انظر الاستقامة 2/271.
( ) سورة الحشر، الآية 21.
( ) سورة سبأ، الآية 3.
( ) سورة الطلاق، الآية 12.
( ) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كل مولود يولد على الفطرة، ح 2662.
( ) أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين، ح 6597، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، ح 2659.
( ) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/246.
( ) سورة يس، الآية 12.
( ) سورة الحج، الآية 70.
( ) سورة فاطر، الآية 11.
( ) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة ] والليل إذا يغشى [، ح 4948، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي، ح 2648.
( ) سورة فاطر، الآية 44.
( ) سورة الإنسان، الآية 30 .
( ) سورة الأنعام، الآية 39.
( ) سورة يس، الآية 82.
( ) رواه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، ح 2654.
( ) سورة الزمر، الآية 62.
( ) سورة فاطر، الآية 3.
( ) سورة الروم، الآية 40.
( ) سورة الصافات، الآية 96.
( ) رواه البخاري في خلق أفعال العباد ص 73، وابن أبي عاصم في السنة 357، 358، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/181، ح 1637.
( ) سورة التوبة، الآية 105
( ) جزء من حديث سيأتي تخريجه.
( ) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 8/ 449، 459، وأعلام السنة المنشورة ص 139، 141.
( ) سورة الحديد، الآية 21.
( ) الشريعة، ص152.
( ) سورة الحديد، الآية 22.
( ) سورة التوبة، الآية 51.
( ) سورة آل عمران، الآية 154.
( ) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح 2648.
( ) سورة التغابن، الآية 11.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/375.
( ) شرح الأربعين حديثاً النووية ص 55.
( ) سبق تخريجه.
( ) سورة الليل، الآيات 5-7.
( ) أعلام السنة المنشورة ص 134.
( ) سيأتي تخريجه بعد قليل.
( ) رواه ابن ماجة، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، والترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الأدوية، ح 2065، وقال هذا حديث حسن صحيح.
( ) انظر أعلام السنة المنشورة ص 134-135.
( ) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 121، 781.
( ) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ح 2144، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/446، وسلسلة الأحاديث الصحيحة ح 2439.
( ) نور الاقتباس ص 46 ,
( ) المصدر السابق ص 47
( ) رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله، ح 2664.
( ) انظر شرح رياض الصالحين 2/ 455، وبهجة الناظرين شرح رياض الصالحين 1/136.
( ) انظر شرح الأربعين حديثاً النووية ص 55.
( ) سورة الحديد، الآية 22.
( ) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في القدر، ح 4700، والترمذي في كتاب القدر، ح 2155، وأحمد 5/317، وانظر صحيح سنن الترمذي 2/450 ح 2155.
( ) رواه مسلم في كتاب القدر، باب احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح 2653.(/33)
( ) أخرجه أحمد في المسند 5/197، وابن أبي عاصم في السنة ح 304، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/774 ح 4201.
( ) سبق تخريجه.
( ) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء لا عدوى ولا هامة ولا صفر، ورواه أحمد 1/440، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/446 ح 2143.
( ) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 345-348 بتصرف يسير.
( ) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ح 349، ومسلم كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله e، ح 263.
( ) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ح 3208، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح 2645.
( ) سورة الانفطار، الآيات 10-12.
( ) علقه البخاري في صحيحه، في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق، وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب: في المجنون يسرق، أو يصيب حداً، ح 4399، والترمذي في كتاب الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، ح 1423، وابن ماجة، كتاب الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير، ح 2042، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/117، ح 1423.
( ) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 345.
( ) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 2/275 و 16/139، ومنهاج السنة النبوية 1/361، 362.
( ) رواه ابن أبي عاصم في السنة، ح 108، والبيهقي في السنن الكبرى 9/3، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/257 ح 133.
( ) سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/258.
( ) سبق تخريجه.
( ) سبق تخريجه.
( ) سورة الأعراف، الآية 172.
( ) الحديث رواه الإمام أحمد 1/272، وابن أبي عاصم 202، وصححه الألباني في سلة الأحاديث الصحيحة ح 1623.
( ) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في القدر، ح 4700، والترمذي في كتاب القدر، ح 2155، واحمد 5/317، وانظر : صحيح سنن الترمذي 2/450، ح2155.
( ) ورواه مسلم في كتاب القدر، باب احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح2653.
( ) سورة الدخان، الآيتان 4، 5.
( ) سورة الرحمن، الآية 29.
( ) سورة الجاثية، الآية 29.
( ) أعلام السنة المنشورة ص 133.
( ) انظر جامع العلوم والحكم، ص 252.
( ) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، 1/232.
( ) سبق تخريجه.
( ) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب رقم (9)، ح 3379، والحاكم 1/544، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/140 ح 593.
( ) سورة الصافات، الآيات 139 – 147.
( ) جامع البيان في تفسير القرآن 23/64.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/22.
( ) انظر البداية والنهاية 1/219.
( ) انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها.
( ) سورة يونس، الآية 90.
( ) سورة يونس، الآية 91.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 2/421.
( ) سورة الطلاق، الآيتان 2، 3.
( ) انظر دقائق التفسير 5/8-10، وتفسير القرآن العظيم 4/380.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 806.
( ) انظر المصدر السابق، الصفحة نفسها.
( ) سورة آل عمران، الآية 159.
( ) سورة فصلت، الآيات 30-32.
( ) سورة الأحقاف، الآيتان 13-14.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/101.
( ) جامع البيان في تفسير القرآن 24/73، 74.
( ) المصدر السابق 26/11.
( ) سورة الحشر، الآيتان 18 و 19.
( ) سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.
( ) سورة الجن، الآية 16.
( ) سورة المائدة، الآية 66.
( ) انظر : تفسير القرآن العظيم 2/72.
( ) رواه ابن ماجة، كتاب الفتن، باب العقوبات، ح 4019، والحاكم 4/540، وصحح الألباني، انظر : صحيح ابن ماجة 2/370، ح 3246، وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1/216، 217، ح 106.
( ) رواه الحاكم 2/126، والبيهقي 3/346، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/219، ح 107.
( ) انظر : نص الحديث في صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيء بغير إذنه فرضي، ح 2215، وفي صحيح مسلم، كتاب الذكر، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، ح 2743.
( ) انظر : شرح رياض الصالحين 2/455.
( ) سورة آل عمران، الآيتان 139، 140.
( ) سورة آل عمران، الآية 141.
( ) انظر : تفسير القرآن العظيم 1/385، 386.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 117.
( ) سورة النساء، الآية 104.
( ) انظر : تفسير القرآن العظيم 1/521.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 163.
( ) سورة البقرة، الآيات 155 - 157.
( ) انظر : شرح الأربعين حديثاً النووية، ص 55، 56، وفتح المبين لشرح الأربعين، ص 177.
( ) سورة النحل، الآية 126.
( ) سورة البقرة، الآية 249.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 58، 59.
( ) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، ح 2999.
( ) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ح 2396، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، ح 4031، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/276، ح 146، وصحيح الجامع الصغير 1/351، ح 1706 .
( ) سورة الأنفال، الآية 45.(/34)
( ) سورة الأنفال، الآية 66.
( ) سورة البقرة، الآية 249.
( ) سورة آل عمران، الآية 125.
( ) سورة آل عمران، الآية 200.
( ) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، ح 3026.
( ) سورة آل عمران، الآية 186.
( ) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، ح 2398، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح"، ورواه ابن ماجة، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، ح 3249، وانظر صحيح سنن ابن ماجة 2/371، ح 4023.
( ) سورة السجدة، الآية 24.
( ) انظر : الاستقامة 2/260 - 263.
( ) سورة الأنفال، الآية 40.
( ) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 282.
( ) سورة الزمر، الآية 10.
( ) سورة الحج، الآيتان 34، 35.
( ) سورة البقرة، الآية 177.
( ) سورة محمد، الآية 31.
( ) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعطاف في المسألة، ح 1469، وفي الرقاق، باب الصبر عن محارم الله، ح6470.
( ) رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به في كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله، وقال ابن حجر: "وقد وصله أحمد في كتاب الزهد بسند صحيح عن مجاهد قال: قال عمر"، انظر فتح الباري 11/303، وكتاب الزهد ص 117.
( ) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، ح 1283.
( ) فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/149، 150.
( ) انظر المصدر السابق ص 150.
( ) انظر فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 1/ 61.
( ) انظر المصدر السابق، ونور الاقتباس ص55.
( ) مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) 1/256.
( ) انظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص 278.
( ) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
( ) سورة النمل،آية 62.
( ) انظر شرح رياض الصالحين 2/456.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 557.
( )انظر فتح المبين لشرح الأربعين ص 178،وبهجة الناظرين ص 136.
( ) سورة الطلاق،الآية 3.
( ) سورة الشورى، الآية 28.
( ) سورة الروم، الآيتان 48-49.
( ) انظر نور الاقتباس ص 65، وجامع العلوم والحكم ص 491.
( ) سبق تخريج حديث هذه القصة.
( ) انظر القصة بتمامها في صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، ح 2217.
( ) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب رفع اليدين في الخطبة، ح 932.
( ) انظر مناقب الشافعي 2/362.
( ) سورة الشرح، الآيتان 4-5.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 859، وانظر تفسير القرآن العظيم 4/527.
( ) سورة الطلاق، الآية 7.
( ) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 808.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 4/384.
( ) أخرجه الطبراني في الأوسط 2/41، والبيهقي في الدلائل 6/105، والبزار في مسنده 4/267، وأحمد في مسنده 2/513، 421 برواية أخرى، وانظر مجمع الزوائد 10/207، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/1051،1052، ح 2937.
( ) سورة يوسف، الآية 110.
( ) سورة البقرة، الآية 214.
( ) انظر تفسير القرآن العظيم 1/239، 2/478، ودقائق التفسير 3/301، 303.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص79.
( ) سورة يوسف، الآية 83.
( ) سورة يوسف، الآية 87.
( ) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 366.
( ) رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، ح 6340، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، ح 2735.
( ) انظر نور الاقتباس ص 76،77، وجامع العلوم والحكم ص 494،495.
المصادر والمراجع
1- ... إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1399هـ.
2- ... أسباب النزول، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، عالم الكتب، بيروت.
3- ... الاستقامة، أبو العباس أحمد بن تيمية، أشرف على طباعته جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الأولى 1404هـ.
4- ... أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، المطابع الأهلية، الرياض، 1403هـ.
5- ... أعلام السنة المنشورة، حافظ بن أحمد الحكمي، مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الثانية، 1408هـ.
6- ... الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة 1976م.
7- ... إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية، محمد تاتاي، دار الوفاء المنصورة بمصر، الطبعة الأولى 1418هـ.
8- ... البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مطبعة كروستان، مصر، الطبعة الأولى، 1348هـ.
9- ... بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثالثة 1404هـ.
10- ... بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، سليم بن عيد الهلالي، دار ابن الجوزي، الدمام، الطبعة الأولى 1415هـ.
11- ... تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ.(/35)
12- ... التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثاً النووية، إسماعيل بن محمد الأنصاري، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ.
13- ... تفسير الفاتحة، محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الحرمين، الرياض، الطبعة الثالثة، 1409هـ.
14- ... تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الخامسة، 1416هـ.
15- ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1417هـ.
16- ... جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1398هـ.
17- ... جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة 1419هـ.
18- ... حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
19- ... خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل البخاري، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة.
20- ... دقائق التفسير، أبو العباس أحمد بن تيمية، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، الطبعة الثانية، 1404هـ.
21- ... دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، محمد بن علان، نشر وتوزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
22- ... ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف، عبد الله الغفيلي، دار المسير، الرياض، الطبعة الأولى، 1418هـ.
23- ... الرسالة التدمرية، أبو العباس أحمد بن تيمية، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1400هـ.
24- ... رياض الصالحين، أبو زكريا يحيي بن شرف النووي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ.
25- ... الزهد، أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ.
26- ... الزهد، عبد الله بن المبارك، دار الكتب العلمية، بيروت.
27- ... سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392هـ.
28- ... السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ.
29- ... سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
30- ... سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
31- ... سنن ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
32- ... السنن الكبرى، البيهقي، دار الفكر.
33- ... سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
34- ... سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة 1405هـ.
35- ... شرح الأربعين حديثاً النووية، ابن دقيق العيد، مؤسسة الطباعة، جدة، 1403هـ.
36- ... شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ.
37- ... شرح السنة، الحسين بن مسعود البغوي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390هـ.
38- ... شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1413هـ.
39- ... الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ.
40- ... شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت.
41- ... صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
42- ... صحيح الترغيب والترهيب للمنذري، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ.
43- ... صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثانية، 1399هـ.
44- ... صحيح ابن حبان، تحقيق محمد حمزة، دار الكتب العلمية.
45- ... صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ.
46- ... صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ.
47- ... صحيح الكلم الطيب لابن تيمية، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1400هـ.
48- ... صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن حجاج القشيري، دار الدعوة، إستانبول، 1401هـ.
49- ... صحيح مسلم بشرح النووي، أبو زكريا يحيي بن شرف النووي، نشر وتوزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
50- ... عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين، صالح بن إبراهيم البليهي، المطابع الأهلية، الرياض، الطبعة الثانية، 1404هـ.
51- ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت.
52- ... فتح المبين لشرح الأربعين، أحمد بن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.(/36)
53- ... الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديثاً النووية، إبراهيم بن مرعي الشبرخيتي، دار الفكر.
54- ... فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1391هـ.
55- ... القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمد الصالح العثيمين، مطابع السلمان، بريدة، 1405هـ.
56- ... قواعد وفوائد من الأربعين النووية، ناظم محمد سلطان، دار الهجرة، المملكة العربية السعودية، الطبعة السادسة، 1419هـ.
57- ... القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1415هـ.
58- ... كتاب الصلاة وحكم تاركها، ابن قيم الجوزية، إدارة ترجمان السنة، باكستان.
59- ... الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى، 1401هـ.
60- ... لسان العرب المحيط، ابن منظور، دار لسان العرب، بيروت.
61- ... اللمعة في الأجوبة السبعة، شيخ الإسلام ابن تيمية، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ.
62- ... متن الأربعين النووية، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ضبط ألفاظها وشرح غريبها محيي الدين مستو، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1398هـ.
63- ... المجالس السنية في الكلام على الأربعين النووية، أحمد بن حجازي الفشني، [ وهو بهامش شرح الشبرخيتي ].
64- ... مجمع الزوائد، الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ.
65- ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب ابن قاسم، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
66- ... مدارج السالكين بين منازل ] إياك نعبد وإياك نستعين [، ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ.
67- ... مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد القاري، مكتبة إمدادية، باكستان.
68- ... المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله النيسابوري الحاكم، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
69- ... المسند، أحمد بن حنبل الشيباني، المكتب الإسلامي، بيروت 1978م.
70- ... المسند، الحميدي، تحقيق الأعظمي، عالم الكتب، بيروت.
71- ... مسند أبي يعلى، أبو يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم، دار المأمون، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ.
72- ... معالم التنزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ.
73- ... المعجم الكبير، الحافظ أبو القاسم الطبراني، مطبعة الوطن العربي في بغداد، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي.
74- ... مناقب الشافعي، البيهقي، تحقيق أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1391هـ.
75- ... منهاج السنة، أبو العباس أحمد بن تيمية، أشرفت على طباعته جامعة الإمام، الطبعة الأولى، 1406هـ.
76- ... نور الاقتباس، ابن رجب الحنبلي، مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى 1412هـ.
77- ... الوافي في شرح الأربعين النووية، مصطفى البغا ومحيي الدين مستو، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة العاشرة، 1417هـ.(/37)
حديث أم زرع
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
قصة الحديث الذي رواه المصطفى عليه الصلاة والسلام لزوجه عائشة رضي الله عنها بأسلوب العصر الذي نعيش فيه .
بعض الأزواج يدخلون البيوت ، فيسكن من فيها بعد حركة ، وتجف قلوب الزوجات والأولاد من غوائلهم . وجوههم عابسة ، أجبُنُهم مقطّبة،تنخلع القلوب لمرآهم ، وتنقبض النفوس حين تقع العيون عليهم .
ولا أعتقد هذا إلا جهلاً منهم بدورهم في الحياة الأسريّة ، وقوامتهم فيمن ولاّهم الله عليهم .
وكأنهم لم يقرأوا سيرة الرسول الكريم في بيته وبين أهله ونسائه ، ومعاملته إياهم بلطف المعشر وبشاشة الوجه وطيب الكلام .
فقد كان صلى الله عليه وسلم يبادر فيتقرب من نسائه ، ويمازحهن ، ويتباسط معهنّ ، فيدخل السرور إلى قلوبهنّ .
من هذا قوله لعائشة رضي الله عنها :
" كنت لك كأبي زرع لأم زرع "
قالت رضي الله عنها : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ومن كان أبو زرع ؟.
فحدّثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً :
إنه اجتمع في الجاهلية إحدى عشرة امرأة في جلسة سمر ، فقلن بعضهُنّ لبعض :
تعالَين نتحدث عن أزواجنا ، دون أن نكتم من أخبارهم شيئاً مدحاً أو ذمّاً ، وأن نكون صادقاتٍ في وصفهم ، على ألاّ يصل هذا إليهم ...
فقالت الأولى : إن زوجي متكبر سيء الخُلُق ، لا أصل إلى رضاه إلا بشق النفس وبذل الجهد ، وشبّهته في رداءته بلحم جمل غثٍّ شديد الهزال على رأس جبل وعر لا يوصل إليه إلا بعسر ومشقّةٍ .
وقالت الثانية :لا أستطيع ذكر زوجي بسوء – وكله مساوئ – فقد يصل إليه ما قلت فيطلقني ، فأضيّع أطفالي ، وأخسر بيتي .
وقالت الثالثة : أما زوجي فهو سفيه أحمق ، عقله في لسانه ، لا يرعى لي ذمة ، ولا يحفظ لي مكانة ، أتحمله على مضض ، فلا أستطيع مجابهته فأطلَّق ، وإن سكتُّ فلا يأبه لي .
وقالت الرابعة: إن زوجي معتدل الأخلاق ، متوسط في رضاه وسخطه، وشبّهتْه بليل تهامة ( وتهامة مكةُ وجنوبُها ، والنسبة إليها تهاميّ) لا تجد فيه حراً ولا برداً ، ولا تخافه ولا تسأمه .
وقالت الخامسة : زوجي كريم جواد ، لا يسألني ما أفعله في البيت ، فإذا خرج فهو أسد في الحروب ، بطل في القتال .
وقالت السادسة : أما زوجي فإن أكل أو شرب لم يترك لعياله شيئاً ، فإذا نام لم يشعر بما حوله . أنانيٌّ لا يهتم بحال أهله إن مرضن أو اشتكين . شديد الرغبة في النساء .
وقالت السابعة : يا ويلي ، إن زوجي عيِيٌّ لا يحسن تدبير الأمور ، فيه غيٌّ وضلالة ، أحمق لا يهتدي للتصرف الصحيح ، يتخبط في أعماله ، سريع إلى الضرب ، فإما أن يشُجّ من خاصمه ، أو يكسر له ضلعاً من أضلاعه ، أو يجمع بين الشج والكسر ، فأنا منه على أسوإ حال .
وقالت الثامنة : أما زوجي فناعم الملمس ، كالأرنب لِيناً وعطفاً ، شديد الاعتناء بمظهره وطيب رائحته .
وقالت التاسعة : زوجي أصيل المنبِت ، فارع الجسم ، كريم اليد ، سريع إلى إغاثة الملهوف ، عظيم في قومه ، قريب إلى نفوسهم ، له الصدر في مجالسهم .
وقالت العاشرة : إن زوجي – مالكاً- له إبلٌ كثيرة باركة في فِناء منزله ، لا يوجّهها للكلإ والمرعى إلا قليلاً ، فهو لم يقْتَنِها لينمّيَها ، إنما جعلها للضيفان ، فيقريهم من ألبانها ولحومها . وقد عهِدتِ الإبل منه ذلك ، فإذا سمعن صوت المزاهر وآلات الطرب علمْنَ أنّ أجلَهنّ قد اقترب .
وقالت الحادية عشرة : أما زوجي أبو زرع – وما أدراك ما أبو زرع ؟- فقد انتزعني من بيت فقير وحياة بائسة إلى غنىً واسع وحياة رغيدة ، وأكرمني أيّما إكرام ، طعام كثير ، وخير وفير .. وذهبٌ ملأ يديّ ، ففرحت بما أُلْتُ إليه من نعمة ، وعظّمني فعَظُمَتْ نفسي عندي ، فقولي عنده القول الفصل ، والخدم من حولي يأتمرون بأمري ، ويسعَوْن إلى رضاي ... أم أبي زرع : تمتلك الكثير من المال ، وبيتها واسع رائع .... ابن أبي زرع : نشيط جميل المنظر ... بنت أبي زرع : من أجمل الفتيات ، ذات خلق رفيع ، تغار منها الأتراب ...حتى الخادمة : فإنها أمينة تكتم السر وتحافظ على البيت ، وتعتني به .
إلا أن هذه النعمة لم تدُمْ لي .. فقد خرج زوجي في بعض أعماله فرأى امرأة جميلة في مقتبل العمر ، تلاعب ولدين لها ، وتسقيهما من ثدييها لبن الأمومة اللذيذ ، فأعجَبَتْه ، فطلّق أم زرع ، وتزوّجها .
ولم تلبث ام زرع أن تزوّجت رجلاً أصيلاً غنيّاً ذا همّة عالية ، فأغدق عليها خيراً كثيراً ، وأمرها بصلة أهلها وإكرامهم . . إلاأن قلبها لم يكن له ، بل كان لأبي زرع ... ألم يقل الشاعر :
نقّل فؤادَك حيث شئت من الهوى
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... ما الحبّ إلا للحبيب iiالأوّل
وحنينه أبداً لأوّل منزل ii؟
فكانت تقول : فلو جمعْتُ كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغرَ ما أعطانيه أبو زرع .
فلما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه قالت عائشة رضي الله عنها :
يارسول الله ، بل أنت خير من أبي زرع .(/1)
قال صلى الله عليه وسلم :" نعم ، فقد طلّقها ، وإنّي لا أطلقك ."
وتسارع بنت iiالصدّيق
بل أين أبو زرع أينا
أرسول الله يشابهه الـ
قد صاغك ربي من iiنور
أنت العلياء iiوذروتها ... بكلام حلو iiورقيق
من زوج بر iiورفيق؟
أغيار بخلق موثوق ii؟
وحباك بكل iiالتوفيق
وسواك بوهد iiالتضييق(/2)
حديث إلى المسيح المسلم عيسى بن مريم !
مجدي إبراهيم محرم
almaged@gawab.com
(((( إذا كنا لا نكتم الله حديثا حيث قال لنا في كتابه الحكيم ــ ولا تكتمون الله حديثا ــ فكيف نكتم حديثنا مع رسوله الإنسان الذي جاء لنا ببشارة القرآن ؟!!!))))
قال الله تعالى :
((( وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ))))
يا سيدي يا رسول الله
يا من دعوت حوارييك من أنصار الله أن يحبوا أعداءهم ويحسنوا لمبغضيهم وأن يصلوا لأجل من يسيئون إليهم .
يا سيدي يا نبي الله
أيها المبشر العظيم إن الإيمان بحقيقتك وقدومك حق وأنه أحد ركائز الإسلام فلماذا يتحالف أدعياء الإيمان بك مع أعداء البشرية ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية من الصهاينة.
يا سيدي يا حبيب الله
أأنت قلت لحوارييك وتابعيك والمؤمنين بك أن من يقف ضد إسرائيل والصهيونية العالمية هو كمن يقف ضد المسيحية ؟؟؟؟؟
وأن كل دعم مادي ومعنوي يقدم للصهاينة من أجل احتلال المقدسات الإسلامية وقتل وإبادة المسلمين والمسيحيين على أرض فلسطين واحتلال الأرض وانتهاك العرض وتعذيب الأسرى وفقأ عيون الجرحى كل هذا الدعم قضاء إلهي والتزام ديني كل من يقف ضده كمن يقف ضد الرب ؟!!!!!!!
نعلم أنك رسول الله وحاشا لله أن تكون قد أمرت أتباعك بما لا يحمله إسلامك ونبوتك والإنجيل العظيم والمقدس الذي يعني البشارة بقدوم الصادق الأمين .
حاشا لله أن تكون قد أمرت الكنيسة الأنجلوسكسونية وحركة المسيحية الأصولية والمحافظين الجدد وجماعة الإنجيليين والمذاهب البروتستانتينية بأن تقف خلف الصهيونية العالمية وهي تعلم تمام العلم أنها حركة سياسية براجماتية نفعية أنبياؤها ملحدون وزعماؤها علمانيون وقادتها إرهابيون متوحشون .
لقد غرسوا عبارة ((( إسرائيل ))) في قلب وروح الشعب الأمريكي والأوربي منذ أن غرسها فيهم مارتن لوثر الزعيم البروتستانتي الصهيوني تحت ذريعة يهودية المسيح مع أن القول بأن المسيح يهودي لا يستقيم إلا إذا سلمنا بأن كون المرء يهودياً ينشأ عن انتمائه عرقياً إلى "جنس" هو اليهود أو قومياً إلى "شعب" هو اليهود.
في حين أن كلا الادعاءين زائف من أساسه لأن اليهود هم أُناس من أعراق وشعوب مختلفة ينتمون إلى ديانة هي "اليهودية" فيستمدون تسميتهم منها وليسوا "جنساً" أو "شعباً وأن تعبيرهم بالساميين للتمييز عمن عاداهم من الحاميين واليا فتيين (( أولاد نوح عليه السلام سام وحام ويافت )) هو تعبير عنصري مختلق .
يا سيدي يا رسول الله
إن النصاري الذين يؤمنون بإسرائيل ويدافعون عن الصهيونية لا يعلمون أن بني إسرائيل لم يسلم من قتلهم الرسل والأنبياء فهاهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يروي لنا ما حدثه به نبي الله زكريا في رحلة الإسراء والمعراج (((((( فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى زكريا في السماء فسلم عليه وقال له:
( يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل)
قال :
يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه وكان أجملهم وأصبحهم وجها وكان كما قال الله تعالى سيدا وحصورا وكان لا يحتاج إلى النساء فهوته امرأة ملك بني إسرائيل وكانت بغية فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب ــ قال ــ فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته وكان بها معجبا ولم تكن تفعله فيما مضى فلما أن شيعته قال الملك:
سليني فما سألتني شيئا إلا أعطيتك
قالت:
أريد دم يحيى بن زكريا
قال لها :
سليني غيره
قالت :
هو ذاك
قال :
هو لك
قال:
فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي
ـ قال ـ فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها )
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فما بلغ من صبرك)
قال :
ما انفتلت من صلاتي قال فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها
فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه فلما أصبحوا
قالت بنو إسرائيل:
قد غضب إله زكريا لزكريا فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا قال فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم عليّ فلما تخوفت أن لا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت إلي إلي وانصدعت لي ودخلت فيها
قال وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس أما رأيتموه ..دخل هذه الشجرة هذا طرف ردائه دخلها بسحره..
فقالوا
نحرق هذه الشجرة
فقال إبليس:
شقوه بالمنشار شقا قال فشققت مع الشجرة بالمنشار )
قال له النبي صلى الله عليه وسلم (هل وجدت له مسا أو وجعا ) قال :
لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها ..)))))))(/1)
هذا ما قاله نبي الله زكريا عنهم وعن كفرهم بالأنبياء والرسل فلم يسلم الشرف الرفيع وصفوة البشر من أذى اليهود والصهاينة فما بالنا بأبناء البشر ؟!! .
ومن المواطن التي أشارت إلى عنادهم وجحودهم وافترائهم على الله عز وجل كلما حلت بهم نعم الله، وعلى سعة رحمته بهم أملا في إصلاح أمرهم لكن دون جدوى..
ما جاء في مناجاة نبيهم نحميا عليه السلام في الإصحاح التاسع العدد11 وما بعده وفيه:
"وفلقت اليم أمامهم وعبروا في وسط البحر علي اليابسة وطرحت مطارديهم في الأعماق.. ونزلت على جبل سيناء وكلمتهم من السماء وأعطيتهم أحكاما مستقيمة وشرائع صادقة..عن يد موسى عبدك.
وأعطيتهم خبزاً من السماء لجوعهم، وأخرجت لهم ماء من الصخرة لعطشهم، وقلت لهم أن يدخلوا الأرض التي رفعت يدك أن تعطيهم إياها.
ولكنهم بغوا هم وآباؤنا وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا لوصاياك.
وأبوا الاستماع ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم وصلبوا رقابهم .. فلم تتركهم.
مع أنهم عملوا لأنفسهم عجلاً مسبوكاً وقالوا هذا إلهك الذي أخرجك من مصر وعملوا إهانة عظيمة.
أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية.. ولم تمنع منّك عن أفواههم وأعطيتهم ماء لعطشهم. وعُلتهم أربعين سنة في البرية..
وأعطيتهم ممالك وشعوباً.. وأكثرت بينهم كنجوم السماء وأتيت بهم إلى الأرض التي قلت لآبائهم أن يدخلوا ويرثوها. فدخل البنون وورثوا الأرض.. فأكلوا وشبعوا وسمنوا وتلذذوا بخيرك العظيم. وعصوا وتمردوا عليك وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم.. فدفعتهم ليد مضايقيهم فضايقوهم وفي وقت ضيقهم صرخوا إليك وأنت من السماء سمعت، وحسب مراحمك الكثيرة أعطيتهم مخلّصين خلّصوهم من يد مضايقيهم. ولكن لما استراحوا رجعوا إلى عمل الشر قدامك فتركتهم بيد أعدائهم فتسلطوا عليهم ثم رجعوا وصرخوا إليك وأنت من السماء سمعت وأنقذتهم حسب مراحمك الكثيرة أحيانا كثيرة.
وأشهدت عليهم لتردهم إلى شريعتك وأما هم فبغوا ولم يسمعوا لوصاياك وأخطأوا ضد أحكامك التي إذا عملها الإنسان يحيا بها، وأعطوا كتفاً معانِدة وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا".
وفي المزمور78: 40 وما بعده
"كم عصوه في البرية وأحزنوه في القفر.. لم يذكروا يده يوم فداهم من العدو.
حيث جعل في مصر آياته وعجائبه في بلاد صُوعن.
إذ حوّل خلجانهم إلى دم.. أرسل عليهم بعوضاً فأكلهم وضفادع فأفسدتهم.. وهداهم- يعني بني إسرائيل- آمنين فلم يجزعوا..
وطرد الأمم من قدامهم.. فجربوا وعصوا الله العليّ، وشهادته لم يحفظوا.
بل ارتدوا وغدروا مثل آبائهم، انحرفوا كقوس مخطئه.
أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه (((بتماثيلهم)))). سمع الله فغضب ورذل إسرائيل جداً..".
وفي سفر حزقيال20: 5وما بعده يقول الرب ممتناً على بني إسرائيل:
"رفعتُ يدي لنسل بيت يعقوب وعرفتُهم نفسي أرض مصر ورفعت لهم يدي ..لأخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي تجسْستُها لهم تفيض لبناً وعسلاً هي فخر كل الأراضي.
وقلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر .. فتمردوا عليّ ولم يريدوا أن يسمعوا لي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم عليهم سخطي في وسط أرض مصر.
لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين هم في وسطهم.. فأخرجتهم من أرض مصر وأتيت بهم إلى البرية وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها..
فتمرد علىّ بيت إسرائيل في البرية، لم يسلكوا في فرائضي ورفضوا أحكامي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم في البرية لإفنائهم. لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم.. ورفعت أيضا يدي لهم في البرية بأني لا آتي بهم إلى الأرض التي أعطيتهم إياها تفيض لبنا وعسلاً.. لأنهم رفضوا أحكامي ولم يسلكوا في فرائضي بل نجسوا سبوتي لأن قلبهم ذهب وراء أصنامهم.
لكن عيني أشفقت عليهم عن إهلاكهم فلم أفنهم في البرية. وقلت لأبنائهم في البرية لا تسلكوا في فرائض آبائكم ولا تحفظوا أحكامهم ولا تتنجسوا بأصنامهم .. فتمرد الأبناء عليّ.. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم سخطي عليهم في البرية.
ثم كففت يدي وصنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين أخرجتهم أمام عيونهم.
ورفعت أيضاً يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي.
لأنهم لم يصنعوا أحكامي بل رفضوا فرائضي ونجسوا سبوتي وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم"، وهكذا كان حالهم طوال تاريخهم ومع كافة أنبيائهم وبشهادة جميع كتبهم.
وإذا كان الجانب الآخر من الكبر يتمثل- بعد بطر الحق والكفر به- في غمط الناس وظلمهم، فان الناس الذين غمطهم بنوا إسرائيل ليسوا كأي أناس، لكنهم أنبياء مبلغون عن الله رسالاته، أي أنهم مصدر هداية لمن أرسلوا إليهم، ولو كان غمطهم إياهم اقتصر على مجرد التكذيب لهان الخطب، لكنه تعدى ذلك بكثير ووصل إلى ما هو أبعد من التكذيب بمراحل
فقد جاء في الحديث عن أبي عبيدة:(/2)
((((( قتلت بنو إسرائيل ــ (ثلاثة وأربعين نبياً ) ــ من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من بنى إسرائيل فأمروا مَن قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم)))
((((((( ثم نتعجب لأفعال شارون وشامير وبيجن وبيريز ونتنياهو وجولدا مائير وموشي ديان وغيرهم !!!!!!!! ))))))
فهم الذين ذكرهم الله عز وجل- يعنى في قوله:
(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم..) آل عمران/21
كما أورد ابن كثير في تفسير قول الله تعالى:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ).. البقرة/61
قول ابن مسعود:
(كانت بنو إسرائيل تقتل ثلاثمائة نبي في أول النهار- يا لقساوة القلوب- ثم يقيمون سوق بقلهم في آخره)
وأعقبه بالقول:
"إنه لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوا من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وكساهم ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقاً" .
وحسبنا أن نستشهد هنا على تلك المذابح التي نصبوها لأنبيائهم
بما ورد في سفر نحميا 9: 26 0
"وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليرُدَّهم إليك وعملوا إهانة عظيمة"
وسفر الملوك الأول 19: 10، 14 "وقتلوا أنبياءك"0
وما ورد في إنجيل متى في الإصحاح21 عدد33 وما بعده، مما سبق ذكره من أمر الكرامين الذين ما أن جاءهم عبيد صاحب الكرم ليأخذوا أثمار غرسه إلا وأعملوا فيهم القتل والجلد والرجم، ولم يكتفوا بذلك حتى فعلوا مثله مع كافة من أرسله إليهم ممن كانوا أكثر من سابقيهم، بل لم يكفهم كل هذا حتى تآمروا في نهاية المطاف على وارثه الذي أرسله إليهم، في إشارة واضحة إلى المسيح عيسى عليه السلام..
ورد مثله في إنجيل مر قس12: 1-12، وفي إنجيل لوقا20: 9-19 وأعمال الرسل 4: 11 .
الأمر الذي يعنى أن أمر اعتدائهم على الأنبياء لم يقتصر مجيؤه على القرآن بل تحدثت به أيضاً كتب القوم يهوداً كانوا أم نصارى، كما لم يقتصر على أنبيائهم بل طال خاتم الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولا عجب إن نحن عرفنا كراهيتهم للأنبياء أن تنشر إحدى مجلاتهم وتسمى (جاليليو) صوراً كلاسيكية للسيدة مريم العذراء ((( وهي تحمل سيدنا المسيح عليه السلام بعد أن استبدلت رأسها برأس بقرة ))
وفي يوم السبت 28 يونيو 1997 م
قام عدد من المستعمرين اليهود في مدينة الخليل وبحراسة من الجيش، بلصق وتوزيع شعارات ورسوم تكيد للإسلام وللمسلمين، وقد ظهر في أحد هذه الرسوم صورة خنزير على رأسه كوفية فلسطينية (((( كتب عليها اسم (محمد) بالإنجليزية والعربية وأمسكوا هذا الخنزير قلماً يكتب به كلمة (القرآن)))) هؤلاء الصهاينة أحفاد الكلاب وأبناء الخنازير !
كما تلقت جهات فلسطينية رسمية عبر البريد الإلكتروني رسماً مهيناً للنبي عليه السلام كتب عليه (محمد) وتحته خنازير صغار يرضعون منه وقد كتب عليها كلمة (فلسطينيون).
إنه وإزاء كفرهم بالله وتآمرهم وبغيهم على أنبيائه ورغبتهم عن ملة إبراهيم ومن صار على نهجه من النبيين، ولقاء ظلمهم وطغيانهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه الذي يؤذن بألا صلاح بعده- على المدى القريب أو البعيد- لأمرهم ولا فائدة ترجى للبشرية من ورائهم، كان لابد حسب ما تقضي به سنن الله الكونية في الاستبدال والاستخلاف، من أن تتحول إمامة وخلافة وريادة هذا العالم إلى آخرين يحافظون على العهد ويصونون الأمانة ويحفظون الوصايا وينفّذون التعاليم، فيستحقون عندئذ وعد الله الذي لم يتحقق لغيرهم لا في الأرض المقدسة وحسب بل في إرث النبوة والأرض جميعاً، حيث يقول تعالى وهو أصدق القائلين:
(إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.. الأعراف/28)
ويقول: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) محمد/38)
كما قال: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.. الأنعام/133)
وقال: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على كل شئ قديراً.. النساء/133)
وقال: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.. إبراهيم/19، 20وفاطر/16، 17)
أي يذهبكم إذا خالفتم أمره ويستخلف من بعدكم قوماً آخرين
(بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. المائدة/54).
وكثيرا ما منع ملوك الفرس اليهود من الختان، وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة .
فرأت اليهود أن الفرس قد جدّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم، سموها )) الخزانة))(/3)
وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون على تلحينها، وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة، أن الصلاة بغير لحن، ويكون المصلي فيها وحده، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه .
فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم، قالت اليهود :
نحن نغني، وننوح على أنفسنا، فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام، فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنّة فيهم في الأعياد، والمواسم، والأفراح، وتعوضوا بها عن الصلاة .
والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم، وتفرّق شملهم، وعلمهم بالغضب الممدود المستمر عليهم، ومسخ أسلافهم قردة، لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت، وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة، وتعطيلهم لأحكامها، يقولون في كل يوم في صلاتهم :
) ) أحبنا، يا إلهنا ! يا أبانا ! أنت أبونا منقذنا ! ))
ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود .
وهو بزعمه المسيح الذي وعدوا به، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم، وينخونه، ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا . وضلال هذه أمة اليهود، وكذبها، وافتراؤها، على الله، ودينه، وأنبيائه، لا مزيد عليه .
وبالرغم من ذلك انتشرت جماعات الضغط المسيحية الأصولية وصارت تتبنى الأهداف الصهيونية وسياساتها التوسعية ,,
وهاهي الجماعة المسماة
(السفارة المسيحية الدولية في القدس)
التي تم الإعلان عن تأسيسها في 30/9/1980 برئاسة الهولندي "جان دير هوفين"
تأكيداً لأهمية ((((العمل المسيحي ))))
نيابة عن "إسرائيل" وتأييداً لقرار "إسرائيل" اعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة "لإسرائيل" في صيف عام 1980م .
ورداً على قيام 13 دولة بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب وافتتحت لها فروعاً في سبع وثلاثين دولة في أوروبا الغربية-وأفريقيا-وكندا-واستراليا. كما أسس لها عشرين فرعاً في الولايات المتحدة وقد اختصر مؤسس السفارة ومديرها أهدافها بقوله:
((((((( إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وإن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الله.
وإن الله قد أعطى هذه الأرض "لإسرائيل" إلى الأبد))))))) .
ومنظمة "المائدة المستديرة الدينية"
التي أسسها في عام 1979 م عدد من القيادات المسيحية الأصولية والسياسية من أمثال "القس جيري فولويل" زعيم منظمة "الأغلبية الأخلاقية" و"بول ويريش" رئيس المنظمة السياسية اليمينية المحافظة
"لجنة إبقاء كونجرس حر". ودعا بيانها إلى التعاون الاستراتيجي مع "إسرائيل"، وإلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وكانت جميع نشاطاتها في هذا الاتجاه.
"مؤسسة جبل المعبد":
التي تركز أهدافها على إنشاء المعبد في القدس، في المكان الذي يقع عليه المسجد الأقصى تحديداً، ويقع مقرها في "لوس أنجلوس" ويتفرع عنها عدة لجان ومنظمات ومعاهد لخدمة أغراضها من أهمها:
"المنتدى الأمريكي للتعاون المسيحي-اليهودي"
ومعهد "البحث عن المعبد في القدس"
الذي تم تسجيله في الولايات المتحدة كمؤسسة دينية ((( معفاة من الضرائب )))
ومن أجل هذه الغاية فإن أعداداً كبيرة من المسيحيين الأصوليين الأمريكيين يجمعون الأموال ويمارسون الضغوط المنظمة في سبيل إنشاء المعبد ((((( وحينما جمع الدكتورسامي العريان فتات من الأموال لبعض الأسر المتضررة من الآلة الصهيونية تكالب عليه كلاب السكك الضالة من الأمريكان والصهاينة وأبناء جلدته ممن يعملون لحساب الصهاينة على
أرض أمريكا كصبحي منصور وغيره )))))
"ومؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل"
الذي كونته في عام 1980 م عدة جماعات ومنظمات وقيادات صهيونية ((( غير يهودية ))) كتحالف دائم "لإسرائيل"، واتخذ مقره في "نيويورك".
وقد أصدر في ختام مؤتمره الذي عقد في عام 1982 م بياناً ركز فيه على أن :
القدس هي العاصمة الموحدة الأبدية "لإسرائيل" وأن الشعب اليهودي سيظل شعب الله المختار الذي يبارك الله من يباركه ويلعن من يلعنه وفي الواقع يصعب حصر منظمات وجماعات الضغط الصهيونية-المسيحية كافةفي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تختلف في أعدادها وإمكانياتها ونفوذها وطبيعة أنشطتها لكنها تجمع على العمل لمصلحة خلق وتعميق تعاطف العامة لدعم
"إسرائيل" وحركتها الصهيونية.
وتصدر هذه المنظمات النشرات الإخبارية، والملخصات المركزة المخصصة لدعم "إسرائيل" "تنفيذاً لرغبة الله" ؟!!!!.
وتنظيم الرحلات إلى الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، وتسوق السندات والمنتجات الإسرائيلية ؟!!!!!(/4)
في نفس الوقت تقوم الولايات المتحدة والغرب وبضغوط صهيونية ((((((( بإغلاق ومحاربة الجمعيات الخيرية والأهلية والحكومية الإسلامية آخرها مؤسسة الحرمين بالرغم من أهدافها الخيرية النبيلة لكن الأهداف الصهيونية لا تفرق بين الأهداف الخيرية وبين تجفيف المنابع أو بين الأهداف السياسية والتنصيرية التي يمارسونها في كل أنحاء العالم !!!! )))))
لأن أهدافهم دائما غير نبيلة حتى لو أظهروا للعالم غير ذلك وقد وصفهم المسيح عليه السلام بذلك.
يا سيدي يا رسول الله
أيها الطاهر ابن الطاهرة أيها الشريف العفيف النقي التقي أهانوك فلاطفتهم ودعوت لهم ؟!!!!
قاتلوك فكنت الرفيق بهم ؟!!!!
حاصروك فحاولت إصلاحهم ؟!!!!
حاولوا إيقاعك في الشّرك فكنت أنت الحليم وكشفت مخططاتهم وأنت
القادر بإذن الله على إفنائهم ؟!!!!
إنهم كما وصفتهم كالحيات لهم ألف لون ولون ولا يسلم من إيذائهم البشر راحتهم في إثارة الفتن وسعادتهم في إشعال الحروب واستقرارهم في اختلاق الأزمات ولا يخجلون من استخدام الوسائل القذرة من أجل تحقيق غاياتهم وأهدافهم ؟!!!!
يا سيدي يا رسول الله
ستأتي آخر الزمان لتكون الفيصل بين الحق والباطل
ولتقول لكل المنظمات الشيطانية
وكل الزعامات التي تدّعي بقراءتها الصباحية للعظات الإنجيلية وما هي إلا عظات صهيونية ؟!!!
خسئتم يا عبدة الشيطان من الصهاينة والأمريكان
عليكم لعنة الله لأفعالكم وما تنسبونه إلىّ من أعمال
ألا لعنة الله على الكافرين .(/5)
حديث الغلام.. أيهما قتل الآخر
4/1/1423
أ.د.ناصر بن سليمان العمر-المشرف العام على موقع المسلم
* جاء في صحيح مسلم عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه، فكان إذا أتى الساحرَ مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحرَ ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيتَ الساحرَ فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ، فقال: اليوم أعلم الساحرُ أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهمّ إن كان أمر الراهبُ أحبَّ إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ، فرماها فقتلها، ومضى الناسُ، فأتى الراهبَ فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنيَّ، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى، فإن ابتُليتَ فلا تدلّ عليّ، وكان الغلامُ يُبْرئ الأكْمهَ والأبرص ويداوي الناسَ من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ فإن أنت آمنت بالله دعوتُ اللهَ فشفاك فآمن بالله فشفاه اللهُ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: مَنْ ردَّ عليك بصرَكَ؟ قال: ربّي، قال: أوَ لكَربٌّ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام، فقال له الملكُ: أي بني قد بلغ من سحرك ما تُبْرئُ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ، فأخذه فلم يزلْ يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمئشار فوضع المئشارَ في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبلَ، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فرجف بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فدفعهم إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحرَ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئتَ، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فقال للملك: إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناسَ في صعيد واحد، وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي،،،
ثم ضع ِالسهْمَ في كبد القوسِ ثم قل: باسم الله ربّ الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلتَ ذلك قتلتني، فجمع الناسَ في صعيد واحد، وصلبه على جذع ٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهمَ في كبد القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه فوضع السهمَ في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناسُ: آمنا برب الغلام ،،،آمنا برب الغلام،،، آمنا برب الغلام، فأُتيَ الملكُ فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ؟ قد والله نزل بك حذرُك، قد آمن الناسُ فأمر بالأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران، وقال: مَنْ لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها، فتقاعستْ أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمّة اصبري فإنك ِ على الحقّ)).
كلما بعد الناس عن عهد النبوة، ازدادت حاجتهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، يتفيئون في ظلالهما، ويشربون من معينهما، ويهتدون بهديهما؛ التزاماً بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) ففيهما الشفاء والغناء والهدى.
وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة؛ من تكالب أعدائها عليها ورميهم إياها عن قوس واحدة، وحيث دبّ الوهنُ واليأس في قلوب بعض المسلمين، وآخرون حادوا عن الحكمة، وضلوا عن سواء السبيل، فقد قمتُ بدراسة حديث الغلام وأصحاب الأخدود، ووجدت فيه من الوقفات والدروس والعبر ما أراه علاجاً ناجعاًًًًً لكثير من مشكلات الأمة، ومن هنا رأيت أن أضع هذه الدراسة أمام أحبتي؛ لتكون لهم زاداً في الطريق، وعوناً على تخطي العقبات والصعاب، وتجاوز بنيات الطريق، وسلوكاً لنهج الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(البقرة:269) فأقول مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه؛ سائلاً إياه التوفيقَ والسداد:(/1)
(1) ما أشبه الليلة بالبارحة، فاستخدام السحرة من قِبل أهل الدنيا قديم، وكثير من زعماء العالم - اليوم - يستخدمون السحرة وأشباه السحرة، بل إن بعض ما يتخذه هؤلاء من قرارات مبني على ما يقوله السحرة ويدعونه، وهو ضلال وإفساد في الأرض، والله لا يُصلح عمل المفسدين، وكلما بعد الناس عن الدين والهدى والوحي الصادق؛ لجأوا إلى أمثال هؤلاء السحرة والكهّان، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
(2) أن الأرض لا تخلو من مؤمن بالله، ولا يكون خلوّها من المؤمنين إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة، وعندما بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هناك من الحنفاء؛ كورقة وغيره، ولذلك كان هذا الراهب على الدين الصحيح، في أمة لا تعرف لها رباً إلا الملك، مع أنه قد يكون في البلدان الأخرى من المؤمنين مَنْ لا نعلمهم.
(3) جواز تخفّي الإنسان بدينه إذا خاف على نفسه، ولذلك لم يكن الملك يعرف عن هذا الراهب شيئاً، ولذلك قال الراهب للغلام (فلا تدل عليّ)، وكان في مكة أناس مؤمنون يتخفّون بدينهم، قال سبحانه: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح: من الآية25). (4) أن هذا الراهب كان يعمل في السرّ؛ حيث يدعو إلى التوحيد وعبادة الله، وهذا من أدلة جواز العمل سراً إذا اقتضت المصلحة ذلك، والأدلة في ذلك كثيرة جداً، كما في دار الأرقم، ودعوى النسخ لا دليل عليها، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ،ومن الأدلة على ذلك حديث حذيفة: ((فابتُلينا حتى أصبح أحدنا لا يصلي إلا سراً))، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:87) جواز الكذب عند الخوف على النفس ظلماً، وبخاصة أمام العدو.
الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها، فكم من قتيل قد انتصر، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام
(5) أهمية التربية الفردية؛ حيث إن هذا الغلام الذي أحيا اللهُ به أمةً؛ نتاج تربية الراهب ،ومن أقوى أسباب بقاء الإسلام في روسيا بعد قيام الشيوعية هو التربية الفردية سراً، بل هكذا قام الإسلام أوّلاً.
(6) ذكاء هذا الراهب وفراسته، حيث توسّّم في هذا الغلام النجابةَ والأهلية لقيادة أمته، وإخراجها من الظلمات إلى النور، فكانت فراستُه في محلها، وتوقّعُه في موضعه.
(7) وهكذا يجب أن يعتنيَ المربّون بتلاميذهم، ويختارون منهم مَنْ يُتوقّع أن يكون لهم دورٌ في قيادة أمتهم وريادتها، ويُعدّونهم لذلك كما أعد الراهبُ الغلامَ.
(8) صحة الكرامات، وأن الله يُجريها على يد مَنْ يشاء من عباده المؤمنين، وهي وسيلة من وسائل النصر والتأييد والتثبيت، ومع أهمية الإيمان بها، يجب البعد عن الغلو فيها، والاعتماد عليها، كما لا يجوز إنكارها، أو التقليل من شأنها، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.
(9) الابتلاء سنة ماضية، وكما أخبر ورقةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيُبْتلى، كذلك أخبر هذا الراهبُ الغلامَ، وهي سنة جارية، فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه، وهو مصداق قوله سبحانه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في هذا الشأن، ولذا فعلى الدعاة إلى الله أن يُعدّوا أنفسهم لذلك، ولا يعلم المسلم من أين يأتيه البلاء،،، نسأل اللهَ السلامة والعافية.
(10) قوة توحيد هذا الغلام؛ حيث أعاد الفضلَ لأهله، فقال: ((إنما يشفي اللهُ)) وهذا دليل على إيمانه وصدقه وتجرده.
(11) أهمية استخدام النعم التي يكرم الله بها المرءَ في الدعوة إلى الله والترفع عن الدنيا وحطامها، حيث استثمر الغلامُ إكرامَ الله له بشفاء المرضى من أجل خدمة دينه وعقيدته، بينما هناك آخرون يستخدمون دينهم من أجل دنياهم، بل من أجل دنيا غيرهم، وهناك من جعل العلم والدعوة وسيلة للتكسّب وجمع الحطام ((يبيع دينَه بعرض من الدنيا))، وقد استثمر يوسفُ - عليه السلام – نعمة ((تعبير الرؤيا)) من أجل دعوة أهل السجن، وإظهار براءته، وبعد ذلك سياسة الأمة، وقيادتها بالعدل والتوحيد.
(12) أنه لا مانع من إخبار الإنسان بما هو مقدم عليه من بلاء أو فتنة، حتى يستعد لذلك، ولا يُفاجأ به، حيث إن ذلك من وسائل التثبيت، والصبر على الأذى، وقد أخبر يوسفُ أحدَ صاحبي السجن بما سيحصل له، وكذلك أخبر ورقة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمد بما سيحصل له من بلاء بناءً على رؤيا رآها وهو في مصر، فأرسل إلى أحمد في ذلك.(/2)
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا
(13) نِعْمَ الجليسُ جليسُ هذا الملك الذي حمد نعمة َالله عليه، وكان جريئاً بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وفقد منصبه ومكانته، بل ضحى بكل متع الدنيا، وتحمل الأذى والتعذيب ثم الموت، ونال الشهادة في سبيل الله، فهنيئاً له ،،، ولا نامت أعين الجبناء والمنافقين والمتكسّبين بالدين ،،، (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: من الآية79)
(14) شجاعة الغلام وقوته في الحق أمام هذا الملك الظالم، حيث أعلن توحيده، وثبت عليه، ولاقى في ذلك ما لاقى
(15) أنه لا لوم على من دل ظالماً على مسلم إذا كان هذا بسبب الأذى والتعذيب مما لا طاقة له به، فالإنسان له حد في التحمل والصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يجوز أن نلوم من عذره الله، ولذلك لم يلم ِ الغلامُ جليسَ الملك، ولا الراهبُ الغلامَ، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد بذل الوسع والطاقة، واستنفاذ الفرص
(16) مع خوف الراهب من الملك، وإشفاقه من الأذى، فقد ثبت ثباتاً عجيباً، وصمد صموداً نادراً، وهو يمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا))، وقد نال الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً؛ مقبلاً غير مدبر. وكذلك فعل بالجليس فلم يصده عن دينه مع حداثة عهده بالإسلام، وطول مجالسته للملك، فلقي ربه صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، وكذلك بشاشة ُ الإيمان إذا خالطت القلوب تمكّنتْ منها، وفي قصة الجليس وإيمانه وقتله شبه بقصة سحرة فرعون ،،، رحمهم الله أجمعين.
(17) إكرام الله للغلام بهذه الكرامات من أجل أن يتم أمر الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته على يديه، ويشرع للمؤمن أن يسأل الله أن يمده بكرامات من عنده؛ تثبيتاً لقلبه، وبرهاناً في دعوته، وكبتاً لأعدائه وخصومه، وقد سأل إبراهيم - عليه السلام - ربه، فقال: "ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي"، وسأل بنو إسرائيل عيسى - عليه السلام - أن يسأل الله لهم أن ينزل عليهم مائدة من السماء" قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين "فسأل عيسى - عليه السلام - ربه فاستجاب له" قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
(18) ويدخل في ذلك: القَسَم على الله، فمن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
(19) تأمل هذا الدعاء الجامع: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) وهو أولى من كثير من الأدعية التفصيلية حيث إن تفويض الأمر لله يغني عن اجتهاد البشر، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والخير كل الخير فيما يختاره الله وقد يختار الإنسان في دعائه لهلاك عدوه أمراً لا يتحقق فيه ما أراد "وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، بل قد يكون فتنة له وبلاء، وقد قيل للحبيب -صلى الله عليه وسلم -: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
(20) كيف عرف الغلام أن الملك لن يستطيع أن يقتله، وأن طريقة قتله هي كما ذكر مع أنه ليس بنبي؟ قد يكون ذلك إلهاماً؛ حيث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فيمَنْ قبلنا محدّثون، والظاهر أن هذا منهم، وهي كرامة من الله له، يدل على ذلك ما سبق من كرامات منذ صغره؛ ابتداء من هدايته على يد الراهب وما تلا ذلك حتى قتل - رحمه الله -.
(21) في هذا الحديث دليل على جواز العمليات الاستشهادية، فإذا كان هذا الغلام قد دلّ الملك على مقتله من أجل مصلحة غلب على ظنه تحققها، فمن باب أولى جواز الإقدام على ما فيه نكاية بالعدو، وتحقيق مصالح كبرى، ولو كان في ذلك قتل النفس، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، والقول بالعمليات الاستشهادية له ضوابط، ليس هذا مكان تفصيلها، ومن أهمها: غلبة الظن على تحقق النكاية بالعدو، وإرهابه، والحد من طغيانه، على ألا يترتب على ذلك مفاسد تغلب على تلك المصالح، ولذلك لا بد أن يكون القرار للقيام بمثل تلك الأعمال صادراً عن جهات تتوافر فيها شروط الأهلية لاتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة .
(22) قال سيد - رحمه الله -: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان وأن الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة .
(23) ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.(/3)
(24) إن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة. إن الناس جميعاً يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضاً - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئاً آخر على الإطلاق، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة) أ. هـ
ما أحوجنا إلى هذا الفهم الذي يؤصل قاعدة مهمة من قواعد النصر، وهي أن الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها، فكم من قتيل قد انتصر، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام، بل أضل سبيلاً
يا شيخ ُصبراً مضت أيامنا دولاً كم من (قتيل) علا والخصم في الحفر
(25) عجيب أمر هذا الغلام ! لماذا دلّ الملكَ على مقتله؟ ولماذا، وقد منعه الله من كيدهم لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه، ويدل الناس على الدين الحق، ويُبقي على حياته سالماً؟ هذا سؤال يتبادر إلى الأذهان والفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار، وإلا لو تأملت قليلاً لوجدت أن الغلام قد سلك بفعله طريق أعظم الانتصارات والمجد والخلود .
** إن الغلام قد أدرك بتوفيق من الله وحده ـ أن كلمة واحدة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السني. إن الحياة موقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة ثمينة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: إذا هبت رياحك فاغتنمها، وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه وإنقاذ قومه وعشيرته من النار، ولو دفع حياته ثمناً في سبيل تحقيق هذه الغاية، وما أرخصها من نفس في سبيل تحقيق هذا الهدف العظيم .
** إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة، عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره .
إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
{ انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
{ وانتصر بقوة إراداته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطّياً جميع العقبات، مستعلياً على الشهوات وحظوظ النفس، ومتع الحياة الدنيا .
{ وانتصر على هذا الملك الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده لا بيد غيره، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الغلام أقدم على ذلك وهو يعي حقيقة ما يفعل، أما المَلِك فأعمته سَكْرة ُالمُلْك، وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام؛ في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد، وحيت أمة، بل حتى الفرد لم يمت ،،، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(آل عمران:169)
{ وانتصر الغلام عندما وقع وتحقق ما كان يتصوره ويتوقعه ويخطط له، وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام .
{ إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ وسلامة التقدير، نجاح باهر وفوز ظاهر، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
{ وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم مَنْ يستشهدون.
{ وأخيراً انتصر عندما خلّد اللهُ ذِكْرَه فيمن بعده؛ قدوة وأسوة وذكراً حسناً للأجيال فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
(26) وتتويجاً لهذه الانتصارات المتلاحقة تأتي نهاية القصة عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جُنّ جنون الملك وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة للإبقاء على هيبته وسلطانه، وتعبيد الناس لهمن دون الله.
فها هو يحفر الأخاديد، ويوقد النيران، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين فيها، وهنا تأتي المفاجأة المذهلة، فبدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحداً منهم تراجع أو جَبُنَ أو هرب.(/4)
بل نجد الإقدام والشجاعة والاقتحام، وكأن الغلام قد بثّ فيهم البطولة والثبات، وها هم يجدّون في اللحاق به، وهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا عند خالقها. والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها - لا على نفسها - وحُقَّ لها أن تخاف، حيث إن ذلك رحمة وشفقة ًلا جُبْناً وخوفاً، ولكنها قد أرضعته الإيمانَ والشجاعة والإقدام، فطلب منها الإقدام فأقدمت.
وإذا كانتِ النفوسُ كباراً تعبتْ في مرادها الأجسامُ
(27) أي أمة تلك؟ وأي قوم أولئك؟ مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان فقد عرفوا المنهج حق المعرفة، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره، أو تربّوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب وجليس الملك والغلام انتصاراً فردياً، ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصاراً جماعياً، قلَّ أن يحدث له في التاريخ مثيلاً كما حدث لسحرة فرعون (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:46-47).
إن كل هذه الانتصارات المتلاحقة ثمرة طبيعية لصفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، ومن ثم الفهم العميق لحقيقة الانتصار.
فهل يعي ذلك أولئك الذين يروْن أن حياتهم تحت حماية عدوهم بذل واستصغار مع شيء قليل من حطام الدنيا؛ خير لهم من الموت بشرف وعزّ وكرامة .
مَنْ يهنْ يسهل ِالهوانُ عليه ما لجرح ٍبميّتٍ إيلامُ
وصدق عنترة:
لا تسقِني ماءَ الحياةِ بذلّةٍ بلْ فاسقني بالعزّ كأسَ الحنظل
(28) وقبل أن نغادر هذه القصة العجيبة يرد سؤال في الأذهان:
ماذا حلّ بهذا الملك وحاشيته وجنده ؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا. نعمْ ،،، وردتْ آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق". ولكن سنة الله الجارية" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقال سبحانه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (الزخرف:41). وَوعْدُ الله ِالذي لا يتخلف: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14). والعزاء للمؤمنين على مرّ الأجيال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (الطارق: 15-17). والحذر الحذر من اليأس والقنوط وسوء الظن بالله: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (ابراهيم: من الآية42). (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (ابراهيم:47).
وبعد:
أخي الكريم، وبعد هذه السياحة في هذه القصة العجيبة، والجولات البطولية؛ التي لم يلتبس فيها الحق بالباطل، ولا النور بالظلام ـ اسأل نفسك بتجرّد:
مَن الذي انتصر في هذه المعركة الفاصلة؟
أهو المَلِك أم الغلام ؟
هل انتصر الملأ أو المؤمنون ؟
والتاريخ يُعيد نفسَه، وتتغير الرسوم والأشخاص والدول، وتبقى الحقائق والثوابت والمبادئ. (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: من الآية128).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
--------------------------------------------------------------------------------
* نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 4/1/1423(/5)
حديث القرآن عن الفساد والمفسدين ... ... ... الإفساد: فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجعل، أي: جعل الأشياء فاسدة، والفساد أصله تحول منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة وإن لم يكن فيه نفع من قبل. يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحاً، ويقال: فاسد إذا وجد فاسداً من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفْسَدَ إذا أوجد فساداً من أول الأمر. [1]
والقرآن الكريم يتحدث كثيراً عن (الإفساد في الأرض) وينعى على المفسدين فيها، أو يبغون فيها الفساد أو يعينون عليه، ذلك أن الله - تعالى - خلق الأرض صالحة وأودع فيها البركة الكافية من فوقها: ((قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً، ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)) [فصلت/ 9، 10].
ولهذا خشيت الملائكة من إفساد الأرض عندما أخبرها الله - سبحانه - بأنه جاعل في الأرض مخلوقات من البشر يخلف بعضهم بعضاً فيها: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم مالا تعلمون)) [البقرة/ 30].
والمتأمل في حديث القرآن عن الفساد والفاسدين أو الإفساد والمفسدين، سيجد أن إيقاع الفساد من قبل البشر يأتي على مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على المعاصي وما يترتب عليها من مفاسد أخر. فكل معصية إفساد قال - تعالى - عن فرعون: ((آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)) [يونس/ 91] وكل تولٍ عن الحق إفساد قال - تعالى -: ((فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)) [آل عمران/ 63] وكل إعراض عن الإيمان إفساد، قال - تعالى -: ((ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين)) [يونس/ 40].
المرتبة الثانية من الإفساد: ما يلحق بالذرية والأبناء والأتباع في اقتدائهم بالكبار المتبوعين في مساويهم. ولهذا قال نوح - عليه السلام -: ((إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)) [نوح/ 27].
المرتبة الثالثة: إفساد الدائرة المحيطة بالمفسدين عن طريق بث أخلاق وصفات ودعاوى الفساد، وذلك بالإسراف في المعاصي حتى يتعدى أثرها إلى غير أصحابها، ولهذا قال صالح - عليه السلام - ناهياً قومه عن التأثر بالمفسدين: ((ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)) [الشعراء/ 152].
المرتبة الرابعة: إفساد الدائرة الأوسع في المجتمعات عن طريق إشاعة الأمراض الاجتماعية المفسدة بواسطة المضلين مثل إثارة فتن الشبهات والشهوات، والوقوف في وجه المصلحين وإحداث العقبات في طرقهم زعماً بأنهم يقفون ضد مصالح الناس. قال - تعالى -: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) [البقرة/ 11]. وقال الملأ المضلون من قوم فرعون: ((أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)) [آل عمران/ 127].
المرتبة الخامسة: الإفساد الناشئ عن فساد الحكام والقادة والزعماء، وهو الفساد الأكبر، لأن الكبراء إذا فسدوا في أنفسهم فإنهم ينشرون الفساد بقوة نفوذهم واستخدام سلطاتهم وقوتهم وقد ذكر القرآن عن بلقيس قولها: ((إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون)) [النمل/ 34].
وكثيراً ما يزعم الطغاة المتكبرون أن المصلحين هم أصحاب الفساد. كما قال فرعون عن موسى - عليه السلام -: ((إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) [غافر/ 26].
هذا بالرغم من أن فرعون نفسه كان مكثراً من الإفساد بكل أنواعه، ولا تشفع له الأبراج العالية والأصنام المنصوبة والقبور المشيدة فيما يطلق عليه (الحضارة الفرعونية) فإنها جميعاً شواهد على استبداد وسيطرة وطغيان الفراعين الذين كانوا يطمعون أن ينقلوا معهم الثروات المسروقة من الشعوب المستضعفة إلى قبورهم. قال - تعالى -: ((وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد)) [الفجر/ 10 12]. وقد وصف القرآن فرعون بالعلو والإفساد في الأرض: ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، إنه كان من المفسدين)) [القصص/ 4].
ومثلما كان فرعون، مفسداً بنفوذه السياسي والعسكري، فقد كان قارون مفسداً بنفوذه المالي الاقتصادي، وقد كان قادراً على استعمال أمواله في الإصلاح في الأرض، ولكنه أبى إلا أن يستعمل نعمة الله في محاربة الله، وقد قال له الناصحون من قومه: ((ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي)) [القصص/ 77].(/1)
- وقد أوسع المتعالون من بني إسرائيل الأرض فساداً، فكلما زاد علوهم زاد فسادهم. قال - تعالى - عنهم: ((وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً)) [الإسراء/ 4]. وكثر فسادهم وإفسادهم حتى صار الإفساد ديدنهم، وصار طبيعة فيهم حتى أنهم لا يشعرون بذلك. قال - تعالى -: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) [البقرة/ 14]. ولم يفلح معهم العلاج، حتى الوحي المتنزل من السماء لم يمنعهم من الإفساد، بل كانوا يوغلون في الطغيان حتى فيما بينهم، فصاروا ميؤوساً من صلاحهم واستحقوا أن يكونوا الأمة المغضوب عليها إلى يوم القيامة بسبب فسادهم وإفسادهم. قال - تعالى -: ((وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين)) [البقرة/ 64].
والفساد في بني إسرائيل لم يكن على مستوى الساسة والقادة والزعماء فقط، بل وصل إلى من يفترض أنهم يقفون في وجه الفساد إصلاحاً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فقد سكت علماء الضلالة فيهم عن إنكار المنكر. قال - تعالى -: ((وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، لبئس ما كانوا يفعلون. لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، لبئس ما كانوا يصنعون)) [المائدة/ 62، 63].
إن تلك المراتب الخمس للإفساد في الأرض، قد أحدثها ويحدثها البشر على هذا الكوكب، فالناس لا غيرهم من المخلوقات هم الذين ملأوا الأرض بالفساد حين ضلوا عن مناهج الوحي الإلهي عبر العصور، أما بقية مظاهر الحياة على الأرض فإنها تتأثر بفساد المفسدين من البشر تبعاً. قال - تعالى -: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) [الروم/ 41].
* * *
إن الصراع الواقع على ظهر الأرض منذ بدأت عليها الحياة البشرية، إنما هو صراع بين المصلحين والمفسدين والعاقبة فيه لأهل الصلاح في الدنيا والآخرة: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين)) [القصص/ 83].
للمصلحين طرق ومناهج للإصلاح، كما أن للمفسدين سبل وطرائق للإفساد وعلى الناس أن يتبعوا سبيل المصلحين ويجتنبوا سبل المفسدين. قال - تعالى -: ((ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)) [الشعراء/ 152].
وقد أوصى موسى - عليه السلام - أخاه هارون حين استخلفه بألا يتبع سبل المفسدين: ((وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)) [الأعراف/ 142]. فهما صنفان من الناس مصلح أو مفسد ولا يستويان. قال - تعالى -: ((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لايحب الفساد)) [البقرة/ 205].
ولا يمكن أن يستوي أهل الإصلاح وأهل الإفساد في الدنيا ولا في الآخرة. قال - تعالى -: ((أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار)) [ص/ 28]. أبداً لا يستون: ((والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)) [الرعد/ 25]. وفي تلك الدار، دار البوار، فإن العذاب يضاعف للمفسدين جزاء ما تعدى فسادهم في أنفسهم إلى إفسادهم لغيرهم: ((الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون)) [النحل/ 118]. وهل بعد ذلك من خسران؟ أبداً، ((الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)) [البقرة/ 27]].
- إن أثر الفساد والإفساد ليس له حدود لو سارت الأمور على مقتضى أهواء المفسدين، فالكون كله يفسد لو سارت أموره بحسب أهواء أهل الفساد قال - تعالى -: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)) [المؤمنون/ 71]، ولو لم يقف المصلحون في وجه المفسدين لعم الفساد أرجاء الأرض ولشمل الضلال كل أطرافها، ولكن من رحمة الله أنه يدفع فساد المفسدين بجهاد المصلحين ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين)) [البقرة/ 251].
إن مسؤولية المصلحين عظيمة، فواجبهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً ضد المفسدين، فالمفسدون مهما تباعدت ديارهم واختلفت ألوانهم وألسنتهم، فإنهم جبهة واحدة وصف واحد ضد الإصلاح والمصلحين. وما لم يكن للمصلحين صف واحد ضدهم فالفساد سيظل يكبر ويكبر حتى لا يستطيع أحد أن يقف أمامه. قال - تعالى -: ((والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [الأنفال/ 73].(/2)
إن الأمل الوحيد في إنقاذ الأرض من المفسدين في كل الأزمنة والأمكنة، يكمن في قيام أهل الحق والإصلاح بمسؤولياتهم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وجهاداً في سبيل الله: ((فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)) [هود/ 116 119]...
----------------------------------------
[1] - تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير (1/284). ... ...(/3)
حديث النهي عن الصيام بعد انتصاف شعبان
عمر بن عبد الله المقبل 17/8/1426
21/09/2005
النهي عن صيام يوم النصف من شعبان وما بعده ورد في حديث مشهور عند العلماء، ونظراً لكثرة الكلام فيه، ولاختلاف المحدثين فيه ما بين مصحح ومضعف، فيفصل الكلام منه قليلاً بما يناسب المقام.
وقبل تفصيل الكلام ، أذكر خلاصة القول في هذا الحديث، ثم أتبعه بالتفصيل:
(1) أن هذا الحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، وهو صدوق ربما وهم، وقد تفرد بهذا الحديث عن أبيه.
(2) أن العلماء اختلفوا في صحة هذا الحديث وضعفه، فالذين صححوه أخذوا بظاهر السند، والذين ضعفوه أعملوا أموراً أخرى غير ظاهر السند، تتعلق بالمتن؛ حيث رأوا أنه معارض لأحاديث قولية وفعليه أصح منه وأثبت – كما سيأتي تفصيله -.
(3) أن اختلاف العلماء في صحته وضعفه، انبنى عليه اختلافهم في حكم صيام ما بعد النصف من شعبان، هل هو حرام أو مكروه أو مباح؟ كما ستأتي الإشارة إليه.
أما تفصيل الكلام عليه فهو كما يلي :
الحديث رواه أبو داود في (2/751)، باب في كراهية ذلك (أي وصل شعبان برمضان) ح (2337) من طريق عبد العزيز بن محمد – وهو الدراوردي – قال : (( قدم عباد بن كثير المدينة، فمال إلى مجلس العلاء، فأخذ بيده فأقامه، ثم قال : اللهم إن هذا يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:" إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " فقال العلاء : اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك )) .
والحديث مداره على العلاء بن عبد الرحمن، مختلف فيه، وبالنظر في كلام الأئمة فيه نجد أن عبارة الحافظ ابن حجر فيه قد لخصت هذه الأقوال، وهي قوله : " صدوق ربما وهم " ، (التقريب 5247) . وأما أبوه فثقة كما قال الذهبي، وابن حجر: " ثقة "، كما في (الكاشف 1/649)، و(التقريب 4046)، وتنظر بعض أقوال الأئمة فيه في (تهذيب الكمال ) للمزّي (18/18).
تخريجه :
أخرجه الترمذي (3/115)، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان ح(738)، وأخرجه النسائي في (الكبرى 2/172)، باب صيام شعبان ح(2911)، وابن ماجة (1/528) باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم ح(1650)، وعبد الرزاق (4/161) ح(7325)، وابن أبي شيبة (2/285) ح (9026)، وأحمد (2/442)، وأبو عوانة (98)، وابن حبان (8/356) ح (3589)، وفي (8/358) ح(3591)، والبيهقي (4/209)، من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به بنحوه .
وأخرجه الطبراني في (الأوسط 2/312) ح (1957) من طريق عبيد الله بن عبد الله المنكدري، قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده [عبيد الله بن عبد الله بن المنكدر بن محمد بن المنكدر] عن عبد الرحمن بن يعقوب به بنحوه .
وأخرجه ابن عدي في (الكامل 1/224) من طريق إبراهيم بن أبي يحيى،عن محمد بن المنكدر، والعلاء بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن يعقوب به بنحوه.
الحكم عليه:
إسناد أبي داود رجاله ثقات سوى الدراوردي والعلاء بن عبدالرحمن، أما الدراوردي فلا يضره – هنا – ما عنده من الأوهام؛ لأنه توبع من أئمة .
وقد اختلفت أنظار الأئمة في الحكم على هذا الحديث، فمنهم من صححه، ومنهم من ضعفه واستنكره، فأما من صححه فمنهم:
الترمذي حيث قال (3/115) :" حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ " ، والطحاوي في (شرح المعاني 2/83)، وأبو عوانة حيث أخرجه في مستخرجه على صحيح مسلم ، وابن حبان (8/358)، وابن عبد البر في (الاستذكار 10/238)، وابن حزم (7/25) ، وغيرهم .
لكن قال الحافظ ابن رجب – في (اللطائف 260) – عقب حكاية التصحيح عن هؤلاء الأئمة : " وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا : هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء أنكر منه، ورده بحديث " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ..." ا . هـ.
وقد نقل أبو داود عقب إخراجه الحديث عن ابن مهدي أنه كان لا يحدث بهذا الحديث، وهذا ظاهر في إنكاره إذ لم يحدث به الإمام أحمد.
وأما إنكار أبي زرعة، فقد نقله البرذعي في سؤالاته (2/388)، ونقل أبو عوانة في (مستخرجه98) أن عفان بن مسلم كان يستنكره أيضاً.
ونقل أبو عوانة أيضاً – وذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح 4/153) – أن ابن معين قال عنه: منكر، وإنكار أحمد للحديث نقله عنه المروذي في سؤالاته (117 رقم 273)، وقال النسائي عقب إخراج الحديث في (الكبرى : 2/172) : ( لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن " ا . هـ.
وقال الخليلي في (الإرشاد : 1/218) عن العلاء: "مديني ، مختلف فيه؛ لأنه يتفرد بأحاديث لا يتابع عليها – ثم ذكر حديث الباب، ثم قال : - وقد أخرج مسلم في الصحيح المشاهير من حديثه دون هذا والشواذ " ا. هـ، وأشار البيهقي (4/209) إلى ضعفه .(/1)
وما ذكره الخليلي ، فيه إشارة واضحة ، أن مسلماً أعرض عن حديثه لما فيه من النكارة، مع أنه أخرج من هذه السلسلة : العلاء عن أبيه كثيراً، وقد أشار إلى هذا السخاوي، كما في (الأجوبة المرضية 1/37).
وما ذكره بعض الأئمة من تفرد العلاء به، لا يعكر عليه ما رواه الطبراني – كما سبق تخريجه- من طريق محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يعقوب ؛ لأن هذه الطريق معلولة بثلاثة أمور :
الأول : أن فيها المنكدر بن محمد المنكدر، وقال عنه أبو حاتم: " كان رجلاً صالحاً لا يفهم الحديث، وكان كثير الخطأ، ولم يكن بالحافظ لحديث أبيه " ، وقال عنه أبو زرعة: " ليس بقوي "، وقال ابن معين : "ليس بشيء" وقد وثقه أحمد في رواية أبي طالب " نقل ذلك كله ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل 8/406).
الثاني : أن الطبراني قال عقب إخراج الحديث :" لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر إلا ابنه المنكدر، تفرد به ابنه عبد الله " ا . هـ، فهو مع ضعفه تفرد أيضاً .
الثالث : قال ابن عدي في (الكامل 6/455) عن هذه السلسلة ( عبيد الله بن عبد الله المنكدري قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده ).
"وهذه نسخة حدثناه ابن قديد، عن عبيد الله بن عبد الله بن المنكدر بن محمد، عن أبيه عن جده، عن الصحابة وعن غيرهم، وعامتها غير محفوظة ". ا .هـ.
وأما الطريق التي أخرجها ابن عدي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، فلا أثر لها؛ لأن إبراهيم هذا متروك الحديث، كما في الميزان 1/57 ، والتقريب (93)، والله أعلم.
وبعد : فإن اختلاف أهل العلم بالحديث في الحكم على هذا الحديث انسحب على المسألة فقهياً، فقد اختلف العلماء في حكم الصوم بعد منتصف شعبان .
فمن صح عنده هذا الحديث حكم بكراهة صوم السادس عشر من شعبان وما بعده، وبعضهم صرّح بالتحريم كابن حزم في (المحلى 7/25) إلا أنه خص النهي بصيام اليوم السادس عشر فقط – ومن ضعّف هذا الحديث لم يقل بالكراهة كما هو قول جمهور العلماء، محتجين بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ". أخرجه البخاري (2/34) باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين ح (1914)، ومسلم (2/762) ح (1082) – واللفظ له -، وأبو داود (2/750)، باب فيمن يصل شعبان برمضان ح (2335)، والترمذي (3/69)، باب ما جاء " لا تقدموا الشهر بصوم" ح (685)، والنسائي (4/149)، باب التقدم قبل شهر رمضان ح (2172، 2173)، وابن ماجة (1/528)، باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم ح(1650) من طرق عن يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
وقد احتج بهذا الحديث الإمام أحمد على ضعف حديث النهي عن الصوم بعد النصف، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا "، والله أعلم .
ويمكن أن يعلل الحديث أيضاً بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان .
أخرجه البخاري (2/50)، باب صوم شعبان ح(1969)، ومسلم (2/810) ح(1156)، وأبو داود (2/813) باب كيف كان يصوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ ح(2434) من طريق أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة -رضي الله عنها- .
ومقتضى هذا – بلا شك - أنه كان يصوم شيئاً من الأيام بعد منتصفه .
ومما ضعف به حديث العلاء أيضاً:
الأحاديث الدالة على جواز صوم يوم وإفطار يوم، بعضها في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه -، وهي مشهورة كثيرة .
وقد أجاب بعض المصححين لحديث العلاء بأن النهي محمول على من لم يبتدئ صيامه إلا بعد النصف، أما من كان يصوم قبل النصف واستمر فلا يشمله النهي، ومنهم من حمل النهي على من يضعفه الصوم عن القيام بحق رمضان .
والظاهر – والله أعلم – هو رجحان قول الأئمة الذين حكموا عليه بالنكارة والضعف؛ لسببين:
الأول : لكونهم أعلم ممن صحّحه.
الثاني: لقوة الأدلة التي تخالفه، كحديث أبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم -، ومما يقوي هذا – أعني ضعفه – أن الإمام مسلماً – رحمه الله – كان يخرج من سلسلة العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه ، عن أبي هريرة كثيراً، فما باله أعرض عن هذا الحديث؟! الأمر كما قال الخليلي – كما سبق نقل كلامه – إنما هو لشذوذ هذا الحديث.
وبناء عليه يقال : إن الصيام بعد النصف من شعبان لا يحرم ولا يكره، إلا إذا بقي يومان أو يوم ، وليس للإنسان عادة في الصيام، فإنه ينهى عن ذلك لدلالة حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، والله –تعالى- أعلم .(/2)
وللمزيد ينظر : (شرح معاني الآثار للطحاوي 2/82 – 87) ، و (تهذيب سنن أبي داود لابن القيم – مطبوع مع مختصر السنن للمنذري 3/223 –225)، و(فتح الباري 4/153) شرح الحديث (1914)، و(تحفة الأحوذي 3/296).(/3)
حديث حول الشهرة والمشاهير
يعتني الناس كثيراً بالمشاهير، ويحرصون على اللقاء بهم والسماع منهم، بل وربما رؤيتهم، ويعتنون كثيراً بمقولاتهم وربما يصدرون عن رأيهم، ومن الشواهد على ذلك استخدام أصحاب الإعلان التجاري أسماء بعض رموز الرياضة والفن في ترويج سلعهم ومنتوجاتهم.
وهذه القضية تعني العاملين في الميدان الدعوي بدرجة كبيرة، وجدير بهم أن يدرسوها ويعتنوا بها.
وأول سؤال يفرض نفسه: متى تكون الشهرة تعبر عن الواقع تعبيراً صادقاً؟ وإلى أي حد هؤلاء المشاهير يستحقون ماحصلوا عليه من مكانة ومنزلة؟
إن التعرف على العوامل التي أدت إلى الشهرة يسهم في الإجابة على قدر كبير من هذا السؤال، فثمة عوامل صادقة تعطي الشخص مكانته ومنزلته التي يستحقها، وعوامل أخرى خلاف ذلك، تؤدي إلى اتساع مساحة الشهرة أكثر مما ينبغي.
فأحياناً تكون الشهرة وليدة موقف أو مواقف رفعت اسم صاحبها، وأعطته من الهالة فوق ما هو له.
وقد يتحدث شخص حديثاً مسموعاً أو مكتوباً في موضوعات له أهمية وحيوية لدى الناس، وتلامس واقعهم، ويجتهد في ترتيب عناصره وأفكاره فيقع حديثه موقعاً من الناس؛ فيعلو شأنه ويرتفع صيته، مع أن ماقدمة خال من الدراسة الواعية العميقة، ولايعدو أن يكون حسن ترتيب وعرض لآراء شخصية، وإجادة في طرق قضايا لها شأنها عند المتلقين.
وقد يكون ذا صوت جهوري مؤثر، وأسلوب بليغ أخاذ، أو قلم سيال فيعجب الناس بما قدمه ويظنون به ماليس أهلاً له.
وأحياناً يسهم الناس في إلحاق الشهرة بشخص ما من خلال الاجتماع حوله وسؤاله والحديث إليه، وإبراز نتاجه.
وأحياناً يستمد شهرته من وظيفته الشرعية، أو توليه لإمامة مسجد أو جامع له مكانته.
إن بروز هذه العوامل غير الصادقة في صنع الشهرة وتأثيرها على الناس يكون نتاج أسباب عدة منها:
1. ضعف مستوى الوعي لدى المجتمعات وسطحيتها في التفكير والحكم على الظواهر.
2. عدم وجود معايير واضحة للتقييم لدى الناس؛ ومن ثم فقد ترى أن من يكتسب الشهرة في الخطابة والوعظ يستفتيه الناس في قضايا من دقائق مسائل العلم، وقد يكون قليل الورع فيقتحم المشكلات، ويدرك المرء الأسى حين يرى فئات من جيل الصحوة يتداولون قول واعظ أو متحدث بارع، أو غير هؤلاء في قضية حاسمة من قضايا الدعوة أو مشكلة من مشكلات الأمة.
بل حتى أهل العلم الذين لهم باعهم في الميدان العلمي ومكانتهم التي لاتنكر قد لايجيدون إصدار حكم في قضية من مشكلات الأمة، أو هم لا يعانونه من هموم الدعوة والتربية، وليس هذا من نقص مكانتهم أو منزلتهم أو الحط منها، أوليس أهل القضاء أحياناً يحيلون الأمر على مختص يصدرون عن رأيه؟ بل وأهل الإفتاء حين يناقشون قضية طبية أو اقتصادية يستعينون بمن يعيها أكثر منهم؟
3. وقد تكون الشهرة نتاج فراغ الساحة وخلوها من الشخصيات المؤهلة؛ فيصادف من يتصدى قلباً خالياً ومكانة فارغة.
4. وقد يسهم الدعاة في تكريس هذه القضية فيصرون على التعامل مع المشاهير، فيؤصلون هذا المشرب لدى الناس، ويحرمونهم من طاقات لم تجد من عوامل الشهرة مايبرزها لدى الناس.(/1)
حديث عام عن البلد ( أي القطر ) وأوضاعه
الجمعة 3 شوال 1397 / 16 أيلول 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
إن المعنى الذي أريد أن أشير إليه اليوم يندرج تحت إطار الكلام الذي قلته لكم قبل يومين في خطبة العيد من هذا المكان ، وأظن أنني قلت ما يكفي لإيقاظ النائم وتنبيه الغافل ورد الشارد إن كان الله تعالى يريد بالناس الخير ، ذكرت فيما مضى أن فرائض الإسلام أضيع بين المسلمين من الأيتام على مائدة اللئام ، وضيعتها ليست بتركها وإهمالها بل لعدم الإفادة منها والانتفاع بها ، ففرائض الإسلام وشرائع الدين والأسس العامة التي هي أركان هذا الدين معللة في كاتب الله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن عقل ووعى فإنه يدرك بأيسر النظر وأقل المجهود أن الله فرض ما فرض وشرع ما شرع لمصلحة الإنسان لكي يكمل الإنسان عنصر الإنسانية فيه ، ويجلي الصدأ عن هذا العنصر السليم ليشعر كل أحد أنه من كل أحد ولكل أحد ، أي أنه أخ لكل أخ .
والحياة الدنيا التي هي دار بلاء وتمحيص ، إذا خلت من هذه المشاعر النبيلة وإذا فقدت الجوهر الإنساني الشريف فهي مسبعة وغابة ولا مزيد ، وفي ظل هذه المفهومات ذكرت الكلام في خطبة العيد . وإذا كنتم تريدون الحقيقة فأقول لكم : كيف يصاب الإنسان فقد الشهية للطعام فالإنسان تمر عليه أويقات يشعر أنه ممعوج من الكلام ، يفقد شهوة الكلام بالمرة ، ولقد كنت أتحدث إليكم وأنا أعاني بشدة هذا الشعور ، ما الذي يسيطر علي ويملأ أقطار نفسي ؟ شعور بغيض وكريه ، لأنه أجدف ضد التيار وأنني أنثر الحَب في السباخ وفي أرض غير خصبة ، لأن كل ظواهر الناس التي يعيشون فيها ليس فيها ما يشجع على الرجاء الواسع والأمل العريض والثقة الطيبة ، كل شيء على الضد من ذلك . ولقد كنا لسنوات نوجه سهام النقد والتجريح ونصب جام الغضب والنقمة على الذين يتلاعبون بمصائر الشعوب ويسرقون إرادة الأمم على قطاع الطريق من الساسة الأبالسة والأفاكين .
وربما عبرت لذهننا لساعات أو لأيام تصورات توحي بأننا لو أننا حطمنا البناء الفوقي لحياة الناس الاجتماعية لكنا وصلنا إلى حالة هي أكثر أمناً واطمئناناً ، وأشهد إنها لغفلة عظيمة ، وما كان لمثلي أن يقع فريسة من هذا النوع ، وكيف وأنا أقرأ قول الله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فما له من دونه من وال ) وكيف وأنا أقرأ من كلمات ربي تبارك وتعالى ( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون ) .
كان ينبغي أن نكون أكثر حكمة ، وهذا لا يعني أننا نتنازل عن نقد وتجريح سفهاء الساسة وأبالسة الحكام وسرقة الشعوب ، ولكنا ينبغي أن نعيد ترتيب الأولويات من جديد ، إن هذه البثور والدمامل والقروح التي تغطي وجه الأمة وجسد الأمة عارض ظاهر لمرض كامن في الأمة ، ولو صح جسم الأمة وبرئت من عللها ما كان ممكنا أن تظهر مثل هذه البثور لتشوه الوجه الجميل لهذه الأمة .
في العيد قلت لكم إن الله افترض عليكم هذه الفرائض ومن جملتها صوم شهركم هذا الذي صمتموه أو صامه منكم من أراد الله به الخير ، وأي ما كان الأمر فنحن نعلم من تجاريبنا ونعلم من حقائق قرآننا ونعلم من سنن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الرجلين يعملان العمل الواحد يستويان في الشكل والمظهر وفي كل الخصائص البارزة العينية الملموسة ثم يكون بين العملين من الفرق كما بين السماء والأرض . إن صورة العمل ليست ذات جدوى وصدق رسول الله : ربّ مصلٍ ليس له من صلاته إلا التعب والنصب ، وربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، وربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه . صدق رسول الله ، فالمدار ليس على صورة العمل الظاهر ، ليس على الشكل الخارجي ، فتلك زيوف إن راجت بين الناس فإنها عند الله لا تروج ، إلا بالقدر الذي تكون عليه مؤسسة على تقوى من الله ومخافة الله وطلب ما عند الله .
ولكن المسلمين بعد أن أقامهم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام على هذه الجادة المستقيمة ، وعلى هذه المحجة البيضاء أخذوا يجنحون رويداً رويداً ، وبصورة تتسارع مع الأيام نحو الانغماس في الدنيا والجري وراء الشهوات والتجاحش على الحطام ، ولا أدري أأنا مخطئ أم مصيب حينما أتساءل : أهذا الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصاته لأحد أصحابه حينما كان يقول له : إذا رأيت هوى متبعاً وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فدع عنك أمر العامة وعليك بخويصة نفسك ولو أن تعض على أصل شجرة فيأتيك أجلك وأنت كذلك .(/1)
قد أكون مخطئاً ، لكن الذي عاينته مع الناس وبلوته من أخلاقهم وأخبارهم جعلني أبعد الناس عن الاغترار بطول اللحى وكبر العمائم والجبب السوابغ ومظاهر التقى وهذه الركعات التي تؤدى في المساجد وهذه الأيام الحارة التي يقطعها الناس في الصوم ، فلعمري ما جدوى كل هذا إذا لم يلقِ عليك أيها المسلم صلاحاً لقلبك وسلامة لنفسك وطهارة لضميرك ، وما لم يتولد من كل ذلك تلك القدرة الخارقة التي تميز المسلمين الصادقين على أن تتجاوز نفسك وعلى تعلو فوق ذاتك وعلى أن تتمرد بل على أن تحتقر شهواتك ورغباتك ودوافعك الرخيصة .
إن الإسلام مظلوم ، قضية عادلة ولكن المدافعين عنه فاشلون ، الإسلام دين الله وحبله المتين ونوره المبين ، صراطه المستقيم ، كلمته الواضحة التي لا تقبل الاشتراك ولا تقبل التحريف ولا تقبل التزييف . والإسلام فوق هذا يقسم الناس قسمة حدية ، أعني أن الإسلام يقرر أن الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . وأن معترك الدنيا صفان ولا مزيد : حق وباطل ، هدى وضلال ( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون ) . وأما أنصاف الحلول والجسور المعلقة أو الثابتة التي تُنصب على معالم الحق والباطل لتشرّك بين الأمرين ولتصل بين الوصفين أمور يرفضها الإسلام .
ومنذ أن جهر محمد صلى الله عليه وسلم بكلمات لربه انقسم الناس قسمة رأسية ، فريق يأخذ بأمر الله لا يدهن فيه ولا يساوم ولا يترخص ، وفريق أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني . أما الذين أخذوا الأمر على أنه جد لا هزل معه وعمل هادف مقصود لا لعب معه فأدلجوا وساروا ووصلوا المنزل ، وأما الذين هزلوا وعبثوا وخضعوا للشهوات فإن السبل تقطعت بهم وكانوا فرائس الحيرة والضيعة والفشل المستمر ، ومضى الناس منذ ذلك التاريخ وعلى صفحات التاريخ الحضاري كله هذه السمة البارزة هذه العلامة الواضحة هذا الأثر الذي أحدثه الإسلام ، ناس يدعون إلى الله على هدى وبينة ، وناس يتخبطون في أوهام الشهوات ، وكانت الدنيا بخير لو أن الأمور أخذت طريقها المعتاد ولو أن المسلمين أعملوا قاعدة الإسلام الأولى وهي أن الإسلام لا يوجد فيه العواطف ولا يتملك الغرائز ولا يربّت على الشهوات وإنما هو الحق المر والمركب الخشن والباب الضيق ، لو أن المسلمين أعملوا هذا وفهموا أوليات الإسلام التي تقول إن كلما وضع الله من شريعة فإنما وضعت لتكبح ملجمات النفس ولتزمّ النفس بخطام الشريعة كي لا تستبسل في المرتع الوبيئ ، ولكن الناس انغمسوا في الدنيا وتركوا أمر الله جل وعلا جانباً فما الذي كان ؟ كان أن أصبحنا نرى الواحد منا ولا أحب أن أستثني بالمرة أحداً يصوم ويصلي ويحج ويزكي ويتعب وينصب ويشقى وهو يظن أنه من الذين يحسنون صنعاً ، فإذا جاءت نزغة من نزغات الشيطان وحديث من أحاديث النفس الوضيعة الهابطة نسي الإنسان ما كان فيه ، بل نسي ما كان يدعو إليه ولم يذكر إلا هذه اللحظة الحرجة وما تجر إليه هذه اللحظة الحرجة ، فإذا هو عياذاً بالله جل وعلا ألعوبة مسلوبة الحول والقوة في يدي إبليس يتلعب به كيف يشاء .
وفي خطبة العيد ذكرت لكم أن علة العلل هي أن الناس نسوا الله واليوم الآخر وذكروا الدنيا فمن أجل ذلك كان الذي كان ، وكان يجب أن يعمق لكن الوقت لم يكن يسمح لنا بأكثر من الكلام الذي قلناه والذي أتصور أنه يكفي في ذلك الوقت ، إن الذي أريد أن أقوله بصراحة وبحرية تامة هو ما يلي : إننا في الحقيقة وأرجو أن يكون مفهوماً أنني أتحدث عن بلدي وعن مشكلات بلدي وعن مصاعب أهلي وقومي في بلدي وأرجو أن يكون مفهوماً أنني حريص غاية الحرص على أمر قد أكون أول اليائسين منه لولا الثقة برحمة الله والرجاء بمعونة الله جل وعلا إنني أحرص على أن يتعقل كل أحد ولكن للأمانة أيضاً أحب أن أصارحكم بأنني قانع الآن قناعة تملأ أقطار نفسي أن الناس الذين تلوثوا بمفاهيم جاهلية وأعراض قبلية وعوائد عشائرية لا أستطيع أن ألمس أية فائدة من محاولات الإرشاد والنصح حينما يوجهان إليه إلا أنني آمل بالشباب الذي لم يلوث بعد ، الذي لم يتعقد في المشكلات السخيفة والذي لم يخضع للاهتمامات الصغيرة ، آمل أن تكون له من القيم العليا مشاغل تشرف الإنسان وتزكي الإنسان وترفع من قدر الإنسان ، آمل والوقت بعد جيد ومناسب والتذكير وارد ، والأسوة السيئة والقدوة القبيحة قائمة أيضاً ، وإذاً فأمام الشباب سلاحان طيبان جداً ممكن لهم أن يستخدموهما بكفاءة عالية ، فيصوغوا أنفسهم وفاقاً لما يريد الله وعلى نحو فيه للإنسانية الشيء الكثير .
ومع هذا فرحمة الله قريب من المحسنين قريب من المجدين العاملين ، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ونرجو أن يفيء الله علينا جميعاً شيباً وكهولاً وشباباً ، وأن يعطف قلوبنا حتى نكون أوفى مما نحن عليه بقضايا الإسلام .(/2)
إن المشكلة كما قلت لكم هي أننا كنا في الماضي يوم كانت أمتنا تسير تحت قيادة نبينا عليه الصلاة والسلام يعانق القمم في القيم العالية الرفيعة ونضرب الأمثلة العالية البليغة على كمال الإنسانية في الإنسان ، وكثيراً ما تقلب صفحات الماضي لترى أعرابياً حافي القدمين يتناثر القمل على رأسه وعلى جلده ويسرح ويمرح بين ثيابه أشعث أغبر يكاد أن يكون إلى العري أقرب ، أصفر الوجه تحسبه من الجوع وما هو به ولكن وقذته العبادة وأجهده سهر الليل قائماً وقاعداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، تقع عليه عينك فتشمئز ولا تظن فيه خيراً ولا تقول إنه يأتي بخير أو يأتي منه خير ، وما أحكمك يا ابن عبد الله عليك أفضل الصلاة والسلام ، فلقد كان في مجلس في أصحابه فمرّ رجل كهذا الذي نتحدث عنه ، زري الهيئة ، مظهره غير مريح فقال لهم أي للأصحاب : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : يا رسول الله هذا حري به إن دخل المجلس أن لا يوسع له ، وإن خطب أن لا يزوج ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . وسكت عليه الصلاة والسلام المربي الحكيم ، ومرّ آخر على غرار هذه الخشب المسندة التي تزحم مناكب الأرض اليوم ممن يصففون شعورهم ويلمعون وجوههم وأحذيتهم حتى يستوي الوجه والحذاء في اللمعان ، وممن تنتفخ أوداجهم ، ويضعون على جسومهم أغلى الثياب وأغلاها ثمناً ، فقال للأصحاب : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : هذا يا رسول الله حري إن دخل أن يوسع له ، وإن خطب أن يزوج وإن قال أن يسمع لقوله . وهنا جاء وقت الدرس ، فقال عليه الصلاة والسلام : ذاك الذي احتقرتموه خير من ملء الأرض من مثل هذا .
فالمدار ليس على المظاهر وليس على ما يجني الناس في هذه الدنيا من متاع ومن حطام يتقممه دون وعي ، لا يبالي أمن من حل أخذه أم من حرام جمعه ، والمدار ليس على مراكز تتاح لكثير من الناس من غير جدارة وعلى غير استحقاق ، وإنما بالملق والدهان ولا غير ، المدار على الفضائل الإنسانية وعلى طهارة القلب ، على المشاعر النبيلة التي هي تحدد قيم الناس وأقدار الناس .
بهذه النماذج المشنوءة في العين التي يزدريها الذين لا يعلمون فتح المسلمون الدنيا وأقاموا للفضائل سوقاً نافقة ، وحطموا الرذائل وأغلقوا أسواقها ، صعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على شجرة والنبي والأصحاب ينظرون ، وابن مسعود هذا الذي ملأ الخافقين علمه والذي سئل عنه علي كرّم الله وجهه فقال : كنيف ملئ علماً . ابن مسعود هذا لم يكن ذلك الرجل الضخم الجسيم الطويل العريض ، ولكن يكن ذلك الرجل الواسع النعمة ، وإنما كان رجلاً دقيقاً وصغيراً ، كان ساقه دقيقة ، فلما صعد وبدت ساقه ونظر الأصحاب إلى ساق عبد بن مسعود فتبسموا ، والتفت النبي عليه الصلاة والسلام قال : تضحكون من ساق ابن أم عبد والذي نفس محمد بيده لهي أثقل عند الله من جبل أحد .
وكيف ينسى الناس والمسلمون على وجه الخصوص أن هذه الساق هي التي حملت القدم التي وضعها ابن مسعود على عنق فرعون هذه الأمة أبي جهل عليه لعائن الله إلى يوم القيامة . وكيف ينسى الناس والمسلمون على وجه الخصوص أن قدم ابن مسعود يوم أن داست على عنق أبي جهل فإنما تعلن سيادة الحق على الباطل وعنفوان الإسلام على الجاهلية .
إن هذه الجاهلية هي التي نعاني منها اليوم ، والتي نتخبط فرائس ذليلة مسلوبة الإرادة بين براثينها ، وإلا فقولوا لي : أي إنسان يفهم عن الله معنى ما أراد في محكم كتابه ؟ وأي إنسان يفهم عن رسوله عليه الصلاة والسلام معنى ما أراد في سننه وفي تشاريعه ؟ أي إنسان يفهم ويقرأ ويسمع ويثق ويعتقد أن المسلمين أمة واحدة ثم يسمح بالتمزق ويسمح بالافتراق ؟ وأي إنسان يفهم صيحة محمد عليه السلام في آخر أيامه يوم كان يتهيأ للرحيل إلى الرفيق الأعلى في الجنة وهو يخاطب المسلمين : تعلمن يا أيها الناس أن كل مسلم أخو لكل مسلم . ثم يعمل إلى هذا العقد المقدس الذي عقده الله جل وعلا بيمينه من فوق سبع سماوات والذي سهر محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وعشرين سنة يصل الليل بالنهار ويصل النهار بالليل ليرسخ دعائمه ويثبت أركانه ويقوي آساسه ثم يعمد إلى هذه الأخوة فيوسعها تقطيعاً وتمزيقاً ؟ ألم تسمع الله يقول في سورة ( محمد ) : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) وافقهوا هذه الآية ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) فهذه الآية تقول لك أيها المسلم أمامك أمور ثلاث يتولد بعضها من بعض ، أما الأولى هي التولي ، والتولي هو الصد عن ذكر الله جل وعلا والإعراض عن هداية الله جل وعلا والمخالفة عن ما أمر الله به وأمر به رسول صلى الله عليه وسلم .(/3)
وأما الثانية فهي الإفساد في الأرض ، والنبي عليه الصلاة والسلام حدد معنى الإفساد في الأرض في ضوء مقررات القرآن فأعلن أن الإفساد في الأرض هو العمل بمعاصي الله جل وعلا . وأما الثالثة فهي تقطيع الأواصر والأرحام ، وهذا يعطيك أيها المسلم الضوء الكافي لو أن الله رزقك قدراً من الهداية يسوقك نحو مراشد الأمر ونحو الصواب من الأمر بيّن لك أن أساس الصلاة في عدم التولي عن ذكر الله جل علا أي في الدخول تحت طاعة الله في الدخول تحت الإسلام ( ولله من أسلم في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ) وأن هذا يتقاضاك لتكون بالحق والحقيقة مسلماً ينطبق عليك الوصف أن تسأل نفسك عند كل هم ونية : ماذا أردت بهذه النية ؟ أأردت وجه الله ؟ فإن كان ذلك الذي أردت عزمت وتوكلت على الله وأمضيت ، وإن كانت الأخرى لا قدر الله أمسكت واستغفرت ، وأن تسأل نفسك عند كل قول : أهذا القول الذي أريد به وجه الله جل وعلا والإصلاح بين الناس وأنا أعرف أن الله يقول ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) فإن كان ذلك كذلك قلت ولا حرج ورجوت بذلك وجه الله وحسن الثواب من عندك . وإن كان كلامك يؤدي إلى مشكلات تضر بك أو تلحق بالناس أضراراً أمسكت لكي لا تأتي يوم القيامة تحمل أوزارك وأوزاراً مع أوزارك ، وأين أنت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوصي معاذاً رضي الله عنه املك عليك هذا ويشير إلى لسانه ، فيقول معاذ : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أو نؤاخذ بما نقول ؟ فيقول له الرسول الحكيم الكريم : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم .
ولو أنك ذهبت تستقري وتتبع مشكلات الناس التي تكون وتترك وتهمل لتتراكم وتتعقد لوجدتها كلاماً في أصلها كلاماً من إنسان لا يراقب لسانه أفلتت منه لحظة وقعت من الآخر أو الآخرين موقعاً غير مرغوب فتولدت عنها مشكلات يُعرف لها أول وقلما يوقف لها على آخر ، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ يقول : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله جل وعلا يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى يهوي بها في النار سبعين خريفاً . ولو أنك أيها المسلم كنت رقيباً على نفسك قيماً عليها مدركاً لمعنى كلام عمر رضي الله عنه : من علم أن كلامه من عمله قل كلامه . لكان لك من لسانك موقف غير هذا الموقف ، ولو أنك يا أخي المسلم حينما أقدمت على العمل تساءلت : أأنا أريد الله بعملي هذا ؟ أأنا أرجو اليوم الآخر في عملي هذا أم أرجو غير ذلك ؟ فإن كان الذي تريد وجه الله أقدمت ولم تتردد ، وإن كان الأمر على خلاف ذلك أوقفتَ نفسك وقمعت رغبتك وأمسكت عن أن تخطو خطوة واحدة في طريق الشر والبواق .
لو أن أمر المسلمين كان كذلك لكان الناس بألف خير لا المسلمون وحسب ولكن دنيا جميعاً ، إن الدنيا هذه التي ترقص الآن على كف عفريت أي يرقص العفريت على أشلائها مهدداً بدمارها وفنائها ، لو أن قيادة الأمة وقيادة الدنيا كانت بيد الإسلام كما كانت في السابق لما تعقدت المشكلات على الصعيد العالمي ، ولو وجدت القوة الرادعة التي تريح على الناس الفضائل وتعمم بينهم الخير وتنشر فوق روؤسهم ألوية السلام والأمن والاطمئنان ، ولكن للأسف : الإسلام محسور ومهزوم ومطارد ، ويا ليت أن أعداء الإسلام أعداء هم من الصليبيين أم من الشيوعيين أم من اليهود إذاً لكان الأمر هيناً ، ولاستجاشت صراحة المعركة قوى الصدام في نفس الأمة ، ولكن للأسف ولا حول ولا قوة إلى بالله والله مستعان إنما نحن الذين نحطم الإسلام بأنفسنا ، علماؤنا ضلوا وذلوا ، والله يرحم الإمام محمد عبده مفتي الديار السابق فلقد كان في مرض موته وجاءه عواده وزواره يزورونه ويسألون عن حاله وقالوا له : كيف أنت . فقال بعد أن جلس :
ولست أبالي أن يقال محمد أبلّ ( أي شفي ) أو اكتظت عليه المآتم
ولكن ديناً أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ
إن علماء الإسلام أضاعوا أمانة الله في أعناقهم بتمسكهم بأذيال الحاكمين والطغاة الجبابرة الفاسدين المفسدين ، ويا ضيعة الإسلام والمسلمين عند علماء لا يتورّع أحدهم عن أن يسوي بين الحمار وبين أعلى مستويات بني آدم . ويا ضيعة الإسلام عند علماء يشهدون لأفسد الفاسدين وأفجر الفاجرين في بيوت الله وأمام الله وأمام بأنهم مثال التقوى ومثال الطهر والعفاف والأمانة والتسامي ومثال الشجاعة والإقدام ، والله يعلم والناس تعلم أم هؤلاء في الحرب دمى من كرتون تطير بنفخة ، وأنهم كالدجاجة قلب خرق وجسم منهار ، وأنهم ملوثون من قدمهم إلى فرعهم ، لا خلق ولا دين ولا تقى ولا ورع ولا شرف ولا فضل .(/4)
إذا كانت الأمانة عند علمائنا بهذا المستوى فمتى يستقيم أمر الناس ، ودعونا من العلماء فنحن على أي حال بفضل الله جل وعلا ليس لدينا علماء كما في الدين المسيحي حيث الرهبان يحللون ويحرمون ، فنحن نعرف من أوليات ديننا أن القول ما قال الله وما قاله رسوله وأن أي إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب القبر الساكن في المدينة المنورة عليه أفصل الصلاة والسلام ، وأننا نملك أن نمسك بأكبر رأس في الإسلام ونمرغه في الوحل حينما يشذ عن أمر الله وحينما يقول في دين الله ما لا تشهد له نصوص القرآن ونصوص السنة ، ولكن متى ؟ ها هنا السؤال وها هنا المشكلة ، إذا فسد علماؤنا وفسد حكامنا وشحّ أغنياؤنا وجشع فقراؤنا فالأمر خطير بلا شك ، ولكن إن هذا الإسلام وديعة عندك أيها المسلم ، وهو في نفس الوقت محنة وبلاء إن أنت وافيت كان لك الخير ، وإن خستَ بموعودك مع الله تعالى فالأمر هين ، أنت تذهب ودين الله يبقى ، والمسألة لا تكلف أكثر من أن ينقل مسؤولية هذا الخير من كتف أمة ثبت أنها ليست مستحقة لهذا الشرف إلى أمة أخرى ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) .
هذه هي المشكلة باختصار ولكنها هينة على اللسان وثقيلة على الميزان ، من هنا إلحاحنا المستمر الدائم على هذا الجيل الطالع من أبنائنا وإخواننا أن يعلموا أن المسألة إذا جردناها من كل حساب أُخروي ، نحن الآن لا نريد أن نتساءل عما أعد الله لك من الدرجات ومن جزيل الثواب ، نحن في حدود الدنيا وفي إطار الواقع المعاش ، ما الذي تنكره من الإسلام ؟ ما الذي يسوءك من الإسلام ؟ أيسوءك من الإسلام أن يوحد الله وأنت ترى نتائج عبودية الناس بعضهم لبعض ، دماءً تسفك بغير حساب وجسوماً تُذاب بالأسيد في أقبية السجون والمعتقلات ، وسياطاً كأذناب البقر تأكل ظهور الناس أكلاً ، وحريات تُكتب على الورق ، ولكن الذي يريد أن يشمها فعلاً يشم الموت الزءام ؟ أيسوءك من الإسلام توحيد الخالق وأنت ترى تشريك المخلوقين ؟ أيسوءك من الإسلام عفة اللسان وعفة الضمير وطهارة الفعل وأنت تئن تحت وطأة العواطف والغرائز الهابطة المنحرفة وانت ترى الواقع من حولك يمور موراً بالشر والفساد وبالبغي وبالعدوان ؟ ما الذي تنكره من الإسلام ؟ ما الذي يجعلك تتقهقر ؟ دعك من كل شيء ، وانظر في الحساب كما يحصد التاجر الجشع الشقي ترى أن الإسلام حاجة كأمسّ ما تكون الحاجة ، لك لكي تعيش مع نفسك بسلام ، لك ولإخوانك لكي تحكم العلاقة السليمة بينك وبين إخوانك ، لك ولأمتك لكي تنهي لعنة الفرقة التي جرأت عليك من لم يكن يحلم حتى في المنام أن يدوس أرضك وأن ينتهك عرضك .. وإذا كان هذا غائباً فيما مضى فإنه اليوم حاضر وعتيد ، يا ناس إن إسرائيل وغير إسرائيل لا تملك أن تفعل الذي تفعل وستفعل إلا بالشروط القائمة الآن ، ضمن شروط التجزئة والتمزق والحرب العقائدية الرديئة التي وضعت على الحدود إطاراً عقائدياً لا يمكن اختراقه ، أصبحت أمتنا ممزقة ودولاً صغيرة يفصل بينها خطوط زرقاء ، يا خيبتاه على هذه الأمة .
إنك حين تأخذ بتعاليم هذا سوف تقضي على الأغراب في هذه الأمة بلمحة عين ، وتقضي على هذه اللعنة ، لعنة التمزق والتفرق إلى دويلات التي يحافظ عليها أصحاب الأغراب والشهوات اليوم ليس لمصلحة الأمة قطعاً ولكن خدمة لجحافل التبشير والاستعمار واليهودية العالمية والشيوعية العالمية .
وإنك حين تأخذ الإسلام بجد فأنت تخدم البشرية ، لأن البشرية اليوم تعيش على رعب التدمير النووي ، وربّ حركة من إصبع مجنون تطلق القنابل ثائرة كالإعصار الذي لا يمسكه شيء لتأتي على الأخضر واليابس ، إن هؤلاء الناس لا يحسون أبداً بأمانة الإنسانية في أعناقهم ، لكنك أنت أيها المسلم صاحب غرض من هذا الوجود ، حامل الأمانة لهذه التكليفات ، أنت وحدك المرشح لأن تكون قيماً على كل هذه الأشياء ، لا أريد أن أذهب أكثر من هذا في رسم هذه اللوحة ، لكني أعود الآن القهقرى ..
أترك الساحة الإنسانية عموماً وأترك أمتنا العربية التي تعيش من المحيط إلى الخليج ، وأترك قطري الصغير لآتي إلى هذه الرقعة التي هي مدينتي ، إننا نعيش حالة لا أردأ منها ولا أسوء منها ، ولو نظرنا إلى العلل والأخطاء فنحن ضمن الإطار الذي تحدثنا فيه ، ضمن المفاهيم البالية التي قضى عليها الإسلام . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته يتراشق المسلمون والكافرون بالنبال والحراب قبل القتال بالسيوف والرماح وأطلق رجل من المسلمين فارسي الأصل حربته وقال خذها وأنا الغلام الفارسي ، وسمعها أذني رسول الله ، قال له : يا بني هلا قلت : خذها وأنا الغلام الأنصاري . ما الفائدة من الافتخار بفارس أو العرب أو الروم ؟ أليست بقايا من أمر الجاهلية ؟ بقايا من هذا السخف الذي جاء الإسلام ليحطمه ؟ بقايا من هذا الخطر الماحق الذي جاء الإسلام ليعلن أن دولته آذنت بالزوال .(/5)
وفي ماء من ماء المسلمين تزاحم غلام لعمر بن الخطاب وغلام رجل من الأنصار ، وصاح المهاجري : ياللمهاجرين . وصاح الأنصاري ياللأنصار . وسمع النبي عليه الصلاة والسلام وقال : دعوها فإنها منتنة .
وفي المدينة المنورة يجلس المسلمون وبعد أن منّ الله عليهم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم كإخوة يتحادثون ويضحكون ويذكرون ما كانوا عليه من أمر الجاهلية من الشر والهوان ، ويحمدون الله على أن أراحهم منها . ومر شاث بن قيس اليهودي وكان شيخاً قد عتى في اليهودية فرأى ما عليه المسلمون من ألفة واجتماع وقال : والله لئن اجتمع جمعهم فليس لنا بها من قرار . وجاء إلى غلام من اليهود يحفظ مقالة الأوس والخزرج من الأشعار في حرب بعاث وهي حرب كانت بين الحيين في الجاهلية وألغاها الإسلام ، وقال له : اذهب إلى ذلك الملأ فأنشدهم بعضاً مما قالوا في حروبهم . وذهب الغرم اليهودي ينشد وثارت النخوة الجاهلية في الرؤوس وكاد الإسلام يحني رأسه ، وكاد الإيمان ينحسر ويتراجع ، وثار الحيان وتواعدوا الحرّة لكي يقتتلوا ، وسمع رسول الله عليه الصلاة والسلام وجاء مغضباً يجر رداءه جراً كأنما فقئ في وجهه حب الرمان يقول : الله الله يا عباد الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ فما كانوا يسمعون كلام رسول الله حتى سقطت السيوف من أيديهم وعرف القوم أنها نزغة من نزغات عدوهم وأقبلوا يبكون ويتعانقون .
