ومن جهة أخرى فنحن بالموازنة بين الحالة الجديدة التي يستقبلها المسلمون والمرحلة التي مرت قبل نزول السورتين نجد أننا قادرون على أن نسمح لأنفسنا بوقفة من لون خاص ، نعيد النظر في الآيات ( والضحى ، والليل إذا سجى ) هذا قسم شأنه شأن الأقسام التي مرت والكلام عليه كالكلام على الأقسام التي مرت ، وأما قوله تعالى ( ما ودعك ربك وما قلى ) فالتوديع والودع في كلام العرب هو الترك ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو لأفعلن بهم كذا وكذا . يريد لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو لأفعلن بهم كذا وكذا ، فالودع هو الترك ، والقلى هو البغض والهجر ، تقول : قليت فلاناً إذا هجرته ، فالله عز وجل يقسم ويجعل جواب القسم أنه ما ترك محمداً صلى الله عليه وسلم ولا هجره ولا أبغضه . وبالرجوع إلى الروايات الواردة في التفسير بالمأثور نجد أن الروايات تتكاثر لا ندري إلى أي حد هي صحيحة لكن تظاهرها يسمح لنا بأن نطمئن إلى ورود شيء منها ، يقال إن امرأة حين فتر الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما أرى شيطانك إلا أنه هجرك ، ويقال إن من المشركين عيّروا محمداً صلى الله عليه وسلم بأن ربه قلاه وتركه فنزلت هذه الآيات ترد على هؤلاء الناس ، والذي يلفت النظر إلى أن حديث البخاري الذي يفيد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقى الوحي أولاً في غار حراء بفواتح سورة العلق ثم فتر عنه الوحي بعد ذلك ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن نفسه بأنه حزن لتأخر الوحي عليه وأنه حاول مراراً أن يلقي بنفسه من على الجبل ، وأنه كلما همّ بأن يفعل ذلك تبدى له جبريل عليه السلام يقول له : يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ، فيثبت عليه الصلاة والسلام .
فمسألة انقطاع الوحي أو الفترة التي تحدث عنها حديث البخاري مسألة مبكرة أكثر من هذه الآيات ، وفي ظني أن الآيات تعالج أمراً جوهرياً تكشف عن طبيعة العلاقة بين الوحي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بين الإنسان وبين هداية السماء ، لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء كان يعاين تجربة فريدة من نوع خاص لم يسبق أن جربها من قبل ولم يسبق أن جربها أحد من خلق الله تعالى إلا هذه الصفوة المختارة من الله التي هي الأنبياء . والعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم لا يعرفون شيئاً عن طبيعة الوحي ، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعيداً أن تنازعه نفسه بالشوق أن يطيل العيش مع هذا النداء السماوي الذي سمعه في غار حراء ، إلا أن الوحي دليل ومرشد وليس قائداً يأخذ بيد الإنسان في كل الأحوال . والعرب خليقة بأن تفهم من طبيعة الوحي بأنه قيادة مطلقة وأنه إلغاء لإرادة الإنسان ، والنبي صلى الله عليه وسلم لو وقع في ذهنه هذا الشيء لكان معذوراً فهو لا يعرف عن وظيفة الوحي شيئاً قبل هذا ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء ) .
فالنبي عليه الصلاة والسلام والعرب أيضاً تصوروا أن كل حركة وكل سكون يجب أن يكون فيه وحي ، وهذا هو الشيء الذي جاءت الآيات لتضعه في نصابه ، الوحي ليس علاجاً لحالة موقوتة في زمن موقوت في محل محدود ، ولكنه نداء مطلق وهداية مطلقة إلى الناس في كل زمان وفي كل مكان ، والوحي ليس من طبيعته أن يلغي إرادة الإنسان ولا أن يشطب على شخصية الإنسان وإلا لسقطت المحنة وذهب معنى الابتلاء ، وإنما معنى الوحي جملة من القواعد والإرشادات التي يتخذها الإنسان أساساً له في حياته وفي تصرفاته ينطلق منها معملاً إرادته محيياً شخصيته . فالعرب إذاً معذورون حين تصوروا أن الوحي لكي يكون وحياً يجب أن يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه تصوروا قياساً على الكهانة أن الكاهن لا يستطيع أن يتكهن إلا جاءه شيطانه فأدلى إليه بالمراد ، ولكن الرسالة غير الكهانة ، والنبي صلى الله عليه وسلم مكانه في قومه ، مكانه من الأمة ، ليس مكانه مكان الآلة التي يوعز إليها لكي تنفذ ولكنه مكان الإنسان الذي شحن بالوحي وأدرك مرادات الله جلا وعلا فقاد الناس بمبادرات خاصة من قبله وبإشارات من الله جلا وعلا دون أن يؤثر ذلك بتاتاً على قيمة الشخصية الإنسانية ولا على إرادتها ، فهذا الكلام لا شك أنه جاء في غالب الظن رداً على كلام قاله هؤلاء الناس عن فترة الوحي .(/2)
لكني أسأل : هل من شرط هذا الكلام أن يكون بعد انقطاع الوحي من الفترة الأولى ، أتصور أن هذا غير ميسور ، فالوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى ثم انقطع ، بعضهم يقول إنها نصف شهر وبعضهم يرقى بها إلى عدة أشهر ، ثم حمي الوحي وتتابع كما جاء في الحديث الشريف ، ولكنه مع أنه تتابع كان ينقطع بين الحين والحين ، وحينما انقطع في المرة الأولى لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر أمره للناس ، آمنت به زوجه خديجة وصديقه أبو بكر وابن عمه علي رضي الله عنهم جميعاً مع نفر قلائل دون أن يلفت نظر أحد . لكنه بعد ذلك جرت فترات من انقطاع الوحي قيل ما قيل فقال الله هذا الكلام ليضع الوحي في إطاره الصحيح وليضع النبوة في مكانها الحق في حياة الناس .
( ما ودعك ربك وما قلى ، وللآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فيما قرأت كل المفسرين القدماء قلما يشذ أحد عنه ، حينما يواجهون قول الله تعالى خطاباً لحمد عليه الصلاة والسلام ( وللآخرة خير لك من الأولى ) يشيرون بهذا إلى ما أعد الله لك يا محمد من النعمة والكرامة في الدار الآخرة خير لك من الأولى التي هي هذه الدنيا ، ولكن نفراً من كرام المفسرين وهم قليل يشيرون إلى معنى متساوق مع خطوات الدعوة ، يقولون بأن المراد ـ والله أعلم ـ أن مستقبل أمرك خيرٌ مما مضى من أمرك ، لا على معنى أن ما جاءك من الوحي فاستقبلت به أيامك الجديدة خير لك من أيامك التي قضيتها في الجاهلية ، لا ، فهذا شيء لا يحتاج إلى نص ولا يحتاج إلى كلام ، ولكن على معنى أن أمرك ما يزال ينمو ويتقدم نحو الأحسن حتى تكون مقبلات أيامك خيراً مما مضى مع ملاحظة استحالة الفصل بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم وحاله وبين حال الأمة برمتها ، وفي تقديري أن هذا معنى حسن وهو يتساوق مع خطوات الدعوة ، ولو أننا ألقينا البصر إلى آخر السورة فسمعنا الله يقول ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) لرأينا هذا الكلام يشد المعنى الذي ذهب إليه المفسرون المحدثون . قلنا قبل اليوم إن للقرآن وللإسلام طريقة يتميزان بها عن أية دعوة أرضية ظهرت على وجه الأرض ، في الحالة العادية قد تتوفر فرص ومناسبات يتوهم الإنسان أنه يستطيع أن يحقق بها مكسباً ما للقضية التي يحملها ، وقلما يتمالك الإنسان نفسه تجاه إغراء من هذا النوع ، لعل الانتهازية والوصولية في الأحزاب الدنيوية مبنية على هذا إلا الإسلام ، فالإسلام لا يرضى أن ينتهز الفرص وإنما يأخذ بالبناء لبنة بعد لبنة ، قد تكون هناك فرص تعرض ولكن الإسلام يضرب عنها صفحة ولا يلتفت إليها ولا يكترث بها ، لو فعل ذلك لسقط في سياسة حرق المراحل التي يكون فيها الكسب الخارجي على حساب التنمية الداخلية وعلى حساب البناء الداخلي ، من أجل هذا رأينا الإسلام منذ البداية لم يعرف التقهقر ولم يعرف التراجع ، رأيناه في تقدم مستمر ونمو متصل ورأينا المسلمين يزدادون باستمرار ، وحينما نعود إلى نصوص الحديث نستمع إلى نص معين من الحوار الذي قام بين أبي سفيان وبين هرقل ملك الروم على أثر صلح الحديبية ، فإن هرقل في جملة الأسئلة عن الرسول وعن الرسالة وعن الأتباع سأله : أيزيدون أم ينقصون ؟ قال : بل يزيدون .
فالإسلام ما عرف التراجع ولا عرف التقهقر إلى الوراء ولم يعرف إلا التقدم وإلا اتساع الرقعة ، لماذا ؟ الأمر كله يعود إلى هذه القضية أي أن البناء يجب أن يبدأ من الأساس وإنه لا يجوز أن توضع اللبنة الثالثة قبل أن توضع اللبنة الثانية ، وإن الذي يتورط في عمل هذا الخرق وقلة العقل يغامر بالبناء كله ، فطريقة الإسلام بهذا الشكل مهما يَلُحْ في الأفق من المغريات ومن الفرص قد يعض عليها البعض بنان الندم لأنها فاتت ، فالإسلام لا يكترث بهذا ولا يلقي إليه بالاً ، قد خاض معركته الأساسية في داخل الذات ، ومنذ أوائل الدعوة ربط الإسلام ربطاً وثيقاً محكماً بين الإنسان وبين السماء حتى تتحرر حركته بوحي السماء ، وحتى يكون المسلم مرتبطاً دائماً بالله تبارك وتعالى ، ففي سورة المزمل يطلب الله جلا وعلا من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه تدريباً له على تحمل الصعوبات والمشاق في ذات الله جلا وعلا وصرفاً له عن المغريات التي يصادفها المرء في الحياة ، منذ ذلك التاريخ والإسلام يقود الأمة خطوة وراء خطوة .(/3)
فحين نأتي إلى هؤلاء الآيات في هذه المرحلة المتأخرة نوعاً ما فنراها تخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الشكل تكشف أن الله لم يودعه ولم يهجره ولم يبغضه ، وتكشف له عن حقيقة أساسية قريبة منه إنه حين اختار لكي يحمل الأمانة إلى الناس إنما اختاره بعلمه ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وإذ اختاره جلا وعلا فالله ليس شخصاً من الأشخاص يقدم على العمل ثم يرى فيه رأياً آخر فيلغي رأيه السابق فيأخذ برأي جديد ، علم الله جلا وعلا لا يطرأ عيه شيء من شوائب الجهل ، فحين اختار محمداً صلوات الله عليه واختار له هذه الرسالة اختاره على علم وأنزلها عليه على علم وبعلمه جلّ وعلا ، فهو لم يتركه بحال من الأحوال ، ولم يتوهم مسلم أن الله جلا وعلا سيترك دينه الذي ارتضاه لخلقه ألعوبة في يد العابثين والمضللين ، ما الدليل على ذلك ؟ ماذا ساق الله جلا وعلا ؟ الإسلام لا يتورط معك في مقايسات وفي أمور فلسفية غامضة ، يأخذ بك من قريب ويلفت نظرك إلى قريب ، أنت تتصور الأمور صعبة ، انظر يا محمد : لو كان ما يقول أعداؤك حقاً ؟ انظر إلى النشأة التي نشأتها وأنت في مجتمعك العربي البدوي ، ماذا كنت ؟ تزوج أبوك من أمك وكأنما لم يكن لهم من الوجود إلا أن يلقي هذه النطفة من جسده في رحم أمك ومضى من هذه الدنيا وأنت جنين في بطن أمك ، ورضعتك أمك يتيماً بلا أب ، ما الذي تركه لك أبوك ؟ جارية فقط ، ويقال ترك له شويهات ، من الذي كفله ؟ جدك الذي يدلف إلى القبر ، وحين كان سادات قريش لا يستطيعون أن يقتربوا من فراش عبد المطلب كان الله قد قذف في قلب جدك محبة لك ، فكنت تحبو على فراشه فإذا انتهرك منتهر قال : خلوا ابني فإنه يشيب ملكاً أي أنه يحس منه السيادة والعظمة والملك . ثم مضت أمك ومضى جدك . في ذلك المجتمع القاسي الذي يظلم اليتيم ، أنت يا محمد ما جعلك تحس من مرارة اليتم شيئاً ، كفلك أبو طالب ثم بقي أبو طالب حياً حتى نبّأك الله بالرسالة . اليتم الذي يشكو منه أقرانك من أطفال قريش كنت أنت محفوظاً من أن تحس مرارة اليتم . ثم أغناك ، بما أغناك ؟ هيأ لك الزواج المريح ، وجعلك تتردد في التجارة قبل أن تتزوج ، ثم تزوجت البرة التقية النقية خديجة بنت خويلد فكانت لك أنساً وكانت لعينك قرة وطمأنينة ، صدقتك إذ كذبك الناس ، وسخرت مالها من أجل هذه الدعوة فلم تحس مرارة الفقر . الله فعل بك هذا ( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ) فهل من المعقول أن يتركك ؟ أتستكثر عليه أن يقود خطاك ؟ فما يزال أمرك ينمو يوماً بعد يوم حتى يستوي على أصوله وقواعده ؟ أتتصور أن الله يتركك ؟ لا ، لا حاجة إلى كثير من الفلسفة ولا إلى كثير من العقليات . في حياتك الخاصة تجد أن عناية الله قد حفت بك منذ أن كنت نطفة استقرت في الرحم وإلى أن خرجت إلى الدنيا ، وتنتقل من حال إلى حال لا تفتقد رعاية الله لك لحظة واحدة . فإذا كان الأمر كذلك فما الأمر عليك يا محمد ؟
( ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ) وحذار من أن يفهم معنى الضلال بمعناها العام كضلال الوثنيين الذين كانوا يسجدون للأصنام ، فحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقترب من صنم . في سفرته إلى الشام وحين قصد بصرى قال له الراهب بحيرا : أنشدك باللات والعزى على أمر حلفه عليه ، قال له : لا تذكر لي اللات والعزى والله ما أبغضت شيئاً كما أبغضت اللات والعزى . ضلالة النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في السورة كضلالة أولئك المتحمسين الذين كانوا يطلبون في الجاهلية دين إبراهيم عليه السلام فلا يهتدون إليه ، وكانوا ينقطعون كل عام في الجبال في رمضان يعبدون الله جلا وعلا على الطريقة التي يرونها أدعى إلى الطمأنينة ويتركون ما عليه قومهم من عبادة الأصنام وضلالة الوثنية . لكنها على كل حال ضلالة يعني حالة ضياع أو عدم اهتداء للطريق ، فهذا الطريق الذي هو الإسلام ليس شيئاً يمكن اكتشافه بالتفكير ، فالبشرية عرفت عقولاً كبيرة وعرفت طاقات مفكرة عظيمة ولكن المفكرين جميعاً وقفوا متحيرين أمام مسألة الألوهية وقضية الديانة ، لأن الطريق إلى الألوهية وإلى الديانة مرتبطة بالوحي الذي لا يمكن أن تحوم حوله العقول ، فالله جلا وعلا يذكر في مقام المنة على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ، لقد كنت تفتش عن مرضاة الله يا محمد قبل أن يأتيك الوحي ، لأنك تسير في طريق لا يؤدي إلى الرسالة ، لأن الرسالة ليست ثمرة البحث والاجتهاد وإنما الرسالة اختصاص من الله جلا وعلا ، فهداك الله جلا وعلا . هل كان ذلك بالخاطر أو الهاجس ؟ لا ، وإنما بالوحي الذي جاءك به جبريل عليه السلام من الله تبارك وتعالى ، هذا المن الذي منّ الله به على محمد صلى الله عليه وسلم.(/4)
من أغناك بعد الفقر ومن الهداية بعد الضلال ؟ ماذا يتطلب من الإنسان ؟ يتطلب منه واجبات وأخلاق ( فأما اليتيم فلا تقهر ) لقد كنت من قبل يتيماً فلا تظلم اليتيم ، ولقد عشت مجتمعك ورأيت كيف يعامل الأيتام فلتكن أنت نصير اليتامى والضعفاء في هذا المجتمع .
( وأما السائل فلا تنهر ) لقد كانت عطايا الناس من قبل يبتغى بها الفخر ، وكان السائل المحتاج إذا مرّ ينهر ويقهر فلا تنهر السائل . ( وأما بنعمة ربك فحدث ) من تمام عرفانك بتمام النعمة أن تتحدث بالنعمة ، إن الله جلا وعلا يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه ، ويحب من الإنسان إذا أُنعم عليه أن يتحدث بنعمة الله عليه وأن لا يجحد هذه النعمة .
( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ) من المؤسف أن بعض المفسرين يحمل قول الله جلا وعلا ( ألم نشرح لك صدرك ) على حادثة مشهورة في السيرة وهي الحادثة المعروفة بشق الصدر ويقولون إن المراد أن يذكر الله بنعمته عليه حين أرسل الملكين حين شقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه ثم أعاداه إلى مكانه . وأقول هذا مؤسف لأن تأويل كلام الله جلا وعلا لا يجوز أن يحمل إلا على المأنوس من استعمالات القرآن وأما غير المأنوس فلا يجوز ، إن مادة ( شرح ) والشرح وردت في القرآن في عدد من المواضع ، وما جاءت في موضع من هذه المواضع بمعنى الشق الذي يذهب إليه بعض المفسرين . موسى عليه السلام يقول ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) والله جلا وعلا يقول ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء ) ويقول الله ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على بينة من ربه ) وهذه الآية ( ألم نشرح لك صدرك ) ففي جميع استعمالات القرآن لمادة ( شرح ) لم تأتِ بمعنى الشق وإنما للدلالة على هذه الطمأنينة التي تكشف عن سعة الصدر واطمئنان الإنسان للطريق الذي هو فيه . فكلمة ( ألم نشرح لك صدرك ) منة من الله جلا وعلا على محمد صلى الله عليه وسلم لا بحادثة شق الصدر ولكن بهذا الاحساس العظيم والضروري الذي يجب أن يتحلى به الدعاة إلى الله تعالى . إن طريق الدعوة مشقات كلها ، تكليف ، صد ، إعراض ، عداوة ومطاردة وما أشبه ذلك . والإنسان إنسان يتحمل إلى حد محدود ثم يفقد أعصابه بعد فترة ، وقد تسود الدنيا في عينيه يضيق لذلك صدره ، وحين يبلغ الداعي إلى الله جلا وعلا هذه المرحلة يكون قد صفى حسابه نهائياً مع الدعوة ، لا يعود يصلح لشيء أبداً ، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة وقائد الدعوة كان لا يحس بشيء من هذا أبداً ، كذبه قومه وطاردوه وحاولوا قتله وأخرجوه من بلده وأخرجوا أصحابه وما تركوا أذية يمكن للإنسان أن يلحقها بأخيه الإنسان إلا ألحقوها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أضاق صدره بذلك ؟ لا ، ربما في بعض الأحيان يضيق صدره ولكنه ما يلبث أن يفيء إلى هذه الطمأنينة الغامرة التي منّ الله جلا وعلا بها عليه .(/5)
تذكرون موقفه في غزوة أحد حين رأى أصحابه مجندلين على الأرض كيف غضب وكيف تألم وكيف تأذى في الوقت نفسه وكيف أقسم على الانتقام ، ولكن الدعوة لا تساير خلجات النفوس ولا هذه الاندفاعات التي لا تعي ، الدعوة مستقبل دنيا من أولها إلى آخرها ، ولهذا حين أحس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الهاجس الخطر تداركه الوحي فوراً وأمره بالعفو أو إذا قاصص أو عاقب أن يعاقب بمثل ما عوقب به ونهاه عن المِثْلَة ، وأفاء عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحالة من الطمأنينة الغامرة والثقة بلا حدود بالمستقبل . إن هذا الشرح هو الذي عنته الآيات وهو الذي تصدقه مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله حين كان في مكة مطارداً وبعد أن صار سيد الجزيرة العربية بلا منازع ، كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بهذا الخلق الحسن . من الذي لا يضيق صدره عند الملمات ؟ من الذي لا يفقد أعصابه حين تشتد الخطوب ؟ إن محمداً عليه الصلاة والسلام طُورد في مكة وأُذن الله له بالهجرة ، حينما خرج مستخفياً مع صاحبه الصديق رضي الله عنه ، تصوروا الحالتين : كان عليه الصلاة والسلام يمشي في الطريق ويعلم أنه مطلوب وكان أبو بكر لا يقر له قرار ، تارة يمشي أمام رسول الله ، وتارة يمشي خلف رسول الله ، وتارة يمشي على يمينه وتارة على يساره ، يقول له رسول الله : ما بالك يا أبا بكر ؟ يقول : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون عن خلفك وعن يمينك وعن يسارك . ويأتي سراقة يطلبه ، وأبو بكر يرتعد من الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول سراقة : قربت منهما وسمعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . أين أبو بكر وأين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أبو بكر يرى الطلب وراءه ويعرف أن قريشاً جنّدت كل ما لديها من قوة لتقبض على الفارين الهاربين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، موصولاً بالله جلا وعلا لا يكترث بهذه الدنيا .
وتمضي الأيام وينزل المسلمون المدينة وحينما تكون غزوة الخندق يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالاً شديداً ويحس المسلمون بهذا الضيق وما من مسلم إلا وهو يعاني من ألمه ، والمسلمون يحفرون الخندق فتعترضهم صخرة ، فيشكون أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأخذ المعول ويقول بسم الله ويضرب ، في ذلك الوقت يقول : الله أكبر فتحت الشام ويضرب الثانية فيقول الله أكبر فتحت فارس ويضرب الثالثة فتتفتت الصخرة فيقول الله أكبر فتحت اليمن كأني أنظر إلى قصورها ، ويتهامس المنافقون يقولون : ماذا يعدكم محمد ؟ إن أحدنا لا يقدر على قضاء حاجته إذا أراد أن يقضي الحاجة وهذا يعدكم بقصور الشام وقصور فارس وقصور اليمن . ما هذا ؟ ولكن نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم تتحقق .
في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجال يشكونه قطع السبيل ويشكون الفقر . فقال لي : يا عدي أرأيت الحيرة ؟ قلت يا رسول الله سمعت بها وما رأيتها . قال : يوشك يا عدي بن حاتم أن تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بهذا البيت لا تخشى إلا الله ، ولتفتحن كنوز كسرى وقيصر ولتنفقنهما في سبيل الله ، وليفيضن المال حتى إن أحدكم ليخرج الكف ذهباً وفضة يريد من يقبله منه فلا يجد من يقبله منه . قال عدي : ولقد عشت حتى رأيت الظعينة تطوف بالبيت لا تخاف إلا أحداً الله ، وكنت أنا فيمن فتح كنوز كسرى وقيصر ، والله ليتحققن قول أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . هذه الثقة ربما يتصور بعض الناس أنها لون من ألوان الغرور أو لون من ألوان التعالي على الواقع أو لون من رفض الخضوع لضغوط الواقع ، لكن هذا خطأ . فقضية الإسلام حين تمسك بها أخي المسلم وترى أنك تخرج من نصر إلى نصر وتقطع الطريق أشواطاً شوطاً من بعد شوط ، تحس مع كل مرحلة جديدة أحسست بتغيير في نفسك ، يصاحب هذا التغيير زيادة بثقة الله جلا وعلا أن ينصر الله وليه وأن يعلي دينه وهذا هو المقصود بقول الله ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ) والوزر ليس الذنب وإنما هو الثقل والهم الذي يحمله الإنسان وهو يتحمل قضية أمة من أولها إلى آخرها .(/6)
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمضي إلى أمر الله دون أن يشعر بأثقال الهموم على كتفيه ( الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ) إن الله جلا وعلا أعلى قدر نبيه بلا إشكال ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أيها الأحباب أن معنى رفع الله لذكر نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يذكر الله إلا يذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وهذه رفعة ما بعدها رفعة لم يبلغها أحد ، لكني أحب أن أضع أمام أنظاركم ، هل رفع الذكر يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم هو قدر مشاع بينه عليه الصلاة والسلام وبين كل الآخذين بطريقه من هذه الأمة الكريمة ؟ إننا بعد الزمن المتطاول ما زلنا نذكر أبا بكر الصديق الأكبر ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، ونذكر الفاروق وعلي وعثمان وطلحة والزبير وسائر الصحابة رضوان الله عليهم ، ونذكر أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وابن حنبل وهكذا نذكر رجالاً عظاماً كصلاح الدين وقطز والملك العادل عبر التاريخ الطويل للمسلمين . من أين جاءهم الذكر ؟ إن الدنيا طوت الملايين من الناس ولم يعرفهم الناس . لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يذكرون فيقال رضي الله عنهم .
ونقول عن علماء المسلمين : رحمهم الله تعالى . ونذكر قادة المسلمين فنقول عنهم : جزاهم الله عنا خيراً . مما جاءهم هذا الذكر ؟ لماذا أخذ هؤلاء هذا الذكر الحميد ؟ بأخذهم لهذا الدين . إن هذا الدين في الواقع ذكر للناس وتشريف ، ولا بد للأمة إذا أرادت الشرف والكرامة بين الناس أن تأخذ بأهداب هذا الدين فكما أعلى الله جلا وعلا ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين كذلك هذه الدين كفيل بأن يعلي ذكر جميع الناس الذين يأخذون بأسبابه . أعرف أن زماننا هذا العجيب فيه أناس كثيرون يكيدون للإسلام منهم من يكيد للإسلام عن سابق تصور وتصميم ، ومنهم من يكيد عن هوى ومصلحة ، ومنهم من يكيد له عن بلاهة وقلة عقل وإعفاءً لنفسه من التفكير ، فأريد أن أقول لهؤلاء : إن هذا الإسلام كلمة الله التي رضيها لعباده وطريقه التي جعلها الخط الموصلة إليه جلا وعلا وسبيل الذكر والشرف ، ولا يوهمن أحد نفسه أنه يستطيع أحد بمعزل عن الإسلام أن يحقق لنفسه شيئاً أو أن يحقق لأمته أي شيء ، إن كل إنسان ناصب الإسلام العداء سواء بشخصه أم بحزبه أم بفصيله أم بجماعته آب والتراب ملء كفيه وفمه .
إن الإسلام وسيلة الذكر والشرف والتنويه للإنسان ، وحين كانت أمة الإسلام قائمة على أمر الله جلا وعلا في الماضي البعيد كانت تقود البشرية كلها ، ولعل أي أحد يقلب صحف التاريخ يرى ويعلم أن أمة الإسلام حملت الجنس البشري بكامله حتى أسلمتها إليها الآن في الوقت الذي نناصب الإسلام العداء مع الأسف الشديد ، إن اسمنا ورفعتنا وشرفنا كله منوط بالإسلام كما أعلى الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فلا يذكر معه إلا ويذكر معه ، كذلك أنت أيها الإنسان إذا كنت مع الإسلام فإن الله سيعلي شأنك ، أنت ترى الإنسان التقي فإذا رأيته ورأيت من سمته وسمعت إلى كلامه ذكرت الله جلا وعلا ، إن الآخذين بالإسلام معيتهم مع الله تبارك وتعالى ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ، فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ، فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) .
أما قول الله ( فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ) فقد جاءت الرواية أنه حينما نزلت هذه الآيات خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ضاحكاً وقال : أبشروا فلن يغلب عسر يسرين إن الله جلا وعلا يقول ( فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ) فحف العسر بيسرين ، وإذا وجد يسران فلن يغلبهما العسر . وهناك نكتة بلاغية وهي أن النكرة إذا عرّفت لا تتميز ولا تتعدد ، حينما نقول : العسر فنحن عرّفنا النكرة التي هي عسر ، فحينما نقول العسر فكأنما نقول هذا العسر ، شيء مشخص أمامنا معروف ، ولكنها إذا لم تعرّف لا تتميز ، بمعنى : حينما نقول إن مع العسر يسراً ، أي يسر ؟ إن الباب مفتوح ، اليسر يكون أصنافاً وأشكالاً وألواناً ، فالله جلا وعلا عرّف العسر لكي يكون عسراً واحداً ، ونكّر اليسر وجعله يسرين لكي يكون اليسر أشكالاً وصنوفاً وألواناً تعقب العسر ، ورأى الإسلام هذا أيام الشدة ، رأى الجوع والحرمان والمطاردة ثم كان فتح الله جلا وعلا . والإسلام اليوم يعيش كتلك الأيام الماضية ، يعيش الناس بضائقة ، يحسون بقلة الأرزاق والخوف وعدم الاطمئنان في أوطانهم فلا تيأسوا ما دمتم مع الله جلا وعلا فأنتم على موعد ثابت من الله لأن يفتح لكم الأبواب لا تدرون من أي مكان تفتح ، وأن ييسر لكم تيسيراً لا تعرفون لون هذا اليسر ، لأن الله جلا وعلا أبهم اليسر ونكّره كي يتسع للجميع أسباب اليسر .(/7)
( فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) خطاب جازم للنبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الأمر ( فإذا فرغت فانصب ) يعني كلما فرغت من شغل من أشغال الدين فلا تركن إلى الراحة ، انصب يعني اتعب ، اجعل نفسك في غمرة الكفاح والجهاد فإن الإنسان المسلم يستمد قيمته الإسلامية من عيشه وسط هذا الجهاد والكفاح . ( وإلى ربك فارغب ) إذا فرغت من شغل من الأشغال أو الجهاد قضيت شؤون الناس فلا تهدأ ولا تسترح انصب وأتعب نفسك في سبيل الله ولكن ما كل من يتعب نفسه في سبيل الله يقطف الثمرة المرجوة ، الذي يقطف الثمرة هو الذي يعمل لله ، هو الذي يرغب فيما عند الله جلا وعلا ، إن الرغبة فيما عند المخلوقين ممحقة للبركة ومبطلة لسعي الإنسان . فالله جلا وعلا يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يهدأ ولا يستريح وإنما يبقى في غمرة الكفاح ضد أعداء الله ومن أجل تدعيم قواعد هذا لدين وشد عرى الإسلام وأن يكون في عمله قاصداً وجه الله تعالى آيساً مما في أيدي المخلوقين .
كل ما عرضناه في السورتين وأعترف أن أموراً كثيرة كان يجب أن تعرض ويجب أن تشرح ولكن أضيف وهو أن كل حرف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فأنتم مخاطبون به وكل قضية تحققت للنبي صلى الله عليه وسلم فمن الممكن أن تتحقق لكم ، كيف أزال الله عن صدر نبيه هذا الضيق الذي يشعر به كل من يواجه الناس من بلاء وغيره يمكن أن يحدث لكم إذا تمسكتم بعرى الإيمان أن تحسوا بنفس احساس محمد صلى الله عليه وسلم ؟ كيف يشعر الإنسان أنه متخفف من كل حمل أنتم تستطيعون أن تشعروا بذلك ؟ كيف مرت الشدائد على الأمة ولم تترك إلا هذه الذكرى التي تصور معها ذكرى الانتصار عليها أنتم أيضاً يمكن أن لا يعلق في أذهانكم من سيئات الحاضر إلا ذكرى كذكرى النائم يرى حلماً مزعجاً ؟ كل شيء جاء الخطاب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم جاء الخطاب إليكم أيضاً .
أسأل الله الكريم أن ينفعنا وينفع المسلمين بهذا الخطاب الرائع وهذه البشارات المتلاحقة التي جاءت إلى رسول الله . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين(/8)
تفسير سورتي العاديات الكوثر )
الجمعة 10 محرم 1397 / 31 كانون الأول 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
نواجه اليوم السورة الرابعة عشرة وهي سورة العاديات ، ولقد تهديت حيال قصار السور إلى أسلوب في العرض وجيز ، لا أدري أيقع منكم موقع الرضى أم أنتم تنكرون ذلك ؟ عموماً أنا راغب أن أقف فحسب عند المعالم البارزة في سياق الدعوة مركزاً الأضواء بصورة خاصة على القوانين الأساسية التي تحرك الدعوة ، وغاية من هذا القبيل لا يعنيها في شيء أن تطيل عند التفصيلات والجزئيات ، وإن كانت هذه التفاصيل تحمل إغراءات لا تقاوم . فلنجرب وفي ذهننا قاعدتنا الأولى في النظر إلى كتاب الله وفي أحداث السيرة وهو أننا ننظر إلى الحركة في إطارها كله وننظر إلى القرآن في سياقه كله ، ونجهد أن نربط آيات الكتاب بعضها ببعض وأن لا نعدو عن المعاني الأساسية التي تفيدها هذه الارتباطات ، فنعمل فيها يد التمزيق والبتر والتشتيت ثقة منا أن ذلك يجني على كليات الدعوة وعلى كليات القرآن ، ونقول الآن مستعينين بالله جل وعلا .
عندنا الآن السورة الرابعة عشرة التي هي العاديات ( والعاديات ضبحاً ، فالموريات قدحاً ، فالمغيرات صبحاً ، فأثرن به نقعاً ، فوسطن به جمعاً ، إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير ) وبعد هذه السورة نزلت في جملة من سور القرآن القصيرة ، نزلت الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر ، فصلِ لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر ) ونزلت سورة الماعون ( أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) نزلت سورة الكافرون ، المعوذتان الفلق والناس ، الإخلاص ( قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) إلى آخر هذا السياق من قصار السور . لن ندخل في التفصيلات ، ولكن نحب أن نلفت أنظار إخواننا إلى جملة من الظواهر تبدّت في هذه الدراسة التي مضت ، وهي مع كل خطوة من الخطوات التي نخطوها تزداد وضوحاً .
إن هذا القدر من السور ( أي قصار السور ) استغرق من عمر الدعوة ما لا يقل عن ثلاث سنوات ، والدعوة خلال هذه المدة عاشت بين عواصف شديدة وزعازع تقتلع الجبال ، عاشت بين قوم يكرهونها ويبغضونها ويكيدون لها ولا يتوانون عن استخدام أي نوع من الأسلحة لكي يقضوا على الدعوة وعلى أصحابها ، ولكن العجيب الذي يلفت النظر أننا حين نضع لوحة ما مضى أمام أنظارنا ونحاول أن نضيف إليها ما تشيعه الآيات والسور فإننا نلاحظ أن أسلوب العمل وطريقة العمل ، طريقة تناول الأمور وسياسة تهذيب النفوس ، ومعاملة الخصوم ، كل ذلك يقع من الناس موقع الغرابة لأن الناس لا عهد لهم بأسلوب من هذا القبيل . لقد كان منظوراً لو أن الدعوة كانت على غير هذا الشكل ، أن يأخذ الصراع ألواناً أخرى وأن يجري مع الناس حيث جروا ، ولكنا وجدنا الأمر على خلاف ذلك ، إنه وبعد أكثر من عشر سور من القرآن الكريم وجدنا من حيث النتيجة نتلمس طريقنا نحو التعرف على الصورة الأولية لهذا التكوين الجديد ، وجدنا هذا الإسلام يتجه نحو تكوين المجتمع الخاص به القائم على عقائده وشعائره وأخلاقياته الخاصة ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر بشدة أن هذا المجتمع لم يكن يكترث كثيراً بهذه الخصومة الحاقدة التي تموج من حوله بالشر ، لا أقول أنه أغفلها ، ولا غفل عنها ، ولكنه لم يعطها بالاً . حسبك أن تنظر إلى ما مر ، الشيء الأساسي الذي اهتمت له الدعوة وعني به القرآن وأكّد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله ومواقفه هو أن يؤسس نقطة الافتراق بين ما ينبغي عليه في الجاهلية وبين ما ينبغي عليه أن يكون في الإسلام ، فكانت هذه النقطة هي الإيمان بالله تبارك وتعالى ورفض الشرك والوثنية وسائر المذاهب التي لا تستقيم على أساس الوحي .
والشيء الثاني الذي ركّزت عليه الدعوة وأكّدته آيات الكتاب وركّز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً هو ضرورة تغيير ما في النفس ، وهذه نقطة ذات أهمية بل لعلها المفرق الذي يميز الإسلام عن كل مناهج الأرض ، فهو يرى أن النفوس الخربة لا تصلح لتأسيس المجتمعات السليمة ، وأن الناس الذين يتسمون بهشاشة الطبع وسذاجة التكوين لن يكونوا رواداً في أعظم ميدان خاضته البشرية حتى الآن ، فمن هنا كان تأكيدنا منذ البداية على أن الإسلام أعطى المعركة داخل النفس أولوية مطلقة لا تعلو عليها معركة أخرى ولا يتقدمها اعتبار آخر ، فالبناء الجديد يحتاج لكي يدعم ويشيد إلى عناصر من لون خاص . لقد تغير جيل الصحابة تغيراً كاملاً عما كانوا عليه في الجاهلية .(/1)
إن المجتمع الجاهلي يغلي بالحقد والضغينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعذبون الصحابة أشد التعذيب ، ولكن القرآن لم يكترث بهذا ، اقرأ سورة العاديات ، ماذا ترى ؟ ( إن الإنسان لربه لكنود ) أي جاحد لنعم الله ( وإنه على ذلك لشهيد ) مجمل سلوكه يشهد بانصرافه وبغفلته عن الله تعالى ، وبالتالي عدم الوفاء بما طلب الله منه ( وإنه لحب الخير لشديد ) إن عبقرية اللغة كلها تتجمع في كلمة الخير ، يقولون هي المال الكثير ويقولون كذا وكذا ، ولكن لو رجعنا إلى الربط بين سورة العصر وما حددته من قسم الناس إلى قسمين ، قسم يرتضي بالله تعالى وهو من الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق والصبر ، وقسم آخر يضم كل فئات الناس الضالة عن منهج الله تعالى ، فالله يقسم عليهم أنهم لفي خسر ، وأن طرائقهم لا تنتج شيئاً للبشرية . ولو رجعنا إلى هذا وربطناه بالآية ( وإنه لحب الخير لشديد ) نجد أن الخير يتسع ليشمل كل ما يختاره الإنسان لنفسه ، ولكن جاء هنا في معرض الذم والقدح لسلوك الإنسان ، فإذا كان المراد بالخير هو الخير الذي اختاره الله فالكلام فيه مناقضة يتعالى عنه كلام الله جلّ وعلا ، ولكنك حين تريد أن تحقق الانسجام والتناسق والتآخي بين كلمات الله وآيات الله تجد أن الخير هنا هو ما يختاره الإنسان لنفسه مفصولاً عن حقائق الوحي وهداية السماء .
( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) صورة رهيبة ، إن الله يأمر الملك بالنفخ في الصور فتنشق الأجداث عن أصحابها وتقف ليوم الحساب ، لكن القرآن هنا يصرف النظر عن هذا التعبير القريب ليتناول القضية بتعبير يترك ظلاله وانطباعاته الرهيبة في نفس القارئ والسامع إذا بُعث ما في القبور ، كيف تبعثر الشيء ؟ تبعثره دون نظام ودون تنسيق ، تبعثره وأنت غير راضٍ أن تضع هذه قبل هذه وبعد هذه ، وإنما تبعثر الأمر هكذا كيفما اتفق ، يوم القيامة يوصف بهذه البعثرة التي تعبر عنها الحروف التي جاءت لتكوّن كلمة ( بعثرة ) بكل ما فيها من شدة وما أشبه ذلك ، فالله جلّ وعلا يريد أن يوقظ ما في نفس الإنسان . تصور هذا المصير الذي ينتهي إليه الناس والذي يعبر الله فيه عن علمه لا بالتعبير المألوف من أن الله يعلم ، لا ، وإنما يعبر عنه بتحصيل ما في الصدور ، كيف تستل الشيء رغماً عن صاحبه فتحصله وتحوزه ، فالله جلّ وعلا سيستخرج منك رغم إرادتك كل ما أضمرت وعملت في هذه الحياة .
ماذا تفيد هذه السورة في مرحلة الدعوة ؟ إننا في مرحلة الدعوة أمام قطاعين منها ، جاهلية هنا وإسلام هنا ، وما من شك في أن أية نظرة إلى وقائع السيرة تكشف عن أرضية الجاهلية التي تتفجر من تحت أقدام المسلمين حمماً وبراكين ونار تلظى ، فأين الكلام عن هذا ؟ أين الكلام عن تعذيب المسلمين والتنكيل بهم ؟ لماذا غاب الكلام عن هذا في كتاب الله ؟ الكلام كان ينصب على مجتمع المسلمين فقط دون أي ذكر لما كانوا يعانونه من عذاب . هذا المجتمع الذي بدأ يتكوّن . دعك من هذا ، وانصرف إلى السورة الأخرى وهي الكوثر .
( أنا أعطيناك الكوثر ، فصلّ لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر ) أتى الكلام هنا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطاه الكوثر ، وسواء أصحّت الأحاديث التي وردت في أن الكوثر نهر في الجنة هو لمحمد صلى الله عليه وسلم أم لم تصح ، فيجب أن نقف مع دلالة اللغة في وضعها الأصلي لنتعرّف على معنى الكوثر ، ويجب أن نعرض هذا المعنى على المواضع التي حينما تنزّلت السورة ، فالكوثر كلمة مأخوذة من المادة ( كثر ) وهي تدل على الكثرة والنماء ، والكوثر صيغة مبالغة ، تقول أعطيت فلاناً شيئاً كثيراً أي هو شيء زائد ، ولكنك حين تقول : أعطيته الكوثر فأنت تريد بذلك أنك أعطيته ما هو أكثر من الكثير ، سلوا أنفسكم ، ما خصائص الواقع الذي كان حين تنزّل هذا الكلام ؟ إن المشركين ما تورّعوا عن رفع أي سلاح يتوهمونه أنه ينفعهم في معركتهم مع هذا الدين ، نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولد يتيماً ، ولم تمهله أحداث الأيام حتى ماتت أمه ، وعاش يتقلب في أحضان الأوصياء ، الجد والعم كما تعلمون ، ثم تزوج ، وأنجب الأولاد والبنات ، ولكن شاءت إرادة الله أن يأخذ منه الذكور ، وكما تعلمون أن مجتمع الجاهلية يرى الذكر غنماً وعزاً يحمي أهله ، ويكون الرجل الذي لا ذكور عنده مستضعفاً ذليلاً ، هؤلاء المشركون لو كان عندهم بقية أحاسيس لراعوا شعور هذا الجانب من محمد صلى الله عليه وسلم . كان المشركون يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيهمز بعضهم إلى بعض ويقولون : دعوه فهو قليل وإن أولاده الذكور يموتون وإن الإناث لا يشكلن عصبة ، والعرب قالت قديماً :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فليكن لمحمد مائة ابنة وليزوجهن لمائة رجل وليكن عند بناته مائة رجل فما فائدة ذلك ؟ إنهم لن يكونوا مع محمد بل يكونون مع آبائهم .(/2)
وهذا يعني أن ذكره سينقطع بعد موته لأنه لا عقب له من الذكور فهو أبتر . هذا السلاح الوسخ القذر الدنيء كان يرفع في وجه محمد صلى الله عليه وسلم ، وخيراً ما فعل المشركون ، إن المشركين حين قالوا هذا فتحوا النافذة واسعة لكي تأصل قضية هامة من قضايا الإسلام ، وقضية هامة من قضايا الإنسانية ، ما الكثرة وما القلة ؟ من هو الأبتر ومن هو الباقي ؟ إن الدنيا شهدت الملايين من الناس ، وتمتع منهم بالنعيم والحشم والسلطان والجاه وكان لهم بنون كثر يحوطونهم ويذودون من حولهم ، وطوتهم أحداث الزمان ومضوا كأنما لم تطأ أقدامهم ظهر هذه الأرض ، وأصبحوا منسيين في التاريخ . فالكثرة بهذا المعنى الفج لا تعني أي شيء . ومن هو الأبتر ؟ هل البقاء والخلود هو أن يكون لك أولاد وأحفاد وهكذا .. ؟ إن كثيراً من الناس كان لهم مثل هذا ، ولكن لم يغنِ عنهم ذلك شيئاً ولم يترك لهم في العالمين ذكراً . فأراد الله جل وعلا أن يقرّ الأمر في نصابه ، إن الكثرة لا ترتبط بالذرية ، وفي المستقبل سوف يقرأ المسلمون القرآن وهو يتنزل عليهم أن بني إسرائيل يوم أن واجهتهم الدعوة الإسلامية في المدينة كانوا يرفعون في وجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا السلسلة النسبية ويقولون نحن أولاد إبراهيم أبي الأنبياء صلوات الله عليه وأبناء إسحاق ويعقوب والأسباط ، فردّ الله عليهم في القرآن ( تلك أمة قد خلَت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون ) وكان أحد أنبياء بني إسرائيل ـ حينما تبجحوا على الرسالة بأنهم أولاد إبراهيم ـ كان يقول لهم : إن الله قادر على أن يخلق من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم . فالبنوة قد تكون عاراً وشناراً وقد تكون بلاءً ، والعبرة لا تكون هنا والكثرة ليست هنا ، الكثرة أن يكون من حولك أُناس يحبونك ويفتدونك بالأرواح ، لا لشخصك وإنما للمعنى الذي يحمله شخصك ، وانقطاع الذكر شيء لا يتصل بالذرية لا من قريب ولا من بعيد ، والله جل وعلا يقص على المسلمين من نبأ نوح عليه السلام حينما أمر الله أن تتفجر عيوناً والسماء أن تتنزل ماءً مدراراً ، نادى نوح ربه ( قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أرحم الراحمين ، قال إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) فمسألة البنوة والأبوة لا قيمة لها في معايير الحق وموازين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، ودوام الذكر وانقطاع الذكر شيء لا يتصل بهذه الشخوص الفانية . وإنما يتصل بالحق الذي يحمله الإنسان . محمد كما تقولون يا معاشر المشركين رجل ليس له ذكور من الأولاد ، وبالفعل فهو سيموت يوم يموت وليس له ولد ، حتى ابنه إبراهيم الذي رزقه الله على الكبر وكان عليه الصلاة والسلام يؤمل أن يكون له قرة عين له وسكناً لنفسه ، حتى هذا الولد الأخير الذي جاءه من مارية مات قبل أن يمشي على الأرض . لو أن هذا الذي تقولونه صحيح لانقطع ذكر محمد ، ولكنكم وأنتم تتحدثون بهذا الكلام تسمعون ذكر محمد يخترق القبائل ويجوب الآفاق ، ومضى الزمان كله ونحن نسمع الآن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في أرجاء الدنيا خمس مرات في اليوم والليلة ، والناس بالملايين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الخصوم الذين قالوا هذا القول مضوا بالرغم ما كان لهم من أبناء وأحفاد لا يذكرهم الناس ، وإذا حفظت صحف التاريخ أسماءهم فإنما يُذكرون باللعنة . أي الفريقين أكثر خيراً ؟ أنتم يا معاشر المشركين الذين تتكاثرون بأولادكم وأموالكم أم محمد صلى الله عليه وسلم الذي له الأتباع الذين لم يلدهم ولادة جسدية وإنما بالروح والدعوة والإسلام ؟ من هو الأدوم ذكراً والأبقى صوتاً ؟ أأنتم يا أيها الناس الذين تنبذون محمداً بهذا القول والذين سوف تطويكم يد الزمان كما تطوى أية قذارة على الوجود ؟ أم محمد صلى الله عليه وسلم الذي ينطوي الزمان كله ولا ينطوي ذكره من سمع الزمان والذي يقف الخلائق يوم القيامة وقد أخذهم الكرب والهول فلا يجدون ملجأ من الله إلى إليه عليه الصلاة والسلام ليشفع لهم عند الله تعالى ؟ فأين إذاً مقاييس الجاهلية ؟ فالظاهرة هنا : خذ مثلاً سورة الفلق ، سورة الناس ، إنها تعويذات تربط هذا القلب الطاهر ، قلب محمد صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله تعالى بأن يلتجئ إلى الله ويستعيذ بالله من شر الوسواس الخناس الذي سلط على الإنسان ومن شر الحاسدين ، خذ مثلاً سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ) ماذا تجد ؟ وصف لله تعالى بما ينبغي أن يوصف به من جليل الصفات ، خذ إليك بقية السورة ثم اسأل نفسك : إلى أي قطاع ينتمي هذا الكلام ؟ أين كان القرآن عن المعركة الدائرة ؟ ألا يقيم لها وزناً ؟ ألا يحسب حساب أخطارها ؟ إنها مشكلة كبرى صادفت الدارسين للإسلام . وهي سر الفرق بين الإسلام وبين غيره من الدعوات . إن الإسلام لا يبني لفترة(/3)
من الزمان محدودة ولا لبقعة من المكان محصورة ، وإنما هو يبني للأبد ولكل الناس .
حين كان الصحابة يرون ما ينصب عليهم من البلاء ونحن الآن نتصوره تصوراً ، وفرق هائل بين الذي يتصور الحادثة تقص عليه ويتأثر لها ، ولكن تأثر الذين تنصب أسواط العذاب على ظهورهم وجنوبهم وجلودهم أشد وأعظم هولاً . هؤلاء الأصحاب حينما كانوا يريدون أن ينساقوا مع النازع البشري الذي يسوقهم إلى رد العدوان بالعدوان كانت يد الوحي تلوي زمام هؤلاء الناس لياً عنيفاً ، وكانت العين الباصرة الكريمة عين محمد صلى الله عليه وسلم تلاحظ هؤلاء الأصحاب وترى هذا الذي يحل بهم ولكن ، أيملك محمد صلى الله عليه وسلم أي خيار في الموضوع ؟ إن محمد صلى الله عليه وسلم أداة في يد القاضي وإن المسلمين أداة في يد القاضي ، وإن الله تعالى اختارهم لكي يضعهم في طريق هو الذي خطّه ورسم معالمه ، فهل يستطيع المسلمون أن يخترقوا هذه المعالم ؟ لا ، للإسلام منهج ، ما ينبغي للمسلمين أن يفكروا في تجاوزه ، وما ينبغي لنا نحن الآن ونحن ندرس القرآن أن تأخذنا رغبات النفس لكي ننساق وراء تصورات وأوهام هي ليست انطباعاً يتأتى ويتكون من درس صادق وأمين لوقائع التنزيل ووقائع السيرة المطهرة ، وإنما هو صدى مشوش لواقع يعيشه الناس ويتأثرون به وتتكون أفكارهم وآراؤهم وتتحدد مسالكهم وخطواتهم على ضوئه . إنه لا ينبغي لنا ونحن وندرس هذا أن ننساق إلا وراء الانطباع البحت . سل نفسك : كم من السنين مرت في هذا المنهج القاسي في هذا الطريق الوعر خمس عشرة سنة والمسلمون يسمعون كلام الله وهو يدعوهم إلى الصبر ، ويدعوهم إلى أن يلتفتوا إلى دخائل نفوسهم ، وأن يقتلعوا منها رواسب الجاهلية ، أن يغيروا قيماً ويغرسوا قيماً أخرى ، وأن يرفعوا عقائد ويضعوا مكانها عقائد أخرى ، وهم بعد يتكوّنون . لو أننا أمهلناهم بعض الشيء وتركنا لهم أن يتصرفوا مع النزوة العارضة لضاع منا طرف الخيط . إن الإسلام لا يعمل هكذا ، إن الإسلام يعمل من وراء تصورات الناس ، ومن وراء إرادات الناس ، ومن وراء رغبات الناس ، وبتعبير أدق وأوضح إن الإسلام وهو يخط طريقه بحثاً في الصخور يعمل على الضد من الطبيعة البشرية ، لا ينساق معها ولكن يعدلها ، لا يجاملها ولكن يأخذ بزمامها ، فيقيمها على الطريق طائعة أو راغمة ، إن البشر يتصرفون على خلاف هذا ، من هنا نجد هذه الظاهرة التي قد تفسر كل شيء ، نجد أن إسلام المسلمين أنفسهم لمنهج الله وخلافاً لما يتصور قصار النظر قد وضع زمام المبادرة بين أيديهم لم تعد المسألة مسألة مقابلة مبنية على ظنون عما يريد أن يفعله خصمي لكي أقابله بمثل ، لم يعد المسألة من هذا القبيل لأنها ليست حساباً بشرياً وإنما أصبحت المسألة قدرة الله تتصدى لها قدرة الناس الصغار ، وقدرة الله تعمل من حيث لا يحتسب الناس ، من وراء ظنون الناس .(/4)
إن منهج الإنسان يعلو ويهبط تبعاً لمعطيات الظرف الذي يمر به الإنسان ، أضرب لكم مثلاً : إن هذا الإنسان تعتريه حالات تمر عليه شهور ، تراه الآن عنيفاً قوياً مستعلياً ، وتراه في غير هذه الحالة في غاية الذل والخزي والهوان ، سلوكه في الحياة تغير ، موقفه من الأحداث تغير . خذ مثلاً : صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف ( واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر فقال له صاحبه وهو يحاوره إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) إن صاحب الجنتين وهو في عنفوانه أثناء ترادف الأرزاق عليه كان له موقف ، موقف الاستعلاء والاستغناء لم يكفه أن يرد كل صنع إلى نفسه ولكنه تألى على الله ( قال لئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ) ولكن ربك حين أراد أن يضرب للمسلمين هذا المثل أبان لهم عاقبة هذا الرجل ، حينما طاف عليها طائف من ربك وحينما جللها حسبان من السماء فإذا هي كأن لم تغنَ بالأمس ، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها . تصوّر ، موقف في أعلى الاستعلاء وموقف في أدنى دركات الهوان ، إن هذا الإنسان تصرفه في تلك الحالة وتصرفه في هذه الحالة شيء آخر . خذ مثلاً آخر وهو فرعون ، حيث يخاطب من حوله ( يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ) منتهى العنفوان والكبرياء والغطرسة ، وكان الناس يسجدون له بين يديه ، وحينما يأتيه من الله رسول وهو موسى صلوات الله عليه يتساءل متعجباً : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) بل ويتطاول أكثر فيقول ( يا هامان ابنِ لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً ) وحينما يدركه الغرق يقول ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) البشر في تقلبات الأطوار لا يستطيعون السيطرة على أهوائهم وعلى رغباتهم . إن ترك الإنسان لهذه الحالات المتقلبة يصرف الأمور على ضوئها سوف يؤدي إلى كارثة .
القرآن حين كان يقود المسلمين بالوحي ويلوي زمامهم نحو الطريق كان يؤكد هذه القاعدة ، إن البشر لكي ينجحوا لا بد أن تقودهم آيات الله جل وعلا ، ولا بد أن يضيء مشاعل الطريق أمامهم نبي مرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولئن توهم الناس أن الله بقدرته على كل شيء كان يمكن مع التأدب اللازم مع الله أن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بقطع النظر عن هذا البلاء كله بلا حاجة إلى أن يمر بهذه التجارب العنيفة المدمرة التي تسحق النفوس والتي عبّر الله عنها بقوله ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) كان ممكناً أن يتجاوز الله جل وعلا عن كل هذا وأن يعفي رسوله الكريم وهو أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلم من أن يتعرض لكل هذا البلاء والهوان .(/5)
يا أيها الإنسان إنك ترى الفلك يدور ، وترى النبات ينمو ، وكم من الناس عاشق في هدأة الليل يناجي طيف الحبيب يتمنى لو طال الليل ، وكم من مكروب في زحمة النهار يتمنى ظلمة الليل ليتوارى بها من هذا العذاب الأليم الذي فيه ، ودورة الفلك لا تكترث بهذا أو ذاك ، إن الزمان أيام ، أربع وعشرون ساعة ، لو سخرت رغباتك جميعاً ما نقصت دقيقة ، وإنك لتضع البذرة في التراب وأنت تزرع ، كم يتمنى الزارع لو أن زرعه نبت وأثمر وأينع في يوم ، ولكن أماني الناس ورغباتهم ما شأنها بقوانين الوجود ؟ لا شيء على الإطلاق ، لا بد للزمن أن يأخذ مداه ، لا بد للفلك من أن يتم دورته ، لا بد ولا بد ولا بد ، والناس الذين تأخذهم رعونة الطباع والذين تتفلت زمام الأمور من بين أيديهم ، لن يصلحوا أطباء لهذا الوجود ، إنه لا بد من المعاناة ومن الصبر ، وإنه بعد ذلك لا بد من الحق والحقيقة ، إنك قد تضع البذرة في التراب تكون صالحة في الأصل ولكنها تحمل بيوض السوس الذي سيدمرها ، فنجدها تنبت ، ولكنك تنظر إلى الساق فتجدها منخورة ، تنظر إلى الأوراق فتراها مثقبة ، تنظر إلى الثمرة فتجد لا شيء ، فليس يكفي فقط أن يتم الزمن دورته ، وليس يكفي فقط أن تنتظر أن تأخذ الثمرة أطوارها ، وإنما ينبغي قبل كل شيء وبعد كل شيء أن تنتقي البذرة التي تضعها في الأرض . إن هذا العود الذي تأتي به لتغرسه كي يكون شجرة ما لم يمر على خبير في الزراعة فيتفحص أمره ويراه سليماً من الآفات فمن العبث أن تضعه في التراب . لأنه قد يكون مصاباً ويكون شجرة مرة المذاق غير كاملة النمو ، كذلك المبادئ والمناهج ، ومن هنا وقوف الإسلام طويلاً وطويلاً عند الخطوات الأولى ، لا ينساق وراء نوازع النفوس وقد كان يمكن ذلك ، ولا يساوق هذه الرغبات في نفوس الأصحاب وقد كان يمكن ذلك ، ولكان يمكن أن يخرق لهم نواميس الكون وكان ممكناً ذلك ، وإنما يمضي كل شيء على طريقه المرسوم والمحسوم ، ليس من أجل المسلمين وليس من أجل خاطر المسلمين أي خرق لنواميس الكون ، لا بد أن ينتظر المسلمون . وهذا يلفت أنظارهم وهم يواجهون مستقبلهم إلى أن يركزوا جهودهم حول هذا الأمر ، ولكن الذي يُخاف بالفعل أن تُخرج الرعونة بعض المسلمين عن سواء الطريق ، وأن تلفتهم عن رؤية القواعد الأساسية والقوانين في الحركة والبناء .
والكلام عن هذا الموضوع الخطير يطول ولكن نكتفي بهذا .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير قوله تعالى وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين "
عبد الله بن محمد زقيل
السؤال:
قرأت في تفسير عماد الدين أبي الفداء الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير عليه رحمات الله عند تفسير قوله - تعالى -(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في سورة الأنبياء الآية 107 قوله: (...فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. الطبري 18/552)
فما تعليقك على ذلك؟
الجواب:
ما نقلتَه من كلام ابن كثير فالجواب عليه ما يلي:
أولاً: بعد الرجوع إلى سند الرواية عن ابن عباس في " تفسير ابن جرير " فهي كما يلي:
1 - حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن شَاهِين، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاق بْن يُوسُف الْأَزْرَق، عَنْ الْمَسْعُودِيّ، عَنْ رَجُل يُقَال لَهُ سَعِيد، عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، عَنْ اِبْن عَبَّاس، فِي قَوْل اللَّه فِي كِتَابه: " وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ " قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر كَتَبَ لَهُ الرَّحْمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَرَسُوله عُوفِيَ مِمَّا أَصَابَ الْأُمَم مِنْ الْخَسْف وَالْقَذْف.
2 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم، قَالَ: ثنا الْحُسَيْن، قَالَ: ثنا عِيسَى بْن يُونُس، عَنْ الْمَسْعُودِيّ، عَنْ أَبِي سَعِيد، عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر به.
3 - وقال ابن كثير في " تفسيره ": وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ حَدِيث الْمَسْعُودِيّ عَنْ أَبِي سَعْد وَهُوَ سَعِيد بْن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ.
فكما ترى أن المسعودي - وهو متكلم فيه من جهة حفظه فقد اختلط - مرة يقول: عَنْ رَجُل يُقَال لَهُ سَعِيد. ومرة: عَنْ أَبِي سَعِيد.
ثم بين ابن كثير كما في رواية ابن أبي حاتم من هو هذا الرجل بقوله: عَنْ أَبِي سَعْد وَهُوَ سَعِيد بْن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال.
وسَعِيد بْن الْمَرْزُبَان الْبَقَّال ضعفه العقيلي، وابن الجوزي، والدارقطني، والذهبي، وابن حجر، ولا عبرة بمن وثقه.
فالسند إلى ابن عباس معلول في هذه الروايةِ.
وقال ابن كثير أيضا: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ عَنْ عَبْدَان بْن أَحْمَد عَنْ عِيسَى بْن يُونُس الرَّمْلِيّ عَنْ أَيُّوب بْن سُوَيْد عَنْ الْمَسْعُودِيّ عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ" قَالَ مَنْ تَبِعَهُ كَانَ لَهُ رَحْمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَنْ لَمْ يَتْبَعهُ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُبْتَلَى بِهِ سَائِر الْأُمَم مِنْ الْخَسْف وَالْمَسْخ وَالْقَذْف.
قال الهيثمي في " المجمع " (7/170): رواه الطبراني وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف جداً، وقد وثقه ابن حبان بشروط فيمن يروي عنه وقال: إنه كثير الخطأ. والمسعودي قد اختلط. ا. هـ.
الخلاصة: أن الأثر لا يثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
ثانيا: وأما ما قاله أهل العلم في تفسير هذه الآية: " وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ " [الأنبياء: 107]، فقد بينوا أن الآيات الأخرى بينت المقصود من الرحمة بالنسبة للكافر، وكذلك سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها:
قال - تعالى -في شأن نوح: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ " [الأعراف: 64].
وقال - تعالى -في شأن هو: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 72]. والآيات كثيرة.
وأما من السنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. رواه مسلم.
وهذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر.
قال القاضي عياض في " الشفا " (1/91): " للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب ". ا. هـ.
وقال أبو نعيم في " دلائل النبوة ": فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته - عليه السلام - فيهم، وذلك قوله - تعالى -: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [الأنفال: 33]، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به. ا. هـ.
والله أعلم.
http://saaid.net المصدر:(/1)
تفسير قوله تعالى لا يمسه إِلا المطهرون )
عبد الله زقيل
لقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على قولين:
1 - أن المقصود الكتاب الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
2 - أن المقصود القرآن لا يمسه إلا الطاهر أما المحدث حدثا أكبر أو أصغر على خلاف بين أهل العلم فإنه لا يمسه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح العمدة (1/384) القول الأول، فقال:
والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المطهرون لوجوه:
أحدهما: إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا: لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله: " كَلَّا إِنَّهَا. تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 11 - 16].
وثانيها: أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وثالثها: أنه قال: " فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " [الواقعة: 78]، والمكنون: المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ.
ورابعها: أن قوله: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر، لم يصح الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية.
وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله.
وسادسها: أنه لو قال: " الْمُطَهَّرُونَ " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهرون، كما قال - تعالى -: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة: 108]، وقال - تعالى -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222].
وسابعها: أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه.
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/417):
قلت: مثاله قوله - تعالى -: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79] قال - يقصد الإمام ابن القيم شيخَ الإسلام -: والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة:
- منها: أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة.
- ومنها: أنه قال: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال - تعالى -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222]. فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
- ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم، والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى.
- ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر - تعالى -: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه كما قال - تعالى -في آية الشعراء: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [عراء: 210 - 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.
- ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 12 - 16]، قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير: " لَا يَمَسُّهُ إالْمُطَهَّرُونَ " أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس:
- ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف.
- ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك. ا. هـ.
والله أعلم
http://saaid.net المصدر:(/1)
تفسير قوله تعالى ( قل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم )
رقم الفتوى
10907
تاريخ الفتوى
2/12/1425 هـ -- 2005-01-13
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى قل لاادري مايفعل بي ....الخ
وكلنا نعلم ان الرسول صلى الله عليه وسلم قدضمن دخول الجنه فكيف نوفق بين ذلك؟ والله يوفقكم
الإجابة
الحمد لله وبعد :
الجمع بين قوله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم ( قل ماكنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) وبين كونه صلى الله عليه وسلم قد ضمن دخول الجنة أن يقال أن الآية والله أعلم عامة في حوادث الدنيا وليس المراد منها عدم معرفته صلى الله عليه وسلم بما يفعل به في الآخرة فإنه قد أوحي إليه وأخبر أمته ببعض ما يحدث له يوم القيامة من المقام المحمود وأنه أول من يستفتح باب الجنة وأول من يدخلها وغير ذلك من الأخبار التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم
وإنما المراد منه نفي معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب المحجوب في الدنيا وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يفعل الله به من الأقضية والأحكام الكونية القدرية من الخير والشر والنعم والمصائب لأنه صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى وهذا مثل قوله تعالى ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير
وما مسني السوء ......) الآية(/1)
تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا "
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ ... 01/10/1425هـ
السؤال
يقول الله تعالى– في آخر سورة فاطر: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
أورد ابن كثير– رحمه الله– في تفسيره، عن أبي وائل، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام. قال: من لقيت؟ قال: لقيت كعبًا. قال: ما حدَّثك؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك. قال: أصدّقتَه أو كذبتَه؟ قال: ما صدقتُه ولا كذبتُه. قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ). وهذا إسناد صحيح إلى كعب وابن مسعود، رضي الله عنهما.
نأمل تفسير الآية، وشرح المفردات التالية: أن تزولا، الزوال، الحركة، الدوران، التسخير في قوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ)[الأعراف:54]. مع التمثيل لكل منهما، وهل هناك فرق في الدلالة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: (السماوات والأرض)؟ وهل ينطبق مدلول الآية أو مفهومها على الشمس والقمر والنجوم والأرض ؟ وما هي أسماء الثوابت من النجوم؟ وهل تدخل في معنى التسخير؟ وخلاصة القول: ألا يعتبر القول بدوران الأرض مخالفًا للآية أم لا؟
الجواب
الجواب عن تفسير آية فاطر: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[فاطر:41]. التفسير الموجز لمعنى الآية هو أن الله سبحانه خالقَ السماوات والأرض هو الممسكُ لها أن تتغير عن موضعها الذي قدرها الله فيه، ولو فرض عقلاً زوالها عن مكانها، فلا يمكن لأحد غيره أن يمسكها ويعيدها في مكانها كما كانت، ولن يكون هذا التغيير إلا له- سبحانه- يوم القيامة، حين يختل نظام هذا الكون المترابط، فتتحطم الكواكب، وتتناثر النجوم، وتُسعَّر البحار بالنار، وتبعثر القبور ... إلخ .
معاني المفردات:
الزوال: هو التغيُّر والتصرُّف والتفرُّق والميل عن المكان، وفي أصل وضع هذه الكلمة (الزوال ) لا تقع أو تستعمل إلا في شيء من حقه الثبات. نقول: زال الجبل أو أزيل بعد أن كان ثابتًا. ومنه قوله تعالى: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)[إبراهيم:46]. وتقول: زالت الغشاوة عن البصر بعد أن كانت
موجودة. ويستعمل الزوال حقيقة في الواقع الفعلي وفي الاعتقاد، مثال الثاني: قولنا: زالت الشمس. ومعلوم أن الشمس متحركة دائمًا ولا ثبات لها، وإنما جاز استعمال هذا اللفظ؛ لأن المعتقد أن الشمس وقت الظهيرة ثابتة في كبد السماء كما يبدو للعين المجردة، قال العرب ذلك؛ لأنهم كانوا يقيسون حركة الشمس بحركة ظل أي شاخص، وفي لحظة من قائم الظهيرة لا يوجد للشاخص ظل فاعتقدوا أن الشمس زالت.
الحركة: الحركة ضد السكون، ولا تكون إلا للجسم المحسوس، ومنه قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)[القيامة:16].
الدوران: مصدر للفعل الثلاثي دار يدور دورانًا، ومنه الدائرة، وهي الخط المحيط بالشيء، وقيل للدار: دارٌ. باعتبار الحائط الذي يحيط بها، وعليه فالسماوات تقع داخل الدائرة(الفلك) الخاص بها، لا تخرج عنه بحال إلا حين اختلال هذا الكون بانقضاض أفلاكه وكواكبه ونجومه، ولا يكون ذلك إلا بتقدير الله يوم القيامة.
التسخير: مصدر للفعل سخَّر الرباعي، والتسخير سوق الشيء ودفعه إلى هدف معين عن طريق القهر والغلبة، ومنه تسخير السماوات والأرض وما فيها للعباد. قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)[الجاثية:13]. وقوله: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ)[الأعراف: 54]. أي: سير النجوم (دورانها) في أفلاكها زمانًا ومكانًا هو بتسخير الله وتقديره.(/1)
أما الأثر عن كعب الأحبار الذي ذكره ابن كثير عند تفسير الآية، فهو من الأحاديث الإسرائيلية المردودة والتي لا تقبل؛ لمخالفتها لشرعنا، فإن وضع السماوات والأرض– كما في قول كعب، رضي الله عنه- على كتف ملك من الملائكة، مخالف للواقع والحس، فضلاً عن أن الشرع لا يدل عليه. يدل على هذا تكذيب عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لقول كعب، رضي الله عنه. هذا، ولو كان مثل هذا صحيحًا لجاءنا بحديث صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأتنا تبيَّن كذبه وبطلانه، وقد ذكر ابن جرير الطبري بعد رد عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، زيادة بعد تلاوته الآية، وهي: ( كفى بها زوالاً أن تدور ). أي: أنها إذا زالت كيف تدور؟ فكأن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يشير بقوله هذا إلى مخالفة هذا الأثر للواقع العقلي، وليس هناك فرق بين المعطوف والمعطوف عليه (السماوات والأرض) من حيث الدوران، غير أن المراد بالسماوات: الأفلاك والنجوم، الثابت منها والمتحرك. وليس المراد بالسماء ذات الأبواب والحرس التي فيها الأنبياء والملائكة والجنة وفوقها عرش الرحمن جل وعلا، فإن هذه السماوات عالم غيبي تعرف بالخبر عن الصادق المصدوق، بخلاف السماوات ذات النجوم والشهب والكواكب، فطريق معرفتها الحس والمشاهدة، وهي المقصودة المرادة في آية فاطر هذه.
ومن المعلوم، كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية– رحمه الله– أن الأفلاك كلها مستديرة (مكوَّرة) وكلها في السماء، والسماء على الأرض مثل القبة، وإذا كان ما في هذه السماء من كواكب ونجوم ومجرات تدور في أفلاكها (سمائها)، فإن الأرض تدور كذلك؛ لأن السماء محيطة بها.
وعلى هذا فإن دلالة الآية على الدوران، كلٌّ بحسبه (الشمس والقمر والنجوم)، وهي كلها في السماء يدور كل منها على نفسه وفي مداره، فينتج عن ذلك الليل والنهار، وكذلك للأرض دورة حول الشمس ينتج منها فصول السنة الأربعة، وصدق الله العظيم: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)[يس:40].(/2)
تفسير معنى قوله - تعالى - بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم "
عبد الله بن محمد زقيل
ما تفسير هذه الآية؟
قال الله - تعالى - في سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم...) الأيتان من سورة العنكبوت 48 و 49
قرأت تفسير معنى قوله - تعالى -(بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.. ) ولم أستطع فهم ما رجحه الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره..
هل المقصود بـ(أوتوا العلم) هم علماء المسلمين الذين وفقهم الله لحفظ كتابه العزيز في صدورهم أم علماء أهل الكتاب
الجواب:
الأخ عبدالله القرشي
بداية أقول جزاك الله خيرا على حسن ظنك بي وأسأل الله أن يجعلنا خيرا مما يظنون وليتك عممت ولم تخصص فإن في المنبر من طلبة العلم الذين تجد عندهم الجواب الشافي إن شاء الله - تعالى -.
أما جواب السؤال فأقول وبالله التوقيق:
قال القرطبي في تفسيره (13/354):
قوله - تعالى -" بل هو آيات بينات " يعني القرآن قاله الحسن
وزعم الفراء في قراءة عبد الله بل هي آيات بينات المعنى بل آيات القرآن آيات بينات قال الحسن ومثله هذا بصائر ولو كانت هذه لجاز نظيره هذه رحمة من ربي
قال الحسن أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظرا فإذا أطبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيون
فقال كعب في صفة هذه الأمة إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء
" في صدور الذين أوتوا العلم " أي ليس هذا القرآن كما يقوله المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وهي كذلك
" في صدور الذين أوتوا العلم " وهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون به يحفظونه ويقرءونه ووصفهم بالعلم لأنهم ميزوا بأفهامهم بين كلام الله وكلام البشر والشياطين
وقال قتادة وابن عباس بل هو يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب يجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم بهذه الصفة أميا لا يقرأ ولا يكتب ولكنهم ظلموا أنفسهم وكتموا وهذا اختيار الطبري ودليل هذا القول قراءة ابن مسعود وابن السميقع بل هذا آيات بينات وكان - عليه السلام - آيات لا آية واحدة لأنه دل على أشياء كثيرة من أمر الدين فلهذا قال بل هو آيات بينات وقيل بل هو ذو آيات بينات فحذف المضاف وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون أي الكفار لأنهم جحدوا نبوته وما جاء به.
وقال ابن كثير في تفسيره (6/286-287):
وقال ههنا " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمرا ونهيا وخبرا يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا كما قال - تعالى -: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" (القمر: 17)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من نبى إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابع (رواه البخاري 7274)
وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: يقول الله - تعالى -إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان (مسلم 2865)
أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل لأنه قد جاء في الحديث الآخر: لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار. (رواه أحمد في مسنده 4/151).
ولأنه محفوظ في الصدور ميسر على الألسنة مهيمن على القلوب معجز لفظا ومعنى ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم
واختار ابن جرير أن المعنى في قوله - تعالى -: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ونقله عن قتادة وابن جريج وحكى الأول عن الحسن البصرى فقط
قلت (ابن كثير): وهو الذى رواه العوفي عن ابن عباس وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم. ا. هـ.
فابن كثير يرجح القول الأول وهو أنه محفوظ في صدور المسلمين أي القرآن.
وقال الشوكاني في فتح القدير (4/207):
(بل هو آيات بينات) يعني القرآن (في صدور الذين أوتوا العلم) يعني المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده - صلى الله عليه وسلم - وحفظوه بعده، وقال مقاتل وقتادة: إن الضمير يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي بل محمد آيات بينات: أي ذو آيات.
وقرأ ابن مسعود " بل هي آيات بينات " قال الفراء: معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن آيات بينات.... واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع " بل آيات هذا آيات بينات " ولا دليل في هذه القراءة على ذلك، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج إلى هذا التأويل. ا. هـ.
والله - تعالى -أعلم.(/1)
http://saaid.net المصدر:(/2)
تفسير وبيان لأعظم سورة في القرآن(1)
محمد بن جميل زينو
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد: فإني أقدم للقراء تفسير سورة الفاتحة، لأنها أعظم سورة في القرآن، ولأن المصلي يقرأها في صلاته، فكان لازماً عليه أن يفهم معناها ليخشع في صلاته، ويدخل في قوله تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونٌَ?
وهذه السورة جمعت أنواع التوحيد، ولا سيما توحيد العبادة الذي خلق الله العالم لأجله، وأرسل الرسل لتحقيقه، وهو موجود في قوله تعالى: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينٌُ?. ولأن معاني القرآن ترجع إلى ما تضمنته هذه الآية والسورة .