نحن لا ننكر على الإنسان شرط الإنسانية ، ولا ندعي أن الإنسان ملك من ملائكة الرحمن ، لا يعصي ولا يزل ولا ينحرف ، ولكنا نقول كما قال الله ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) الإنسان يخطئ وكل ابن آدم خطاء ، كلنا تحت الخطأ والصواب ، إن القضية فرق بين الإنسان المسلم والإنسان غير المسلم ، أو الإنسان المؤمن والإنسان المنافق ضعيف الإيمان ، أن المسلم إذا أخطأ يرجع ويتوب من قريب ويستغفر الله ويصلح ما أخطأ ، والإنسان المنافق تأخذه العزة بالإثم ويرى أنه حينما يسمع كلمة جارحة قد أهين إهانة لا يمحوها إلا الدم ، بل لا يغسلها دم إنسان واحد ، لا بد من دماء العديد على نحو ما كانت الجاهلية حينما كان يُقتل القتيل فيقال له : ذق بشعث كعب كليب ، أي أن الإنسان الذي قُتل لا يساوي أكثر من الخيط الذي كان كليب يربط به نعله .
وقد سوى الله من حيث القيمة ومن حيث التكريم بين أرواح الناس ودمائهم ، وجعل هذا الشعور البغيض المقيت بقية من أمر الجاهلية ويجب أن ينتهي . وفي بلدنا هذا نازع يقف وراءه عدد قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، وإنما يملي لهم في هذا الطريق الوبيئ سكوت ، ولو أن كل أحد أدرك واجبه حق الإدراك لحشى أفواه الناس بأحذيتهم ووقّفهم عند حدودهم لأنهم يلعبون بالنار . إن الأمر لم يعد أمر حزم ، وإن الاستعراضات التي حدثت أول أمس تحمل معنى الاستفزاز ، وأنا أقول بملء الفم وأرجو أن يبلغ هذا كل إنسان ، إن أشياء من هذا النوع ينبغي أن لا تكون ، ونحن نعيش على فوهة بركان فإن أي تصرف غير محسوب قد يؤدي إلى كوارث ودماء وإلى إزهاق أرواح أبرياء ، يا معشر السفهاء دعونا نعيش بهدوء ، إنك إن لم تتصرف تصرف أناس مسلمين ، فعلى الأقل تصرف تصرف الشرفاء . إن هذا واجب يجب أن يحمله كل إنسان ، إن علاقة الناس بعضهم ببعض مقدسة ، لا يقل أحد : عشيرتي وقومي ، إن عشيرتك وقومك لن تنفعك شيئاً ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) وإن الله تعالى أخبرك أن كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا إذا كانت مؤسسة على تقوى من الله جل وعلا إذ يقول ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) نحن لا نملك أبداً أن نسكت على هذه الظواهر ، ونهيب بكل عاقل في هذا البلد وبكل إنسان يستطيع أن يقدم لنا يد العون أن يضعوا وجائبهم نصب أعينهم . إن حياة الناس ليست ألعوبة بين أيدي السفهاء ، وإذا كان في هذه المدينة من لا يعرف أن يعيش إلا على المشاكل وإلا على الدماء فيجب أن يُفهم أنه صغير وأنه حقير وأن حياة الناس أعز وأمنع من أن ينالها هذا السفيه .
يا أخوتي هذا الكلام قلت مثله قبل اليوم ، وأرى اليوم أن أقول ، أرى أن أذكر من جديد ، إننا نعالج أمراً عظيماً جداً ، نعالج أمر الإسلام ، وقضينا عشرات السنين ونحن نعالج أمر الإسلام ، فإذا عجزنا على أن نتغلب على نوازع ذاتية وفردية كامنة في النفوس فنحن عن معالجة شؤون المجتمع أعجز ، ونحن عن حمل الرسالة الكبيرة أعجز ، ومع ذلك وبرغم كل المثبطات وبرغم كل ما في الجيب مما يدعو إلى اليأس وعدم الثقة بالنجاح والفلاح فنحن نلجأ جميعاً إلى الله ، إلى الله جل وعلا الذي بيده أن يغير الأحوال وأن يقلب القلوب على خوفه وأن يصرفنا في تقواه ، وأن يستعملنا في طاعته ، وأم يجعلنا خيّرين نافعين مسلمين حقاً .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .(/6)
حديث عام عن الوضع في المنطقة
28 جمادى الأول 1398 / 5 أيار 1978
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
كنت أريد اليوم أن أتحدث إليكم وفي نفس الوقت أن أصرف الحديث عنكم إلى غيركم ، كنت أريد أن أقف هذا اليوم وأنا أعلم أن كل كلمة تقال تصل إلى من يرغب في الاستماع إليها مستفيداً أو متغرّضاً ومبيّتاً نوايا السوء . يحسن بي قبل كل شيء أن أقول لكم بكل الصراحة الممكنة أنني لا أحرص على شيء ولا أرغب في شيء ، فمن أجل ذلك لست أبداً على استعداد لأن أغض الطرف عن معارك مفتعلة وضارة يبيّت لها أناس لا خلاق لهم ولا ضمير عندهم ولا دين ولا شرف ، ويقيناً فإنني لم أغيّر نية الحديث عنها إلا وأنا أخط أواخر هذه الخطوات إلى المنبر ، إنني أتصور أن من واجبي أن أعطي هؤلاء الناس فرصة يراجعون فيها أنفسهم ، ولا أقول : يصلحون ما أفسدوا . لأن الأمور بلغت مستقرها ، وما يقدره الله تعالى فهو كائن لا محالة .
إن الغرور داء قتّال ، وأسوء مرض يصيب الإنسان هو أن ينسى نفسه وأن يتجاهل قدره وأن يعدو طوره ، إن عقوبة محتّمة تظل تطارد وباستمرار كل أولئك الذين يغادرون أرضهم بغير حق ، لأن هذا غلط ، ولأن سنن الحياة تأبى الغلط . ولقد ابتلينا بشراذم أملى لها الغرور ما أملى فصوّر لها أنها أكبر من حجمها ، وذلك خطر عليها ، لقد أردت أن أمنح هؤلاء الناس فرصة ، يراجعون أنفسهم فيها ، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات . يتصور هؤلاء الإخوة أنهم أذكياء وهم في الحقيقة أغبياء ، ويتصور هؤلاء الإخوة أنهم شجعان وهم في الحقيقة جبناء ، ويتصور هؤلاء الإخوة أنهم أقوياء وهم في الحقيقة ضعفاء ، ورداء السلطة لن يخلق من القزم عملاقاً بحال من الأحوال .
إنني لم أكن غافلاً عن هذه الحركة اللعينة التي دارت في البلد خلال الأسبوعين أو الثلاثة التي مضت ، لم أكن غافلاً عن هذا . وكنت أرى وأسمع وأتألم لهبوط الخلق وللحطة الدنيئة التي تُصور لكثير من الناس في ظروف شاذة غير طبيعية أنهم يستطيعون أن يلونوا الأمور كما يشاءون . لهؤلاء أقول : هذا غلط .
في الأونة الأخيرة جرى خلط كثير ومتعمد وتشويه للحقائق ومحاولة مبيتة لأحداث بلبلة لا ضرورة إليها ، ولا تدعو إليها إلا سخائم النفوس وأحقاد الصدور . بصراحة فأنا أحب أن أقول لهؤلاء الإخوة : إنكم لم تفاجئوني بشيء ، يوم كان أكبركم سناً ملفوفاً في القماط على ذراعي أمه ، كنت أنا في هذا الطريق ، ويوم كان المتوسطون منكم نطفة في علم الله ، كنت أنا في هذا الطريق ، وشاء الله العظيم أن يزيل الغشاوة وأن يذهب العيب وأن يرد العقل العازب بظرف طارئ فكشفت الحقيقة التي ظللت منذ ذلك التاريخ وإلى الآن أرددها بصورة مستمرة : إنني ليس فقط أرتاب وأتهم كل أولئك الذين يروّجون لهذه الدعوات الجديدة التي تضغط على عقول الناس وعلى مشاعر الناس ، لا ، الأمر عندي ليس موضوع ريبة ، ولا موضوع اتهام ، إنني أدين وأجرّم هؤلاء الناس ، ولمن شاء من هؤلاء الإخوة ممن بقيت عنده بقية من حس وإدراك ووفاء ولو بعض الشيء لهذه الأمة حاضراً ومستقبلاً أن يرجع إلى محاضر جلسات المجلس التأسيسي في هذا القطر لعام 1958 ، ليرى ماذا قيل وماذا كان يدبر لهذا الدين .
وهذه المحاضر منشورة في الجريدة الرسمية ، تفقأ عيون الصبية والأوغاد والأوباش الذي يظنون أن رداء السلطة يمكن أن يُحلّهم من كل مسوؤلية ، لا ، أنتم واهمون يا إخوة نحن هنا في هذا البلد وفي ريفه وقراه ، اذكروا أننا نعيش حياة منسجمة لا طوائف ولا نزعات ولا شيء من هذا القبيل فلا تعكروا حياة الناس ، واذكروا أيضاً أننا أبناء بلد واحد ، كل واحد منا يعرف الآخر ، ويميناً محسوباً علي إن شاء الله لئن صدرت إساءة لألحقن صاحبها ولو تعلق في الثريا ، ولأطاردنه في أركان الأرض الأربعة ، لا ، إنني لا أقبل العبث ولا أقبل أن تختلط الأمور ولا أقبل أن تشوه الحقائق .
كما لا أقبل في نفس الوقت أن يُروّج لهذه الأمور الخطرة موظف سارق ومرتشي محمي بالسلطة ، وإنسان سكير يشرب الخمر مساء الخميس ويحضر الجمعة ظهر الجمعة ، وإنسان ساقط يأتي مطروداً لحادث أخلاقي من محافظة أخرى إلى هذا البلد ، لا أقبل هذه الأمور من هؤلاء الناس ، أنا أعرفهم وأمنحهم الفرصة لكي يراجعوا أنفسهم ، ووالله لئن لم يراجعوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله كما قلت لأطاردنهم في أي مكان ، ولأفضحهن فضيحة يستحون معها أن يظهروا أمام الناس . كفى كفى ، نحن لا نقبل أن يمد أحد لسانه على الإسلام ، ولئن فعل أحد لأقطعن لسانه قطعاً . أنا أدري منذ أكثر من شهر كيف كانت عناصر ساقطة منحطة رديئة تحرّض صبية من فلول الشيوعين في هذا البلد لتنثر الشكوك حول الإسلام ، أدري بذلك ، وأنا أدري أن أناساً يلقوننا بالبسمات ، يدبرون للإسلام المكائد ، من كان منهم يظن أنه سينجو بلا عقوبة فهو واهم .(/1)
قلت وأكرر : إن رداء السلطة لا يحمي أحداً ، إن الذي يحمي الإنسان خلقه وشرفه ودينه ، وأولاً وآخراً نحن أبناء بلد واحد ، كل منا يعرف الآخر ، وكل منا يضع الآخر في حجمه وفي مقداره ، وليرجع هؤلاء ، ليرجعوا عناصر تافهة ، ولا يحاولوا أن يتعدوا طورهم ، إنهم بذلك يفقدون أرضهم ويتعرضون للعقوبة ، والدنيا دول والأيام ثارات ، وأخشى ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي يعاقب فيه هؤلاء عقوبة قطاع الطرق ، فتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . إننا يا أحباب ندافع عن قضية لا ندّخر من أجلها وسعاً ، ولا نخشى في سبيلها إلا الله ، ويقيناً أنا أعرف ماذا يُراد ، وأن أعرف مرامي ومآلات هذا الكلام الذي يتردد في الخفاء ، والذي يتسرب على موائد السكر والعربدة ، وعلى موائد الفجور والمجون ، أعرف ذلك . يراد أن يقال أن فلاناً الذي هو أنا يتحدث بلسان جماعة ما ، ويراد أن يقال أن ظرفاً طارئاً حصل في المنطقة ساعد على نمو التيار الإسلامي . والأمران وهم ، فأنا أكبر من أن أتحدث بلسان أحد ، وأنا على الأقل عند نفسي أكبر من أن يحتويني أحد ، ولم يحدث بتاتاً أي ظرف جديد أدى إلى نمو التيار الإسلامي ، لأن هذا البلد مسلم ، وليس عندنا غير مسلم حتى هم للأسف الشديد ، وإنما أمنحهم فرصة لأنني أتصور بأنهم مغلوبون بالشهوة والتغرير ، حتى هم مسلمون . فهذا البلد مسلم ، رضي هؤلاء الناس أم كرهوا ، غضبوا أم رضوا ، ذلك لن يغيّر من الحقيقة شيئاً وهو أننا في بلد مسلم . وإذا كان يخطر في بال أحد من الناس أنه سوف يأتي اليوم الذي أخضع فيه للتهديد وأخضع فيه لهذه المحاولات فهذا خطأ ، ليطمئن هؤلاء ، لأنني أتمتع برأس أمتن من الصخر ، فلا يمكن أن يستفزّني هؤلاء الناس لأسقط في بؤرة الخوف ، بتاتاً .
إنني أعلم أن كلامي يضايقهم ، لأنه منطق ، ولأنه حجة وعقل ، وهم لا منطق ولا حجة ولا عقل ، وأنهم يتمنون بجدع الأنف أن أسكت ، وبالله أقسم جاهداً أنني لو وجدت من يقوم هذا المقام ويقف هذا الموقف ما عنيّت نفسي ، لا جبناً ولا خوفاً ، ولا دفاعاً عن شيء ، لأنه ليس لدي شيء أدافع عنه ، ولكن يشهد الله ، ولا تزعلوا ، لأنني مللت صحبتكم ، لأنني أدعو الله في الليل والنهار أن يريحني منكم ، وأن يريحكم مني ، إنني أعرف أنني أجدف ضد التيار وهذا ليس بحزن ، وأعرف أنني أتحدث إليكم من الجانب الثاني للجبل ، فأنتم لا تسمعون إلا همهمة ودمدمة لا تكادون تتبيّنونها ، وأعرف مدى السقوط التي تورطت به أمتي وشعبي وأهلي ، وأعرف أن عشرات السنين لا بد أن تمر قبل أن يتراجع الناس شيئاً فشيئاً ، إنني أعرف وتعرفون أن الحجر حينما يرمى من عالٍ يظل يهوي بقوة هذا الاندفاع لا يقفه شيء إلا أن يرتطم في الأرض ، وأن أمتنا منذ زمن بعيد غاية البعد سقطت بين براثن التخلف والانحطاط ، ومنذ زمن بعيد جداً فإن المعركة على الساحة الإسلامية مستعرة ، وبالتحديد أقول : منذ غصب معاوية بن أبي سفيان الخلافة وافتأت على إرادة الأمة ، ثم لم يكتفِ بهذا بل أحالها ملكاً عضوضاً ، وأبرز واقعة اجتماعية على الساحة الإسلامية هو هذا الصراع الذي يستعلن حيناً ويستمر حيناً بين الإسلام الخالص المنقى المبرأ من الشوائب وبين رغبات السلطة ، ذلك مفهوم منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم والمحاولات تبذل من أجل تطويع الإسلام ، ومن أجل احتواء الإسلام ، ولربما وُجد بين الآن والآن ضعيف الإيمان ومهترء شخصية وقابل للاستئجار يرضى بأن يتحدث بلسان الطغاة ، ولكن الأمة تعرفه وهو يعرف نفسه ، والذين استأجروه من أسياده يعرفونه تافهاً لا يصلح لشيء ، لأنه لو كان يصلح لشيء لصلح لنفسه ، وقد سفه نفسه وباعها منذ أن رضي أن يحني رأسه لهم .(/2)
ذلك واقع مشهود ، ولكن نحن لا نملك هذا ، لا نملك إلا أن نُسلك في زمرة الخونة ، ويبدو أننا بحكم النشأة والتركيب لم نهيّأ لنكون خونة ، ولا نصلح إلا أن نكون سلعة تباع وتشرى ، ويبدو أن الله جبلنا من طينة لا تنفق في سوق النفاق وسوق التهريج . إنني لا أغفل عن هذه الواقعة ، ولكني أريد أن يُفهم بصراحة وبوضوح ، لكل عصر علامات ، ولكل مرحلة سمات ، مضى زمن كان الناس ينامون على الضيم ويسامون الخسف والهوان ، وإذا ذُكر السلطان ردد الجميع ببلاهة : حفظ الله مولانا السلطان . ذلك عصر مضى ، وما نحن ببدع من الأمم ، والرياح التي تهب حديثاً تقول غير هذا الكلام ، إن ما يحصل الآن أن المسلمين يتيقظون ، لا في أوطانهم فحسب وإنما في كل مكان ، وإنما يحدث الآن واقعة تستحق التأمل ، وتستدعي مزيداً من الانتباه ، منذ عام 1860 أي منذ بدء الهجمة التبشيرية التي سبقت الغزو النصراني ، والنصرانية مدعومة بكل القوى تهجم بصورة وحشية على جسم الإنسان ، والإسلام ـ كما بدا للناس في ذلك الحين ـ جثة مائتة لا يضرها شيء أن تمزق قطعاً قطعاً ، وبالفعل حصل ذلك ، وانتهش الأعداء أرض الإسلام من كل جانب ، وبدا في لحظات ما أن الغلبة كُتبت بالنصرانية على الإسلام ، وسقطت عن الوجوه أقنعة كانت تتملق الإسلام وتداريه ، حتى أن نابليون حين غزا مصر أعلن إسلامه طمعاً في تملق عواطف المسلمين ، لكنه بعد اشتداد الهجمة وبعد ترسخ أقدام التبشير والاستعمار شعر هؤلاء أنه لم يبقَ لديهم ما يدفعهم إلى مزيد من التمسك بهذا الموقف ، فأسقطوا الأقنعة عن وجوههم ، وحيثما ذهبت وأنى قرأت في كتاب أو صحيفة وحيثما سمعت محاضرة أو حديثاً فأنت تسمع نغماً واحداً يتردد ، إن غرض الإنسان الأوروبي هو أن ينقذ المسلمين من الجهل والتخلف بانتزاعهم من بيئتهم الإسلامية وجوّهم القرآني ووضعهم ضمن البيئة والمفاهيم المسيحية البيزنطية .
ومضى هذا الوقت وانقضت هذه الفترة وأصبحت كلاماً يُقرأ في التاريخ ، لا أثر له في الواقع إطلاقاً ، وتبدى لهؤلاء الناس من جديد أنهم على حد ما قال الشاعر :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ
إن الروؤس التي نطحت جدار الإسلام لم تأخذ منه شيئاً ، ولكنها تحطمت ، وفجأة تحرك العملاق فإذا الإسلام يأخذ طريقه في قبائل وثنية في أفريقيا ، وفي أستراليا وفي شرق وجنوب شرق أسيا ، ثم لا يقف الأمر عندها ، وتتصاعد الشكاوى إن الإسلام ينتشر لأنه يبيح للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء ، وإن الإسلام ينتشر لأنه دين العنف والهمجية والدم والوحشية ، وتنقضي هذه النغمة أيضاً ، وتبطل مقولة أن الإسلام لا يجري إلا بين القبائل البدائية التي لم تحصل على رصيد من الثقافة ، ويفتح هؤلاء السادة أعينهم فإذا الإسلام يهدد معاقلهم في عقر دورهم ، في أواسط العوالم الأوروبية والأمريكية ، لندن باريس روما برلين نيويورك واشنطن ، أينما ذهبت يتحرك الإسلام بلا مرشدين بلا موجهين بلا قادة ، ولكنه يستثمر هذا الفشل الذريع ، هذا الإفلاس الكامل الذي تعانيه حضارة اليوم ، فإذا كان الإسلام يحقق انتصاراته على هذا النحو في مناطق تعدّ هي أرقى ما وصلت إليه الحضارة وبلغه العلم والعرفان في إنسانية اليوم ، فإنني أظن صادقاً وأميناً غاية الأمانة أن الذين يتصورون أنهم يمكن أن يحطموا الإسلام ، وأقول لهم : من الذي يخطر له أنه يمكن أن يتخلى عن الإسلام ، هل في المسلمين أحد يمكن أن يساوم على إسلامه ؟ لا أتصور ذلك ، حتى أفسق الفاسقين وحتى أفجر الفاجرين ، لوصلت إلى اللحم الحي لثار وتحرك ، لا يمكن أن يرضى أحد من المسلمين أن يتخلى عن هذا الإسلام .
ولكن للأسف نعيش مرحلة لعل مناسباً أن أعطيكم بعض ملامحها ، قُضي أن نكون ضمن العالم المتخلف ، سياسياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً ، وقُضي لأمر يريده الله أن يأتي التمرد على العالم القديم من روسيا القيصرية ، وروسيا القيصرية دولة مشهورة باستبدادها وبتسلطها وبإرهابها وبعدم إقامتها أي وزن ، لا للأرواح ولا للأموال ولا للكرامات . وقامت ثورة الشيوعين عام 17 ، ولم يستطع الروس رغم تخليهم عن النظام القيصري ، وأخذهم بالنهج البلشفيكي أن يتخلوا عن النهج القيصري الاستبدادي البغيض ، للأسف ولسوء حظ الإنسانية وسوء طالعها يأتي الانتقاض على العالم القديم من هذه البيئة التي تجر وراءها تاريخاً مثقلاً بالاستبداد والظلم والوحشية ، ويشبه أن يكون من سوء الحظ أيضاً أن يكون ذلك في وقت غفوة ونومة بالنسبة للمسلمين ، وأن يستيقظ المسلمون ليروا صراعاً بين كتلتين كبيرتين ، كتلة جربوها وعرفوها ، استعماراً سافراً رأيناه وعايشناه وعرفنا كيف يعتدي على الحرمات ، وكيف يدوس المقدسات ، وكيف يريق الدماء ، وكيف يمتص الخيرات ، وكيف يذل الناس إذلالاً لا إذلال من بعده ، استعمار عرفه الناس .(/3)
وكتلة أخرى لا تجربة لنا معها ، وتنادي بمبادئ إنسانية خلابة براقة ، وليس مما يدخل في طاقتنا كأفراد أن نُقنع الناس جميعاً أن كلا الكتلتين على خطأ ، وأن كل الكتلتين تحمل من بذور الدمار في المستقبل ، كمثل الذي تحمله الأخرى حذو النعل بالنعل ، لم يكن ذلك في طاقتنا ، ومنذ عام خمسين وإلى الآن وأنا أحد الناس الذين بُحّت أصواتهم وهم يقولون دائماً وأبداً : يا ناس ليس ضرورياً ولا حتمياً أن نكون تبعاً للغرب ، وبنفس القدر ليس ضرورياً ولا حتمياً أن نكون تبعاً للشرق ، نحن أمة كاملة متكاملة من حيث التعداد كعرب مائة وثلاثون أو مائة وأربعون مليوناً من البشر ، أي أننا من حيث التعداد نساوي فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، وكمسلمين نحن مليار ، أي أننا بالضبط ربع عدد سكان الكرة الأرضية تماماً ، فنحن أمة كاملة ومتكاملة ، ولمصلحتنا ولمصلحة الجنس البشري فإن النغم المخيف يجب أن يبطل ، ويجب أن يتوقف الترويج بيننا للشرق أو للغرب ، لأن ذلك يجر وراءه دماراً كبيراً ، وشقاءً طويلاً لنا وللإنسانية عامة ، وإن أفضل شيء نصنعه بأنفسنا وللناس هو أن نلتفت إلى أنفسنا .
نحن منذ فواتح القرن ننادي بوحدة عربية ، وللأسف الشديد في الوقت الذي كان الرجل من بلدكم من هنا يذهب موظفاً إلى اليمن الجنوبي ، ثم يعود من حيث النتيجة إلى بلده ، أصبحنا الآن وإذا نحن إذا أردنا أن نتجاوز حدود سوريا إلى العراق مطالبون بأن نبرز جواز سفر ، ومطالبون بأن نقف عند السيطرة ، وإذا فعل الفاعل مثل ذلك من العراق ، إلى هنا اقتديد إلى دير الزور ، ووقف على الحدود مدة طويلة ، وطولب بأن يبرز جواز سفر ، وإذا أردت أن تذهب إلى السعودية مثلاًَ فأنت محتاج ليس فقط إلى جواز سفر ولكن بطاقة زيارة ، لا بد أن يستدعيك ، أنت أجنبي ، أتدركون خبالاً كهذا الخبال ؟ أتتصورون سفاهة كهذه السفاهة ؟ نحن الآن دول ، كل دولة لا تقبل أن يدخل المواطن من قطر آخر إليها إلا بجواز سفر وبعد إجراءات طويلة وبعد إذلال وإهانة ، بينما يسير الإنسان الأوروبي في قسمه الغربي من غرب المانش وإلى أن يصل برلين ، لا يسأله إنسان عن شيء ، ومن السويد في الشمال إلى إيطاليا واليونان في الجنوب لا يسأله أحد عن شيء ، ونحن إذ انتقلنا من بلد عربي إلى بلد عربي يقال لنا : أين جواز السفر أنتم أجانب ؟ وإذا نقلت المسألة إلى ميدان العالم الإسلامي فالجرح أعمق والمشكلة أعقد ، لماذا ؟ لماذا ؟ لأننا رضينا منذ البداية أن نجعل لأنفسنا مثلاً ، منا من يجعل مثله في العالم الغربي ، وما من يجعل مثله في العالم الشرقي، ولعل هؤلاء لهم السيطرة ولهم السلطان ، والاستعارة والترقيع يا إخوان عملية لها منطق ، أنت حينما تستعير من العالم الشرقي نظامه الاشتراكي ، فأنت بكل أسف مضطر إلى أن تتبنى أيضاً أساليبه القيصرية البربرية الهمجية ، هذه الواقعة الاجتماعي التي نعيشها واقعة مؤسفة ، ولكنها موجودة ، ونحن كمسلمين لا نستطيع أبداً أن نقرّ ذلك ، ونصرّ باستمرار على أن يتذكر إخوتنا مما لا يدينون معنا بنفس طريقنا ولا يشاركوننا وفاءنا لإسلامنا ولقرآننا ولنبينا ، نريد لهم أن يتذكروا باستمرار أنهم يعيشون مسلمين بين مسلمين وفي بلاد إسلامية .
المآسي والمهازل التي تمثل في موسكو أو في بكين أو في هافانا لا يمكن أن تمثل عندنا ، لا ، من كان يملي له الوهم في ذلك فلينزع ذلك من ذهنه ، نحن هنا مسلمون ، والذين يريدون أن يغضبوا من ذلك ، فلينشقوا غيظاً ، لا يمكن أبداً أن تكون هذه الساحة إلا للإسلام ، لأنه لا يوجد بيننا حتى هؤلاء الفسقة الذين تحدثت عنهم ، لا يمكن أن يرضوا أن ينسلخوا عن الإسلام .(/4)
هذه كلمة أحببت أن أقولها الآن ، يشبه أن تكون تحذيراً للمستقبل ، وعندي غيرها ، وأقول بصدق وبكل قوة عندي غيرها ، لئن لم يرعوي هؤلاء الناس ولهم عندي سامعون الآن فسأسمي الأشياء بمسمياتها ، وسأضع النقاط على الحروف ، وسوف أكشف الجهات غير الإسلامية التي تعبث هذا العبث المخيف الخطر الذي سينصب من حيث النتيجة على راحة المواطن وعلى أمن المواطن في هذا البلد ، لا يتصورنّ أحد أن العبث بالإسلام يمكن أن يمضي ، أنا أعرف ما يدور في المدارس ، وما يتحدث عنه التقدميون جداً ، الذين يعبّر عنهم معبّرهم بأنهم تقدميون لأنهم يقولون وهم واقفون ، ولأنهم يسبون الدين ولأنهم يشربون الخمر ، لا يتوهمنّ هؤلاء أننا لا نعرف ما يجول ، ومن حيث النتيجة فالذي يمدّ لسانه على الإسلام سأقطعه قطعاً ، وسوف أستلّه من حلقه ، والذين يريدون أن يسيئوا للإسلام لأقلعنّ عيونهم تقليعاً ، يخطئ من يظن أن الإسلام فريسة سهلة ، الإسلام أقوى من ذلك وأمنع من ذلك ، وإلى هؤلاء الإخوة أقول : اضربوا بغير هذا الضرس ، وخيّطوا بغير هذه المسلّة ، إن هذه البضاعة التي تروجونها كاسدة ، وأنا أمنحكم فرصة لكي تراجعوا أنفسكم ولكي تثوبوا إلى رشدكم ، واسمعوها مني ، كلمة إنسان شفيق عليكم ، حريص عليكم ، عانى مثل الذي عانيتم ، وجرّب مثل الذي جرّبتم قبل أن تولدوا ، ثم شاء له أن تسقط الغشاوة عن عينيه ، إنني أمنحكم نفس الفرصة التي منحها الله لي ، وكل ما أدعوكم إليه أن تتركوا رعونة الأخلاق ، وأن تحاولوا استعمال العقل ، نحن ليس لدينا شيء نختلف عليه ، ويقيناً نحن لا نزاحمكم على شيء على الإطلاق ، إن الذي قلته بلساني وكتبته بيدي عام 67 أثناء التحقيقات التي جرت معي تم اعتقالي أقوله الآن وأقوله إلى زمن طويل إننا لا نريد السلطة ولو تقدمت إلينا على طبق من ذهب لا نريدها لأننا لا نملك أن نعرض التجربة الإسلامية للخطر إن السلطة عمل طبيعي للتطور اجتماعي طويل وأما أن يتصور هؤلاء الناس أن الإسلام يقبل التآمر ويقبل الاغتيالات ويقبل الانقلابات ويقبل استخدام السلطة المسلحة لإكراه الناس على الإسلام فهذا خطأ ومن كان يفكر في هذا فهو واهم ، ومراراً وقفت هنا لأحول دون نمو تيارات ضارة من هذا النوع إن طمعي ليس في السلطة إن طمعي في عقولكم وطمعي في قلوبكم ويوم نكون جميعاً مسلمين فالأمر لا يحتاج إلى عملية قيصرية إن السلطة ستكون موضوعاًَ طبيعياًَ سليماً نتيجة إلى تطور إسلامي سليم يجعل الحكم بشريعة الله أمراً لا مناص منه هذه حقائق تسجل علينا دونتها بيدي وهي موجودة في محاضر رسمية الآن وأقولها الآن لكي أبطل هذه الشباك الخطرة التي تريد أن تلوث أناساً لا مكان لهم وتريد أن تجر إلى ساحة الإتهام أناساً لا يعرفون عن المسألة شيء أن وأنا وحدي الذي يحمل مسؤولية كل شيء أن وأنا وحدي منذ ثلاثة وثلاثين سنة في هذا البلد وفي سواه أتحدث عن الإسلام وأعمل للإسلام وسأتحدث عنه وسأعمل له وسوف أجول القرى وسوف أزور الأرياف وسوف أحدث الناس عن الإسلام وسوف أحثهم على التمسك بالإسلام وسوف أحذرهم من أعداءالإسلام وتستطيع كلاب البوليس أن تركض ورائي من قرية إلى قرية أنا وحدي أتحمل هذا ، أما أن يأتي أناس سفهاء بلا أخلاق وبلا دين وبلا شرف يريدون أن يموهوا الأمور وأن يشوهوا الصورة فهذا ما لا أقبله بحال من الأحوال ولا أرضاه ، وأعلن أني سأعاقب الذين يفعلون هذا الفعل أما كيف أعاقبه فذلك موكول علمه إلى الله تعالى أرجو يا إخوة أن يكون كلامي هذا قد بلغ مبلغه من عقول هؤلاء الناس وقلوبهم وأرجو أن لا يطروني إلى أن أنشر بالكامل صفحات يحرصون هم على أن تبقى طي الكتمان ، إنني أساعدهم على الستر ، وأساعدهم على كتمان ما لا يليق ، لأنني لا أحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، لكنهم إذا اضطروني فسوف أفعل ، إنني عشت حياتي كلها للعدل فلا يمكن أن أقبل الظلم ، إن كلامي الذي أقوله هنا لا يُسئل أحد عنه سواي ، كلامي وأنا المسؤول عنه حرفاً حرفاً وجملة جملة ، وأما أن يتوهم أحد أنني أعبر عن أحد فهذا خطأ ، وأما أن يتوهم أحد أن ظروفاً طارئة هيئت للمسلمين أن يكون لهم دور في هذا البلد فهذا خطأ ، الإسلام هنا قبلي وقبلهم وسيبقى بعدي وبعدهم ، إنما أرجوه هو أن تبلغ هذه الكلمة هذه العقول وأن لا يدفعوني إلى أن أتخذ موقفاً أشد وما أرجوه أبداً .(/5)
بالنسبة لكم أنتم مع مللي منكم والله ومع قرفي الشديد ومع أنني تعبت إلى ما لا نهاية ومع أنني أتمنى على الله أن يريحكم مني ويريحني منكم بأسرع وقت ممكن ، مع ذلك أريد أن أقول لكم كلمة من كان منكم يظن أنه يعيش ظروفاً طبيعية فهو مخطئ ، إننا نعيش حالة معركة بكل ما في المعركة من معنى ، نعيشها على الصعيد المحلي ونعيشها على الصعيد العالمي ، والمعركة مهما تتبدل أثوابها ومهما تتغير ميادينها ومهما تختلف وجوهها فإنها تنحل إلى حقيقة واحدة وهي أنها صراع بين الإسلام بحيث هو إسلام وبين كل جاهلية سواء كانت سجوداً لصنم أو عبادة لشجر أو عبادة لبقر أو عبادة لمبدء أو تبعية للزعيم .
إن المعركة هي هذه ومخطئ من يخدع نفسه ومخطئ من يوهم نفسه بغير هذا الشيء ، فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك بكل تأكيد فإن واجبكم الديني واجبكم الإسلامي يحتم عليكم أن تستجيشوا كل طاقة موجودة عندكم لكي تكونوا آذاناً واعية وآذاناً مفتحة على تحركات العدو وعلى ألاعيب الخصم كي لا تُؤخذوا على غرة، فإذا كان لا بد أن تموتوا فمرحباً بلقاء الله وقدره ولتموتوا كراماً وأنتم تدافعون على أشرف قضية وعن أقدس قضية . أما أن تُؤخذوا كما تُؤخذ النعاج من القطيع فتذبحوا ذبحاً فذلك لا يليق . إنها فكرة أرجو أن تبلغ مستقرها كما أرجو أن تترك أثرها ، وإنها لكلمة آمل مخلصاً من جذر قلبي من أعمق أعماقي أن لا أضطر الآن إلى تكرارها وإلى العودة إليها بحال من الأحوال ، إني ماضٍ في هذا الطريق وكما قلت لكم هنا وإذا هيأ الله في كل مكان لن أدع مكاناً في الريف وفي القرى إلا سأذهب إليه مبشراً بكلمة الله داعياً إلى صراط الله العزيز الحميد وليركض ورائي من يشاء فما أنا بالذي يجامل وبالذي يداول ، ولِكُن معلوماً أنني وحدي وعلى كتفي تقع مسؤولية هذا كله ، لا يحاول أحد أن يورط الآخرين في شيء لا ناقة لهم فيه ولا جمل . من أراد أن يحاسب فأهلاً وسهلاً وليتفضل فليحاسبني وأنا واثق من نتيجة الحساب . وإذا سلمت لي صفيحتي مع الله تعالى فكل شيء بعد ذلك هين . وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/6)
حديث مثل القائم على حدود الله- دراسة لغوية
عبد الآخر حماد 8/9/1424
02/11/2003
الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد
فهذه دراسة موجزة حول الجوانب اللغوية في حديث ( مثل القائم على حدود الله) ،قصدت فيها بيان بعض ما يتعلق بهذا الحديث الشريف من الجوانب البلاغية والنحوية وغيرها مما يتعلق بالدراسات اللغوية ،وقد قدمت لذلك بإيراد نص الحديث وتخريجه تخريجاً مختصراً وبيان معناه الإجمالي ،ثم شرحت بعض مفرادته ثم ذكرت بعض ما فيه من الجوانب النحوية ،ثم بينت ما فيه من الجوانب البلاغية ،أسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق آمين.
أولاً: مقدمات
1- نص الحديث الشريف
روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه:( باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه ) من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا ،كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ،فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ،فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ ،مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ،فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا ،وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا،فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا،وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ).
2- تخريج مختصر للحديث
الحديث أخرجه البخاري كما مر في كتاب الشركة (2493 ) ،وأخرجه أيضاً في كتاب الشهادات،باب القرعة في المشكلات (2686) ،بلفظ:(مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها...)وأخرجه الترمذي في الفتن(2173) وأحمد (4/268)،وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/91)، (10/288)،وفي شعب الإيمان (7576) (6/91-92).
وأخرجه ابن حبان[(297)(1/532)-إحسان)]وفي[(298)(1/533-534)] بلفظ : (المداهن في حدود الله والراكب حدود الله والآمر بها والناهي عنها كمثل قوم استهموا...) ،وفي [(301)(1/537)] بلفظ: (مثل المداهن في حدود الله والآمر بها والناهي عنها كمثل قوم استهموا سفينة ...).
3- شرح إجمالي للحديث
هذا مثل عظيم يُشبه فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حال الناس وموقفهم مما يكون في المجتمع من منكرات بحال قوم ركبوا سفينة فاقتسموا أماكنهم فيها بطريق القرعة ،فكان من نصيب بعضهم الجزء الأعلى من السفينة ،وكان من نصيب الآخرين الجزء الأسفل منها ، وكان لابد لأهل السفل من الماء فكانوا يصعدون لأعلى السفينة ليستقوا الماء ،ولما كان ممرهم على أهل العلو فقد تأذوا بهم ؛إذ ربما أصابهم شيء من رشاش الماء أو أُقلقوا وقت راحتهم أو غير ذلك ، فلما رأى أهل السفل تأذي أهل العلو بهم عزموا على أن ينقبوا في نصيبهم نقباً يحصلون منه على الماء دون الحاجة إلى إيذاء من فوقهم ،ولم يدر هؤلاء أن هذا الخرق الصغير سيؤدي إن تُرك إلى هلاك الجميع ويكون معنى (أصغر خرق) هو -كما قال مصطفى صادق الرافعي - أوسع قبر.[ وحي القلم:3/8]
ويبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الأمر لا يخلو حينئذ من إحدى نتيجتين: إما أن يقوم أهل العلو بواجبهم في منع هذه الكارثة فينجو الجميع ،وإما أن يتركوهم وشأنهم بدعوى أن هذا نصيبهم يفعلون فيه ما يشاءون وحينئذ تكون النتيجة الحتمية هي هلاك الجميع.
والحديث الشريف يبين أنه هكذا تكون حال الناس في المجتمع فإنه لا يخلو مجتمع من بعض صور المنكر والفساد التي يقدم عليها ضعاف الإيمان ،وقد يلتمس بعضهم لنفسه مبرراً في ما يفعل كأن يقول هذه حرية شخصية ،وأنا حر أصنع في ملكي ما أشاء ،فإن قام أهل الرشد بواجبهم في إنكار هذه المنكرات والأخذ على أيدي الظالمين صلح المجتمع ونجا الجميع من غضب الله عز وجل ،وأما إن تقاعسوا عن هذا الواجب وغلبت كلمة المداهنين فإن العقوبة الإلهية تعم الجميع ،وتلك سنة إلهية لا تتغير؛قال الحافظ: (( وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه ،وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها )) [ فتح الباري :5/296]،ومصداق ذلك قوله تعالى :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) [ الأنفال :25] ، وقوله صلى الله عليه وسلم :( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب )(1).
ثانياً : الدراسة اللغوية
1- معاني المفردات(2)
المثَل والِمْثل والمثيل : واحد ومعناه الشبيه .
حدود الله : المراد بالحدود هنا ما نهى الله عنه ،وأصل الحد في اللغة المنع والفصل بين الشيئين ،ومنه حد الدار وهو ما يمنع الغير من الدخول فيها، والحداد الحاجب والبواب.
المدهن : من الإدهان وهو المصانعة والمحاباة في غير حق ، ومنه قوله عز وجل : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) [القلم :9] .(/1)
استهموا : اقترعوا ،والسهم في الأصل واحد السهام التي يضرب بها في الميسر وهي القداح ،ثم أطلق على ما يأخذه الفائز في الميسر ، ثم كثر حتى سمي كل نصيب سهماً.
خرقنا في نصيبنا خرقاً: الخرق هو الشق أو الثقب.
ينقر : من النقر وهو الحفر سواء كان في الخشب أوالحجر أو نحوهما، ونقر الطائر الشيء ثقبه بالمنقار.
أخذوا على أيديهم : أي منعوهم.
2- مسائل نحوية
من المسائل النحوية التي يمكن الوقوف عندها في هذا الحديث ما يلي:
1- قوله : ( مَثَلُ ) مرفوع بالابتداء ،وأما الخبر فإننا إذا اعتبرنا الكاف في قوله: (كمثل ) اسماً فإنها تكون هي الخبر ،وأما إذا اعتبرناها حرفاً فإن الخبر يكون محذوفاً تقديره مستقر أو موجود ،وذلك مثل ما قيل في إعراب قوله تعالى: ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ) فقد ذكر القرطبي في تفسيره (1 / 211) أنه يمكن أن يكون الخبر في الكاف فهي اسم كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوى شطط ... ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
أراد مثل الطعن ،قال : (( ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره : مثَلُهم مستقر كمَثَل ،فالكاف على هذا حرف)) .
وقال العكبري في إعراب القرآن: (1/20 ) : (( والكاف يجوز أن يكون حرف جر فيتعلق بمحذوف ويجوز أن يكون اسما بمعنى مثل فلا يتعلق بشيء )).
2- قوله: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ): أسلوب شرط جوابه محذوف تقديره : لكان خيراً أو نحو ذلك ،أو يكون قولهم ( لم نؤذ)هو الجواب، وتكون الواو زائدة.
وذلك كما قيل في قوله تعالى: (ولما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ( يوسف:15)، فقد ذكروا أن جواب لما محذوف تقديره ( فعلوا به ما فعلوا ) ، وقيل إن الجواب ( أوحينا ) والواو مقحمة ، ومثله قوله تعالى: ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) ( الصافات :102-103) ، أي ( ناديناه ).[فتح القدير للشوكاني: 3/10]
3- قوله :(فإن يتركوهم): إن شرطية جوابها هلكوا ،وضمير الرفع (الواو ) عائد على أهل العلو في السفينة ،وضمير النصب (هم ) عائد على أهل السفل.
4- قوله: ( وما أرادوا )،الواو بمعنى مع،و(ما)مصدرية أو موصولة ،فعلى الأول يكون المعنى : (وإرادتهم ) ، وعلى الثاني يكون المعنى: ( والذي أرادوا ).
4- قوله: (هلكوا جميعاً )،الواو في (هلكوا ) تعود على الفريقين معاً ،و(جميعاً) حال.
5-قوله ( نجوا ونجوا جميعاً ) ،الواو في (نجوا ) الأولى عائد على الآخذين ، وفي نجوا (الثانية ) عائد على المأخوذين ،كذا قال الكرماني(3) ،وذكر العيني أن الذي في الثانية عائد على الفريقين معاً(4).
6-قوله في كتاب الشهادات :(فكان الذي في أسفلها يمرون )،وكذا ما جاء في بعض الروايات في كتاب الشركة ( فكان الذي في أسفلها إذا استقوا مروا)،فيه إشكال من حيث أن قوله: (الذي ) مفرد ،فكيف قال في شأنه يمرون أو مروا ،ولم يقل يمر أو مر ؟ ويمكن أن يجاب عن ذلك بأحد الأجوبة التالية:
1- أن يقال إن (الذي ) يقع عند بعض العرب للواحد والجمع ؛أي تكون بمعنى: من وما فيعود الضمير إليه تارة بلفظ المفرد وتارة بلفظ الجمع ، قال القرطبي: (( قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ واحد ،كما قال الشاعر:
هم القوم كل القوم يا أم خالد ... ...
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
وقيل في قول الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) ،إنه بهذه اللغة ، وكذلك قوله:(مثلهم كمثل الذي ) قيل المعنى كمثل الذين استوقدوا ،ولذلك قال وذهب الله بنورهم ،فحمل أول الكلام على الواحد وآخره على الجمع) [تفسير القرطبي : 1/211].
2- أن يقال إن الذي هنا مخففة من الذين ،وقد قال الزمخشري ما حاصله أن الذي لكونه اسم موصول يحتاج إليه في وصف كل معرفة بجملة ،ويتكاثر وقوعه في كلامهم فإنه يقبل التخفيف ،فكذا يقبل جمعه (الذين ) التخفيف ،كما أن الياء والنون في (الذين)، ليستا كالياء والنون في جمع المذكر السالم في قوة الدلالة على الجمع ،لذا ساغ حذغها ولم يمتنع كما هو الحال في جمع المذكر السالم وأشباهه .[الكشاف :1/196]
3- غير أنه يمكن توجيه قوله (الذي ) في الحديث الذي بين أيدينا توجيهاً آخر ،وهو أن تكون (الذي )هنا صفة لموصوف مفرد اللفظ ،ولكنه جمعٌ في المعنى وذلك كلفظ (الجمع ) فكأنه قال : (فكان الجمع الذي في أسفلها يمرون )فلما اعتبر لفظه وصف بالذي ، ولما اعتبر معناه أعيد عليه ضمير الجماعة ،أفاد ذلك صاحب المصابيح ،وقال فيما نقله عنه القسطلاني في شرحه على صحيح البخاري: (( وهو أولى من أن يجعل الذي مخففاً من الذين بحذف النون ))(5).
3- نظرات بلاغية(/2)
لا يخفى أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً ،فقد كان كلامه كما قال الجاحظ : ((هو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه وجل عن الصنعة ونُزه عن التكلف ... فكيف وقد عاب التشديق وجانب أصحاب التعقيب ،واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر،وهجر الغريب الحوشي ورغب عن الهجين السوقي... لم تسقط له كلمة ولا زلت له قدم ،ولا بارت له حجة ،ولم يقم له خصم ،ولا أفحمه خطيب ...ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً،ولا أصدق لفظاً ،ولا أعدل وزناً ،ولا أجمل مذهباً ،ولا أكرم مطلباً ،ولا أحسن موقعاً ،ولا أسهل مخرجاً ولا أفصح عن معناه ،ولا أبين عن فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم ))(6).
ووصف الرافعي رحمه الله كلامه صلى الله عليه وسلم من الناحية البيانية بأنه: (( حسن المعرِض، بيِّن الجملة ،واضح التفصيل ،ظاهر الحدود،جيد الرصف(7) ،متمكن المعنى ،واسع الحيلة في تصريفه ،بديع الإشارة ،غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهاً، ولا ترى اضطراباً ،ولا خطلاً(8) ،ولا استعانة من عجز،ولا توسعاً من ضيق ،ولا ضعفاً في وجه من الوجوه ))(9).
وقد حق علينا أن ننظر في هذا الحديث الشريف من الناحية البلاغية ، لنحاول أن نكشف بحول الله عن بعض ما تضمنه من جوانب البلاغة الراقية التي تعجز عن أن تدانيها فصاحة الفصحاء وبلاغة البلغاء.
وسوف ننهج في هذا المضمار نهج علماء البلاغة في تقسيمهم إياها إلى ثلاثة فروع : المعاني والبديع والبيان، حيث نذكر ما في الحديث من هذه العلوم الثلاثة.
أولاً :المعاني
الأسلوب في هذا الحديث أسلوب خبري يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بحال الناس ،ويشبههم براكبي سفينة ،غير أن هذا الأسلوب الخبري قد خرج على خلاف مقتضى الظاهر ،فليس المراد من الخبر هنا مجرد إفادة السامع بالخبر،ولا إفادته أن المتكلم عالم بالخبر،وإنما الغرض منه الحث وتحريك الهمة نحو القيام بواجب الأمر والنهي.
ثانياً :البديع
في الحديث من المحسنات المعنوية :الطباق في جمعه بين (القائم )و(الواقع) ،وبين:(أعلاها) و(أسفلها) ،وبين:(هلكوا )و(نجوا).
والطباق هنا من نوع طباق الإيجاب،وهو الذي يُعرِّفه البلاغيون بأنه ما جُمع فيه بين الشيء وضده ؛فالقائم ضد الواقع ،والأعلى ضد الأسفل ،والهلكة ضد النجاة.
وليس من شك في أن هذا الطباق قد أبرز المعنى وزاده وضوحاً ،فإن الضد -كما يقولون –يُظهر حسنَه الضد،ويزيد من حسنه أنه أتى في كلامه صلى الله عليه وسلم عفواً لا يحس المرء فيه شيئاً من التكلف المذموم ،فإنَّ تكلف المحسنات البديعية وتعمدها مما يفقد الكلام سلاسته ويحبس المعاني والأفكار.
ثالثاً: البيان
اشتمل الحديث من الصور البيانية على ما يلي :
1-الاستعارة في قوله: (القائم على حدود الله ) ،وهي استعارة مكنية ،شبهت فيها المعاصي بوهدة من الأرض محدودة بحدود وحولها رجال يحرسونها،ويمنعون الناس من الوقوع فيها ،ثم حذف المشبه به وأتى بلازمة من لوازمه وهي الحدود.
ونفس الشيء يقال في قوله :(الواقع فيها).
وهذا تعبير يوحي بمدى الهوة السحيقة التي يهوي إليها أصحاب المنكر المخالفين لأمر الله ،ومدى خطورة الواجب الملقى على عاتق المصلحين في الأمة فهم حراس الفضيلة القائمون على حدود بئر الرذيلة ،مانعين الناس من التساقط فيها.
2- الكناية في قوله صلى الله عليه وسلم :( أخذوا على أيديهم ) ، فإن الأخذ على اليد كناية عن استعمال الشدة والقوة ،والتعبير بعلى يفيد الاستعلاء والفوقية ،كما ذكر الحافظ ابن حجر في حديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )(10)، حيث قال: (( قوله (تأخذ فوق يديه) كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول ،وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة ))(11).
3-التشبيه التمثيلي في قوله :( مثل القائم على حدود الله ...) إلخ ،وهو تشبيه معقول بمحسوس ؛شبهت فيه الهيئة الحاصلة من قيام المسلمين بواجبهم في تغيير المنكر بالهيئة الحاصلة من قيام أهل السفينة بمنع من يريد خرقها من الإقدام على ما يريد ،كما شبهت الهيئة الحاصلة من التقاعس عن تغيير المنكر بحال أهل السفينة إن تركوا من يريد خرقها يفعل ما يشاء.
ووجه الشبه هنا صورة منتزعة من متعدد؛وهي منتزعة في الحالة الأولى من هيئة النجاة المترتبة على قيام قوم بما يجب عليهم،وفي الحالة الثانية من هيئة الهلاك الناجم عن تقصيرهم في ما يجب عليهم؛فكما أن أهل السفينة سينجون إن أخذوا على يد من يريد خرقها، فإن النجاة ستكون مصير الجميع في مجتمع يأخذ أهله على يد العابثين ،وكما أن الغرق سيكون مصير أهل السفينة إن تركوا مريد الخرق يفعل ما يريد فإن مجتمع المداهنين الساكتين عن أهل المنكر سيؤول إلى هلاك محتم.(/3)
ومن أجل هذا قلنا إن هذا التشبيه هو من نوع تشبيه التمثيل ،وذلك جرياً على اصطلاح جمهور البلاغيين الذين يرون أن التشبيه التمثيلي ما كان وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدد(12).
مظاهر البلاغة النبوية في هذا التشبيه
نظراً لأن التشبيه هو عمدة البلاغة في هذا الحديث الشريف فقد رأيت أن أخصه بشيء من التفصيل أبدأ فيه ببيان أهمية المثل وقيمته البلاغية بصفة عامة ،ثم أشير إلى القيمة الجمالية لهذا المثل النبوي الشريف ،وما فيه من ملامح بلاغة أبلغ البلغاء صلى الله عليه وسلم.
أ- القيمة الجمالية للمثل بصفة عامة :
إن المثل بما فيه من مسحة جمالية يمتع نفوس السامعين ويدفع عنها السآمة والملل ،ولا شك أن ذلك أدعى إلى قبول ما يلقيه المتكلم والتأثر به ؛فالنفس البشرية مفطورة على حب الجمال والميل إليه،والمثل (( يمتاز بخلا بته ورشاقة موقعه في النفس وطرافته التي تتجدد ولا تبلى مما ترى أثره يبرق في وجوه السامعين ونظراتهم وثغورهم ... قال ابن المقفع : إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث ،وقال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام :إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية ))(13).
وقال عبد القاهر الجرجاني :(( واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة ،وكسبها منقبة ،ورفع من أقدارها ،وشب من نارها ،وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ،ودعا القلوب إليها ،واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً ،وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفاً،فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم ... ،وإن كان ذماً كان مسه أوجع ،وميسمه ألذع ووقعه أشد وحده أحد، وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور وسلطانه أقهر وبيانه أبهر ... ،وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب ،وللقلوب أخلب ،وللسخائم أسل ...،وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر ،وأدعى إلى لفكر ،وأبلغ في التنبيه والزجر،وأجدر بأن يجلي الغيابة ويبصر الغاية ويبريء العليل ويشفي الغليل ))(14).
وإنما كان الأمر كذلك لأن أنس النفوس موقوف كما يقول الجرجاني : (( على أن تخرجها من خفي إلى جلي ،وتأتيها بتصريح بعد مكني ،وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم ،وثقتها به في المعرفة أحكم ،نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس ،وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع ؛لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام ،وبلوغ الثقة فيه غاية التمام ،كما قالوا : ( ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين ) ،فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس أعني الأنس من جهة الاستحكام والقوة ،وضرب آخر من الأنس وهو ما يوجبه تقدم الألف كما قيل : ما القلب إلا للحبيب الأول ))(15).
وفي أدبنا المعاصر استعمل شوقي طريقة الأمثلة القصصية في شعره ،فكان يكتب للأطفال الحكايات على ألسنة الحيوانات والطيور ولما سئل عن سبب ذلك قال : (( لأن الأمثلة وحدها بدون حكاية عبارة جافة سرعان ما تنسى ،كما أنها لا تثير الاهتمام ،أما الحكاية فهي تستثير اهتمام الطفل لمتابعة حوادثها حتى النهاية ،وبالتالي لفهم العظة الأخلاقية التي هي هدف القصيدة ويقتنع بها ))(16).
وفي المثل كما يقول التربويون شحذ لذهن المتلقي واسترضاء لذكائه ،ودفع له إلى التأمل والتفكير في ما بين المشبه والمشبه به من أوجه الشبه ،وفيه تعويد له على التفكير السليم بربط الأسباب بمسبباتها والنتائج بمقدماتها.
ومن أجل هذه الفوائد وغيرها كان من نهج القرآن الكريم في الدعوة ضرب الأمثلة إرشاداً وتوجيهاً إلى الحق حتى بلغت أمثلة القرآن بضعة وأربعين مثلاً كلها في بيان الحق والحث على الخير والزجر عن الباطل .
وكذلك كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يضرب الأمثال ويشبه الشيء بالشيء ترغيباً وترهيباً ودعوة إلى الله سبحانه ،ومن ذلك هذا المثل الذي بين أيدينا.
ب- القيمة الجمالية لهذا المثل النبوي :(/4)
لقد زاد هذا التشبيه المعنى المراد وضوحاً وجمالاً ؛إذ إنه شبه الأمر المعقول وهو حال الناس في المجتمعات بأمر محسوس وهو حال قوم ركبوا سفينة على الطريقة التي وصفهم بها الحديث الشريف وهو حال (( من الجلاء والبديهة العقلية والمسلمة الفطرية ما ما يجعله بعيداً عن الجدال ،أو التوقف فيه ،وهذا ما يجعل إقامته مقام المشبه به –حال الدنيا ومن فيها- علائق ومسؤولية ،حقاً وواجباً أمراً يستوجب التسليم المطلق بأن حكم العقل على حال الدنيا ومن فيها حكم السفينة وأهلها :علائق ومسؤولية وحقاً وواجباً وأن التوقف في ذلك خطيئة عملية تقذف بصاحبها خارج أفق الإنسانية ،فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ... قد أقام الحجة على كل ذي عقل أن صلاح المرء في نفسه غير كاف ،بل فريضة عليه أن يكون صالحاً وأن يكون مصلحاً ما حوله )).[فقه تغيير المنكر للدكتور محمود توفيق محمد سعد ص: 44-45،سلسلة كتاب الأمة].
ثم إن الحديث لم يكتفِ بإعطاء السامع تشبيهاً مجرداً ،ولكنه جاء به في قالب أقرب ما يكون إلى هيئة القصة التمثيلية،وإن الناظر إلى هذا المثل يجده مليئاً بالحركة والحيوية والمشاهد المتتابعة ؛فهاهم القوم مقبلون على ركوب سفينتهم ،وهاهم يقتسمون أماكنهم فيها بالقرعة،حتى إذا ما استقروا فيها بدا لنا مشهد آخر فيه يظهر أهل السُفل متجهين إلى أعلى السفينة يحملون الماء ثم يعودون به إلى أماكنهم، ثم يبدو لنا مشهد أهل العلو وقد تأففوا مما أصابهم من مرور القوم عليهم ،فهم يعلنون ضيقهم وتبرمهم بالأمر،وأنهم لن يتركوا أهل السفل يلحقون الأذى بهم ،ثم يظهر لنا مشهد بعض أهل السفل وقد حملوا فؤوسهم معلنين أنهم وقد تأذى بهم أهل العلو فليس أمامهم من سبيل سوى أن يخرقوا في نصيبهم خرقاً يستقون منه ،ويكون المشهد الختامي نهاية مفتوحة على أحد احتمالين : فإما أن يقوم أهل الحزم والعزم بواجبهم فيمنعوا القوم مما أرادوه من خرق السفينة فينجوا الجميع ،وإما أن يتركوهم وشأنهم فتكون الهلكة العامة.