وكانت أهم مراجعي:
تفسير الطبري وإبن كثير، ومختصراته . وقد ذكرت الأحاديث الواردة في فضل وتفسير الفاتحة، وما تهدي إليه الآية والسورة والأحاديث من فوائد، ونبهت على الأخطاء الشائعة في قراءة الفاتحة وغيرها من المواضيع المهمة . ومن أراد المزيد فليقرأ الكتاب والمحتويات في آخره .
والله أسأل أن ينفع به المسلمين، ويجعله خالص لوجهه الكريم.
سورة الفاتحة وأسماؤها:
سورة الفاتحة مكية، وهي سبع آيات بلا خلاف.
وأسماؤها:
1- أم القرآن: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، خداج، خداج، غير تمام) .
2- أم الكتاب: قال البخاري: وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة .
3- السبع المثاني: لقول الله تعالى: ?وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمٌَ? .
4- القرآن العظيم: لقوله تعالى: ?وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمٌَ? .
ودليل هذه الأسماء الأربعة من الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: الحمد لله رب العالمين: أم القرى، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم) .
5- فاتحة الكتاب: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .
ولأنها يُفتح بها القراءة في الصلاة .
6- الصلاة: لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي) .... الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها .
7- الحمد: لقول الله تعالى: ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينٌَ?
8- الرقية: لقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي سعيد: (وما يدريك أنها رقية) .
9- أساس القرآن: سماها ابن عباس .
10- الواقية: سماها سفيان بن عُيينة .
11- الكافية: سماها يحي بن كثير .
من فضائل سورة الفاتحة:
الحديث الأول: عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: (كنت أصلي فدعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فأتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني ؟ قال: قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمٌْ?.
ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم: ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينٌَ? هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) .
من فوائد الحديث:
1- جواز دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وندائه لمن يصلي النافلة، وهي خاصة له، وفي حياته، وكذلك للأم حق نداء الولد في صلاة النافلة، وله شاهد من حديث الراهب الذي دعته أمه في الصلاة فلم يجبها، فدعت عليه، فاستجاب الله دعاءها، كما في الحديث الذي رواه مسلم .
أما غير الرسول والأم فلا يجوز نداء أحد في صلاته ولا يجب على المصلي إجابة النداء في صلاته إلا إذا كان لإنقاذ إنسان من خطر محقق، أو لضرورة .
2- وجوب تلبية نداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمٌْ? .
3- حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعليم أصحابه ما ينفعهم، وتشويقه لهم: (لأعلمنك أعظم سورة في القرآن) .
4- حرص الصحابي على العلم، وتذكيره للرسول -صلى الله عليه وسلم- بما وعده به، وذلك حين قال له: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن .
5- استجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتذكير الصحابي، ووفاؤه بما وعده وعلمه (الحمد لله رب العالمين) .
6- في الحديث دليل على أنَّ الفاتحة أعظم سورة في القرآن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم.(/1)
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا في مسير لنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم (أي لديغ)، وإن نفرنا غُيب فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (أي نعيبه أو نتهمه) برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن ؟ أو كنت ترقي ؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدث حتى نأتي ونسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما قدمنا المدنية ذكرناه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية ؟ إقسموا واضربوا لي بسهم) .
وفي رواية مسلم: أن أبا سعيد هو الذي رقى المريض .
من فوائد الحديث:
1- الرجوع عند الاختلاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهم: قال الله تعالى: ?فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلٌ? والرد إلى الله يكون بالرجوع إلى كتاب الله، أما الرد إلى الرسول فيكون بالرجوع إليه عندما كان حياً، والرجوع إلى سنته وأقواله بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وفي الحديث: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض) .
2- التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- واجب على الصحابة والمسلمين .
3- جواز الرقية بالفاتحة، وما جاء في السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-..
4- علاج اللديغ يكون بقراءة الفاتحة والدعاء، وبالتداوي والأخذ بالأسباب: قال -صلى الله عليه وسلم-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء) .
5- جواز أخذ الراقي الأجر على الرقية الشرعية، فالراقي أحقُ بالأجر من الشخص الذي يعالج علاجاً مادياً كالطبيب أو غيره، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أحقُ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) فليس المراد بهذا الحديث أن يأخذ الإنسان أجراً على قراءة القرآن على الأموات، أو على الأحياء لإسماع الناس التلاوة، فإن هذا لم يفعله النبي صلى الله ع ليه وسلم، والأئمة المجتهدون .
6- جواز رقية المسلم لغير المسلم: حيث جاء في رواية البزار في حديث جابر: (فقالوا لهم: قد بلغنا أن صاحبكم جاء بالنور والشفاء، قالوا: نعم) لأنهم قالوا: صاحبكم، ولم يقولوا: رسول الله .
فوائد الرقية بالفاتحة:
1- قال ابن القيم في "الجواب الكافي" في الصفحة الثالثة: فقد أثر هنا الدواء في هذا الداء وأزاله، حتى كأنه لم يكن، وهو أسهل دواء وأيسره، ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيراً عجيباً في الشفاء، ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء، ولا أجد طبيباً ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً، فكان كثير منهم يبرأ سريعاً .
2- ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات أو الأدعية التي يُستشفى بها، ويُرقي بها هي نفسها نافعة شافعة، ولكن تستدعي بها، ويُرقى بها هي نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل، وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجح فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة -أي: طبيعة البدن- لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة -أي: الأجسام- إذا أخذت الدواء لقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، فكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفسه فعالة، وهمة مؤثرة في إزالة الداء. انتهى .
الحديث الثالث: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً (أي صوت) فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فُتح من السماء ما فُتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة: لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته) .
من فوائد الحديث:
1- نزول جبريل عليه السلام، وزيارته للنبي أحياناً .
2- حدوث صوت في السماء يدل على أمر مهم .
3- للسماء باب لم يفتح قط، ونزول ملك تكريماً له -صلى الله عليه وسلم- .
4- الملك يُبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بنورين قد أعطاهما الله له ولم يعطهما لنبي قبله .(/2)
النوارن: هما: فاتحة الكتاب، وأواخر سورة البقرة، وفاتحة الكتاب: هي سور الحمد، وخواتيم سورة البقرة هما الآيتان: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرٌُ?
?لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينٌَ? .
مواضيع الاستعاذة وفضلها:
1- عند تلاوة القرآن: لقول الله تعالى: ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمٌِ? أي: قل قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2- في الصلاة قبل الفاتحة. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في صلاة التهجد: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) .
معنى: همزه: خنقه، ونفخه: كبره، ونفثه: شعره. ويجوز غيرها مثل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
3- عند الغضب: عن سليمان بن صرد قال: (استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم") .
4- عند دخول الخلاء: فعن أنس قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) .
5- عند نباح الكلاب، ونهيق الحمير: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا سمعتم نباح الكلاب، ونهيق الحمير بالليل، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنهن يرين ما لا ترون) .
6- عند الأرق والفزع: كان -صلى الله عليه وسلم- يُعلم أصحابه أن يقولوا: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) .
7- عند الرقية: كان -صلى الله عليه وسلم- يُعوّذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامة) .
الهامة: ذات السم كالحية . اللامة: نظرة العين بسوء .
8- عند دخول المسجد: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) .
قال: فإذا قال ذلك: قال الشيطان: حُفظ من سائر اليوم .
معنى الاستعاذة:
معنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أي: أستجير بجناب الله من الشيطان أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نُهيت عنه، فان الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن، لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميع، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه.
والشيطان في لغة العرب: مشتق من "شطن" إذا بعُدَ، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير .
وقال سيبويه: العرب تقول "تشيطن فلان" إذا فعل فعل الشياطين و "الشيطان" مشتق من البعد، على الصحيح ولهذا يُسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان "شيطاناً". قال الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونٌَ?
مواضيع "بسم الله" وفضلها:
1- عند الوضوء:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا صلاة لم لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) [رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وقال ابن كثير: إنه حديث حسن]
2- تُذكر عند الذبح وعند الاصطياد:
أ- قال الله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌٌ?
ب- وقال الله تعالى: ?فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهٌِ? .
ج- سأل عدي بن حاتم الطائي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حكم الصيد بالكلب إذا وجد مع كلبه كلباً آخر: "لا أدري أيهما قتله ؟ " فقال: (لا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) .
3- عند ابتداء الطعام والشراب:
قال عمر بن أبي سلمة: كنت غلاماً في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال: (يا غلام سَمَ الله، وكُلْ بيمينك، وكُل مما يليك) .
4- للرقية من الوجع والمرض:(/3)
أ- شكا عثمان بن أبي العاص الثقفي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعاً يجده في جسده منذ أسلم:
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ضع يدك الذي تألم من جسدك، وقل "بسم الله" ثلاثاً وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) .
ب- عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا محمد، اشتكيت ؟ فقال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك) .
5- عند دخول المسجد والخروج منه، فعن أنس قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: بسم الله، اللهم صل على محمد اللهم أفتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: بسم الله، اللهم صل على محمد اللهم أفتح لي أبواب فضلك) .
6- عن إتيان الرجل امرأته:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: "بسم الله" اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبد) .
7- كلما أصبح وكلما أمسى:
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: " بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شئ) .
8- التسمية على مرافق البيت عند النوم:
عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، فاغلقوا الأبواب وأذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكلوا قربكم وأذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم وأذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم) .
9- عند الخروج من المنزل وعند الدخول:
أ- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال حينئذ، هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين) .
ب- عن جابر بن عبدالله، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عز وجل عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان أدركتم البيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) .
10- عند ركوب الدابة أو السيارة أو الطائرة أو الباخرة:
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا ركب دابة قال: بسم الله، الحمد لله ?سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينٌَ? .
11- وتذكر البسملة كاملة في موضعين هما:
أ- عند التلاوة (بسم الله الرحمن الرحيم). في بداية السور، سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة .
ب- عند كتابة الرسائل: ودليله قوله تعالى: ?إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٌِ? .
كما افتتح الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالته التي بعثها إلى هرقل ملك الروم (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) .
معنى "بسم الله":
قال ابن كثير: قوله: "بسم الله" هو اسم أو فعل (متقاربان)، وكل قد ورد به القرآن: أما من قدره باسم تقديره: بسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: ?وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌٌ? .
ومن قدره بالفعل فلقوله تعالى: ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقٌَ?
وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان أكلاً أو شرباً أو قراءة أو وضوءاً أو صلاة .
فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله، تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم .
(الله): علم على الرب تبارك وتعالى، ويقال، إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: ?هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمٌُ?. فأجرى السماء الباقية كلها صفات له: قال تعالى: ?وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهٌَ? .
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) .(/4)
ومعنى أحصاها: أي فهم معناها حق الفهم وعمل بحقها، وحقها أن يكون موحداً بها توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية من كل جوارحه، وفي قرارة نفسه، ثم مات على ذلك من التوحيد الخالص دون أن يخل بأي معنى من معانيها، وله من العمل ما لا ينافيها لا قولاً، ولا اعتقاداً دخل الجنة .
أما فهم معنى الإحصاء بالحفظ غيباً، فإن كثيراً من الناس من يحفظها ويغيبها عن ظهر قلب ويرددها بسرعة دون تفهم لمعانيها، وله من العمل ما ينافيها، فهذه المنافاة نقض القول، ومثل هذا لا يكون قد أحصاها إذ ليس المقصود من الإحصاء إلا الفهم والإخلاص .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يعرف فصل الصورة حتى ينزل عليه "بسم الله الرحمن الرحيم")
واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة "النمل" ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أم أنها في الفاتحة دون غيرها، أو إنها للفصل بين السور، والأرجح أنها للفصل بين السور، كما سبق من قول ابن عباس الذي رواه أبو داود آنفاً، ومن قال إنها آية من الفاتحة، فقد رأى الجهر بها في الصلاة، والذين لم يروا فقد أسروا بها. ولكل من أصحاب القولين جماعة من الصحابة رأوا ما رأوا ...
من هداية الآية:
1- إن?بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٌِ? جزء من آية من سورة النمل .
2- إن?بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٌِ? للفصل بين السور .
3- إن?بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٌِ? أول آية من سورة الفاتحة .
أ- قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (الحمد لله رب العالمين) أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني ...) ?وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمٌَ?
ب- عن أم سلمة: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ الفاتحة، وعدّ البسملة آية منه) .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
الحمد لله الشكر له خالصاً دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد من غير استحقاق منهم ذلك عليه، فلربنا الحمد على ذلك أولاً وآخراً .
والألف واللام في الحمد، لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى: كما جاء في الحديث: (اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله) .
رب العالمين: الرب: هو المالك المنتصرف، ولا يقال: (الرب ) معرفاً بالألف واللام إلا لله تعالى، ولا يجوز استعمال كلمة الرب لغير الله إلا بالإضافة ... فنقول: رب الدار، ورب السيف، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل .
العالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله جل وعلا، والعالَم جمع لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات والأرض في البر والبحر، فالإنس عالّم، والجن عالّم، والملائكة عالّم ..
وهكذا قال بشر بن عمارة بسنده عن ابن عباس: ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينٌَ? الحمد لله الذي له الخلق كله في السموات والأرض وما فيهن وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم .
وقال ابن جرير رحمه الله: (الحمد لله): ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عبادة أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله .
قال: وقد قيل: إن قول القائل: " الحمد لله " ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: "الشكر لله" ثناء عليه بنعمه وأياديه .
من هداية الآية:
1- الحمد يكون لله فقط ولا يكون لغيره، لأنه رب العالمين .
2- أما الشكر فيكون لله ولغيره، قال الله تعالى:
?أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرٌُ? .
3- في الآية توحيد الرب الذي كان يعترف به المشركون: قال تعالى عن المشركين: ?قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونٌَ? .
فالمشركون اعترفوا بأن الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، كما اعترفوا بأن الله خالقهم، ولكن هذا الاعتراف لم يستفيدوا منه، لأنهم أشركوا بالله حينما دعوا وعبدوا غيره .
فضل "الحمد لله" ومواضعها:
1- بعد الأكل والشرب: لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
أ- (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليه) .
ب- وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه) .
2- عند النوم: عن أنس رضي الله عنه:
أ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد الله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى).(/5)
ب- وعن علي رضي الله عنه: أن فاطمة رضي الله عنها شكت ما تلقى في يدها من الرحى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبى (عبيد) فانطلقت، فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها. فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بمجئ فاطمة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: (على مكانكم) فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: (ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني ؟ إذا أخذتما مضاجعكما: فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، وأحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم). ويجوز أن يقال قبل النوم: (سبحان الله 33) و (الحمد لله 33) و (الله أكبر 33) .
3- عند الاستيقاظ من النوم: عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: (باسمك اللهم أحيا وأموت) .
وإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور) .
4- عند العطاس: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا عطس أحدكم فليقل "الحمد لله" وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم) .
5- عند رؤية مبتلى: عن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش) .
6- بعد الرفع من الركوع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: " ربنا ولك الحمد" فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) .
7- بعد الصلاة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من سبح الله في دُبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) . "دبر كل صلاة: بعد كل صلاة"
8- عند الاستيقاظ من النوم ليلاً: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من تعارّ من الليل (أي استيقظ) فقال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أغفر لي، فإن دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قُبلت صلاته) .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيم:
الرحمن الرحيم: إسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، والرحمن مشتق، ودليل ذلك عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته) .
قال القرطبي: هذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق .
روى ابن جرير بسنده عن العزرمي يقول: "الرحمن الرحيم" قال: الرحمن: لجميع الخلق، الرحيم: قال: المؤمنين.
قالوا: ولهذا قال تعالى: ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنٌُ? .
وقال: ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٌ?
فذكر الاستواء باسمه الرحمن، ليعم جميع خلقه برحمته .
وقال: ?وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًٌ? فخصهم باسمه الرحيم .
قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمن من (الرحيم) لعمومها في الدارين .
الرحمن عام والرحيم خاص
الرحمن: أي يرحم أهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) خاص بالمؤمنين يوم القيامة، إن الله يرحم المؤمنين والكافرين في الدنيا على السواء وذلك من نواحي أمورهم المعاشية، وأسباب حياتهم، وما يكفل لهم حياتهم الدنيا، فرحمته هنا عامة وإذا لم تكن الرحمة هذه عامة، لا تتكامل أسباب التكليف من الإنعام عليهم بنعمة العقد الذي بواسطته يعرفون الحق من الباطل، ونعمة تسخير ما في الكون ليستفيد منها أهل الأرض من الإنس والجن. ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعٌ?، فتكامل أسباب التكليف في الدنيا سيكون عليه في الآخرة مدار الحساب .
وأما ما جاء في الدعاء المأثور: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهم)، فقوله: رحيمهما محمول على معنى أنه يرحم المؤمنين في الدنيا فيما أطاعوه من الإيمان به، وتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه وتسهيل سبل ذلك لهم، ويرحمهم في الآخرة بإدخالهم الجنة جزاء ما أسلفوا من إيمان وطاعة: فطاعتهم له في الدنيا رحمة منه تعالى، وجزاؤهم بالجنة، رحمة منه تعالى، وهذا معنى قوله: رحيمهما، والله أعلم .
فائدة مهمة:(/6)
قوله تعالى: ?الرَّحْمنِ الرَّحِيمٌِ? وصف نفسه بأنه الرحمن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه ب?رَّبِّ الْعَالَمِينٌَ? ترهيب قرنه بـ ?الرَّحْمنِ الرَّحِيمٌِ? لما تضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون له أعون على طاعته وأمنع كما قال: ?نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمٌَ?، وقال تعالى: ?غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابٌِ? .
من هداية الآية
1- الرحمن: اسم خاص بالله تعالى لا يجوز تسمية غيره به، ولا بأي اسم خاص له. ومثله: "الله، والخالق، والرازق، ونحو ذلك"
2- الرحيم: اسم وصفة لله تعالى، وقد وصف به غيره: قال الله تعالى: ?لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌٌ?. ومثل الرحيم: السميع والبصير، قال الله تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًٌ? .
3- في الآية دليل على توحيد الأسماء والصفات: (الرحمن الرحيم).
تفسير وبيان لأعظم سورة في القرآن(2)
محمد بن جميل زينو
مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ:
1- قرأ بعض القراء: ?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ? .
2- وقرأ آخرون: ?مَلِك? وكلا القراءتين صحيحة متواتر في السبع، وليس تخصيص المُلك بيوم الدين خاصاً بيوم الدين من غير الدنيا، فهو مالك يومي الدنيا والدين لأنه تقدم الإخبار بأنه ربُ العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، إنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي هناك أحد شيئاً غيره ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: ?يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابً? .
3- وقال الضحاك عن ابن عباس ?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ? يقول: لا يملك من أحد في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدنيا .
4- ?يَوْمِ الدِّينِ?: يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه .
من هداية الآية:
1- الملك في الحقيقة هو الله عز وجل، وهو مأخوذ من المُلك (بضم الميم)، قال الله تعالى: ?هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ? .
وفي الحديث: (أختع اسم عند الله من تسمى بملك الأملاك، ولا مالك إلا الله) . –أختع: أذل وأقهر-.
قال الله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكً? . فتسمية طالوت بالملك مجاز، وفي الحديث: (مثل الملك على الأسرة) .
2- المالك في الحقيقة هو الله عز وجل، وهو مأخوذ من المِلك (بكسر الميم) وتسمية غيره في الدنيا مجاز) .
قال تعالى: ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ? –فالمساكين كانت السفينة ملك لهم في الدنيا-.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ:
1- ?إِيَّاكَ? مفعول قدم للحصر، ليحصر مراد المتكلم فيما يريد أن يفصح عنه .
2- ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والعبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبد، وبعير معبد، أي مذلل، وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وهي خاصة بالله سبحانه وتعالى .
3- قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن وسرها – أي الفاتحة – هذه الكلمة: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? .
فالأول أي: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? تبرؤ من الشرك .
والثاني أي: ?وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? تبرؤ من الحول والطول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل .
4- في هذه الآية: تحول الكلام من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب بكاف الخطاب بقوله ?إِيَّاكَ? وذلك مناسب، لأن العبد لما حمد الله وأثنى عليه ومجده وتبرأ من عبادة غيره، ومن الاستعانة بسواه، فكأنه اقترب من الله عز وجل، وأصبح حاضراً بين يديه تعالى، فناسب أن يخاطبه بكاف الخطاب بقوله ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? إياك نوحد ونخاف ونرجوا يا ربنا لا غيرك، ?وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? على طاعتك، وعلى أمرنا كلها.
وقدم: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? على ?وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? لأن العبادة هي الغاية، والاستعانة هي الوسيلة إليها –ابن كثير- .
قال ابن القيم في مدارج السالكين: وسر الخلق، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتابة وأربعة: جمع معانيها في التوراة والإنجيل، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن في الفاتحة في: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? .
من هداية الآية:(/7)
1- ذكر علماء اللغة العربية أن الله تعالى قدم المفعول به (إياك) على الفعل (نعبد) و (نستعين) ليخص العبادة والاستعانة به وحده، ويحصرها فيه دون سواه، فيكون معناها: (نخصك بالعبادة والاستعانة وحدك) أو ( لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك يا الله).
وأركان العبادة: الإخلاص والمحبة والرجاء والخوف، وعبادة الله وحده بما شرعه الله، حسب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- معنى العبادة والاستعانة في قوله تعالى: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ? إياك نوحد ونخاف ونرجو.
?وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? على طاعتك، قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?
3- إن العبادة في هذه الآية تعم جميع العبادات كلها، مثل الصلاة، والذبح، والنذر، ولا سيما الدعاء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة). فكما أن الصلاة عبادة لا تجوز لرسول، ولا لولي، فكذلك الدعاء عبادة، فهو لله وحده لا لغيره. ?قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدً? . ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
يقول الإمام النووي في تفسير هذا الحديث ما خلاصته: إذا طلبت الإعانة على أمر من أمور الدنيا والآخرة، فاستعن بالله، ولا سيما في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله: كشفاء المرض، وطلب الرزق والهداية، فهي مما اختص الله بها وحده، قال تعالى: ?وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ? .
4- وأما الاستعانة بالأحياء الحاضرين فيما يقدرون عليه من مداواة مريض، أو بناء مسجد، وغير ذلك فهي جائزة لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى?، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). ومن أمثلة الاستعانة الجائزة قول الله في طلب ذي القرنين من قومه:?فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ?.
5- إن هذه الآية ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? التي يكررها المسلم عشرات المرات في الصلاة هي خلاصة سورة الفاتحة، وهي أعظم سورة في القرآن .
6- في الآية توحيد العبادة لله الذي دعت إليه جميع الرسل، قال تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ?. –والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله برضاه - .
اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ:
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: (فنصفها لعبدي ولعبدي ما سأل) وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? وفي هذا دليل على الحض على التوسل بالصفات العلى وبالأعمال الصالحة فقد حمد الله وأثنى عليه ومجده بصفاته. (رب العالمين، الرحمن الرحيم – مالك يوم الدين).
ثم أفرده بالعبادة والاستعانة: فبعد أن قدم بين يدي ربه هذه الأعمال الصالحة تقدم منه سائلاً حاجته وهي أن يهديه وإخوانه المؤمنين صراطه المستقيم الذي هو الإسلام الصحيح الخالي من الزيادة والنقصان، النفي من كل بدعة وخرافة، هذا الصراط الذي هو أقرب الطرق للوصول إلى ما يحب الله ويرضى طبق ما أمر، وبلغ رسول الله، وإذا أمعن المسلم في آيات القرآن فإنه يرى جميع آيات الدعاء، لا بد أن يسبقها توسل إلى الله تعالى إما بدعائه، أو بذات الله ـ أو بأسمائه الحسنى، أو صفاته العلى، أو بالأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى ربه، أو أن يتوسل إليه بدعاء إخوانه المؤمنين له بالدعاء لهم، قال الله تعالى على لسان ذي النون عليه السلام: ?لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ?.
فإن ذا النون لما ابتلعه الحوت لم يجد من التوسل إلى الله أقرب من توحيده تعالى وتنزيهه.
والهداية هاهنا: الإرشاد والتوفيق، وقد تعدي الهداية بنفسها كما هنا ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? فتضمن معنى: ألهمنا، أو وفقنا، أو أرزقنا، أو أعظنا .
?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?، أي بينا له الخير والشر وقد تعدي بإلى كقوله تعالى: ?اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?.
?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ? وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، كذلك قوله: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?، وقد تُعدي باللام، كقول أهل الجنة:
?الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَ? أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلاً .
وأما (الصراط المستقيم) فقال الإمام الطبري: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن: (الصراط المستقيم) هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب .(/8)
ولهذا قال الإمام الطبري -رحمه الله-: والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? أن يكون معنياً به، وفقنا للثبات على ما أرتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم، لأن من وُفق لما وُفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء، فقد وُفق للإسلام وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به والانزجار عمّا زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم .
من هداية الآية:
1- الترغيب في دعاء الله وحده، ولا سيما الهداية إلى الصراط المستقيم، لأن الله تعالى يقول: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? وقال جماعة من الصحابة: (الصراط: الإسلام )
2- علمنا الله أن نسأله الصراط المستقيم خالياً من أهله وأصحابه، فإذا عرفنا الصراط ومعالمه عرفنا أهله، وحينئذ يقول القارئ ?صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ?. فاعرف الحق تعرف أهله، فالحق: هو الصراط، وأهله: الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ:
1- ?صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ? مفسر للصراط المستقيم، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله الله تعالى: ?وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمً? .
2- وقال الضحاك عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين وذلك نظير ما قال ربنا في الآية السابقة .
من هداية الآية:
1- الترغيب في طلب الهداية إلى الصراط المستقيم: صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
2- الترغيب في سلوك سبيل الصالحين – الذين مدحهم الله وأثنى عليهم – وموالاتهم، والسير على طريقهم .
غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ:
1- قوله تعالى: ?غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?: أي غير صراط المغضوب عليهم: المغضوب عليهم: هم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه .
2- وغير صراط الضالين: وهم الذين فقدوا العلم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق وأكد الكلام بـ (ل) ليدل أن ثم مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود وطريقة النصارى .
3- وإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم والعمل به، واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلالة للنصارى، لأن من عَلِم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم .
4- والنصارى كما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إليه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق فضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليهم. لكن أخص أوصاف اليهود الغضب عليهم: قال تعالى عنهم: ?مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ? .
5- وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى: ?قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ? .
6- روى حماد بن سلمة عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: ?غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ? قال اليهود .
?وَلاَ الضَّالِّينَ? قال النصارى هم الضالون
7- وروى ابن مردويه عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ?المَغضُوبِ عَلَيهِمْ? قال: اليهود، قلت: ?وَلاَ الضَّالِّينَ? قال: النصارى .
من هداية الآية:
1- التحذير من صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود الذين فسدت إرادتهم فعرفوا الحق وعدلوا عنه، ولم يعملوا به، لأن من علم الحق وتركه استحق الغضب من الله تعالى .
2- التحذير من صراط الضالين: وهم النصارى الذين فقدوا العلم، فهاموا في الضلال، لا يهتدون إلى الحق، فعلى المسلمين ألا يتركوا العلم والعمل، حتى لا يكونوا مثل النصارى واليهود .
3- التحذير من طريقة اليهود والنصارى، والترهيب من سلوك سبيل الغاوين والبراءة منهم .
4- التحذير من ترك العمل الذي وقع فيه اليهود، والتحذير من ترك العلم الذي وقع فيه النصارى .
5- لا بُد من العلم والعمل معاً، وهذا هو سبيل المؤمنين، قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء?. قال ابن كثير: كلما كان العلم بالله أكمل، كانت الخشية لله أعظم وأكثر .
6- على المسلمين: أن يدعوا الناس جميعاً إلى العلم والعمل معاً لهدايتهم إلى الصراط المستقيم .
التحذير من صفات المنحرفين:(/9)
1- قال الله تعالى: ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلام: ?المَغضُوبِ عَلَيهِمْ? اليهود و?وَلاَ الضَّالِّينَ? النصارى .
2- قال الله تعالى: ?وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ? – الرغد: سعة العيش، حطة: حُط عنا ذنوبنا وأغفرها .
أ- ( قيل لبني إسرائيل: ?وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ? فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعرة ، أستاهم: أدبارهم) .
ب- وفي رواية الترمذي في قول الله تعالى: ?وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّد?، قال: ( دخلوا متزحفين على أوراكهم) .
قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ?فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ? .
قال: قالوا: حبة في شعرة، وفي رواية: حبة في شعيرة .
ج- قال الحافظ في (الفتح): والحاصل أنهم خالفوا ما أُمروا به من الفعل والقول، فإنهم أُمروا بالسجود عند انتهائهم شكراً لله تعالى، وبقولهم (حطة) فبدلوا السجود بالزحف وقالوا حنطة بدل (حطة) أو قالوا: حطة، وزادوا فيها حبة شعيرة. ويستنبط منه أن الأقوال المنصوص إذا تُعبد بلفظها لا يجوز تغييرها ولو وافق المعنى .
من فوائد الآيات والأحاديث:
1- الترغيب في سلوك سبيل المؤمنين، والترهيب من سلوك اليهود المغضوب عليهم لكفرهم وإفسادهم وقد تركوا العمل، ومن النصارى الضالين الذين فقدوا العلم، أما المؤمنون فقد جمعوا العلم مع العمل .
2- التحذير من تحريف النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع كما فعلت اليهود. لقد أمر الله اليهود أن يقولوا (حطة) فقالوا (حنطة) تحريفاً، وأخبرنا الله أنه (استوى) على العرش، فقال المتأولون: (استولى) فانظر ما أشبه لامهم التي زادوها بنون اليهود التي زادوها: (في حطة: فقالوا حنطة) .
3- لقد تجرأ بعض المفسرين كالصابوني في (صفوة التفاسير) والقاضي أحمد كنعان في كتابه (قرة العينين على تفسير الجلالين) فقد قالا عند تفسير قول الله تعالى: ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ?. فقالا: وفي الحديث: ( يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة)، الحديث رواه البخاري، فقد بترا أول الحديث:
(يكشف ربنا عن ساقه): ولم يلتزما نص الحديث: (فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة)، لأن الفاء للعطف، و (له) يعود على الله. ولما سألت الصابوني عن سبب بتره لأول الحديث: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( يكشف ربنا عن ساقه ....) الحديث، أجاب بقوله: كل المفسرين أولوا الآية. ثم قال: الذي أريده من الحديث أخذته .
أ- وهذا خطأ كبير إذ أن المفسرين جُلهم لم يتأولوا الآية: كالطبري وابن كثير، وذكروا الحديث بتمامه، حتى قال العلامة صديق حسن خان، والشوكاني أيضاً عند تفسير ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ? الآية: "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل" ويقصدان الحديث الذي فسر الآية، وهو خير مفسر لكلام الله تعالى، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً فليس كمثله شئ، ثم ذكرا قول الشاعر:
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
ب- أما قوله: أخذت من الحديث ما أريده، لا يجوز لمفسر أن يقوله، لأنه غير معني الآية التي تثبت الساق لله تعالى على ما يليق به، فظهر من حذفه لأول الحديث لئلا يثبت الساق، ولأنه لو ذكره لبطل مراده وهو التأويل، وهذا نوع من التحريف والتبديل والتلاعب بالنصوص الذي حذرت منه الآيات السابقة، وسيأتي تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم لمثل هذا العمل الذي وقعت فيه اليهود والنصارى .
ج- وقد فسر الصابوني آية ?وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ?: أي تدعوهم الشدة إلى السجود لله، وخالف تفسير الطبري الذي اختصره حينما قال الطبري: "ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله".
4- ومن هذا التحريف ما سمعته من أحد الخطباء يوم الجمعة حيث قال: جاء رجل أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يرد له بصره، فرد له بصره، ولما انتهى لحقته، وقلت له: هذا الذي ذكرته نص الحديث ؟
إنَّ نص الحديث يقول: جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أدع الله أن يعافيني، فقال: (إن شئت صبرت، وإن شئت دعوت)، فقال: بل أدعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو ...
فقال لي: الذي أريده من الحديث أخذته، فقلت: هذا تدليس، لأنه أوهم الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رد بصره، بينما الحديث ينص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له حينما طلب منه الأعمى الدعاء، وهي معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، فرد الله له بصره، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك رد البصر ولا غيره .(/10)
5- هذا التحريف الذي ذكره ابن القيم في تبديل النصوص، وهذا البتر لأول الأحاديث الذي غير المعنى هو من عمل أهل الكتاب، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمته سيقعون فيه، فقال محذراً: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قالوا: اليهود والنصارى ؟ قال: فمن؟) – أي: فمن غيرهم- .
معنى آمين:
ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، ومعناه: اللهم استجب، والصحيح: أنه يستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي سواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً وفي جميع أحوال الصلاة .
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمّن الإمام فأمنّوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) .
2- ولمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الآخر غفر له ما تقدم من ذنبه) .
3- وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُعطيت "آمين" في الصلاة وعند الدعاء لم يُعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو وهارون يؤمن فاختموا الدعاء بـ "آمين" فإن الله يستجيبه لكم) .
4- ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: ?وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ? فذكر الدعاء عن موسى وحده ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمن فنزل منزلة من الدعاء، لقوله تعالى: ?قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَ? فدل ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله: فلهذا قال من قال: إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزل قراءتها، فدل هذا المنزع أيضاً على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية، والله أعلم .
5- قلت: وهذا هو الحق الموافق لما جاء في القرآن: ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? فالإستماع والإنصات أمر من الله تعالى حتى نُرحم، فإذا استمعنا وأنصتنا تفرغ القلب للفهم، وإذا فهمنا مراده تعالى، عملنا بمقتضاه، فيرحمنا الله جزء ما عملنا بما فهمنا .
أما إذا قرأ الإمام جهراً ونحن قرأنا معه فلا نستطيع في آن واحد فهم ما نقرأ وفهم ما نسمع، وإذا لم يحصل الفهم لا يحصل العمل، وإذا لم يحصل العمل فلا نُرحم. وكذلك فانه موافق لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنما جُعِل الإمام ليؤتم به فإذا كبر، فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا ...) الحديث. هذا في الصلاة الجهرية أما في الصلاة السرية فتجب قراءة الفاتحة وراء الإمام وهاهنا يأتي دور الحديث:
( لا صلاة لمن لام يقرأ بفاتحة الكتاب) . والله تعالى أعلم .
خلاصة تفسير الفاتحة:
قد اشتملت هذه السورة الكريمة على حمد الله، وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العلى وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين وعلى إرشاد عباده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له وتوحيده، توحيد الألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل .
والى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، وعلى الترهيب والتحذير من مسالك الباطل لئلا يُحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون .
وما أحسن ما جاء في إسناد الإنعام إليه سبحانه في قوله تعالى: ?صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ? وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: غير ?غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ? .
مفهوم الهداية والإضلال:
1- لا شك ولا ريب أن الهداية والإضلال من الله تعالى، ولكن ليس هناك من شئ إلا وله سبب، فلما كان العناد والكفر حاصلين من قبل المشركين والكفار بعد بيان الحجة وقيامها عليهم .. كان من المناسب أن يعاقبهم الله على عنادهم وكفرهم من جنس العمل، فعاقبهم بأن مدهم في الضلال كما في قوله تعالى: ?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ?، ?وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى? فكان جزءً وفاقاً.(/11)
2- أما المؤمنون فإنه لما أصغوا إلى الحق وأخلصوا النية بالفهم والتعقل وآمنوا كان من المناسب أن يكافئهم من جنس العمل فيسر لهم طريق الهداية ومدهم بزيادة من الفهم والعقل والإيمان، كما في قوله تعالى: ?فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى?. فكان ذلك جزاءً وفاقاً .
3- ومما هو معلوم أن الهداية والإضلال من الله خلق، فهو الذي هدى المؤمنين بسبب استجابتهم للإيمان، وأضل الكافرين بسبب عنادهم وإعراضهم، فكان كما قلنا جزاءً وفاقاً، وهذا هو الذي رمى إليه المؤلف (ابن كثير) رحمه الله بقوله: (لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه) أي الضلال، والهدى، لأن الهادي والمُضل هو الله تعالى، ولكن العباد يهيئون الأسباب وهذه الأسباب هي التفهم والعمل من المؤمنين، والعناد والإعراض من الكافرين، وهذه أفعال اختيارية محضة والاختيار عليه مدار الثواب والعقاب، أما الهداية نفسها، والإضلال نفسه، فمهما قطعاً من الله تعالى ولو أن الهداية من نفس المؤمن ومختار فيها لما طلبها منه تعالى بقوله: ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ?، وقوله: ?رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَ?
والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الموفق للصواب .
قراءة الفاتحة في الصلاة:
عن أبي هريرة رضي الله عليه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، خداج، خداج: غير تمام) .
فقيل لأبي هريرة: إنَّا نكون وراء الإمام؟ فقال: أقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?، قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: ?الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ?، قال: الله أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: ?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ?، قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?، قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: أهدنا ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?، قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل).
قال ابن كثير بعد هذا الحديث: بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، إذا أُطلقت الصلاة وأريد بها جزء واحد وهو القراءة .
هل تجب قراءة الفاتحة على المقتدي:
اختلف العلماء في القراءة للمصلي خلف الإمام على أقوال:
1- يجب على المقتدي قراءتها، كما تجب على إمامه: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .
2- لا يجب على المقتدي قراءتها سواء في الصلاة الجهرية أو السرية: لحديث: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ولكن في إسناده ضعف كما قال ابن كثير في تفسيره.
أقول: إذا كان الحديث ضعيفاً فلا يجوز العمل به، ولا تصح الصلاة بدون قراءة الفاتحة .