وتصوير الأمر بهذه الصورة البديعة يترك في نفس السامع ولا شك أثراً حياً يدرك به كيف يتطور أمر المنكر في المجتمع فهو يبدأ صغيراً كخرق يسير ثم لا يزال يتسع إن لم يتداركه أهل الحكمة حتى تصعب السيطرة عليه ،وإن ذلك ليوحي للسامع بأهمية الأخذ على أيدي العابثين والقيام على حدود الله ،ويجعله مستحضراً لتلك النتائج الرهيبة المترتبة على التقاعس عن أمر الله ،والمداهنة في حدوده سبحانه.
ج - اتساق التشبيه مع الغرض الذي سيق من أجله :
من جوانب البلاغة في هذا التشبيه اتساقه مع الغرض الذي سيق من أجله ؛ فإن تشبيه حال الناس في المجتمع بحال قوم قد ركبوا سفينة ،يتفق غاية الاتفاق مع الغرض الذي سيق لأجله التشبيه وهو بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة التغاضي عن أصحاب المعاصي والمنكرات؛إذ إن السفينة وهي في عرض البحر عرضة لمخاطر جمة من الأمواج المتلاطمة والمياه المغرقة وكائنات البحر المفترسة ،وكل ذلك مما يبين خطورة السكوت على عبث من أراد خرقها، وأن المجتمعات عرضة لمخاطر لا تقل عن تلك التي يتعرض لها ركاب سفينة في عرض البحر،وكما أن أخطاء البعض في السفينة يمكن أن تودي بحياة جميع ركابها،كذلك يمكن أن تودي خطايا بعض الأفراد بخراب مجتمع بأسره.
د- الدقة في اختيار عناصر المشبه به :
من الملاحظ في هذا الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار عناصر المشبه به بدقة تامة بحيث لا يمكن أن نصل إلى المعنى المقصود بنفس هذه الدرجة من الوضوح لو اختير للتشبيه عناصر أخرى غيرها ،وعناصر المشبه به في هذا التشبيه تنحصر في السفينة والماء والقوم الذين في السفينة.
1- فاختيار البحر أو النهر مكاناً للصورة التي يراد التشبيه بها ،يوحي كما أسلفنا بعظم المخاطر التي تتعرض لها السفينة من الأمواج المتلاطمة والكائنات البحر المفترسة إضافة لما يمكن أن يترتب على خرق السفينة من غرق كل من فيها.
2- وفي اختيار السفينة محلاً لأولئك القوم بيان للخطر العظيم المترتب على فشو المعاصي في المجتمعات ،لأن من يقوم بخرق السفينة لن يهلك نفسه فقط بل سيهلك الكل معه ،ثم إن السفينة كانت من عهد نوح عليه السلام سبيل السلامة ورمز النجاة،حتى إنها لتعبر في الرؤيا بالنجاة ،واختيارها ليُشبَّه بها المجتمع في هذا المثل يوحي للمتأمل بعظم الجرم الذي يرتكبه أصحاب المعاصي والمنكرات،وهل من جرم أكبر من جرم من أراد أن يحيل رمز النجاة ووسيلة الخلاص إلى وسيلةٍ للموت والهلاك ؟(/5)
3- ثم إن اختيار النوعيات البشرية التي ذكرت في جانب المشبه به يعبر أصدق تعبير عن أصناف الناس في هذه الحياة الدنيا،فأولئك الذين يريدون أن يخرقوا السفينة بدعوى أنهم إنما يحفرون في نصيبهم هم أشبه شيء بأولئك العابثين الذين يتعللون بقضية الحريات الشخصية لإفساد الأمة ،ولا يزال أحدهم -كما يقول الرافعي رحمه الله -: (( ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه أي بقلمه ،زاعماً أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء،ويتولاه كيف أراد ،موجهاً لحماقته وجوهاً من المعاذير والحجج من المدنية والفلسفة ... وكما أن لفظة الخرق يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والإهلاك، فكلمة الفلسفة يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة،وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد،وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه الفأس ،والكاتب من معانيه المخرِّب،والكتابة من معانيها الخيانة ))(17).
ويشير أهل العلو في المثل المضروب إلى بقية أفراد المجتمع الذين لا يأتون المنكر ولكنهم قد ياخذون على يدي فاعله وقد يسكتون عنه،وهذا بين واضح في كل المجتمعات ،لكن رواية البخاري في الشهادات تشير إلى صنف آخر هم المدهنون أي الذين يداهنون أهل الباطل ،ومنهم من يدعو لتركهم يفعلون ما يشاؤن بدعوى أنهم يمارسون حقهم في نصيبهم ؛كما في رواية عند أحمد ( فقال بعضهم : إنما يخرق في نصيبه ) ،وعند الحميدي: ( فقال بعضهم :اتركوه أبعده الله يخرق في حقه ما يشاء ) ،بل إن منهم من يحرضهم على فعل منكراتهم كما في رواية ابن حبان : ( فقال من ناوأه من السفهاء : افعل )،وفي هذا كله إشارة واضحة إلى تلك الفئة التي لا يخلو منها مجتمع والتي تنكر على من أراد القيام بواجب الأمر والنهي ،وتدعو لترك أهل المعاصي وشأنهم بدعوى الحرية الشخصية واستناداً لتلك المقالة الإبليسية : ( إنما يخرق في نصيبه) .
والمقصود أن دقة الاختيار تتجلى في شمول الحديث برواياته المتعددة لكل أصناف الناس في المجتمع ،ما بين فاعلٍ للمنكر ،وناهٍ عنه ،ومن يقف موقفاً سلبياً منه،ومن يدعو لتركه وشأنه أو يحرضه على فعله .
هـ - الدقة في اختيار الألفاظ :
وذلك أنه لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي لا ينطق عن الهوى ،وقد أوتي جوامع الكلم ،فإن من سمات حديثه صلى الله عليه وسلم الدقة واختيار اللفظ المناسب في موضعه بحيث لا ترى في كلامه (( حرفاً مضطرباً ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه ،ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتياً لسره في الاستعمال ))(18).
وإن هذا الأمر ليتجلى في اختياره صلى الله عليه وسلم للألفاظ التي وصف بها أهل السفينة ،فقد جاءت تلك الألفاظ مطابقةً لحال الناس حتى في ما لا يتعلق تعلقاً مباشراً بالقضية الرئيسة التي هي موضع عناية الحدي
#
فمن ذلك مثلاً قوله (استهموا ) : فإنه لو اكتفى بذكر ركوبهم في السفينة لما أضر ذلك بالمعنى المقصود وهو أهمية الأخذ على أيدي العابثين ،لكن ذكر الاستهام يدل على أن مواضع القوم في السفينة إنما جاءت على وفق الحق والعدل ،ففي عرف الشرع أن القرعة عند الاحتياج إليها وسيلة من وسائل إقامة الحق وإشاعة العدل ،وعليه فليس لأهل السفل أن يبدوا امتعاضهم من كون نصيبهم قد جاء في أسفل السفينة ،فكأن الحديث يشير إلى أن اقتسام الحظوظ في هذه الدنيا إنما هو بعدل الله وحكمته،وعلى المرء أن يسعى ويجتهد ثم ليرضَ بعد ذلك بما قدره الله له من متاع هذه الحياة ،وليس له إن قُدر عليه رزقه أن يعترض على قدر الله ،أو أن يبيح لنفسه ارتكاب ما حرم الله بدعوى أنه وقد حُرم مما أوتي غيره فله أن يصل إلى مثل ما فيه هذا الغير ولو بالطرق المحرمة الممنوعة.
#
وإذا كان قوله (استهموا ) يشير كما أسلفنا إلى أن الوضع في السفينة بدأ بالقسمة العادلة ،فإن ذلك يعني أن محاولة الإفساد هي محاولة طارئة لا أصلية ،وذلك يخدم قضية إيمانية أخرى ،وهي أن الأصل في البشرية كان التوحيد والصلاح ،وأن الشرك والفساد طارئان عليها ،فلم تبدأ البشرية بالوثنية وتعدد الآلهة كما يزعم أصحاب نظرية الطوطم ،بل بدأت بالتوحيد على عهد آدم عليه السلام واستمر الأمر على ذلك زمناً حتى طرأ الشرك والفساد.
#(/6)
وفي الحديث أيضاً أن تأذي أهل العلو من مرور أهل السفل عليهم كان من الأمور التي حملتهم على خرق السفينة؛ ففي رواية الترمذي ( فقال الذين في أعلاها :لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا )،وعند البخاري في الشهادات (قال: تأذيتم بي ولابد لي من الماء)،وفي هذا إشارة إلى صنف من أرباب الجرائم لا يكون الواحد منهم شريراً بطبعه ،أو قد يكون ممن تتنازعه دوافع الخير ودوافع الشر،فربما رجَّح جانبَ الشر عنده تصرفٌ غير رشيد من بعض مَن حوله،وهذا وإن لم يكن مانعاً من الأخذ على يديه ومنعه من فعل الشر ،فإنه يلفت النظر إلى خطورة ما قد يبدو من البعض من تصرفات متعمدة أو غير متعمدة تدفع غيرهم إلى الوقوع في المعاصي والذنوب ،وعليه فالمؤمن الحق يحرص على أن يعين غيره على فعل الخير فإن لم يفعل فلا أقل من أن لا يكون دافعاً له إلى الشر والله تعالى أعلم .
#
وفي قوله حكاية عن أهل السفل : ( لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا)، إشارة إلى صنف من الناس يبررون ارتكابهم لما يخالف الشرع بنبل مقصدهم وسموهدفهم ،والحديث يرد هذا التفكير السقيم ؛فهو يوضح أنه مهما تعلل أولئك القوم بأن مقصدهم من خرق السفينة هو دفع الأذى عمن فوقهم فإن ذلك ليس مصحِحاً لعملهم،ولا مانعاً من اعتباره منكراً يجب تغييره.
والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً ،كما بين ذلك الفضيل بن عياض في معنى قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) ( الملك :2) ،وقال رحمه الله:(( فالخالص أن يكون لله ،والصواب أن يكون على السنة ،ثم قرأ قوله : (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)...))(19).
ذلك أن العمل لا يكون حسناً حتى تكون نية صاحبه خالصة لله عز وجل ،ويكون مع ذلك موافقاً للشريعة الغراء،ومتى فقد أحد هذين الشرطين فهو باطل مردود ،(( فالعمل المتفق ظاهره مع الشرع إذا كان صاحبه مرائياً أو منافقاً يحبط أجره ،والقصد الصالح إذا لم يجر في طريقه الذي رسمه الدين فلا قيمة له ولا يلتفت إليه))(20).
و- صفة العموم في هذا التشبيه :
وذلك أن الدارس للتشبيهات التي توجد في أمثلة الشعوب وآدابها، سيجدها ولاشك معبرة عن زمانها وبيئتها التي قيلت فيها ،بينما نجد الأمر على خلاف ذلك في تشبيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة،فهي تتسم بالعمومية بحيث لا يجد السامع في أي عصر وأي مصر كبير عناء في فهم المثل ومعرفة المقصود منه .
ولا غرو في ذلك فإنه لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً للناس كافة ،وكانت رسالته هي الرسالة الخاتمة المخاطَب بها الناس كلهم إلى يوم الدين ،فقد انبنى على ذلك أن يكون الخطاب فيها متصفاً بصفة العموم حتى يمكن للكل فهمه ومعرفة المقصود منه.
وفي هذا الحديث نلمح صفة العمومية في اختياره صلى الله عليه وسلم لعناصر المشبه به ،فهي الماء والسفينة وأهل السفينة ،وهي عناصر يستوي في إدراكها كل الناس حتى الذين يعيشون في بيئة لا بحار فيها ولا أنهار،وهي أمور لازمة للبشرية في كل عصورها مهما تقدمت علومها وازدهرت حضارتها .
بل إن جُل من خوطبوا بهذا المثل لأول مرة كانوا من أهل البر الذين لم يعتادوا ركوب البحر ،بل هو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يركب سفينة قط.
ثم إن كون أهل السفل في المثل المضروب أرادوا خرق السفينة ليستقوا يدل على أن السفينة كانت تجري بهم في نهر عذب الماء ،وهو ما لا وجود له في جزيرة العرب بالكلية.
ومعنى ذلك أن التشبيه لم يكن مستمداً من البيئة التي كان يعيش فيها النبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا يؤكد ما أسلفناه من وجود صفة العموم في هذا المثل العظيم.
هذا والله تعالى أعلم ،والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(1) أخرجه أبو داود (4338) والترمذي (2168) ، (3057) وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه (4005)،وأحمد (1/2،5،7،9) ،وابن حبان (304،305- إحسان ) ، وأبو يعلى (128،131) ، الطبراني في الأوسط (1886) والحميدي في مسنده (3) ،كلهم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ،والحديث صححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1564) .
(2) منتخب من كلام أهل اللغة وشراح الحديث .
(3) شرح الكرماني ( 11/58).
(4) عمدة القاري (13/57).
(5) إرشاد الساري (4/288).
(6) البيان والتبيين (2/44) .
(7) الرصف: الشد والضم ،والمعنى أن كلامه صلى الله عليه وسلم حسن التركيب،قد ضُمَّ بعضه إلى بعض بحكمة وإتقان.
(8) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب.
(9) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص: 325.
(10) أخرجه البخاري (2465)،(6229) ومسلم (2121) وأبو داود (4815) من حديث أنس.
(11) فتح الباري (5/98).
(12)انظر الإيضاح للقزويني (2/371-373)،ومعجم المصلحات البلاغية لأحمد مطلوب ص:333.
(13) تذكرة الدعاة للبهي الخولي ص :68.
(14) أسرار البلاغة : ص 92-96.
(15) المصدر السابق ص : 102 .
(16) فن الخطابة لدايل كارنيجي ص : 132.
(17) وحي القلم للرافعي ( 3/7-9) .(/7)
(18) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص :325.
(19) انظر إعلام الموقعين للإمام ابن القيم (2/169-170).
(20) عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي ص: 72.(/8)
حديث مع الشباب
المحتويات
مقدمة
لا زلت مسلماً
كن من أهل العافية
لا تحتقر المعصية
إياك وإضلال الناس
لماذا هذه الحواجز
ساهم معنا في المسيرة
حين تكون مع أصحابك
لمن تمنح ولاءك
مواهبك وقدراتك
من الضحية ؟
اجعله همًّا
إنما أعظكم بواحدة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد- أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فمن يتأمل في واقع الشباب الآن يدرك أن هناك شرخاً عظيماً وانصداعاً في هذا الكيان المهم من كيانات الأمة والركن الركين من أركان المجتمع ودعاماتها، والأمم و المجتمعات إنما تقوم بشبابها وتعقد آمالها عليهم وعندما تتحدث عن الانحراف في واقع الشباب فلست بحاجة إلى إيراد الأدلة على هذه الدعوى . فالجميع يسلم لك بذلك ،ولا أظن أحداً يخالف في هذه البدهية، ومن الترف الفكري وإضاعة الوقت والسعي إلى إثباتها ، ولكن القضية التي قد يقع حولها الخلاف هي التعامل مع هذا الواقع ، إن الجميع يتفقون على أن هذا الواقع واقع غير شرعي ، وعلى أن هذا الواقع يحتاج إلى تصحيح . والخلاف إنما هو في منهج التعامل مع هذا الواقع ، وكيف نتعامل مع هؤلاء الشباب ؟ .
وأحسب أن القضية بحاجة إلى أكثر من تفكير ،وبحاجة إلى أكثر من جهد ، وبحاجة إلى تنوع المجالات والجهود ، فهي قضية مهمة من قضايا مجتمعنا.
عندما تتأمل في أساليب الناس في التعامل مع هذا الواقع تجد الناس أصنافاً شتى : ففئة لا تتجاوز إثارة الأحزان والأشجان والندب لهذا الواقع الأليم ، فهو يحدثك عن مرارة الواقع و الفساد والانحراف ، ويذكر لك ألواناً من الصور الصارخة لهذا الفساد والانحراف ، ولكنه يقف عند هذا القدر ، وهذا قدرٌ يشترك فيه الكثير من الناس ، ولكن المشكلة ليست هنا ! ، فنحن الآن تجاوزنا مرحلة إقناع الناس بفساد هذا الواقع ، وعندما نتحدث عنه وعن مراراته ونندبه فيجب التحدث بلغة من يريد التغيير لا من يقف عند هذا الحد ، ولكن هناك فئة كبيرة قد يكون منهم بعض أهل الصلاح والخير والاستقامة، تقف عند هذا الحد ، تقف عند حد انتقاد الواقع وإثارة الأحزان والندب على هذا الواقع، وهو منطق العاجزين والكسالى ، ومنطق الناس الذين يستسلمون للواقع .
حين يكون الإنسان في حالة فقر ويتحمل أعباءً وديوناً يسلك ألف وسيلة ، ويبحث عن ألف أسلوب ليحتال على هذه المشكلة ويخرج من هذا المأزق ، وأنت ترى امرءاً يريد هدفاً في الحياة الدنيا أيًّأكان هذا الهدف وتكون أمامه العقبات والمشاكل الكثيرة فيسعى ويفكر ويبحث عن ألف طريق وألف وسيلة ليتجاوز هذه المشكلة ، عندما يكون للإنسان حاجة في أي دائرة حكومية وقد يكون فيها مشكلة تتطلب تأخير هذه المعاملة أو تتطلب عدم البت فيها فماذا يصنع هذا الإنسان ؟ إنه يسأل عن المسؤول ومن أي بلد وأقربائه ويحاول بأي طريقة أو بأخرى أن يتصل بأقرباء هذا المسؤول حتى يتصلوا به ليقنعوه بحل هذه المشكلة , وهكذا عندما يتقدم أحد ليخطب ابنته تراه يسأل عنه وعن أخواله حتى يحصل على تفاصيل دقيقة عن حياته وشخصيته ، عندما كان المرء صاحب حاجة و إرادة وتصميم استطاع أن يحتال على حاجته واستطاع أن يجد ألف أسلوب ، أما في قضايا دينه فكثيراً ما يقف الأمر عند التألم والأحزان والأشجان لا غير .
ثانياً :فئة أخرى تغرق في الحديث عن وصف المرض وعن ذكر مظاهره وأعراضه بلغة تبعث على الأسى واليأس والقنوط ، وعندما تذكرله بعض النماذج وتحاول أن توجد عنده بصيصاً من الأمل فتحدثه عن بعض البشائر يذكرك ببعض المظاهر الصارخة من الفساد والانحراف ساعياً أن يبدد كل أمل لديك في تغيير هذا الواقع ، و قد لا تختلف هذه الفئة عن سابقتها ، لكن الفئة السابقة تقتصر على التألم ، أما هذا فهو يزيد ، فقد يتحدث من خلال المنابر ، عن الانحراف وعن الفساد وعن الخطأ وعن الضلال ، عن انحراف الشباب ثم يقف عند هذا الحد ، إن هذا وصف للمرض وقد يكون مطلباً أحياناً لإقناع من لا يدرك خطورة المرض ولكن أن يكون هذا هو العلاج فلا.
إن هذا الأسلوب غاية ما ينتجه إثارة الاهتمام بالمرض ، وإثارة الشعور به ، أما القضية التي نحتاج إليها فهي العلاج ، إننا الآن لا نملك أدنى شك ولا أظن أن أحداً يخالجه الشك أن هذا الواقع أو هذه القضية التي نتحدث عنها : " واقع الشباب " ، أن هذا واقع لا يرضي الله ورسوله ، أن هذا الواقع يطلب الحل المِلحَّ ، إذاً لسنا بحاجة إلى الإسهاب في الحديث عن المرض ، وفي الحديث عن سرد النماذج والصور ، هذه القضية يجب أن نتجاوزها فهذا وصف للمرض . إننا بحاجة أن يوفر هذا الإنسان جهده إلى أن يتحدث عن العلاج .
بعد ذلك ننتقل إلى فئة ثالثة وهم من يسعون في العلاج :(/1)
تتنوع أساليب الناس في العلاج وقد تجدها أساليب تأخذ خطوطاً قد لا يكون بينها التقاء فهذا يستعمل أسلوب التهديد والترهيب أسلوب هز مثل هذا الشاب هزًّا ، ويهز أولئك العصاة هزًّا وكأنه يصرخ بهم ويقول :قد أدرككم الهلاك ، وأسلوب آخر يأخذ جانب الترغيب وأسلوب الحديث العاطفي . أسلوب آخر يأخذ جانب الإقناع العقلي ، أسلوب ثالث … ورابع … إنّ تنوع هذه الأساليب لا مشكلة فيه ولا داعي لأن نثير اللغط والجدل حول هذه الأساليب فكلها تؤدي إلى هدف واحد وإلى نتيجة واحدة ، أن فلاناً من الناس قد يصلح معه هذا الأسلوب لكن الأسلوب الآخر لا يصلح معه ، وكذلك فلان وكذلك الشخص الآخر، وليس ثمة أسلوب واحد هو الذي ينبغي احتذاؤه ، ولاطريقة واحدة ينبغي سلوكها ، المهم أن تكون هذه الأساليب وهذه الطرق منضبطة بالضوابط الشرعية ، ثم تكون مؤدية إلى النتيجة ومحققة للمصلحة .
عندما نقرأ القرآن الكريم نجد أن القرآن ينوع أساليب معالجة القلوب ، ينوع أساليب وعظ الغافلين ، فتارة بالقصص ، وتارة بالحديث عن اليوم الآخر وأحواله ، وتارة بالحديث عن النار وما فيها ، وتارة بالحديث عن الجنة وما فيها ، وتارة بالخطاب العقلي المقنع ، وتارة بهذا الأسلوب وتارة بذاك ، إن النفوس محتاجة إلى هذه الأساليب .
والجانب الآخر يعود إلى الشخص الذي يقوم بالدعوة ، فحين أجد المنطق العقلي والنقاش العقلي قد لا يناسبني الحديث في الرقائق ؛ لأني أجد أني امرؤ أعاني من قسوة القلب عندما أتحدث في الرقائق أتحدث فيما لا أحسن ، وأتكلف مالا علم لي به ، فلا حرج عليّ إذاً أن لا أسلك هذا الأسلوب ، وكذلك فلان قد لا يناسبه إلا أن يتحدث في هذا الموضوع وهذا الجانب ، وكلُّ ميسر لما خلق له ، إنها أساليب كثيرة وأساليب متنوعة ينبغي أن لا نقيم جدلاً حولها ، وأظن أن الوقت ينبغي أن يستثمر في العمل بعيداً عن الجدل وإثارة اللغط والنقاش .
ومن هنا فالحديث سواء من خلال هذه المحاضرة أو غيرها إنما هو سلوك أسلوب من هذه الأساليب ، ومحاولة لكسر حاجز واجتياز بعض الحدود المتوهمة التي قد نظنها نحن أو نتوهمها بصورة أو بأخرى ، إنني أتصور أن هناك حواجز وأن هناك حدوداً متوهمة بيننا وبين أولئك الشباب ، نحن بحاجة إلى أن نكسر هذه الحواجز وأن ندخل إلى هذا العالم الذي قلنا في محاضرة سابقة إنه عالم آخر يعيش تفكيراً وهمًّا ومنطقاً وأسلوباً آخر ، فنحن بحاجة إلى أن نتجاوز ونكسر هذه الحواجز لنخاطب أولئك الشباب ،ومن ثم كانت هذه المحاولة.
نحن أحياناً نخاطب هذا الشاب ونقول ليس أمامك إلا خياران :
الخيار الأول : أن تسلك طريق الاستقامة والصلاح والالتزام وهذا هو الواجب عليك ، أو : أن ترفض .. وحينئذٍ فلا شأن لنا بك .
إنك ترى كثيراً من هؤلاء الشباب من أصحاب الغفلة والإعراض عنده جوانب من الخير وجوانب من الصلاح بحاجة إلى أن تستثمرها ، أليس ثمة طريق ثالث؟ أليس هناك خيار ثالث غير هذين الخيارين ؟ هذا ما أريد أن أجيب عنه في هذه المحاضرة ، وهذا ما أريد أن أسعى إليه لأخاطب هؤلاء الشباب سواء من يستمع منهم إلى هذا الحديث ، أو من يسعى في نقل هذه الفكرة ونقل هذا الحديث إليهم. هذه المحاضرة امتداد لمحاضرة سابقة كانت بعنوان "رسالة إلى شاب" ومن هنا فلست بحاجة إلى أن أعيد ما قلته هناك، وإنما هي جزء لا يتجزأ من تلك المحاضرة ، ولهذا فسأبدأها من الصفحة الحادية والعشرين حيث كانت تلك المحاضرة عشرين صفحة وكانت بعنوان لازلنا عند مطلبنا.(/2)
كنا قد طلبنا في تلك المحاضرة من الشاب أن يودع طريق الغفلة وأن يسلك طريق الاستقامة, وحاولنا قدر الإمكان أن نحشد ألواناً من الحجج والأدلة العقلية والمنطقية ، الأدلة المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، حاولنا أن نتحدث مع الشاب لنحشدله الكثير من المؤيدات والحجج والبراهين التي تؤيد مطالبنا المشروعة ، و ها نحن الآن نخاطبه بلغة أخرى ومنطق آخر، ولكن هذا لا يعني أننا تخلينا عن مطلبنا الأول ، فلا زلنا نطالب وبصوتٍ عالٍ وبصوت مُلِح لا زلنا نطالب جميع هؤلاء الشباب أن يعودوا إلى طريق الاستقامة والصلاح، وأقول أن يعودوا وليس أن يسلكوا ، لأن هذا هو الأصل وهذا هو طريق الفطرة ولن نزال أيضاً على هذا المطلب وسنزال عليه مهما خاطبناك بلغة أخرى، لا زلنا نطالبك بالتوبة ، ولا زلنا نطالبك بالعودة إلى الطريق الصحيح وإلى المسار السليم، ألا وهو الاستقامة على شرع الله عز وجل وسنزيد إلحاحاً وسنزيد مطالبةً ، ونشعر أن من محبتنا لك ومن حقك علينا أن نزيد في المطالبة والإلحاح ، إنك ترى رجلاً يطلب من إنسان دَيْناً أو حقًّا فتراه يلح في مطالبته وتراه يحاول أن يستعين بالشفعاء والوسطاء ويسلك آلاف الأساليب والحيل للمطالبة بحقه ، وأنت ترى أنه يطالب بحق مشروع بالله عليك أينا أكثر حقًّا وأولى بالإلحاح.؟ . أتصور أن مطالبنا أكثر مشروعية من مطالب ذلك الذي يلح بمطالبة دَينه ، فذاك رجل يطلب حقاً شخصيًّا له أما نحن فنطلب منك إسعادك ، نطلب منك أن تسلك طريقاً أنت وحدك المستفيد منه وأنت وحدك الخاسر حين ترفضه . . . أينا أكثر مصداقية في مطلبه ؟ أي المطلبين أكثر مشروعية ؟ .
لا زلت مسلماً
هناك وهم كاذب يسيطر على البعض من الشباب وهو ما أشرت إليه في مقدمة حديثي ، يتصور الشاب أن أمامه خياران ، الخيار الأول : هو أن يتوب ويسلك طريق الالتزام والاستقامة ، ويعني هذا أن تنقلب حياته رأساً على عقب ، فيبدأ يحافظ على الأوامر ويبدأ بفعل النوافل ويحرص عليها ، يبدأ يجتنب المحرمات والمعاصي ، يبدأ بتغيير تفكيره ومنهج حياته، يصيبه انقلاب كامل في جوانب حياته هذا هو الخيار الأول ، الخيار الثاني : عند الفشل في تحقيق هذا الخيار لسبب أو لآخر هو لا يزال مقتنعاً أن هذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه وأنه سيسلك هذا الطريق يوماً من الأيام ، لكنه فشل إما لضعف شخصيته ، أو لحواجز وهمية أو لسبب أو لآخر ، القضية إذن أمامه الخيار الآخر ، هو أن يبقى على ما هو عليه حينئذ يتصور أنه ما دام غير ملتزمٍ فله لغة أخرى ، ما دام غير ملتزم فمن حقه أن يضيع وقته ، ألا يحافظ على الصلاة ، ما دام غير ملتزمٍ مثلاً فليس مطالباً بأن يفعل النوافل ، ليس مطالباً أن يقرأ القرآن ، ليس مطالباً بهذه المطالب …، ونرى هنا النقلة البعيدة والفرق الشاسع جدًّا بين هذا الشاب وهو في طريق الغفلة والإعراض ، وعندما يسلك طريق الالتزام ترى نقله بعيدة جدًّا ، أليس هناك حل ثالث وخيار ثالث نختصر فيه هذه النقلة ؟
قد تطالب الشاب أن يتخلى عن استماع الغناء وعن مشاهدة الأفلام ، تطالبه بالمحافظة على صلاة الفجر، تطالبه بأن يفعل السنن الرواتب، أن يقرأ القرآن ، فكأنه يستغرب هذا المطلب ويقول لك : يا أخي أنا لست ملتزماً أنا غير مستقيم !! وحين لا يقول هذا الكلام بلسان المقال يقوله بلسان الحال ، من أين هذا الوهم ؟ ولماذا لا نفترض طريقاً ثالثاً ومرحلة ثالثة ؟ إنك قد تقول لي إن عندك عوائق .. ، عندك أعذار..، عندك أسباب تمنعك من طريق الاستقامة …، لكن إذا لم تسلك هذا الطريق فثم طريق ثالث - هذا لا يعني أن هذا الطريق مسوغ أن نتخلى عن المطلب السابق - فلم لا تجعله مرحلة وسطية انتقالية ، لماذا لا تقول : أنا غير ملتزم لكني مسلم فما الذي يمنع مثلاً من أن أعفي لحيتي وإن كنت غير ملتزم لأن المسلم مطالب بذلك ؟ ما الذي يمنع من أن أحافظ على صلاة الفجر؟ ما الذي يمنع من أن أفعل النوافل ؟ ما الذي يمنع من أن أقرأ القرآن ؟ من أن أشارك في أمور الخير؟ ولو كنت من غير أهل الاستقامة ، ولست من هل الالتزام والطاعة .
هذه الخطوة مهمة، وقد تقودك إلى الانتقال إلى المرحلة الأخرى ، وقد تجعلك أكثر قدرة على سلوك الطريق الذي نطالبك به ، وعندما نطالبك نحن بهذا المطلب لا يعني أن نتخلى عن مطلبنا الأول فهو مطلب ملح وهو الأصل ، ولكن إذا لم تلب هذا المطلب أو عجزت أو فشلت فلا يعني هذا أبداً أنك أصبحت شخصاً آخرَ ، أو أنك شخصٌ غير مكلف ، أو كما يقول أهل الأصول : غير مخاطب بفروع الشريعة، فأنت إن كنت غير ملتزم ومظهرك غير مستقيم فإن هذا لا يعفيك إطلاقاً من التكاليف الشرعية فكل نص شرعي سواء كان أمراً أو نهياً ، سنةً ، أو واجباً ، محرماً ، أو مكروهاً ، فأنت مطالب به وليس هناك أبداً نصوص وأحكام خاصة بالملتزمين وأمور أخرى خاصة بغير أولئك .
كن من أهل العافية(/3)
مشاهد تتكرر من الشباب يلتقي الشاب مع زملائه فيحدثهم عن أنه فعل البارحة كذا وكذا ، شاهدت فلماً أو فعلت كذا وكذا , وينتظر اللقاء على أحر من الجمر حتى يحدث زملاءه عما فعل .
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي معافى إلا المجاهرون وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ثم يبيت يستره الله عز وجل فيصبح يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيصبح وقد ستره الله عز وجل فيكشف ستر الله عليه " ، عندما تفعل معصية أياً كانت هذه المعصية صغيرة أو كبيرة - فما الداعي إلى أن تتحدث مع الناس عن فعلك للمعصية ؟ فعل المعصية ذنب، والحديث مع الناس ذنب آخر ومعصية أخرى ، لأنه تسهيل للمعصية ودعوة غير مباشرة لها ، ثم لو لم يكن كذلك فإن هذا الحديث وسيلة لقطع الطريق على نفسك أن تتوب فإن الناس قد عرفوا عنك ما عصيت ، فإذا ابتلاك الله عز وجل ووقعت في معصية فلماذا لا تستتر بستر الله عز وجل وتكون من أهل العافية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لله كل أمتي معافى إلا المجاهرون".
المجاهرة دليل على أنك إنسان مستخف بالمعصية، على أنك إنسان لا تبالي بمعصية الله - سبحانه وتعالى - ، أما ذلك الإنسان الذي وقع في المعصية ويتصور أن هذا ذنب ،لأن نفسه غلبته حتى أوقعته في تلك المعصية وينتظر الوقت الذي يتوب فيه إلى الله عز وجل ، فهذا إنسان أقرب حالاً من ذلك الإنسان الذي يفتخر بهذه المعصية ، ويتحدث بها مع زملائه ، أو يفعل ذلك أمام الناس . إن هناك مراتب ثلاث فلماذا تختار أنت أسوأ هذه المراتب كما قلنا في الصفحة السابقة المرتبة الأولى: التوبة والإقلاع عن المعصية والذنب.هذه هي الخيار الطبيعي والأمر المطلوب. المرتبة الثانية مرتبة الإعلان والمجاهرة والافتخار والمعاندة ، وعندما تفشل في الوصول إلى المرتبة الأولى لماذا تختار المرتبة الثانية ؟ هناك حل وسط، هناك خطوة ثالثة غير هذه هي أن تستتر بستر الله عز وجل وأن تجتهد أن لاتفعل المعصية أمام الناس ، فهذا هو طريق وخطوة لأن تقلع عن المعصية .
مرة أخرى نحن عندما نقول هذا الكلام لانعطيك إطلاقاً المشروعية لأن تفعل المعصية لكن على الأقل هذا أهون الشرين ، وهذا وسيلة بأن تستتر بستر الله عز وجل ، وإذا كنت تقول أنا قد ابتلاني ربي بالوقوع في هذه المعصية وأحاول التوبة ولم أستطع وسأسعى إلى ذلك … فأتصور أن أول خطوة تعينك على ذلك هي أن تستتر بستر الله عز وجل فتكون من أهل العافية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، واختيارك لهذا الأسلوب وهذا الطريق يعني أنه وسيلة لينقلك نقلة أخرى بعد ذلك ووسيلة إلى أن تقترب من الله عز وجل بعد ما يكون عندك عزيمة وإرادة ، لأن الناس لا يعرفون عنك الماضي السيء والتاريخ السيء الذي قد يكون عقبة وحاجزاً بين الإنسان وبين التوبة . يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال : " أما العبد المؤمن يدنيه ربه فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول أتذكر ذنب كذا وكذا أتذكر ذنب كذا وكذا ، قال : حتى إذا ظن أنه قد هلك قال : أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ،إن استتارك بستر الله سبحانه وتعالى وعدم إعلانك لهذا الذنب لعله يكون موجباً لأن يقال لك يوم القيامة أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك في الآخرة . أما ذاك الذي يجاهر بالمعصية ويتحدث بها ويفتخر بها ويدعو إليها فأحرى به أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : " وأما الفاجر فينادى بذنبه على رؤوس الخلائق" .
لا تحتقر المعصية
حين تبتلى بالمعصية فلا تحتقر هذه المعصية، إنك عندما تتحدث مع بعض الناس عن معصية وسيئة يقع فيها يقول لك هذه قضية سهلة ، أو هناك من خالف في هذه المسألة ، أو هناك من يفعل أسوأ من هذه ، أو أنا أفعل أسوأ من هذه ، وهذا من نتائج المعصية وآثارها المعصية إنك عندما تفعل معصية وتقع فيها وتبتلى بها ينبغي أن لا يزول من خاطرك ومن ذهنك أنك تجرأت على معصية الله سبحانه وتعالى ، وعصيان الله عز وجل أمر عظيم كما كان يقول بعض السلف : لا تنظر إلى صغر المعصية ، ولكن انظر إلى عظم من عصيت، "ويضرب النبي صلى الله عليه مثلاً في محقرات الذنوب يقول : إياكم ومحقرات الأعمال فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى أشعلوا نارهم وأنضجوا عشاءهم ،" وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه".
ويروي البخاري عن ابن مسعود أنه قال: " إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يوشك أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا" فكيف ترى واقعك مع ذنوبك ومعاصيك ؟(/4)
حين تبتلى بالمعصية وتفعلها فهذا لا يعني أن تجاهر بها ، لا يعني أن تبحث عن مسوغ ، لا يعني مرة أخرى أن تستهين بهذه المعصية وتحتقرها فليكن عندك هذا الهاجس.. وليكن عندك هذا الشعور.. أنك عاصٍ لله وأنك تفعل المعصية حتى ولو كنت تفعل معصية أعظم منها فإن هذا ينبغي أن لا يهون عليك تلك المعصية التي تقع فيها وهذه خطوة للتوبة والإقلاع عن الذنب فرب معصية تحتقرها قد توبقك وقد تكون سبباً في هلاكك .
إياك وإضلال الناس
صورة تتكرر كثيراً تجد شابًّا مستقيماً يحافظ على أوامر الله عز وجل ، تربى تربية محافظة وولد من أبوين مسلمين محافظين ، وبعد فترة تغيرت حاله، لماذا ؟ كثيراً ما يقال إنه صاحب فلاناً من الناس.. إذن نستطيع أن نقول إن فلاناً من الناس هو الذي أضله نتيجة أنه صاحبةُ فلماذا أنت تسلك هذا الأسلوب؟إنك مقتنع قناعة تامة أنك تسير على طريق خاطئ ، ومقتنع أن طريقك طريق غير شرعي .. فلماذا تتسبب في إضلال الناس، وإضلال الآخرين ؟ عندما صاحبت فلاناً من الناس الذي لم يكن يقع في المعصية وعاشرته ولازمته فأوقعته في الفساد والمعصية فأنت المسؤول عن إضلاله وإيقاعه في المعصية ،إنك قد تضله بالمصاحبة ، قد تضله بأن تدله على طريق المعصية ، تهدي إليه صورة ، أن تهدي إليه فلماً ، تهدي إليه مجلة ، تهون له أمر المعصية ، تدله بطريقة أو بأخرى على طريق المعصية بأي وسيلة فتكون أنت السبب في إيقاعه في المعصية ، قد تكون قصدت ذلك أو لم تكن تقصد ، فلماذا تكون سبباً في إضلال الناس ؟ أنت مقتنع أن طريقك خاطئ بل ربما كنت تبحث عن طريق الصلاح والاستقامة فكيف ترتكب هذا الخطأ وتتعامل بهذا الأسلوب مع الناس ؟! كيف تنقلهم إلى ما أنت عليه ؟ أما ترى أن ما هم عليه هو طريق الخير والصلاح وهو الطريق الذي ينبغي أن يُسلك ؟ ألا تخشى أن ينطبق عليك قوله تعالى : ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) .
أتدري أنك تأتي يوم القيامة تحمل وزرك مع وزره هو ؟ هذا كلام الله عزوجل ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئاً ) ؟ قد تشاهد فيلماً ساقطاً وتحتج بقولك لا أستطيع أتخلص منه ، أنا تعودت ، أنا أصبحت صاحب إدمان ، لكن ما المبرر أنك تهدي إلى فلان من الناس ؟ وماذا يترتب على ذلك ؟ إن هذا يعني أن فلاناً سينظر إلى هذا المحرم وهذه المعصية كما أن هذا العمل سيصرفه عن كثير من أنواع الطاعة بل قد يتسبب في وقوعه في معصية أخرى بل قد يكون سبباً في انحرافه، وقد يكون سبباً في انحراف أناس آخرين لأن هذا الشاب – المهدى إليه - قد يعطي هذا الفلم لآخرين، قد تراه أخته قد يراه أخوه .
ما النتائج التي تترتب على هذه الهدية ؟ النتيجة أنك تتحمل المسؤولية الكاملة وتتحمل الأوزار التي وقع فيها هؤلاء لأنك سهلت لهم طريق المعصية وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من دعا إلى ضلاله كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئاً" إنك ترى مشهداً آخر معاكسًا . أنت تهدي لفلان فلماً ساقطاً لكنك ترى من يهدي إلى فلان شريطاً إسلاميًّا أو كتاباً إسلاميًّا ، أنت قد تصاحب فلاناً بغرض إفساده ، أو لقضية معينة وتعرف النتيجة .. لكنك ترى من يدعوك ويحاول أن يأخذ بيدك ليصلحك . . لماذا يحاول نقلك إلى طريق الاستقامة ؟ . . . ألا يدعوك هذا المشهد إلى أن تراجع نفسك أعني أن تنظر كيف تعيش ؟ إن هذا يسلك نفس الأسلوب التي تسلكه أسلوب المصاحبة، الكلام، الإهداء، يحاول مرات وكرات .. حتى ينقل فلاناً أو فلاناً إلى طرق الهداية وأنت تمارس نفس الأسلوب بطريقة أو بأخرى لهدف مغاير تماماً على الأقل .
لماذا هذه الحواجز
لماذا هذا العداء المفتعل وهذه الحواجز المصطنعة بينك وبين الأخيار ؟ فإذا نظر بعضهم إلى بعض ينظر شزرا،بل ربما نقص من إلقاء السلام أما مشاعر المودة ، وتبادل الحديث وهذا قد لا يوجد ، قد تقول أنت إن السبب هم الأخيار - وكثيراً ما يقال هذا الكلام - الأخيار لا يسلمون عليّ، الأخيار يفرضون حواجز ، عندهم تكبر إلى غير ذلك … ، من السهل جدًّا أن تُحمل الآخرين المسؤولية ، أنت الآن طرف واحد في المشكلة لكن بقي طرف آخر ، ومن العدل والمنطق دائماً لا تحكم بين شخصين إلا عندما تسمع منهما جميعًا ولهذا إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى تسمع من الطرف الآخر، فقد تكون فقئت كلتا عينيه .الأمر الثاني أن العلاقة ليست من طرف واحد إنها علاقة تبادلية مشتركة تتهمه بعدم البدء بالسلام فهو يتهمك بذلك تحتاج إلى تنازل منك وتنازل منه ، إلى مبادرة منك ومبادرة منه هو.(/5)
الأمر الثالث : من الخاسر؟ ومن المستفيد من هذه الفجوة ؟ إنك عندما تصاحب الشاب الصالح وتجالسه تستفيد منه ،أن تجد منه ريحاً طيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أما هو فقد لا يخسر كثيراً ، فالخاسر أنت .. أو بعبارة أخرى أنت صاحب الحاجة ، فالأولى أن تكون المبادرة منك .
الأمر الرابع : هذا الشاب الخيّر قد سبقك في ميادين كثيرة فهو قد استقام وترك المعصية وعمل الطاعة، ترضى أن تكون دائماً في آخر القائمة ، لماذا لا تبادر وتقول هذا فلان سبقني في جوانب كثيرة من جوانب الخير، فأنا الآن أريد أن أسبقه في هذا القرار، وأريد أن أساهم أنا في تحطيم هذا الحاجز .
أمرٌ خامس : قد يكون من حقه أن يرفض أن يلتقي بك أو يجلس معك أو يحدثك فالقضية ليست كِبراً أو غروراً - وإن كانت قد توجد حالات من ذلك- لكن لماذا تفتر من أسوأ التفاسير ؟ إن هناك بعض العذر والمبرر له ، عندما تلتقي به تسخر منه وتستهزئ به! أحياناً بالكلام ، أحياناً باللمز ، أحيانا ً بالإشارة ، ، فكيف مع ذلك تطلب منه أنت أن يحطم هذه الحواجز وأن يعاملك بنقيض ما تعامله ؟ وعندما يجلس معك تحدثه عن المعاصي، وتحدثه عما تفعل فيرى أن جلوسه معك من باب مصاحبة جليس السوء ، وأنه قد يكون سبباً في وقوعه في المعصية فمن هنا فهو يرفضك لا كبراً ولا استكباراً إنما يرفضك من باب أنه يحافظ على نفسه. فلماذا لا تكون أنت صاحب القرار ؟ ولماذا لا تحطم هذه الحواجز وتبدأه بالسلام وتبتسم له وتبدي له إعجابك وارتياحك لما هو عليه وتقول له أنا أغبطك على الواقع الذي أنت عليه وأتمنى أن أكون مثلك ، وأتمنى أن أصل إلى الحال التي أنت عليها، وأرى أني على خطأ وعلى انحراف وأخشى على نفسي وتساهم في تحطيم الحواجز وهذه ستفيدك كثيراً وتختصر عليك خطوات..
لماذا لا تتمثل بقول الشافعي :
أحب الصالحين ولست منهم # لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم المعاصي # وإن كانا سوياً في البضاعة
بل قبل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يحشر المرء يوم القيامة مع من أحب " ويقول : " من أحب قوماً حشر معهم " وذلك حين سئل عن رجل يحب القوم لما يلحق بهم ، إنه إنسان يحب الصالحين ولكنه لم يعمل عملهم هل تحب أن تحشر مع المطرب فلان أو اللاعب فلان ؟ أو أن تحشر مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع الناس الأخيار والصالحين، لقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً قالوا هلموا إلى حاجتكم فجلسوا ثم يصعدون إلى الله عز وجل فيسألهم فيقول : كيف وجدتم عبادي، فيقولون : وجدناهم يحمدونك ويسبحونك ويذكرونك ، فيقول : وماذا يسألونني ؟ قالوا : الجنة ، قال : ومم يستعيذون ؟ قالوا : من النار ، قال الله عز وجل : وهل رأوا جنتي ؟ قالوا : لا ، قال: كيف لو رأوها قالوا: لكانوا أشد لها شوقاً ، قال : وهل رأوا ناري ؟ قالوا لا ، ، قال : أشهدكم أني قد غفرت لهم ، قالوا : يا رب فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس ، فقال : وله قد غفرت ،هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " .ما الذي يمنعك أن تقول لزملائك حين يذهبون إلى رحلة: أريد أن أشارككم ، وتصحبهم في الرحلة وتعيش معهم مثل هذه المجالس فلعله أن يقال هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، لماذا لا تزورهم في مجالسهم ؟ ما المانع أن تكون صاحب مبادرة فتأتي زملاءك في الفصل أو زملاءك في الحي من الصالحين وتقول : أريد أن أدعوكم في المنزل وتصنع لهم وليمة ، ولو لم تتحدث معهم في أمور الدين ، إن هذه القضايا وإن كانت قضايا يسيرة وتحتقرها إلا تختصر عليك خطوات كثيرة ثم تنقلك إلى أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : " يحشر المرء يوم القيامة مع من أحب لله "
ساهم معنا في المسيرة
إنك الآن ترى مسيرة الصحوة سواء من خلال ما تشاهد في واقعك القريب و البعيد أو ما تسمع عن أخبار المسلمين ، ألا يهمك ألا يهمك هذا الأمر ويعنيك؟ ألم يهدك أحد يوماً من الأيام كتاباً ؟ ألم يهديك شريطاً ؟ ألم يدعُك لأن تحضر محاضرة؟فكر أو اسأل نفسك هذا السؤال ماذا يريد مني ؟ لماذا أهدى لي هذا الكتاب ، أو هذا الشريط ؟ لماذا دعاني لحضور هذه المحاضرة ؟ لماذا وجه لي هذه النصيحة ؟ لماذا ذلك كله ؟ .(/6)
ألم يدر في بالك أنك تستطيع صنع مثل ذلك ؟ فحين تسمع شريطاً أو تقرأ كتاباً لم لا تهديه إلى زميلك ، هذه البادرة خطوة طيبة ولا تحتقرها ألم تفكر أن تقول لزميلك أنا أغبطك على طريق الخير والاستقامة والصلاح واستمر على ما أنت عليه ،وهاهو أحد العصاة يثبت الإمام أحمد رحمه الله يقول ابنه عبد الله : كان أبي يدعو كثيراً ويقول اللهم اغفر لأبي الهيثم ، اللهم ارحم أبا الهيثم اللهم تجاوز عن أبي الهيثم فقلت له : من يكون ؟ قال : ألا تعرفه ؟ قلت : لا ، قال : لما دعيت في الجلد جذبني بردائي فقال : أتعرفني ، فقلت : لا ، قال : أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت ثمانية عشر ألف جلدة في طريق الشيطان وسبيل الدنيا وأنت تجلد في طاعة الرحمن وسبيل الآخرة فأنت أولى مني أن تثبت ، أنظر إلى أبي الهيثم لم تكن لديه نية التوبة ولكنه شعر أن الإمام أحمد في محنة وأن هذه محنة تعيشها الأمة ، فمن واجبه أن يثبت الإمام . فوظَّف ما عنده في تثبيت الإمام أحمد.
قد يكون لك أستاذ ناصح تسمع منه دائماً النصيحة والتوجيه ،فلم لا تأخذ بيد أستاذك وتقول له : والله أنا معجب بطريقتك وأشعر أني أستفيد منك وأشعر أن الشباب يستفيدون منك، فإن هذه الكلمة التي تقولها ستدفع هذا الأستاذ دفعة قوية لأنه يشعر أن كلامه وقع في قلوب الآخرين ، عندما ترى داعية أو خطيب جمعة فتبدي له الإعجاب، وتبدي له تفاعلك مع ما قام به ،فهذه خطوة مهمة تدفع هذا الرجل وتزيده حماساً وشعوراً بنتيجة عمله وأثره ، ولا تحتقر شيئاً أبداً وكلمة واحدة قد تقولها تدفع هذا الرجل دفعات كثيرة ، فإن كنت عاجزاً عن قولها فاكتب ورقة وأوصِ من يبلغ له هذه الرسالة ، إنها جهود يسيرة يمكن أن تقوم بها تعطيك شعوراً أنك تحملت شيئاً ، أنك ساهمت في دفع الصحوة ولو بشيء يسير .
حين تكون مع أصحابك
قد تجلس مع أصحابك ، فما المانع أن تأتي بشريط وتعطيه إياهم وتقول : اسمعوه ، ما المانع أن تقترح عليهم اقتراحاً فتقول : والله نريد أن نصلي ؟ ما المانع أن تنكر عليهم – حتى ولو كنت مثلهم – قد يسخرون منك ، قد يقولون لك كيف تنكر علينا ما تمارسه ؟ وكيف تنهانا عما ترتكبه حينها تقول لهم : أنا منطقي مع نفسي إنني أقع في المعصية لكنني أبغضها ، ووقوعي فيها لا يعفيني من واجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولعل مثل هذه الخطوات تكون وسيلة ليعينك الله ويتوب عليك .
إياك والسخرية:
إن السخرية في الأمور الشرعية سواء كانت في العبادات أو الآيات أو السخرية من الناس الصالحين الأخيارتكثر في مجالس بعض الشباب ، وقد تكون لأجل الطرفة وإذهاب الملل ، وأحياناً الافتخار بذلك ، وهذا أمر من نواقص الدين ، وقد ينقل صاحبه إلى الردة والكفر عافانا الله وإياكم .
لقد قرأت ودرست في كتاب التوحيد باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم وساق فيها شيخ الإسلام قول الله تعالى : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن . لا تعتذروا اليوم قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين). . . فالسخرية أمرها خطير فاحرص قدر الإمكان أن تتخلى عنها وحين تسمع من يسخر من زملائك فإنه ينبغي أن تنتصر للدين ولو كنت مقصراً إنك لو سمعت من يسب أباك أو أمك لغضبت وانتفخت أوداجك واحمرت عيناك وقمت ولم تقعد انتصاراً لأبيك وأمك، ولو قيل لك إن والدك ونفسك أعز وأغلى عليك من دينك اعتبرت هذا اتهاماً وإهانة وسوء ظن ، ولكن ما بالك تنتصر عندما يوجه لك اللوم والسخرية والانتقاد ولا ترضى أن تمس بسوء أما دين الله عز وجل فلا تنتصر له ؟
مرة أخرى مهما كنت تقع في المعاصي ومهما بلغ فيك الفسق والفجور فإن هذا ليس مسوغاً لك بأن تتخلى عن الانتصار لدين الله عزوجل ولو بكلمةٍ واحدة .
لمن تمنح ولاءك
يقول الله عز وجل ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )إن هذه الآية خطاب للمسلمين جميعاً للصالح وغيره فهي دعوة للجميع أن ينخرطوا في حزب الله سبحانه وتعالى وأن يمنحوا ولاءهم للإيمان وأهله .
إن هناك من يشجع نادياً رياضياً ويمنح له ولاءه ، وهذا الولاء يفرض عليه أنماطاً كثيرة من السلوك والتعامل فيحب هذا اللون الذي يذكره بهذا النادي ويكره ذلك اللون لأنه يذكره بالنادي الآخر ، اسأل نفسك هذا السؤال ألا تمنح هذا الولاء وتسخره لمن يستحق ؟ ألا ترى أنه من دنو الهمة ؟ من حقك أن تمارس الرياضة بضوابط مشروعة ، من حقك أن تفعل ما تراه جائزاً شرعاً ولكن أن يكون ولاؤك متعلقاً بهذه الأمور فهذا أمر آخر .(/7)
واحرص أن يكون ولاؤك للإسلام ، أن تتفاعل مع قضايا الإسلام و مع مشكلات المسلمين المستضعفين ، أن تتفاعل مع الدعوة ومع قضاياها. قد تقول لي لا أجد مصادروهذا كلام غير صحيح فأنت قد تشجع النادي الفلاني فتعرف ذاك اللاعب وتاريخه وأين ولد .وأين نشأ وتعرف كل ما يتعلق به لماذا ؟ لأن القضية تهمك وتعنيك .
فينتقل ولاؤك للدين والإسلام حتى ولو كنت صاحب معصية فإن هذا ليس .مسقطاً للواجب الشرعي عنك .
مواهبك وقدراتك
إنك تملك مواهب أيًّا كانت هذه المواهب ، فقد تكون رجلاً جريئاً فبدل أن تكون جرأتك مع رجال الشرطة أو رجال الهيئة ، أو تكون جرأتك مع أستاذك أو مع والدك فتقول ما تريد وتقف عند كلمتك ، إنك تملك قدراً من الجرأة – إنها جرأة غير شرعية ولكنك على الأقل رجل جريء – قد تعارض أستاذك وتقف في وجهه وتعاند وترفض الاستجابة ، إنك رجل جريء – وإن كانت جرأة غير مقبولة – ولكن مادمت رجلاً جريئاً فنريد قدراً من هذه الجرأة يوظف في أمور الخير . .
فعندما تجلس مع زملائك فيسخر أحدهم بالدين نريد أن توظف الآن هذه الجرأة في الدفاع عن دين الله عز وجل ، ونريد أن توظف هذه الجرأة في أن تكون دافعاً لك على أن تتخذ قرارات مهمة تحتاج إليها ، أن تقول كلمة حق قد يعجز عنها غيرك وهكذا .
قد تكون ذكيًّا ونابغاً ، قد تكون حافظاً، قد تملك موهبة أيًّا كانت هذه الموهبة فنحن نريد منك أن تسخر هذه الموهبة على الأقل ، وأن توظف جزءاً من هذه الموهبة التي أعطاك الله إياها وقلَّما تجد أمرءاً من الناس إلا وأعطاه الله موهبة إما في الحفظ أو في الفهم أو في الجدل أو في الجرأة أو في أي أمر من الأمور ، فنريد منك ولو حتى كنت على غفلة وإعراض أن توظف هذه الموهبة وهذا الجهد في خدمة دين الله عز وجل وللخير ، فعندما تكون إنساناً صاحب جدل ومنطق وتفحم الآخرين نريدك أن توظف جدلك في الدفاع عن الحق في أمور الخير، وعندما تكون جريئاً ،عندما تكون قوي الشخصية ، عندما تكون حافظاً ، عندما تكون ذكيًّا ، عندما تكون متفوقاً المهم فكر في نفسك وستجد أنك على الأقل متفوق في جانب وتملك موهبة من المواهب .فنريد أن تسخر هذه الموهبة لخدمة دين لله عز وجل .
من الضحية ؟
إنك ترى تخطيط الأعداء لإفساد مجتمعات مسلمة ، وترى الضحايا أمامك ، ترى هؤلاء يسعون للقضاء على بقايا المسلمين ، فمن الضحية ؟ إن الضحية هم أبناؤك .. هي بنتك .. أختك .. هم إخوانك . . . ثم ألا تتصور أنك ضحية ؟ فأنت أحياناً تكون وسيلة لتنفيذ مخططات أعدائك ، ثم أنت الآخر مستهدف ، إن وقوعك في المعصية وسعيك إليها وإعراضك وغفلتك لا يمنح لك عذراً عند أعداء الله عز وجل ، فإنهم يحقدون عليك ما دمت مسلماً ألم تسمع أنت عن أخبار المسلمين وتسمع أن المسلمين يقتلون عندما يكون أحدهم مختوناً، ولو كان لا يؤدي الصلاة ولو كان لا يعرف من الإسلام إلا الختان ، فأنت مستهدف ويجب أن تعلم أنك مستهدف . . . مستهدف في دينك وعقيدتك وأخلاقك وأمنك وحياتك ، ما دمت مسلماً تنتمي إلى الإسلام فأنت مستهدف ، حتى ولو أعلنت أنك علماني حتى لو أعلنت خروجك عن الإسلام فما دام أصلك مسلماً فأنت مستهدف . . .
اجعله همًّا
قد لا تنجح في اتخاذ هذا القرار، أنت الآن مقتنع أنك تريد الالتزام ، تريد الاستقامة فلا تنجح في اتخاذ هذا القرار وتحاول وتفشل ، لكن هذا لا يعني أن تلغي هذا القرار، فاجعل هذا القرار على الأقل همًّا يسيطر عليك وعلى تفكيرك ، فقد يتحول هذا الهم إلى عمل يوم من الأيام وسأضرب لك مثلاً من سيرة أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إنه جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر مأموراً قال : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب "بالطور" فكاد قلبي يطير قال : فوقع الإيمان في قلبي منذ ذلك الحين ، ثم متى أسلم ، أسلم بعد الحديبية ، أي بعد أربع سنوات أو خمس سنوات فقد بقي في ذهنه خمس سنوات وأخيراً نجح فعلاً واتخذ هذا القرار . الذي كان يؤرقه لسنوات ، فإذا فشلت أنت وما استطعت أن تتوب اجعل هذا همًّا وهاجساً تنتظر الوقت والفرصة المناسبة فقد يوفقك الله عز وجل بعد ذلك
إنما أعظكم بواحدة
يقول الله عز وجل لنبيه : ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ) . . أقول لك فكر في ماضيك قد قطعت شوطاً من العمر وطويت صفحات كثيرة من عمرك محصلاً للشهوات واللذات فماذا بعد ذلك ؟ ماذا جنيت ؟. . . قد تكون جنيت تأخر مستواك الدراسي، قد تكون جنيت الهم والغم ،قد تكون جنيت نظرة الناس السيئة ، وبعد ذلك حتى لو سلكت طريق الاستقامة والخير فأنت ترى أولئك قد سبقوك فحصلوا علمًّا شرعيًّا لم تحصله ، قد سبقوك فعملوا عبادات كثيرة لم تعملها فاحرص الآن واتخذ القرار عاجلاً .
والحمد لله رب العالمين . . . ،(/8)
حراسة السفينة
د. رياض بن محمد المسيميري(*) 25/3/1426
04/05/2005
الحمد لله، وبعد:
فإنَّ لهذه الأمة خصائص تميزها، ومزايا تخصها تنفرد بها عن غيرها من الأمم، ولا عجب فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المجتباة، وهي الأمة المختارة لتكون شاهدة على الأمم، مقدمة على الشعوب!
هذه المرتبة المتميزة، والمكانة المتسنمة فوق القمم، لم تكن لتأتي هكذا اعتباطاً! فهي ليست لسواد في أعين أبنائها، ولا لفتوة في مناكب شبابها.. ولكن "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
فبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر حظيت الأمة برفعة المنزلة، وفازت بقصب السبق وتسنمت علو المقام!
ولنا أن نتساءل: ترى أما زالت الأمة محتفظة بأسباب رفعتها، ومناط عزها وفخرها؟ أما زالت السفينة محتفظة بتوازنها، ممتنعة متحصنة ممن يريدون خرقها، ويجتهدون في إغراقها؟
تجيبك أيها الأخ الكريم: تلك الجموع الهائلة حول الأضرحة والمشاهد، تستغيث بغير الله تعالى، وتنزل حوائجها بمن لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا! وتجيبك جموع المتخلفين عن الصلوات المكتوبة، المنشغلين عنها بسفاسف الأمور.
تجيبك الأجساد العارية على شواطئ البحار، وضفاف الأنهار باسم الترفيه والاستجمام!
تجيبك حانات الخمور، وطاولات القمار، ودور السينما، ومراتع الفساد المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين!
تجيبك تلك الأجيال الهزيلة، من ذوي الاهتمامات التافهة، والهوايات السخيفة، والتي لا تتعدى في الجملة صقل الوجوه وتلميعها، وتصفيف الشعور وتسريحها، ومتابعة الكرة والتصفيق لها!
هذه بعض الثمرات المرة يوم عُطِّلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح كل ذي هوى حُرًّا في فعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب! وأمام هذا الإسفاف يتساءل المسلم الغيور، ماذا تراه يصنع أمام هذا الطوفان الجارف والركام النكد؟!
أتراه يقف مكتوف اليدين متمتماً بالحوقلة والاسترجاع، ملقياً بالتبعة على غيره مردداً:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في كَنَفٍ كجلد الأجرب
رفع الإمام البطل لواء دعوته، وجاهد تلك النماذج المهترئة من البشر، غير هياب ولا وجل، ووقف راسخ القدمين أمام إعصار الفساد المدمِّر، مستعيناً بالله متوكلاً عليه، حتى قيض الله للإمام من يسانده ويقف معه في خندق واحد، حتى تحققت المعجزة وتجسد الحلم حقيقة فوق أرض الواقع، وزهق الباطل، وعادت نجد دوحة للإسلام ومعقلاً للتوحيد، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
هذا أنموذج واحد وغيره كثير، إذاً فالصراع بين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، ليس بخاضع أبداً إلى حسابات من نوع (واحد + واحد يساوي اثنين)، وإنما هو يخضع لمثل قوله تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً"!
ولمثل قوله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله"!
ولمثل قوله جل جلاله: "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين... ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون قالوا أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون"... وغيرها من الآيات الواضحات البينات التي تؤكد أن العاقبة للتقوى، وأن المستقبل للإسلام، وأن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب!
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست قضية خاضعة للبحث والمناقشة وتبادل وجهات النظر هل تكون أو لا تكون، ولكنها قضية محسومة سلفاً، باعتبارها ركيزة من ركائز الدين، وعموداً من أعمدة الإسلام، وهي ليست مجرد مسألة شخصية تتعلق بشخص المُنكِر، أو بشخصية المُنكَر عليه، كلّا كلا، ولكن المسألة لها علاقة جد وثيقة بالأمة كافة، فشيوع المخالفات الشرعية ضرب للأمة في الصميم، وتمزيق لوحدتها دون شك أو تردد.
وحديث السفينة المشهور، شاهد حي بأن أثر المنكر يتجاوز حيز صاحبه ليمتد فيغمر بظلاله القائمة المجتمع كله، فحين تُخرق السفينة فلن يميز الطوفان الجارف بين مَنْ خرقها ومن لم يخرقها! ولكنه سيدفن الجميع تحت أمواجه العاتية!
لقد ظل أنس –رضي الله عنه- يخدم النبي –صلى الله عليه وسلم- عشر سنين – كما حدّث هو بنفسه، فلم يقل له يوماً ما لشيء فعله لم فعلته؟ ولا لشيء لم يفعله هلا فعلته؟
يا لله العجب عشر سنين من التجاوز المعيشي، والتلاصق المباشر، ورغم ذلك لم يحصل العتاب أو الإنكار، ولا لمرة واحدة!
يتحدثون مخافة وملاذة *** ويُعابُ قائلهم وإن لم يشغب
أم تراه ينجفل إلى أهله مردداً بينه وبين نفسه: أمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك وليسعك بيتك؟!
إن الإجابة -أيها الغيور على محارم الله- تجدها في قوله جل جلاله: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين".(/1)
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
إن السبيل الوحيد للحافظ على بنية الأمة وتماسكها في عقائدها وأخلاقها، وقيمها ومبادئها هو بإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق منهاج النبوة دون أن تغرنا جولة الباطل وصولته وبريقه ولمعانه!
فمتى تضافرت الجهود، وحسنت النوايا، وصدقت العزائم، انكمش الشر وانزوى، ثم تلاشى وانطفأ!
واقرأ قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون"، وقوله: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
كم يخطئ البعض حين يلجأون إلى المقاييس الحسابية، ويعقدون المقارنات الحسية بين الباطل وكثرة سواده، وبين الحق وأهله الغرباء! فاللجأ إلى مثل هذه المقاييس خطأ فادح وغلط كبير، يشلُّ الحركة ويثبط الهمم، ويفتر الحماس ويبعثر الجهود، ويعطل مسيرة البناء.
فالصراع بين الفضيلة والرذيلة لا يخضع أبداً لتلك المقاييس الأرضية، ولا لهاتيك المعايير الحسية، وإلا لماذا ذاق المسلمون حلاوة النصر في بدر والقادسية وعين جالوت وغيرها من ملاحم أسد الشرى ونمور الورى.
ولو كان الصراع يخضع لحساب العدد والعدة لما خاض داعية غمار الدعوة إلى الله، ولما سابق مصلح في مضمار الذود عن دين الله.
هذا الإمام المجدد شيخ الإسلام – قدس الله روحه- يرفع لواء السلفية في نجد وحيداً فريداً يوم كانت نجد بؤرة الإلحاد ومستنقع الوثنية، يوم كانت عبادة القبور على قدم وساق، وتعظيم الأحجار والأشجار، يعصف بما تبقى من عقول الرجال، ويذيب ما عُلِّق بالنفوس من مروءة وحشمة ووقار.
فهل كان أنس –رضي الله عنه- معصوماً، بحيث لا يخطئ أو يفعل خلاف الأولى على أقل تقدير؟ كلا كلا، فأنس – رضي الله عنه- لم يكن معصوماً، بل كان يخطئ قطعاً، وقد يصنع أحياناً ما لا يعجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالضرورة! ولكنه لم يسمع عتاباً ولا إنكاراً؛ لأن المسألة شخصية بحتة، تتعلّق بجناب الرسول الكريم فقط، ولا مساس لها بمستقبل الأمة وكيانها، فالتسامح فيها مطلوب، وغضُّ الطرف لمثلها أولى...
لكن إليك – يا رعاك الله- مواقف أخرى، يحمرُّ فيها وجه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غضباً حين تقع المخالفة الشرعية، ويجترئ البعض على حدود الله، فيبادر عليه الصلاة والسلام إلى إنكار المنكر في ساعاته الأولى، دون أن يصبر عشر سنين، صبره على أنس –رضي الله عنه- خادمه.
هذه بريرة –رضي الله عنها- أمة ضعيفة مسكينة، يعلن أسيادُها عن رغبتهم في بيعها، فتتقدم عائشة –رضي الله عنها- لشرائها وعتقها على أن يكون الولاء لها، فيأبى الأسياد إلا أن يكون الولاء لهم في تعد مكشوف على شرع الله المطهر ودينه المصون، فماذا تراه صنع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟
هل غضَّ الطرف وابتسم في وجوه القوم، ابتسامته للأعرابي يوم جذب معطفه الغليظ فاحمرَّ لجذبته عنقه الطاهر الشريف؟!
لقد صعد المنبر وخطب خطبة عصماء، أنكر المنكر بشجاعة، وصدع بكلمته المشهورة: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، إنما الولاء لمن أعتق!.
لما كل هذا الغضب من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ لما كل هذا الغضب؟ والجواب: إن المنكر هذه المرة لا يتعلّق بشخصه الكريم، وإلا لوسعه حلمه العظيم، فقد عود الأمة أن يكون حليماً في مواقف لا تعد ولا تحصى، ولكن المنكر هذه المرة، يمس التشريع الإسلامي في الصميم، ويصيبه في مقتل، فقد وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نفسه أمام أناس يريدون أن يجعلوا من أنفسهم مشرعين بسنهم الأنظمة ووضعهم لشروط ما أنزل الله بها من سلطان، فكان إنكاره عليه الصلاة والسلام سريعاً حازماً، وقوياً حاسماً.
ولمّا استنفر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى تبوك تخلّف كعب وصاحباه دون مبرر معقول، أو مسوغ مقبول، حتى إذا ما رجع رسول الله بالجيش إلى المدينة إذا به يتخذ موقفه الصلب، وإجراءه الصارم بحق الثلاثة الذين خلفوا، فيأمر بهجرهم، ويُحرِّم محادثتهم، ويفرض حولهم سياجاً منيعاً من العزلة المحكمة! حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، لِم كلُّ هذا؟
والجواب: إن الخطأ الذي ارتكبه هؤلاء الثلاثة- رضي الله عنهم- والمُنكر الذي اقترفوه له مساسٌ بكيان الدولة برمتها، وكان يمكن أن يؤثر سلباً في نفسيات الجيش المتجه لمقارعة جيش يفوقه عدداً وعدّة، وذلك أمر لا يخضع أبداً للأمزجة الشخصية، أو للأهواء النفسية، فكانت النتيجة ما سمعت.
والسلام.
(*) عضو هيئة ا لتدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(/2)
حركة إسلامية
نزار محمد عثمان*
من الأمور التي تدعو إلى العجب أن تبقى شخصية مثل د. الترابي على قمة الحركة الإسلامية في السودان لمدة تصل إلى أربعين سنة أو تزيد!!..
لا شك أن بعض الناس خالفوه؛ ولم يرتضوه قائدا.. لكن الحقيقة الماثلة أن غالب تيار الحركة الإسلامية ارتضاه قائدا، وموجها.. وحتى الذين لم يرتضوه قائدا آثر معظمهم أن يهادنوه، ويمضوا في دعوتهم بعيدا عنه في صمت وتحسب.
وكلما استرجعت مسيرة الحركة الإسلامية تحت قيادة الترابي ازداد إعجابي بالعالم الرباني الشيخ أبي الحسن الندوي؛ الذي أدرك في زمن مبكر جدا خطورة الانحراف اليسير الذي طرأ في وسط شباب الجماعة الإسلامية في الهند والباكستان؛ فقد رأى شبابا مثقفا، نشطا، محبا للدين، وفير الزاد من ثقافة عصره المادية، يهتم بالتنظيم، والإعلام، ونظام الحكم، لكنه هزيل الزاد في جانب الروح، ضعيف الالتزام في جانب العبادات.. عندها كتب كتابه: (التفسير السياسي للإسلام)، وقال: إن قيادة الحركة الإسلامية إذا استمرت في تعظيم ثقافة العصر المادية في التنظيم، والإعلام، ونظام الحكم فستوجد شبابا مثقفا؛ لكن علاقته مع ربه ستكون ضيقة، محدودة، جافة، جامدة، رسمية، فارغة من الكيفيات الداخلية؛ التي يجب على المؤمن أن يتكيف بها!!.. وخلص قائلا: (فمن الطبيعي، ومما يتفق والعقل والمنطق والقياس - في هذه الحال - أن يحيد ركب السعي والعمل عن جادة الإيمان بالغيب والحنين إلى الآخرة، والشوق إلى الشهادة، وطلب رضا الله، والتفاني في حبه؛ تلك الجادة التي وضعه عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى طلب الحكم، والعز، والغلبة، والوصول إلى الحكم؛ وبالتالي المادية المجردة)..
شدتني فراسة الندوي - رحمه الله - وقوته في الحق؛ إذ لم يكن التصريح بمثل هذا الكلام هينا في ذلك التاريخ البعيد؛ سيما وقد كانت الجماعة الإسلامية قوية.. وكان الشيخ المودودي حيا يرزق، وكنت كثيرا ما أسأل نفسي: لماذا اكتفى من خرج على قيادة الترابي بإظهار الخلاف معه في أمور سياسية فرعية؟!.. لماذا تركوا الحديث عن الخلافات الأصولية لأفراد معدودين مغمورين؟!.. سيما وأن حيدة ركب السعي عن جادة الإيمان بالغيب، والحنين إلى الآخرة، والشوق إلى الشهادة، وطلب رضا الله، والتفاني في حبه إلى طلب الحكم، والعز، والغلبة كانت أوضح، وأظهر منها في تجربة الجماعة الإسلامية!!..
لا أقول هذه الكلمات لأغمط الحركة الإسلامية حقها، أو لأقلل من جهود المخلصين من أبنائها - لا والله - غير أن الحق الذي لا مراء فيه هو أن بقاء الترابي على قيادتها كل تلك الفترة هو مسؤوليتها وحدها لا غيرها، وهو دليل قصور بيّن؛ تماما كجبل الجليد الذي يظهر ثلثه فوق الماء، ويختفي ثلثاه!!..
يا أبناء الحركات الإسلامية! ويا أيها الدعاة إلى الله! إن النصر والتمكين هو وعد الله للأنفس المؤمنة، والأوراح الزاكية، والأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، والعقول العارفة لدينها، الخبيرة بواقعها.. لهؤلاء فقط لا غيرهم!!.(/1)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق
"في رسائل النور"(6)
بقلم: أديب الدباغ
"الحدث" بين الإنسان والقدر!
بديهي أننا نحمل "الإنسان" فوق طاقته إذا نحن نسبنا إليه وحده صنع "الحدث" وتشكيل "التاريخ".
صحيح أن "الإنسان" حر الإرادة والاختيار، وأنه الفاعل المباشر للحدث، إلا أن "مادة الحدث" وخامته الأولى التي ينسج منها نسيج حدثه هي أسبق في الوجود من إرادته، بل هي التي تنشئ الإرادات في الإنسان، وتغريه بتشكيل "الفعل التاريخي" من خلالها، وصياغته من عناصرها الأولية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن "إرادة الإنسان" ليست هي الإرادة في هذا العالم المتفردة في تصريف "الأحداث" كما تشاء وتهوى.
وعليه فما يريده الإنسان ليس بالضرورة حتمي التحقيق.
فإرادة الإنسان – أي إنسان – لكي تنفذ من دور القوة الكامنة في النفس، إلى دور "الفعل" المتشكل واقعاً يتعين عليها أن تنفذ بجلدها – أولاً – من بين زحمة إرادات البشر المتصارعة، وألا تصطدم – ثانياً – بإرادة أكبر هي إرادة الكون المتجلية في نواميسه ودساتيره، وألا تناكف قوة أعظم هي قوة "القدر" الذي يطوي الوجود جميعاً في قبضة يده.
وآمل ألا يسبق إلى الذهن مما قلناه آنفاً أننا نشير إلى "جبرية قدرية" يخضع لها العالم. ويقف "الفعل الإرادي" للإنسان مشلولاً إزاءها، فهذا ما لا نعنيه مطلقاً.
وإنما الذي نذهب إليه في هذه المسألة بالغة الحساسية، ونرجو ألا يكون قد جانبنا الصواب فيه... هو أن "القدر" يقوم بين البشر مقام المعلم الحكيم – ولا مشاحة في المثال – بين تلاميذه، فهو لا يعطل عقولهم ولا يحجر عليها ولكنه يوجه مساراتها من بعيد، ويصحح أخطاءها، ويلهمها الصواب من وراء ستار، ولا يشلّ إرادتهم ولكنه يسمح بمرور بعضها – لحكمة خافية عنا – ويحول دون مرور الأخرى، ولا ينساق وراء أهوائهم ونزواتهم بل يشير لهم بعصا التأديب، وقد يوجه لهم لطمات الرحمة إذا اقتضت الضرورة ذلك، لكي ينتبهوا ويرعووا، وهو بعد ذلك – أي القدر – كابح عظيم لطغيان الهوى، وجنون العدوانية والتسلط لدى الدول والشعوب، بما يراه مناسباً من وسائل تختفي بين الأسباب والمسببات.
فلو اتبع "القدر" أهواء كل ظالم وطاغية وأفسح لها مجال التحقيق إلى آخر مداها لفسدت السماوات والأرض، وعمت الفوضى، وخربت الدنيا وتهاوى الرباط الأخلاقي الذي يشد إليه العالم، ويتطلع للاحتماء به كل ضعيف وصغير من الدول والشعوب.
فمن حسن حظ البشرية أن يقف لها "القدر" بالمرصاد، ويعيدها إلى شيء من الحق كلما أوغلت في باطلها، ويلجمها بشيء من العقل كلما جن جنونها، ويسوقها إلى شيء من الحكمة كلما جهلت واستخفها البطر والأشر.
وغير خاف أن بعض الدروس التي يحاضر بها "القدر" الشعوب، قد تبلغ مبلغاً عظيماً من القسوة والعنف في ظاهر أمرها، وربما كلفتها حروباً دامية، وفتناً رهيبة، ودماء غزيرة، وقد تضرب أوطانها الزلازل، ويغمرها الطوفان، وتنتشر فيها الأوبئة والأوجاع، ويشيع فيها القحط والجفاف، إلى آخر ما هنالك من كوارث تأتي تحت ستار من الأسباب المادية الظاهرة، ولكنها تخفي وراءها حكمة قدرية قد تنتبه إليها الشعوب المبتلاة وتفيد منها في مستقبل أيامها، وقد لا تنتبه إليها، ولكنها موجودة على كل حال لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فالذي نخلص إليه مما تقدم هو:
إن "الحدث" الذي يأتي به "الإنسان" ليفسح له "التاريخ" مكاناً بين أحداثه، قد يولد ميتاً ما لم ينفخ "القدر" فيه الروح... وهو لا ينفخ فيه الروح إلا لحكمة مهما خفيت عنا في حينها، إلا أنها تخدم – على المدى الواسع البعيد – روح التاريخ الإنساني، ومثله العليا في الارتقاء بالبشرية نحو آفاق العدل والخير والجمال.
و"النورسي" يشير إلى هذه الحقيقة إشارة مقتضبة، ويضع بكلمات قليلة قاعدة كلية عظيمة من كليات التاريخ يمكن أن تنضوي تحتها جزئيات تاريخية كثيرة، فضلاً عن أننا نستطيع – على ضوء هذه القاعدة – رؤية أصفى وأوضح لكثير من الأحداث التي قد تبدو مستعصية على الفهم والتفسير، وإليك هذه القاعدة كما أوردها "النورسي" في إحدى رسائله حيث يقول – رحمه الله:
(إن يد الإنسان، ويد القدر الإلهي، موجودتان معاً في كل حادثة)(14).
فالإنسان قد يظلم - أحياناً – الحادثة، حيث يحكم عليها من خلال سببها الظاهري، أما "القدر" فلأنه يرى السبب الخفي لتلك الحادثة – وقد تكون مصيبة من المصائب – فإنه يعدل في حكمة.
وهذه قاعدة أساس تدور على محورها "رسائل النور" وينظر إلى مسائل "التاريخ" كافة على ضوئها.
(وقد ثبت لنا صدق هذه القاعدة من خلال التجارب المتكررة، فإن كثيراً من المصائب التي نزلت ببعض من طلابنا، لمسنا فيها العناية الإلهية، وأبصرنا من خلالها وجه الرحمة الواسعة)(15).
الهوامش:
(14) ملحق قسطموني /ص142.
(15) المصدر نفسه.(/1)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور"(7)
بقلم: أديب الدباغ
التاريخ.. والواجب
انتهينا من خاتمة المقطع السابق إلى رأي "النورسي" في "الحدث التاريخي"... حيث خلص إلى القول بأن "يد الإنسان" و "يد القدر" تعملان معاً في بناء "الحدث" ومن ثمة تصعيده فوق قمة الأحداث، ثم دفعه من هناك ليأخذ مكانه وحجمه المناسبين في تاريخ الأمة المعنية.
وإذا كانت مقاصد "الإنسان" وغاياته من "الحدث" ظاهرة بينة – في الأعم الأغلب – غير أن مقاصد "القدر" وغاياته من وراء عمله تظل غامضة وغير مفهومة لدينا، وقد لا يتهيأ لنا إدراك بعض هذه المقاصد والغايات إلا بعد انقضاء زمن بعيد على وقوع الحدث.
ومعلوم أن دوافع "بطل الحدث" إلى ممارسة "الفعل التاريخي" تختلف باختلاف العقائد والمبادئ التي يعتقدها ويؤمن بها.
وعن ذلك فإن قاسماً مشتركاً أعظم يطوي تحت جناحيه "الأحداث التاريخية" – بغض النظر عن حكمنا الأخلاقي عليها – وهذا القاسم المشترك الأعظم إنما هو حافز الواجب كما يراه "البطل" المعني بمنظار معتقداته، وكما يحس به في لحظة من التوتر الروحي والقلق النفسي إزاء جملة من تحديات المرحلة الزمنية التي يعاصرها ويعيش تردياتها وانهياراتها..
وهكذا تغدو إلهامات "الواجب" وحوافزه عامل دفع البطل إلى قلب "الحدث" لتحريكه في الاتجاه الذي يؤمن به ويعتقده.
ولئن كانت الحضارات هي روح التاريخ البشري، وعصارة حياته،.. فإن "الواجب" – كما رأينا – هو روح الحضارات ونسغ حياتها الذي يغدو شجرتها بأسباب النماء والبقاء.
فلن تقوم لأمة قائمة حضارية مرموقة ما لم يشكل "الواجب" محور حياتها وأساس وجودها، ومحرك نشاطها ومضطربها.
وما الدين – الذي هو منبع كل حضارات الإنسان – إلا مدرسة تتعلم فيها الشعوب قدسية "الواجب" وتعتاد العيش به وله، وتمارس في يومها وليلها المران عليه.
فالواجب من أجل الواجب – صغيراً كان هذا الواجب أو كبيراً ومجرداً من أية منافع مادية أو معنوية – هو واحد من مقاصد "الدين" الذي يريدنا أن نسمو إليه، ونرتقي بإرادتنا نحوه.
فالواجبات أو الفرائض، تلزم المسلم حسب تسلسل أهميتها... وأسبق هذه الواجبات وأعظمها في الأهمية، إنما هو معرفة "الواجب الوجود" سبحانه وتعالى، ثم تليها متتابعة الواجبات والفرائض الأخرى.
ولأمر ما تواضع علماء الكلام والمناطقة المسلمون على اسم "الواجب الوجود"، الذي يُوجب الوجود، فلا وجود إلا منه، فهو علة العلل، ولا علة له، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
بديهي أن "الموجودات" جميعها "ممكنة" و "محدثة" أي معلولة – وإن على إمكانها وحدوثها إنما هو "الواجب الوجود".
ولا يخفى أن "الأحداث التاريخية" معلولة أيضاً وعلة انبعاثها على مسرح الأحداث إنما هو "الواجب" الذي يراه بطل الحدث ويؤمن به ويحس إزاءه بالالتزام والمسؤولية التاريخية، فهو إذن المحرك الأساس لإرادات "الفعل التاريخي" فيه، والدافع الأول لتشكيله واقعاً قائماً في حياة أمته وحضارته.
فالواجب من أجل "الواجب" هو واحد من قمم الارتقاء الإيماني الذي رسمه الإسلام للمسلم، ومَعلم من معالم "المطلق" الذي يستحث المسلمين ويحفزهم لتجربة النهوض إليه والسعي من أجله.
ومن يستعرض التاريخ يجد أن عظماءه وأبطاله في شتى مجالات العظمة ومناحي البطولة، إنما هم أولئك الذين عاشوا للواجب من أجل "الواجب" دون أن ينظروا إلى جلب منفعة أو دفع ضرر، وربما دفع الكثير منهم حياته رخيصة في سبيل هذا الواجب الذي كرسوا وجودهم كله له.
فصرخة ملتاعة كصرخة "رابعة العدوية" – وأمثالها كثير من عمالقة الإيمان – في جوف الليل:
"إلهي: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لأنك أهل لذاك".
ما هي إلا محاولة للتحقق بالواجب من أجل الواجب ليس إلا. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فله بذلك أجر"(16).
أي فليؤد واجبه ولا ينكص على عقبيه متعللاً بقيام القيامة وبلا جدوى عمله.
وكم من رجل قضى نحبه وهو يؤدي واجبه حتى آخر نفس من أنفاسه، دون أن يثنيه عن ذلك إحساسه بقرب أجله، كذلك النحوي الكبير الذي يهمس متحسراً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أموت وفي نفسي شيء من "حتى" أي شي من إعرابات "حتى" التي لم ينته فيها إلى رأي قاطع.
* * *
فلا أرى وصفاً غير وصف "رجل الواجب الصعب" أكثر ملاءمة "للنورسي" وأشد انطباقاً عليه، وأعظم التصاقاً به، وأسرع وصولاً إلى معرفته وسبر غوره، وفهم أعماله الفكرية والإيمانية.
فهو بحق "رجل الواجب" الذي عاش له وكرس فكره ووجوده من أجله، وكان يرى في أداء "الواجب الإيماني" غاية ما بعدها غاية، ولم يكن ليفكر بما يمكن أن يأتي به هذا "الواجب" من مردودات، بل ترك أمرك ذلك للقدر.
وها نحن نستعرض – فيما يأتي – رأيه بهذا الخصوص كما جاء في أحد توجيهاته إلى طلبته حيث يقول – رحمه الله –:(/1)
(إخواني: إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام، أما توفيقنا ونجاحنا في العمل، وإقبال الناس إلينا، وصد المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتها، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة، وموقفنا هذا يشبه موقف خوارزم شاه – أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيزخان انتصارات عديدة – فقد كان – يوماً يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه:
سيظهرك الله على عدوك، وستنتصر عليه!
فأجابهم:
"إن ما علي هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هو من تقديره هو سبحانه".
وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل:
إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به، فهذا أمر موكول إلى الله.
فأنا علي أن أؤدي ما علي من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه)(17).
الهوامش:
(16) ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه (عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني – باب الحرث والزراعة). ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/184، 191 والبخاري في الأدب المفرد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 3/30.
(17) ذكريات عن سعيد النورسي /ص87 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي – مطبعة الحوادث – بغداد – 1986.
...(/2)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور 2)
بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
المدخل- ما وراء القبح والشر
إن إيمان المؤمنين بالله تعالى يزيد ويتعزز بكثرة وقوفهم على مظاهر الخير والجمال التي تتظاهر مفصحة عن نفسها هنا وهناك من أرجاء الوجود، إذ يعني هذا - من جملة ما يعنيه الإنسان الباحث عن الحقيقة - أن وراء هذا الخير والجمال خالقاً قديراً موصوفاً بكل الصفات الجمالية التي نجد انعكاساته وآثارها على وجه الكائنات.
إن الوجه الأخر للعالم يبدو - للوهلة الأولى - وكأنه بحر طامٍ من الشرور والآثام، وموج هائج مخيف يضرب شواطئ الإنسانية بعنف، ويرسم فوق جبينها أشد صور القبح دمامة، وأكثرها إيلاماً.
وهنا تنجم مسألة كانت - وما زالت - تستأثر باهتمام الناس. وخلاصتها:
إن الله - جل وعلا - في مألوف العقل خير محض، وجمال مطلق، منزه عن النقص والقصور فيما يخلق ويُوجِد، فلا يمكن عقلاً - أن يتسلل "القبح والشر" إلى هذا الوجود وهو من صنعه وإيجاده.
والحق في قضية "القبح والشر" أدق وأعمق من هذه النظرة الفوقية والسطحية التي ينظر من خلالها بعض من لا يريدون تكليف أنفسهم عناء الغوص الشمولي والاستقصائي في مبنى الأشياء التي يقع عليها النظر وفي معناها، وفي مداها البعيد، وفيما يمكن أن تنطوي عليه آثارها المستقبلية من خير وجمال قد تفوتنا رؤيته في الآن والتو إلا أن المستقبل سيكشف عنه - لا محال - في وقته المناسب.
فما من شيء في هذا العالم، وما من حدث يحدث فيه، أو أمر ينزل به، إلا وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره "أي بما سيعقبه من نتائج جميلة" كما يقرر "النورسي" رحمه الله.
فالشر المطلق - أي الشر الذي ليس في طبيعته تحفيز أي نوع من أنواع الخير - والقبح المطلق - أي القبح الذي لا يتكشف في خاتمة المطاف عن أي نوع من أنواع الجمال - في الأشياء والوقائع والأحداث لا وجود لهما أصلاً في هذا العالم كما يتصور البعض، بل لهما وجود اعتباري زائل إذا نظرنا إلى ما سيؤول إليه أمرهما من الخير والجمال في أجل الزمان.
وحتى "الشيطان" نفسه - عنوان الشرور والآثام في هذا العالم - لا يعدم من خدمة يؤديها للإنسان بالرغم منه، حيث يثير فيه - بالاحتراب معه - قواه الجوانية الخيرة، ويحرك في نفسه عرق التحدي والتحفيز، فينكب على نفسه يرمم حصونها، ويسد منافذها وثغورها، فلا يقوى الشيطان على الانسلال إلى داخله، فيبقى قلبه طاهراً نظيفاً مهيأً لقبول أنوار الله ورحماته، فإذا به ينفع - راغماً - من حيث أراد الضرر، تماماً كما حصل له مع "آدم" - عليه السلام - أبي البشر، فلئن استطاع بمكره أن يكون سبباً في إهباطه من الجنة من جهة، إلا أنه من جهة أخرى كان سبباً في تفتح استعدادات "آدم" - عليه السلام – الكامنة، وارتقائها إلى أقصى غاياتها في التوبة والندم وانكسار القلب والعبودية الخالصة لله والتي كان من نتائجها الرضى والمغفرة والمحبة من الله تعالى، وهي أقصى ما يتمناه المؤمن ويطمح إليه.
وفي قصة "موسى" و "الخضر" عليهما السلام، والتقائهما ثم مضيهما معهاً في رحلة عمل معرفية يجوبان خلالها بعض أسرار ما يتشكل من أحداث، ويستبطنان بعض غوامض ما تتكشف عنه الأيام من وقائع... في هذه القصة الشيقة التي يحكيها لنا القرآن الكريم إيماء وتنبيه إلى أن الوقوف - أحياناً - على ظواهر الأمور والأحداث، والحكم عليها بمقتضاها قد يوقع في الظلم والخطأ.
فما كان يبدو في سلوك "الخضر" عليه السلام من قسوة وشر وتهور في خرقه للسفينة، وقتله للغلام، وإقامته للجدار - وإن كان سلوكه هذا مداناً حكماً وتشريعاً - إلا أنه تبين بعد التفسير الذي قدمه "الخضر" - أنه ينطوي على الرحمة والخير والحكمة فيما سيثمر من ثمار في آجل الزمان، ومستقبل الأيام. وهذه النظرة الاستبطانية والمستقبلية للأمور، وعدم الوقوف عند ظواهرها الآنية العجلى، وسطحيتها المباشرة، هي النظرة التي يجب أن ننظر من خلالها - أيضاً - إلى أحداث التاريخ الإسلامي ووقائعه، ولا سيما مآسيه وأحزانه التي ما زالت تثير سحابة قاتمة من الأسى في ضمير المؤمن الغيور.
وما لم يصطحب المؤرخ المسلم هذه النظرة الشمولية والاستقصائية في التعليل والتحليل للحدث التاريخي الذي يعالجه، فإنه سيقع - نتيجة ذلك - في تصورات وهمية مربكة واستنتاجات فجة قد تجره إلى شيء من عدم الاحترام لبعض الشخصيات التي يدور عليها الحدث، والاستهانة بها إلى حد التشكيك بإيمانها وإسلامها كما تورط بالانزلاق إلى هذا الدرك من الخطيئة بعض من ذوي الأغراض بلا تثبت أو دليل!.(/1)
ولما كان تاريخ الأمة - أياً كان - إنما هو حركة قدرها المقدور الوثيق الصلة بعالمي الغيب والشهادة، والساري في كيان العالم مشكلاً بعض تاريخه الماضي والحاضر وكذلك المستقبل، لذا فكم يكون من السذاجة بما كان أن يقف أحدٌ عند ظاهرة تاريخية بادية السقم من غير النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه علتها من صحة وعافية في مداها البعيد، وإلى ما يمكن أن تتركه من مناعة في جسم الأمة في مستقبل أيامها.
فأية واقعة تاريخية - مهما بدت للعيان سلبية ومأساوية وشريرة - إن هي إلا بعض عواصف القدر وسحبه وبوارقه وأنوائه، وسرعان ما تنقشع عن صحو ضحيان ساطع النور في روح الأمة وضميرها تستضيء به أجيالها زماناً بعيداً.
و"النورسي" - رحمه الله - ذو النفس الصافية الجميلة يرى الجمال في كل شيء، ويرى النور في أشد الظلمات حلكة، ويرى بذور خير يمكن أن تختفي في جوانب أي شر.
وعلى ضوء نظرته هذه يمكن أن نفهم رأيه في إشاراته التاريخية التي يشير بها إلى بعض أحداث التاريخ الإسلامي.
ونود التنويه إلى أن هذه الإشارات لا تضمها رسالة واحدة أو كتاب واحد، بل جاءت متفرقة في العديد من الرسائل والكتب حيث كان يلتفت هذه الالتفاتات الذكية عندما تحين المناسبة ضمن الموضوع الذي هو بصدد الكتابة فيه.
والآتي من كلامه هو القاعدة الكلية التي ينطلق منها الرجل في تفسيره لأحداث الكون والتاريخ حيث يقول:
(نوضح – هنا - سراً من أسرار الآية الكريمة:
(أحسن كل شيء خلقه) "السجدة: 8".(2).
نعم، إن كل شيء في الوجود - بل حتى ما يبدو أنه أقبح شيء - فيه جهة حُسن حقيقية، فما من شيء في الكون، وما من حادث يقع فيه إلا وهو جميل بذاته، أو جميل بغيره، أي: جميل بنتائجه التي يفضي إليها..
فهناك من الحوادث التي يبدو ظاهر أمرها قبيحاً مضطرباً مشوشاً، إلا أن تحت ذلك الستار الظاهري أنواعاً من جمال رائق، وأنماطاً من نظم دقيقة:
فتحت حجاب الطين والغبار والعواصف والأمطار الغزيرة في الربيع تختبئ ابتسامات الأزهار الزاهية بروعتها، وتحتجب رشاقة النباتات الهيفاء الساحرة الجميلة...
وفي ثنايا العواصف الخريفية المدمرة المكتسحة للأشجار والنباتات، والهازّة للأوراق الخضراء من فوق الأفنان، حاملة نذر البين، وعازفة لحن الشجن والموت والاندثار، هناك بشارة الانطلاق من أسر العمل لملايين الحشرات الرقيقة الضعيفة التي تتفتح للحياة في أوان تفتح الأزهار، فتحافظ عليها من قر الشتاء وضغوط طقسه، فضلاً عن أن أنواء الشتاء القاسية الحزينة تهيء الأرض استعداداً لمقدم الربيع بمواكبه الجميلة الرائعة.
نعم!... إن هناك تفتحاً لأزهار معنوية كثيرة تختبئ تحت ستار عاصف العواصف إذا عصفت وزلزلة الأرض إذا تزلزلت، وانتشار الأمراض والأوبئة إذا انتشرت.
فبذور القابليات، ونوى الاستعدادات الكامنة - التي لم تستنب بعد - تتسنبل وتتجمل نتيجة حوادث تبدو قبيحة في ظاهر شأنها، حتى كأن التقلبات العامة، والتحولات الكلية في الوجود إن هي إلا أمطارٌ معنوية تنزل على تلك البذور لتستنبتها.
بيد أن الإنسان المفتون بالمظاهر والمتشبث بها والذي لا ينظر إلى الأمور والأحداث إلا من خلال أنانيته ومصلحته بالذات، تراه تتوجه أنظاره إلى ظاهر الأمور، وتنحصر بما فيها، فيحكم عليها بالقبح!... وحيث إنه يزن كل شيء بحسب نتائجه المتوجهة إليه فحسب، تراه يحكم عليه بالشر! علماً أن الغاية من الأشياء إن كان المتوجه منها إلى الإنسان واحدة، فالمتوجه منها إلى أسماء صانعها الجليل تعد بالألوف. فمثلاً:
الأشجار والأعشاب ذات الأشواك التي تدمي يد الإنسان الممتد إليها، يتضايق منها الإنسان ويراها شيئاً ضاراً لا جدوى منه، بينما هي لتلك الأشجار والأعشاب في منتهى الأهمية حيث تحرسها وتحفظها ممن يريد مسها بسوء.
مثلاً: انقضاض العُقاب على العصافير والطيور الضعيفة يبدو منافياً للرحمة، والحال أن انكشاف قابليات تلك الطيور الضعيفة وتحفيزها للظهور لا يتحقق إلا إذا أحست بالخطر المحدق بها، وشعرت بقدرة الطيور الجارحة على التسلّط عليها.
ومثلاً: إن هطول الثلوج الذي يغمر الأشياء في فصل الشتاء ربما يثير بعض الضيق لدى الإنسان، لأنه يحرمه من لذة الدفء ومناظر الخضرة، بينما تختفي في قلب هذا الجليد غابات دافئة جداً ونتائج حلوة لذيذة يعجز الإنسان عن وصفها.(/2)
ثم إن الإنسان من حيث نظره القاصر يحكم على كل شيء بوجهه المتوجه إلى نفسه، لذا يظن أن كثيراً من الأمور التي هي ضمن دائرة الآداب المحضة أنها مجافية لها، خارجة عنها... فالحديث عن عضو تناسل الإنسان - مثلاً - مخجل فيما يتبادله من أحاديث مع الآخرين... فهذا الخجل منحصر في وجهه المتوجه للإنسان، حيث إن أوجهه الأخرى أي من حيث الخلقة ومن حيث الاتقان ومن حيث الغايات التي وجد لأجلها، موضع إعجاب وتدبر... فكل من هذه الأوجه التي فطر عليها إنما هي وجهٌ جميل من أوجه الحكمة، وإذا هي - بهذا المنظار - محض أدب لا يخدش الحديث عنها الذوق والحياء... حتى إن القرآن الكريم - الذي هو منبع الأدب الخالص - يضم بين سوره تعابير تشير إشارات في غاية اللطف والجمال إلى هذه الوجوه الحكيمة والستائر اللطيفة، فما نراه قبحاً في بعض المخلوقات، والآلام والأحزان التي تخلفها بعض الأحداث والوقائع اليومية، لا تخلو أعماقها - قطعاً من أوجه جميلة، وأهداف خيرة، وغايات سامية، وحكم خبيئة، تتوجه بكل ذلك إلى خالقها الكريم كما قدر وهدى وأراد.
فالكثير من الأمور التي تبدو - في الظاهر - مشوشة مضطربة ومختلطة، إن أنعمت النظر إلى مداخلها طالعتك - من خلالها - كتابات ربانية مقدسة رائعة، وفي غاية الجمال والانتظام والخير والحكمة(.
هوامش:
(2) النقطة الثانية من "الكلمة الثامنة عشرة" بديع الزمان سعيد النورسي.(/3)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور 1)
بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
الرحلة... و... الصحبة!
في البدء لم أكن أحسب أني سأمضي مع "النورسي"، فيما كتب، هذا الشوط البعيد، أو سأوغل في شعاب فكره هذا الإيغال اللاهف العميق، فقد توهمت - بادئ ذي بدء - أن رحلتي معه لن تطول، وصحبتي له لن تستمر، ولكن الذي حدث هو أن الرحلة التي بدأت قبل أكثر من خمس سنوات* لا يبدو أنها على وشك الانتهاء، والصحبة التي استمرت طوال هذه السنين لم يظهر - حتى هذا اليوم - ما يشير إلى أنها قد وصلت إلى نقطة النهاية، فما زلت أقف أمام صفحات كثيرة مطوية من فكر الرجل تنتظر من يكشف عنها، ويسلط الأضواء عليها، فضلاً عما تحدثه - في النفس - صحبة الرجل، وملازمة مؤلفاته، من إحساس بالراحة، وشعور بالقوة والحيوية والتفوق إزاء شتى ضروب الأفكار والمعتقدات الأخرى.
والرجل - بعد هذا أو ذاك - موهوب في كسب صداقة من يقرأه، وامتلاك إعجابه واجتذابه إليه، بما وهبه الله سبحانه وتعالى من قوة الروح، ونفاذ الفكر، ورهافة الحس، وصفاء الذوق، وصدق المشاعر، وعمق محبته للإنسان، وعظيم إخلاصه لله، وشدة تعلقه بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن صحبته لا تُمل، وملازمته لا تُسأم، ومعايشته لا تُضجر.
وقد كانت بداية تعرفي على "النورسي" من خلال قراءتي لبعض أعماله المترجمة من التركية، والتي اضطلع بمهمة نقلها إلى العربية الأخ الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، كما وقع في يدي بعض مؤلفاته بالعربية كـ "المثنوي العربي النوري"(1) و"إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" و"الخطبة الشامية" فاكتشفت من خلال هذه القراءات أنني وقعت على كنز إيماني نفيس، ليس من العدل حرمان قراء العربية من الوقوف عليه، والتعرف على ما عنده، والإفادة مما لديه، لا سيما والرجل وقاع على الجديد والطريف والمبتكر من المعاني والأفكار، وقصاص بارع لكل سارح وبارح من بوارق الخواطر ولوامع العقول.
و"سهولة العمق" أو "عمق السهولة" ميزة مؤلفات "النورسي".
أما "سهولة العمق" فنعني بها: أنه لا يأخذك إلى عمق أفكاره ما لم يمهد لك السبيل إلى ذلك، وييسر لك طريق الاندفاع إليها، والغوص في طلبها، فلا تحس في غوصك بضغوط الأعماق، ولا تعاني من ضيق التنفس، ثم تنفذ - بعد ذلك - إلى السطح وقد التقطت طِلبتك، وحصلت على بغيتك، وكأنك في مكانك من السطح لم ترم.
وأما "عمق السهولة" فنعني به: أنه ما من سهل في فكر " النورسي" إلا وهو من ذلك " السهل الممتنع" الذي تحس وكأن كل أحد قادر على الإتيان بمثله، لكنه في حقيقة الأمر، يستعصي على الفحول من أرباب العقول، لأن التجربة والمعاناة - وهي ذاتية بحتة - هي الأساس فيه، وهي مما لا يتشابه فيها اثنان من البشر.
فالتجربة والمعاناة هي التي ترفُد رسائله بالحرارة، وتفعمها بالحيوية، وتطبعها بالمصداقية، وتشحنها بالواقعية، فقد عايش عصراً مضطرباً مليئاً بالأحداث، وشارك في بعضها، وراقب الأخرى عن كثب، وشاهد المسارات المرسومة للدولة العثمانية وكيف يتم تحويلها إليها تدريجياً. فشارك في "الحرب التركية الروسية" قائداً لفرق الأنصار وأبلى البلاء الحسن، وهزه انهيار الدولة العثمانية، ذات الأمجاد العظيمة، ولاحظ بأسى الانقلاب المريع الذي قاده "مصطفى كمال" مزلزلاً به حياة تركية المسلمة، وأحس بالمؤامرات وهي تحاك في الظلام لإبعاد الأتراك عن دينهم وفصلهم عن قرآنهم، وبكى بمرارة الحرف العربي الذي اختفى ليحل محله الحرف اللاتيني، وأبصر دامعاً حزن "الجمعة المؤمنة" وهي تتوارى وَجِلة أمام "الأحد" السفيه العابث... إلى غير ذلك من أمور أصبح لها قوة القانون وهيمنة الدستور.
وقد شخص الرجل مرض المسلمين المزمن، ووضع يده على أسباب انحسار حضارة الإسلام أمام الحضارة الغربية،ونادى بضرورة الانكباب على العلوم الحديثة والإفادة منها في بناء "القوة الإسلامية الجديدة" والتي ينبغي لها أن تقبل التحدي وتواجهه بكل ما يتيسر لها من أسباب القوة، ونبه إلى أن اللبنة الأولى في صرح هذه القوة يجب أن يكون "الإيمان".
لذا فإن التركيز على "الإيمان" وتجلية حقائقه، وتعميقه في النفوس، هو من مهمات الرسائل التي كتبها وأطلق عليها اسم "رسائل النور".
* * *
وهذا الكتيب الذي بين يدي القارئ الكريم إنما هو إشارات سريعة لبعض أحداث "التاريخ" وردت متفرقة في العديد من "رسائل النور" المترجمة إلى العربية، وقد لاحظت أهميتها في تفسير كثير من أحداث التاريخ عموماً والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، مما حدا بي أن أضع كل إشارة تحت عنوان مناسب، ثم أجري حولها كلاماً أرجو أن يكون قد أسهم بعض الشيء - في إلقاء المزيد من الأضواء عليها.
وأرجو أن يوفق الله سبحانه وتعالى في قابل الأيام للعثور على إشارات تاريخية أخرى في ثنايا "رسائل النور" نعد القراء أن نضيفها إلى هذه "الإشارات" إن شاء الله.
الهوامش:
* كُتب هذا قبل عام 1987.(/1)
(1) انظر "مختارات من المثنوي العربي النوري لسعيد النورسي: اختيار وتقديم: "المؤلف". مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل 1984.(/2)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور 3)
بقلم: أديب إبراهيم الدباغ
التاريخ والقدر!
سيظل التاريخ الإسلامي - بنظر المؤرخ المنصف - معجزاً بعبقريته. وسرعة مدّه، وقدرته الفذة على شق طريقه وأخذ مكانه المرموق في أكثر صفحات التاريخ الإنساني إشراقاً وأجلها حضارة، ومع ذلك فهو لا يخلو - كأي تاريخ آخر - من أحداث مرعبة دامية، ووقائع مأساوية، يقف عندها المؤمن
الغيور موقف الحيرة والانشداه والحسرة ويمتلئ قلبه حزناً وروحه أسىً، وهو يقرأ هذه الأحداث، ويجول في أهوالها، ويُحس وكأن سكيناً حاد الشفرة يغوص في قلبه، ويمزق روحه، ولا يعرف سبباً معقولاً يمكن أن يدفع بهذه الأحداث إلى صفحات التاريخ، ويتمنى - في نفسه - لو خلت صفحات تاريخه منها.
والذين تناولوا بأقلامهم هذه الأحداث المروعة، والفتن الدامية من المؤرخين وكتاب السير - على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومناحيهم - لم يتيسر لهم أن يضعوا أيدينا على مواضع "الرحمة" التي تنطوي عليها، أو يوقفونا على أسرار "الحكمة" التي تكتنفها وتسري فيها لكي نشعر ببعض العزاء.
ولا أعرف أحداً - على قدر علمي - حاول أن يستشف "الحكمة الإلهية" من وراء هذه الأحداث، أو يتلمس فيها مواطن "الرحمة" ويدلنا عليها.
وغاية ما فعلوه هو تعاملهم معها كأحداث بشرية محضة، معزولة عن آفاقها القدرية الرحيمة، ومبتوتة الصلة بالقدر الحكيم الذي ما انفكت أصابع قدرته تغزل في مغازل الأرض مصائر الدول والأمم، وتنسج على منوال الأحداث نسيج الحضارات، مستخدمة البشر - خامتها الأساس - بما يمتلكون من خيارات هي أيضاً بعض من خياراتها، ومستفزة فيهم إرادات "الدفع والجذب" بعضهم لبعض، لتنقدح من خلال صراعاتهم شرارات الأفكار، وتشتعل مصابيح العقول، فتثرى - بذلك - الحضارات وتخصب المعارف والعلوم.
فحين تسكن رياح الأمم، ويكثف هواؤها ويثقل، ويسترخي روحها، ويشيع في كيانها خدر النوم والتبلد، ويغشاها خريف النضج المبكر، وتكاد ثمار عبقريتها يصيبها العفن، وبذور علومها يأكلها السوس، ونوى معارفها ينخرها الدود.. حين يحصل هذا تمتد يد القدر لتسوط رياح التاريخ بسياطها اللاهبة، فتندفع هائجة مائجة عاصفة عصفاً، وخاضّة شجرة حياتها خضاً فتتساقط ثمار عبقريتها، وتتطاير إلى أرجاء الأرض، وتحمل العواصف الهوج بذورها ونواها في أنحاء العالم، وبذلك تغنى الأرض، وتندى الحضارات وتخضل، فتوجد العقول والأفكار حيثما تقع البذور، وأينما تنقذف النوى.
فالحدث العاصف بالأمة، هو حدثٌ مزلزل مثير للرعب والإشفاق من وجهة نظر الإنسان بقصور رؤيته، ومحدودية عمله، وتشبثه بجزيئات التاريخ ومفرداته، وعجزه عن الإحاطة الكاملة، بكليات التاريخ ومطلق أحداثه، وعموم غاياته ومقاصده.
غير أن "الحدث" نفسه يغدو - في نظر "القدر" المحيط، وفي علمه المطلق الشامل بالماضي والحاضر والمستقبل، وبكلية الزمن آزاله وآباده، ومطلق شؤونه - شيئاً آخر فوق المأساة والآلام والدموع، وفوق الأحزان والفواجع.
لذا فإن "القدر" حين يمضي في سبيله إلى غاياته في بعث العطاء الحضاري للأمة من خلال النوى العاصف داخل كيان الأمة، لا يمكن أن يوقفه عن غايته ويصده عن سبيله شيء مهما كان هذا الشيء مفجعاً ومأساوياً ودامياً، وخالياً من الرحمة والحكمة في النظرة المبتسرة الضيقة.
فما يبدو قاسياً قد ينطوي على الرحمة، وما يبدو عبثياً قد ينطوي على الحكمة، وما يبدو تدميراً لروح الأمة قد يكون سبباً في إنهاضه... ومن بين السحب والأنواء والظلمات تتألق فجأة عبقرية الأمة وتشرق شمس عظمتها(3).
ونحن لا نتمحل هذا الرأي تمحلاً، ولا نتعسفه تعسفاً فالمؤرخون على اختلاف مناحيهم وفلسفاتهم - وحتى الماديون منهم - لا يسعهم إنكار "الحكمة والرحمة" وآثارها الهائلة فيما تنطوي عليه دساتير الكون والطبيعة والحياة ونواميسها.
فما من أحد - مهما اشتط في ماديته - ينكر النظام المشاهد والملموس الذي يحكم هذا العالم ويسيره ويضبط حركات موجوداته من أصغر ذرة فيه إلى أعظم جرم.
والنظام - أي نظام كما لا يخفى - دليل حكمة وعلم.
وبالمقابل فإن أحداً لا يستطيع تجاهل ما يفيض به الوجود من لمسات الرحمة واللطف والود في المخلوقات عموماً، ويكفي فيض الأمومة وحدها في الطير والوحش والإنسان دليلاً لمن يتعامى عن أي دليل.
ولما كان "الإنسان" جزءاً مهماً من هذا الكون، لا بل هو خلاصة حياة هذا الكون، وأنضج ثماره كما يقول "النورسي" لذا فإن دستور "الحكمة والرحمة" الذي يشيع في "كلية الكون" يشيع أيضاً في أجزائه بل في أصغر أجزائه وأقلها شأناً.
وعليه فإن تاريخ هذا الإنسان - الذي يمثل مضطرب حياة الإنسان ومسح فاعليته على الأرض - بأحداثه ووقائعه لا يمكن أن تخلو هي الأخرى - بأي حال من الأحوال - من الحكمة والرحمة، مهما بدت - في الظاهر - عنيفة قاسية خالية من الجدوى والمغزى.(/1)
والشر والفساد اللذان يقترفهما الأفراد والشعوب والدول - وإن كانا مُدانين في شريعة العدل والخير، وعائقين إلى حد ما لارتقاء التاريخ وسموه نحو جمالية الكمال الإنساني - إلا أنهما في حصيلة مداهما البعيد يشكلان حافزاً ودافعاً لحركة التاريخ في الاتجاه المعاكس لهما.
وقد سئل "النورسي" - رحمه الله - هذا السؤال:
)ما حكمة تلك الفتنة التي أصابت الأمة الإسلامية في عصر الراشدين، وخير القرون، حيث لا يليق بهم القهر ونزول المصائب؟ وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها..؟.
** الجواب
كما أن الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها، وتثير البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كل منها مهمته الفطرية... كذلك الفتنة التي ابتلي بها الصحابة الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فأنذرت كل طائفة منهم وأخافتهم من أن الخطر محدق بالإسلام، وأن النار ستشب في صفوف المسلمين مما جعل كل طائفة تهرع إلى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كل منهم على عهدته مهمة من مهمات حفظ الإيمان وشمل الإسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جد وإخلاص في هذا السبيل، فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم...
وهكذا انضوت كل طائفة تحت مهمة وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الإيمان، وصيانة الإسلام وسعت في سبيل أداء مهمتها سعياً حثيثاً فتفتحت - من البذور التي بذرتها في الأرجاء تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة - زهور بهيجة بألوان زاهية شتى في عالم الإسلام، حتى غدا العالم الإسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين، إلا أنه - ويا للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواك أهل البدع أيضاً.
وكأن يد القدر الإلهي قد خضت ذلك العصر بجلال وهيبة، وأدارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم، وألهبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة - المنطلقة عن المركز - كثيراً جداً من أئمة المجتهدين والمحدثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء إلى أنحاء العالم الإسلامي وألجأتهم إلى الهجرة، وهيجت المسلمين شرقاً وغرباً، وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه)...(4).
الهوامش:
(3) انظر "النافذة الرابعة عشرة" في النقائض والأضداد من كتاب "النوافذ" للنورسي. ترجمة إحسان قاسم الصالحي، عرض وتعليق أديب الدباغ – مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – 1985.
(4) المعجزات المحمدية – الإشارة الخامسة – للنورسي، ترجمة إحسان الصالحي – مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – 1987.(/2)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق في رسائل النور"(7)
بقلم: أديب الدباغ
التاريخ.. والواجب
انتهينا من خاتمة المقطع السابق إلى رأي "النورسي" في "الحدث التاريخي"... حيث خلص إلى القول بأن "يد الإنسان" و "يد القدر" تعملان معاً في بناء "الحدث" ومن ثمة تصعيده فوق قمة الأحداث، ثم دفعه من هناك ليأخذ مكانه وحجمه المناسبين في تاريخ الأمة المعنية.
وإذا كانت مقاصد "الإنسان" وغاياته من "الحدث" ظاهرة بينة – في الأعم الأغلب – غير أن مقاصد "القدر" وغاياته من وراء عمله تظل غامضة وغير مفهومة لدينا، وقد لا يتهيأ لنا إدراك بعض هذه المقاصد والغايات إلا بعد انقضاء زمن بعيد على وقوع الحدث.
ومعلوم أن دوافع "بطل الحدث" إلى ممارسة "الفعل التاريخي" تختلف باختلاف العقائد والمبادئ التي يعتقدها ويؤمن بها.
وعن ذلك فإن قاسماً مشتركاً أعظم يطوي تحت جناحيه "الأحداث التاريخية" – بغض النظر عن حكمنا الأخلاقي عليها – وهذا القاسم المشترك الأعظم إنما هو حافز الواجب كما يراه "البطل" المعني بمنظار معتقداته، وكما يحس به في لحظة من التوتر الروحي والقلق النفسي إزاء جملة من تحديات المرحلة الزمنية التي يعاصرها ويعيش تردياتها وانهياراتها..
وهكذا تغدو إلهامات "الواجب" وحوافزه عامل دفع البطل إلى قلب "الحدث" لتحريكه في الاتجاه الذي يؤمن به ويعتقده.
ولئن كانت الحضارات هي روح التاريخ البشري، وعصارة حياته،.. فإن "الواجب" – كما رأينا – هو روح الحضارات ونسغ حياتها الذي يغدو شجرتها بأسباب النماء والبقاء.
فلن تقوم لأمة قائمة حضارية مرموقة ما لم يشكل "الواجب" محور حياتها وأساس وجودها، ومحرك نشاطها ومضطربها.