3- يجب على المقتدي قراءة الفاتحة في السرية، ولا يقرأ في الجهرية: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فانصتو). وهو قول قديم للشافعي، ورواية عن الإمام أحمد .
4- يجب على المقتدي قراءة الفاتحة في سكتات الإمام، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين ممن بعدهم، وهو قول للشافعي في الجديد: "وسكتات الإمام: تكون عند آخر الآية، وفي آخر سورة الفاتحة، وفي آخر القراءة" قال بعض السلف في قول الله تعالى: ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? .
قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة (وقت الخطبة) وفيما يجهر به الإمام في الصلاة، وهذا اختيار ابن جرير: أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة الجهرية وفي الخطبة: كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام، وحال الخطبة.
أقول: إذا كان المقتدي لا يسمع قراءة الإمام في الجهرية لبعده عنه، وعدم وجود مكبر للصوت، فعليه قراءة الفاتحة.
أخطاء شائعة في قراءة الفاتحة:
أولاً: قراءة القرآن على الأموات: ولا سيما سورة الفاتحة:
1- لأن القرآن أنزله الله للأحياء ليعملوا به، لا للأموات، قال الله تعالى عن القرآن: ?لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّ?، وفي الحديث: قال (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) .
2- ذكر ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: ?وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى? فقال: أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه.(/12)
ومن هذه الآية الكريمة استنبط الإمام الشافعي رحمه الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها للموتى، لأنه ليس من عملهم، ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إليه بنص، ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص، لا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.
فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليها .
3- وسمعت امرأة سورة الفاتحة من الإذاعة فقالت: أنا لا أحبها، لأنها تذكرني بأخي الميت، وقد قرئت عليه "لأن الإنسان يكره الموت وما يلوذ به" .
4- لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أنهم قرأوا الفاتحة، أو غيرها على الأموات، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه عند فراغه من دفن الميت: (استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فانه الآن يسأل) .
5- لم يُعلم الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته أن يقرأوا الفاتحة عند دخول المقبرة، بل علمهم أن يقولوا: ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) . –أي العذاب- فهذا الحديث يُعلمنا أن ندعو للأموات بالعافية من العذاب، لا أن ندعوهم أو نستعين بهم .
6- لقد أنزل الله القرآن ليقرأ على من يُمكنهم العمل من الأحياء، أما الأموات فلا يستطيعون العمل به: قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?. أي: إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه، أما الكفار فهم موتى القلوب، فشبههم بأموات الأجساد .
ثانياً: قراءة الفاتحة للنبي صلى الله عليه وسلم:
ليس عليها دليل من القرآن أو السنة، ولم يفعلها الصحابة، والدليل جاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
1- قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً?. في هذه الآية يأمرنا الله تعالى أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لا أن نقرأ له الفاتحة، أو ندعوه لتفريج الهموم.
2- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشر).
3- وقال صلى الله عليه وسلم: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم .....) والتوسل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروع عند الدعاء، لأنه من العمل الصالح فنقول مثلاً: اللهم بصلاتي على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فرج عني كربتي وصلى الله على محمد وآله وسلم .
ثالثاً: قراءة الفاتحة عند عقد النكاح:
1- ليس عليها دليل من القرآن والسنة، وإنما هي من عادات الناس، ولا سيما إذا اعتقدوا أن عقد النكاح يتم بقراءتها، علماً بأن العقد لا يتم إلا بالصيغة الشرعية: وهو قول ولي الزوجة للزوج أو وكيله: (زوجتك ابنتي على مهر قدره كذا، فيجيب الزوج أو وكيله: قبلت تزويجك على ما ذكرت من المهر) .
2- السنة في عقد النكاح أن يقرأ العاقد خطبة الحاجة، وقد بدأ بها النبي خطبه، وعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يبدأوا بها خطبهم، وهذا نصها: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً??يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمً?.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
الخلاصة: إنَّ قراءة الفاتحة للأموات، والى روح النبي صلى الله عليه وسلم، وعند عقد النكاح، وغيرها من البدع التي لا دليل عليها من الدين، وفي الحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وقال ابن عمر رضين الله عنهما: كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس أنها حسنة .
وقال غضيف من السلف: لا تظهر بدعة إلا تُرك مثلها سنة .
وهذه البدع أماتت سُنن: وهي:
1- الدعاء للميت بالتثبيت، والاستغفار له، لأن الملائكة تسأله في قبره: من ربك ؟ ما دينك؟ من نبيك؟ .(/13)
2- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة: وصلاة الملائكة: دعاء) .
3- قراءة خطبة الحاجه (وتقدمت من قبل) والقول للزوج: بارك الله لكما، وجمع بينكما بخير.(/14)
تفكيك إيران صراع السحالي والملالي
أحمد فهمي
ماذا يحدث لو تفككت إيران إلى كيانات أو دويلات صغيرة يحكمها نظام واحد ضعيف من وراء ستار أو أنظمة متعددة ؟ .. لا أشك في أن هذا السؤال قد تشارك في الإجابة عليه والتخطيط له خبراء عديدون في الإدارة الأمريكية ، سواء في أروقة الخارجية أو المخابرات أو البيت الأبيض ، ورغم أن كل المؤشرات العدائية التي تبديها الولايات المتحدة تجاه إيران تبدو منصبة على تغيير النظام وإتاحة الفرصة لنظام ليبرالي علماني مكان نظام الملالي ، إلا أن الحقيقة بعيدة تماما عن هذا الهدف المرحلي ، فالولايات المتحدة تخطط في أطروحتها لنظام عالمي جديد لتفكيك الدول التي تشكل خطرا عليها أو على " إسرائيل " ولو بصورة غير مباشرة "*"
والخطر الذي يمثله نظام طهران على الأطروحة الأمريكية لا يتمثل في التوجه المعلن للعداء بين الدولتين ، بل هو يتركز في الأساس في كون إيران دولة ذات طموح أيديولوجي عقدي يمنعها عن الاستسلام الكامل للرغبات الأمريكية التي لا تتناسب حتى مع الأنظمة الحليفة لأمريكا في المنطقة ، فالإدارة الأمريكية تخطط لما هو أبعد من تحالف مؤقت بينها وبين بعض دول الشرق الأوسط الكبير ، إنها تريد أن تعيد رسم الحدود وتفكيك دول قائمة وتأسيس دول جديدة وفق أسس وقواعد تضعها هي ، وتسعى من خلالها إلى إذابة البروزات والمعوقات الدينية والعرقية والسياسية ، وإعادة توزيعها في أطر سياسية تضعف قدرتها على الانتفاضة أو الثورة ، والدافع الرئيس لهذا التوجه الأمريكي بخلاف الرغبة في السيطرة ، هو : إعادة صياغة المذاهب الفكرية والأيديولوجية والأهداف القومية والدينية بصورة مشفرة لا تستقبل إلا بث البيت الأبيض الأمريكي فقط ..
ولو نظرنا برؤية جغرافية إلى البقعة الكبيرة التي تضم أربع دول متجاورة : أفغانستان وإيران وباكستان والعراق ، فسنجد عددا من القواسم المشتركة بين هذه الدول :
1- الدول الأربع يتألف سكانها من عدة أعراق وطوائف مختلفة ومتباينة ومتصارعة ، قد تبلغ مستوى مأساويا كما في أفغانستان ، وقد تبدو متماسكة مؤقتا كما في إيران ..
2- تحظى كل من الدول الأربع بميزات استراتيجية أو اقتصادية أو جغرافية أو دينية أو عسكرية ، تجعل منها دولا ذات تأثير بالغ فيما حولها ..
3- يتركز في هذه الدول الثقل الشيعي الأكبر عالميا ..
4- النجاح في تفكيك هذه الدول – كما حدث في العراق وأفغانستان – ينتج عنه حقائق سياسية بالغة الخطورة أهمها : أنه لا يمكن بحال إعادة تأسيس الدولة المنهارة بعد تفككها عرقيا وطائفيا إلا إذا توفرت عدة عوامل لا تجتمع عادة إلا مرات نادرة في التاريخ ، والنتيجة الثانية أن الولايات المتحدة ستسيطر على بقعة جغرافية هائلة صالحة في معظم أجزاءها لممارسة النفوذ السياسي ونشر التواجد العسكري ، والنتيجة الثالثة أن الحصار وعدوى التفكيك سيكون من نصيب الدول العربية في المرحلة التالية ..
5- يبدو التدرج واضحا في تراتبية التفكيك الأمريكي لهذه الدول ، فأولا كانت أفغانستان هي الأضعف والأخطر لتواجد نظام إسلامي ممثل في طالبان التي فتحت أرجاء البلاد لتنظيم القاعدة ، ثم كانت العراق الدولة التالية لتوفر مسوغات كافية لبدء الغزو ، ومن ثم فإن إيران تبدو عدوا محتملا أكثر من غيرها ، ويقدم نظام الملالي صورة دعائية سيئة كافية لترويج العداء في الغرب ضد إيران ، وأخيرا تأتي باكستان الحليفة ، والتي لن يحين دورها إلا بعد انتهاء دورها أو دور مشرف في تقديم كافة سبل الدعم للحرب الأمريكية ضد " الإرهاب " ..
وسوف تركز هذه الدراسة التي نعرضها في سلسلة من المقالات بمشيئة الله تعالى على الشأن الإيراني باعتباره في بؤرة الأحداث في الوقت الحالي ، ونظرة سريعة على التركيبة الإيرانية الداخلية تقدم لنا هذه المعلومات :
يتكون المجتمع الإيراني من عدة أعراق : الفرس بنسبة 51% ، الآذاريون 24% ، الجيلاكي والمازنداراني 8%، الأكراد 7%، والعرب 3%، والبلوش 2% ، والتركمان 2% ، أما اللغات فهي : الفارسية ، التركمانية ، الكردية ، اللورية ، البلوشية ، العربية ، أما طائفيا ، فالنسبة الرسمية : شيعة 89 % ، مسلمون سُنة 10% ، بينما تصل مصادر غير رسمية بنسبة السنة إلى نحو 20 % ..
ومشكلة الدولة متعددة الأعراق والطوائف أن هذا التعدد يضعف من الحس الجمعي بقيم ومصالح مشتركة ، وما لم يتوافر قمع سياسي أو عسكري فإنه لا يمكن توحيد البلد تحت حكم نظام واحد ، وعبر التاريخ كانت هناك صورتان فقط توحدت فيها الأعراق والطوائف ، الأولى عندما ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام – السني – في ظل حكم إسلامي ، والثانية حدثت ويمكن حدوثها لكن لفترة مؤقتة وبنسبة نجاح ناقصة ومشوهة ، وذلك عندما تعيش الأعراق والطوائف في ظل حكم ديمقراطي حقيقي ، لكن هذا النموذج في حال تطبيقه بمثالية يكون أثره كما قلنا ناقصا ومشوها ، فكيف عندما يطبق بصورة جزئية ناقصة أو مشوهة ؟ ..(/1)
وتعاني إيران حاليا من صراع متبادل بين عدة أطراف ، فهناك الصراع الشيعي الشيعي بين المحافظين والإصلاحيين ، أوالصراع بين الليبراليين العلمانيين والدينيين ، وهناك الصراع مع الأكراد ، ومع السنة ، ويعاني المجتمع الإيراني من تمزق هائل بين مختلف الأطراف التي تبدو إلى الآن متوازنة في درجة قوتها ، وإن كان معدل تنامي الرفض للدولة الدينية في نموذجها الإيراني يبدو ملمحا إلى المصير الحتمي بنشأة صراع داخلي قد يصل إلى مستوى انتفاضة شعبية شاملة أوحرب أهلية ..
ومن الظواهر اللافتة التي تؤكد هذا التوجه الجرأة الإعلامية المتزايدة على نقد نظام الملالي ، وكان المثال الأبرز مؤخرا الفيلم الشهير " مارمولك " أو " السحلية " وهو فيلم يقدم رؤية تفكيكية ساخرة لنموذج رجل الدين الذي يحكم إيران ، ويدعو الفيلم في فكرته الفلسفية إلى الربط بين خلفية النشأة والحياة لرجل الدين وبين مظهره الخارجي ، ويقدم نتيجة منطقية مؤداها أن هذا النموذج المشوه لا يصلح لحكم إيران ، وقد شاهد الفيلم حتى الآن عدد يقدر بالملايين ، وفي دور السينما فقط شاهده أكثر من نصف مليون إيراني ، وتباع أقراص DVD على الأرصفة في طهران ، وشوهد عد كبير من الملالي يقف في طوابير ليشاهد الفيلم في دور السينما ..
وقد أبرز الفيلم الفجوة الهائلة التي تنمو في أوساط الإيرانيين من حيث النظرة إلى رجل الدين الشيعي ، فهناك فريق المتدينيين الذي يعتبر هؤلاء " ملالي " يستحقون التبجيل والتقديس والطاعة ، والفريق الآخر من الشعب متأثر بالثقافة الغربية يعتبرهم " سحالي " يستحقون السخرية والإبعاد عن حكم البلاد والعباد ، فهو إذن صراع بين رؤيتين وبين ثقافتين ، يحمل كلاهما جمهور شيعي ، صراع بين السحالي والملالي ..
ونحن عندما نتهم الولايات المتحدة بالسعي لتفكيك إيران واقعيا وسياسيا ، فذلك ليس نقلا حرفيا من مصادر أمريكية تعترف بذلك رسميا ، وإنما هو استنباط واستشراف للأطماع الأمريكية الاستعمارية من خلال دلائل ومؤشرات لا يمكن التغاضي عنها ، ويجب أن نضع في اعتبارنا أن تفاعل المقاومة في العراق يمثل عقبة كبرى في سبيل تنفيذ الرؤية الأمريكية ، وأن إيران لها مصلحة عظمى في إغراق أمريكا في المستنقع العراقي لأنها تعلم جيدا أنها – وليس سوريا – تأتي تاليا على القائمة الأمريكية ، ولكن هذا الارتباك الأمريكي في العراق لا يعني أن إدارة بوش لا لا تمضي قدما في تهيئة الميدان الإيراني لمرحلة الصراع المقبلة ، فهناك ملامح كثيرة للتدخل الأمريكي الخفي في إيران سعيا لتفكيك النظام بدون تدخل عسكري ، على الأقل في المراحل الأولية ..
ونحاول في هذه الدراسة أن نفكك الواقع الإيراني – نظريا – لنتمكن من فهم المخطط الأمريكي لتفكيك إيران واقعيا ، وسوف تتضمن الدراسة المحاور التالية :
1- الشعب الإيراني ينقسم إلى فسيفساء قابلة للانهيار في أي لحظة ، فهناك فسيفساء التوجهات السياسية والمذاهب الاجتماعية وفسيفساء الأعراق وفسيفساء الأديان ..
2- هناك فئات متغربة تنمو بقوة في أوساط الشباب وترتبط في جذورها وروافدها الفكرية مع الثقافة الغربية أكثر من ارتباطها مع ثقافة الملالي والثورة الإسلامية ..
3- فساد الملالي المالي والأخلاقي ( الخمس والمتعة ) واستغراقهم في الصراعات الحزبية والنخبوية ..
4- الصراع السياسي بين المحافظين والإصلاحيين وآثاره على المدى البعيد ، وأهمها فرز الشعب الإيراني ضد نظام الملالي ..
5- المحافظون يفتتون بأنفسهم مشروعية الثورة الإسلامية بالتدريج ..
6- أين أهل السنة في هذه التركيبة المعقدة ..
7- هناك فئات من الشعب لا تزال تؤيد نظام الملالي وتدعمه بقوة انطلاقا من تعصب للمذهب الشيعي ..
8- تنامي الدور الخارجي – الأمريكي – في التأثير في الشؤون الداخلية الإيرانية ( مثال : قدرة النظام أصبحت محدودة في قمع أي انتفاضة شعبية ، إذ كثيرا ما تتخذ الإجراءات القمعية كذريعة للتدخل في الدولة من قبل القوى الدولية ) ..
9- ما هي احتمالات نجاح المخطط الأمريكي ، وماذا يحدث لو تفككت إيران ؟ ..
---------------------
"*" ( راجع في ذلك مجلة البيان عدد مقالة : الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم ، للكاتب )(/2)
تفنن في نصيحتك
أعرف أن الكثير منكم يعرف النصيحة ، وسمع بها ، ولعله طبقها ، ولكني على يقين أن الكثير من الكثير لم يقف على طرق النصيحة وفنونها على وجه الإحاطة :
ومن أجل ذلك اخترت هذا الموضوع لأسباب :
1- بيان للوسائل والطرق الشرعية والعلمية في النصيحة .
2- السعي لنشر هذا الخلق بين الجميع بلا استثناء لحاجتنا جميعاً إليه .
3- لكي نرتقي بإنسانيتنا ودعوتنا للأمام .
4- لنساهم في الحد من انتشار الرذيلة والفساد بالنصح .
5- لنقوي رابطة الحب والمودة بين العباد بالنصيحة .
6- لنكتسب خصلة التواضع والتذلل لعباد الله .
7- لنترك الحياء المذموم والخوف الأثيم بتركنا للنصيحة .
8- وأخيراً لنرفع موجبات غضب الله علينا بالقيام بهذه الشعيرة .
ولو تأملت حديث جرير بن عبد الله القائل : (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم) لعلمت أن النصيحة أمرها عظيم بل هي عظيمة الخطر ، وذلك لأنها كانت إحدى بنود البيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وما كانت بنداً من بنوده إلا لعظيم أثرها وشديد الحاجة إليها .
إن طريقك للأجر الجزيل وسعيك وراء الحسنات مفروش بأيسر الطرق ، ومنها كلمتك الجميلة ونصيحتك المتقنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (الكلمة الطيبة صدقة) وقال : (لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم) وقال : (الدال على الخير كفاعله) وحسبك قول الله جل وعلا : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ) إن كان مثقال الذره يضع في الميزان فكيف بالنصيحة التي تحتاج لترتيب وتبويب وتأليف وجمع نفس وشجاعة قلب وتطبيق . أليست في الميزان ثقيلة ؟
معاني هامه للنصيحة .
كلمة النصيحة لها طرب في الآذان وأثر على القلوب وذلك لأنها تحمل في طياتها معاني جميلة وهي : -
الحب - إرادة الخير - الإخلاص - الصدق - الامانة - الخلو من الغش - النقاء
فالعلماء يقولون النصيحة : كلمة يقصد بها إرادة الخير للمقوله له والناصح هو الصادق المخلص ( ناصح القلب لا غش فيه ) نقي الصدر .
النصح والخياطة:
إذا علمت معنى النصيحة وهي تعبر عن سد الخلل في الإنسان فالناصح إذاً كالخياط الذي يسد خلل الثوب وكلما كان الخياط ماهراً كلماً كان الثوب جميلاً لأنه اخفى العيوب والشقوق كذلك الناصح كلما كان مخلصاً متفننا كلما استطاع أن يصلح الإنسان ويخفي عثراته وعيوبه بإذن الله .
فكن خياطاً محترفاً ومتفنناً
بقلم / خالد السلطان جزاه الله كل خير(/1)
تفويض المرأة بتطليق نفسها
السؤال :
ما الذي يترتب شرعاً على تفويض المرأة بتطليق نفسها إذا أُثبت ذلك عند عقد النكاح أو بعده برضىً من الزوج و إشهادٍ و توثيق ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
تفويض الرجل امرأتَه بإيقاع الطلاق و حلّ عقد النكاح ، أو تخييرها بين البقاء في عصمته أو تسريحها المقرون بتعهده بإنجاز خيارها ؛ أمرٌ مشروع .
وقد حكي الإجماع على أن المرأة المفوضة بتطليق نفسها إذا اختارت الطلاق فلها ذلك .
قال الإمام المرغيناني الحنفي [ في الهداية ] : ( روي أن الصحابة أجمعوا على أن المخيرة لها الخيار ما دامت في مجلسها ) .
و قال الإمام الشربيني [ في مغني المحتاج : 3 / 285 ] : ( فصلٌ في جواز تفويض الطلاق للزوجة ؛ و هو جائز بالإجماع و احتجوا له أيضاً بأنه صلى الله عليه و سلم خير نساءه بين المقام معه و بين مفارقته لما نزل قوله تعالى : " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها " الخ ، فلو لم يكن لاختيارهن الفرقة أثر لم يكن لتخييرهن معنى ) .
ثم قال رحمه الله شارحاً قول الماتن : ( له تفويض طلاقها إليها ، و هو تمليكٌ فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور ) : ( له ) أي : الزوج ( تفويض طلاقها ) المنجز صريحاً كان أو كناية ؛ كطلقي أو أبيني نفسك ( إليها ) أي : إلى زوجته البالغة العاقلة ... ( و هو ) أي : تفويض الطلاق ( تمليكٌ ) للطلاق أي يعطى حكم التمليك ؛ لأنه يتعلق بغرضها كغيره من التمليكات ، فنُزِّلَت منزلة قوله ملكتك طلاقك ( فيشترط ) عليه ( لوقوعه ) تكليفه و تكليفها و ( تطليقها على الفور ) لأن التطليق هنا جواب للتمليك ، فإن أخرت بقدر ما ينقطع به القبول عن الإيجاب أو تخلل كلام أجنبي كثير بين تفويضه و تطليقها ثم طلقت نفسها لم تطلق .اهـ .
قلتُ : و كأني بجلّ أقوال العلماء - أو أقوال جُلّهم - منصبة على تقييد إيقاع طلاق المفوضة بإيقاعها أو طلبها لإيقاعه ما دامت في مجلس التخيير ، و في نفسي من هذا التقييد شيء ، بل لو أريد بالتقييد بالمجلس قبول التفويض دون إيقاع الطلاق لكان أوجه ، ربَّما !
و إنما ذهبت إلى أن ما يشترط قبوله في المجلس هو التفويض الذي يترتب عليه إعطاؤها حق التطليق ، و ليس التطليق ذاته لسببين :
أولهما : لا يكاد ما روي من آثار مشعرة بوجوب اختيار التطليق في المجلس عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يخلو من الضعف ، و من ذلك ما ذكره الإمام الزيلعي [ في نصب الراية بتخريج أحاديث الهداية ] في قوله :
( فيه – أي في تفويض الطلاق - عن ابن مسعود ، و جابر ، و عمر ، و عثمان ، و عبد اللّه بن عمرو بن العاص أحاديث مختلفة :
فحديث ابن مسعود : رواه عبد الرزاق في "مصنفه" : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود ، قال : ( إذا ملَّكَها أمرها فتفرقا قبل أن تقضي بشيء ؛ فلا أمر لها ) . و من طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في "معجمه" ، قال البيهقي : فيه انقطاع بين مجاهد ، وابن مسعود .
و حديث جابر : رواه عبد الرزاق أيضاً ، أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه ، قال : ( إذا خير الرجل امرأته فلم تختر في مجلسها ذلك فلا خيار لها ) .
و حديث عمر ، و عثمان : رواه ابن أبي شيبة ، و عبد الرزاق في " مصنفيهما " : حدثني المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد اللّه بن عمر أن عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، رضي الله عنهما قالا: ( أيُّما رجل مَّلك امرأته أمرها و خيّرها ، ثم افترقا من ذلك المجلس : فليس لها خيار ، و أمرها إلى زوجها ) . قال البيهقي: المثنى بن الصباح ضعيف ، ومن طريق ابن أبي شيبة رواه في " المعرفة ".
وحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص : رواه أبن أبي شيبة أيضاً عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو ، قال في الرجل يخير امرأته : ( لها الخيار ما دامت في مجلسها ) . و الحجاج ضعيف .اهـ .
و ثانيها : أن في مقابل هذه الآثار على فرْض صحتها حديث تخيير النبي صلى الله عليه و سلم أزواجه الطاهرات رضوان الله عليهن ففي الصحيح عن الزُّهْرِيّ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ جَاءَهَا حِين أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُخَيِّر أَزْوَاجه ، قَالَتْ : فَبَدَأَ بِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلا عَلَيْك أَنْ لا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك ) .
قلت : و هذا نصٌ في التفويض حتى بعد انقضاء المجلس لأن استشارة أبوي الصديقة لن تكون على الفور .(/1)
و خلاصة ما يظهر لي : أن التفويض صحيح ، و تترتب عليه نتيجته شرعاً ؛ و هي إيقاع الطلاق من المرأة ابتداءً ، أو باختيارها ، و لكن يشترط لصحة التفويض ما يشترط في عقود التمليك كالبيع و الشراء و الهبة و ما إلى ذلك ، من اقتران الإيجاب بالقبول في المجلس الواحد ، و يترتب على هذا أن الرجل إذا فوض زوجته بتطليق نفسها ، فلم تقبل التفويض حتى انفض المجلس أو قبلته بعد وقت طويلٍ – عُرفاً – فإن التفويض لا يقع ، و عليه فلو طلقت نفسها باعتبارها مفوضةً بذلك لم يقع تطليقها ؛ لفساد التفويض ، أما إذا قبلت التفويض في المجلس و كان غير مقيد بزمن ، ثمّ اختارت الطلاق فيما بعد فلها ما اختارت .
و ما ذهبت إليه في هذه المسألة هو اختيار جماعة من أهل العلم رحمهم الله .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الأحزاب : ( اختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر و لم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، و على هذا أكثر الفقهاء . و قال مرة : لها الخيار أبداً ما لم يعلم أنها تركت ، و ذلك يُعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها و لم تختر شيئا كان له رفعها إلى الحاكم لتوقع أو تسقط ، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها .
... و وجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .
قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) ... و هو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك و إن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن و الزهري ، و قال به مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : و الذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، و لم يجعل قيامها من مجلسها خروجاً من الأمر . قال المروزي . هذا أصح الأقاويل عندي ، و قاله ابن المنذر و الطحاوي .اهـ .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
تقدير ظروف الناس وأعذارهم
فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي
ومن الفقه المطلوب والمتمم لما ذكرناه: تقدير مستويات النّاس وظروفهم وأعذارهم وضعف احتمالهم في مواجهة القوى الضاغطة عليهم.
.
فمن الخطأ أن نطالب عموم الناس أن يلحقوا بجوار سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، فيقوموا إلى أئمة الجور، وطواغيت الحكم، فيأمروهم وينهوهم ويأخذوا على أيديهم، ليظفروا بالشهادة في سبيل الله، وهي أعلى وأغلى ما يتمناه مسلم لنفسه.
فهذه المنزلة فضيلة لا يقدر عليها إلاّ أولو العزم وقليل ما هم، وليست فريضة يطالب الناس بها ويحاسبون عليها.
وقد يكتفي بعض النّاس بأن يقول كلمة الحق من بعيد، وقد يلتزم الصمت لأنه لا يرى فائدة من الإنكار باللسان بعد أن رأى شحاً مطاعاً وهوى متبعّاً ، ودينيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأى أمراً لا يدان له به ـ كما جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني ـ فعكف على خويصة نفسه، وترك عنه العوام، وقد يرى فائدة الإنكار، ولكنه يعجز عن تحمل نتائجه، فيقتصر على التغيير بقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
وقد يرى البعض أن التغيير إنما يبدأ من القاعدة لا من القمة، وأن الإصلاح يجب أن يتجه إلى الأفراد أولاً، فإذا صلحوا صلحت بهم ومعهم الجماعة، وقد يرى بعض آخر أن تغيير الأنظمة الفاسدة التي قامت على التغريب والعلمانية لا يتم إلاّ بعمل جماعي، واضح الأهداف، مدروس الوسائل، طويل المراحل، عميق الجذور، تقوم به حركة إسلامية شعبية قادرة على نقل الأحلام إلى واقع معاش.
ويدخل في هذه المعاني : أن من الجائز - بل من المطلوب - شرعاً، السكوت على المنكر، مخافة وقوع منكر أكبر منه، احتمالاً لأهون الشرين، وارتكاباً لأخف الضررين، كما تقرر ذلك القواعد الشرعية.
ومن الأدلة الخاصة لذلك ما ذكره القرآن الكريم عن نبي الله هارون، أخي موسى وشريكه في الرسالة إلى فرعون وقومه، فقد ترك موسى أخاه هارون عليهما السلام، خليفة في قومه، وذهب لمناجاة ربه، وكان ما كان من أمر السامري وعجله الذهبي الذي فتن به بني إسرائيل، حتى عبدوه ((ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإنّ ربّكم الرّحمن فاتّبِعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى ))
(طه : 90-91 ).
وسكت هارون على هذا الانحراف الخطير، وأي انحراف أكبر من الشرك وعبادة عجل لا يرجع إليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يهديهم سبيلاً؟
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً لما أحدثه قومه من بعده، قائلاً: بئسما خلفتموني من بعدي، وألقى ألواح التوراة، وأخذ برأس أخيه يجره إليه في حدة وغضب ((قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتَّبعنِ أفعصيت أمري )) (طه : 93 )، فماذا كان جواب هارون (( قال يابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي )) (طه : 94 ).
فهنا يعتبر هارون عليه السلام الحفاظ على وحدة الجماعة حتى يعود زعيمها الأول، حجة له في السكوت على ضلال القوم، حتى لا يقول قائل: إنه تعجل القرار، وفرق الجماعة، ولم ينتظر عودة موسى.
ومن ذلك حديث عائشة في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم " أي: إنه عليه الصلاة والسلام ترك فعل ما يرى أنه مطلوب خشية أن يثير فتنة - عند قوم لم يتمكن الإسلام من أنفسهم بعد - بسبب هدم الكعبة وبنائها من جديد.
ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة إذا لم تكن هناك قدرة على خلعهم واستبدال آخرين صالحين بهم، مخافة فتنة أكبر، ومفسدة أعظم، تراق فيها الدماء، وتنتهك الحرمات، وتذهب الأموال، ويتزعزع الأمن والاستقرار، دون أن يتحقق تغيير.
وهذا ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح، والخروج السافر عن الإسلام ، كما في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين " إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ".
ومن هنا يتبين لنا خطأ المثاليين الحالمين الذين يطالبون النّاس بالإسلام الكامل في عقائدهم وعباداتهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم وآدابهم، أو يتخلوا عن الإسلام بالكلية، فلا وسط عندهم ولا درجات، فإما إسلام تام مطلق أو لا إسلام.
حصر هؤلاء تغيير المنكر في مرتبة واحدة، هي التغيير باليد، وأسقطوا المرتبتين الأخيرتين، وهما : التغيير باللسان، والتغيير بالقلب، حسب استطاعة المكلف ووسعه.
ونسي هؤلاء أن التكليف في شرع الإسلام بحسب الطاقة والوسع، وأن طاقات الناس تتفاوت، وظروفهم تختلف، ولهذا راعى الشرع الأعذار والضرورات، وجعل لها أحكامها الخاصة، حتى إنه ليبيح بها المحظورات، ويسقط الواجبات.
وما أعدل ما قاله الإمام ابن تيمية في ذلك:(/1)
إن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، كقوله: ((لا يكلّف الله نفسّاً إلاّ وُسعها )) (البقرة : 286 )، وقوله تعالى: ((والّذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلِّف نفساً إلاّ وُسعها )) (الأعراف: 42 )، وقوله: ((لا تكلِّفُ نفس إلاّ وسعها )) (البقرة : 233 )، وقوله: ((لا يكلِّف الله نفساً إلاّ ما آتاها )) (الطلاق: 65 ).
وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة، فقال: ((فاتّقوا الله ما استطعتم )) (التغابن: 16 )، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: ((ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الّذين من قبلنا ربّنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به )) (البقرة: 286 )، فقال: (قد فعلت ) فدلّت هذه النصوص على أنه لا يكلّف نفساً ما تعجز عنه، خلافاً للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافاً للقدرية والمعتزلة.
وهذا فصل الخطاب في هذا الباب. فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتٍ وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إيّاه، وهو مطيع لله، إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة، خلافاً للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافاً للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب.
وكذلك الكفار: من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ، ولا التزام جميع شرائع الإسلام ، لكونه ممنوعاً من الهجرة وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام : فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام ، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ((ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات فما زلتم في شكٍّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولاً )) (غافر :34 ).
وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى، فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام ، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: "إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات ".
وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس،ولا كان يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلاّ بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه.
وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين، وغير ذلك، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها.
وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سُمَّ على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها. (مجموع الفتاوى: 19/216-219 ).
الفقه في سنة الله في خلقه
ومن الفقه اللازم كذلك: مراعاة سنن الله الكونية والشرعية في التدرج، والصبر على الأشياء حتى تنضج وتبلغ مداها، ذلك أن العجلة التي هي طبيعة الإنسان عامة، والشباب خاصة، والسرعة التي هي من طبيعة هذا العصر، تجعل كثيرين من الشباب المتحمس لدينه، يريد أن يغرس اليوم ليجني الثمرة في الغد، أو يزرع في الصباح ليحصد في المساء، ذاهلين أن سنة الله الكونية تأبى هذا، فالنواة لا تصبح شجرة مثمرة إلا بعد مراحل تقصر أو تطول، حسب نوعها وتربتها ومناخها، وظروف نمائها، إلى أن تؤتي أكلها بإذن ربها.
والجنين يتكون : نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاماً يكسوها الله لحماً، ثم ينشئه خلقاً آخر، حتى يخرج إلى الحياة طفلاً ((فَتباركَ الله أحْسنُ الخَالِقين )) [المؤمنون:14 ].(/2)
والطفل ينزل من بطن أمه وليداً، فرضيعاً، ففطيماً، فصبياً، فيافعاً، حتى يبلغ أشدّه. وهكذا تتدرج الحياة في كل صورها، من مرحلة إلى مرحلة حتى تكتمل "سنة الله في خلقه "، وكذلك بدأ ديننا أول ما بدأ: عقيدة سهلة، ثم أنزل الله التكاليف شيئاً فشيئاً، وفرض الفرائض، وحرم المحرمات، وفصل الشرائع بالتدريج، حتى كمل البناء، وتمت النعمة. ونزل قوله تعالى: ((اليَوْم أكْمَلْتُ لكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينا ً)) [المائدة:3 ].
يجتمع بعض الفتية المتحمسين إلى أمثالهم، فيتشاكون ويتألمون، لما انتهى إليه حال المسلمين، فيؤلفون من أنفسهم جماعة لإصلاح ما فسد، وبناء ما انهدم، وهنا يتمنون فيسرفون في التمني، ويلمون فيغرقون في أحلام اليقظة، يحسبون أنهم قادرون على أن يحقوا الحق، ويبطلوا الباطل، ويقيموا دولة الإسلام في الأرض، بين عشية وضحاها، ذاهلين عن العوائق والعقبات وما أكثرها! مضخمين لما معهم من إمكانات وما أقلها! فهم كالرجل الذي قال لابن سيرين: إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح، فما تعبير رؤياي؟! قال: أنت رجل كثير الأمانيّ والأحلام!
ورضي الله عن الإمام علي حين قال لابنه في وصيته: "... وإيَّاك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النوكي! يعني: الحمقى ".
وما أصدق ما قال الشاعر قديماً:
وَلاَ تَكُن عَبْد المُنى فَالْمُنى رُؤُوس أَمْوَال المَفَالِيس!
إن الواقع السيئ لا يتغير بالأماني الطيبة، فإن لله سنناً في تغيير المجتمعات والأقوام لا تحابي أحداً.
وقد كتب الباحث السوري الأستاذ جودت سعيد كتاباً قيماً في "سنن تغيير النفس والمجتمع" جعل عنوانه "حتى يغيِّروا ما بأنفسهم " اقتباساً من الآيتين الكريمتين:
1- ((إنَّ الله لا يُغيِّرُ ما بِقوْمٍ حتى يُغيِّروا مَا بِأَنْفُسِهِم ْ)) [الرعد:11 ].
2- ((ذلِكَ بِأّنّ الله لَمْ يَكُ مُغيِّراً نِعْمةً أنْعمَها على قَوْمٍ حتّى يُغيِّروا ما بِأَنْفُسِهم )) [الأنفال:53 ]، وهو دراسة نفسية اجتماعية عميقة في ضوء القرآن الكريم.
ومن جيد ما قاله في مدخل بحثه:
في شباب العالم الإسلامي من عندهم استعداد لبذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الإسلام، ولكن قلّ أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة، لينضج موضوعاً، أو يصل به إلى تجلية حقيقية، مثلاً: كمشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم بين سلوكه وعقيدته، إذ كثير من الأسئلة التي تطرح، ولا جواب شافياً لها، مع أنه لا يمكن التغيير من وضع إلى وضع، إلاّ بعد إجابة موضوعية عن هذه الأمثلة، ولا يمكن ذلك إلاّ بعد الدرس والتحصيل.
والسبب في بطء نمو دراسات من هذا النوع، هو أنه لم تكشف بعد قيمة الدراسة في الوسط الإسلامي، والذي ظل وقتاً طويلاً يرى "السيف أصدق أنباء من الكتب "، ولم يكن اتجاهه إلى أن (الرأي قبل شجاعة الشجعان ).
وظلت هذه الآراء المختلفة في ظلمات بعضها فوق بعض، ولم يروا العلاقة الصحيحة بينها، ولا الترتيب الطبيعي لها.
كما لم تدرس بعد في العالم الإسلامي شروط الإيمان، وليس معنى هذا أنهم لم يحفظوا أركان الإيمان والإسلام، ولكن نعني بشروط الإيمان، الشروط النفسية، أي: ما يجب تغييره مما بالنفس، لأن هذا التغيير هو الذي يتيح ثمرات الإيمان، أي: شروط مطابقة العمل مع العقيدة،وموانع إعطاء العقيدة ثمراتها.
وإلى الآن ينظر إلى بذل المال وبذل النفس على أنهما أعلى المراتب، دون مراعاة ما يجعل بذل المال والنفس مجدياً، إذ ليس الأمر مجرد بذل وكفى، لأن البذل لا يعطي نتائجه إلاّ بشروطه الفنية.
إنّ هذا النظر، يساعد على إمكان أن يبذل الشاب المسلم ماله ونفسه، بينما لا يتيسر له حبس نفسه على بذل الجهد المتواصل للدرس والفهم.