وما الدين – الذي هو منبع كل حضارات الإنسان – إلا مدرسة تتعلم فيها الشعوب قدسية "الواجب" وتعتاد العيش به وله، وتمارس في يومها وليلها المران عليه.
فالواجب من أجل الواجب – صغيراً كان هذا الواجب أو كبيراً ومجرداً من أية منافع مادية أو معنوية – هو واحد من مقاصد "الدين" الذي يريدنا أن نسمو إليه، ونرتقي بإرادتنا نحوه.
فالواجبات أو الفرائض، تلزم المسلم حسب تسلسل أهميتها... وأسبق هذه الواجبات وأعظمها في الأهمية، إنما هو معرفة "الواجب الوجود" سبحانه وتعالى، ثم تليها متتابعة الواجبات والفرائض الأخرى.
ولأمر ما تواضع علماء الكلام والمناطقة المسلمون على اسم "الواجب الوجود"، الذي يُوجب الوجود، فلا وجود إلا منه، فهو علة العلل، ولا علة له، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
بديهي أن "الموجودات" جميعها "ممكنة" و "محدثة" أي معلولة – وإن على إمكانها وحدوثها إنما هو "الواجب الوجود".
ولا يخفى أن "الأحداث التاريخية" معلولة أيضاً وعلة انبعاثها على مسرح الأحداث إنما هو "الواجب" الذي يراه بطل الحدث ويؤمن به ويحس إزاءه بالالتزام والمسؤولية التاريخية، فهو إذن المحرك الأساس لإرادات "الفعل التاريخي" فيه، والدافع الأول لتشكيله واقعاً قائماً في حياة أمته وحضارته.
فالواجب من أجل "الواجب" هو واحد من قمم الارتقاء الإيماني الذي رسمه الإسلام للمسلم، ومَعلم من معالم "المطلق" الذي يستحث المسلمين ويحفزهم لتجربة النهوض إليه والسعي من أجله.
ومن يستعرض التاريخ يجد أن عظماءه وأبطاله في شتى مجالات العظمة ومناحي البطولة، إنما هم أولئك الذين عاشوا للواجب من أجل "الواجب" دون أن ينظروا إلى جلب منفعة أو دفع ضرر، وربما دفع الكثير منهم حياته رخيصة في سبيل هذا الواجب الذي كرسوا وجودهم كله له.
فصرخة ملتاعة كصرخة "رابعة العدوية" – وأمثالها كثير من عمالقة الإيمان – في جوف الليل:
"إلهي: ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لأنك أهل لذاك".
ما هي إلا محاولة للتحقق بالواجب من أجل الواجب ليس إلا. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فله بذلك أجر"(16).
أي فليؤد واجبه ولا ينكص على عقبيه متعللاً بقيام القيامة وبلا جدوى عمله.
وكم من رجل قضى نحبه وهو يؤدي واجبه حتى آخر نفس من أنفاسه، دون أن يثنيه عن ذلك إحساسه بقرب أجله، كذلك النحوي الكبير الذي يهمس متحسراً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أموت وفي نفسي شيء من "حتى" أي شي من إعرابات "حتى" التي لم ينته فيها إلى رأي قاطع.
* * *
فلا أرى وصفاً غير وصف "رجل الواجب الصعب" أكثر ملاءمة "للنورسي" وأشد انطباقاً عليه، وأعظم التصاقاً به، وأسرع وصولاً إلى معرفته وسبر غوره، وفهم أعماله الفكرية والإيمانية.
فهو بحق "رجل الواجب" الذي عاش له وكرس فكره ووجوده من أجله، وكان يرى في أداء "الواجب الإيماني" غاية ما بعدها غاية، ولم يكن ليفكر بما يمكن أن يأتي به هذا "الواجب" من مردودات، بل ترك أمرك ذلك للقدر.
وها نحن نستعرض – فيما يأتي – رأيه بهذا الخصوص كما جاء في أحد توجيهاته إلى طلبته حيث يقول – رحمه الله –:(/1)
(إخواني: إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام، أما توفيقنا ونجاحنا في العمل، وإقبال الناس إلينا، وصد المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتها، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة، وموقفنا هذا يشبه موقف خوارزم شاه – أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيزخان انتصارات عديدة – فقد كان – يوماً يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه:
سيظهرك الله على عدوك، وستنتصر عليه!
فأجابهم:
"إن ما علي هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هو من تقديره هو سبحانه".
وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل:
إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به، فهذا أمر موكول إلى الله.
فأنا علي أن أؤدي ما علي من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه)(17).
الهوامش:
(16) ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه (عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني – باب الحرث والزراعة). ورواه الإمام أحمد في مسنده 3/184، 191 والبخاري في الأدب المفرد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 3/30.
(17) ذكريات عن سعيد النورسي /ص87 ترجمة: إحسان قاسم الصالحي – مطبعة الحوادث – بغداد – 1986.(/2)
حركة التاريخ بين النسبي والمطلق
"في رسائل النور"(5)
بقلم: أديب الدباغ
كان "المجتمع النبوي" نزاعاً بكل جوارحه نحو "الكمال المطلق" الخالص من الأهواء البشرية في "العدل والحق" وكل القيم الأخرى التي جاء بها الإسلام.
وكانت "الدولة" تعكس – من خلال ممارساتها لشؤون الحكم – هذا النزوع وتسعى مخلصة للتحقق بهذا الهدف السامي.
فالمحاولة الجادة والمخلصة للتحقق بـ "المطلق" من كل شيء، واستشراف آفاقه، والنظر إلى الأشياء بمنظاره، ووزن الرجال بميزانه، والحكم عليهم بمقاييسه، هو سمه العصر النبوي وطابعه العام.
فكل صفة إيمانية لا تبذل جهدها للاستمداد من "المطلق" ولا تحاول – في الممارسة – الارتقاء إليه تظل دون المستوى المطلوب بمقاييس هذا العصر.
فالشجاعة – مثلاً – مطلوبة من كل مؤمن، ولكن الشجاعة لا تبلغ "المطلق" حتى تتحول – عند الحاجة – إلى شهادة، والشهادة نفسها تبقى دون الكمال ما لم تكن خالصة لوجه الله.
والسخاء صفة المؤمنين جميعاً، ولكن السخاء إيثار الغير على النفس إذا اقتضت الضرورة ذلك.
و"طلب العلم فريضة على كل مسلم" كما ورد في الحديث(7) ولكن طالب العلم هالك ما لم يطلبه لله ويكرسه في سبيله.
و"العدل" صفة لابد من توفرها في "الحاكم المؤمن" ولكن "العدل المطلق" في المجتمع النبوي كما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، لم يكن ليراه الناس عياناً، ويتمثلوه واقعاً، حتى يرتقي "بلال" الكعبة ويؤذن في الناس للصلاة، وحتى يصبح "سلمان" – مجازاً – من آل البيت، إكراماً له، وتسرية عنه.
وإقامة صرح "الحق" بين الناس من أوجب وجائب السلطة الحاكمة، ولكن "الحق المطلق" لم يستبن للناس تماماً ولم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس كاشفاً عن ظهره الشريف يقول:-
(من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليجلده...)(8) إلى آخر الحديث.
فالعصر النبوي – كما رأينا – هو أقرب عصور التاريخ الإسلامي إلى القيم المطلقة التي جاء بها الإسلام وعاشها المسلمون.
وما كان ذلك ليكون، لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم حياً قائماً بين ظهراني أصحابه يأتيه "الوحي" من عند الله – جل وعلا – قرآناً مبيناً لمعالم "المطلق البشري" فيما ينبغي أن يتصف به المؤمن من صفات، ويأتيه من أفعال.
فالمجتمع النبوي – بهذا الاعتبار – مجتمع موقوف على حدود "المطلق"، وموزون بموازينه، ومحكوم بأحكامه، وقائم على قواعده.. وأي فعل يأتيه "الحاكم" أو "المحكوم" قاصراً عن "المطلق" – مهما كانت درجة هذا القصور ضئيلة – سيحدث شقاً عظيماً في جسم المجتمع يؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه، حتى لو كان هذا "القصور" المأتي، لا يشكل من مجموع "الكمال" المطلوب سوى جزء واحد من عشرة أجزاء منه.
فهذا العشر الهين ربما تسبب في هلاك الناس كما جاء في تحذيره صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحديث الشريف:
(إنكم في زمان من ترك منكم عُشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمانٌ من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)(9).
فإذا كان عصر "القيم المطلقة" الزاهر قد مضى وانقضى بانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إلا أن ظلاله وصوره بقيت تُظل العصور التي تلته الواحد بعد الآخر بدرجات متفاوتة بحسب قرب العصر أو بعده عن عصر الرسالة العظيم الذي ترك أعمق الأثر في ذاكرة الأمة وعقلها الباطن، واستطاع أن يشد إليه روح الأمة وضميرها بروابط قوية من الحرمة والإعجاب والتعظيم، حتى غدا – عصر الرسالة – ميزاناً حساساً تزن به الأمة حكامها، وتحكم عليهم سلباً أو إيجاباً على قدر قربهم أو بعدهم عن روحه ومثله، وقد بلغ من حساسية المجتمع بعصر النبوة وقيمه في العقود الأولى التي تلته أن يخاطب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس من فوق المنبر قائلاً:
"يا معشر المسلمين! ماذا تقولون لو ملتُ برأسي إلى الدنيا كذا (وميَّلَ رأسه)
فقام إليه رجل فقال: أجل، كنا نقول بالسيف كذا (وأشار إلى القطع)!
فقال: إياي تعني بقولك؟
قال: نعم، إياك أعني بقولي.
فقال عمر: رحمك الله، والحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني"(10).
هكذا، ليس بألسنتنا... ولا بأي شيء آخر دون السيوف.. وإنما بسيوفنا... ومن دون أية مقدمات.. وسنرى فيما بعد كيف استنطق الناس سيوفهم في تقويم الانحرافات... بل أحياناً اقل الانحرافات شأناً...
وما ذلك إلا لأن جلة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، من المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرافقين له في حله وترحاله، وممن كانوا قد تربّوا ونشؤوا في حجر "النبوة" وعاشوا يقبسون من أنوارها ويلتمسون من آثارها وتعاليمها أصبحوا – فيما بعد – من أشد الناس تعلقاً بعصر الرسالة، وأكثرهم تشبثاً به، وأعظمهم رغبة في الإبقاء على روحه حياء بينهم، حتى إنهم وجدوا في تعطيل هذا العشر من "العدل والحق" أحياناً -الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم- سبباً كافياً لا متشاق السيوف وإهدار الدماء.(/1)
وهكذا... افتتح دم الشهيد عثمان بن عفان رضي الله عنه المراق على صفحات القرآن عصر، المأساة الإسلامية بكل معاناتها وآلامها...
فقد ظل هذا الدم المغدور يسري في عروق التاريخ الإسلامي صارخاً ومستثيراً أحداثاً متتابعة من الهول عبر واقعتي "الجمل" و "صفين" وكل الوقائع الأخرى التي احتكم فيها المسلمون إلى سيوفهم...
ويمضي هذا الدم في طريقه مصعداً في شعاب المأساة حتى يلتقيه فوق قمتها دم زاك آخر هو دم الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما... فيعتنق دماهما ويمضيان معاً في جلال حزين ليؤشرا معالم طريق "المطلق الإسلامي" كما ينبغي أن يكون للحاكم والمحكوم...
* * *
و"النورسي" رحمه الله – يشير إلى هذه الأحداث المأساوية الدامية في التاريخ الإسلامي مبيناً أسبابها، بعد أن يورد سؤال السائل الذي كان قد سأله عنها فيقول:
(مضمون سؤالكم الثاني:
ما هي حقيقة الفتن التي دبت في صفوف المسلمين في عهد سيدنا علي رضي الله عنه؟
وماذا نسمي أولئك الذي ماتوا وقتلوا فيها؟
الجواب:
إن "معركة الجمل" التي دارت رحاها بين سيدنا علي رضي الله عنه وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين من جهة أخرى، إنما هي معركة – في حقيقة أمرها بين العدالة المحضة (كما رسمها عهد الرسالة)، والعدالة النسبية كما فرضها واقع الحال(.
وكلا الجانبين يرى أنه يمثل مطلق العدالة والحق، ويتهم الآخر بالقصور عنهما، فكان وقوع الحرب بينهما أمراً لا مفر منه.
)ولقد اتخذ سيدنا علي رضي الله عنه "العدالة المحضة" كما يراها أساساً لسياسته في إدارة دفة الحكم وسار بمقتضاها، مجتهداً رأيه مرة، ومقتفياً آثار الشيخين من قبله مرة أخرى.
أما معارضوه فكان لسان حالهم يقول:
إن صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، إلا أن دخول أقوام متباينة الطبائع والاتجاهات بمرور الزمن في هذا المجتمع، والاندغام فيه – وهي على ما هي عليه من ضعف الإيمان وقلة الخبرة بأفاق الإسلام وعدالته المطلقة – أدى – بطبيعة الحال – إلى وضع عوائق مهمة إزاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً يثير مشاكل عديدة، لذا فقد آل الأمر إلى الأخذ بالعدالة النسبية، التي هي اختبار لأهون الشرين، ولأن المناقشة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت إلى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين، وحيث أن كل طرف – في كل الأحداث والوقائع – قد توصل إلى هذا الرأي واستند إليه في حكمه من باب الاجتهاد ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الإسلام ولم تتولد الحرب إلا عن اجتهاد خالص لله، فيصح القول: بأن القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان رغم ما تولد عن اجتهاد المعارضين من حرب دامية، ورغم معرفتنا بأن اجتهاد الإمام علي رضي الله عنه كان صائباً، وأن اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب.
فهؤلاء المخالفون ليسوا أهلاً للعقاب الأخروي، إذ المجتهد لله إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع العبادة، أي هو معذور من خطئه(.
* * *
(فإن قلت لم لم يوفق الإمام علي رضي الله عنه بمثل ما وفق أسلافه في إدارة دفة الخلافة، رغم اتصافه – من هذه الناحية بقابليات فائقة، وذكاء خارق، ولياقة تامة جديرة بمنصب الخلافة؟)
(الجواب:
إن سلطات الإمام علي رضي الله عنه، واستحواذه على القلوب والأرواح. وكونه ضمير الأمة وعقلها النابه الذي تستفتيه الأمة فيما يعرض لها من شؤون، هو أعظم بكثير من سلطانه السياسي.
فعدم توفيقه في السياسة والحكم أمر قدري مقصود عوضه عنه القدر بالحكم على القلوب، فنال بجدارة لقب "سيد الأولياء" ذلك المقام الرفيع الذي فطر عليه ونشأ في حجرة النبوة من أجله، فغدا أستاذ الجميع، وغدا حكمه المعنوي سارياً وماضياً إلى يوم القيامة)(11).
* * *
)وإذا قيل: لمَ لم يوفق سيدنا الحسين رضي الله عنه في مقاومته الأمويين رغم أنه كان على حق وصواب؟ وكيف سمحت "الرحمة الإلهية" أن تكون عاقبته وآل بيته فاجعة أليمة؟(
)الجواب:
إن النية الخالصة لله التي كان يحملها الحسين رضي الله عنه في حركته ربما لم تكن بالدرجة نفسها من النقاء والصفاء عند بعض الذين استلوا سيوفهم ووقفوا إلى جانبه، فأحدث ذلك ثغرة في جدار "النية الصلبة"، استطاع معارضوه النفاذ منها، مما سبب انكسارهم وهزيمتهم).(12)
* * *
نرجع فنقول تعقيباً على كلام "النورسي" آنف الذكر:(/2)
صحيح أن استشهاد "الحسين" رضي الله عنه... دون هدفه مثَّلَ انتكاسة خطيرة لمثل المطلق وقيمه التي كان قد تربى عليها في مدرسة النبوة، إلا أنه يشكل – من جانب آخر – انتصاراً له، حيث غدا رمز "المطلق الإسلامي" ورمز الكفاح من أجله على مدى التاريخ، بينما كان الانكسار والهزيمة من نصيب خصومه – في انتصارهم الظاهر – لأنه كان سبباً في إثارة مشاعر السخط عليهم مدة حكمهم.
وعليه فإن "الحسن" و "الحسين" ونسلهما – كما يقول "النورسي":
)قد حازوا بذلك سلطنة معنوية عظيمة دائمة متواصلة، فصاروا مرجعاً مهماً لكل أرباب القلوب وأصحاب الولاية والطامحين إلى الحق والعدل.
فإن هم خسروا "سلطان الحق" الذي كانوا يريدون إقامته على أرض المسلمين إلا أنهم ربحوا – في نظر الأمة – المنزلة الرفيعة، والمثال السامي الذي يقاس عليه عدل كل سلطان على مدى الأزمان... وهذا هو الانتصار الذي ما بعده انتصار ((13).
الهوامش:
(7) رواه البيهقي وابن عدي والطبراني والخطيب البغدادي والطيالسي وغيرهم كثير، وفي طرقه مقال وحسن بعض طرقه السيوطي في الدرر المنتثرة (ص105). وأخرجه ابن الجوزي في منهاج القاصدين من جهة أبي بكر بن داود وقال: ليس في حديث طلب العلم فريضة أصح من هذا. انتهى. (عن كشف الخفاء للعجلوني، باخصار 2/43). راجع (فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي).
(8) راجع كتاب! "الوفا في أخبار المصطفى لابن الجوزي 2/774 و"البدية والنهاية" لابن كثير 5/231.
(9) رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه (كشف الخفاء للعجلوني 1/217).
(10) أخبار عمر ص422 – علي وناجي الطنطاوي – دار الفكر- دمشق 1959. عن "الرياض النضرة في مناقب العشرة" للمحب الطبري 50/2.
(11) هذا مجمل المعنى لما يقرره النورسي وتفصيله في (المكتوب الخامس عشر) من المكتوبات دارسوزلر-استانبول.
(12) هذا مجمل المعنى لما يقرره النورسي وتفصيله في المكتوب الخامس عشر من المكتوبات – دارسوزلر –استانبول.
(13) ملحق قسطموني /ص142.(/3)
حركة الترجمة
الأستاذ أنور الجندي
يواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري عديداً من التحديات التي انطلقت منذ بدأت حركة الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي يهدف "تغريب" الإسلام وبلاده وفكره وذلك عن طريق طرح معطيات الفكر الغربي بواسطة الترجمة على نحو بالغ الخطورة اختلط فيه النافع بالضار وغلبت مترجمات الفلسفة اليونانية والقصة المكشوفة ونظريات العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق الغربية ومترجمات النظريات الاقتصادية سواء الرأسمالية أم الماركسية، بل وطرحت من خلال هذه المترجمات نظريات مادية في ترجمة الحياة وتفسير التاريخ ونقد الأدب وكلها تتعارض تعارضاً تاماً مع مفاهيم البلاد وقيم الفكر الإسلامي، هذه الظاهرة الخطيرة: ظاهرة المترجمات إلى اللغة العربية من الفكر اليوناني الوثني القديم والفكر الغربي الليبرالي والماركسي تحتاج إلى نظرة فاحصة في مطلع القرن الخامس عشر بهدف تحديد موقف الفكر الإسلامي منها من حيث الوجهة التي يجب أن يتجه إليها في القرن الخامس عشر وهي وجهة التحرر من الوافد والدخيل ومن التبعية والاحتواء، واحتلال ناصية الأصالة وإعلاء الذاتية الخاصة وتمكين الوجود الأصيل المستمد من منابع الإسلام، والنظر إلى الفكر الوافد على أنه نتاج غريبلقوم لهم مفاهيمهم وقيمهم، ولا بأس من لالنظر فيه والاستئناس به للتعرف على أساليبه ووجهته، دون أن يكون مسيطراً أو موجهاً لفكرنا الإسلامي ودون أن يكون فكرنا الإسلامي – ذي الميراث الرباني والتراث العريق – خاضعاً أو منصهراً في بوتقة الأممية العالمية.
ولقد قامت الترجمة في العصر الإسلامي الأول بإرادة المسلمين الحرة وفي سبيل الحصول على تراث الأمم العالمي باعتبار أن الإسلام هو وارث الحضارات القديمة جميعاً، ونظراً لأن الإسلام قد دعا إلى العلم وإلى النظر في الكون فحق على أهله أن يتعرفوا على ما سبقهم من تجارب في هذا المجال بغية تقييمها والنظر فيها وتصحيح أخطائها والتماس السليم الصادق منها مما لا يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص للبناء عليه على النحو الذي تحقق بإقامة المنهج العلمي التجريبي الإسلامي ومنهج المعرفة الإسلامي ذي الجناحين (روحاً ومادة وديناً وعلماً ودننيا وآخرة).
ومن ثم فقد أنفق المسلمون جهدهم في الحصول على أوليات العلوم الطبية والطبيعية والفلكية التي كانت ميراثاً عاماً (من بابل وفارس ومصر والهند والصين) والتي كانت قد تجمعت في بيئة اليونان والرومان ثم جاءت المسيحية فرفضتها كلية، ومن ثم كان فهم المسلمين للترجمة في العصر الأول دقيقاً وسليماً، فقد كانوا يفرقون تفريقاً واسعاً بين "العلوم" و "الثقافة" وكانوا يؤمنون بأن لكل أمة ثقافتها الخاصة بها المستمدة من عقيدتها ومفهومها للحياة وميراثها الفكري، ولما كان التوحيد هو قمة معطيات الإسلام فقد حددوا موقفهم إزاء الشعر والأدب والفلسفة وأدخلوها في دائرة ثقافة الأمم الخاصة بهم، وأخذوا في ترجمة العلوم والمعارف العامة باعتبارها ملك لجميع الأمم، ولذلك فقد سارت نهضة الترجمة في العصر العباسي على هذا الأساس لولا أن عوامل معينة تجخلت في ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية وخاصة ما يتصل بعلم الأصنام اليوناني المستمد من الوثنية اليونانية وكذلك ما يتصل بالغنوصية الشرقية، وكانت قد مزجت فلسفة اليونان والفلسفة الشرقية في المدرسة الأفلوطينية.
غير أنه ما أن ترجمت فلسلفات أرسطو وأفلاطون وغيرهما حتى واجهها الفكر الإسلامي في معارضة قوية واعتبر القائمين بها أتباعاً لمدرسة اليونان حتى أطلق عليهم اسم (المشائين المسلمين) وكشف عن فساد مفاهيمها ومعارضتها للتوحيد الخالص ومن ثم نشأت مدرسة الأصالة التي بدأها الإمام الغزالي ووسد قوانينها الإمام ابن تيميه الذي كشف عما أماه "منطق القرآن" في مواجهة منطق اليونان وكان الإمام الشافعي قد بدأ هذا الاتجاه حين فرق بين أرجانون اللغة اليونانية وأرجانون اللغة العربية: لغة القرآن وخاصة فيما يتعلق بأن الفلسفة اليونانية تقوم على الوثنية والعبوية بينما يقوم مفهوم الإسلام على التوحيد والإخاء البشري.
ولكن الترجمة فيما عدا هذا الجانب الفلسفي ظلت محكومة بهدف واضح وبإإرادة قديرة. قوامها مفهوم الإسلام نفسه، وكل ما وجده علماء الإسلام ومفكروه معارضاً للإسلام نقضوه وما وجدوه مخالفاً عارضوه، وكشفوا زيفه وأعلوا شأن مفهوم الإسلام الجامع القائم على التوحيد الخالص والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي.(/1)
أما في العصر الحديث فإن الإرادة الإسلامية الحرة كانت مقيدة ومغلولة حين نشأت حركة الترجمة واستعت في ظل النفوذ الاستعماري المسيطر على البلاد العربية فكانت حركة الترجمة جزءاً من مخطط التغريب والغزو الثقافي بالرغم من أنها بدأت في عصر محمد علي بداية صحيحة راشدة، غير أنها سرعان ما فقدت أصالتها وتغلبت جماعات من المترجمين المارون اللبنانيين (شأنهم في هذا شأن جماعة السريان في العصر الأول) الذين عكفوا على ترجمة القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص التافه السخيف، وكانت الترجمة وسيلة كسب للعيش وليس عملاً فنياً فضلاً عن جهل لقواعد اللغة وعدم التقيد بالأصل المترجم وتشويه القصة، في لغة ركيكة مبتذلة عدداً بلغ ستمائة قصة، ثم ظهرت مؤامرة التمصير التي قادها عثمان جلال فكان يترجم القصص الفرنسية إلى العامية المصرية.
وظهرت مدرسة الترجمة من الأدب الإغريقي بقيادة لطفي السيد وطه حسين حيث ترجمت بعض آثار أرسطو والياذة هوميروس (سليمان البستاني) ومائدة أفلاطون للطفي جمعه وكثيرون.
ثم ظهرت أبعد القصص الأدبية إباحية وكشفاً حين ترجمت آثار مولير وراسين وكوررني.
ودخلت إلى الأدب العربي مفاهيم مختلفة تمام الاختلاف عن مفاهيم المسلمين في المرأة والرجل وفي العلاقات الاجتماعية على نحو يمتهن كرامة العرض والخلق وكذلك ترجم طه حسين وغيره أسوأ أشعار الأدب الفرنسي والقصص المسرحي أمثال بودلير وتوماس هاردي، وبورجيه، وموباسان، وبول فاليري ولم يسلم من هذا الاتجاه إلا عدداً قليل جداً من أمثال فتحي زغلول وعادل زعيتر ومحمد بدران بل لقد وقع المترجمون في ذلك الفخ الذي نصبه النفوذ الأجنبي بنسبه أشعار فارسية قديمة في الخمر إلى العالم الفلكي عمر الخيام من أمثال الزهاوي والصافي النجفي وأحمد رامي وعبد الحق فاضل وأحمد حامد الصراف ووديع البستاني إلى العربية مشيدين بها وهي لم تثبت في الأصل وتبين فساد مصدرها وأنها كانت محاولة خطيرة لبث روح التحلل والفساد والتمزق النفسي في الشباب المسلم.
ويمكن القول أنه كان وراء خطة الترجمة على هذا النحو قوى كبرى تهجف إلى غاية واضحة قوامها "تغيير أعراف هذه الأمة وتدمير مقوماتها" وقد كان لهذا القصص المكشوف أثره الواضح في تدمير أعراض كثير من البيوت.
واستمرت هذه الموجة من الترجمة الموجهة ولا تزال حتى اليوم تعمل في عدة ميادين وترمي إلى غايات بعيدة منها الغض أساساً من شأن الإسلام وقيمه ومفاهيمه وشريعته ولغته وتاريخه وطرح هذا الركام المسموم في مختلف الميادين وخاصة ما طرح في ميادين العلوم (نظرية دارون) والنفس (نظرية فرويد) والعلوم الاجتماعية (نظرية دوركايم) والأخلاق (نظرية سارتر) وفي العلوم الاقتصادية (نظرية الرأسمالية ونظرية الماركسية).
وكلها تهدف إلى فرض مفاهيم ونظريات وافدة معارضة لمفهوم الإسلام الأصيل الرجامع الواضح في مختلف مجالات النفس والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع.(/2)
وإذا أحصينا هذه الأجناس والفنون المختلفة وجدنا أن أقلها ما ترجم في ميدان العلوم والتكنولوجيا التي هي المادة الوحيدة التي نحن في حاجة إلى نقلها من الفكر الغربي، وبالرغم من ذلك فلا تزال القيود تقيد خطوة الفكر الإسلامي فيها فلال يزال مفروضاً على الكليات العلمية (الهندسة والطب والعلوم والزراعة) أن تخضع للمصطلحات الغربية ونتعامل معها مع أن أساس النهضة الحقة أن تنقل العلوم التجريبية إلى أحضان اللغة العربية أساساً حتى يمكن أن يقوم الانبعاث على أساس مفهوم الإسلام نفسه للعلم وليس على أساس مفهوم الغرب الذي يتمثل الآن في الاستعلاء العنصري والتهديد الذري، والصراع بين المعسكرين، والحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من الحصول على التكنولوجيا سواء العامة أم العسكرية والحربية – وغاية ما يقال في هذا الصدد أن معركة الترجمة لم تبدأ من منهج صحيح مدروس ينظم مدى ما نحتاجه وما لسنا في حاجة إليه، وإنما أخذ التغريب والغزو الثقافي المبادرة ومضى يقدم لنا على مدى قرن كامل نتاجاً سيئاً غاية السوء، قوامه ترجمة القصة المكشوفة الأجنبية والتراث اليوناني الوثني، والمفاهيم الماديوة والإباحية في مجالات النفس والاجتماع والأخلاق والتربية ومن الأسف أن هذا الآثار قد قدمت لنا على أنها "علوم أصيلة" وليست "فروضاً قابلة للخطأ والصواب" أو وجهات نظر تمثل أممها وأصحابها ولم تسبق هذه الدراسات أن تلحق بما يكشف أمام القارئ العربي والمسلم مكانها من فكر أمتها و موقفنا كفكر له منهج متكامل جامع منها، وبذلك زيفت هذه الترجمات كثيراً من العقول وأفسدت كثيراً من النفوس وخلقت أجيالاً مضطربة لأنها استطاعت أن تقرأ الفكر الغربي القائم على عقائد ومفاهيم وقيم وأيديولوجيات، على أنه "علم غير قابل للنقض" بينما لم يكن ذلك إلا مجموعة من الفرضيات القابلة للخطأ والصواب والتي تختلف بل ربما تتعارض مع فكرنا الإسلامي العربي، وكان القائمون على هذه الأعمال في الأغلب من خصوم هذه الأمة وفكرها ومن الراغبين إلى: اتخاذ سلاح الترجمة سبيلاً إلى هدم هذه المقومات.
وفي نفس الوقت الذي حجبت حركة الترجمة ما يحتاج إليه المسلمون في هذا قالعصر من مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والرياضية وغيرها، فقد طرح في أفق الترجمات ركاماً مضطرباً عاصفاً يرمي إلى هدم ذلك الحائط النفسي المرتفع القائم في النفس المسلمة بالحق والتقوى والكرامة والفضيلة والعفاف هذا الركام يصور الإباحيات الجنسية على أنها شرعة المجتمع المباحة كما يصور الجريمة على أنها ظاهرة طبيعية ويصل تأثير هذه المترجمات المسمومة إلى جميع مؤثرات العقائد والأخلاق والاجتماع، من حيث وجود تباين واضح وخلاف عميق بيثن مفاهيم الغرب ومفاهيم الإسلام حيث تقوم الحياة هناك على أساس عبادة الجسد وتقديس الجمال والنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة حرة بعيدة عن القداسة والعفاف والإيمان بالعرض وكرامة المرأة حيث تختلط الصور في هذه الترجمات المطروحة فتحدث آثارها الخطيرة في النفس العربية الإسلامية حتى تصل إلى صميم العقيدة نفسها.
كذلك كان من أسوأ آثار الترجمة ذلك الخلط الشائن بين المذاهب المتعارضة والنظريات المتضادة وهي نظريات ومذاهب لم تظهر في وقت واحد هنالك وإنما ظهرت على أزمنة متفاوتة ولكنها حين نقلت إلى فكرنا الإسلامي أريد طرحها جملة ليكون لاضطرابها وتباينها واختلافها أبعد الأثر في تدمير هذا الفكر والإدالة من أصالته.
ومن العجيب أن ننقل ونترجم آثار الفكر الغربي اليوم وهو يمر بمرحلة الأزمة والانهيار والهزيمة. وقد أحيط به واحتوته مقرررات التمودية وبورتوكولات صهيون وآوى أهله إلى ذلك الإحساس الرهيب بالغربة والقلق والتمرد والغثيان فنقل مسرح اللا معقول واللا أدب واللا أخلاق. ومثل هذه الفنون المضطربة التي لسنا في حاجة إليها والتي لا تستطيع أن تعطينا شيئاً يعيننا على بناء أنفسنا في فكرنا أو أمتنا وخاصة ما كتبه سارتر وكامي ومالرو من أحاسيس بالرعب والفزع والاضطراب نتيجة ذلك الانفصال الشائن عن العقيدة والأخلاق والمسئولية الفردية وهي في مجموعها تضاد الفطرة التي لا تستطيع النفس الإنسانية أن تتجاهلها أو تحتويها.
كذلك فإن هذه الترجمة تصور الفرد الغربي وهو يحتقر الأخلاق ويسخر من الرحمة والصدف والعفة والشرف ويحتقر الوطنبة ويضحك من التزام الأخلاق للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة.
وتجد مثل هذه الترجمات تحمل ذلك المثل الرديء بأن لا يحترم الإنسان أحداً ولا يحترم أي مثل أو دين أو مبدأ ويعتبر ذلك تقييداً لحريته وما يتصل بهذا من إنكار له تبارك وتعالى وتهجم بالعبارات الرديئة عليه (جل جلاله) على النحو الذي عرف عن نيتشه وسارتر وبيراندلو، فضلاً عن إحياء الأساطير واتخاذها أساساً لنظريات علم النفس والأخلاق والاجتماع أو مصاجر لمفاهيم الأنثروبولوجيا وغيرها من المفاهيم.(/3)
هذه السموم جميعها تترجم إلى لغتنا العربية وتدخل إلى دائرة أدبنا وفكرنا دون أن يقول مترجموها ما هو وجه الحق فيها وما هو الزيف. وما موقفنا منها كأمة لها عقيدتها وفكرها ومفاهيمها وقيمها. وهم بذلك يطرحون أفق مجتمعنا الإسلامي موجة زائفة من اليأس والتشاؤم والملل وازدراء الحياة مما لا يتفق مع طبيعتنا المتفائلة المؤمنة بالله تبارك وتعالى التي لا تخاف شيئاً ولا أحداً غير الله والتي تعتصم دائماً برضوان الله ورحمته.
ولعل هذه السموم التي تطرحها عملية الترجمة من أخطر ما يواجه حركة اليقظة الإسلامية اليوم وتضع أمامها صخوراً وجنادل تحول بينها وبين إكمال المسيرة إلى الحق وتحجب كثيراً من حقائق الإسلام وتفسد العقول والقلوب في أعماق شبابنا وأجيالنا الجديدة. ويتساءل كثير من الباحثين أمثال الدكتورة نازك الملائكة وغيرها عن الغاية التي سينتهي إليها شبابنا نتيجة تبنينا لهذا الفكر العربي المريض الزاحف.
ونحن نقول أننا أشد ما نكون حاجة إلى أن ننبه ونحذر من نتائج الأخطار والتي تطرحها عملية "الترجمة غير الموجهة" إسلامياً وأن نقف منها موقف التحفظ والتحذير والكشف عن أخطائها لتهدي أبنائنا إلى الحق، ونقول لهم في صراحة أن هذه المفاهيم دخيلة وافدة، وأنها ليست مفاهيم المجتمع الإسلامي العربي ولن تكون، نتيجة للخلاف العميق في الأسس والمصادر والمقومات والقيم والعقائد بين فكرنا وبين هذا الفكر ما بين أمتنا وبين الغرب.
ولقد حق علينا اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر أن يواجه الفكر الإسلامي هذه السموم والآثار التي طرحها الفكر المترجم الوافد، وقد بلغنا مرحلة الرشد والأصالة والقدرة على التحرر من التبعية والاحتواء والإذابة في بوتقة الفكر الأممي – علينا أن نعاود هذا الفكر بالنظر والتحليل وكشف الجوانب التي تتعارض مع الإسلام وخاصة ما كتب عن الرسول والإسلام والقرآن واللغة العربية وتاريخ الإسلام مما يحمل بذور الشكوك والتخرضات الضالة المضلة وهناك مجالات عديدة تحتاج إلى النظر والمراجعة:
ما ترجم في مجال الفكر الإغريقي الهليني.
ما ترجم في مجال العلوم الاجتماعية والنفس.
ما ترجم في مجال الأدب والنقد الأدبي والقصة.
ما ترجم من التاريخ وتفسير التاريخ.
ما ترجم في مجال الاقتصاد والسياسة.
ما ترجم في مجال التراجم وحياة العظماء.(/4)
حركة النفاق في السيرة النبوية، دلالات وأبعاد
د . عبد الحكيم الصادق الفيتوري مدير مركز المنار بمدينة كاردف – بريطانيا 27/10/1424
21/12/2003
لقد تقرر في محكمات الشريعة أن الإيمان تصديق بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح ، وأن هنالك علاقة تلازم قوية بين الظاهر والباطن ، فما وقر في القلب ظهر على الجوارح ، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت ، صلح الجسد كله ، وإن فسد فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب)(1).
ولهذا اكتفت الشريعة الإسلامية بإجراء أحكام الإيمان والكفران على الظاهر ( بقيوده وشروطه المعروفة ) دون تتبع مسارب الباطن ، لأن الباطن لم يجعل الله لنا عليه سبيل ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: ( أمرنا بالظاهر وسرائرهم إلى الله ) . وفي حديث أخر نهى بعض الصحابة عندما أرادوا إهدار الظواهر وتتبع البواطن ، فقال لهم:( لم نؤمر بشق الصدور ).
من هذا المنطلق يمكن لنا أن نتناول طائفة النفاق في عهد النبوة التي أظهرت الانتساب إلى الإسلام في الظاهر وأبطنت الكفر به والحرب عليه . فما هي حركة النفاق ، ومتى ظهرت ، وما هي أهدافها الاستراتيجية القديمة الحديثة ؟!
أولا : حركة النفاق:
لقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة جدا ، بل سورة بأكملها تناولت حركة النفاق وسماتها ، وأهدافها الاستراتيجية التي تسعى لتحقيقيها في إطار المجتمع الإسلامي . ولقد حذر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في أكثر من سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة ، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية ، حتى قال ابن القيم رحمه الله :(كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) .(2) إلا أن جل معاني الآيات التي تناولت حركة النفاق كحركة سياسية قد حددت أبرز معالمها النفسية والسلوكية في إطار الازدواجية بين الظاهر والباطن ، والتناقضية بين الاعتقاد والسلوك ، كما قال تعالى محدد ذلك الإطار المعنوي : {إذا جاءك المنافقون ، قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }!!
أما عن معالمها السياسية فقد اتخذت حركة النفاق (في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ) أسلوبا ماكرا تمثل في إيجاد هوامش واسعة للتحرك بين أمة الإسلام وأعداء الأمة لتشكيل جبهة داخلية معادية للمشروع الإسلامي في إطار دولته وقيم مجتمعه ، كما قال تعالى :{ اتخذوا أيمانهم جنة …}.(3) جنة حماية ووقاية من كشف أجهزة الأمة الإسلامية لدورهم العدائي للإسلام وقيمه {وإذا قيل لهم أمنوا كما أمن الناس ، قالوا أمنا ؟!!} زيادة في التلبيس والتدليس لتحقيق مأربهم المشبوهة { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم !!! إنما نحن مستهزؤون} !!
أما إذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا حقيقة ما يعتقدون ، من الكفر بهذا الدين ، ومعاداة قياداته ، ومحاربة دولته ، والوقوف مع أعداء الأمة والمناوئين لها لتحقيق ذلك … وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون … نسوا أنهم يحاربون الله … الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون … يخادعون الله … والله خادعهم .
فمن هو زعيم حركة النفاق الأولى ؟!
لا يخفى أن بروز حركة النفاق إلى حيز الوجود كان من خلال شخصية زعيمها وليس من خلال فكرة ومنهاج مطروح للنقاش والأخذ والعطاء فيه ، وهكذا حركات النفاق على مر التاريخ – دائما وأبدا – أنها حركات مأجورة تقف بين ثوابت الأمة المسلمة وبين أعدائها ، فهي حركة مريضة مرضا مزمنا في القلب { في قلوبهم مرض } محل الفهم والتدبر ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } !! فمرضهم هذا ليس مرضا عارضا ، بل هو مرض مزمن أصلي في جبلتهم ، قال تعالى : { في قلوبهم مرض } أصلا { فزادهم الله مرضا } تبعا عقوبة لهم !!
بيد أننا لابد من الوقوف على أبعاد شخصية زعيم حركة النفاق الأولى كما صورها القرآن الكريم وقفة تأمل وتحليل ، وفك وتركيب لتعدية ظلال هذه الصورة المرضية على من حولنا ممن تحلوا بصفات أولئك القيادات النفاقية ، وإسقاط دلالتها العقدية وأبعادها السياسية على حياتنا العملية المعاصرة .
الملف الشخصي لزعيم حركة النفاق الأولى:(/1)
الاسم : عبدا لله بن أبي بن سلول الخزرجي ، مكان الميلاد : يثرب ، مؤهلاته القيادية :زعيم قبيلة ، يجيد فن الخطابة ، قوي الشخصية ، ذو مال ، الحالة الاجتماعية : متزوج ، وله عدة أولاد وبنات ، وأبرز أولاده عبد الله ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه ، مكانته السياسية : روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة :(وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول … لا يختلف في شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام غيره ).(4) بل زاد الأمر على ذلك كما جاء في أخر الرواية : ( بأن الأمر وصل بعبد الله في المدينة ، إلى درجة دفعت قومه لأن ينظموا له الخرز ليتوجوه ، ثم يملكوه عليهم)(5).
مكانته الاقتصادية : لا يخفى أن مكانة ابن سلول الاجتماعية ولا سيما الاقتصادية المتمثلة في علاقته الوطيدة بأكبر القبائل اليهودية غنىً وصاحبة أضخم أسواق المدينة ، وهي قبيلة بني قينقاع.(6) التي كانت ولا شك تدعم ابن سلول اقتصاديا من خلال سياسة المصالح المشتركة بينهما حتى يتم ترشيحه من قبل الأوس والخزرج ملكا لهم ؛ خاصة لو أخذنا في الاعتبار أن من مقومات الزعامة والقيادة في البيئة العربية الجاهلية آنذاك الثراء والنفوذ الاقتصادي ، وكذلك في زماننا !!
ثانيا :تحليل شخصية ابن سلول النفسية:
على ضوء ما ذكر في كتب السيرة النبوية ، بقراءة استقرائية لمظآن أخبار ابن سلول ، نجد أن هذه الشخصية قد تشكلت سماتها من عدة عوامل وراثية ، ومنها ما كان مرده إلى البيئة الاجتماعية ، أو البيئة السياسية ، أو البيئة الجغرافية . ويمكن أن نتناول سمات شخصيته على هذا النحو التالي:
السمة الأولى : شخصية قيادية:
لا ريب أن الحرب الأخيرة بين الأوس والخزرج يوم بُعاث قد أودت بقتل زعيمي القبيلتين ، عمر بن النعمان زعيم الخزرج ، وحضير بن سماك زعيم الأوس كما ذكر ذلك ابن الأثير (7) ؛ بينما كان عبد الله بن أبي ابن سلول يرقب هذه الحرب الاستئصالية عن كثب ، ويقرؤها قراءة سياسية بعيون فاحصة تستشرف المستقبل ، وتحسب لإمكانية اجتماع القبيلتين على شخصية قيادية متزنة لم تلطخ يدها بدماء أي من أفراد القبيلتين أيما حساب . وبتلك العقلية القيادية التي تجيد قراءة الواقع ، واستشراف المستقبل لم يدخل ابن سلول في هذه الحرب الاستئصالية ، وكان له ما قد قدر.
فبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وفقدت القبيلتان قياداتهما الحربية والسياسية ، ودب الضعف والخوار بين أفراد كل قبيلة لعدم وجود قيادات بديلة تنوب عن تلك القيادات ، فأخذت الأنظار تتوجه إلى ذلك الرجل صاحب الشرف والنسب ، ذي العقل الحليم والحكيم ، الذي نأى بنفسه عن تلك الحروب التي لا تبقي ولا تذر ، والذي كان ينادي إلى الاتحاد وعدم الفرقة بين أبناء العمومة ، كل ذلك وغيره مما جعلت الأغلبية الساحقة من القبلتين تتفق على ترشيح ابن سلول ، وتقدمه على غيره لقيادة هذا التحالف الجديد ، وتسلمه زمام الأمور !!
بل وصل أمر بن سلول في سلم قيادة المدينة إلى درجة دفعت القبلتين ( لأن ينظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ) !! وذلك لما له من مقومات قيادية نادرة ، ومقنعة ، حيث كان ابن سلول ذو شخصية مهيبة ، من الناحية الشكلية ، والجمالية ، والبدنية ، كما قال تعالى عنهم { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } ومن الناحية العلمية والكلامية حيث أنه كان ذو منطق وفصاحة في كلامه ، وله القدرة العالية على إقناع الجمهور من خلال حديثه عند تبنيه لقضايا المجتمع ، قال تعالى : { وإن يقولوا تسمع لقولهم } ، ولكن لا قيمة لهذه المقومات والخصال إن لم يكن صاحبها صادق فيما يقوله ، ويستخدمها فيما يحب الخالق سبحانه وتعالى { كأنهم خشب مسنَّدة } !!
السمة الثاني : عدم الديمومة القيادية:
لا يخفى أن عدم ثبات هذه ( الديمومة ) النسبية لفترة زمنية مناسبة في الشخصية القيادية يؤدي إلى أحد أخطر الأمراض المتعلقة بالشخصية ، وهي مرض الازدواجية ، أو الانشطارية ، كما فصل ذلك القرآن الكريم وهو يتحدث عن نفسية المنافقين ، فقال عنهم مصورا هذه الانشطارية فيهم: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}، هذا جانب . أما الجانب الآخر { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } !! وقال أيضا عنهم : { ومن الناس من يقولوا آمنا بالله وباليوم الأخر } ، { وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله ، والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم } !! وقال عنهم : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض : قالوا إنما نحن مصلحون } ، { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } !! { ويحلفون بالله ما قالوا } ، { ولقد قالوا : كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم }!!(/2)
ولعل من المناسب ذكر بعض اللقطات التاريخية لبدايات اللقاء والتعارف بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبين أبناء يثرب من الأوس والخزرج ما يساعد على تحليل شخصية ابن سلول الانشطارية بين المؤمنين واليهود ، و المزدوجة بين الإيمان والكفران .
ففي اللقاء الأولى ( بيعة العقبة الأولى ) الذي انعقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مجموعة أهل يثرب التي كان أغلبها أو قل كلها من الخزرج قبيلة ابن سلول ، وهم كالأتي : ( أسعد بن زرارة , عوف بن الحارث ، رافع بن مالك ، قطبة بن عامر ، عقبة بن عامر ، جابر بن عبدالله . وكلهم من الخزرج)(8).
فلقد دار في هذا المؤتمر نقاش هام حول مفاهيم هذا الدين الجديد ، ووسائله، وأهدافه، ولم يكن ابن سلول الزعيم القومي لأهل يثرب قد دعي لهذا اللقاء، بل لم يخبر بنتائج وتوصيات ذلك اللقاء لا من قريب ولا من بعيد!!
ثم انعقاد اللقاء الثاني ( بيعة العقبة الأولى ) بين الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وشباب يثرب - رضوان الله عليهم - لمدارسة كيفية الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة ، ومن مرحلة الدعوة والتأسيس إلى مرحلة الدولة والتمكين ، فكان حضور أهل يثرب اثنا عشر رجلا أغلبه من قبيلة الخزرج(9).
مما لا شك فيه أن ابن سلول لم يدع لهذا اللقاء ، ولم يخبر بتوصياته كذلك ، وكأنه قد وصلته بعض المعلومات الملونة عن هذا اللقاء إلا أنه لم يلق لها بالا لما يلقه من تأييد شعبي كبير خاصة من القيادات الشبابية داخل قبيلته وحتى من الذين حضروا هذه المؤتمرات المصيرية ، فالأمر إذن ليس جد خطير على مصالحه الشخصية!!
ثم انعقد اللقاء الثالث بمنى ولم يدع له الزعيم القومي لأهل يثرب رغم وجوده بمنى كرئيس لبعثة حجاج أهل يثرب كلها (ففي موسم الحج في السنة الثالثة عشر من النبوة ، حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب ، جاؤوا حجاج قومهم من المشركين ، قد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم – وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق – حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟!)(10).
إذن هذا المؤتمر ليس كسابقيه من المؤتمرات ، فهو يدور على مناقشة الأسس التمهيدية لقيام الدولة الإسلامية على أراضى أهل يثرب ، ومن ثم كيفية تطبيق الوسائل العملية لانتقال قيادة الدولة الإسلامية إلى مقرها الجديد لمباشرة أعمالها السيادية ، وبسط نفوذها السياسية ،كما جاء ذلك على لسان أحد قيادات أهل يثرب حيث قال لهم – العباس بن عبادة - : ( هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم ، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس …)(11).
وبعد أن تمت البيعة وأشرف اللقاء على نهايته طلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم انتخاب قيادات عريضة تمثل كافة قطاعات الشعب اليثربي وذلك بمعزل عن القيادة الجاهلية المتمثلة في ابن سلول وغيره سحبا للبساط من تحت أقدامهم ، وبالفعل قد تم اختيار اثني عشر زعيما من أهل يثرب يشكلون الصف الأول القيادي لأهل يثرب قاطبة .إلا أن هنالك معلومات قد تسربت إلى القيادة الجاهلية مفادها : أنه قد تم تشكيل قيادات إسلامية جديدة بديلة عن القيادات الجاهلية القديمة ، والسعي لإقامة دولة إسلامية على أراضى يثرب ، فلما قرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة أثارت القلاقل والأحزان … فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى مخيم أهل يثرب ، ليقدم احتجاجه الشديد على ذلك المؤتمر السري الخطير !!
فقال الوفد المكي : ( يا معشر الخزرج ، أنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا … فقام ابن سلول ، فجعل يقول : هذا باطل ، وما كان هذا ، وما كان قومي ليفتاتوا على بمثل هذا ، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني ) !!
من هنا . تأكدت المعلومات الملونة السابقة في ذهن ابن سلول الزعيم القومي كخطوط عريضة دون تفصيل عن ماهية أوراق العمل التي نوقشت خلال جلسات المؤتمر التأسيسي ، لذلك فقد أخذ في اعتباره – إن صدقت هذه المعلومات - خطورة هذه المؤتمرات ومآلاتها على مكانته القيادية والاجتماعية والاقتصادية في الفترة القادمة ، فلابد إذن من أخذ الحذر والاحتياط من تحركات القيادة الشبابية المشبوهة ، والاستعداد لمواجهة أهداف وتوصيات تلك المؤتمرات السرية بعقلية احتوائية تحفظ المصالح الاقتصادية ، وترعى المكانة السياسية والاجتماعية .
فعندما انتقلت قيادة الدولة الإسلامية إلى المدينة المنورة مقر الدولة الإسلامية الجديدة ، شعر – ابن سلول – بأن القيادات الشبابية اليثربية قد اختارت قيادة بديلة عنه وتجاوزته ، وأن مشروعه السلطوي هو الأخر قد تجاوزه الزمن وأصبح جزءا من الماضي والتاريخ فأصيب ، والحالة هذه بمرض حاد في الشخصية يسمى في علم النفس الشخصي بمرض ( الازدواجية ، أو الانشطارية )(12).(/3)
ويعبر عنه في الشريعة الإسلامية بمرض النفاق حيث تكون شخصية هذا المريض مركبة من أمرين مزدوجين غير قابلين للتعايش إلا في شخصية قلبها مريض ، كما قال تعالى عنهم : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }!!
ثالثا:متى ظهرت حركة النفاق على السطح ؟
لا يخفى أن بعد وصول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واكتمال حضور كل القيادات الإسلامية لمقر الدولة الإسلامية الجديد ، وتزايد رابطة الإيمان فيما بين الأنصار ( الأوس والخزرج ) والمهاجرين رضوان الله عليهم ، وانتشار الإسلام في كل دور أهل المدينة ، وظهور علامات القوة المادية والمعنوية على سواعد هذه الدولة الفتية ، رأت القيادة الانشطارية ( ابن سلول ) أن تركب موجة التدين ، وأن تظهر علامات الالتزام بالإسلام في إطاره الاعتقادي ، والاجتماعي ، والسياسي ، وتخفي وراء ذلك الكفر به ونصب العداء له ، وذلك دون أن تظهر على السطح كحركة مستقلة مناوئة للمشروع الإسلامي الجديد.
فقد سلكت حركة النفاق في أول أمرها أسلوب العداء الفردي للقيادة الإسلامية ، كقول ابن سلول للرسول صلى الله عليه وسلم عندما غشى مجلسا على دابة وبه بعض الصحابة وابن سلول فقال زعيم المنافقين وقتئذ : ( لا تغبروا علينا !! … ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال : أي سعد ، ألم تسمع ما يقول أبو حباب ( ابن سلول ) ؟ قال كذا وكذا … قال سعد : اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح لأهل هذه البحيرة ( المدينة ) أن يتوجوه ، يعني يملكوه فيعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله تبارك وتعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك ، فلذلك فعل بك ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم )(13).
وهذه الحادثة كما تقرر كتب التاريخ والمغازي أنها قد وقعت قبل معركة بدر ، وذلك في بداية الهجرة إلى دار الإسلام ، ثم تكررت الحوادث المماثلة لتلك الحادثة هنا وهناك حتى يوم أحد على الأرجح حين نقلت الأجهزة الأمنية الإسلامية معلومات مفادها أن جيش مكة على مقربة من حدود الدولة الإسلامية الوليدة ( حينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا عسكريا أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف ، فأشار فريق من الناس عليه بعدم الخروج من حصون المدينة ، وأن يتحصنوا بها ، فوافق على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول – زعيم المنافقين – وحاول أن يتظاهر بأنه حريص على سلامة الدولة الإسلامية ، وأنه رجل جاد في توجهه هذا !! وقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه أمام رأي الأغلبية ، واستقر الأمر على الخروج من المدينة ، واللقاء في الميدان السافر.
وقبل طلوع الفجر بقليل من يوم المعركة تمرد ابن سلول في حركة نفاق تعدادها قرابة ثلث العسكر أي ثلاثمائة مقاتل، قائلا: ما ندري علام نقتل أنفسنا ؟!ومتظاهرا بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره!!(14).
ولكن في حقيقة الأمر ليس كذلك ، بل لمرض في نفسه المصابة بالازدواجية ، وحب الزعامة ، ورغبته في أن يخالف الجميع من باب خالف تعرف ، وحسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرهه للمهاجرين رضوان الله عليهم . ومنذ هذه الحادثة برزت حركة النفاق إلى حيز الوجود ، ككيان سياسي ، وحاولت أن تظهر لها قيادات جديدة ، حتى توهم الرأي العام أنها كل شي ، وصاحبة الحق والرأي السديد ، وأسماء قيادات حركة النفاق هي التي كانت عند حذيفة ابن اليمان - رضي الله عنه - صاحب سر رسول الله ، ومنذ ذلك التمرد وحركة النفاق تكرر هذا التمرد الجماعي المناوئ ، وبصورة علنية للمشروع الإسلامي !!
ففي غزوة بني المصطلق قامت حركة النفاق بأخطر محاولة استهدفت وحدة الجماعة الإسلامية ، وكادت تقودها إلى حرب استنزافية لا يعلم حدودها إلا الله ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزو مقيما على المريسيع ، ووردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجير يقال له جهجاه الغفاري ، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهني !! وبلغ ذلك ابن سلول زعيم حركة النفاق فغضب وقال في رهط من قومه : أو قد فعلوها ، قد نافرونا ، وكاثرونا في بلادنا ، والله ما نحن وهم إلا كما قال : الأول :سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم (15).(/4)
وتوالت تلك المواقف من حركة النفاق التي كانت ملئت بالحقد والحسد ، على قيادة الإسلام والإسلام ذاته ، فقد أثارت القلق والاضطراب ، وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين يوم الأحزاب كما صور ذلك المولى عز وجل بقوله : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا … }.
وقبل ذلك موقفهم من يهود بني قينقاع الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاصرهم أشد الحصار ، ودام الحصار خمس عشرة ليلة ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم ، فأمر بهم فكتفوا.
وحينئذ قامت حركة النفاق بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول بدورها المشبوه والمأجور ، فألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم عفوا ، فقال : يا محمد !! أحسن في موالي ، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكرر ابن أبي مقالته ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درعه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : ويحك ، أرسلني!!
ولكن هذا الخبيث مضى على إصراره ، وقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر !! قال تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين }.( المائدة :52)
رابعا : مبدأ سياسة الاحتواء والتدجين:
لا يخفى أن لحركة النفاق أهدافا استراتيجية وأخرى تكتيكية ، فالأهداف الاستراتيجية كانت تهدف إلى استلام الحكم وزمام الأمور ، أما الأهداف التكتيكية فكانت تمهد لتلك الأهداف الاستراتيجية وذلك بمحاولة إحياء النعرات القومية بين المسلمين ، وتخريب البنى الإيمانية من مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وغيرها ، وضرب الحصار الاقتصادي غير المعلن مع قوى اليهود الرأسمالية ، وممارسة أساليب الحرب النفسية ضد قيادة الدولة الإسلامية ، والتشكيك في مصداقية هذا التوجه.
وقد اتخذت حركة النفاق وسائل عديدة لتحقيق أهدافها الخبيثة في واقع الناس ، وقد ذُكر في القرآن الكريم جزء من هذه الوسائل التخريبية التي اتخذتها حركة النفاق ضد المشروع الإسلامي الجديد ، وكيف احتوت قيادة الأمة الإسلامية هذه الحركة بطريقة سياسية احتوائية بارعة ؛ استطاعت من خلالها أن تحافظ على وحدة الأمة ، وتماسك الجبهة الداخلية ، وتذويب قيادات حركة النفاق من خلال حركة المجتمع الإسلامي المتحرك والمتجدد .