وهناك سبب آخر، وهو أن بذل المال وبذل النفس، يمكن أن يتم في لحظة حماس وتوتر، ولكن طلب العلم لا يتم في لحظة حماس، وإنما يتم في جهد متواصل يحتاج لنوع من الوعي، كوقود، يجعل الاستمرار ممكناً.
نعم: كثير من الشباب، في لحظة من لحظات الحماس، يبدؤون أعمالاً ودراسات في مواضيع مختلفة، ولكن بعد جلسة أو جلستين أو أكثر من ذلك، يفتر الحماس، وينزل الملل، ثم ينقطع ما بدأ من عمل، كما ينطفئ المصباح حتى يفقد وقوده.
فلا بد من درس هذه النظرات المعوقة، وكشف عوامل الغفلة عن الدراسة، أو الانقطاع عنها بعد البدء، لأن ذلك يحدث ضمن شروط معينة دقيقة، تخفى عن النظرات العجلى. .
وكذلك من المفارقات، أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع، دون أن يخطر في بالنا، أن ذلك لن يتم، إلاّ إذا حدث التغيير قبل ذلك بما بالأنفس، ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا، ولا نشعر أن كثيراً مما فيها، هو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريد أن يزول، ونحن نشعر بثقل وطأته علينا، ولكن لا نشعر بمقدار ما يساهم ما في أنفسنا، لدوامه واستمراره.(/3)
فهذا ما يريد القرآن أن يعلمه البشر، في تفسير ما يحل بهم، حين يلح في إظهار: أن مرد المشكلة إلى "ما بالنفس " وليس من الظلم الذي يحيق بالإنسان من الخارج، بل، من الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه، وهذا هو لب التاريخ، وسنة الاجتماع، الذي يقرره القرآن، وبإغفاله تظلم الحياة، وتنشأ الفلسفات المتشائمة الخانعة، أو الفلسفات المتسلطة المارقة.
ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه أن لا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع "الآفاق والأنفس " فيهمل نفسه، ولا يضعها في المكان الذي يسخر الآفاق والأنفس على أساس السنن المودعة فيها، وبناء على هذا يمكن أن نقول:
إن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشاكل: إما أن يفرض فيها أنها تخضع لقوانين، وبالتالي يمكن أن تخضع المشكلة للسيطرة عليها وتسخيرها، وإما أن يفرض فيها أنها لا تخضع لقوانين، أو لا يمكن كشف قوانينها، وبين هذين الموقفين مواقف متعددة، يتفاوت فيها القرب من أحدهما والبعد عن الآخر.
إن لكل من الفرضيتين نتائج عملية، تظهر في مواقف البشر وسلوكهم، بصور متفاوتة، على حسب الخضوع لأحد الموقفين.
وعجز المسلمين أن يعيشوا وفقاً للعقيدة الإسلامية، مشكلة لا يحتاج إثباتها إلى بذل جهد كبير.
ولكن بعد التسليم بأنها مشكلة، يبقى أن يظهر، أي الموقفين يتخذ المسلمون إزاءها؟ هل يتخذون الموقف الأول؟ بأن يفرضوا وجود قوانين تخضع لها المشكلة، وبكشفها يمكن السيطرة عليها وتسخيرها؟ أم يعتقدون أن المشكلة لا تخضع لقوانين يمكن أن يكشفها الإنسان، وبالتالي لا جدوى من جد الإنسان للبحث عن هذه القوانين، لأن القوانين التي تخضع لها المشكلة، حسب اعتقاد البعض، "تعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة، غامضة الأسباب ".
إن طرح هذا الموضوع بصيغة تجعله تحت وعي المسلم، يفيده لأن يحدد عن وعي موقفه من المشكلة، ويخرج من الموقف الغامض الذي يتخذه، وفي أحيان كثيرة يختلط الموقفان بصورة مشوشة في ذهنه، بحيث يشل أحدهما مفعول الآخر، فيبقى الموضوع في غموض وشلل.
إن لسلامة النظرية، أثراً هاماً في الوصول إلى الحل، بل يتوقف الحل،على صحتها ومقدار وضوحها.
حوار حول سنن النصر وشروطه
قال لي بعضهم يوماً: ألسنا على الحق، وخصومنا على الباطل؟
قلت: بلى.
قال: ألم يعدنا ربنا بأن ينصر الحق على الباطل، والإيمان على الكفر، وكان وعد ربي حقاً؟
قلت : بلى، ولن يخلف الله وعده. .
قال: فماذا ننتظر؟ ولماذا لا نبدأ المعركة مع الباطل؟
قلت: قد علمنا ديننا أن للنصر سنناً لا بدأن تراعى، وشروطاً لا بد أن تستجمع،ولولا ذلك لقام النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الجهاد العسكري على الوثنية منذ أوائل العهد المكي،ولم يقبل أن يصلي عند الكعبة وحولها الأصنام من كل جانب.
قال : وما تلك السنن والشروط؟
قلت : أولاً، لا ينصر الله الحق لمجرد أنه حق، بل ينصره بأهله ورجاله المؤمنين المترابطين المتآخين على كلمة الله، كما قال تعالى لرسوله: ((هُوَ الذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤمِنينَ، وألَّف بَيْنَ قُلُوبِهم )) [الأنفال:62 ].
قال: وأين الملائكة التي تنزل بالنصر إعزازاً لحق، وإذلالاً للباطل؟ تلك التي أنزلت في بدر والخندق وحنين؟
قلت: الملائكة موجودة، ويمكنها أن تتنزل - بإذن الله - بالمدد والنصر،ولكنها لا تتنزل في فراغ، وإنما تتنزل به على مؤمنين يجاهدون ويعملون في الأرض، ويحتاجون إلى مدد من السماء يعينهم ويثبتهم، وفي هذا يقول القرآن في قصة بدر ((إذْ يُوحِي ربُّك إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعكُم فَثَبِتوا الذين آمنوا ))، فلا بد أن يوجد "الذين آمنوا أولاً، حتى يكونوا أهلاً لنزول الملائكة عليهم.
قال : وإذا وجد المؤمنون جاء النصر؟
قلت : لا بد أن يعملوا جاهدين لنشر دعوتهم، وتبليغ رسالتهم، وتكثير عددهم، وتوسيع قاعدتهم، وإقامة الحجة على مخالفيهم، وكسب الرأي حولهم، حتى يكون معهم القوة التي يقدرون بها على مواجهة أعدائهم، فليس من المقبول عقلاً ولا شرعاً أن يواجه الواحد مائة أو ألفاً، وأقصى ما ذكره القرآن أن يواجه الواحد من المؤمنين عشرة من الكافرين ((إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون َ)) [الأنفال:65 ] وهذا في حال القوة والعزيمة، أما في حال الضعف والرخصة، فقد قال تعالى: ((الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال:66 ]
قال: ولكن خصوم أهل الحق لا يمكنونهم من نشر فكرتهم، وأداء أمانتهم، بل يزرعون الأشواك في طريقهم، ويطفئون الشموع بين أيديهم، ويضعون الألغام تحت أرجلهم.(/4)
قلت: وهنا يأتي شرط لا بد منه لاستحقاق النصر والتمكين، هو الصبر على الأذى وطول الطريق، والثبات في مواجهة الاستفزاز والتحدي كما في حديثه صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عبَّاس "واعلم أن النصر مع الصبر ".
ولهذا أوصى الله رسوله صلى الله عليه وسلم في ختام عدد من السور المكية بالصبر.
ففي آخر سورة يونس: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين َ))
وفي آخر سورة النحل: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ . إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون َ))
وفي آخر سورة الروم : ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ )) وفي آخر سورة الأحقاف: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُم ْ))
وفي آخر سورة الطور: ((واصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ فإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم )).
قال صاحبي: ولكن الصبر قد يطول دون أن نقيم للإسلام دولة تحكّم شريعته، وتحيي أمته، وترفع في الأرض رايته.
قلت: ألا يتعلم على يديك جاهل؟ ألا يهتدي ضال؟ ألا يتوب عاص؟ ألا.. ألا..
قال : بلى ...
قلت: هذا في ذاته كسب كبير، وغنم عظيم، وكل فرد تنتشله من وحل الجاهلية إلى صراط الإسلام يقربنا من الهدف الأكبر، بل هو نفسه هدف تحقق، وفي الحديث الصحيح: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ".
ثم إن الذي علينا، والذي نحاسب عليه، أن ندعو ونربي ونعمل، وليس علينا أن نحقق النصر، علينا أن نبذر الحب، ونرجو الثمر من الرب.. إن الله لن يسألنا: لماذا لم تنتصروا؟ ولكن سيسألنا: لماذا لم تعملوا؟!
((وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون َ)) [التوبة:105 ].(/5)
تقسيط الصدمة والترويع!!
حينما شنّ بوش حربه القذرة ضد العراق، هو ومن حوله من عصابة الحقد، أطلق على حربه اصطلاح «الصدمة والترويع». ويبدو أنه كان صادقاً في هذه الجزئية، وكاذباً في كل ما عداها، فقد كذب هو وعصابته حينما قال إنه يغزو العراق لتنظيفه من أسلحة الدمار الشامل، وكذلك كذب حينما ادعى أنه ذهب لإرساء ما يسمى «الديمقراطية»، وكذب حينما أنكر علمه بفضيحة الأسرى العراقيين... إلخ.
أما الصدمة والترويع فقد حاول بوش تحقيقها من خلال أطنان القنابل التي أسقطها على أهل العراق ومدن العراق وأطفال ونساء العراق. ومارس الترويع من خلال جيشه الذي يداهم البيوت في منتصف الليل ويقتحمها فجأة ليروّع النساء والأطفال ويذلَّهم، بينما نجد أن ذلك الجيش المدجج يهرب مصدوماً مروَّعاً من أبطال الفلّوجة، فمن الذي صُدم يا تُرى؟!
أما الصدمة الأخيرة التي حاول ممارستها فهو ترويع وإذلال السجناء الموقوفين في سجون العراق، من خلال وسائل تعذيب تقشعرّ لها الأبدان، تُذكِّر المسلمين بمحاكم التفتيش في الأندلس، ومن ضمن الصدمة والترويع تقسيط إنزال الصور البشعة من خلال وسائل الإعلام، ومن المتوقع أن تُنشر صور أخرى في الأيام القادمة أكثر بشاعة، لأن وسائل الإعلام وبعض المتابعين يقولون إن المخفي أعظم، ويقول الإعلام إن إيران تملك صوراً أخطر، ويقول أيضاً إن القنوات الفضائية الناطقة بالعربية وبخاصة النشطة منها تملك العديد من الصور وأشرطة الفيديو، منذ معركة المطار وما حصل فيها وإلى يومنا هذا، لكنها لا تجرؤ على نشرها إلا بعد إذن أميركا، وقد تسمح أميركا بنشرها حين يحين وقت النشر! وتكون بذلك قد ساعدت في تقسيط الصدمة والترويع! قرآن كريم(/1)
تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فهذا التقسيم مأخوذ من الاستقراء والتأمل . لأن العلماء لما استقرءوا ما جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظهر لهم هذا ، وزاد بعضهم نوعا رابعا هو توحيد المتابعة ، وهذا كله بالاستقراء .
فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده ، وهذا هو توحيد الألوهية ، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور ، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام ، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأنه لا شبيه له ولا كفو له ، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والمشبهة ، ومن سلك سبيلهم .
ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ورفض ما خالف شرعه ، وهذا هو توحيد المتابعة ، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة ، ومن ذلك قول الله سبحانه :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )( الفاتحة : 4 )
وقوله عز وجل :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة :21 )
وقوله جل وتعالى:( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )( البقرة : 163 )
وقوله سبحانه :(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (57)( الذاريات :56 ، 57)
وقوله سبحانه :(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )( الأعراف :54 ) .
وقال سبحانه :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )( الشورى :11)
وقال عز وجل :( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ( الإخلاص ).
وقال جل شأنه:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ( آل عمران :31 ) .
وقال سبحانه :( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )( النور :54 ) والآيات الدالة على ما ذكر من التقسيم كثيرة .
ومن الأحاديث : قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق على صحته(خ/ 2856، م/ 30) : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "
وقوله عليه الصلاة والسلام :" من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " رواه البخاري ( 4497) ومسلم ( 92) .
وقوله لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام قال : "( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة .. الحديث " متفق عليه (خ/ 50، م/ 9) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله " متفق على صحته (خ/ 2957 ، م/ 1835 ) .
وقوله عليه الصلاة والسلام : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " رواه البخاري في صحيحه (7280) والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع " .
وقال :" فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده ، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته ، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله " .(/1)
نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا من حكام ومحكومين للفقه في دينه والثبات عليه والنصح لله ولعباده ، والحذر مما يخالف ذلك ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ( 6/ 215 ).
موقع الإسلام سؤال وجواب(/2)
تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين
الكاتب: الشيخ د.عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.... وبعد
فهذا بحث عن التقنين لأحكام الشريعة، حاولت فيه استيفاء أهم الجوانب المتعلقة بقضية التقنين باعتبارها من قضايا الساعة التي تطرح، ولابد من توضيح الأمر فيها وعرض وجهات نظر المانعين والمجيزين، وحرصت في هذا البحث على جمع المتشابه من الأدلة، وصياغة بعضها بأسلوب سهل.
أسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير, وقد رأيت تقسيم البحث إلى فصول:
الفصل الأول: تعريف التقنين لغة واصطلاحا.
الفصل الثاني: في تاريخ التقنين.
الفصل الثالث: حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به.
الفصل الرابع: المانعون للتقنين وأدلتهم.
الفصل الخامس: المجيزون للتقنين وأدلتهم.
الفصل السادس: الرأي المختار، والتوصيات.
ثم فهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.
وقبل الدخول في فصول هذا البحث أود أن أؤكد على النقاط الآتية:
1. مسألة التقنين من القضايا الاجتهادية، التي يسوغ فيها الخلاف. وبالتالي فلا إنكار على أي من الفريقين المختلفين طبقاً لما قرره علماؤنا من أن المسائل الاجتهادية إجمالاً لا إنكار فيها على أحد من المختلفين.
2. أن مسألة التقنين ليست وليدة الساعة، وليس بحثها وتوضيح القول فيها بدعاً من القول، فقد أشار بها الخليفة العباسي المنصور على الإمام مالك، وقد جرى تطبيق التقنين عملياً عبر مجلة الأحكام العدلية في أواخر عهد الدولة العثمانية.
وقد عُرضت هذه المسألة على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عام 1393 هـ لبحثها وإعطاء الرأي فيها، وخرجت اللجنة بقرار أغلبي خالف فيه جمع من العلماء، ورأوا جواز التقنين. (أ)
3. أن ما أستجد في هذا الوقت من توسع المحاكم، وزيادة عدد القضاة، بالإضافة إلى كثرة الحوادث وتشعّبها، وضعف الملكة العلمية عند كثير من طلاب العلم في الكليات الشرعية التي تخرج القضاة بالإضافة إلى انفتاح مجتمعنا على بقية المجتمعات العالمية خاصة مع قرب انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية ومطالبة الآخرين لنا بنظام قضائي واضح ومحدد. كما أن أنظمتهم واضحة ومحددة بشكل كبير. كل ذلك يتطلب منا – في نظري –إعادة النظر في حكم التقنين. والله أعلم.
الفصل الأول
تعريف التقنين
أولا: التقنين لغة: مصدر " قنن " بمعنى " وضع القوانين " وهي كلمة مولدة (أي غير عربية الأصل)، والقانون " مقياس كل شيء وطريقة ". (1)
ثانيا: التقنين اصطلاحا: هو:صياغة الأحكام في صورة مواد قانونية مرتبة مرقمة، على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية... الخ. وذلك لتكون مرجعا سهلا محددا، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون.(2)
وعرفه الدكتور وهبة الزحيلي بأنه: " صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهدة لها، جامعة لإطارها، في صورة مواد قانونية، يسهل الرجوع إليها ". (3)
وعرفه بعض الباحثين بأنه: صياغة الأحكام الفقهية ذات الموضوع الواحد التي لم يترك تطبيقها لاختيار الناس، بعبارات آمرة يميز بينها بأرقام متسلسلة ومرتبة ترتيبا منطقيا بعيدا عن التكرار والتضارب
وهذا التعريف احتوى على العناصر التالية للتقنين:
1. الصياغة: وهي ميزة التقنين عن الفقه المدون.
2. الترتيب والترقيم: وهي ميزة أخرى تجعل الرجوع للأحكام سهلا.
3. قوله:الآمرة: للتمييز بين مجرد بيان الأحكام، والإلزام بها، وهو من طبيعة القوانين.
4. (قوله:لم يترك تطبيقها لاختيار الناس) أي ليس لهم أن يمتنعوا عن تطبيقها فإن امتنعوا فإنها غير متروكة لهم بل تدخل في جوانب أخرى في ذلك كالعقوبات.
5. ذات الموضوع الواحد: لان القوانين عادة تفصل بين كل موضوع وآخر ولا يمنع ذلك أن تكون مجموع هذه المواضيع تمثل تقنين الفقه الإسلامي. (4)
ومن هنا يتبين أن صياغة المسائل الفقهية في مواد كالمواد القانونية أي تدوين الأحكام لا يسمى تقنينا على الصحيح، ولا يعدو هذا النوع من التأليف أن يكون مؤلفا من المؤلفات ومرجعا من المراجع. (5)
الفصل الثاني
في تاريخ التقنين
يرى بعض الباحثين أن مبدأ فكرة جمع الناس على رأي واحد في القضاء وهو خلاصة (فكرة التقنين) قد جاءت من قبل عبدالله بن المقفع (6) – المتكلم في عدالته - الأديب المشهور، في رسالته الموجهة إلى أمير المؤمنين في عصره(7) وعلى فرض ثبوت ذلك، فلا يظهر لي أن ذلك مطعن ترد به الفكرة، فالحكمة ضالة المؤمن، فإذا ثبت صلاحية الرأي قُبل وإن جاء به الكافر أو الفاجر كما قال معاذ ابن جبل رضي لله عنه " أن المنافق قد يقول كلمة الحق، فاقبلوا الحق، فإن على الحق نوراً ".(8)(/1)
كما أن فكرة إلزام الناس بالتقاضي على رأي واحد قد رويت في لقاء الإمام مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور، والمهدي، وهارون الرشيد، وقد أراد المنصور أن يلزم الناس بكتاب الموطأ - وهو للإمام مالك – ولا يتعدوه إلى غيره فأبى الإمام مالك ذلك. (9)
وقد ظهرت محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنين الماضيين منها (الفتاوى الهندية) لجماعة من علماء الهند، لتقنين العبادات والعقوبات والمعاملات، ومجلة (الأحكام العدلية) التي تضمنت جملة من أحكام: البيوع، والدعاوى، والقضاء وصدرت هذه المجلة عام 1869 م، واحتوت على 1851 مادة أستمد أغلبها من الفقه الحنفي وقد ظلت هذه المجلة مطبقة في أكثر البلاد العربية إلى أوساط القرن ا العشرين. (10)
وكان من البواعث على تأليف مجلة الأحكام العدلية ما يلي:
1. اتساع المعاملات التجارية وازدياد الاتصالات بالعالم الخارجي.
2. وجود قضاة في المحاكم النظامية ومجالس تمييز الحقوق لا اطلاع لهم على علم الفقه وأحكامه، فكان تقنين الأحكام ليسهل عليهم الإطلاع عليها. (11)
وقد عُني الفقهاء والباحثون بالمجلة وشرحوها، كما كان الفقهاء القدامى يشرحون المتون الشرعية، متبعين في شروحهم ترتيب المجلة لا الترتيب الفقهي.
ومن مشروعات القوانين المستمدة من الشريعة والتي قام عليه أفراد، وان لم يصدر بتطبيقها قرارات رسمية ما يلي:
1- مشروعات القوانين التي وضعها محمد قدري باشا حيث وضع ثلاثة مشاريع قوانين هي:
أ- مرشد الحيران إلى معرفة حقوق الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان، وتضمنّ 1045 مادة.
ب- الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان، وشرحه محمد زيد الأبياني في ثلاثة مجلدات.
ج- قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف ويتكون من 646 مادة، وطبعته وزارة المعارف المصرية في المطبعة الأهلية سنة 1893 م وتوجد منه نسخة في مكتبة الرشيد نعمان تحمل الرقم المتسلسل 11330. (12)
2- مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، لأحمد بن عبدالله القاري المتوفى سنة 1309هـ (13) رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة سابقاً، وقد اقتصرت فيها على المذهب الحنبلي من خلال كتبه المعتمدة، واحتوت المجلة على 2382 مادة وقد نسج القاري كتابه هذا على منوال مجلة الأحكام العدلية. (14)
3- " ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب مالك " لمحمد محمد عامر، وقد وضعه على صورة مواد قانونية. (15)
- وهناك مشروعات قوانين استمدت من الفقه الإسلامي وقامت عليها جهات رسمية. (16)
ومنها: ما قام به مجمع البحوث الإسلامية في مصر حيث أصدر مشروعاً متكاملاً لتقنين المعاملات على المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، في ستة عشر جزءاً صغيراً، قرنت فيه كل مادة بتذييل توضيحي يبين المراد منها، ولكل مذهب أربعة أجزاء (17).
الفصل الثالث
إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به
التقنين في حقيقته إلزام القاضي بالقضاء بأحكام معينة لا يتجاوزها مهما خالفها اجتهاده لو كان مجتهداً.
وقد تكلم الفقهاء الأقدمون – رحمهم الله – عن حكم مسألة هي أصل لمسألة التقنين وهي:
حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به ولهم قولان في ذلك كما يلي:
القول الأول: لا يجوز إلزام القاضي بالحكم بمذهب معين، وأشتراطه على القاضي باطل غير ملزم. وهو قول عند المالكية(18)، والراجح عند الشافعية(19) وبه قال الحنابلة(20) ، وقال ابن قدامة "لا أعلم فيه خلافاً".(21)
الأدلة:
1. قول الله تعالى "فأحكم بين الناس بالحق" ] سورة ص: 26 [ والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب (22) وإذا ظهر له الحق وجب عليه العمل به.
2. الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه: حيث صرح به غير واحد من السلف ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كما في مجموع الفتاوى 35 / 357، 360، 365، 372، 373، والمجلد 27 / 296 –298 والمجلد 30 / 079(23).
3. أنه ليس لمن ولى أمراً من أمور المسلمين منع الناس من التعامل بما يسوغ فيه الاجتهاد، (24) ولهذا لما أستشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه.
القول الثاني: يجوز الإلزام بالحكم بمذهب معين ويصح اشتراط الحاكم على القاضي أن يقضي به.
وإلى هذا القول ذهب الحنفية(25) وهو قول عند المالكية (26) وبه قال السبكي وغيره من الشافعية. (27)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1. أن إلزام القاضي بمذهب معين لا يتجاوزه فيه مصلحة فإذا رأى الحاكم وجود هذه المصلحة جاز له الإلزام. ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه استدلال بمحل النزاع فإن المانعين من التقنين لا مصلحة عندهم في هذا الأمر. (28)
2. أن القاضي مفوض إليه القضاء على مذهب معين فليس له أن يتجاوزه إلى غيره حتى وإن خالفه اجتهاده لأن التولية لم تشمله. (29) فكأن القاضي هنا بمثابة الوكيل أو النائب عن الحاكم.(/2)
أما الترجيح في هذه المسألة فسوف أتركه حتى الانتهاء من أدلة المانعين والمجيزين للتقنين، حتى تتضح الأدلة كاملة، إذ أن مسألة التقنين فرع عن هذه المسألة كما ذُكر آنفا. والله أعلم
الفصل الرابع
المانعون للتقنين وأدلتهم
قال بالمنع طائفة من المعاصرين ومنهم الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ بكر أبو زيد، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام.
حيث نقل الشيخ بكر أبو زيد عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كلاماً طويلا له في مخاطر التقنين، وأما الشيخ بكر فله بحث منشور ضمن كتابه فقه النوازل وعنوان بحثه (التقنين والإلزام).
والشيخ البسام – رحمه الله - له رسالة بعنوان (تقنين الشريعة أضراره ومفاسده). (30)
وممن قال بالمنع كذلك: هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حيث تناولت موضوع التقنين تحت عنوان (تدوين الراجح من أقوال الفقهاء)، وقسمته إلى جزئين، الأول حول التدوين، والثاني حول اللزوم(31). وصدر قرارها بالأغلبية بالمنع من التقنين.
أهم أدلة القائلين بمنع التقنين:
1. الآيات التي توجب الحكم بما أنزل الله ومنها قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" ] النساء: 105 [ وقوله تعالى: "فأحكم بين الناس بالحق" ] ص:26 [، فهاتان الآيتان تأمران بالحكم بما أنزل الله وهو الحق، والحق لا يتعين بالراجح من أقوال الفقهاء، لأنه راجح في نظر واضعيه دون سواهم فلا يصح الالتزام به ولا اشتراطه على القضاة عند توليتهم ولا بعدها(32) ومن الآيات كذلك قوله تعالى: "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" ] الشورى: 10 [ وقوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" ] النساء: 59 [ ووجه الاستدلال بهاتين الآيتين: أن الواجب هو الرجوع إلى حكم الله ورسوله، ولا يتعين حكم الله ورسوله في مذهب معين أو رأي معين ولا في قول مرجح والحكم بالرأي الراجح حكم بغير ما يعتقد القاضي أنه حكم الله ورسوله فهو حرام ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين. (33)
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيات السابقة أنها عامة، وليست في موضوع الإلزام، ويصعب القول بأن ما يختاره العلماء من الأقوال الراجحة هو خلاف الحق، أو أننا إذا رجعنا إلى قولهم فإننا نرجع إلى غير كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-. فمن أين أخذ هؤلاء إذن ؟
2." قوله صلى الله عليه وسلم: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار, فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار "(34)
ووجه الاستدلال به: أن الحكم المانع من الإثم هو الذي يرى القاضي أنه الحق والرأي الراجح المدون ليس بالضرورة هو رأي الحق في نظر القاضي فإن قضى بخلاف ما عرف أنه الحق أثم ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين. (35)
ويجاب عن هذا الاستدلال بما أجيب به عن الاستدلال السابق.
3. الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه. كما نُقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية(36) وغيره.
ويجاب عنه: بأن هذا الإجماع غير مسلّم، لأنه قد وجد من العلماء من قال بخلافه(37) ثم إن القول بالمنع من الإلزام بقول واحد قول صحيح لو كان جميع القضاة من المجتهدين، أما وقد علمنا أن العدد المطلوب تعينه من القضاة للفصل بين خصومات الناس يلزم تعيين من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد – وهم كثير – فيصبح تعينهم جائز للضرورة أو الحاجة، وبالتالي فإن إلزامهم بقول واحد في هذه الحالة أمر سائغ. (38)
4. أن تدوين القول الراجح والإلزام به مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح، وعُرضت هذه الفكرة من قبل إلى جعفر المنصور على الإمام مالك فردها وبين فسادها ولا خير في شيء أُعتبر في عهد السلف من المحدثات. (39)
ويمكن أن يجاب عن هذا: أن عدم وجود هذه الفكرة عند السلف لا يعني منعها، فلعل دواعيها لم توجد، ورأى الإمام مالك رحمه الله قد خالفه فيه غيره، ولو لم يخالفه غيره ليس قوله بمجردة حجه.
5. أن الصياغة للأحكام الفقهية بأسلوب معين سواء كان من قبل أفراد أو لجان فإنها ستتأثر ببشريتهم، ونسبتها إلى حكم الله ليست دقيقة، بينما صياغة نصوص الشرع ربانية معجزة و يمكن نسبتها إلى الله فيقال أحكام الله تعالى. (40)
ويجاب عن هذا: بأن التقنين مثله مثل الفقه فهو لا يخرج عن صياغة فقهيه لا أكثر، وما بقي من ترتيب، ووضع أرقام متسلسلة فهو أمر شكلي يسهل الرجوع للأحكام ولا يؤثر في مضمونها. (41)
6. التقنين لا يرفع الخلاف في الآراء، وهو من أهم مبررات التقنين، وهذا ما أثبتته تجربة الدول التي دونت الأحكام المعمول بها، حيث يختلف القضاة في تفسير النصوص. (42) ويجاب عنه: بالتسليم بما ذكروه، لكن التقنين يحُد من الاختلاف، وإن لم يرفعه، وهذا هو المطلوب. (43)(/3)
7. أثر التقنين على حركة الفقه عامة، وعلى القضاة خاصة، حيث يؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية، لأن عمل القضاة سيرتبط بهذه القوانين شرحا وتفسيرا مما يعطل التعامل مع كتب الفقه، ويحجر على القضاة، ويوقف حركة الاجتهاد، والنشاط الفكري، لتلبية مطالب الحياة المتغيرة، ومواجهة الأنظمة والأعراف والمعاملات المتجددة. (44)
وأُجيب عن هذا: بأن التقنين ليس فيه حجر كبير على القضاة لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد، والحياة تولد من المستجدات مما يعطي القاضي المجتهد مجالا واسعا في تبني أحكام جديدة لها، ويكفيه أن يجتهد في ملابسات القضية المعروضة عليه، ويعينه على الاجتهاد في القضايا الأخرى اللجان المختصة لوضع القوانين، كما أن للأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروح ولا يستغني واضعو هذه المذكرات والشروح عن كتب الفقه. (45)
ويظهر لي والله أعلم: أن التقنين فيه كثير من التضييق على القضاة المجتهدين، وتأطير لهم ليكون عملهم ضمن مواد التقنين، لكن إنزال هذه المواد على القضايا المعروضة عليه، فيه نوع اجتهاد، مع ملاحظة قلة المجتهدين في قضاة اليوم. والله المستعان.
لكن يلاحظ هنا أن التقنين ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به
, مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد، فإن الجهة المختصة به إداريا
ستعير اجتهاده ما يستحقه. (46)
8. أن كلمة (تقنين) يخشى منها أن تكون طريقا لإحلال القوانين الوضعية مكان الشريعة الإسلامية فيكون التشابه في الاسم أولا، ثم المضمون ثانيا، عياذا بالله. فمنع هذه التسمية واجب من باب الحذر. (47)
ويجاب: بأن هذه التسمية (كالتقنين) ونحوه، مواصفات واصطلاحات المراد منها مفهوم ومعلوم للجميع، ولامشاحة في الاصطلاح، والتخوف من المصطلح لإشكاليته أو مشاكلته يمكن أن يحل بإيجاد مصطلح مناسب.
وما يذكر من أن التقنين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية والاستدلال بعمل بعض الدول التي دونت الراجح من أقوال المذهب الذي تنتسب إليه في مواد، ثم ألزمت بالعمل به في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا. فهذا مردود بأن تلك الدولة لم يقتصر تنكرها للدين على السلك القضائي في المحاكم، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا، وانتقلت إلى دولة علمانية، وكثير من الدول الإسلامية لم يكن القضاء عندها مقننا بل كانت تحكم بالراجح من مذهب إمام من أئمة المسلمين فكان منها عياذا بالله أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية وأخذت بقوانين أوربا، فليس التدوين (التقنين) وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه. (48)
9. أن الأحكام الشرعية المقننة إذا ما عدّلت- وهذا من طبيعة كل عمل بشري – فإنه يؤدي إلى زعزعة الثقة بأحكام الشريعة الإسلامية، وكثرة التعديلات التي تجرى على القوانين تبعدها عن أصلها الشرعي كما هو مشاهد في قوانين الأحوال الشخصية. (49)
وأجيب عن هذا: بأن القاضي غير ملزم بالبقاء على اجتهاده الأول إذا صح لديه الدليل باجتهاده الجديد، ومنعه – في هذه الحالة – يؤدي إلى المنع من الأخذ بالدليل، ولا يقول به أحد والتقنين مثله، كما أن القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها، بناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان. (50)
الفصل الخامس
المجيزون للتقنين وأدلتهم
أجاز التقنين جمهور الفقهاء المعاصرين، ومنهم بعض أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، كما تبين ذلك في وجهة نظر المتحفظين على قرار الهيئة بمنع التقنين من أقوال الفقهاء وهم: الشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبدالمجيد بن حسن، والشيخ عبدالله خياط، والشيخ عبدالله بن منيع والشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين(51)، وممن يرى الجواز كذلك من أعضاء هيئة كبار العلماء: الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد(52) ، ومن المجيزين للتقنين كذلك: الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ(53) والدكتور عبدالرحمن القاسم حيث كتب فيه بحثا واسعا خلص فيه إلى جواز التقنين وضرورته. (54)
ومن مشاهير المعاصرين الذين رأوا جواز التقنين: الشيخ محمد عبده(55) والشيخ محمد رشيد رضا(56) والشيخ أحمد شاكر(57) والشيخ محمد أبو زهرة(58) والشيخ مصطفى الزرقا(59) والشيخ علي الطنطاوي(60) والدكتور وهبة الزحيلي(61) والدكتور يوسف القرضاوي (62) والشيخ محمد بن الحسن الحجوي صاحب كتاب الفكر السامي. (63)
الأدلة:
استدل القائلون بجواز التقنين بأدلة أهمها ما يلي:(/4)
1. أن فكرة التقنين كانت موضع بحث وإثارة منذ أكثر من عشرة قرون، ومن آخرها ما فكر فيه الملك عبد العزيز رحمه الله من وضع مجلة للأحكام الشرعية يعهد فيها إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصين باستنباط الأحكام الشرعية من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة على غرار مجلة الأحكام العدلية، إلا أنها تختلف عنها في عدم التقيد في الاستنباط بمذهب دون آخر بل تأخذ بما تراه في صالح الإسلام والمسلمين بحسب قوة الدليل. (64)
2. أن فكرة التقنين كانت موضع التنفيذ في صورة الإلزام بالحكم بمذهب إمام بعينه في أماكن كثيرة من البلاد الإسلامية ولا يزال العمل بهذا جاريا في بعض البلاد. (65)
ومن ذلك ما صدر به قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17 / 1 / 1347 هـ المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24 / 3 / 1347 هـ بما يأتي:
أ- أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظراً لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب- إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفه لمصلحة العموم يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر.
ج- يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية:
1. شرح المنتهى.
2. شرح الإقناع.
فما اتفقا عليه أو انفردا به أحدهما فهو المتبع وما اختلفا فيه فالعمل على ما في المنتهي وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي الزاد أو الدليل إلى أن يحصل بها الشرحان وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح(66).
ويمكن أن يلاحظ – من النص السابق لقرار الهيئة – ما يلي:
أ- أن الأصل هو الإلزام بالقضاء على وفق المذهب الحنبلي.
ب- أنه لا يصار إلى خلاف المذهب إلا عن وجود المشقة ومخالفة المصلحة العموم.
ج- أن مراجعة كتب الفقه الحنبلي سهلة، وهذا صحيح، لكن هذه الخصلة ليست خاصة بالمذهب الحنبلي بل أن الصياغة القانونية للمواد تجعل مراجعة الأحكام أسهل من بقية كتب المذاهب الفقهية، وكذلك فإن ذكر الأدلة عقب المسائل ليست خاصة بالمذهب الحنبلي. (67)
3. الأدلة الدالة على طاعة ولي الأمر(68) ومنها قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" ] النساء: 59 [.
قال الشيخ محمد رشيد رضا "وفوض القرآن فيما يحتاج إليه من أمور الدنيا السياسية والقضائية والإدارية إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله: "وأمرهم شورى بينهم" وقوله: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" ] النساء: 83 [ ولهذا أمر بطاعة هؤلاء الذين سماهم أولي الأمر وهم أهل الشورى في الآية الأخرى فقال: "يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم", فهذا ما جاء به الإسلام، وهو هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها، مرتقية في سياستها وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة، ويلزم القضاة والحكّام بإتباعها والحكم بها ".(69)
ويستدل المجيزون للتقنين كذلك بالأحاديث الواردة لطاعة ولي الأمر لقوله صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره، إلا أن يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة). (70) فإذا أمر الإمام بالتقنين به، لدخوله تحت طاعته.
ويجاب عن هذا الاستدلال عموماً:
بأن طاعة ولي الأمر فيما لا معصية فيه مما لا ينازع فيه، لكن الشأن في النظر للتقنين هل هو سائغ ويحقق مصلحة للأمة كما يراه المجيزون، أو هو محرم وبالتالي فهو معصية ليس لولي الأمر أن يأمر بتنفيذها، كما يراه المانعون للتقنين.
4. أن القضاة هم بمثابة الوكلاء عن الإمام وهم نواب له، لأنهم صاروا قضاة بإذنه، و الوكيل مقيد بشروط موكله فلا يخرج عن حدودها، فإذا ألزمه بالقضاء على مذهب معين، أو بالتقنين، وجب عليه التقيد بذلك. (71)
5. أن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه شروط الاجتهاد من القضاة لا يجوز إلزامه بالحكم بمذهب معين أما إذا كان القاضي مقلدا - كما هو حال أكثر قضاة اليوم - فأقوال الفقهاء صريحة بأن إلزام هؤلاء بالحكم بمذهب معين أمر سائغ، ومن لا يرى هذا الإلزام من الفقهاء إنما يمنعونه لأنهم لا يرون توليه القضاة غير المجتهدين، وهذا فيه من الحرج مالا يعلمه إلا الله، فلم يبق إلا الإلزام بمذهب معين، لهؤلاء القضاة غير المجتهدين. (72)(/5)
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن الاجتهاد يتجزأ كما قرره بعض المحققين من أهل العلم (73) وبالتالي فإذا كان لدى القاضي القدرة على الإحاطة بالباب أو المسألة بتصورها، وأقوالها وأدلتها، وكان لديه معرفة حسنة بأصول الفقه، فلا مانع من اجتهاده في هذه القضية. والله أعلم
6. حاجة المستجدات إلى حكم شرعي يتم بالنص عليها في التقنين، وتركها لاجتهاد القضاة ليس من الحكمة لكثرة مشاغلهم, وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد، وخصوصا مع تطور الحياة، وكثرة المستجد فيها.
ومن الأمثلة على ذلك: المعاملات المصرفية ومسائل المقاولات، والمناقصات، وشروط الجزاء، ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه ونحو ذلك، مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سبباً في إيجاد محاكم أخرى، لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، و مما كان سبباً في اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين، وذلك كمحاكم فض المنازعات التجارية. (74)
7. أن ترك القضاة يحكمون بما يصل إليه اجتهادهم يؤدي إلى فوضى واختلاف في الأحكام للقضية الواحدة. (75)
بل وقع هذا الاختلاف أحيانا بين محكمتي التمييز في الرياض ومكة المكرمة. (76)
وربما أحدث ذلك بلبلة واضطراباً، وأهدر الثقة بالمحكم الشرعية ففي التقنين توحيد للأحكام في الدولة ببيان الراجح الذي يحكم به. (77)
8. أن منع الجائز لدى بعض أهل العلم قد يترتب عليه حصول مفسده، ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم – وهو عدم التقنين – ما يدعو إلى مالا تحمد عقباه، وفي التاريخ من ذلك عبر، فالمبادرة إلى وضع تدوين للأحكام الشرعية أمر مطلوب.
وأقدر البلاد على ذلك هي المملكة العربية السعودية، بحكم تطبيقها للشريعة الإسلامية، وانتشار الثقافة الشرعية الإسلامية بين أبنائها، حتى يكون عملها نموذجا يحتذى به. (78)
9. التقنين يمنع التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء كمحاكم فض المنازعات التجارية ونحوها، مما هو موجود أو في طريقه للوجود، مما كان له أثره في تفتيت الوحدة القضائية، وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية. (79)
10. أن التقنين لا يخلو من مفاسد، لكن المصالح العامة التي يحققها التقنين والتي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفظ – كما مر في أدلة هذا القول – كل ذلك يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ تطبيقا للقاعدة القائلة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" (80) (81)
الفصل السادس
الرأي المختار
بعد أن ذكرت القولين بمنع التقنين وجوازه، وذكرت الأدلة، يظهر لي- والله أعلم – اختيار القول الثاني ومفاده: جواز التقنين وذلك لما يلي:
1. وجاهة أكثر الأدلة والتعليلات التي استدلوا بها.
2. الإجابة عن أكثر أدلة القائلين بمنع التقنين
3. ما استجد في واقعنا المعاصر من ظروف تقتضي إعادة النظر في النظام القضائي، ليكون هذا النظام أكثر ضبطاً، ووضوحا بالنسبة للقاضي أو المتقاضي، وكذلك فإن احتكاك بلدنا ببقة بلدان العالم وخاصة مع الانفتاح العالمي على غيرنا، مما يستدعي كتابة المواد التي يتقاضى إليها. خاصة وأن غيرنا سيطالبنا بها، إذا أردنا أن نقاضيه إلى شرعنا، فلا يمكن أن نحيله إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن.
فإن لم يوجد شيء مقنن ومرتب، فإما أن تفوت علينا مصالح لا نستغني عنها، وإما أن نتحاكم إلى قوانين ليس لها علاقة بالشريعة الإسلامية.
والتقنين وإن لم يسلم من المؤاخذات، إلا أن الأخذ به في هذا الوقت من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما.
لكنني أرى أن التقنين يستلزم الانفتاح على المذاهب الفقهية المعتبرة وآراء المفتين من الصحابة والتابعين، وأخذ أفضل ما في كل منهما في كل مسألة بعد النظر والتمحيص في ضوء الأدلة وقواعد الاستنباط، إذ لا يوجد مذهب واحد يحتوي على الراجح في كل مسألة.
ولعل في هذا المسلك ما يدفع لزيادة الاهتمام بدراسة الفقه المقارن في الجامعات الإسلامية وفي كليات القانون، وإلى خدمة فقه المذاهب بمؤلفات جديدة تخرجه من التعقيد الوعر الذي يشاهد في كتب المذاهب، إلى التعقيد والتبسيط. (82)
وهذه بعض الاقتراحات بشأن تطبيق التقنين:
1. أرى المبادرة إلى تقنين الأحكام الشرعية للقضاء خاصة، وأقدر البلاد على ذلك هي المملكة العربية السعودية – كما قاله الدكتور وهبة الزحيلي – وذلك لأنها تطبق الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحكم فيها. وأيضا لانتشار العلم الشرعي بين أبناءها. (83)
وكذلك وجود الجامعات التي تحوي كليات الشريعة المتعددة بما فيها من علماء وأساتذة وباحثين.
وبذلك يكون عمل التقنين الذي تتولاه المملكة نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي.(/6)
2. أرى أن تشكل لجنة عليا في الدولة، مرتبطة بأعلى المسؤولين، لصياغة مواد التقنين، وهذا يتطلب عددا وافر ا من العلماء، وأساتذة الجامعات من الأقسام الشرعية والقانونية، وكذلك من الباحثين.
3. ينبغي الاستفادة من التجارب السابقة للتقنين حتى تلك التجارب التي لم يكتب لها أن ترى النور إلى التطبيق، فإن المعرفة تراكمية، مع ملاحظة تجنب السلبيات التي حفلت بها تلك التجارب.
4. عند كتابة مادة التقنين تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها، ويختار القول الراجح بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه دون الالتزام بمذهب معين وعند الاختلاف يؤخذ بالأغلبية كما هو الحال في قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية، ثم تصاغ المادة بناء على القول الراجح، ويشارك القانونيون، في هذه الصياغة، خوفا من الالتباس أو سوء التفسير، وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان.
5. يوضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية، تفصل الحالات وتذكر الاحترازات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل. على نفس الطريقة التي أتبعت في كتابة المواد.
6. يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كافٍ، يؤخذ فيه رأي القضاة، وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت، وكذلك المحامون والمهتمون بشأن القانون عموما.
والله أسأل التوفيق والسداد للجميع إنه على كل شيء قدير.
الخاتمة
أهم النتائج التي توصل إليها البحث:
1. أن فكرة التقنين (تدوين الأحكام الشرعية والإلزام بها) فكرة قديمة، وجرى الخلاف فيها بين فقهاء المسلمين.
2. جمهور الفقهاء المعاصرين يرون جواز التقنين أبرز سلبياته في نظر الباحث: إلزام المجتهدين من القضاة بقول لا يعتقدونه، وإضعاف ملكة البحث والاجتهاد عند القضاة وقد أجيب في البحث عن وجه النظر تجاه هاتين السلبيتين.
3. ترجح للباحث القول بجواز التقنين رغم بعض سلبياته، تغليبا لمصالحه الراجحة.
4. تضمن البحث بعض الاقتراحات التي يرى الباحث الأخذ بها ليتحقق المقصد الشرعي من التقنين.
والله أسأل أن يأخذ بأيدينا إلى الصواب، فهو ولي ذلك وإليه المرجع والمآب.
المصادر والمراجع
1. حُمّدي: محمد بن محمد، المتون الفقهية وصلتها بتقنين الفقه، دار البلاد للطباعة والنشر – جدة.
2. الزحيلي: وهبة، جهود تقنين الفقه الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
3. المحاميد: شويش، مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر، دار عمار، الأردن.
4. ابن حميد: صالح، الجامع في فقه النوازل، مكتبة العبيكان، الرياض.
5. ابن حجر:أحمد بن علي ، لسان الميزان، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
6. ابن خلكان:أحمد بن محمد بن أبي بكر ، وفيات الأعيان، دار صادر- بيروت
7. أبو زيد: بكر، فقه النوازل، مؤسسة الرسالة، بيروت.
8. البخاري: محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح مع شرح فتح الباري، المطبعة السلفية، مصر.
9. الأصفهاني:أبو نعيم (أخمد بن عبد الله), حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر -بيروت
10. السجستاني: أبوداود (سليمان بن الأشعث)، سنن أبي داود، بتعليق: عزت الدعاس و عادل السيد،، دار الحديث بيروت
11. القارئ: أحمدبن عبدالله, مجلة الأحكام الشرعية، دراسة وتحقيق د. عبدالوهاب أبو سليمان، و الدكتور: محمد إبراهيم محمد علي، مطبوعات تهامة، جدة - الطبعة الأولى 1401 هـ، 1981 م.
12. الحطاب: محمد بن محمد ، مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت.
13. الدردير: أحمد، والدسوقي: محمد بن عرفه، حاشية الدسوقي والشرح الكبير، مكتبة فيصل الحلبي، مصر.
14. الشيرازي: أبواسحاق، المهذب، دار الفكر، بيروت.
15. الهيثمي: أحمد بن محمد مكرم، تحفة المحتاج، ومعه حاشية الشرواني على تحفة المحتاج، دار إحياء التراث العربي.
16. ابن تيمية: أحمد بن عبدالحليم، مجموع الفتاوى، طبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين بالمملكة العربية السعودية.
17. المرداوي: علي بن سليمان، الإنصاف، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
18. ابن قدامة: موفق الدين، المغني، بتحقيق د. عبدالله التركي و د. عبدالفتاح الحلو، دار هجر، القاهرة.
19. الهيثمي: أحمد بن محمد مكرم، الفتاوى الكبرى، دار صادر- بيروت
20. أبو البصل: عبد الناصر، الحكم القضائي في الشريعة والقانون، دار النفائس – الأردن
21.مجلة البحوث الإسلامية، مجلة تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، العدد 31والعدد 33.
22. المجذوب: محمد، علماء ومفكرون عرفتهم، دار الاعتصام- القاهرة
23. مجلة أضواء الشريعة، كلية الشريعة، الرياض.العدد 4.
24. محمد رشيد رضا: الفتاوى، جمع د. صلاح الدين المنجد، ويوسف خوري، دار الكتاب الجديد-بيروت
25. الطنطاوي: علي، الفتاوى، جمعها مجاهد ديرانه، دار المنارة، جدة.
26. القرضاوي: يوسف، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية،مكتبة وهبة - مصر.(/7)
27. الحجوي: محمد بن الحسن، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، دار التراث – القاهرة
28. السيوطي: جلال الدين، الأشباه والنظائر،مطبعة مصطفى الحلبي- مصر،
29. مصطفى: إبراهيم وزملاؤه، المعجم الوسيط، المكتبة الإسلامية- تركيا
30. الذهبي:شمس الدين،سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة.
31. سليم الباز، شرح المجلة، دار إحياء التراث العربي، بيروت
32. الحصكفي: الدر المختار مع حاشية الطحطاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت.
33. ابن عابدين: محمد أمين، رد المحتار، دار الفكر-بيروت.
34. شاكر: أحمد محمد، الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين،المكتبة السلفية-القاهرة.
35. مكيّ: مجد، فتاوى مصطفى الزرقا، دار القلم – لبنان.
36. أمين: أحمد،ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي – بيروت.
الهوامش
-----------------
(أ) انظر: حمدي: محمد بن محمد، المتون الفقهية وصلتها بتقنين الفقه ص 475، دار البلاد للطباعة والنشر. وبحث تدوين الراجح من أقوال الفقهاء،منشور ضمن مجلة البحوث الإسلامية،العدد 33، ص 52
1. مصطفى: إبراهيم وزملاؤه، المعجم الوسيط، مادة قنن، 2 / 769.
2. انظر: القرضاوي: يوسف، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص 297، مكتبة وهبة- القاهرة
3. الزحيلي، وهبة، جهود التقنين الفقه الإسلامي، ص 26، مؤسسة الرسالة -بيروت.
4. المحاميد، شويش، مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر، ص 437، دار عمار – عمان – الأردن.
5. انظر: ابن حميد: صالح، الجامع في فقه النوازل، ص 101، مكتبة العبيكان، الرياض.
6. انظر ترجمته في: ابن حجر، لسان الميزان 3 / 366، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
7. أمين: أحمد،ضحى الإسلام،1/209، 110، دار الكتاب العربي - بيروت. أبو زيد: بكر، فقه النوازل 1 / 17، مؤسسة الرسالة - بيروت
8. الأصبهاني: أبو نعيم، حلية الأولياء، 1/232،دار الفكر-بيروت
9. الذهبي:شمس الدين،سير أعلام النبلاء، 8/78، مؤسسة الرسالة.
10. الزحيلي، وهبه، جهود تقنين الفقه الإسلامي ص 23. والمحاميد: مسيرة الفقه الإسلامي ص 464.
11. انظر: سليم الباز، شرح المجلة ص 10، دار إحياء التراث العربي، بيروت. المحاميد: مسيرة الفقه الإسلامي ص 464.
12. المحاميد، مسيرة الفقه الإسلامي، ص 459، 460.
13. دراسة وتحقيق د. عبدالوهاب أبو سليمان، و الدكتور: محمد إبراهيم محمد علي، مطبوعات تهامة، الطبعة الأولى 1401 هـ، 1981 م.
14. انظر: القارئ: أحمد بن عبدالله مجلة، الأحكام الشرعية، مقدمة التحقيق، ص 30، 31.
15. مسيرة الفقه الإسلامي، ص 460.
16. انظر في تفصيلها: المرجع السابق ص 454 وما بعدها.
17. انظر: الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي، ص 32.
18. انظر: الحطاب: مواهب الجليل 6 / 93، 98. دار الفكر ـ بيروت. والدسوقي: الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130.دار إحياء الكتب العلمية بمصر
19. انظر الشيرازي، المهذب 2 / 291. مطبعة عيسى الحلبي ـ مصر، و الهيثمي تحفة المحتاج10/116، دار إحياء التراث العربي-بيروت.
20. انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى، جمع: عبد الرحم بن قاسم وابنه محمد، 30 / 79، 80، توزيع الرئاسة العامة لشؤون الحرمين بالمملكة العربية السعودية، والمرداوي: الإنصاف 11 / 169، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
21. ابن قدامة: المغني 14/91، تحقيق: د.عبد الله التركي ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر-القاهرة. وفي المسألة خلاف معروف كما سيتبين عند ذكر القول الثاني.
22. أبو زيد، بكر، فقه النوازل 1 / 73.
23. انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 3 / 239.
24. انظر: الحصكفي: الدر المختار مع حاشية الطحطاوي 3 / 198، دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت. وابن عابدين، رد المحتار 5 / 408، دار الفكر-بيروت.
25. انظر الحطاب: مواهب الجليل 6 / 98. والدسوقي: الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130.
26. انظر: الهيثمي والشرواني: تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني10/116, وابن حجر الهيتمي، الفتاوى الكبرى 2 / 212.دار صادر –بيروت.
27. انظر: الحطاب، مواهب الجليل 6 / 98، والدسوقي: الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130.
28. انظر: الهيثمي: الفتاوى الكبرى 2 / 212.
29. نقل هذا القول الإمامان ابن الصرح وإمام الحرمين الجويني، انظر: المناوي: شرح عماد الرضا 1 / 293، بواسطة: د. أبو البصل: عبدالناصر، الحكم القضائي، ص 274.
30. انظر: أبو زيد: بكر، فقه النوازل 1 / 25، 94.
31. انظر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 31 ص 65، العدد 33، ص 52.
32. تدوين الراجح، بحث اللجنة الدائمة، العدد 32، 38.
33. المرجع السابق، الصفحة نفسها، وفقه النوازل 1 / 57.
34. رواه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، 4/5 (سنن أبي داود، بتعليق: عزت الدعاس و عادل السيد،، دار الحديث بيروت).
35. بحث تدوين الراجح (مرجع سابق) ع 32 ص 37.
36. انظر هامش 6 في الفصل الثالث من هذا البحث.(/8)
37. انظر: القول الثاني في حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به ص 7 من هذا البحث.
38. انظر: مسيرة الفقه الإسلامي ص 446.
39. حمدي: محمد، المتون الفقهية، ص 467.
40. من أجوبة الشيخ عطية محمد سالم، انظر المجذوب علماء ومفكرون عرفتهم، ص 212.
41. انظر: المحاميد: مسيرة الفقه الإسلامي، ص 445.
42. انظر: فقه النوازل 1 / 87، 88. ومجلة البحوث الإسلامية، العدد (31 ص 61).
43. انظر: مسيرة الفقه الإسلامي، ص 446.
44. انظر: الزحيلي: جهود تقنين الفقه الإسلامي ص 26، ومجلة البحوث الفقهية العدد 31، ص 60 ومسيرة الفقه الإسلامي، ص 443.
45. انظر: مسيرة الفقه الإسلامي ص 464.
46. انظر وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء، بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص29
47. انظر: فقه النوازل 1 / 90.
48. وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء،. بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص50.
49. من لقاء الشيخ عطية محمد سالم المسطور في كتاب: الدكتور محمد المجذوب، علماء ومفكرون عرفتهم،، 2/213، دار الاعتصام
50. انظر: مسيرة الفقه الإسلامي ص 464.
51. انظر بيان وجهة نظر هؤلاء العلماء وأسماؤهم في: بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص29ومابعدها
52. ابن حميد: صالح بن عبدالله، الجامع في فقه النوازل، ص 101.
53. انظر: مجلة أضواء الشريعة، الصادر عن كلية الشريعة بالرياض، العدد 4، ص 13، وفيها كتب الشيخ بحثا بعنوان (أحكام الشريعة بين التطبيق والتدوين).
54. انظر: أبو البصل: الحكم القضائي، ص 291.
55. انظر: مجلة المنار جـ 4 مجلة 16، ص 270 بواسطة: أبو البصل، الحكم القضائي، ص 284.
56. انظر: الحكم القضائي (مرجع سابق) ص 284.
57. انظر: شاكر: أحمد محمد، الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين، ص 30،المكتبة السلفية-القاهرة
58. من مقدمة لكتاب الإسلام وتقنين الأحكام الذي ألفه د. عبدالرحمن القاسم، ص (ن) انظر: الحكم القضائي (مرجع سابق).
59. مجد مكيّ، فتاوى مصطفى الزرقا، ص 373 دار القلم – لبنان، والشيخ رحمه الله كان يرى الوجوب لا الجواز.
60. فتاوى علي الطنطاوي، جمعها مجاهد ديرانيه، ص 29، دار المنارة – جدة
61. جهود تقنين الفقه (مرجع سابق)، ص 29.
62. القرضاوي: يوسف، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، ص 306 مكتبه وهبة – القاهرة.
63. الحجوي: محمد بن الحسن، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2 / 418، دار التراث – القاهرة.
64. انظر: وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء في المملكة، بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص 31
65. انظر: وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء في المرجع السابق، ص 35.
66. انظر المرجع السابق ص 32،33..
67. د. أبو البصل: الحكم القضائي، ص 292.
68. مجلة البحوث الإسلامية، العدد 32، ص 44.
69. محمد رشيد رضا: الفتاوى، جمع د. صلاح الدين المنجد، ويوسف خوري 2 / 625، دار الكتاب الجديد-بيروت
70. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب: السمع والطاعة، البخاري مع الفتح 13 /121،122،مصورة من نسخة المطبعة السلفية، الناشر: دار الفكر -بيروت.
71. مسيرة الفقه الإسلامي ص 441، والحكم القضائي، ص 295، وانظر قول المجيزين لإلزام القاضي بالحكم بمذهب معين ص 7من هذا البحث.
72. بيان وجهة المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء، بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص 46.
73. انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى 20/212
74. انظر: بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص 48، 49. ومسيرة الفقه الإسلامي 441.
75. انظر: مسيرة الفقه الإسلامي ص 441
76. انظر: بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص48
77. الزحيلي: جهود تقنين الفقه الإسلامي، ص 28.
78. انظر: المرجع السابق،وبحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص48
79. انظر: بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص47،48
80. انظر:السيوطي: جلال الدين، الأشباه والنظائر،ص87،مطبعة مصطفى الحلبي-مصر،
81. انظر: بحث تدوين الراجح، مجلة البحوث، العدد 33، ص46
82. انظر فتاوى مصطفى الزرقا (مرجع سابق) ص 373.
83. انظر : الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي 56.(/9)
تقويم نظام هبة الجزيرة"
د. سامي بن إبراهيم السويلم 27/9/1425
10/11/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن تقويم نظام شركة "هبة الجزيرة" يتلخص في مقامين:
الأول: حقيقة النظام والهدف المقصود منه.
الثاني: حكمه وفقاً للقواعد الشرعية.
المقام الأول: حقيقة النظام والمقصود منه
بناء على الشرح المقدم في موقع الشركة، فإن العميل يشتري قرصاً ممغنطاً بخمسمائة ريال، ثم بعد فترة يمنح حافزاً قدره 700 ريال عن كل قرص اشتراه بحسب "قوة السوق"، ثم بعد فترة أيضاً وبحسب "قوة السوق"، يمنح المتسوق مبلغ 15000 ريال، وذلك "هبة من الشركة" على حد تعبير الموقع.
فالعميل إذن يدفع 500 ريال مقابل القرص من جهة، والحوافز والهبات التي تشكل في مجموعها 15700 ريال. ولا نحتاج لكبير عناء لنعرف ما هو مقصود العميل من الشراء. فالقرص قيمته 500 ريال، أما "الهبة" فتبلغ 15000. وكل عاقل يبحث عن مصلحته يدرك أن هذه "الهبة" أكثر قيمة وأجدى اقتصادياً من القرص. فالمقصود الأهم والأعظم من الشراء هو الهبة. أما القُرص فإما أن يكون غير مقصود أصلاً، أو على أحسن الأحوال مقصوداً بحسب قيمته. فإذا كانت قيمة القُرص 500 والهبة 15000، فسيكون القُرص مقصوداً بنسبة 3%، وهي نسبة 500/15500، أما الهبة فستكون مقصودة بنسبة 97%.
أما من الناحية الاقتصادية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: من أين تأتي هذه "الهبة" التي تعادل أكثر من 32 ضعف الثمن المدفوع؟
إن الموقع نفسه يصرح بأن منح الهبة يعتمد على "قوة السوق"، كما ينص على أنه يتم توزيعها بين المتسوقين أو العملاء "بالاعتماد على مبدأ الأول ثم الذي يليه". وواضح أن هذه الهبات الكبيرة إذن تعتمد على تسلسل العملاء في الشراء، فالهبة تذهب لمن اشترى أولاً، ثم الذين اشتروا بعدهم وهكذا.
والموقع يشير إلى أن منح الهبة مرتبط بقوة السوق، والمقصود بذلك هو مستوى الإقبال على شراء المنتج من الشركة. فكلما ارتفع الإقبال وازداد عدد المتسوقين، كلما كانت فرصة الحصول على "الهبة" أكبر.
والموقع يذكر أن مصدر هذه الهبات هو الأرباح التي تحصل عليها الشركة بعد استقطاع نصيبها البالغ 10%. وبناء على ما جاء في الموقع، فإن سعر القُرص يجب ألا يقل عن 300 ولا يزيد عن 1000 ريال. وهذا يعني أن التكلفة لا تتجاوز 300 ريال بحال من الأحوال. فإذا افترضنا تنزلاً أن التكلفة في حدود 150-200 ريال، فهذا يعني أن الربح يبلغ 300-350 ريال للقرص الواحد.
ويمكننا من باب التبسيط أن نفترض أن صافي الربح بعد استقطاع نصيب الشركة يبلغ 300 ريال للقرص. فكم يجب أن يكون عدد الأقراص المباعة لتمنح الشركة هبة 15000 ريال للمتسوق الأول؟ الجواب بحسب الافتراض السابق: 15000/300 = 50 قرصاً. أي أنه يجب أن يوجد 50 متسوقاً بعد المتسوق الأول، إذا كان كل متسوق يشتري قرصاً واحداً. ولكي يمنح المتسوق الثاني 15000 ريال فيجب أن يوجد بعده 50 متسوقاً أيضاً، وهكذا. وكل واحد من هؤلاء يحتاج 50 متسوقاً بعده ليحصل على هذه "الهبة."
أي أن المتسوق الأول يحصل على هبات مالية من خلال ما يدفعه من يأتي بعده، ومن بعده ممن بعده، وهكذا. وكل منهم لا بد أن يوجد بعده عدد أكبر من المشتركين ليمكن تحقيق مبلغ "الهبة"، فتكون النتيجة النهائية هرماً من المتسوقين، كل طبقة فيه أكبر من التي تليها. وينمو هذا الهرم بحسب "قوة السوق" وبحسب مستوى الانضمام للهرم.
وهذا هو بعينه نظام التسلسل الهرمي الذي تقوم عليه شركات التسويق الشبكي، والذي تزعم الشركة أنه لا علاقة لها به إطلاقاً. إن النظام الهرمي في جوهره لا يختلف بين هذه الشركات، بما فيها شركة هبة الجزيرة، لكن قد تختلف هذه الشركات فيما بينها في الإجراءات والتنظيمات التفصيلية. لكن المبدأ والجوهر واحد: كل عضو يدفع لكي يحصل على مبلغ ممن يليه، وكل طبقة من المشتركين يجب أن تليها طبقة أكبر منها ليمكن جمع العمولات أو "الهبات" الموعودة.
وكما سبق بيانه في مناسبات عديدة، فإن الهرم لا يمكن أن يستمر في النمو إلى ما لا نهاية. فإذا توقف كانت الطبقات الأخيرة قد دفعت الثمن دون أن تحصل على "الهبة" التي كانوا يحلمون بها. فهي في حقيقة الأمر خاسرة لأنها لم تحقق الغرض الذي دفعت الثمن لأجله. وحتى في أثناء نمو الهرم، فإن كل طبقة لا يتحقق مقصودها إلا إذا جاءت بعدها طبقة أو أكثر لتحصل على العمولات أو الهبات الموعودة. فالطبقات الأخيرة دائماً خاسرة إلا إذا وجد بعدها من يدفع ويتحمل الخسارة إلى أن يأتي بعدها من يتحملها بدوره، وهكذا.
فالقول بأن نظام هبة الجزيرة لا علاقة له بالتسلسل الهرمي قول ينافي الواقع ويناقض المعطيات المصرح بها في موقع الشركة. وليس هذا غريباً عن هذه الشركات التي تجتهد بكل وسيلة لإخفاء الحقيقة عن أعين الناس، ولو كانت كالشمس في رابعة النهار.(/1)
المقام الثاني: حكم هذا النظام وفق القواعد الشرعية
إن الحكم على هذا النظام يتناول جانبين: جانب العقد بين المتسوق والشركة، وجانب مجموع المتسوقين وكيفية عمل النظام بمجموعه.
أولاً: العقد بين المتسوق وبين الشركة
إن الشركة تصرح في أنظمتها أن المتسوق يدفع 500 ريال ليحصل على القُرص بالإضافة إلى حافز قدره 700 ريال وهبة قدرها 15000. وكل من الحافز والهبة غير مضمون، بل هو بحسب ما أسموه قوة السوق. أي أن الحوافز والهبات غير متيقنة ولا مضمونة، بل هي احتمالية. وإذا قصرنا النظر على الهبة فتكون النتيجة أن المتسوق يدفع 500 مقابل قُرص بالإضافة إلى 15000 احتمالية الحصول.
وسبق في المقام الأول أن مقصود المتسوق الأهم والأكبر هو الهبة وليس القُرص، وأن هذا هو شأن العقلاء الذين يبحثون عن مصالحهم. فالمقصود إذن هو مبادلة 500 ريال بـ 15000 ريال قد تحصل وقد لا تحصل، وهذا هو القمار والميسر المحرم شرعاً. وفوق ذلك فإنه مبادلة لنقد بنقد مع التفاضل والتأخير ، فيدخل في الربا.
وأما وجود القُرص فهو إما أن يكون غير مقصود أصلاً، أو على أحسن الأحوال مقصوداً تبعاً، وإنما المقصود الأكبر والأعظم هو مبلغ الهبة. ومما يؤكد ذلك ما صرح به موقع الشركة أن من ثمرات النظام أنه "تم عقد قران أربعة من الشباب الذين استفادوا من هبات هذا النظام. وقد امتلك ثلاثة من المتسوقين منازل خاصة بعد أن كانوا في منازل مستأجرة ... " إلخ.
ولك أن تتخيل أخي القارئ كم حجم الهبات التي حصل عليها من تمكن من الزواج أو شراء بيت. إنها لا بد أن تبلغ عشرات الألوف بل المئات منها. أليس هذا أوضح دليل على أن المقصود من النظام هو الهبات وليس الأقراص؟ فالأقراص لا تزوج عزباً ولا تشتري بيتاً. فإذا كان هذا هو المقصود الحقيقي من النظام فما الداعي إذن لوجود الأقراص ابتداء؟ ولم لا يكون النظام اشتراكات نقدية مقابل "هبات" تحصل بحسب "قوة السوق"؟ الجواب واضح، فإن غياب القُرص يكشف حقيقة النظام وأنه مبادلة نقد بنقد، من جنس اليانصيب. فكم من فقير وأعزب ومستأجر استغنى وتزوج وامتلك بيتاً بسبب جوائز اليانصيب، فهل هذا كاف في الحكم بالجواز؟ وهل بهذا تصدر الأحكام الشرعية؟
فإذا كان المقصود الحقيقي والأغلب من المبادلة هو الهبة، كان الحكم مبنياً على ذلك، فتكون مبادلة نقد بنقد محتمل، مع التفاضل والتأخير، فيجتمع فيها الميسر والربا. وأما الاحتجاج بأن هذا من أسباب مكافحة الفقر، فتأتي مناقشته إن شاء الله عند مناقشة النظام بمجموعه.
ضابط الحيل
تتنوع صور التحايل على الربا والقمار، إلا أن من أبرزها أن يضم صاحب الحيلة سلعة غير مقصودة إلى أحد البدلين، ثم يزعم أن المقصود هو السلعة وليس البدل المحرم.
ولكن الفقهاء كانوا أكثر فطنة من أصحاب الحيل، ولهذا اتفقوا على منع مبادلة نقد بنقد أكثر منه، ومع النقد الأكثر سلعة. وهذ المسألة تسمى عندالفقهاء: مُدّ عَجوة. وذلك كمن يبادل 1000 ريال بسلعة ومعها 1500، فلا خلاف بينهم في منع هذه المبادلة، وذلك أن الزيادة في النقد المضموم للسلعة لا يقابلها شئ في الطرف الآخر. والبائع لا يقبل في الحقيقة هذا التبادل إذا كان النقد الأكثر حاضراً، لأنه زيادة بلا مقابل، فتكون خسارة محضة. وإنما يمكن أن يقبل ذلك إذا كان النقد الأكثر إما مؤجلاً في الذمة، فتكون المبادلة في الحقيقة قرضاً بزيادة وأدخلت السلعة تمويهاً وتحايلاً على الربا. أو يكون النقد الأكثر محتمل الحصول، فتكون تحايلاً على الميسر والقمار.
وهذا هو الحاصل بالضبط في نظام "هبة الجزيرة": فالمتسوق يدفع 500 مقابل القُرص ومعه 15000. ومعلوم أنه لا يمكن أن يقبل بذلك البائع إلا إذا كان مبلغ الـ 15000 احتمالياً قد يحصل ولا يحصل، فيكون وجود القُرص حيلة وتلبيساً لحقيقة المعاملة وهي الميسر والمقامرة.
والفقه الإسلامي بحمد الله أعظم وأجلّ من أن تنطلي عليه هذه الحيل المذمومة، وإن كان قد يقع خلاف بين الفقهاء في بعض المعاملات هل هي من الحيل المذمومة أم لا. لكن فيما اتفقوا عليه وفي الأدلة الصحيحة ما يكشف وجه الحق في هذه المسائل، لأن الله تعالى عصم هذه الأمة من الاجتماع على ضلالة. وفي النهاية فإن الله عز وجل هو المطلع على قلب كل إنسان ومراده، فمن قصد الحق وبحث عنه وتجرد للدليل فسيتبين له الحق عاجلاً أو آجلاً، وهو في ذلك مأجور إن شاء الله. ومن أراد تتبع الرخص والتلفيق بين الآراء بما يرضي هواه لا بما يرضي مولاه، فسيجد عمله عند من لا تخفى عليه خافية.
الأسماء لا تغير الحقائق
وأما تسميتها بالهبة، فهو من تسمية الأشياء بغير اسمها الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة، في الصحيح وغيره. والأحكام الشرعية لا تتعلق بالأسماء إذا كانت تنافي الحقائق. فسواء سميت هبة أو هدية أو مكافأة أو منحة أو غير ذلك من الأسماء، فهذا لا يغير حقيقة أنها المقصود الأهم في المعاوضة.(/2)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الهدية قد تكون رشوة وغلولاً، كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لجمع الصدقة، فلما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا ؟" ثم قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة" الحديث، متفق عليه، ورواه أحمد أبو داود.
فهذه التي أسماها الرجل هدية إنما هي سحت وغلول، فمجرد التسمية لا يغير من الحقيقة شيئاً، وإنما هي من التحايل المذموم على الشرع. ولذلك ذكر البخاري رحمه الله هذه القصة في كتاب الحيل. والتحايل لا يجعل الحرام حلالاً، بل يزيده تحريماً، لأنه يجمع بين حرمة الفعل وبين حرمة التحايل والتدليس.
فيقال لمن يسمي مبلغ الـ 15000 ريالاً هبة أو هدية: هلا جلست في بيت أبيك وأمك فتنظر هل يهدى إليك هذا المبلغ أم لا؟ فهذه الهدية لا تعطى إلا لمن اشترى ودفع الثمن، فتكون إذن جزءاً من المعاوضة، وليست هبة كما سموها.
وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري: "إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا". فبين رضي الله عنه أن هذه التي تبدو هدية ظاهراً هي ربا في حقيقتها، وإخراجها على صورة هدية لا يغير من الحكم شيئاً. وعبد الله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود قبل أن يسلم، فهو خبير بالربا وصوره وأنواعه. فقوله هذا مبني على علم وخبرة بحقيقة الربا، مع ما منّ الله به عليه من العلم والفقه والصحبة.
ولذلك قرر شيخ الإسلام أن الهدية إذا وجدت لسبب أخذت حكم ذلك السبب، وجعل ذلك من أصول الشريعة: "وهو أن كل من أهدي له شئ أو وهب له شئ بسبب، فإنه يثبت له حكم ذلك السبب، بحيث يستحق من يستحق ذلك السبب، ويثبت بثبوته، ويزول بزواله، ويحرم بحرمته، ويحل بحله حيث جاز له قبول الهدية. مثل من أُهدي له للقَرض، فإنه يثبت له حكم بدل القَرض. وكذلك من أُهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره، كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات، فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك. ولو كانت الهدية قبل العقد (أي عقد النكاح)، وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره، رجع بها" (الاختيارات ص334) وهذا يرجع في النهاية إلى قاعدة الشريعة في اعتبار المقاصد والنيات، وهي قاعدة كلية ثبتت من نصوص متواترة تبلغ حد القطع.
إذا ثبت ذلك فإن ما سمي هبة في هذه المعاملة ما هو في الحقيقة إلا عوض عن الثمن المدفوع، إذ لا يحصل على الهبة إلا من اشترى ودفع الثمن. ولما كان هذا العوض هو المقصود أساساً، وكان احتمالياً قد يحصل وقد لا يحصل، فالمعاملة إذن من الميسر المحرم بالنص والإجماع. ولا يفيد تسمية العوض الاحتمالي هبة أو هدية إلا زيادة الإثم والتحريم، كما سبق.
ثانياً: حكم النظام بمجموعه
سبق أن مصدر "الهبة" في هذه المعاملة هو مشتريات المتسوقين التالين للمتسوق الأول، وكل من يحصل على الهبة إنما يحصل عليها ممن يأتي بعده من المتسوقين. فالطبقات الأخيرة من المتسوقين لا تربح الهبة إلا إذا وجد بعدها طبقات جديدة. وهذا يعني أن من يكسب الهبة إنما يكسبها على حساب من يأتي بعده، وهذا لا يكسب إلا على حساب من بعده، وهكذا. فالطبقات الأخيرة دائماً خاسرة، لأن المقصود من الثمن هو الهبة كما سبق، والهبة لا تتحقق إلا بوجود طبقات تالية تتحمل هي الثمن لتحصل الهبة لمن سبقهم، وتحصل هي على الهبة ممن بعدهم. فلا يوجد من يربح إذن إلا بوجود من يخسر، وهذا هو حقيقة أكل المال بالباطل المحرم شرعاً.
أضف إلى ذلك أن من طبيعة النظام الهرمي الذي ينشأ بهذا الأسلوب أن الطبقات الدنيا الخاسرة أكبر بكثير من الطبقات العليا الرابحة. ورياضياً فإن نسبة من يربح في الهرم لا تتجاوز 6%، بينما 94% من أعضاء الهرم يخسرون. فالغالبية تخسر لكي تربح الأقلية، وهذا مع ما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل، فإنه يؤدي إلى سوء تركيز الثروة الذي تحرمه جميع الشرائع التي تراعي العدالة الاجتماعية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية.(/3)
فالنظام الهرمي في أصل طبيعته وتكوينه قائم على ربح الأقلية في أعلى الهرم على حساب الأكثرية ممن دونهم. وهذا النظام يجمع بين أكل المال بالباطل وبين سوء توزيع الثروة وتركيزها في يد الأقلية، وهي عين المفسدة التي تنشأ عن الربا والاحتكار، وحرمها القرآن بقوله تعالى: "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم". فلا يشك عاقل درس هذا النظام وأدرك حقيقته وكيفية عمله أنه مناقض للشريعة الإسلامية مناقضة صريحة، فهو كما قيل: تصوره كاف في إبطاله.