والآن يمكن أن نأخذ لقطتين من مسيرة حركة النفاق التخريبية بشيء من الدراسة والتحليل حسبما يقتضيه المقام ، وهاتان اللقطتان هما : (حادثة الإفك ، وحادثة مسجد ضرار) ، حيث أنهما يعتبران المجسم العملي الذي تجسمت فيها أهداف حركة النفاق التكتيكية والاستراتيجية من خلال ممارساتها العلنية والسرية لهذه الاستراتيجية ، وفي المقابل نتحسس سياسية الدولة الإسلامية الاحتوائية ، وكيفية تدجين حركة النفاق ، واستيعاب الفتنة ، بدون أي آثار جانبيه على مسيرة الدعوة والدولة الإسلامية !!
خامسا :حادثة الإفك …. أبعاد وظلال:
في العام الخامس من قيام الدولة الإسلامية ، حين بدأت للأعداء بأنها دولة ليس من السهل إسقاطها من الخارج وذلك على هيئة اجتياح عسكري من الخارج ، لذلك لابد من إيجاد عناصر عميلة من داخل الدولة الإسلامية وتقويتها ودعمها لزرع الشقاق بين الجبهة الإسلامية الموحدة ، والتشكيك في مصداقية القيادة الإسلامية ، ومحاولة اغتيالها من الداخل إن أمكن ، وإسقاط الدولة من بعد ذلك.
وكان المرشح لهذا الدور الخبيث هي ( حركة النفاق ) بقيادة ابن سلول ، وبالفعل فقد كان هذا العميل وحركته أقرب الحركات المعادية للمشروع الإسلامي الذي يقوم بدور مخلب القط في داخل جسم المجتمع الإسلامي.
فقد تم للقوة المحاربة الاتصال به في جنح الليل ، وتوظيفه لهذه المهمة الخسيسة ، حيث لجأ هذا الأخير إلى أساليب الخسة والحقد ، وذلك بالطعن في أهلية قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للدولة ،كما قال تعالى عنهم : { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } . (التوبة :61) والطعن في مصداقية توجهه صلى الله عليه وسلم، وذلك بقولهم : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } . (التوبة :58) والطعن في مصداقية توجه الجبهة الإسلامية نحو الإسلام ، كما قال تعالى عنهم : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا جهدهم ، فيسخرون منهم ، سخر الله منهم ، ولهم عذاب أليم } .( التوبة : : 79). وتشكيك في وعد رسول الله للمؤمنين بالنصر والجنة ، قال تعالى عنهم: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }.(الأحزاب:12).(/5)
ولقد ثبت اتصال حركة النفاق بدولة ( الاستكبار والطغيان ) قريش الجاهلية ، وقبول حركة النفاق ما أملته عليها قريش من إعلان الكيد والعداء للمشروع الإسلامي ، كما ثبت ذلك في سنن أبي داود.
تفرقوا … ومن بعد هذا التفرق بدأت حركتهم تعمل في سرية وتحت السطح ، ثم لما رأوا من أنفسهم أنهم قد وصلوا مرحلة تأهلهم – بزعمهم – إلى الإعلان والظهور ، وقد ظهرت ذلك جليا بصورة جماعية (كحركة معارضة للإسلام ) في غزوة بني المصطلق عندما عرفوا أن الدولة الإسلامية منتصرة لا محالة - لأسباب كثيرة لا يسمح المقام بذكرها ههنا - ، لذلك خرجوا مع الجيش الإسلامي كجماعة كبيرة ليقوموا بدورهم المأجور ، فبعد نهاية المعركة وانتصار المسلمون فيها نصرا مؤزرا قاموا بتأليب الأنصار على المهاجرين ، وإحياء النعرات القومية ، والجهوية ، وذلك لضرب المبنى الإيمانية ( المؤاخاة في الدين ) ، ومن ثمة مشروع الدولة الإسلامية.
وذلك بتحريض زعيم حركة النفاق - وبصورة سافرة هذه المرة – قومه من الخزرج والأوس (الأنصار) ضد هؤلاء الأجانب ( المهاجرون ) ، وإعلان الحرب عليهم بكل أنواعه ، حتى تعالت أصوات الحرب يا معشر الأنصار … يا معشر المهاجرين !! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!!
ثم بعد ذلك اجتمع زعيم حركة النفاق بحركته وبعض من أفراد قومه في اجتماع سري للغاية ؛ حدد فيه الاستراتيجية العدائية ضد هؤلاء الأجانب ، فقال لهم : ( قد نافرونا في بلادنا ، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك !! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم !! ).
لقد كان هذا الاجتماع السري ، وهذا الشعار الجاهلي ( سمن كلب يأكلك ) الذي أطلقه زعيم حركة النفاق كافي لتحريك نعرات القومية ، والجهوية ؛ ومن ثم شق وحدة الصف المسلم ، ولكن هيهات هيهات فقد كانت قوة الارتباط الإيماني بين المهاجرين والأنصار أبعد من أن يتصوره أهل النفاق ، حتى قال الله فيهم : { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }.(الحشر : 9)
ولكن زعيم حركة النفاق المأجورة ما انفك يرصد السوانح لتحقيق طموحه وأهدافه الخبيثة خاصة حين أدرك أن مشروعه السلطوي قد تجاوزه الزمن وأصبح في سلة المهملات ، وأن ثمة مسافة حقيقية تفصل بينه وبين القيادات الشابة من الأوس والخزرج الذين بايعوا رسول الله في العقبة ؛ مسافة في إيمانهم بالإسلام ، ومسافة أخرى في قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا حاول بنفسيته المريضة في هذا الجو المشحون بالعبارات الضبابية ، والنفوس المتعبة من مسيرة الجهاد أن يرمي ببعض خزعبلاته مؤداها : الطعن في بيت الرسول الكريم تشويها له حتى ينفض الناس من حوله خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن أمر العرض عند العرب كان ذا أهمية بالغة.
وهكذا أخذت حركة النفاق بصورتها الجماعية منحنى المحاربة العلنية للقيادة الإسلامية ، وتثبيط المسلمين من حولها ، وإحياء النعرات القبلية والجهوية لتفتيت الجماعة الإسلامية جملة ، وتوسيع دائرة السلبية ، وتشجيع الجيوب العدائية ضد المجتمع والدولة الإسلامية ، ولكن ذهب تخطيطهم أدراج الرياح ، قال تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } .(النور : 11)
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس ، وقال :( يا معشر المسلمين ! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي ، فو الله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
وهذا يعتبر أول إعلان من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علني ضد حركة النفاق لتحجيم دورها ، وإدخالها في مأزق يكسر شوكتها بأيد قيادات أنصارية ، ثم بعد ذلك تدخل مرحلة التدجين السياسي ، وتصبح لها قابلية التعايش والاستيعاب والاحتواء.
والجدير بالذكر أن الدولة الإسلامية في تلك المرحلة كانت تتمتع بالقوة والاستقرار ، وكان لها هيبة في نفوس دول الجوار في محيط الجزيرة العربية ، لذلك لم يخف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حركة النفاق بعد طرد حلفائهم من بني قينقاع خارج حدود الدولة الإسلامية ، وضرب قوة قريش ( رمز الاستكبار والطغيان ) التي تعتبر الدعامة الأساسية لحركة النفاق ، حتى كان يقول لأصحابه رضوان الله عليهم عندما طلبوا منه مرات عديدة بتصفية عناصر حركة النفاق ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: ( لا نقتلهم .. حتى لا يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه )!!(/6)
بل وصل الأمر بابن زعيم حركة النفاق أن قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:( بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ).!!
وفي ذلك إشارات واضحة الدلالة على مدى عمق عملية التربية التي قد نالتها القاعدة الصلبة ، وأعمدة الدولة ؛ التربية بشموليتها الإيمانية ، والسياسية ، حيث أن حركة النفاق لسرعة تلونها بلون المحيط بها ؛وإمكانات الوصول إلى مواقع متقدمة من المجتمع الإسلامي ، وإيصال القول له بدون حواجز فكرية ونفسيه وأمنية ، جعل الصمود ضدها من الصف الإسلامي ؛ وتفتيتها ، دليل قوى ، وآية إيمان وتربية ، ومؤشر فقه سياسي متقدم .
سادسا : حادثة مسجد ضرار … وسائل عدوانية:
يقال في هذه الحادثة ما قد قيل في حادثة الإفك من وصف حركة النفاق بالخسة والعمالة ، وأنه مخلب القط في جسم المجتمع والدولة الإسلامية ، إلا أن حركة النفاق في هذه الحادثة بعد أن افتضح أمرها أمام الملأ وأصبح متداولاً بين الناس وحديث الساعة ، قررت القيام بعملية خطيرة لها ما بعدها ، تقصد بذلك حسم الصراع الدائر لصالحها ؛ وذلك بعدة خطوات منها : إقامة مسجد يضاهي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون بمباركته ، ثم بعد ذلك تحسم القضية باغتياله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى تبوك !!
وهكذا فقد أنجزت حركة النفاق المسجد ( وقد ذهبوا للرسول قبل رحيله إلى تبوك ، وقالوا له لقد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، ونحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه ؟ فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر وحال شغل . فقال لهم : لو قدمنا إن شاء الله أتيناكم ؛ فنصلينا لكم فيه ).
فعندما فشلت المحاولة الأولى ، قرروا تنفيذ العملية الثاني ؛ فخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك حيث استغرق المسير إلى تبوك والمآب منها أياما طوالا ، ولما بلغ المسلمون تبوك فلم يجدوا بها كيدا ، ولا مواجهة عدو ، وكفى الله المؤمنين القتال ( وفي الطريق حاول اثنا عشر رجلا من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى فيهم : { وهموا بما لم ينالوا }.
فلما آب النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه ، وتحرج موقف المنافقين وانكشفت خباياهم ، أرسل اثنين من أصحابه إلى هذا المسجد وأمرهم أن يحرقوه ويهدموه ، ونزل قوله تعالى : { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ، وكفرا ، وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون ، لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } . (التوبة : 107-108)
وهكذا انتهت حركة النفاق كحركة سياسية عميلة مرتبطة بقوى الباطل والشر متمثلة في ( اليهود ومشركي العرب ) من خارج البلاد ، أما ما تبقى من عناصرها بعد وفاة زعيمهم لم يجدوا بُدا من الانخراط في حركة المجتمع الإسلامي النقية ، ويعيدوا نظرهم في قبول الإسلام كدين يشمل كافة مناشط الحياة ويربطها بالآخرة ، ويراجعوا مواقفهم السالفة التي كانت تدور في فلك مصالح غيرهم من قيادات حركة النفاق والعمالة.
وبهذا تسجل الدعوة والدولة الإسلامية رقما قياسيا في سياسة الاستيعاب والاحتواء لحركة داخلية متمردة على نظام المجتمع والدولة بدون أسباب فكرية ، ولا منهجية علمية ، ولكن العمالة والحقد والحسد ، والارتزاق على حساب ذلك، كما قال تعالى :{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق }.(البقرة : 109) ثم جاء التوجيه القرآني للمسلمين بالعفو والصفح عنهم حتى يدجنوا ، ويتم تذويبهم في حركة المجتمع الطاهر ، فقال تعالى : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير ، وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } . (البقرة :110)
وبعد … أما آن لحركة النفاق المعاصرة مراجعة ذاتها وأفكارها ، والإنابة لثوابت الأمة المسلمة ، وعدم الإرتماء في أحضان أعدائها !!
وهل من سبيل لقيادات الأمة المسلمة الراشدة من استيعاب حركة النفاق ، واحتواء مخاطرها قبل أن ينهار السد عليهم وعلى الأمة المسلمة جملة ؟!والله ولي التوفيق(1)- موسوعة السنة ، صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب (فضل من استبرأ لدينه ) المجلد الأول : 1/19
(2)- انظر : مدارج السالكين ، لابن القيم: 1/347
(3)- انظر : السيرة النبوية ، لابن هشام : 2/166
(4) انظر : المرجع السابق : 1/ 143(5
(5)-انظر : الكامل في التاريخ ، لابن الأثير ؛ علي بن أبي الكرم : 1/ 681
(6) انظر : الرحيق المختوم ، لمباركفوري: 122 ، وزاد المعاد ، لابن القيم: 2/50
(7) راجع : السيرة النبوية ، لابن هشام : 1/431-432
(8) الرحيق المختوم : 133 4- انظر : السيرة النبوية ، لابن هشام : 1/446
(9)- راجع : أصول علم النفس العام ، للدكتور : عبدا لمجيد محمد الهاشمي : 283(/7)
(10)-راجع : المغازي النبوية ، لابن شهاب محمد بن مسلم الزهري : 180-181 ، وراجع : صحيح البخاري : 2/924 ، وصحيح مسلم : 2/9
(11)- راجع : الرحيق المختوم : 227-229
(12)- راجع : صحيح البخاري : 1/499 ، 2/729 ، والسيرة النبوية ، لابن هشام : 2/290
(13)- الرحيق المختوم ، للمباركفوري: 302
(14)- موسوعة السنة ، صحيح مسلم ، كتاب التوبة ، باب : ( في حديث الإفك ، وقبول توبة القاذف ) ، المجلد السادس : 3/2134
(15)- تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير :2/288(/8)
حركة تحرير المرأة
سليمان بن صالح الخراشي
دار القاسم
التعريف :
حركة تحرير المرأة: حركة علمانية، نشأت في مصر في بادئ الأمر، ثم انتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية. تدعوا إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل أمر … ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم العربي.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
قبل أن تتبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي .. كان هناك تأسيس نظري فكري لها .. ظهر من خلال كتب ثلاثة ومجلة صدرت في مصر.
- كتاب: المرأة في الشرق، تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى.
- كتاب: تحرير المرأة، تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم في أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين.
- كتاب: المرأة الجديدة، تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين.
- مجلة السفور: صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
سبق سفور المرأة المصرية، اشتراك النساء بقيادة هدى شعراوي ( زوجة علي شعراوي ) في ثورة سنة 1919م فقد دخلن غمار الثورة بأنفسهن، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م.
وأول مرحلة للسفور كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي تحضرن خطبته أن يزحن النقاب عن وجوههن. وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم: هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى. واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
تأسس الاتحاد النسائي في نيسان 1924م بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما عام 1922م .. ونادى بجميع المبادئ التي نادي بها من قبل مرقص فهمي المحامي وقاسم أمين.
مهد هذا الاتحاد بعد عشرين عاماً لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944م وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية. وقد رحبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بانعقاد المؤتمر حتى أن حرم الرئيس الأمريكي روزفلت أبرقت مؤيدة للمؤتمر.
ومن أبرز شخصيات حركة تحرير المرأة:
الشيخ محمد عبده، فقد نبتت أفكار كتاب تحرير المرأة في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده. وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية وفي تفسيره لآيات أحكام النساء. ( التفاصيل في كتاب المؤامرة على المرأة المسلمة د. السيد أحمد فرج ص 63 وما بعدها. دار الوفاء سنة 1985م كتاب عودة الحجاب الجزء الأول، د.محمد أحمد بن إسماعيل المقدم ).
سعد زغلول، زعيم حزب الوفد المصري، الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وتشجيعه في هذا المجال.
لطفي السيد، الذي أطلق عليه أستاذ الجيل وظل يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات الجريدة لسان حال حزب الأمة المصري في عهده.
صفية زغلول، زوجة سعد زغلول وابنة مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء في تلك الأيام وأشهر صديق للإنكليز عرفته مصر.
هدى شعراوي، ابنة محمد سلطان باشا الذي كان يرافق الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة وزوجة علي شعراوي باشا أحد أعضاء حزب الأمة ( حالياً الوفد ) ومن أنصار السفور .
سيزا نبراوي ( واسمها الأصلي زينب محمد مراد )، وهي صديقة هدى شعراوي في المؤتمرات الدولية والداخلية. وهما أول من نزع الحجاب في مصر بعد عودتهما من الغرب إثر حضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما 1923م.
درية شفيق، من تلميذات لطفي السيد، رحلت وحدها إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراه، ثم إلى إنكلترا، وصورتها وسائل الإعلام الغربية بأنها المرأة التي تدعوا إلى التحرر من أغلال الإسلام وتقاليده مثل: الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات.
- لما عادة إلى مصر شكلت حزب ( بنت النيل ) في عام 1949م بدعم من السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية .. وهذا ما ثبت عندما استقالت إحدى عضوات الحزب وكان هذا الدعم سبب استقالتها. وقد قادت درية شفيق المظاهرات، وأشهرها مظاهرة في عام 19 فبراير 1951م و 12 مارس 1954م بالتنسيق مع أجهزة عبد الناصر فقد أضربت النساء في نقابة الصحافيين عن الطعام حتى الموت إذا لم تستجب مطالبهن. وأجيبت مطالبهن ودخلت درية شفيق الانتخابات ولم تنجح. وانتهى دورها. وحضرت المؤتمرات الدولية النسائية للمطالبة بحقوق المرأة - على حد قولها.(/1)
سهير القلماوي، تربت في الجامعة الأمريكية في مصر، وتخرجت من معهد الأمريكان، وتنقلت بين الجامعات الأمريكية والأوربية، ثم عادت للتدريس في الجامعة المصرية.
أمينة السعيد، وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر .. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت حجاب المرأة بجرأة - ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: " كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق ؟ ". تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الاشتراكية - وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية .. وهي لا تزال تقوم بهذا الدور ..
د . نوال السعداوي، زعيمة الاتحاد المصري حالياً.
الأفكار والمعتقدات:
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
- الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
- الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في كل المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
- تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
- المساواة في الميراث مع الرجل.
- الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
- المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية.
- أوروبا والغرب عامة هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة: كالعمل، والحرية الجنسية، ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
الجذور الفكرية والعقدية:
بعد تبلور حركة تحرير المرأة على شكل الاتحادات النسائية في بلادنا خاصه والدول عامة، أصبحت اللادينية أو ما يسمونه ( العلمانية ) الغربية هي الأساس الفكري والعقدي لحركة تحرير المرأة. وهي موجهة وبشكل خاص في البلاد الإسلامية إلى المرأة المسلمة؛ لإخراجها من دينها أولاً. ثم إفسادها خلقياً واجتماعياً .. وبفسادها، يفسد المجتمع الإسلامي وتنتهي موجة حماسة العزة الإسلامية التي تقف في وجه الغرب الصليبي وجميع أعداء الإسلام وبهذا الشكل يسهل السيطرة عليه.
ومن الأدلة على أن جذور حركة تحرير المرأة تمتد نحو العلمانية الغربية مايلي:
- في عام 1894م ظهر كتاب للكاتب الفرنسي الكونت داركور ، حمل فيه على نساء مصر وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
- في عام 1899م ألف أمين كتابه تحرير المرأة أبدا فيه آراء داركور.
- وفي نفس العام هاجم الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل ( زعيم الحزب الوطني ) كتاب تحرير المرأة وربط أفكاره بالاستعمار الإنكليزي.
- ألف الاقتصادي المصري الشهير محمد طلعت حرب كتاب تربية المرأة والحجاب في الرد على قاسم أمين ومما قاله: " إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا ".
- ترجم الإنكليز - أثناء وجودهم في مصر - كتاب تحرير المرأة إلى الإنكليزية ونشروه في الهند والمستعمرات الإسلامية.
- الدكتورة ( ريد ) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي التي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية.
- اغتباط الدوائر الغربية بحركة تحرير المرأة العربية وبنشاط الاتحاد النسائي في الشرق وتمثلت ببرقية حرم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمؤتمر النسائي العربي عام 1944م.
- صلة حزب ( بنت النيل ) بالسفارة الإنكليزية والدعم المالي الذي يتلقاه منهما - كما رأينا عند حديثنا عن درية شفيق.
- ترحيب الصحف البريطانية بدرية شفيق زعيمة حزب ( بنت النيل ) وتصويرها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.
- برقية جمعية ( سان جيمس ) الإنكليزية إلى زعيمة حزب بنت النيل تهنئها على اتجاهها الجديد في القيام بمظاهرات للمطالبة بحقوق المرأة.
- مشاركة الزعيمة نفسها في مؤتمر نسائي دولي في أثينا عام 1951م ظهر من قرارته التي وافقت عليها أنها تخدم الاستعمار أكثر من خدمتها لبلادها.
- إعلان ( كاميلا يفي ) الهندية أن الاتحاد النسائي الدولي واقع تحت زيادة الدول الغربية ولاستعمارية واستقالتها منه.
- إعلان الدكتورة نوال السعداوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري عام 1987م أثناء المؤتمر أن الدول الغربية هي التي هيأت المال اللازم لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي والدول الإسلامية لم تساهم في ذلك.
هذه بعض الوقائع التي تدل دلالة لا ريب فيها على صلة حركة تحرير المرأة بالقوى الاستعمارية الغربية.
ويتضح مما سبق:(/2)
أن حركة تحرير المرأة هي حركة علمانية، نشأت في مصر، ومنها نشرت في أرجاء البلاد الإسلامية، وهدفها هو قطع صلة المرأة بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها كالحجاب، وتقييد الطلاق ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل شيء. ويعتبر كتاب المرأة في الشرق لمرقص فهمي المحامي، وتحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين من أهم الكتب التي تدعوا إلى السفور والخروج على الدين، وتمتد أهداف هذه الحركة لتصل إلى جعل العلمانية واللادينية أساس حركة المرأة والمجتمع.(/3)
حركة حماس وسياسة ألا حرب وألا سلم
أ. د. إبراهيم أبراش
17 - 5 - 2006
لا غرو بأن الحكومة الفلسطينية الراهنة حكومة جديدة بما تعنيه الكلمة ، فمنذ اثني عشر سنة ، كانت كل الحكومات السابقة من نفس النخبة السياسية و ذات الوجوه تقريباً ، الانتخابات حضرت للتشريعي و للحكومة حركة حماس وهذا يُعد انقلاباً حقيقياً . انقلاب حقيقي ، في الوجوه وفي البرامج والمرجعيات ، ولكن بأدوات تنسب للممارسة الديمقراطية ، ولأنها حكومة جديدة في كل شيء حتى الآن ، فأمر استيعابها من النخبة السياسية ومن الأطراف الإقليمية والدولية يحتاج لوقت ، وأمر تكيّفها مع هذه الأطراف تحتاج لوقت أيضاً ، إن حدث التكيُّف .
القول بأنها حكومة جديدة لا يتضمن حكم قيمة سلبي أو إيجابي بل هو تشخيص ووصف لواقع أهم ملامحه محاولات الحصار والتضييق على الشعب الفلسطيني بكل السبل ، والشلل الذي أصاب مجمل النظام السياسي الفلسطيني بسبب ذلك ، فلم يحدث في تاريخ الانتخابات الديمقراطية الحقيقية أن تعرض شعب للحصار لأنه مارس حقاً ديمقراطياً وفي فترة قياسية جد قصيرة ، شهر تقريباً ،هذا الأمر يدفعنا لقراءة متأنية لما يجري ولا يمكن فهم ما يجري إلا بالرجوع إلى الملابسات الأولى لبداية ما أُطلق عليه المسلسل الديمقراطي والذي تُوج بما سُمي بالعرس الفلسطيني . المتمعن بما يجرى بعقلية عميقة تتجاوز لغة الشعارات والعواطف يجد نفسه أمام رزمة من التساؤلات مثلاً : هل بالفعل نعيش مرحلة انتقال ديمقراطي ؟ وهل خطاب الديمقراطية في الساحة الفلسطينية خطاب برئ ؟ وهل الحكومة الحمساوية هي المحاصرة أم الشعب وما أقام من مؤسسات في عهد الحكومات السابق ؟ وما هي إستراتيجية هذه الحكومة إن كان لها إستراتيجية ؟ والأهم من ذلك هل يريد المحاصرون للشعب إسقاط الحكومة الفلسطينية بالفعل ؟
أولاً : هل اللجوء للانتخابات كان أمراً محتوماً ؟
لا نريد تكرار ما سبق وان أكدنا عليه من أننا لسنا ضد الديمقراطية من حيث المبدأ ، وأن حركة حماس هي فصيل فلسطيني فاعل واكتسب ثقة ناخبيه ، كما أننا دوما نؤكد على أن النظام السياسي الفلسطيني منذ نشأته الأولى مع منظمة التحرير وهو يعيش مأزقاً متعدد الأسباب والتجليات ، ومع وجود السلطة تعمق هذا المأزق ، مما كان وما زال يتطلب عملية إصلاح شاملة لهذا النظام ، إصلاح لنهج وسياسات المجال السياسي لحركة تحرر وطني أكثر مما هو إصلاح سلطة دولة، وآليات إصلاح نظام حركة تحرر تختلف عن آليات إصلاح سلطة دولة مستقلة . أيضاً يجب التذكير بأن خطاب الإصلاح كان خطاباً فلسطينياً قبل أن تصادره الولايات المتحدة والأوروبيون ليجعلوه خطاباً خارجياً ، ذلك أن فشل القوى السياسية الفلسطينية بالتوصل لآليات إصلاح المجال السياسي لحركة التحرر الفلسطيني على أسس وطنية وبأدوات وطنية منح القوى الخارجية فرصة لركوب موجة الإصلاح الفلسطينية أساساً ليوجهوها لخدمة أغراضهم وهي غير بريئة بالتأكيد ، حيث انصبّت آليات الإصلاح على بعض مؤسسات السلطة بما يجعلها حالة نقيض وبديل لحركة التحرر وبما يجعلها في حالة غربة عن الشعب .
كنا نتمنى لو نجحت دعوات الإصلاح وجلسات الحوار المتعددة بالتوصل لقيادة وحدة وطنية تضع إستراتيجية عمل وطني وثوابت وطنية يتم الاتفاق والاختلاف فيها لا عليها قبل دخول متاهة الانتخابات الموجهة خارجياً ، ولكن وللأسف فشلت كل جولات الحوار ، ليس فقط لأن القوى الخارجية تريد إفشال الحوار بل لأن هذه القوى وجدت أدوات داخلية تُسهل عليها المهمة ، وكانت تعمل على إفشال الحوار عن دراية وسبق إصرار أو جهل وسوء تقدير . فشل المتحاورون بالتوصل لمرجعيات حيث كان الوطن والمصلحة الوطنية هو المبتغى والهدف يشكك بإمكانية نجاحهم في التوصل لإتفاق عندما تصبح السلطة والسلطة فقط هي المبتغى والهدف . هذا لا يعني التبشير بفشل الحوار بل التأكيد بأنه كلما مر الوقت دون التوصل لتفاهم على مرجعيات وثوابت كلما تعقدت وصعبت عملية الحوار .
ثانياً : لماذا الإصرار الأمريكي على إجراء انتخابات ؟
ولنكن صريحين ودون مكابرة ، فإن العملية الانتخابية وما يسمى بالمسلسل الديمقراطي لم يكونا تعبيراً عن نضج الوعي الديمقراطي أو عن قناعة راسخة بالديمقراطية لا عند حركة فتح التي كانت تمسك السلطة ولا عند حركة حماس التي كانت تتطلع للسلطة . الانتخابات فُرِضَت كجزء من استحقاقات التسوية ، ولأن الحكومات السابقة كانت مأزومة ليس فقط بالفساد الذي ينخرها ، بل بالإعاقات التي وضعتها في وجهها إسرائيل ، وحتى أمريكا ، فلم تكن تستطيع معارضة المطلب الأمريكي والأوروبي بإجراء الانتخابات ، ولأن حركة حماس كانت مأزومة بتآكل شرعيتها الجهادية وبمحاصرتها خارجياً ، فقد تمسك الطرفان بالانتخابات وتزينوا بزي الديمقراطية ، وهم في داخلهم يدركون الحقيقة بأن ما يجري هو مخطط خارجي لا علاقة له بالديمقراطية الحقيقية .(/1)
وهنا يجب التمييز ما بين السلطة والحكومة ؛ في الوضع الطبيعي يفترض عدم وجود تعارض ما بين السلطة والحكومة باعتبار أن الحكومة هي الأداة التنفيذية للسلطة ، في الحالة الفلسطينية الوضع ملف وقد بان التباين بين الحكومة والسلطة في ظل الحكومة الحالية . في الحالة الفلسطينية، أي في ظل السلطة التي أوجدتها اتفاقية أوسلو، السلطة ليست مشروعاً وطنياً خالصاً بالرغم من صدور قرار تأسيسها من المجلس المركزي لمنظمة التحرير ، بل هي مشروع فلسطيني و أمريكي و أوروبي وإسرائيلي ، أو بشكل أخر هي مشروع دولي ، ونجاح التسوية مرتهن بوجود السلطة ، ومن هنا يكون وجود السلطة ضرورة لمن يريد الحفاظ على نهج التسوية كحالة بديلة عن نهج المقاومة المسلحة ، وهذا لا يعني التشكيك بالسلطة والقول بأنها تخدم مصالح خارجية ، بل ما نريد قوله هو أن السلطة جواد رهان لمن يريد المراهنة على التسوية ، والشاطر من يحسن ركوب هذا الجواد ، فيما الحكومة نتاج وطني أو الفارس الذي يراهن عليه الشعب حتى يمكن توجيه مسار التسوية بالشكل الذي يخدم حقوقنا المشروعة ، و أمريكا والخارج يدعمونه بقدر ما يخدم تصورهم للتسوية والسلطة وليس بقدر ما يخدم المشروع الوطني ، وهذا يعني بأن وجود السلطة ليس بالضرورة دوماً يخدم المصلحة الوطنية.
الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها لم يكونوا حريصين بأن نكون ديمقراطيين ولا يريدون بالانتخابات تهييء الأمور للعودة لنهج السلام ، أمريكا ، كما هو الحال مع إسرائيل ، خرجوا عن سكة التسوية السلمية منذ مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين ، وبالتالي فإن حديثهم عن الإصلاح والانتخابات وسعيهم لذلك إنما بهدف استمرار سلطة فلسطينية تنوب عن سلطة الاحتلال وتتعايش مع حالة من « ألا سلم وألا حرب » ، وحالة السلطة قبل الانتخابات وصلت لدرجة من التردي والخطورة بحيث باتت مهددة بالانهيار وانفلات الأمور من تحت الضبط ، فكان لا بد من تحديث أو تغيير في السلطة ولو على حساب حكومة فتح الشريك في تأسيس السلطة . أيضاً شعرت الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من عرب وعجم بأن حركة حماس في الوقت الذي تتزايد شعبيتها فإنها أيضاً تعيش حالة من انسداد الأفق واليأس الذي قد يدفعها لقلب الطاولة وتخريب حالة ألا سلم وألا حرب وذلك بتدمير مشروع السلطة ، فكانت الانتخابات هي الحل الذي ينقذ السلطة ويستدرج حماس لتصبح جزءاً من السلطة . وجود حماس داخل النظام يجعلها أكثر خضوعاً للابتزاز ، وهنا حدث تقاطع بين أهداف متعارضة أصلاً ، والشعب العادي ساير الانتخابات لأنه يريد الانتخابات ليقضي على الركود وحالة العجز الذي وصلت إليه الحكومات السابقة وليقيم سلطة قادرة على استكمال المشروع الوطني على قاعدة التسوية العادلة ، لأنه لا يمكن لسلطة عاجزة داخلياً أن تكون قوية على طاولة المفاوضات ، والأمريكيون والإسرائيليون أرادوا الانتخابات ووصول حماس لمحاصرتها ولإدخال الساحة الفلسطينية في صراعات داخلية تبعدها عن الهدف الحقيقي لوجودها كفصائل حركة تحرر ضد الاستعمار .
ولكن هل دخول حركة حماس للسلطة أخرج النظام السياسي من مأزقه ؟ وهل تملك حركة حماس إستراتيجية سلام تمكّن من كسر حالة ألا سلم بسلام حقيقي ، أو إستراتيجية حرب تكسر حالة ألا حرب بحرب حقيقية تقضي فيها على إسرائيل كما يطرح ميثاقها ؟
ثالثاً : ماذا تريد حماس والحكومة الراهنة ؟
إن كانت حركة حماس لا تريد الاعتراف بإسرائيل ، ولا بالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير مع إسرائيل ، ولا بالمبادرة العربية ، ولا بقرارات الشرعية الدولية... فلماذا دخلت الانتخابات أصلاً وهي تعرف أنها انتخابات سلطة حكم ذاتي مرجعيتها اتفاقات أوسلو ؟ وماذا تريد من خلال وجودها بالسلطة ؟ الجواب الذي يتبادر للذهن مباشرة هو أنها تريد عكس ذلك أي عدم الاعتراف بإسرائيل ، ومواصلة نهج المقاومة المسلحة ، والتمسك بالشرعية الدينية والتاريخية . ولكن كيف نوفق بين ذلك وبين التزام حركة حماس بالتهدئة لأكثر من عام ؟ وكيف يستقيم ذلك من دعوة حماس لهدنة طويلة المدى ؟ وكيف يستقيم ذلك وإسرائيل تسمح لقادة حماس بالتنقل العلني داخل الوطن وخارجه ، وعقد لقاءات وندوات داخل الوطن وخارجه ؟ أيضاً ، السؤال الذي يفرض نفسه : هل ما يجري اليوم قد فاجأ حركة حماس وبالتالي وقَعت في مصيدة أُعدت لها ؟ أم كان أمراً متوقعاً ، وبالتالي فهي تعرف ما تريد وليست منزعجة مما يجري ؟(/2)
نعتقد بأن حركة حماس لم تدخل الانتخابات عن جهل ورعونة ، ربما فوجئت بالنسبة الكبيرة من الأصوات ، ولكنها كانت راغبة بالسلطة وتسعى إليها ، كما نعتقد بأن ما يجري من حصار لم يفاجأ كثيراً قادة حماس ، لأنهم ليسوا من الغباء السياسي ليعتقدوا أنه بمجرد نجاحهم بالانتخابات فإن العالم الخارجي سيغيّر استراتيجياته ومواقفه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي وسيشتغل على أجندة حماس السياسية ! وقادة حماس يدركون جيداً بأن إسرائيل وحلفاءها لم يعارضوا مَنْحَنا حقوقنا المشروعة لأننا كنا غير ديمقراطيين وكنا نريد انتزاع حقوقنا بالكفاح المسلح وعندما نصبح ديمقراطيين ونعلن الهدنة سيقدمون لنا هذه الحقوق على طبق من الفضة ، وقادة حماس يعلنون دوما بأن الراحل أبو عمار والمنظمة قدموا كثيراً من التنازلات ولم يحصلوا على شيء .
مباشرة بعد فوز حماس صدرت عدة إشارات توحي بأن لدى حماس استعداد للتعامل مع اشتراطات التسوية ، منها الرسالة التي وجهها وزير الخارجية الدكتور محمود الزهار إلى الأمين العام للأمم المتحدة ، وحديث بعض قادتها عن الاعتراف بإسرائيل كأمر واقع أو الاعتراف بالمبادرة العربية ، وقد فسرت هذه الإشارات بأن لدى حماس استعداد مسبق بالدخول في نهج التسوية ولكنها تحتاج لوقت حتى تستطيع تمرير خطاب التسوية واستحقاقاته السياسية على قاعدتها الشعبية المعبأة بثقافة مناقضة لثقافة التسوية ، ومع أننا كتبنا بأن اعتراف حماس بإسرائيل سينسف الأسس العقائدية لوجودها وسيؤدي لحدوث انشقاق بداخلها ، إلا أن الغموض ما زال يكتنف خطاب الحكومة الفلسطينية حول التسوية .
وإذا ما صدقت توقعات القائلين بأن حماس ستنهج نهج منظمة التحرير وتتعامل مع استحقاقات التسوية السلمية في وقت قريب ، فإن حركة حماس ستسجل سابقة خطيرة وغير أخلاقية سياسياً وهي استغلال حصار الشعب وتجويعه بل وإظهاره بصورة مذلة أمام العالم ، وتصعيد خلافها مع حركة فتح ، لتوظف ذلك كله كمبرر لتنازلات كانت مستعدة لها أصلاً ،أي لتقول بأنها لم تتنازل عن ثوابتها إلا نتيجة الضغوط التي مورست عليها ولأن هناك مؤامرة داخلية وخارجية لإسقاط الحكومة ، وأنها اضطرت للاعتراف باستحقاقات التسوية لأن الوضع الاقتصادي لم يعد محتملاً والشعب يضغط على الحكومة لتقديم تنازلات ...الخ .
مقابل هذا السيناريو هناك سيناريو أكثر احتمالا نتلمس ملامحه أيضاً من تصريحات متعددة لقادة حماس بالداخل والخارج ، وهو الرفض المطلق للاعتراف بإسرائيل أو بالاتفاقات الموقعة . فإذا كانت حماس لا تريد السلام والتسوية ضمن الاتفاقات الموقعة وفي نفس الوقت لا تريد الدخول في مواجهة مسلحة مع إسرائيل وقد ثبت أنها أكثر التنظيمات التزاما بالتهدئة... إذن ماذا تريد حركة حماس ؟
ما نرجحه هو أن دخول حركة حماس للانتخابات كان بهدف إسقاط صفة الإرهاب التي ألصقت بها و تثبيت قيادتها للشعب الفلسطيني كبديل عن منظمة التحرير وقيادة الشعب في ظل حالة من « ألاَّ سلم وألاَّ حرب » ، هذه الحالة هي أيضاً الوضع المناسب لإسرائيل والولايات المتحدة كما ذكرنا ، وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل والولايات المتحدة غير منزعجين لوجود حركة حماس على رأس الحكومة بل يمكن القول بأنهم غير متعجلين ولا راغبين بأن تعترف الحكومة الفلسطينية التي تترأسها حماس بإسرائيل وبالاتفاقات الموقعة ، وهذا يعني أنهم لن يعملوا على إسقاط الحكومة الفلسطينية بل من مصلحتهم إطالة عمرها ، ولكن في ظل استمرار حالة الحصار والتجويع لتبقى حكومة تمنح المبرر لإسرائيل للزعم بعدم وجود شريك فلسطيني مما يمكنها – إسرائيل – من الاستمرار بتنفيذ سياستها للفصل الأحادي الجانب ، أيضاً لتبقى الشعب الفلسطيني مشغولاً بهمِّه الغذائي وبمشاكله اليومية في الصراع حول السلطة والتراشق بالتهم ، أيضاً لأنه كما ذكرنا إسرائيل والولايات المتحدة ودول الجوار يريدون الحفاظ على مشروع السلطة ، والسلطة تحتاج لحكومة ، وحكومة تترأسها حركة حماس يضفي مزيداً من الشرعية على السلطة ما دامت هذه السلطة تحت الضبط .(/3)
إذن هناك مصلحة مشتركة بين طرفين هم في الجوهر أعداء ، ولكن تجمعهم مصلحة مشتركة في استمرار حالة من ألا حرب وألا سلم ، وكلاهما يراهن على المستقبل ، إسرائيل تعتقد بأن المستقبل لصالحها ، حيث ستستمر بسياستها التوسعية بذريعة غياب الأمن ووجود طرف فلسطيني يرفض السلام والتسوية ، أيضاً تراهن بأن استمرار الحصار وعدم الحل السياسي سيجعل مناطق السلطة مناطق طاردة للفلسطينيين وللكفاءات بدلاً من أن تكون مناطق جذب وعودة ، أيضاً حالة ألا سلم وألا حرب هي الحالة التي تتوافق مع الإستراتيجية الأمريكية ، إستراتيجية إدارة الأزمات وليس حلها لأنه لو حُلت كل مشاكل المنطقة العربية لتفرغت الشعوب العربية للبناء والتعمير وهذا ما لا ترغب به أمريكا والغرب ، وحالة ألا حرب وألا سلم حالة مواتية لحركة حماس التي تدرك بأن اعترافها بإسرائيل سيجعلها مساوية لغيرها من القوى السياسية التي كانت تنتقدها بل تشكك بوطنيتها ، والاعتراف بإسرائيل سيسقط عنها الهالة الدينية التي تميزها عن غيرها ، أيضاً تعتقد حركة حماس بأن المستقبل لصالحها مراهنة على نهضة إسلامية آتية لا محالة في نظرها وأن هناك وعداً إلهياً بنصرة المرابطين في أرض الرباط ، وأن المشروع الصهيوني مشروع غير قابل للحياة... الخ .
ولأن حركة حماس لا تريد حلاً سلمياً مع إسرائيل ولا تريد الدخول بالمواجهة معها ، لأنها تدرك بأن إسرائيل أيضاً لا تريد سلاماً حقيقياً ، وحركة حماس أدركت وبعد التجربة بأن نهجها الجهادي لا يمكنه أن يدمر دولة إسرائيل ، لكل ذلك فإن حركة حماس دخلت الانتخابات لتكتسب شرعية شعبية انتخابية تمسك من خلالها الحكم إلى أن يتوفر أمر من اثنين:إما شروط السلام الحقيقي ، وهو في نظرها انسحاب إسرائيل من الضفة والقطاع والقدس كعاصمة لدولة فلسطينية مع عودة اللاجئين إلى ديارهم ، وإما شرط النصر عندما تضعف القوة الإسرائيلية وتتوحد الأمة الإسلامية ، وحيث أن كلا الاحتمالين بعيدا التحقق فإن حركة حماس ستبقى على رأس الحكومة إلى حين تحقق أحد الاحتمالين ، وهنا نفهم قول قادة حماس بأن الحكومة ستبقى إلى حين تحقيق النصر على الأعداء .
من الآن وإلى تحقيق النصر فإن الشغل الشاغل لحركة حماس سيكون كيفية الحفاظ على وجودها كحكومة للشعب الفلسطيني وستعمل على إلحاق كل مؤسسات السلطة لها ، وحتى تحافظ على وجودها فستمارس نوعاً من البراغماتية والغموض في الخطاب والممارسة دون أن يصل الأمر لكسر حالة ألا حرب وألا سلم ، وهي في ذلك لن تجد كثير ممانعة من دول الجوار ومن الولايات المتحدة الأمريكية ومن الأوروبيين وحتى من إسرائيل ، هذه الأطراف ستسمح بوصول الدعم الاقتصادي والمالي للفلسطينيين ليسا حباً بحماس وبالشعب الفلسطيني ولكن حفاظاً على وجود السلطة أملاً بفتنة فلسطينية داخلية ، ولأن وجود السلطة يبعد عن إسرائيل صفة دولة احتلال ويعفيها من تبعات ومسؤوليات دولة الاحتلال .
رابعاً : هل سياسة ألا حرب وألا سلم تخدم المصلحة الوطنية ؟
إذا كانت الحكومة الفلسطينية غير قادرة على خوض حرب مضمونة النتائج ، وإذا كانت إسرائيل غير معنية بسلام عادل في إطار الشرعية الدولية ، فهل حالة ألا حرب وألا سلم بما تتضمنه من مراهنة على المستقبل تخدم قضيتنا الوطنية ؟
حالة ألا حرب وألا سلم تحقق مصلحة لطرفيها في حالة توازن القوى راهناً وضمان المتغيرات مستقبلاً ،هذا مثلاً ما كان عليه الحال بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة (مع وجود حروب بالوكالة) ، ولكن في حالة الصراع في فلسطين فموازين القوى راجحة بدرجة كبيرة لصالح إسرائيل ، وحيث أن الحاضر هو ماضي المستقبل ، فإن حاضر الحالة العربية والإسلامية والدولية لا يبشر بأن المستقبل القريب سيتشكل حسب ما نريد ونشتهي . نؤمن ولا شك بعدالة قضيتنا وبالقضاء والقدر وبأن الله على كل شيء قدير وبإرادة الأمة... الخ ، ولكننا نؤمن بأن السياسة هي صراع بين موازين قوى مادية و ملموسة ، فحتى الأنبياء والرسل هُزموا في معارك عندما لم يعدوا للحرب عدتها ، وبالتالي المراهنة على المستقبل في ظل حالة ألا حرب وألا سلم هي مغامرة غير مضمونة النتائج . إذن ما العمل ؟(/4)
كسر حالة ألا حرب وألا سلم يكون إما بهجوم السلام أو بهجوم الحرب وفي كلا الحالتين فإن الأمر يحتاج لوحدة الموقف والإستراتيجية على الساحة الفلسطينية إما إستراتيجية حرب أو إستراتيجية سلام ؟ فمثلا حالة ألا حرب وألا سلم التي سادت بين العرب والإسرائيليين ما بين 48 و 67 كانت نتائجها وبالاً على العرب لأنهم لم يوظفوا هذه الحالة لامتلاك لا إستراتيجية حرب ولا إستراتيجية سلام ، فيما وظفت إسرائيل هذه المرحلة لتقوم بحرب حزيران ، ووظفها السادات لاحقاً ليقوم بهجوم مزدوج كسر فيه حالة ألا حرب بالحرب (حرب أكتوبر) وكسر حالة ألا سلام بهجوم سلام (زيارة إسرائيل واتفاقية كامب ديفيد) . بالتأكيد فإن ما قام به الرئيس المصري أنور السادات كسر حالة ألا حرب وألا سلم على مستوى العلاقة بين مصر وإسرائيل مع أنه دفع حياته ثمنا لذلك ، فيما استمرت الحالة إلى اليوم على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، أما على مستوى (الصراع) العربي – الإسرائيلي فلم تعد إسرائيل تشعر بوجود صراع على هذا المستوى ، ودولياً تم تغييب الصراع في إطار صراع مصطنع يسمى بالصراع الحضاري أو بالحرب الصليبية .
وحتى لا تأول حالة ألا حرب وألا سلم على ساحة الصراع في فلسطين إلى كارثة وطنية ، فإن المطلوب اليوم وبإلحاح إنجاح الحوار الوطني من أجل التوصل لإستراتيجية عمل وطني تخرج الحكومة الفلسطينية من حالة الانتظار والمراهنة على قادم غير محدد المعالم ، فالبشر يصنعون تاريخهم ومستقبلهم ، والانتظار دون إستراتيجية عمل معناه انتظار من يصنع لنا تاريخنا ومن يحدد لنا مستقبلنا. إستراتيجية العمل الوطني لا يبنيها حزب واحد حتى وإن كان الحزب الحاكم ، بل يبنيها تحالف وطني يؤسس على مبدأ الالتقاء وسط الطريق لمواصلة مشوار إنجاز المشروع الوطني ، وسواء توافقنا على كسر حالة ألا حرب بالحرب أو كسر حالة ألا سلام بالسلام ، فإن الأمر يحتاج لوحدة الموقف ، الوحدة الوطنية أمر يمكن تحقيقه بأيدينا وبإرادتنا ، وحتى لو فرضت علينا حالة ألا حرب وألا سلم فالوحدة الوطنية هي ضمان الحد من النتائج السلبية لهذه الحالة ، إنْ لم ينجح الحوار الوطني في الأسبوع القادم في التوصل لقيادة وإستراتيجية عمل وطني أو على الأقل آلية متفق عليها للتوصل لهذه الإستراتيجية فإن القوى السياسية المدججة بالسلاح والمعبأة بثقافة العنف ستنشغل ببعضها البعض مما قد يؤدى لحالة شبيهة بالحرب الأهلية ، وللأسف بعض مؤشرات هذه الحرب لمسناها خلال الأيام الأخير(/5)
حرمة مكة المكرمة
الآيات الواردة في تعظيم مكة والبيت الحرام:
1- قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:125، 126].
قال ابن جرير الطبري: "والأمن مصدر, من قول القائل: أمِن يأمن أمنا, وإنما سمّاه الله أمنا لأنه كان في الجاهلية مَعاذًا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقِيَ به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرجَ منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]" ([1]).
وقال ابن كثير: "إن الله تعالى يَذكر شرفَ البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس, أي: جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه ولا تقضي منه وطرًا ولو تردّدت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم:40]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمنًا, من دخله أمِن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا"([2]).
2- قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96، 97].
قال ابن جرير الطبري: "معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به كان آمنا ما كان فيه, ولكنه يخرج منه فيُقام عليه الحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثمّ لجأ إليه, وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه, فتأويل الآية إذًا: {فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ}, ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه حتى يخرج منه"([3]).
3- قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} [المائدة:97].
قال القرطبي: "{قِيَامًا لّلنَّاسِ} أي: صلاحا ومعاشا لأمن الناس بها, وعلى هذا يكون قياما بمعنى يقومون بها, وقيل: قياما أي: يقومون بشرائعها, وقرأ ابن عامر وعاصم قِيَما, وهما من ذوات الواو، فقلبت الواو ياءً لكسر ما قبلها, وقد قيل: قوام. قال العلماء: والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدميّة من التحاسد والتنافس والقتل والثأر، فلم يكن بدّ في الحكمة الإلهية من كافّ يدوم معه الحال ووازعٍ يحمَد معه المآل, قال الله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فأمرهم الله سبحانه بالخلافة, وجعل أمورهم إلى واحد يَزَعهم عن التنازع, ويحملهم على التآلف من التقاطع, ويرد الظالم عن المظلوم, ثم عظّم الله سبحانه في قلوبهم البيتَ الحرام, وأوقع في نفوسهم هيبَتَه وعظّم بينهم حرمته, فكان من لجأ إليه معصوما به, وكان من اضطُهد محميًّا بالكون فيه"([4]).
4- قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا} [التوبة:28].
قال ابن كثير: "أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتا بنَفي المشركين الذين هم نجس دينًا عن المسجد الحرام, وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية, وكان نزولها في سنة تسع, ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا مع أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ, وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحجَّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا"([5]).
5- قال الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217].(/1)
6- قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:35-37].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: و اذكر ـ يا محمد ـ إذ قال إبراهيم: ربِّ اجعل هذا البلد آمنا، يعني الحرَمَ بلدًا آمنا أهلُه وسكّانه"([6]).
7- قال الله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
قال قتادة: "كان أهل الحرم آمنين يذهبون حيث شاؤوا, إذا خرج أحدهم فقال: إني من أهل الحرم لم يُتعرَّض له, وكان غيرهم من الناس إذا خرج أحدهم قتِل"([7]).
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن اعتذار بعض الكفار عن عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57], أي: نخشى إن اتَّبعنا ما جئتَ به من الهدَى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ويتخطفونا أينما كنا, قال الله تعالى مجيبا لهم: {أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا} [القصص:57]، يعني: هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل, إن الله تعالى جعلهم في بلد آمن وحرم معظّم آمن منذ وُضع, فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟!"([8]).
8- قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}: (لو أنَّ رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بِعَدَن أَبيَن لأذاقه الله عز وجل عذابا أليما)([9]).
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من ربهم، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يقول: ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصّص منها بعضا دون بعض, {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} يقول: مُعْتدِلٌ في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام وقضاء نسكه به والنزول فيه حيث شاء {الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المقيم به {وَالْبَادِ} وهو المُنْتاب إليه من غيره.
وقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، يقول تعالى ذكره: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم نذقه من عذاب أليم, وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم, واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم، فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي: بالبيت, وقال آخرون: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه, وقال آخرون: بل معنى ذلك الظلم استحلال الحرَم متعمّدا, وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بمكة, وقال آخرون: بل ذلك كلّ ما كان منهيا عنه من الفعل حتى قول القائل: لا والله وبلى والله.
وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس من أنه معنيٌّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله, وذلك أن الله عمّ بقوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}، ولم يخصّص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل, فهو على عمومه, فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصي الله فيه نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له"([10]).(/2)
وقال ابن القيم: "ومن خواصِّ البلد الحرام أنّه يعاقب فيه على الهمّ بالسيئات وإن لم يفعلها, قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، فتأمل كيف عدّى فعل الإرادة ها هنا بالباء, ولا يقال: أردت بكذا إلا لما ضُمِّن معنى فِعل: هَمّ, فإنه يقال: هممت بكذا, فتوعّد من همّ بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم, ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها, فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها, وصغيرة جزاؤها مثلها, فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض, ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه, فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات، والله أعلم"([11]).
9- قال الله تعالى: {ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ} [الحج:30].
قال مجاهد في قوله: {ذالِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} قال: "الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلِّها"([12]).
وقال ابن القيم: "قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ها هنا مَغاضِبه وما نهى عنه، وتعظيمها ترك ملابستها, وقال قوم: الحرمات هي الأمر والنهي, وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه, وقال قوم: الحرمات ها هنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا, والصواب أن الحرمات تعمّ هذا كلَّه, وهي جمع حرمة, وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن, فتعظيمها تَوفِيَتها حقَّها وحفظها من الإضاعة"([13]).
10- قال الله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ} [البلد:1، 2].
قال ابن عباس: ({وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ} يعني بذلك نبيَّ الله, أحلَّ الله له يومَ دخل مكةَ أن يقتل من شاء ويستحيي من شاء, فقتل يومئذ ابن خطل صبرًا وهو آخذٌ بأستار الكعبة, فلم تحلّ لأحد من الناس بعدَ رسول الله أن يقتلَ فيها حراما حرمه الله, فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة, ألم تسمع أن الله قال في تحريم الحرم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]؟! يعني بالناس أهل القبلة)([14]).
قال القرطبي: "والبلد هي مكة، أجمعوا عليه، أي: أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لِكَرامتك عليَّ وحبِّي لك"([15]).
11- قال الله سبحانه: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3].
قال ابن عباس وغيره: (البلد الأمين مكة)([16]).
وقال ابن جرير الطبري: "وقوله: {وَهَاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} يقول: وهذا البلد الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم, وقيل: الأمين ومعناه الآمن, كما قال الشاعر:
ألم تعلمي يا أَسمَ ويحَك أنني حلفتُ يمينا لا أخون أميني
يريد: آمني, وهذا كما قال جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]"([17]).
12- قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [سورة الفيل].
قال ابن كثير: "هذه من النعم التي امتنّ الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحوِ أثرها من الوجود, فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيَهم وأضلّ عملهم وردّهم بشرّ خيبة, وكان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال, ولسان الحال يقول: لم ينصركم ـ يا معشر قريش ـ على الحبشة لخِيريّتكم عليهم, ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرّفه ونعظمه ونوقّره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء"([18]).
13- قال الله تعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} [سورة قريش].
قال ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَءامَنَهُم مّنْ خَوْفٍ}، فقال بعضهم: معنى ذلك أنه آمنهم مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض, وقال آخرون: عنى بذلك وآمنهم من الجذام.(/3)
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه آمنهم من خوف, والعدو مخوف منه, والجذام مخوف منه, ولم يخصّص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدو دون الجذام, ولا من الجذام دون العدو, بل عمّ الخبر بذلك, فالصواب أن يعمّ كما عمّ جل ثناؤه, فيقال: آمنهم من المعنيَين كليهما"([19]).
14- قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91].
قال القرطبي: "قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا} يعني مكة التي عظم الله حرمتها, أي: جعلها حرما آمنا لا يسفَك فيها دم, ولا يظلم فيها أحد, ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر"([20]).
(1) جامع البيان (1/534).
(2) تفسير القرآن العظيم (1/169).
(3) جامع البيان (4/14).
(4) الجامع لأحكام القرآن (6/325) باختصار.
(5) تفسير القرآن العظيم (2/347).
(6) جامع البيان (13/228).
(7) أخرجه الطبري في جامع البيان (20/94).
(8) تفسير القرآن العظيم (3/396).
(9) أخرجه أحمد ( 4071), وابن أبي شيبة (3/268), وأبو يعلى (9/263), والحاكم (2/240) وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
(10) جامع البيان (17/136- 142) باختصار.
(11) زاد المعاد (1/51).
(12) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/153).
(13) مدارج السالكين (2/74) باختصار.
(14) أخرجه الطبري في جامع البيان (30/193).
(15) الجامع لأحكام القرآن (20/60).
(16) أخرجه الطبري في جامع البيان (30/242).
(17) جامع البيان (30/241).
(18) تفسير القرآن العظيم (4/549-550) باختصار.
(19) جامع البيان (30/308-309) باختصار.
(20) الجامع لأحكام القرآن (13/246).
الأحاديث الواردة في تعظيم مكة والبيت الحرام:
1- عن أبي شريح العدويّ أنّه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكّة: ائذن لي ـ أيّها الأمير ـ أحدّثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للغد من يوم الفتح، فسمعَته أذناي ووعاه قلبي وأبصرَته عيناي حين تكلّم به، إنّه حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقولوا له: إنّ الله أذن لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلّغ الشّاهد الغائب))، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إنّ الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة، خربة بليّة([1]).
قال ابن حجر: "وقد تشدّق عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حقّ, لكن أراد به الباطل, فإنّ الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة, فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص, وهو صحيح, إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك, وفي الحديث شرف مكة"([2]).
2- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الله حرّم مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعةً من نهار، لا يُختَلَى خلاها، ولا يعضَد شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تلتَقَط لقطتُها إلا لمعرّف))، قال العبّاس: يا رسول الله، إلاّ الإذخر لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: ((إلاّ الإذخر))([3]).
قال ابن حجر: "قال ابن المنير: قد أكد النبي التحريم بقوله: ((حرمه الله))، ثم قال: ((فهو حرام بحرمة الله))، ثم قال: ((ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار))، وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا, وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عمّا أبيح له من ذلك, مع أن أهل مكة كانوا إذَّاك مستحقين للقتال والقتل لصدّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم, وهذا الذي فهمه أبو شريح كما تقدّم, وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه, وأيضا فسياق الحديث يدلّ على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها وذلك لا يختصّ بما يستأصل"([4]).
3- عن ابن عبّاس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أبغض النّاس إلى الله ثلاثة: ملحِد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنّة الجاهليّة، ومطّلب دمَ امرئ بغير حقّ ليهريق دمه))([5]).(/4)
قال ابن حجر: "قال المهلّب وغيره: المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله: ((أكبر الكبائر))، وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي. قوله: ((ملحد في الحرم)) أصل الملحد هو المائل عن الحق, والإلحاد العدول عن القصد, واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق, والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين, فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها, وقيل: إيراده للجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم, فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب"([6]).
4- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعتى الناس على الله عز وجل من قَتَل في حرم الله, أو قتل غيرَ قاتله, أو قتل بذُحول الجاهلية([7])))([8]).
5- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم النّحر قال: ((أتدرون أيّ يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه قال: ((أليس يوم النّحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أيّ شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، فقال: ((أليس ذو الحجّة؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننّا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: ((أليست بالبلدة الحرام؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربّكم، ألا هل بلّغت؟!)) قالوا: نعم، قال: ((اللّهمّ اشهد، فليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ مبلّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض))([9]).
قال النووي: "هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم, وقولهم: (الله ورسوله أعلم) هذا من حسن أدبهم, وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب, فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون"([10]).
6- عن عروة بن الزّبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدّق كلّ واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زمن الحديبية، ثم ذكرا ما جرى من قصة صلح الحديبية، وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((والّذي نفسي بيده، لا يسألوني خطّةً يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها))([11]).
قال ابن حجر: "قوله ((خُطّة)) بضم الخاء المعجمة, أي: خصلة, ((يعظمون فيها حرمات الله)) أي: مِن ترك القتال في الحرم, ووقع في رواية ابن إسحاق: ((يسألونني فيها صلة الرحم)) وهي من جملة حرمات الله, وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم والشهر والإحرام, قلت: وفي الثالث نظر؛ لأنهم لو عظموا الإحرام ما صدّوه, قوله: ((إلا أعطيتهم إياها)) أي: أجبتهم إليها"([12]).
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يبايع لرجلٍ ما بين الرّكن والمقام، ولن يستحلّ البيت إلا أهله، فإذا استحلّوه فلا يسأل عن هَلَكة العرب، ثمّ تأتي الحبشة فيخرّبونه خرابًا لا يعمَر بعده أبدًا، وهم الّذين يستخرجون كنْزه))([13]).
8- عن سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في حرم الله تبارك وتعالى, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيلحد فيه رجل من قريش, لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت))، قال: فانظر لا تكونه([14]).
9- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها, وحرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة))([15]).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض))، وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا أن إبراهيم حرم مكة, فظاهرها الاختلاف, وفي المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية وغيره من العلماء في وقت تحريم مكة, فقيل: إنها من يوم خلق السموات والأرض, وقيل: ما زالت حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم, وهذا القول يوافق الحديث الثاني, والقول الأول يوافق الحديث الأول, وبه قال الأكثرون, وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السموات والأرض, ثم خفي تحريمها واستمرّ خفاؤه إلى زمن إبراهيم, فأظهره وأشاعه, لا أنه ابتدأه, ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه أن الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق الله تعالى السموات والأرض أن إبراهيم سيحرّم مكة بأمر الله تعالى, والله أعلم"([16]).(/5)
10- عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح))([17]).
11- عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه, فلزقت قدمه بالركاب, فنزلت فنزعتها, وذلك بمنى, فبلغ الحجاج فجعل يعوده, فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟! قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمَل فيه, وأدخلتَ السلاحَ الحرم, ولم يكن السلاح يدخل الحرم([18]).
قال الشوكاني: "هذا النهي فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة, وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم, فإن كانت حاجة جاز, فإنه قد دخل صلى الله عليه وآله [بالسلاح] مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة"([19]).
(1) أخرجه البخاري (1735), ومسلم (1354).
(2) فتح الباري (1/198) باختصار.
(3) أخرجه البخاري (1737) واللفظ له, ومسلم (1353).
(4) فتح الباري (4/48) باختصار.
(5) أخرجه البخاري (6488).
(6) فتح الباري (12/210).
(7) الذَّحْل:ُ الحقد والعداوة, يقال: طلب بذحله أي: بثأره, والجمع ذُحُولٌ. انظر: مختار الصحاح (92) .
(8) أخرجه أحمد (6757), وله عدة شواهد, وقد حسنه محققو طبعة الرسالة.
(9) أخرجه البخاري (1654) واللفظ له, ومسلم (1679).
(10) شرح صحيح مسلم (11/169).
(11) أخرجه البخاري (2581).
(12) فتح الباري (5/336).
(13) أخرجه أحمد (7897) واللفظ له, وابن أبي شيبة (37244), وصححه ابن حبان (6827)، والحاكم (8395)، وهو في السلسلة الصحيحة (579، 2743).
(14) أخرجه أحمد (6200) , وابن أبي شيبة (30687), وصححه الحاكم (3462)، وهو في السلسلة الصحيحة (3108)
(15) أخرجه البخاري (2022) واللفظ له, ومسلم (1360).
(16) شرح صحيح مسلم (9/124).
(17) أخرجه مسلم (1356).
(18) أخرجه البخاري (923).
(19) نيل الأوطار (5/76).
من أقوال السلف في حرمة مكة:
1- قال عبد الرحمن بن زيد: "كان الرجل يلقى [في الحرم] قاتلَ أبيه أو أخيه فلا يعرض له"([1]).
2- قال الضحاك بن مزاحم: "إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها فتكتب عليه"([2]).
3- عن مجاهد قال: كان عبد الله بن عمرو له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم, فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ, فسئل عن ذلك فقال: "كنّا نحدَّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلا والله وبلى والله"([3]).
4- قال محمد بن شهاب: "جعل الله البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس يأمنون به في الجاهلية الأولى، لا يخاف بعضهم بعضا حين يلقونهم في البيتِ أو في الحرم أو في الشهر الحرام"([4]).
5- قال قتادة في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة:97]: "حواجز أبقاها الله في الجاهلية بين الناسِ, فكان الرجل لو جرّ كلَّ جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب, وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل لو لقي الهدي مقلَّدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناسِ, وكان إذا نفر تقلّد قلادة من الإذخر أو من السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله, حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية"([5]).
6- عن سعيد بن جبير قال: "شَتمُ الخادم في الحرم ظلمٌ فما فوقه"([6]).
7- عن عكرمة قال: "ما مِن عبد يهمّ بذنب فيؤاخذه الله بشيء حتى يعمله إلا من همّ بالبيت العتيق شرّا, فإنه من همّ به شرّا عجل الله له"([7]).
(1) أخرجه الطبري في جامع البيان (1/534).
(2) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/141).
(3) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/141).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (3/202).
(5) أخرجه الطبري في جامع البيان (7/77).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور (6/28).
(7) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (6/28).(/6)
حرمة مكة
قالت سُبَيعة بنت الأحبّ، وكانت عند عبد مناف بن كعب، لابن لها منه يقال له خالد، تعظِّم عليه حُرمة مكة، وتنهاه عن البغي فيها، وتذكر تُبَّعاً وتذلله لها، وما صنع بها:
أبُنَيَّ لا تظلِم بمكَّة لا الصغيرَ ولا الكبيرْ
واحفظ مَحارمَها بُنَيَّ ولا يغرّنْك الغَرورْ
أبُنَيَّ من يظلم بمكَّة يلق أطْرافَ الشُّرورْ
أبُنَيَّ يُضْربْ وجههُ ويَلُحْ بخدّيه السَّعيرْ
أبُنَيَّ قد جَرّبتها فوجدتُ ظالمها يبور(1)
الله أمّنها ومَا بُنيت بعَرْصتها قُصورْ
والله أمن طيرَها والعُصم(2) تأمن في ثَبيرْ(3)
ولقد غزاها تُبَّع فكسا بَنيَّتها الحَبير(4)
وأذلّ ربي مُلكَه فيها فأوفى بالنُّذورْ
يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعيرْ
ويظلّ يُطعم أهلَها لحمَ المَهارى(5) والجَزورْ
يَسقيهمُ العسلَ المُصفّى والرّحيض(6) من الشعيرْ
والفيل أُهلك جيشه يرمون فيها بالصخورْ
والملْك في أقصى البلاد وفي الأعاجم والخزير(7)
فاسمع إذا حُدّثتَ وافهم كيف عاقبة الأمورْ
الهوامش:
(1) يبور: يهلك.
(2) العصم: الوعول، لأنها تعتصم بالجبال.
(3) ثبير: جبل في مكة.
(4) بنيتها: يعني الكعبة. والحبير: ضرب من ثياب اليمن موشَّى.
(5) المهارى: الإبل العراب النجيبة.
(6) الرحيض: المنتقى، والمصفى.
(7) الخزير: أمة من العجم، ويقال لها الخزر أيضاً.
بئر زمزم
قال ابن إسحاق:
"حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مَرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله ابن زُرَير الغافقي: أنه سمع عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحدّث حديثَ زمزم حين أُمر عبد المطلب بحفرها، قال:
قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجْر إذ أتاني آتٍ فقال: احفرْ طيبة(1).
قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفرْ بَرّة(2). قال: وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة(3). قال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تُذَم(4) تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم(5)، عند قرية النمل(6).
قال ابن إسحاق: فلمّا بيَّنَ له شأنها، ودَلّ على موضعها، وعَرَف أنه صُدِقَ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولدٌ غيره، فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطّي(7) كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا:
"يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقّاً فأشركنا معك فيها".
قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونكم، وأُعطيته من بينكم.
فقالوا له: فأنصفنا فإنّا غير تاركيك حتى نُخاصمك فيها.
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أُحاكمكم إليه.
قالوا: كاهنة بني سعد هذيم.
قال: نعم. قال: وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فَنِي ماءُ عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا:
"إنّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم".
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوّف على نفسه وأصحابه، قال:
"ماذا ترون"؟
قالوا: ما رأيُنا إلا تَبَعٌ لرأيك، فمُرنا بما شئت.
قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً.
قالوا: نِعْمَ ما أمرتَ به..
فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه:
"والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.
فارتحلوا. حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال:
"هلّم إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا."
فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا:
"قد والله قُضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً.
فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلَّوا بينه وبينها.
الهوامش:
(1) قيل لزمزم طيبة، لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم.
(2) قيل لهابرة، لأنها فاضت على الأبرار وغاضت عن الفجار.(/1)
(3) قيل لها مضنونة، لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلع منها منافق.
(4) لا تنزف، لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.
(5) لا تذم: أي لا توجد قليلة الماء، تقول: أذمت البئر: إذا وجدتها قليلة الماء.
(6) الأعصم من الغربان: الذي في جناحيه بياض، وقيل غير ذلك.
(7) إنما خصت بهذه العلامات الثلاث لمعنى زمزم ومائها، فأما الفرث والدم، فإن ماءها طعام طعم، وشفاء سقم، وأما عن الغراب الأعصم، ففيه إشارة إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". وأما قرية النمل، ففيها من المشاكلة أيضاً والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك، وهي لا تحرث ولا تزرع، وقرية النمل كذلك لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جان(/2)
حروب الردة
التحرير*
حدث في رمضان
كان مصاب الأمة في رسولها –صلى الله عليه وسلم- جللا، ولا تستطيع كلمات أن تعبِّر عن محنة الأمة في فقده، ولم يحسم الموقف إلا رجل واحد، وهو الصديق رضي الله عنه؛ إذ قام فقرأ على الناس قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا…" ( سورة آل عمران: الآية 144) وتماسك أهل المدينة ومكة، ولكن قبائل العرب بدأت في الانقلاب على حكم الإسلام، وقد بدأ في أواخر عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ادعاء النبوة في اليمن وقبائل أسد، ونجد، وغيرها من قبائل العرب، وزاد عليها بعد وفاته رغبة قبائل أخرى في عدم أداء الزكاة، وحُسِم أمر رئاسة الدولة قبل أن يوارى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التراب، وتولى أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – الخلافة، وأصرَّ الصديق – رضي الله عنه – أن يبدأ خلافته بخطة محددة، ألا وهي اتباع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأن يقيم أمور الدولة كما كانت في حياته، فأنفذ جيش أسامة إلى شمال الجزيرة العربية، ورفض أن يقبل من القبائل العربية إسلامًا دون زكاة؛ واستطاع في أثناء غياب جيش أسامة أن يصدَّ هجومًا قامت به قبائل أسد وغطفان وفزارة على المدينة، ويعود جيش أسامة بعد سبعين يومًا، ويسارع الخليفة بقيادة هجوم معاكس على المحاصرين للمدينة ويقضي عليهم، ويشرع الخليفة في إعداد الجيوش لمواجهة القبائل المرتدة، يستوي من رفض أداء الزكاة، مع من كفر واتبع مُدَّعِي النبوة، وفي الوقت نفسه يرسل الرسل إلى هؤلاء جميعًا يحذرهم وينذرهم من مغبة ما أقدموا عليه، ويطالبهم بالعودة إلى صحيح الإسلام، وإلا ستضطر جيوش الخلافة إلى ضربهم بقسوة وعنف، ومع أوائل شهر رجب ينطلق أحد عشر جيشًا لمطاردة الفتن في كل أرجاء الجزيرة العربية، ويكون على رأس أحدها – وأهمها – سيف الله المسلول خالد بن الوليد – رضي الله عنه – ويوصيه الخليفة بألا يتعجل القتال، وقد كانت وجهة خالد إلى أخطر وجهة، إلى القبائل التي حاصرت المدينة وأرادت القضاء على دولة الإسلام، وكان قائدهم هو طليحة بن خويلد الأسدي وكان قد ادعى النبوة، وقد ضمَّت جبهة الأعداء أشد وأشرس القبائل الحجازية، وهم أسد وغطفان وفزارة وطيئ وغيرهم، وقائدهم طليحة من أشد المحاربين وكان العرب يعدُّونه وحده بألف فارس.
جيش خالد
وتوجَّه خالد في جيش لا يزيد عن ثلاثين ألفًا، وإن كان به خيرة المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم جميعًا - وتوجَّه خالد أولاً إلى طيئ؛ حيث كان في جملة جيشه حاتم الطائي وهو أكرمهم بلا منازع ومن سادتهم، وطلب الطائي مهلة مع قومه قبل قتالهم، واستطاع الرجل أن يردَّ قومه إلى الصواب، بل وجاء بهم إلى جانب جيش خالد مقاتلين معه، وبعث خالد بعيونه، وكانوا من أكرم الصحابة، وكان طليحة يترصد جيش خالد، فاستطاع طليحة أن يتعقب طلائع خالد ويقتلهم، وأثَّر هذا تأثيرًا سيئًا على جيش خالد، فانحاز بجيشه قليلاً إلى قبائل طيئ، وما إن استعاد الجند حماسهم، حتى انطلق بهم إلى عدوه في منطقة تسمى "بُزاخة"، وكان شهر رمضان قد أهلَّ على الجيش، فكان اللقاء بين الجيشين، وكان طليحة قد أعد عدته وجنده، واستعد خالد بجيشه، وكان اللقاء في "بُزاخة" في شهر رمضان على الأرجح – من عام 11 هجرية.
سيف الله المسلول
كان طليحة قد أعدَّ أربعين شابًّا من قبيلة بني أسد ودرَّبهم بنفسه، فاستطاعوا أن يطبقوا على ميسرة الجيش حتى ألصقوها بميمنته، فاضطرب جيش الخلافة، وأعاد خالد تنظيم الصفوف في سرعة، ولكن الشباب انطلقوا مرة ثانية من الميمنة إلى الميسرة، فتكرر اضطراب جيش المسلمين، فانطلق سيف الله، وحمل سيفين في يديه، وجعل وجهته هؤلاء الشباب، ونادى عليه قادة المسلمين أن "ارجع ولا تفجعنا في نفسك"، ولكنه ما كان ليرجع قبل أن ينفِّذ خطته، وشرع في قتال شباب طليحة، وانضم إليه بعض فرسان المسلمين لحمايته، ولم يتوقف سيف خالد عن العمل في رقاب فرسان طليحة حتى قضى على الأربعين جميعًا، وعاد نظام جيش الإسلام، وانطلقت الفرسان المسلمة تقضي على جذور الفتنة، وينادي أحد زعماء غطفان على طليحة "هل أتاك جبريل؟!"، فيرد طليحة في كل مرة أنه لم يأتِه، ثم في الثالثة قال: "قد جاءني جبريل وقال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثًا لا تنساه"، فما إن سمع الرجل هذا الكلام، حتى نادى في الناس: "يا قوم انصرفوا فهذا والله كذاب، ما بورك لنا ولا له فيما يطالب"، وافترقت صفوف الكفر، ولكن طليحة بن خويلد استطاع الفرار، وقد تاب عن نبوءته وبايع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وخرج إلى الجهاد في سبيل الله.(/1)
حروف من خبر الوقت والحياة ... ... ...
بسم الله الذي عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. والصلاة والسلام على رسول الله القائل من فيه الطاهر الشريف: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ).
ورضي الله عن الصحابة كلهم أجمعين، قال منهم فاروق مبارك: (إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا"أي فارغا"لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة).
وأرض اللهم عن التابعين جميعا، يبرز منهم حسن بصري يخبرنا بتجربته فيقول: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه).
ثم الرضا على علماء أتوا من بعدهم بأقباس من الهدى والنور، منهم ابن حجر، ذلك الموسوعة النبيل بين العلماء إلى يوم الدين، يقول لنا في تفسير حديث (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّة ُ وَالْفَرَاغ).
يقول - رحمه الله - : (وأشار بقوله:"كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ"إلى أن الذي يوفق لذلك قليل.
وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم.
وكما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا **** فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة **** ينوء إذا رام القيام ويحمل
وهو القرضاوي - حفظه الله - ينقل لنا عن حكيم حِكمة فيقول: من أمضى يوماً من عمره. في غير حق ٍ قضاه. أو فرض أداه. أو مجلد أثله"أي ورثه". أو حمد حصله. أو خير أسسه. أو علم اقتبسه. فقد عق يومه. وظلم نفسه!.
ثم أما بعدُ:
لي شعارات عدة في حياتي وكتاباتي من بينها:
ما نكون في شأن من شؤون الدعوة ولا نكتب في أمر من أمورها إلا كان القرآن رائدنا.. ذلك بأن القرآن هو دستور الدعوة ومصدر هدايتها ومائدة الله لعباده المؤمنين.. ونوره المنزل من عنده على رسوله الأمين.. وما تكلم متكلم ولا دعا داعي إلى الربانية؛ بأحسن من الدعوة إلى مصدر هذه الربانية التي ننشد وأساسها الذي تُبنى عليه؛ كلام ربنا - عز وجل - القرآن العظيم الذي منه أخذنا نسب الربانيين، وعلينا أن نعيش حول مائدة الرحمن إن أردنا تناوش الربانية من مكان قريب وما أمر قضية الوقت في حياة المسلمة والمسلم إلا شأن من هذه الشئون، وفي جولة في آيات الله المسطورة، التي تتحدث عن آيات الله المنظور، أجد من المهم أن أبدأ بسرد كلام الرب الحكيم المنان.
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164).
2. (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27).
3. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران:190). 4.
(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام:96). 5.
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (لأعراف:54). 6.
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (يونس:6). 7.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (يونس:67). 8.(/1)
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114). 9. (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد:3). 10. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (ابراهيم:33). 11. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل:12). 12. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الاسراء:12). 13. (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الاسراء:78). 14. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء:79). 15. (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130). 16. (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20). 17. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الانبياء:33). 18.
(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (المؤمنون:80). 19.
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (النور:44). 20.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) (الفرقان:47). 21.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان:62). 22.
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النمل:86). 23.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (القصص:71). 24.
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:73). 25.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (لقمان:29). 26.
(لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يّس:40). 27.
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (الزمر:5). 28.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:9). 29.
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (غافر:61). 30.
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الحديد:6). 31.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً) (النبأ:10).
هذا بعض ٌ من خبر الوقت في القرآن الكريم، إذ الليل والنهار آيتين من آيات الله، يشكلان ظاهرة الوقت في الحياة، ولو تأملنا ما ختمت به كل آية من هذه الآيات البينات، لوقفنا على حقيقة، على كل من يهمه أمر وقته، أو أمر عمره، وهو أمر حياته، حريٌ أن يتأمل فيها ساعات عددا.
و الآيات مرتبة هنا على حسب ورودها في ترتيب المصحف الشريف:(/2)
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ •
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ •
لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ •
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ •
تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ •
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ •
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ •
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ •
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ •
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ •
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ •
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً •
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً •
عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً •
وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى •
لا يَفْتُرُونَ •
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ •
أَفَلا تَعْقِلُونَ •
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ •
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً •
خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً •
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ •
أَفَلا تَسْمَعُونَ •
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ •
وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ •
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ •
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ •
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ •
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ •
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ •
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً
نستخرج منها المعان التالية كأسس لعلاج (قضية الوقت) أو بالأحرى (قضية العمر):
1/ إن مسألة إدراك قيمة الوقت في الحياة، وفي بناء النفس، وتحقيق الأهداف، لا يستوعبها ويفهمها ويعمل بها إلا قليل من الناس، ذكرت الآيات أوصافهم: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، لِأُولِي الْأَلْبَابِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ، لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ، لِأُولِي الْأَبْصَارِ، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، أَفَلا تَسْمَعُونَ، أُولُو الْأَلْبَابِ)...
فأصحاب العقول الناضجة التي تدرك أمرها، وتستوعب الزمان بأدواره الثلاث"الماضي والحاضر والمستقبل"وتعمل فيها، كلٌ حسب وقته، وكلٌ حسب مستلزمات العقل فيه، هم أولي الألباب، فتكون الاستفادة من ماض بعمق وتحليل ووقوف وتأمل، والتقاط العبِر، حتى يمسي ذلك الماضي بعبره ودروسه ووقفاته وما فيه من إيجابيات، وسلبيات إيجابية!، جزءاً من كيان المرء ووعيه. وفي حجم القصص القرآني الذي يصل إلى ثلث الكتاب المبين، معنى فصيح في خبر الاتعاض بماض ووقوف عليه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَة ً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111)
فالوقوف والاعتبار يكون هدى في كل شي، ويكون رحمة متسعة لكل شي، إذ قلب المؤمن وعاء لهما، فيكون منه التحرك الناضج بالاستفادة من تلك الخبرات المتراكمة، وتفعيلها في حاضره، بنور من الله؛ نور السماوات والأرض، فتتشابك الخبرة التاريخية مع الهمة والنضج الواقعي الحاضر، لينتجا وعيا بمستقبل، ومآلات الأمور، أولئك: على الحقيقة هم المتقون، إذ الرب يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18).
ونظر النفس للغد يعني في العلم الحديث أن يكون له خطة، وأن يسير أموره بإدارة ووعي، و"مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"تعني الغد البعيد القريب؛ اليوم الآخر، وتعني الغد القريب القريب الذي بعد هذه الليلة، مثلا بمثل، فإن توفر العقل والتقوى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، لِأُولِي الْأَلْبَابِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)، فالسماع الواعي من القلب (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) فتكون التذكرة، (ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، فالتحرك الواعي ثمَ، (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لتدارك العمر، ويكون العمل على بصيرة، (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) وما البصيرة إلا عمل ببينة ووضوح.
وما ذاك إلا تخطيط وإدارة ووعي بالحياة وإدراك لأهمية الوقت فيها، وهو الإيمان الذي يحرك المؤمن والمؤمنة في القلب، ويحثه على أن يكون كريما في كل شي، إلا في وقته، فيمسكه بيده، وينفق منه على بينة من أمره، وهو فقه سماع آيات الله المنظورة والمسطورة هي التي تدفع لذلك، بذا نكون من أولي الألباب الذين:
يسمعون....
فيعقلون....
فيؤمنون....
فيتقون....
ويتفكرون....
فيذكرون....
(كونهم يعقلون)!(/3)
وكم يحرم المرء من خير كبير، وفقه عالي الجناب، إذ يغفل عن ذلك، وما نراه من تخبط في عرصات الحياة، إلا نتاج طبيعي لقلة وعي، وضمور نضج، كان سهل التناوش من كتاب كريم.
2/ إن انسجام المؤمن مع الكون الذي هو جزء منه، والكون مسخر له، وهو والكون مخلوقان من مخلوقات الله - تعالى - فلا تصدام بين نواميس الكون، إن أراد الإنسان الإستفادة من وقته: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)..
فالوقت مسخر لنا، بدقة وحساب رباني، وبشكل مفصل و موزون، وكل الكون يسبح في خطة وفلك ُرسم له، في أدوار واضحة محددة، تتوافق و ُسنة الخلق في الكون، وفي الإنسان، فالليل للراحة، فيه النوم والهدوء، والنهار للحركة والنشور، وكلٌ يجب أن يكون له فلك، ورسم يجري فيه، ومحور يتحرك عليه، مثله كمثل أي كوكب مضيء سيار، إذ هو مضاء بنور الله، ويسير على هدي مبارك، حدائه صراط مستقيم.
إن تبلد العديد من الدعاة في مسألة صناعة الأفلاك، ورسم المدارات، سواء على الصعيد الشخصي أو الدعوي، لهو ضرب من ضروب تضييع الوقت، في كبت لفطرة الله في النفس، وسنة الله في الكون، وتصادم مع خلق الله البديع، وما أمر الأمم المسيطرة اليوم على الدنيا إلا أمرٌ بيّن ظاهر للعيان، إذ هم تعبوا في اكتشافها من خلال الكتاب المنظور، وما أودع الله فيه من سنن، هي لمن اكتشفها، وهي بين يدي المؤمن في كتاب الله المسطور، لكنه غفل وابتعد، فحقت عليه سنة الله الماضية أنْ: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
3/ إن الله يمن على هذا العبد إن هو أدرك هذه النعمة الكبيرة، يمن عليه بأن، يستشعرها، ويتذوقها، ويحس بها تسري في جسده قبل وقته: (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)...
فهو الرزق الوفير من عند من يملك خزائن السماوات والأرض، وليس هو المال الرزق فحسب، بل الرزق معنى كبير؛ منه رزق راحة البال، والشعور بالسعادة، وتحقيق الأهداف، والإنجازات، وهو رزق بغير حساب، مفتوح العدد والنوع والكم.
وهي العزة تسري في روح المؤمن بهذا الفقه لحركة الكون، وحركته فيه، وهو العلم يستمده من العليم سبحانه، فما شرف الوقت إلا بالعلم، وما أدركنا قيمة الوقت إلا بالعلم، وهو فتح من العليم سبحانه.
ثم هي البركة تزرع في العمر، فيكون الوقت الضيق مباركا، تقضى فيه أعمالا ً كثيرة، وتطوى فيه الأوقات حتى يقضي المؤمن وطره منها، فيكون الخير، ويكون تنوع العمل، والإكثار، و إن نحن إلا في مزرعة، نريد الحصاد عند مليك مقتدر، ويكون مع الولادة اليومية نوع من زغاريد أهل الإيمان، فيكون شهود للمؤمن مع كلام الله، يترنم مع أصوات الكائنات الفرحة، كأنه فرح بمولود جديد، هو يوم مبارك يعلو فيه صوته مع تنفس الصباح، فيكون نفَسه القرآني مع نفَس الصباح الرباني، ويشرق الخير، وينشرح الصدر، فيكون ثم َ الشكر لله - تعالى - في كل عمل، ويكون تذكر العزة لله، فالعمل الدائم بما يرضيه، ويقرب العبد منه، وهو الله الغفار عن تقصير، وزلل، وهفوات، تبدر من مؤمن حريص، أدرك فقه الوقت، وعمل، وجاهد، فأستغفر، واستشعر أن الله يخبر أمره، ويدرك ما يفعل، فلا يتحجج بكسل وفتور، إذ الرب عليم بذات الصدور.
هذه أسس ٌ ومنطلقات ربانية في مسألة الوقت والحياة والعمر، وأنا أزعم أن الأوقات التي تنفق في إعداد الدعاة، لسنوات، وتعلمهم الكثير من المعلومات الثقافية، أزعم أنها لو أنفقت على ترسيخ هذا المبدأ الكبير، الذي يغفل عنه الكثير من الناس، لكان أولى وأجدى، إذ به يكون الفلاح بعده ويكون الإنتاج أوفر وأعمق وأطول وأنضج وأجمل وأرقى، وما نحن إلا خلفاء لله في أرضه، وورثة الأنبياء في علمهم.
إن الكثير من الدعاة، وعامة أهل الإسلام، لا يدركون قيمة الوقت في حياة أمتهم، وإن حدث منهم بعض وعي فتراه مشوشاً غير متضح المعالم، في ترتيب أولوياته، أو إبراز أولياته، فتجد وعيا بقيمة الوقت، ولا تجد فهما لاستغلاله كما يجب.
فإن أدرت معي بعض معان سطرتها، ورأيت فيها مزيد وعي ونضج ـ من خلال تدبر لكلام الله، واستخراج ما فيه من كنوز ـ فسبّح معي ربنا هادياً، واضرب لي معك سهما من سهام دعائك المبارك، ثم صل معي على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(/4)
الأستاذ عبد الحميد محمد ... ...(/5)
حرية التفكير والاعتقاد - الضوابط والحدود
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
موضوع مثير كثيرا مايتم تناوله , وضروري أن يتم تناوله آلاف المرات حتى تصبح حرية التفكير والاعتقاد شئ أصيل في تفكيرنا وحياتنا .
وليكون الموضوع علمي فسيتم تناوله من خلال الجوانب التالية:
أولا - المقدمة
ثانيا - تحديد المفاهيم
ثالثا - التشريع الاسلامي لحرية التفكير والاعتقاد
رابعا - ضمانات حرية التفكير والاعتقاد
خامسا - حدود حرية التفكير والاعتقاد .
أولا - المقدمة :
خلق الله تعالى الانسان وميزه وزوده بالعقل ليكون مسؤولا عن أمانة التكليف , ويكون حرا في اختيار مايراه مناسبا ثم يتحمل نتيجة اختياره .
واقتضى ميزان العدل الالهي أن يكون الانسان حرا في فكره واختياره , وان لهذه الحرية بعدين :
1- بعد فردي
ويتعلق بممارسة الفرد للحرية بينه وبين ذاته بحيث يفكر بالطريقة التي يشاء ويعتقد بما يشاء بحيث ينتهي تفكيره الى الاختيارات التي يريد وهو بالتالي يتحمل مسؤولية هذه الاختيارات .
2- بعد اجتماعي
فلا نسان يعيش ضمن مجتمع ومهما كان حرا فلا يستطيع أن يقطع علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه, وبالتالي لابد أن يتاثر بالمجتمع سلبا وايجابا وفي نفس الوقت لابد أن يراعي التفكير العام لهذا المجتمع .
ثانيا- تحديد المفاهيم :
1- حى لاتختلط الأمور وتتداخل فلابد من معرفة حرية التفكير الذي هو اعمال للعقل في قضية من القضايا للوصول الى الحقيقة , أو هو ترتيب معلومات معينة للوصول الى المعرفة .
2- ولكن عندما تمارس على العقل مؤثرات وموجهات غير منطقية وغير نزيهة فان العقل في هذه الحالة يكون مسلوب حرية التفكير وهنا تمارس بحقه الاكراه الفكري مما يؤدي الى الوصول الى نتائج خاطئة .
ولكن عندما يترك العقل حرا في التفكير الفطري ويتم التعامل مع الأمور بمنطق وموضوعية فان العقل عندها يكون حرا وسيصل الى موقف سليم يتوافق مع طبيعة العقل السوي .
3- وعندما نتحدث عن المؤثرات فلا يمكن حصرها بجانب معين , فهناك التسلط والاستبداد , وهناك التسلط والسيطرة المادية , وهناك السيطرة الاعلامية ذات التوجه الواحد , الى ما هنالك من أنواع عديدة من المؤثرات التي تؤثر على العقل فتدفعه لموقف محدد يخدم مصلحة الجهة الموجهة .
قال تعالى :
* ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد* سورة غافر - 29
كما أن هناك مؤثرات العادات والتقاليد ومؤثرات الأهواء والشهوات .
قال تعالى :
* انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون * سورة الزخرف - 23
فكل هذه المؤثرات تعلب دورا مهما في التأثير على العقل أثناء عملية التفكير .
4- ومن ضمن حرية التفكير فهناك قضية حرية الاعتقاد وهو الايمان بجملة من المبادئ على أنها الحق وخاصة فيما يتعلق بالوجود والكون والحياة .
وعند الحديث عن حرية الاعتقاد فنعني حرية اختيار الانسان للمبادئ والأفكار التي ينتهي اليها تفكيره حتى تصبح معتقدات له .
والاعتقاد لاتتم حقيقته الا اذا توافق مع التصديق القلبي وظهرت آثار ذلك على سلوكه وتصرفاته , والا فما قيمة هذا الاعتقاد اذا لم يترجم واقعا وسلوكا وتصرفات .
ثم ماقيمة هذا الاعتقاد اذا لم يكن الانسان حرا بالتعبير عنه عمليا بأداء واجبات هذا الاعتقادوأيضا حرية الدعوة اليه ونشره بين الناس حسب ما تنظمه الدساتير والقوانين حتى لايصبح الأمر شططا وبدون أية ضوابط , وفي نفس القوت يأخذ الجميع فرصتهم في الاستماع والرد وبشكل علمي ومنطقي بعيد عن القسر أو السخرية والستهزاء أو النيل من المعتقدات الأخرى .
ثالثا - التشريع الاسلامي لحرية التفكير والاعتقاد :
1- أسس الاسلام ووضع كل المبادئ والقواعد التي تكتمل بها الحرية , ورب قائل يقول أنه عبر التاريخ حصلت بعض الأخطاء وحاد البعض عن هذه القواعد فنقول هذا صحيح لأن هؤلاء أولا بشر ثم هناك قاعدة ينضوي تحتها الجمنيع وهي أن هناك من يشذ عن المبادئ وينحرف عنها أحيانا ولكن هذا الانحراف لايعتبر هو المسير والسلوك العام بل هو سلوك عابر وعارض لايعتبر قاعدة يستند اليها هذا ان أردنا أن نكون علميين وبعيدين عن التضخيم .
2- لقد شرع الاسلام كل مايحرر الفكر من المكبلات التي تعيق حركة التفكير واعمال العقل .
- فلقد نهى الاسلام عن الخضوع للعادات والتقاليد الموروثة وخاصة تلك التي تصادر الحرية وتكون عادات وموروثات سلبية بعيدة عن الحق والمنطق والتفكير السوي .
قال تعالى :
* واذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان اباؤهم لايعقلون شيئا ولا يهتدون * سورة البقرة - 170
- كما نهى الاسلام عن الخضوع للهوى بكل جوانبه لأنه يكبل الحرية ويعيق عملية التفكير الحر .
قال تعالى :
* فاحكم بين الناس بالعدل ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله * سورة ص - 26
قال تعالى :
* فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا * سورة النساء - 135(/1)
- وعندما نتحدث عن الاعتقاد فلابد من التطرق الى قضية الايمان وقياسه في حالتي القوة والضعف .
وحتى يكون الايمان قويا فلابد له من مساعدات على ذلك ومنها التأمل والتدبر والتفكر في الكون وفي النفس والآفاق للوقوف على كل الشواهد التي تثبت العقيدة وتقوي الايمان .
قال تعالى :
قل انظروا ماذا في السموات والأرض وماتغني الآيات والنذر عن قوم لائؤمنون * سورة يونس - 101
لذلك كان الايمان ناتج عن الاستدلال الحر دون تقليد أو اكراه .
رابعا - ضمانات حرية التفكير والاعتقاد :
لابد لكل مجتمع أن يضع ضوابط وأسس تضمن الحرية بشكل عملي , ولقد وضع الاسلام هذه القواعد والأسس .
1- ضمانات منهجية
كل انسان يتوق للحرية وأن يكون حرا في تفكيره واعتقاده , ولكن عندما تختل الضمانات المنهجية فيرتد الانسان ليعيش حالة الاستبداد من حيث لايشعر .
- ومن الضمانات المنهجية وهي تحرير العقل من سلطان الهوى والشهوة اللذان يوجهان العقل نحو تفكير غير سليم وبالتالي تكون النتيجة غير سليمة ومنافية للتفكير الفطري وتفكير العقل السوي .
قال تعالى :
* أرايت من اتخذ الهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * سورة الفرقان - 43
وقال تعالى :
* ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى * سورة المائدة - 8
- ومن الضمانات أيضا عدم الانصياع القسري لأي سلطان فهذا الانصياع يؤدي الى فقدان حرية الاعتقاد , وهذا السلطان لايتمثل في جانب محدد بل يشمل كل سلطان يفرض سلطته بأسلوب القهر والاكراه ليسطوا على النفس والعقل ويوجهها الوجهة التي يريد , أو يستغل حاجة الانسان ليسيره وفق أجندته .
قال تعالى :
* انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون * سورة الزخرف - 23
وقال تعالى :
* اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله * سورة التوبة - 31
ان هذه الضمانات ارشادات عامة لابد من توفرها قبل أن يتبنى الانسان أي معتقد .
2- ضمانات جزائية :
قلنا أن الانسان يتحمل نتيجة اختياره وخاصة عندما يكون هذا الاختيار حرا وبدون أي مؤثرات , فان كان اختياره سليما صحيحا يكافئ عليه وأن كان اختيارا خاطئا فيعاقب عليه .
أما الذي يتخلى عن حرية التفكير وينساق وراء جهة ما ثم يتبين له خطأ هذه الجهة فهذا ليس عذر له أن يقول لم أفكر ولم أكن حرا بل هنا يقال له أنت تخليت عن حرية التفكير ولم تستخدم عقلك بشكل سليم وصحيح وبالتالي يجب أن تتحمل النتيجة .
قال تعالى :
* وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم * سورة ابراهيم - 22
3- الضمانات القانونية :
الحرية على مستوى الفرد أمر سهل , ولكن عندما يتعلق الأمر بالمجتمع فيصبح الأمر معقدا وبالتالي لابد من وضع قواعد تضمن للعقل حرية التفكير .
- فمن هذه الضمانات عدم الاكراه , فلا يجوز اكراه الناس ليكونوا مؤمنين .
قال تعالى :
* لا اكراه في الدين * سورة البقرة - 256
وقال تعالى :
* فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر * سورة الكهف - 29
وبذلك ضمن الاسلام بأن يكون الاعتقاد حرا , وتجب محاربة كل من يعمل عكس ذلك بل يجب تقنين ذلك بقوانين ضامنة لحرية الاعتقاد .
- البعد عن التفتيش في القلوب , التفتيش في القلوب من أسس التسلط والاستبداد , بينما جاء الاسلام ليضع حدا لذلك فوجه الناس للتعامل مع ظاهر الانسان ومايصرح به وبالتالي تتم محاسبة الانسان على مابدى منه ظاهرا .
* ففي أحد المعارك يقوم أحد الصحابة رضي الله عنهم فيقتل رجلا أعلن كلمة التوحيد , فيصل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب فيقول الصحابي مبررا عمله أنه قالها خشية من السيف , فيأتي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم واضحا بينا لاغموض فيه أو شققت على قلبه *
- المساواة أمام القانون , فلا يجوز لأكثرية أن تتعالى على أقلية ولا يجوز محاكمة الضعيف وترك القوي , بل يجب أن يكون الجميع سواء أمام القانون , كما يجب أحترام كل الديانات والعقائد وأن تأخذ كل عقيدة نصيبها الكامل دون أنتقاص كما يجب أن يكون لهم كامل الحق في ممارسة شعائر معتقدهم دون تضييق أو معوقات .
ولضمان كل ذلك فلابد من تقنين هذا الأمر حتى لاتسود الفوضى ويتصرف كل انسان حسب هواه ورأيه .
وأن يكون لهم الحق بالدفاع عن معتقدهم بل يجب أن يكون القانون هو الحامي لهم ويكفل لهم كل ذلك .(/2)
* روي أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقد درعا في أحد المعارك وبعد فترة طويلة وبينما كان يتجول في السوق واذا بيهودي يبيع الدرع فقال له علي رضي الله عنه هذا درعي واليهودي يصر عل أمتلاكه للدرع فذهبا الى القاضي شريح وحيتها كان علي رضي الله عنه خليفة فيجلس علي واليهودي في ساحة القضاء دون ألقاب بل سواسية أمام القانون , وقدم كل منهم حجته فحكم القاضي لليهودي , وسلم علي رضي الله عنه بالحكم , ولما هم علي بالخروج قال له اليهودي أأصدقك القول ان هذا الدرع درعك وعدالة قضائكم شجعتني للاعتراف بذلك واني أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله *
خامسا - حدود حرية التفكير والاعتقاد :
قلنا أن الحرية لها بعدين جانب فردي وجانب يتعلق بالمجتمع وطالما أن هناك من نشترك معه في مجتمع واحد فلا بد من ضوابط تنظم عملية ممارسة الحرية حتى لايغدوا لأمر فوضى .
ولايوجد مجتمع على وجه الأرض الا ووضع ضوابط لحرية التفكير .
فالانسان حر أن يسير في أي مكان من الشارع , ولكن هل اذا وضعت الجهات المسؤولة ضوابط لهذا السير فنقول هذا حد من الحرية أم أن هذه الضوابط وضعت للحفاظ على الانسان وخوفا عليه حتى لايقع في حادث معين .
عندما يسير الانسان على جسر أو قنطرة فوق نهر أو بحر فنجد وجود سور حجري أو حديدي على طرفي الجسر فهل هذا يعني أن ذلم يحد من حرية المشاة أم أن ذلك وضع للحفاظ على المشاة خوفا من وقوعهم في النهر أو البحر .
وهكذا يجب أن ينظر لقضية حدود الحرية وضبطها وتنظيمها .
- ومن الأمور التي تنظم الحرية تحنب الغواية
فكل من يريد أن ينشر فكره ومعتقده فعليه أن يتجنب مسلك التغرير والخداع واستغلال حاجات الناس .
فهذه الاساليب تدل على أن المبشر نفسه غير مقتنع بفكره أصلا لذلك يستخدم هذه الساليب لخداع الناس وغشهم , فتارة يستخدم استغلال حاجات الناس في ظروف المجاعة وتارة يستغل فقدان الرعاية الصحية وتارة يستغل سلطته وسطوته فيضطر الانسان لينضم لهذا الحزب من أجل وظيفة أو دراسة وغير ذلك
* يقول الامام الرازي : اعلم أن الدعوة الى المذهب لابد وأن تكون مبنية على حجة وبينة * التفسير الكبير -ج 10- ص 141
وقد يكون الخداع باستغلال جهل البسطاء فيقوم المبشر بخداعهم فيقنعهم بما يريد .
وقد يكون الخداع عن طريق الاعلام الموجه فيمارس بحق المستمعالخداع فيقلب الهزيمة الى نصر والفساد الى نزاهة والاستبداد الى ديمقراطية حتى يصل الأمر بهم الى اقناع السامع أن الأرنب فرس وأن الشريف خائنا وهكذا هي أساليب اعلام المستبدين .
- ومن الضوابط أيضا تكافؤ الفرص
فلا بد أن تعطى الفرصة لكل صحاب رأي ومعتقد فيقدم أدلته وحجته , دون استخدام أساليب الطعن والسخرية والاستهزاء والنيل من قيمة الانسان وكرامته , فيكون حوارا علميا ومنطقيا .
كما ويجب اعطاء الفرصة لمن يريد الرد والتفنيد .
وبذلك يكون المستمع حرا في تقبل الأفكار التي يريد .
- ومن الضمانات , الأمانة في العرض
فكل من يريد التعبير عن فكره ومعتقده فيجب أن يكون أمينا في العرض من حيث البناء الفكري ومن حيث التاريخ ومن حيث الممارسة دون تلبيس أو تزييف .
ويجب على المنتقد أن ينتقد بعلمية بانيا نقده على حقائق وعلى مصادر موثوقة مبنية على أسس علمية سليمة وصحيحة , أما الاستشهاد بأقوال لاتصمد أمام التحقيق العلمي والتاريخي فهي وسيلة للخداع وبعيدة كل البعد عن النقل العلمي الأمين .
- ومن الضوابط احتر ام المشاعر الدينية
لكل معتقد حرمة لاتدانيها حرمة , فصاحب المعتقد مستعد للتضحية بنفسه من أجل معتقده .
واذا كان لابد من نقد أي معتقد فليكن نقدا علميا بعيدا عن جرح المعتقدأت واصحابها وكا ما تتأذى منه نفس صاحب الاعتقاد .
فالبعض تحت حجة وحق النقد فتراه يقوم بتحقير معتقدات الآخرين أو يقوم بالتشهير والانتقاص من المعتقد ورموزه مستخدما كل مصطلحات الأستفزاز والاساءة والهمز واللمز ثم بعد كل ذلك يقول هذا نقد علمي وعلى أصحاب المعتقد أن يحترموا أسلوبه , ان تصرفات من هذا النوع لاتتحمله النفوس المؤمنة .
ان النقد العلمي هو اظهار مايراه الناقد حسب رأيه بشكل علمي ثم يترك للسامع أو القارئ حرية اتخاذ الموقف المناسب .
قال تعالى :
* ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم * سورة الأنعام - 108
فالحوار يكون بالحجج العلمية والعقلية مع احترام المشاعر الدينية وخصوصيات كل اصحاب معتقد .
وكل مانسمعه منذ فترة عما يسمة نقد علمي فهو في الحقيقة تحقير واتهام وهمز ولمز ونيل من الرموز والمقدسات وتعديا على مشاعر المسلمين , وكله يؤدي لاستفزاز المسلمين ويدفع نحو بروز تيار متشدد يرد بعنف على المتسببين وبالتالي تحصل الفتنة والفوضى التي تحرق الأخضر واليابس .
- ومن الضوابط تجنب السلوك الكيدي
فهناك جهات وتحت حق النقد فتعتمد أسلوب الكيد والحقد وهذا اعلان حرب وليس نقد .
قال تعالى :(/3)
* أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ماعقلوه وهم يعلمون * سورة البقرة - 75
ومن صور الكيد تجد شخصا ما ينتحل معتقد معين ثم يقوم ببعض التصرفات السيئة من أجل تشوية هذا المعتقد .
وهناك من ينقل أخبار كاذبة لاصحة لها ولا يستطيع الناس من التأكد منها فمثلا تراه ينقل خبر عن شخص أو مجموعة في بلد ما قائلا أن هؤلاء تركوا الدين الفلاني لأنهم وجدوا فيه كذا وكذا , وكل ذلك من أجل تشكليك الناس بهذا الدين أو المعتقد .
قال تعالى :
* لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لايجاورونك فيها الا قليلا * سورة الأحزاب - 60
ورحم الله الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عندما قال * متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا *
آمل أن يكون هذا الموضوع مفتاحا لرؤية سليمة لموضوع الحرية وحرية الاعتقاد والتفكير , وهو جهد متواضع لا أدعي فيه الحقيقة المطلقة والصواب المطلق بل هو مساهمة للدفع نحو تعامل وتأسيس سليم لقضية الحرية .(/4)
حرية الدين والوجدان من زاوية معينة
يني أميد، عدد نيسان- مايس – حزيران 2004
يمكن تلخيص حرية العقيدة والدين والوجدان بالقول بأنها حرية كل إنسان في اختيار دينه واستطاعته القيام بإيفاء جميع واجبات وتكاليف وأوامر دينه بكل اطمئنان وراحة دون أي عائق أو مانع، وأن يكون باستطاعته تلقي التعليم الضروري لكي يتمكن من العيش حسب عقيدته وإيمانه، وتيسير سبل إيصال عقيدته إلى الآخرين كذلك.
إن الذين يعدون الدين مجرد قناعة وجدانية وقلبية لا غير يقومون في الواقع بتفسير محرف لما وضعه الله تعالى من جانب، ويقومون من جانب آخر بتقليص وتضييق مساحة تطبيقه حائلين بذلك دون حصول المنافع والمصالح الفردية والعائلية والاجتماعية التي وعد الله عباده المتمسكين بدينه. بينما يتطلب الدين الإسلامي إلى جانب الاعتقاد بأسس الإيمان وقواعده اعتقاداً قلبياً راسخاً وجوب الإيفاء بأركان الإسلام وفرائضه وشعائره حق الإيفاء وتطبيقها ورعاية قواعده الأخلاقية تمام الرعاية، كما يحتوي الدين على العديد من الأسس الحقوقية والاجتماعية والعائلية. وهذه القواعد تشكل نظاماً ملزماً للإنسان ولها نتائج حيوية مهمة وجدية.
أجل!... فليست هذه الأسس من الأمور التي يمكن إهمالها أو تناسيها، وليست نتائجها بالنتائج الهينة البسيطة. فكما أن النظام الدنيوي والتوافق والتلاؤم والسعادة الفردية والعائلية متعلقة بنسبة كبيرة بهذه الأسس والقواعد، فإن إشباع رغبة الخلود في الإنسان والسعادة التي لا تنقطع ولا تزول في العالم الآخر ثمرة من ثمارها ونتيجة من نتائجها.
ولكن من المؤسف أن كثيراً من الدول والحكومات في الماضي والحاضر لم تأخذ هذه الأسس بنظر الاعتبار، ولم تهتم بها، فمنها من تلاعبت بها وغيرت أطرها، ومنها من تدخلت تدخلاً سافراً في مجال تطبيقها ومارست ضغوطاً كبيرة ووضعت العراقيل والصعوبات أمام الناس عند محاولتهم عيش عقائدهم في حياتهم العملية، بل منعوا منه أحياناً. ومع أن بعض الدول التي تدار حسب القواعد الدينية تكون سخية بعض الشيء تجاه مواطنيها المعتنقين لدين تلك الدولة من ناحية حرية الدين والوجدان، إلا أنه من الصعب قول الشيء نفسه بالنسبة للمعتنقين لدين آخر فيها أو فلسفة أخرى. بيد أن الذين فهموا الإسلام وعاشوه بحق تصرفوا على الدوام باحترام تجاه جميع الأديان والأفكار والفلسفات، ودخلوا في حوارات حميمة مع منتسبي هذه الأديان والأفكار والفلسفات، وأبدوا سماحة وتفهماً واحتضنوهم على الدوام بكل شفقة. أما الذين لم يفهموا الإسلام بشكل صحيح وكذلك أصحاب الأديان والفلسفات الأخرى الذين بنوا فلسفتهم في الحياة على الحقد والنفور والكراهية والتفرقة والتعصب فقد قاموا بتضييق الأفق الواسع الموجود في لب كل دين سماوي وتقليصه، وقلبوا كل نظام أو أنظمة من نظم خير وفلاح إلى نظام أو أنظمة شر وفساد، وحرضوا منتسبيهم ونفثوا فيهم الغيظ والحقد والحسد ضد ما أطلقوا عليه اسم: "الآخرون" ليعاملوهم – طبعاً إن استطاعوا ذلك- بكل شدة وعنف وقسوة وبكل الطرق الوحشية.
ومع أن النظم العلمانية والليبرالية التي فصل فيها الدين عن الدولة تماماً في أيامنا الحالية تبدو وكأنها تبنت فكرة السماح لكل إنسان بالعيش حسب ما يعتقد ويؤمن، إلا أننا نرى في العديد من البلدان كيف يُلتزم الإلحاد بكل قوة، وكيف تنعدم المسامحة وتَقَبُّلُ الدين والمتدينين، وكيف يُتصرف معهم بكل خشونة وفظاظة. ونحن نرى أن أمثال هؤلاء عندما يقبضون على إدارة أي بلد ويتحكمون في قدر أي أمة لا يبقى هناك أمن ولا طمأنينة في البلد بل يتم نسفهما تماماً، وتطبيق أبشع أنواع القهر والظلم بشتى أنواع المعاذير، وترويض الجماهير وتدجينها. ويتكرر هذا حتى يبدو من الأمور العادية. ونستطيع أن نصف هذا بأنه الصراع الدائر بين القوة الغاشمة وحرية الضمير. ويرجع تاريخ هذا الصراع إلى ماضٍ سحيق. وفي مثل هذا الصراع يتصرف بعض أصحاب الأديان التصرف الظالم نفسه تجاه مخالفيهم تماماً كتصرف الملحدين الظالمين - الذين لا يؤمنون بالله ولا بالأنبياء ولا بالأديان- تجاه المؤمنين، ويستعملون السلاح الظالم نفسه. ففي عهود مختلفة قام بعض الحكام اليهود – الذين يجعلون العنصر أهم شيء وأهم مقياس عندهم – بتصرفات ظالمة تجاه الأمم الأخرى، ولم يتسامحوا مع الآخرين. والأنكى من هذا أنهم قلبوا دينهم السماوي - الذي أتى لينشر السلام والأمن بين الناس – إلى وسيلة ضغط على حرية العقيدة والضمير. والحقيقة أن مثل هذا التصرف كما أدى إلى ظلم الآخرين ومعاناتهم، أدى في النهاية إلى انقراضهم وتبددهم.(/1)
وأنا أقول وكلي أسف بأن هذا الوضع نفسه كان سائداً في أنحاء عديدة من العالم في الماضي ولا يزال سائداً. واعتباراً من المواجهة الأولى للغرب مع المسلمين اتخذ الغرب - تحت تأثير وتحريض بعض رؤسائهم الدينيين- موقفا عدائيا قبيحا وغير مبرر يشبه الموقف الذي اتخذه الأعداء تجاه السيد المسيح (عليه السلام). فقاموا بمحاولة سحق منتسبي هذا الدين الجديد بل مسحهم من التاريخ، فرتبوا الحروب الصليبية وشنوها عليهم، وهاجموا هؤلاء المظلومين في عقر دارهم. فعلوا هذا في عهد لم تنمسح فيه بعد آثار ما فعله الرومانيون بهم من الظلم والقهر. آه... آه من هذا التعصب البغيض القاتل!.. وهل يمكن تبرير وتفسير ذلك الاحتلال للأراضي والاعتداءات مع رسالة الحب للسيد المسيح (عليه السلام)؟ ثم نتساءل هل كان هناك ما يبرر ذلك الهجوم الوحشي والاعتداءات تبريراً معقولاً أمام التاريخ؟ وأليس غريباً أن ترتكب كل هذه الموبقات باسم الدين (فهذا هو السبب الرئيسي المعلن) وفي ظل رايته؟ طبعاً كان ذلك غريباً. والأغرب من هذا أن كل هذه الموبقات قد ارتكبت باسم السيد المسيح (عليه السلام) الذي كانت الرحمة والمحبة هو لب وخلاصة رسالته.
ويا ليت هذا الإكراه ضد الدين والإيمان وحرية الضمير قد بقي ضمن هذه الحدود ولكن هيهات... هيهات!.. لقد تحولت الدنيا في عصور التاريخ إلى مرجل يغلي بشكل خفي بالفتن، ولم يظهر أي تسامح مع أي اختلاف في الفكر أو الفلسفة أو الدين بل كانت قاسية جداً معه. ونحن لا نعلم بماذا كانت الجماهير تفكر في هذا الهرج والمرج، ولكن لا يوجد أي شك في ظلم الحكام ورجال الدولة وتحكمهم وتسلطهم وجورهم وتعصبهم، فمنذ أن أصبحت المسيحية دين دولة قام الحكام – باسم المسيح (عليه السلام)- بإعدام كل معارض لهم وقتله، ولم يحترموا على الإطلاق رسالة المسيح (عليه السلام) المفعمة بالحب والرحمة واللين والتسامح والعفو والصفح. وخلقت كل زمرة وكل طائفة أعداءً معارضين لها، وقامت بظلم وتصفية كل فهم أو تفسير يخالفها وبتصفية كل معارضة فكرية تحت ذريعة وباسم السيد المسيح (عليه السلام) وبدعوى حبه. وتوهموا أنهم بجرائمهم تلك سيرضون المسيح (عليه السلام) وسيدخلون الجنة. ويمكن القول بأنه لا تزال هناك حتى الآن بقايا من هذا النمط من الفهم.
حتى جاء يوم دفعت فيه كل هذه الأعمال والفتن بعض رجال العلم والفلسفة إلى عمل شيءما. وكان محور حركة هؤلاء ونشاطهم أن أي دين منزل من قبل الله تعالى لا يمكن أن يأمر الناس بقتل بعضهم البعض، لذا يجب إيقاف هذا الأمر، وإنهاء مثل هذا التعصب الظالم باسم الدين وذلك بحركة تغيير وإصلاح (reform) أو بتغيير في شكل إدارة الدولة. وفي النهاية نجحوا في هذا الأمر بدرجة معينة، حيث تتابعت حركات التغيير والإصلاح من جانب، ومن جانب آخر انسحب كل من الدين والعلم (اللذين كانا في خصام دائم) كل إلى حدوده وساحته، وتأسس نوع من التفاهم بينهما. كما تمت خطوات كبيرة في موضوع فصل الدين عن الدولة. وهنا بدأ الحديث عن حرية الفكر والعقيدة. ولكن تم هنا شيء آخر فقد سادت القوانين الوضعية واحتلت مكان القوانين الإلهية. وهكذا تقلص أثر الدين وانسحب إلى قلوب وضمائر منتسبيه مثل أي نظرية أخرى.
بينما العقيدة الدينية تمثل الدين نفسه، لذا لا يمكن حبسه ضمن حدود تقررها أيدولوجية معينة أو نظام حقوقي معين، بل يجب مراعاة أحكامه حسب الأسس التي وضعها الله تعالى وضمن اطارها، وبهذا فقط يستطيع الدين المحافظة على سماويته، ويمكن آنذاك فقط إطلاق اسم "الدين" عليه.
أجل!.. إن الحرية الدينية بجانب كونها حرية ضمير إلا أنها عبارة أيضاً عن العيش حسب الأسس التي نعتقد أنها جاءت وأنزلت من قبل الله تعالى، وعبارة عن حرية كل إنسان في تبليغ هذه الأسس قولاً وكتابة إلى الآخرين، وعدم وجود أي قيود أو موانع بأي شكل من الأشكال ضد هذه الحرية. ولكن إن وجد ولو بشكل جزئي أي قيد أو مانع أمام قيام الناس بالعيش حسب أسسهم الدينية أو وضع حدود في هذا الأمر فلا توجد آنذاك حرية الدين في ذلك البلد ولا يمكن الحديث عنها أبداً.(/2)