الغاية لا تبرر الوسيلة
تفخر الشركة في موقعها بأن من ثمرات النظام زواج عدد من المتسوقين عن طريق الهبات التي حصلوا عليها، وتملك بعضهم بيوتاً بعد أن كانوا في منازل مستأجرة، "وما علم الله به أكثر وأعظم." ثم أشاروا إلى ما لهذا النظام من "الأثر الكبير في مكافحة الفقر والارتفاع بمستوى المعيشة بإذن الله تعالى. ومعلوم أن الشريعة الغراء من مقاصدها رفع الفقر عن المسلمين" إلى آخر ما جاء فيه.
وأول ما يلاحظ هنا هو الاعتماد على مقاصد الشريعة بعد أن كانت مغيبة عند تبرير بيع القُرص وأنه عوض الثمن المدفوع. فإن كانت العبرة بالمقاصد فما الحاجة إذن لبيع الأقراص؟ إن هذه الأقراص لا تسمن ولا تغني من جوع في مكافحة الفقر وتزويج الشباب وإيواء المشردين. وكما سبق، فإن هذا من أوضح الأدلة على أن المقصود من النظام هو الهبات وليس الأقراص، فالواجب إذن تقويم النظام بهذا الاعتبار. ولكن هذا يعني أن النظام لا يعدو أن يكون صورة من الميسر، لأنه نقد مقابل نقد قد يحصل وقد لا يحصل.
ونقول ثانياً: لا ريب أن مكافحة الفقر من مقاصد التشريع الإسلامي، لكن الغاية لا تبرر الوسيلة، فلا يجوز سلوك طرق غير مشروعة لتحقيق الهدف المشروع. وقد كان الميسر في الجاهلية يتباهى به العرب في إعطاء المحتاج والفقير، ومع ذلك نزل القرآن بتحريمه قطعاً. كما أن اليانصيب الحكومي في دول الغرب وغيرها هدفه مكافحة الفقر وعلاج المرضى وتوظيف العاطلين، وغير ذلك من الأهداف الاجتماعية. فهل هذا يجعل اليانصيب مشروعاً؟ إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فمن رام تحقيق الأهداف النبيلة فلا بد له من سلوك الطرق المناسبة لهذه الأهداف.
ونقول ثالثاً: إن هذا النظام هو نفسه من أسباب الفقر، لأنه يركز الثروة في أيدي القلة القليلة على حساب الكثرة الكاثرة، كما سبق. فإن كان الهدف هومكافحة الفقر ومحاربة تركيز الثروة، فالواجب منع هذا النظام ومحاربته. وهذا يؤكد أن الوسائل المحرمة لا تفضي إلى مصالح مشروعة، بل إلى مفاسد محرمة. ومن نظر إلى الوسائل وأعرض عن المآلات، أو نظر إلى المآلات وأعرض عن الوسائل، وقع في التناقض ولا بد. ومن جمع بينهما ائتلفت عنده المقاصد والأحكام، واتفق الحكم الخاص بالعقد مع الحكم العام للنظام بمجموعه، وهذا بحمد الله بيّن لكل منصف.
الخلاصة
إن نظام هبة الجزيرة يجمع بين الميسر والربا، مع ما فيه من التحايل المذموم، فهو محرم شرعاً. وبيان ذلك:
1. إن المقصود الأهم من الشراء هو الهبة، وهذا هو شأن العقلاء الذين تتعلق بهم الأحكام الشرعية، وهو الواقع الذي ثبت بالرؤية والمشاهدة، وباعتراف أصحاب الشركة أنفسهم. والقُرص ما هو إلا ستار وحيلة لإخفاء حقيقة المعاملة.
2. إن المعاملة بذلك تصبح مبادلة بين 500 نقداً و15000 محتملة، وهذا يجمع بين القمار وبين الربا، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
3. إن النظام بمجموعه هو النظام الهرمي القائم على أكل المال بالباطل وربح الأقلية على حساب الأكثرية، وكلاهما محرم أيضاً بالنص والإجماع.
وختاماً ندعو كل من يرتاب في صحة هذه النتائج إلى النظر في حقيقة هذه المعاملة وغايتها، والنظر في واقع المتعاملين وما الذي يسعون له فعلاً، ثم عرض هذه الحقيقة وهذه الغاية على قواعد الشريعة وأحكامها ومقاصدها. فالأحكام الشرعية تبنى على الحقائق والمقاصد، لا على الصور والمظاهر إذا ناقضت الحقائق.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا وإخواننا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.(/4)
تكرير مياه الصرف الصحي (المياه العادِمة)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين- أما بعد :-
فإن النجاسة نوعان : منها ما هو نجاسة عينية ، ومنها ما هو نجاسة حكمية أو معنوية ؛ فالنجاسة العينية : كل عين تدرك حساً إما بلون أو طعم أو ريح . وهي على نوعين ؛ فمنها ما يكون نجساً في ذاته ، ومنها ما يكون متنجساً بغيره ؛ فأما النجاسة الذاتية فهي في الجملة لا تطهر بحال (1) ، كالبول والغائط ودم الحيض . وأما المتنجسات فلا بد في تطهيرها من إزالة عين النجاسة عنها (2) ، ولا بد من إزالة أوصافها الثلاثة ؛ من اللون أو الطعم أو الريح أو ما وُجد منها ؛ إن أمكن (3).
وأما النجاسات الحكمية فمنها ما هو حدث - سواء كان حدثاً أصغر أو أكبر - ، ومنها ما هو نجاسة عينية يُتيقن وجودها ويُجهل مكانها كالبول إذا جف على المحل ولا يوجد له رائحة ولا أثر ؛ فهذه تطهر بتجاوز محل سببها كما في غسل الأعضاء من الحدث ؛ فإن محل الحدث الفرج مثلاً - حيث خرج منه خارج - وقد وجب غسل غيره من الأعضاء (4) ؛ وهذه يكفي فيها جري الماء على المحل مرة واحدة من غير اشتراط أمر زائد (5) ؛ هذا في الأحداث ، وأما في غيرها فقد ذكر الكاساني خلافاً في تطهير النجاسة غير المرئية ؛ هل تطهر بالغسل ثلاثاً أو تطهر بالغسل مرة واحدة (6) .
ومسألتنا هذه التي نتحدث عنها هي من قبيل المتنجسات - ولا شك - والتي تطهر بإزالة عين النجاسة عنها ؛ كما تقدم .
والناظر في المطهرات الشرعية لهذا النوع من النجاسات يرى أنها متفاوتة متعددة ؛ فمنها المائع ، ومنها الجامد ، ومنها ما يطهر بدون مائع ولا جامد . ومحصل التطهير في ذلك أن يقال :
أما التطهير بالمائع فقط لإزالة النجاسة العينية فهو الماء ؛ ويستخدم في التطهر من البول والغائط ، والدم ، ودم الحيض ، والمني – عند من قال بنجاسته – وفي التطهر من المذي والودي .. وغيرها ؛ كما يكون التطهير بالمائع في النجاسات الحكمية بالتكثير .
وأما التطهير بالجامد فقط لإزالة النجاسة العينية ؛ فهي الحجارة التي تستخدم في إزالة النجاسة بالاستجمار.
وأما التطهير بالمائع والجامد معاً لإزالة النجاسة العينية ؛ فذلك بالماء والتراب من البول والغائط والمني كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه عن ميمونة - رضي الله عنها - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك الحائط ثم غسلها ثم توضأ.. " الحديث (7) ، ويكون التطهير بالماء والتراب أيضاً من لعاب الكلب ؛ كما يكون التطهير بالمائع والجامد أيضاً بالماء والقرظ في تطهير الجلد .
وأما التطهير من دون مائع ولا جامد لإزالة النجاسة العينية ؛ فيقع في إزالة النجس وما حوله في تطهير السمن من الفأرة ، ويقع أيضاً في النزح ؛ كما يكون في النجاسات الحكمية بالاستحالة .
ومن خلال ما سبق يمكن القول : أن تطهير مياه الصرف الصحي لا يمكن أن يكون باستخدام الحجارة ، ولا بالماء والتراب ، ولا بالماء والقرظ ، ولا بإزالة النجس وما حوله . وإنما يمكن أن يكون بالتكثير أو بالنزح أو بالاستحالة . وإليك بيان ذلك بالتفصيل :
أولاً : التطهير بالتكثير :
الأصل في هذا النوع من التطهير هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - :"دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " (8). قال الإمام الخطابي : ( وفي هذا دليل على أن الماء إذا ورد على النجاسة على سبيل المكاثرة والغلبة طهرها ) أهـ (9)
والمكاثرة تعني : أن تكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه (10) ، و قيل : صب الماء على النجاسة حتى يغمرها بحيث يذهب لونها وريحها (11).
واختلفوا بعد ذلك في ورود الماء المكاثَر به على النجاسة وورودها عليه ، وكذا في قدر الماء المكاثَر به ؛ فأما الورود ؛ فقال الشافعية : إنه لابد من ورود الماء المكاثَر به على النجاسة (12) ، وذهب الزيدية إلى أنه لا فرق بين وروده عليها أو ورودها عليه (13) ، ولا يعتبر في المكاثرة صب الماء دفعةً واحدةً (14) ، والمعتبر فيها الضم والجمع دون الخلط حتى لو كان أحد البعضين صافياً والآخر كدراً وانضما إلى بعضٍ زالت النجاسة (15) .
وأما قدر الماء المكاثر به ؛ فقيل : يشترط أن يكون الماء المصبوب سبعة أمثال البول - إن تنجس بالبول - ، وقيل : يشترط في بول كل رجل ذنوبٌ من ماء (16) ؛ والقولان عند الشافعية ، وقيل: أربعة أضعاف النجاسة ؛ وبه قال الزيدية (17) . وليس على هذه التقديرات دليل وإنما هو مجرد رأي بحت(18) ، وإنما العبرة بزوال التغيير بأي مقدار كان .(/1)
ومياه الصرف الصحي هذه مياه كثيرة متنجسة تغير لونها وطعمها وريحها ؛ فتطهيرها حاصل بمكاثرتها بماء آخر حتى يذهب عنها تغيرها (19) ؛ وذهاب تغيرها يُطهرها ؛ لأن علةَ نجاستها هي التغيرُ وقد زال (20) قياساً على ما تغير بطول مكثه فإنه يطهر بهذا التغيير .
وعلى الجملة فلا بد في التطهير بالمكاثرة من زوال التغيير عن الماء وإلا لم يصدق عليه أنه مكاثرة ؛ ولم أجد خلافاً في ذلك ، ولكن لابد أن يكون المُكاثَر به مُطهِراً ؛ على الخلاف الواقع بين الفقهاء في أنواع المياه التي يتطهر بها .
ولكن هنا أمراً لا بد من التنبّه له ؛ وهو أن التطهير بالمكاثرة في مسألتنا هذه - لا سيّما وأن مياه الصرف الصحي هذه مياه كثيرة - فتطهيرها بالمكاثرة بعيد من الناحية العملية إلا إن قلنا أنها تطهر بمكاثرتها بماء البحر حتى يزول تغيرها هذا بالنجاسة ؛ وعليه فلو خلطت هذه المياه المتنجسة ( أعني مياه الصرف الصحي ) بماء البحر حتى زال أثر النجاسة فإنها تطهر بذلك .
والخلاصة : أن التكثير مُطهر لمياه الصرف الصحي ؛ بشرط زوال التغيير عن المياه ؛ من لون النجاسة أو طعمها أو ريحها .
ثانياً : التطهير بالنزح :
النزح مأخوذ من قولهم : نَزَح الشيء كمَنَعَ ؛ وضَرَب . ينزَح وينزِح نزحاً ونُزوحاً ؛ إذا بَعُد كانتَزَح انتِزاحاً ، ونَزَح البئر ينزَحها نزحاً : استقى ماءها حتى ينفد أو يقل (21) .
حكم التطهير بالنزح :
إذا وقعت نجاسة في ماء كثير فنجسته وتغيرت أوصافه الثلاثة أو أحدها ؛ فإنه يطهر بالنزح - في الجملة - عند المذاهب الأربعة ؛ على تفاصيل عندهم في ذلك (22) ، وبحسب الخلاف بينهم في حد الماء الكثير والماء القليل ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إن كان الماء قد تغير بالنجاسة فإنه ينزح منه حتى يطيب ، وإن لم يتغير الماء لم ينزح منه شيء ) أه(23) ؛ وتعليل ذلك : أن الماء قد نجُس بالتغير فإن زال تغيره ارتفعت نجاسته ؛ والحكم يدور مع علته حيث دارت وجوداً وعدماً .
فأما الحنابلة فالنزح عندهم بشرط : أن يبقى الماء بعده كثيراً وأن يكون تنجسه بغير البول والغائط ؛ فإن كان بهما فلهم تفصيل مردُّه إلى إمكانية النزح وعدمها ؛ فيطهر بنزحٍ يبقى بعده الماء قليلاً بحيث لا يمكن نزحه (24) ؛ وعليه فلا يمكن أن تطهر مياه الصرف الصحي عندهم بالنزح ؛ لأن تغيرها - في الغالب - يكون بالبول والغائط .
وأما الشافعية - وهم أضيق المذاهب في التطهير بالنزح – فالأمر دائرٌ عندهم على يقين زوال النجاسة - إن أمكن - أو غلبة الظن على زوالها ؛ ولذا لا تطهر البئر عندهم بالنزح لأنها وإن نُزِحت فقعرها يبقى نجساً وقد تنجس جدرانها أيضاً بالنزح ، وإنما تطهر البئر عندهم بالمكاثرة (25) ؛ وعليه فلا يمكن عندهم أيضاً أن تطهر مياه الصرف الصحي بالنزح لأنها وإن نُزِحت فمستقرها الذي كانت فيه يبقى نجساً .
وأما الحنفية فعندهم فروع وتفصيلات كثيرة ؛ في هذه المسألة ، وروايات في القدر الواجب من النزح من عشرة دلاء إلى ستين دلواً إلى نزح الجميع ؛ مرَدُّ هذه الخلافات بينهم إلى تعيين ما هو نجس مما ليس بنجس ، وإلى غُلظ النجاسة وحجمها وانتشارها ، وإلى بعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة والتابعين في هذه المقادير (26) .
وأما المالكية فوجوب النزح عندهم دائر على زوال التغيير فيما له مادة ، وأما ما لا مادة له فبنزح الجميع وغسل النجاسة حتى يزول أثرها (27) ؛ ومسألتنا هذه ( أعني مياه الصرف الصحي ) تغيرها حاصل بسبب المادة النجسة الواقعة في الماء ؛ وعليه فيمكن تطهير هذه المياه عندهم بالنزح ؛ بشرط زوال التغيير ؛ ولكن هذا الكلام واقع من جانب نظري وأما من الجانب العملي - في مسألتنا هذه – فلا يمكن تطهير هذه المياه بالنزح لأن النجاسة الواقعة فيها نجاسة متجددة ؛ فكلما نزحت نجاسة عاد بدلها أخرى ؛ وإنما يمكن أن يُطهر بالنزح فيما إذا كانت النجاسة طارئة غير متجددة ؛ بحيث أنها وإن زالت لم يعقبها أخرى .
والحاصل : أن لا يمكن تطهير مياه الصرف الصحي بالنزح من الناحية العملية .
ثالثاً : التطهير بالاستحالة :
الكلام في هذا النوع من التطهير عن تحول النجاسة من صورة إلى أخرى ؛ هل يعتبر هذا التحول تطهيراً شرعياً ؛ أم لا ؟
وقبل الخوض في إمكانية استعمال هذا النوع من التطهير في تطهير مياه الصرف الصحي ؛ لا بد من ذكر آراء العلماء في حكم التطهير بالاستحالة ؛ فأقول وبالله التوفيق :(/2)
اختلف العلماء في ذلك : فذهب الشافعية وأكثر أصحاب أحمد وهو أحد قولي المالكية ؛ إلى أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة بل تبقى على نجاستها ؛ إلا الخمرة المتخللة بنفسها ، والجلد المدبوغ (28) فإنهما يطهران بالاستحالة ؛ واستدلوا - على عدم التطهير بالاستحالة - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- " نهى عن لحوم الجلاّلة وألبانها " (29) ؛ وما ذاك إلا لأكلها النجاسة ولو كانت تطهر بالاستحالة لم ينه عنها (30) ، لأن النجاسة التي أكلتها قد تحوّلت من صورة إلى أخرى ؛ ولكنها مع ذلك لم تطهر ؛ والجلاّلة : هي الدابة التي تأكل العذرة ؛ من الجَّلة وهي البعرة (31). قالوا : وتخالف الخمرة سائر النجاسات بأن نجاستها لمعنى معقول ؛ وهو شدتها المسكرة ؛ وقد زال ذلك المعنى بالاستحالة فوجب أن تطهر (32) ؛ بخلاف باقي النجاسات ؛ فإن نجاستها لعينها (33) ، والخمرة أيضاً قد نجست بالاستحالة فتطهيرها بها بخلاف غيرها (34) . قالوا : ومثل الخمرِ الجلدُ فإنه يطهر بالاستحالة ؛ للنص على أن تطهيره بالدباغ . والذي يظهر لي أن الدباغ ليس إحالة ؛ وإنما هو إزالة للنجاسة العالقة بالجلد ؛ لأن عين الجلد باقية بعد الدباغ لم تتغير من صورة إلى أخرى .
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن النجاسات كلها تطهر بالاستحالة ؛ وهو قول أبي حنيفة وأهل الظاهر ، وأحد قولي المالكية وأحد قولي الحنابلة (35) ؛ لأن الخمرة - التي هي أم الخبائث - إذا انقلبت بنفسها حلّت باتفاق المسلمين ؛ فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب (36) ، ولأن هذه الأعيان المستحيلة لم يتناولها نص التحريم لا لفظاً ولا معنى وليست في معنى المنصوص ؛ بل هي أعيان طيبة فيتناولها نص التحليل ، وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها .
واستدلوا أيضاً - على التطهير - بالقياس على جلود الميتة إذا دبغت (37) فإنها تطهر بعد الدباغ . والذي يظهر لي أن هذا القياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق لما تقدم .
وقد رَدّ أصحاب هذا القول - القائلين بأن الاستحالة تطهير- على ما ذكره أهل القول الأول ؛ من الفرق بين الخمر وسائر النجاسات ، ومن كون الخمر نجست بالاستحالة ؛ فقالوا : إن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة ؛ كالدم فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر (38) ، وكذلك البول والعذرة وحتى الحيوان النجس فإنها كلها مستحيلة عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات . ولا ينبغي أن يُعبّر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة فإن نفس النجس لم يطهر لكنه استحال ، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس حتى وإن كان مستحيلاً منه ؛ وحتى لو كانت مادتهما واحدة ؛ فإن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب ، وتراب المقبرة ليس هو الميت ، والإنسان ليس هو المني . وأما كونه هو باعتبار الأصل والمادة فهذا لا يضر فإن التحريم يتبع الاسم والمعنى - الذي هو الخبث - وكلاهما منتف (39) .
( وأقول ) ومن خلال ما سبق فإن الظاهر أن الاستحالة مطهرة ؛ لأن المعنى الذي من أجله حُكِم بنجاسة هذه المادة أو تلك غير موجود في هذه المادة المتحولة ؛ والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً . وأما النهي عن الجلاّلة فهو محمول على ما إذا كانت جلاّلة ؛ أما إذا زال عنها ما يستدعي تسميتها بذلك ؛ بأن امتنعت عن النجاسات ، وطاب أكلها ولحمها ؛ فإنها - والحال هذه - لا تسمى جلاّلة ، ولا تدخل في أحاديث النهي عن الجلاّلة .
وخُرِّج على هذه المسألة (التطهير بالاستحالة) عمل زيتٍ نجسٍ صابوناً ، وترابِ جبلٍ بروث حمار (40) ، ومثله استحالة النجاسة كالرماد النجس والزبل النجس يستحيلان تراباً (41) ، وما سُقي أو سُمّد بالماء النجس من الزروع والثمار ؛ فإنه يحرم على القول بعدم التطهير بالاستحالة ، لأنه يتغذى على النجاسة وتتربى أجزاؤه فيها (42) فهي كالجلالة ، وكذا ما تصاعد من بخار الماء النجس إلى الجسم الصقيل ثم عاد فتقطر ؛ فإنه نجس - على القول بعدم التطهير بالاستحالة - لأنه نفس الرطوبة المتصاعدة ؛ وإنما يتصاعد في الهواء كما يتصاعد بخار الحمامات (43) . ونحوها من الصور التي نص عليها الفقهاء .
والحاصل : أن هذا النوع من التطهير يمكن أن يستخدم في تطهير مياه الصرف الصحي ؛ سواء استخدمت هذه المياه في الشرب أو في الزراعة أو في سائر الاستعمالات ؛ لاسيما مع وجود الحاجة إليه ، وأما مع عدم الحاجة فالأمر على الجواز أيضاً ؛ ولكن الأولى تركه خروجاً من خلاف من حرمه ولم يطهر به ؛ ولكن ذلك كله مشروط بثبوت ألا ضرر في إعادة استخدامها أما إن ثبت ضررها فإنها محرمة ؛ والله أعلم .(/3)
وأما علماء العصر فقد اختلفوا في تكرير مياه المجاري وإعادة استخدامها من جديد ، وقد قرر المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي أن هذه المياه المكررة عن طريق الترسيب والتهوية وقتل الجراثيم والتعقيم بالكلور ؛ أنها طاهرة مطهرة ؛ إذا لم يبق للنجاسة أثر من لون أو طعم أو رائحة (44) . إلا أن الشيخ د/ بكر أبو زيد ؛ له رأي مخالف ؛ فهو يرى عدم طهارة هذا الماء وأنه نجس ؛ لأن تحريمه ؛ كما أنه لوقوع النجاسة فيه إلا أنه حرم أيضاً لأنه يسبب الأمراض ؛ فهذه المياه وإن كانت طهُرت في الظاهر إلا أن الجراثيم باقية ولم تَزُل ؛ وقد عُلِم أن من مقاصد التشريع الحفاظ على النفس (45) .
خلاصة البحث :
مما يبق بيانه يتبين لي التالي :
1. أن التكثير مُطهر لمياه الصرف الصحي ؛ بشرط زوال التغيير عن المياه ؛ من لون النجاسة أو طعمها أو ريحها .
2. أن الاستحالة يمكن أن تستخدم في تطهير مياه الصرف الصحي ؛ بشرط زوال الوصف المستقذر عنها وتحولها من صورة خبيثة إلى صورة طيبة .
3. جواز إعادة استخدام مياه الصرف الصحي من جديد ؛ سواء استخدمت هذه المياه في الشرب أو في الزراعة أو في سائر الاستعمالات وذلك مشروط بثبوت ألا ضرر في إعادة استخدامها ؛ أما إن ثبت ضررها فإنها محرمة .
4. لا يمكن تطهير مياه الصرف الصحي بالنزح .
والله الهادي إلى سواء السبيل
وهو حسبنا ونعم الوكيل
وسبحان الله وبحمده ؛ سبحان الله العظيم
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي :
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء – 21 صفر 1427هـ ، 21 مارس 2006م
(1) - انظر : الاستغناء في الفرق والاستثناء 1/203 .
(2) - انظر : مواهب الجليل (1/159) .
(3) - انظر : مواهب الجليل (1/159) ، و بمثله في الاستغناء في الفرق والاستثناء 1/207 .
(4) - انظر : حاشية البجيرمي (1/17)
(5) - انظر : شرح الزبد ص51 ، وبمثله في مواهب الجليل (1/159)
(6) - انظر : بدائع الصنائع 1/87 .
(7) البخاري 1/102 كتاب الغسل ؛ باب مسح اليد بالتراب ليكون أنقى ، الترمذي1/173كتاب الغسل ؛ باب ما جاء في الغسل من الجنابة ، ابن ماجه 1/19 كتاب السنة ؛ باب ما جاء في الغسل من الجنابة .
(8) البخاري 1/89 كتاب الوضوء ؛ باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد ، وبمعناه في مسلم 1/236 كتاب الطهارة ؛ باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء حاجة إلى حفرها . وأهريقوا وأريقوا بمعنى ؛ وهو صب الماء بكثرة . والسَجل مثل الذنوب ؛ والذنوب : الدلو العظيم وهو دون الغرب الذي يكون للسانيه (الزاهر ص101 )
(9) عون المعبود 1/29
(10) انظر : المهذب 1/49 ، المجموع 2/544
(11) - انظر : المبدع 1/239
(12) - انظر : روضة الطالبين للنووي 1/22
(13) - انظر : الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ص 17 ، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني 1/52
(14) - انظر : المغني لابن قدامة 1/37
(15) - انظر : حواشي الشرواني 1/89 ، الروضة 1/22
(16) - انظر : المجموع 2/544
(17) - انظر : الأزهار ص 17
(18) - انظر : السيل الجرار 1/53
(19) - انظر : المبدع 1/57
(20) - انظر : المغني 1/38
(21) - تاج العروس 4/228
(22) - انظر : الإنصاف للمرداوي 1/64 ، منار السبيل 1/19 ، المغني 1/37 ، روضة الطالبين 1/25 ، المجموع 1/204 ، المبسوط للسرخسي 1/58 ، البحر الرائق 1/122 ، حاشية الدسوقي 1/45 ، الشرح الكبير 1/45 .
(23) - الفتاوى لابن تيمية 21/39 .
(24) - انظر : الإنصاف 1/64 وما بعدها ، وانظر المبدع 1/56 وما بعدها
(25) - انظر : مغني المحتاج 1/23 وما بعدها ، روضة الطالبين 1/25 وما بعدها ، المجموع 1/204 وما بعدها .
(26) - انظر : البحر الرائق شرح كنز الدقائق 1/122 ، المبسوط للسرخسي 1/58 وما بعدها
(27) - الشرح الكبير 1/46 ، حاشية الدسوقي 1/45 .
(28) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/610 ، المهذب 1/48 ، المجموع 2/529 .
(29) - النسائي 7/239 كتاب الضحايا ؛ باب النهي عن أكل لحوم الجلالة ، الترمذي 4/270 كتاب الأطعمة ؛ باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها ، أبو داود 3/351 كتاب الأطعمة ؛ باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها ، ابن ماجه 2/1064 كتاب الذبائح ؛ باب النهي عن لحوم الجلالة . قال ابن حجر : إسناده قوي (تلخيص الحبير 4/156)
(30) - انظر : المبدع 1/240 ، 9/203 ، عون المعبود 10/185 ، نيل الأوطار للشوكاني 8/293 .
(31) - انظر : عون المعبود 10/185 نيل الأوطار 8/293 . وانظر ( لسان العرب 12/119)
(32) - انظر : المهذب 1/48 .
(33) - انظر : المبدع 1/242 .
(34) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/517 المغني 1/419 .
(35) - انظر : المبدع 9/204 ، الإنصاف للمرداوي 1/318 ، الفتاوى لابن تيمية 21/610 ، عون المعبود 10/185 .
(36) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/517 .
(37) - انظر : المبدع 1/241 .(/4)
(38) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/610 وما بعدها ، وبنحوه في نيل الأوطار 8/293 .
(39) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/610 وما بعدها .
(40) - انظر : المبدع 1/241 ، الإنصاف للمرداوي 1/318 .
(41) - انظر : الفتاوى لابن تيمية 21/479 ، المهذب 1/48 .
(42) - انظر : المغني 9/330 ، المبدع 9/204 .
(43) - انظر : الإنصاف للمرداوي 1/319 ، المغني 1/56 .
(44) - انظر : قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص91،92 لدوراته الحادية عشر ، والثانية عشر ، والثالثة عشر 1408-1411هـ
(45) - انظر : قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص92،93 لدوراته الحادية عشر ، والثانية عشر ، والثالثة عشر 1408-1411هـ.(/5)
تكفل الملك العلام بحفظ بيضة الإسلام
محمد حسن يوسف
</TD
عن ثوبان رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها. وأُعطيت الكنزين الأحمر والأسود. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ( أو قال: من بين أقطارها )، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا.[1]
راوي الحديث هو ثوبان الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام ومات بحمص.[2]
ونحاول فيما يلي شرح هذا الحديث العظيم، والذي يعتبر من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. قال النووي: وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة, وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.[3]
قوله: ( إن الله زوى لي الأرض ) أي قبضها وجمعها لأجله صلى الله عليه وسلم حتى يراها جميعا. وزويت الشيء جمعته وقبضته, يريد به تقريب البعيد منها, حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب منها. قال القاري: وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره.[4] قال السندي: وهو يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أنه الإدراك فيكون مجازا. فإنه لما أدرك جميعها صار كأنه جُمعت له حتى رآها. والمراد من الأرض ما سيبلغها ملك الأمة لا كلها، يدل عليه ما بعده.[5] ( فرأيت مشارقها ومغاربها ): أي جميعها.
قوله: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ): أي من الأرض. قال الخطابي: يتوهم بعض الناس أن حرف " مِنْ " ها هنا معناها التبعيض, فيقول: كيف اشترط في أول الكلام الاستيعاب، ورد آخره إلى التبعيض؟ وليس ذلك على ما يقدرونه. وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة, والتفصيل لا يناقض الجملة ولا يبطل شيئا منها, لكنه يأتي عليها ويستوفيها جزءاً جزءاً. والمعنى: أن الأرض زُويت جملتها له مرة واحدة، فرآها. ثم هي تُفتح له جزأٌ جزأٌ منها، حتى يأتي عليها كلها، فيكون هذا معنى التبعيض فيها.[6] قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض، فالمراد بالأرض أرض الإسلام, وإن ضمير منها راجع إليها على سبيل الاستخدام.[7]
قوله: ( وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ): ( وأُعطيت ) على بناء المفعول وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح الخزائن المفتوحة على الأمة. والمراد بـ ( الكنزين ) : الذهب والفضة, والمراد خزائن كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. وذلك أن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير, والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم. وفي النهاية: فالأحمر مُلك الشام، والأبيض مُلك فارس. وإنما قال لفارس الأبيض لبياض ألوانهم ولأن الغالب على أموالهم الفضة, كما أن الغالب على ألوان أهل الشام الحمرة وعلى أموالهم الذهب.[8]
وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب, وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى.[9]
قوله: ( أن لا يهلكها ): أي أن لا يهلك الله الأمة. ( بسنة ): السنة: القحط والجدب وهو من الأسماء الغالبة. ( عامة ): يعم الكل. أي بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين. قال البغوي: وإنما جرت الدعوة بألا تعمهم السنة كافة، فيهلكوا عن آخرهم. فأما أن يُجدب قوم، ويخصب آخرون، فإنه خارج عما جرت به الدعوة.[10]
قوله: ( وأن لا يسلط عليهم عدوا ): وهم الكفار ( من سوى أنفسهم ): صفة ( عدوا )، أي كائنا من سوى أنفسهم. وذلك لأن العدو من أنفسهم أهون، ولا يحصل به الهلاك الكلي ولا إعلاء كلمته السفلى. ( فيستبيح بيضتهم ): أي العدو، وهو مما يستوي فيه الجمع والمفرد. والمعنى: أي يستأصل جماعتهم وأصلهم. والبيضة أيضا العز والملك. قال الجزري في النهاية: أي مجتمعهم, وموضع سلطانهم, ومستقر دعوتهم. وبيضة الدار: وسطها ومعظمها. أراد إذا أُهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ. وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض فراخها. وقيل أراد بالبيضة الخوذة, فكأنه شبه مكان اجتماعهم والتئامهم ببيضة الحديد.[11] قال القاري: والنفي منصب على السبب والمسبب معا، فيُفهم منه أنه قد يسلط عليهم عدو، لكن لا يستأصل شأفتهم.[12](/1)
قوله: ( إذا قضيت قضاء ): أي حكمت حكما مبرما. ( فإنه ): أي القضاء. ( لا يرد ): أي بشيء، بخلاف الحكم المعلق بشرط وجود شيء أو عدمه. قال المظهر[13] : اعلم أن لله تعالى في خلقه قضاءين مبرما ومعلقا بفعل, كما لو قال: إن فعل الشيء الفلاني كان كذا وكذا, وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا، من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال تعالى في محكم كتابه: [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ] [ الرعد: 39 ] . وأما القضاء المبرم، فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل, فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ, بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه ولا المقضي له, لأنه من علمه بما كان وما يكون. وخلاف معلومه مستحيل قطعا, وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات. قال تعالى: ] َلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [ [ الرعد: 41 ] ... فقوله سبحانه وتعالى في الحديث: ( إذا قضيت قضاء فلا يرد ) من القبيل الثاني, ولذلك لم يُجب إليه. وفيه أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
قوله سبحانه وتعالى: ( وإني أعطيتك ): أي عهدي وميثاقي. ( لأمتك ): أي لأجل أمة إجابتك. ( ألا أهلكهم بسنة عامة ): أي لا أهلكهم بقحط يعمهم, بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام. فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.[14]
قوله: ( ولو اجتمع عليهم ): أي الأعداء الذين هم ( من بأقطارها ): أي بأطرافها، جمع قطر، وهو الجانب والناحية. والمعنى فلا يستبيح عدو من الكفار بيضتهم ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم. وجواب لو ما يدل عليه قوله: وأن لا أسلط. ( أو قال من بين أقطارها ): الشك من الراوي. ( حتى ) بمعنى كي، أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضا, فقوله: ( إني إذا قضيت قضاء فلا يرد ) توطئة لهذا المعنى. ( ويسبي ): أي ويأسر.
والحديث مقتبس من قوله تعالى: ] أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ [ الأنعام: 65 ] . وقد أفاد الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية ( 1/687-689 )، وذكر جميع طرق الحديث الذي يعد طرفا من الحديث المذكور.
قال القرضاوي: وهذا الحديث يبشر باتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشارق والمغارب، أي الأرض كلها ... وفي هذا من الخير ما فيه.[15]
إن هذا الحديث يطرح علينا تساؤلات عديدة من وحي الأحداث الراهنة التي تمر بها أمتنا الإسلامية، نعرضها فيما يلي:
* هل ستصمد أمة الإسلام أمام تلك الهجمة الشرسة التي يقودها التحالف الأمريكي الصهيوني عليها حاليا؟
والإجابة بكل تأكيد هي نعم. فلن يتمكن هذا التحالف – وإن بدا للناظر غير ذلك – من تفكيك الأمة الإسلامية أو تضييع الإسلام. قد يستطيع هذا التحالف تحقيق انتصارات مؤقتة وفي أماكن متفرقة من الأمة الإسلامية، لكنه لن يستطيع ضرب الأمة كلها في مقتل. بل سوف تقوم الأمة الإسلامية – حين يأذن الله – بضرب هذا التحالف ودحره والانتصار عليه.
* كيف تهزم الأمة الإسلامية – إذن - هذا التحالف الأمريكي الصهيوني؟
بالاعتصام بشرع ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. فلن ينجي هذه الأمة من المحنة التي تمر بها حاليا سوى الرجوع إلى الله تعالى، وأن تجعل الله تعالى في صفها على عدوها. أما أن تعادي الأمة ربها، ثم تطلب منه النصر على عدوها، فهذا من المحال الذي لا يمكن أن يتحقق.
* ما هو الدور الذي يمكن أن نقوم به الآن؟
التبصرة بالتاريخ الأسود للأمريكان واليهود، ومحاولة تزييفهم لتاريخ الأمة الإسلامية ووعيها. وتبصرة جميع الناس بذلك، حتى تنجلي الغشاوة عن أعين أفراد الأمة، ويعرفون الحقيقة ناصعة، ويقفون على حقيقة الدور الأمريكي والصهيوني الذي امتد للعبث بتاريخ أمتهم ومقدراتها، ويريد لهذه الأمة ألا تقوم لها قائمة أبدا.
ويأتي بعد هذه التبصرة مرحلة العمل. إن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، فدين الله سيعود ليهيمن بسلطانه من جديد على الكرة الأرضية، وينشر عدالته وتعاليمه فيما بين أبناء العالم. ولن يكون الإسلام هو السعيد إذا اخترت أنت العمل له، بل السعيد هو أنت لأنك في هذه الحالة سيكتب لك أن تكون من أصحاب الجنة. قال تعالى: ] فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ [ آل عمران: 185 ] .
فينبغي علينا في ضوء هذه البشارة العظيمة التي جاءت في هذا الحديث أن نجتهد وأن نشمر سواعدنا لخدمة الدين، وألا ننخذل أو نضعف بسبب أن أعدائنا قد سبقونا وتخطونا. فالعمل العمل يا أبناء الإسلام! و] َلا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ [ [ آل عمران: 196 ] . إنك حينما تعرف أن مصير عدوك هو إلى النار والهوان، لأشفقت عليه مما يفعله بنفسه الآن. كما أن من الواجب علينا أن ندرس طبيعة عدونا: أفكاره ودعايته واستراتيجيته التي يحاربنا بها. ولعل هذا سيكون هو موضوع المقال القادم، عن: تبصرة بني الإنسان بفضائح الأمريكان.(/2)
30 من صفر عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 9 من أبريل عام 2005 ).
-----------------------
[1] صحيح. رواه مسلم (2889/19)، والترمذي (2176) وقال: حديث حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأبو داود (4252) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وابن ماجه (4023) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وأحمد (22294) و(22351) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1773)، وابن حبان (6714) و(7238) وقال الأرناؤوط في تخريجه على صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم (8439) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، والبغوي في شرح السنة (4015) وقال: هذا حديث صحيح. وراجع جامع الأصول، حديث رقم (8879). وللحديث طريق آخر عن شداد بن أوس رضي الله عنه، رواه أحمد (17051)، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره ( 1/689 ): ليس في شيء من الكتب الستة وإسناده جيد قوي، وأشار إليه الحافظ ابن حجر في الفتح ( 8/143 ) عن رواية الطبري وقال: " بإسناد صحيح "، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (11965): رجال أحمد رجال الصحيح. والحديث – بطريقيه - ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: (2).
[2] الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني: 1/527-528 ( ترجمة رقم: 969 ).
[3] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/241.
[4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري: 10/429.
[5] حاشية السندي على سنن ابن ماجه.
[6] شرح السنة للبغوي: 14/216. وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 6/27، وعون المعبود شرح سنن أبي داود: 7/317.
[7] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 10/429.
[8] النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/172.
[9] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/242.
[10] شرح السنة للبغوي: 14/216.
[11] النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/172.
[12] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 10/429.
[13] تحفة الأحوذي: 6/27-28.
[14] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/242.
[15] المبشرات بانتصار الإسلام، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، 1420 هـ. ص: 31-32.(/3)
تكفير الذنوب بالصدقات
السؤال :
إنني مبتلى بالذنوب ، فهل يُشرع لي أن نخرج صدقة على نية الكفّارة عن ذنوبي ، كما لو أنّ إنساناً سَرَق و أراد أن فهل يُجزؤه أن يتصدق عن يده حتى لا يحرقها الله بالنار يوم القيامة ، أو نظر إلى حرام فهل يُكفّر بالصدقة عن عَينَيه ؟ و هكذا عن سائر أعضاء الجسم كي يُعتقها الله من النار .
الجواب :
إذا اقترف العبد ذنباً ممّا لا حدّ فيه ، و أراد أن يتوب منه ، فإنّ الله تعالى يقبل التوبة من عباده ، و لا يُشترط لقبول التوبة سوى ما قرّره العلماء من شروط ، و هي :
• الإقلاع عن الذنب .
• الندم على ما فات .
• العزم على عَدَم العودة إلى الزنب من جديد .
• إعادة الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب متعلّقاً بحقوق العباد .
أمّا التصدّق بالمال فليسَ شرطاً لقبول التوبة ، و لكنّه من الأعمال الصالحة التي وعد الله من قام بها بالأجر الجزيل المضاعف يوم القيامة ، فقال تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَ اللّهُ وَ اسِعٌ عَلِيمٌ ) [ البقرة : 261 ] .
أمّا الحدود و كفّارات الذنوب فهي توقيفيّة ، و ليس لأحدٍ أن يجتهد فيها فيقرّر صدقةً أو غيرها على الذنب يقترفه العبد ما لم يكن ذلك منصوصاً عليه في الكتاب و السنّّّّة ( ككفّارة الظهار ، و اليمين ، و القتل الخطأ ، و نحو ذلك ) .
و ما لم يرد الكتاب و لا السنّة بذكر كفّارة له تجبُّه التوبة الصادقة النصوح إن شاء الله ، و نوصي أنفسنا و إخواننا بالإكثار من الأعمال الصالحة ( صدقات و غيرها ) لأنّ ( الحسنات يُذهبنَ السيئات ) كما أخبر بذلك تعالى في كتابه العزيز ، و لما رواه الترمذي بإسناد حسّنه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ » ، و لقول النبيّ صلّى الله عليه و سلّم لأَبِى ذَرٍّ فيما رواه أحمد و الترمذي بإسنادٍ قال عنه : ( حسنٌ صحيح ) : « اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَ خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ » .
و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .(/1)
تلاوة القرآن الكريم ... ... ...
فضل تلاوة القرآن وحملته:
أفضل الذكر تلاوة القرآن وذلك لتضمنه لأدوية القلب، كما قال الله عز وجل: (وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين)(الإسراء/82)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور)(يونس/57).
وقد ورد من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ما يُبين فضل هذه العبادة وفضل أهلها، قال الله - عز وجل-: (إن الذين يتلُون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورٌ شكورٌ)(فاطر/29).
وعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))(رواه البخاري).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران))(رواه البخاري ومسلم).
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إن الله يرفع بهذا الكلام أقوامًا ويضع به آخرين)) (رواه مسلم).
وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) (رواه مسلم).
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسم ـ قال: ((يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) (الترمذي وقال: حسن صحيح).
الآثار:
قال خباب ـ رضي الله عنه ـ: تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
وقال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ لو طَهُرَتْ قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم.
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله.
فمن أراد لقلبه السلامة والشفاء فليكثر من تلاوة كلام الله.
الشيخ أحمد فريد ... ...(/1)
تلاوة القرآن في رمضان
أيها الأخوة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
حديثي إليكم اليوم عن تلاوة القرآن في رمضان وكيف لا وشهر رمضان هو شهر القرآن قال الله عز وجل { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } الآية ، وقال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } أي أنزلنا القرآن في هذه الليلة والمراد ابتداء نزوله حيث إن للقرآن تنزيلان كما قال ابن عباس : التنزل الأول جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وهذا كان في ليلة القدر ، والتنزل الثاني : نزوله مفرقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والأحداث.
فالشهر شهر القرآن ولذا كان جبريل يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان وكان يعارضه كل عام مرة فلما كان العام الذي توفى فيه عارضه جبريل مرتين ، في الصحيحين عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن " ، فدل هذا الحديث على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له.
وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل كانت ليلاً وهذا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطاً وأقوم قيلا } وشهر رمضان له خصوصية القرآن كما قال تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره وقد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان قال : فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل ، فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة . خرجه الإمام أحمد وخرجه النسائي وعنده أنه : ما صلى إلا أربع ركعات .
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر ، وفي رواية : أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها . وروى أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين وأوسطهم بخمس وعشرين وأبطأهم بعشرين ، ثم كان في زمن التابعين يقرأون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف ، وقد روى عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاثة وعشرين إلى ثلث الليل وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل فقالوا له : لو نفلتنا بقية ليلتنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته " خرجه أهل السنن وحسنه الترمذي ، وهذا يدل على أن قيام ثلث الليل ونصفه يكتب به قيام ليلة لكن مع الإمام ، وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث ويصلي مع الإمام حتى ينصرف ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام .
وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة وبعضهم في كل عشر منهم أبو رجاء العطاردي وبعضهم في كل ليلة وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفي بقية الشهر في ثلاث وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً وفي رمضان في كل ثلاث وفي العشر الأواخر كل ليلة ، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة وعن أبي حنيفة نحوه ، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال : إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام . قال ابن عبدالحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف .
قال عبدالرزاق : كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن . وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان وهو قول أحمد واسحاق وغيرهما من الأئمة ، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره .(/1)
عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقيام يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشراب بالنهار ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " . وخرج الإمام أحمد من حديث بريدة مرفوعاً : " إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول : هل تعرفني ، أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وكل تاجر من وراء تجارته فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ثم يقال له : اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذّاً كان أو ترتيلاً " .(/2)
تلاوة القرآن
مصطفى البصراتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله صحبه وسلم ومن والاه، وبعد:
التلاوة
ويراد بترتيل القرآن: تلاوتُه تلاوةً تُبينُ حروفها ويُتأنَّى في أدائها ليكُونَ أدنى إلى فهم المعاني.
والتلاوةُ بمعنى القراءة من أعظم خصائص القرآن الكريم، فالكتب المتقدمة ليس من خصائصها هذه التلاوة.
الفرق بين القراءة والتلاوة
القراءة أعم من التلاوة، فكل تلاوةٍ قراءة وليس كل قراءة تلاوة، لا يقال: تلوتُ رقعتك وإنما يقال في القرآن في شيء إذا قرأته وجب عليك اتباعه، كذا قال الراغب ويفهم منه أن التلاوة خاصةٌ بالقرآن الكريم مع الاتباع وليست القراءةُ كذلك، وفرَّقَ التهانَوِيُّ بين القراءة والتلاوة والأداء فقال: والفرق بينها وبين الأداء والقراءة: أن الأداء الأخذُ عن المشايخ والقراءة تُطلق عليهما معًا أي الأداء والتلاوة إذ هي أعمُّ منهما.
حسن الصوت مطلوب من القارئ
عَلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ضرورة تزيين القرآن بالأصوات في عدة أحاديث كالذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم". صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ورواه الحاكم في المستدرك بلفظ "زينوا أصواتكم بالقرآن".
وروى أبو داود في سننه وصححه الألباني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". وقال البخاري بعد ذكر أحاديث تحسين الصوت بالقرآن: "وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم".
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيءٍ أَذَنَهُ لنبي يتغنى بالقرآن".
وقد قيل لابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: "يُحَسِّنُهُ ما استطاع". صحيح سنن أبي داود.
قال ابن حجر في الفتح: والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مُليكة، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحَسَن الصوت يزداد حسنًا بذلك وإن خرج عنها أَثَّر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وُجد من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتى بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم. اه فتح الباري.
معنى التزيين
تدور معاني زَيَّن على الملاحة والغاية في الحسن، قال ابن بطال: المرادُ بقوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" المد والترتيل، والمهارةُ في القرآن جودةُ التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم ولا يتشكك وتكونُ قراءتُهُ سهلةً بتيسير الله تعالى كما يسَّره على الكرام البررة.
وقال السندي في قوله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم". أي بتحسين أصواتكم عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حسنًا وزينة بالصوت الحسن، وهذا مشاهد.
معنى الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم":
اختلف العلماء في معناه حتى ذكر القرطبي ستة تأويلات في معناه، ونحن نذكر هنا أشهرها مما يتعلق بموضوعنا:
التأويل الأول:
معناه اللهج بقراءته، وكثرة ترداده حتى يصير زينة الصوت، وحليته في الكلام، أي اشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا بقراءته، واتخذوه زينة وشعارًا: فعلى هذا هو مقلوبٌ أي زينوا أصواتكم بالقرآن، والمعنى الهجوا بقراءته وتزينوا به وليس ذلك على تطريب القول والتحزين.
وقالوا: "فالزينة للصوت لا للقرآن"، وبين أصحاب هذا المذهب أنهم اضطروا إلى هذا التأويل اضطرارًا، لأنه لا يجوز على القرآن في نظرهم وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق بل هو بالتزيين لغيره والتحسين له أَوْلى، ولذا فقد توقى هذه الرواية قوم، وقالوا: لم يُرِدْ تطريب الصوت به والتحزين له إذ ليس هذا في وسع كل أحد فلعل من الناس من إذا أراد التزيين له أفضى به إلى التهجين.
التأويل الثاني:(/1)
وقيل هو تزيين القرآن بجمال الصوت؛ فإن القرآن قد يُخرجُ بصوتٍ جاف فظٍ يلقيه قارئه ولا يبالي بتجميله فلا تلتفت إليه القلوب لا لأنه كلام الله بل لأن المتلفظ به ما أبان البلاغ، ولا أجمل الأداء وعلى هذا فلا حاجة إلى القلب وإنما معناه الحث على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا، فحقيقة الحديث: أنه يحث على ترتيل القرآن ورعاية إعرابه وتحسين الصوت به وتنبيه على التحرز من اللحن والتصحيف؛ فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلب وأشد تأثرًا وأرق لسامعه، والرواية الأخرى إن ثبتت فهي تتميمٌ لها ف "زينوا أصواتكم بالقرآن"، أي الهجوا بقراءته واشغلوا أصواتكم به، واتخذوه شعارًا وزينة لأصواتكم كما ينبغي لكم أن تخرجوه بأحسن لفظ وأجمل أداء.
توجيه الزينة في الحديث
ويكون للحديث على هذا توجيهٌ حسنٌ جدًا إذ تكون "الزينة للمرتل لا للقرآن كما يُقال ويل للشِّعر من الراوية السّوء فهو راجعٌ إلى الراوي لا للشعر". وسماه تزيينًا: "لأنه تزيين للفظ والمعنى فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعثٌ للقلوب على استماعه، وتدبره، والإصغاء إليه". ويؤيد هذا المعنى للحديث الأحاديث المستفيضة الأخرى التي تحض على التحبير والترتيل والتحسين والتحزين مما هو في المستوى العلمي الضروري، كما يؤيد هذا المعنى رواية: "حسنوا أصواتكم". والمعنى: "رتلوه واجهروا به". قال الطيبي: هذا الحديث لا يحتمل القلب لتعليله بقوله فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا.
ويشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قراءته فقال: "لقد أوتيت مِزمارًا من مزامير آل داود" فقال لو علمت أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا أي حَسَّنتُ قراءته وزينتها، ويؤيد ذلك تأييدًا لا شبهة فيه حديث ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء حلية وحلية القرآن حسنُ الصوت".
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم تحسين الصوت بالقرآن، وتحسين القرآن بالصوت بعد أن وجدنا الروايات تذكر ذلك ولا شذوذ يظهر لنا.
وواقع المسلمين بشيبهم وشبابهم وذكورهم وإناثهم، وكبارهم وصغارهم شاهدٌ على ذلك فإنك تجد كل واحدٍ منهم لو كان أميًا إن أراد أن يقرأ غَيَّر صوته على هيئة تتشابه بينهم جميعًا وإن كانت تتفاوت في حسنها، وانضباط قواعدها في ظاهرة عجيبة تدل على مقدار الحفظ الإلهي للقرآن الكريم.
ويبقى بعد ذلك الاختلاف في الأصوات البشرية مسألة طبيعية، كما قال الإمام البخاري: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءاتهم ودراستهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض واخشع وقال: وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا "طه: 108"، وأجهر وأخفى وأمهر وأحد وألين واخفض من بعض". ذكره البخاري في خلق أفعال العباد.
وهنا نلحظ معلمًا هامًا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم تقديم حسن الصوت في الأذان؛ فأحرى أن يكون ذاك في القرآن: فعن عبد الله بن زيد قال: لما أصبحنا أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: "إن هذه الرؤيا حق فقم مع بلال فإنه أندى أو أَحَدُّ صوتًا منك فألق عليه ما قيل لك فينادى بذلك". رواه ابن خزيمة.
و"أندى" أصله: من الندى أي الرطوبة يقال صوتٌ ندى أي رفيع واستعارة الندى للصوت من حيث إن من تكثر رطوبة فمه يحسن كلامه فأندى أي أرفع وأعلى وقيل أحسنُ وأعذب وقيل أبْعَدُ فالأحسن أن يراد بأندى ههنا: أحسن واعذب وإلا لكان في ذكر قوله أحَدّ بعده تكرار وعلى هذا ففي الحديث: دليل اتخاذ المؤذن حَسَن الصوت.
لكن لا يفوتنا في هذا المقام أن نؤكد على أن الأصل في إمامة الصلاة والمقدم في ذلك الحفظ وإتقان القراءة ثم يأتي بعد ذلك حلاوة الصوت ونداوته فلا يكفي أن يكون الإمام نديَّ الصوت فقط دون حفظ لكتاب الله وإتقان له.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلمًا أي إسلامًا ولا يؤمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته أي الفراش الخاص به إلا بإذنه".
فضيلة التغني بالقرآن(/2)
بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة التغني بالقرآن وذلك في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن". وقال صاحب له: يريد يجهر به، و(يأذن): "معناه الاستماع ومنه قوله تعالى: وأذنت لربها"، فالمعنى كما قال أبو عبيد يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، والمراد بالاستماع هنا الاستماع الخاص، وذلك كتفريق العلماء بين المعية العامة الواردة في قوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم "الحديد: 4"، والمعية الخاصة في قوله تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "النحل: 128"، وهو ما يعني قرب القارئ من الله تعالى وعظيم شرفه بالقراءة.
معنى التغني الوارد في الأحاديث
اختلف العلماء في معنى التغني الوارد في الحديث على قولين مشهورين:
المعنى الأول:
معنى التغني الاستغناء وحدوث الكفاية به، وقد ذهب إلى هذا الإمام البخاري فقال: "باب من لم يتغنّ بالقرآن، وقوله تعالى: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم "العنكبوت: 51"، وهو مذهب سفيان بن عيينة، قال: تفسيره يستغني به.
المعنى الثاني:
معناه التطريب به وتحزين القراءة وترقيقها وفق قواعد معلومة لأنه أوقع في النفوس، وأنجع في القلوب، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء، يحسن صوته به.
وقال صالح: قلت لأبي أي أحمد بن حنبل: "زينوا القرآن بأصواتكم" ما معناه؟ قال: أن يحسنه، وقيل له: ما معنى: "من لم يتغن بالقرآن" قال: "يرفع صوته به"، وقال الليث: يتحزن به، ويتخشع به ويتباكى به.
ورد الإمام الشافعي على ابن عيينة تأويله، فقال رحمه الله: نحن أعلم بهذا، لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغناء به لقال ليس منا من لم يستغن بالقرآن فلما قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن علمنا أنه التغني به، وقال: معناه يقرأه حزنًا وتحزينًا.
وعلى هذا فالوسائل التي يجوز بها استعمال قوانين التغني عند التلاوة هي:
1 - الالتزام بضوابط التجويد وأركان الترتيل دون شطط.
2 - إبقاء الجو القرآني على حاله من التحزين والخشوع والإخبات.
3 - أن لا يتولد منه حروف ليست من القرآن كزيادة ألف أو تطويل الحركة القصيرة، وهو ما يعبر عنه العلماء التمطيط.
4 - أن لا يترتب على ذلك التقصير في أداء حركة طويلة، أو البتر في حرفٍ لينٍ أو حرفٍ مشدد مثل التقصير في تشديد (ذريَّة) في قوله تعالى: وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار "البقرة: 266". ونحو ذلك.
5 - عدم الغلو في التلحين حتى يظهر أنه الغاية من القراءة لا أنه يعين على تدبر القراءة، فيكون صاحبه مفتونًا قلبه وقلب من يسمعه لدرجة أنه لا يسمع القرآن إلا له، لا لأنه القرآن.
6 - عدم الغلو في طلب اللحن حتى يبحث عن أصوله من غناء اللاهين ويصبح فنا مستقلا عن المراد منه، يبذل له التكلف، ويخرج عن طبيعة المرء كما قال ابن الجزري:
مكمَّلاً من غير ما تكلف *** باللطف في النطق بلا تعسف
والحمد لله رب العالمين
http://www.altawhed.com المصدر:(/3)
تلك أمة محمد صلى الله عليه سلم ولن تموت ...
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهداهم اهتدى. وبعد:
لم أكن بفضل الله تعالى أكثر ثقة ويقين بنصر الله تعالى لهذا الدين وأهله كما أنا عليه اليوم، وإن ديناً يتجدد عطاؤه اليوم في عصوره المتأخرة كما كان في أيام نزوله لدين عظيم والله، وقد وجب علينا أن نردد ما كان يقوله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيام الليل ويردده: "ووعدك حق". فوعد الله تعالى حق ولن يتخلف، لكن لهذا الوعد سنة جارية في حضوره لا تتخلف، هي أنه لعظمته لا يأتي إلا مع البلاء والمحن، وهذا هو سر الوجود وهو أن تنبثق الحياة مع الألم، ويتفجر العطاء مع المحن، ولولا هذا السر لما كان للعطاء قيمة ولا أهمية، لأنه حينئذ يكون مبتذلاً يلتقطه كل واحد، وهذا يمنع معنى الفضل فيه ويرفع خصوصيته.
تعال معي يا عبد الله الى آية جليلة عظيمة في تاريخ البشرية، آية كونية، كانت رحمة لخلق آمنوا بها على وجهها وصدقوا بها، ونقمة على قوم آخرين كفروا بها وحملوها على غير وجهها، ألا وهي خلق نبي الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام، هذه الآية الجليلة العظيمة لم تأت إلا مع الألم ولو خُيِّرت أمه مريم عليها والسلام أن لا يقع عليها هذا الفضل الإلهي لاختارته، لما فيه من البلاء عليها وهي الحرة العفيفة، فهي التي قالت وهي في مخاضها وقد حضرت الولادة للنبي عيسى عليه الصلاة والسلام: {يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نساً منسيا}مريم، وهي كلمات تحمل كل معاني الألم والخوف من الآتي، وكيف لا تقول هذا وهي تعلم ما سيقول الناس عنها.
والناس يومها هم أهل البهتان والكذب وهم اليهود. فإنها قد تخيلت ما سيقول الناس من اتهامها في عرضها وشرفها وهي الحصان الرزان ولا تزن بريبة عليها السلام، لكن القدر الإلهي بحصول الفضل لها، واختيار الرب أن تقع الآية عليها دون غيرها لا يمكن أن يخلو من هذا البلاء الجليل العظيم، وتلك سنة الله تعالى في قدوم المنن والمنح الربانية، تأتي على أصحابها رغم أنوفهم، ولو خيروا لاختاروا السلامة من غير معصية ولا ذنب، لكن رحمة الله تعالى تلاحقهم وتأتيهم على قدر الله تعالى دون تقديرهم، وفي الرحمة يكون البلاء وتكون المحنة.
ومثله ما وقع لأمنا عائشة رضي الله عنها في حادثة الأفك وما اصابها رضي الله عنها من البلاء ومع ذلك قال الله تعالى في الأمر: لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، ولم يكن يدور في خلدها قط أن ينزل فيها قرآن يتلى الى يوم القيامة كما ذكرت هي رضي الله عنها فقالت: ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله به.أ.هـ
فالذين يريدون امامة الخير دون بلاء واهمون ويبنون احلامهم على رمال وسراب.
في هذه الحالة يقف الناس في فرق شتى بحسب مقام الآخرة في قلوبهم وبحسب رغبتهم عن هذه الدنيا الفانية، وأبعدهم عن الله تعالى وأشدهم إيذاءً لأهل البلاء هم أولئك الذين ملكهم الله تعالى ألسنة الشر، منافق القلب عليم اللسان، هذا الذي يقف ليفسر كل الحدث بحسب ما فات الناس من دنياهم وما خسروا من رغباتهم، فالآخرة لا حضور لها في قلبه، يتحسر على الموتى حسرة أهل الجاهلية إذ يراهم قد خسروا الدنيا وهي عنده كل شيء ولا شيء بعدها.
فلا يرى الشهادة ولا ما أصاب الشهداء من الفضل الالهي وذلك بأن اختصهم الله بأن قبل منهم دماءهم وأرواحهم عنده ليجزيهم بها خير الجزاء وأحسنه، وينظر فلا يرى الا المساجين والأسرى قد حوتهم الجدران والأقفاص فينقطع قلبه حتى يقول لك" لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم".
ولا يرى بل يعمى عن رؤية ما أصاب الناس من فضل التمحيص ليحصل الخير صافيا في نفوس الناس لا دخن فيه، فالتبر لا يخلص ذهبا حتى يفتن بالنار، والبلاء هو فتنة الصالحين، ومن ذلك ان الله يحب تأوههم وبكاءهم ويعجب لدموعهم وهي تستغيث به وترجوه وتساله الرضى والنجاة والقبول، وكيف لا يحب الله تأوههم وإمامهم ابراهيم عليه السلام، امام أهل البلاء والمحنة وقدوة اهل التضحية، فهذا النبي العظيم مدحه الرب جل في علاه بأنه أواه حليم وأواه منيب.
فبالله عليكم من اصفى قلبا ومن أرقها؟!
أهؤلاء المنعمون على الفرش المالؤون بطونهم، المستكثرون من دنياهم؟ اذ قدلا يخطر على بال الواحد منهم ان يبكي بين يدي الله تعالى، فهولا يشعر أن له حاجة عند الله ليسأله اياها، فلايستغيث به استغاثة ذي النون عليه السلام في بطن الحوت وهو الذي قال الله عنه:
"فنادى في الظلمات أن لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين". وتأمل ثم تأمل كلمة (نادى) لترى فيها حال الداعي وشدة طلبه لقضاء حاجته.(/1)
هؤلاء القوم الذين شابهوا الكفار والمشركين من أهل الكتاب الذين قال الله تعالى عن قولهم بعد حصول البلاء لأهل الإيمان بعد أحد: "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور".
هؤلاء الذين لا هم لهم الا: "سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير" فليس لهم الا ألسنة الشر، كرماء فيه بلا منع، لكنهم على الخير وأهله بخلاء أهل منع وشح:
لاخيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق ان لم يسعد الحال
فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أما واقع الحال فوالله مليء بالبشارات رغم كل المحن، بل هي في الواقع تتلألأ كالجواهر الثمينة وسط الركام الكثيف، ووالله عميت عيون لا ترى كل هذه المنن الا وساءت ظنون بربها لا ترى هذه البشائر الجليلة الشريفة القادمة من وراء سدف الغيب تحث الخطا في كل البلاد والصعد والأقطار.
في قصة الحياة التي نحياها في الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام وخصومه، هي قصة تمتد منذ الأزل وهي علة الوجود فإليها تعود كل الحقائق لأنها بين من آمن بالله وبين من كفر به، وقيمة الحياة إنما تكون من خلال ميزان الإيمان ومعياره، فكل ما فيها باطل كما قال الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه، إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وعالماً ومتعلماً، ومعيار النصر والهزيمة هو من خلال تحقق العبودية في نفس المرء، فقمة النصر هو تحقق التوحيد والإيمان، والهزيمة هي التراجع عن قيم الإيمان والتوحيد، وتلك هي حكاية الحياة.
هذا الكلام لا نقوله حتى نعيش الوهم أننا في نصر، لا والله، فنحن نعلم أن دولة للإسلام قد زالت اليوم، وأن شباباً للإسلام قد قتلوا وسجنوا، وأن الكثير من أهل الإسلام في تشرد ومطاردة، كل هذا نعلمه، لكن نعلم كذلك أننا في هذه المحنة حققنا أعظم نصر منذ أن سقطت الخلافة الإسلامية. ذلك أنه لما سقطت الخلافة الاسلامية كانت هزيمة لأهل الاسلام منكرة، لا لأن دولة الاسلام قد زالت فحسب، فهذا أمر سنني في تداول الخلق كما قال تعالى"وتلك الايام نداولها بين الناس" وكما قال العربي قديما : يوم لنا ويوم علينا/ يوم نساء ويوم نسر" لكن الهزيمة العظمى يومها حين تراجع الاسلام في نفوس أهله، وحين صارت المعركة لها رايات أخرى غير راية الاسلام، وحين ارتد الناس الى جاهليتهم فتلك والله كانت الهزيمة الكبرى الشنيعة.
حين ضاعت فلسطين في النكبة الأولى كانت هزيمة وأي هزيمة، فقد جالت فينا الشياطين جولتها، وانتشر الالحاد بين الشباب، ودخلت المفاهيم والعقائد الغربية الينا، فهذا شيوعي وهذا بعثي وهذا قومي وهذا يميني وهذا يساري وهكذا، هذه هي الهزيمة في الدنيا والآخرة.
أمتنا طردت الاستعمار الأجنبي من الأرض في مطلع القرن الماضي، فهل كان خروجه واستقلال البلاد كما سموه نصرا؟!
لا والله بل هو تكريس للهزيمة، لأن الإسلام لم يكن هو البديل عن حكم الكافر الأجنبي، بل ابتلينا بكافر مرتد أقذر وأشنع وأسوأ من الكافر الأصلي.
إذا تأملت هذا يا عبد الله وأنعمت فيه النظر علمت ما هو ميزان الحكم على الحوادث والنوازل، ثم علمت ما هو النصر على حقيقته وما هي الهزيمة على حقيقتها.
ثم تأمل قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} فماذا ترى النصر وقرينه في هذه السورة الجليلة?
إنه: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
إن النصر هو عدم اهتزاز يقين الناس، وعدم فقدانهم لثقتهم بهذا الدين العظيم، وثباتهم على مبادئهم العظيمة التي آمنوا بها.
فماذا ترى اليوم لو تأملت ما وقع الى الآن من المعركة؟، ذلك لأن المعركة لم تنته بعد، والكلمة الأخيرة في قصة الصراع لم تكتب، فما زال في حكاية الصراع بيننا وبين الباطل سطور، بل وسطور كثيرة ستكتب بالدم والدخان والعرق والنار، أقول فماذا ترى اليوم وقد سقطت حركة طالبان الاسلامية، ومات شهداء، وسجن شباب، وتشردت عائلات وأهالي؟
إن سألتني ما أرى، وما أسمع؟، فألق إليَّ بعض انتباهك:
والله ما أرى إلا إقبالاً على دين الله تعالى وزيادة تمسك أهله به، ولقد شهدت بعض من كان يأمل أن يقوده صدام حسين البعثي الى النصر وتحقيق الوعود الإلهية، فلما انكشف الغطاء على كذب وكفر ذاك البعثي انتكس الرجل في دينه وصدرت منه كلمات الردة والكفر، لكني والله وأنا المتابع لم أر في هذه المعركة (التي هي بين الأخوة المجاهدين في أفغانستان والصلبيين والأحزاب الكافرة) من ندم أنه وقف مع الحق أو قال كلمة حق، ووالله شهدت من مات له حبيب فما زاد أن خلط مع حزن الفراق فرح الإيمان أن حبيبه مات شهيداً في سبيل الله تعالى.
ثم والله لا أرى إلا رغبة في الشهادة في سبيل الله تعالى في نفوس الشيوخ والكهول والشباب، وإن أحدهم يخبرني عن أبيه المسن أنه ليس له رغبة في هذه الحياة سوى أن يصنع ما يصنع شباب الإيمان في فلسطين.(/2)
وإني لأشهد أني لا أرى في شباب الإسلام ممن لم يشهدوا المواقع إلا حزناً أن فاتتهم الموقعة وفاتهم لقاء الرحمن شهداء، وإنهم ليقولون ما قال أنس بن النضر رضي الله عنه لما فاتته معركة بدر الكبرى قال: "لئن أشهدني الله موقعة أخرى ليرين الله ما أصنع".
فهل هذه الموقعة وهذه المواقع التي يشهدها أهل الإسلام في أفغانستان وفلسطين وكردستان والفلبين وكشمير والشيشان وغيرها من بلاد الاسلام تصنع نصراً وإيماناً، أم أنها صنعت هزيمة وتراجعاً؟!
تأمل وتدبر تجد الجواب، لكن دعك من أهل الإرجاف والتخويف والتثبيط.
دعك من الذين يقولون كما قال أئمتهم:{غر هؤلاء دينهم} قالوها بعد موقعة أحد حين أصيب أهل الاسلام بجرح لم يكن إلا كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه *** وربماً صحت الأجسام بالعلل
دعك من الذين قالوا: لقد ورطونا وورطوا الأمة، يقولونها نصرةً لطرائقهم البدعية، وجماعاتهم الهرمة، ومذاهبهم العجيبة،.
فهؤلاء لو انتصر الاسلام على غير أيديهم لما عدوه شيئاً، لأنهم اختزلوا الاسلام في ذواتهم وأحزابهم، فلا يرون الخير إلا في شيوخهم، فميزان النصر عندهم ميزان خاص عجيب حتى إني رأيت لأحدهم عجباً عُجاباً، وذلك أنه عدّ تعيين واحد من حزبه في منصب وزير لوزارة خدمات لا يحل ولا يربط عدّ هذا تمكيناً لأهل الاسلام في الأرض، فهذا نصر لأنه من حزبه وعلى يدي جماعته، وأما دولة طالبان الاسلامية بكل خيرها لم تكن عندهم شيئا.
دعك من هؤلاء الذين جلسوا على أفواه السكك كقطاع الطريق ليس لهم إلا هم الجلد وممارسة المشيخة الكاذبة على مجموعة صبية صغار لا يعرفون إلا بركة الشيخ وتقديسه، يعيشون في دورة صغيرة عجيبة: هم جهلة يمرحون وأشياخهم أجهل يجلدون.
دعك أخي المسلم من الذين يريدون عزة الاسلام ويريدون تحقيق الخلافة الراشدة وهم يصارعون أهل الاسلام فقط على مسجد يتقاسمونه أو على التقاط صاحب جيب لا نظر لهم إلا الى ماله، فإذا استطاع تسجيل خطبة له أو درس طار به كأنه أتىبعنفاء مغرب وتحقق النصر.
دعك من هؤلاء ومن أمثالهم الكثير ممن لا يرون الحياة إلا رغداً وترفاً ،ووجه نظرك الى مقدار تحقق العبودية في الخلق حينها سترى الكثير من الخير.
سترى أخي مع ما تقدم أن أهل الاسلام وأهل الجهاد منهم خاصة هم الذين يقيمون الحجة على الخلق، فهم الذين حاكموا الكفر كله، وهم الذين كشفوا باطله، وهم الذين يقرعون العقول لئلا تنخدع من تلبيسات الظلم والحيف الذي يعيشه العالم فتحقق في هؤلاء فضل الأمة بأن جعلها شهداء على الخلق كما قال الله تعالى في الآية التي ابكت حبيبنا المختار:فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.
فمن الذي يصارع قوى الكفر اليوم سوى شباب الجهاد وأمة الاسلام، فالكل قد رضخ ورضي من الغنيمة بالإياب وكأنه خدع بلعبة نهاية التاريخ، فقد انتهى كل شيء ولا أمل، فأمريكا هي السيد المطاع، وهي الآمر الناهي، ولا حل سوى الدخول في ركابها، والإنضمام الى خيلها ورجلها، فهي التي نادت في الخلق: أنا ربكم الأعلى، وتبجحت حتى نطق زعيمها وقال: ما علمت لكم من إله غيري، وسارت كما سيسير تابعها الدجال، معها على يمينها جنة الوهم الكاذبة، وعلى يسارها نار الوعيد والتهديد، تتبختر وتملأ الأرض من زهمها ونتنها، فهذه القرية العاتية الظالمة من يقف لها اليوم وهي التي سلبت ثروات الشعوب فهم في فقر مدقع وهي في غنى وثراء كما هو حال المكسيك، فهذه الدولة التي تعد من أوائل الدول في الثروة النفطية ومع ذلك مدينة بأرقام فلكية ولا تملك من ثروتها قطرة واحدة، لأن أمريكا سلبتها كل ذلك وكما فعلت في الكويت والسعودية.
وهي التي قضت على حرية الدول وخصوصا منها العربية والمسماة بالاسلامية، فهم كالدواب، نعم يأكلون ويشربون لكن لا يملكون لأنفسهم قراراً ولا كلمة كما هو شأن اليابان وألمانيا كذلك.
وهي سيدة القرى في مجلس الأمن، فكلمتها النافذة وأمرها المطاع، وأمريكا هي التي أبادت شعوباً كاملةً كما فعلت مع الهنود الحمر وبارقام فلكية لا يمكن تصديقها بلغت على أقل تقدير مأتي مليون انسان ويقدرها مطران نصراني شهد المأساة بمليار هندي أحمر، والكل ساكت وراضٍ أن أبقت لهم بعض حياة على هامش هذه الدنيا.
هذه القرية الظالمة من الذي أحضرها للمحاكمة والمسائلة?!
ومن الذي أنزلها من كبريائها الى محكمة التاريخ؟! أليسوا شباب الاسلام؟ بل أليسوا شباب الجهاد؟.
وهنا أخي الحبيب لا تغرك هذه الصرخات المستعلية، ولا تخدعك مناظر الاستعراض لهذه القرية اليوم فما هذه الا فقاعة صابون وستجري عليها سنة الله تعالى في أخذه للقرى الظالمة.
تذكر ما قاله الله تعالى وتنعم فيه تسلم.
إقرأ معي قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى الظالمة إن أخذه أليمٌ شديد}.(/3)
وتأمل قوله تعالى: {أخذه} فإنها تدل على تمام مكر الله تعالى بهم وبهذه القرية اللعينة الفاجرة، وهي تدل على أن هذا العذاب لا يقيم لهم قائمة، وهذا بخلاف ما يصيب المؤمن من البلاء فإنه وإن اشتد عليه إلا أنه لا يقضي عليه ولا يفنيه وقد فصل هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أجمل تفصيل وأبدعه وذلك في مثل للحالين، حال المؤمن مع البلاء، وحال الكافر مع العذاب الدنيوي، فمن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تُفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة"[حديث في الصحيح].
فالمؤمن لا تكسره الإبتلاءات والمحن وإن بدت أنها قضت عليه وانتهى، بل هي تميله مع بقائه على أصله، وأما الكافر فإن عذاب الله تعالى في الدنيا يقضي عليه ويزيله، وهذا الأمر لو أخذته على فهم السنة الإلهية الكونية في الخلق لرأيته ينطبق تمام الانطباق لا يُخرم أبداً، فكم من أمة كافرة عظيمة القوة والسلطان مرت على هذه الأمة، فهل ترى لهم اليوم ذكراً أو وجودا؟؟ لا، بل ذهبوا وبادوا وصهرتهم الأمة حتى لو طال زمانهم في أرضنا، وبقيت هذه الأمة عصية على الافناء والدمار والزوال، وكان أشد ما أصابها هو تبديلها لدينها في محنة التغريب الأخيرة حيث حلت فينا قيم الجاهلية، وخرجت طوائف من هذه الأمة تلحق بالمشركين، ولكن بفضل الله ها هي جموعٌ من الأمة تعود لدينها، بل ودينها الصحيح الذي تعرفه من خلال توحيد الله تعالى والبراءة من المشركين.
وإن سبب هذا الأخذ الشديد إنما هو الظلم، فالظلم هو سلطان الله تعالى بلحوق العذاب على القرى، وهو أسرع ما يأتي بالنقمة، وإنه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"[حديث صحيح].
وإن من مكر الله تعالى بهؤلاء أن يأخذهم وهم في أوج سلطانهم كما قال تعالى: {فخرج على قومه في زينته} فماذا كان لقارون وهو في وهمه؟، والناس يتمنون ماله: {قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم}.
أما أهل الدين والعلم بعواقب الظلم والكفر والطغيان فهم الذين نظروا الى رضى الرحمن: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم، ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون}.
إي والله ولا يلقاها إلا الصابرون.
في الزينة وبين قومه كان العذاب:{فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}.
فهذه هي سنة الله تعالى في أخذ الظالمين، وذلك أن يأخذهم في أوج استكبارهم وعلوهم ورفعتهم، (كما قتل السادات وهو في أوج كبريائه).
وكما قال الله تعالى عن فرعون وجنوده: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}.
فما ترى من هذه القرية الظالمة (وهي أمريكا) من استعلاء إنما هي القهقهية الأخيرة، ووالله إن العقلاء فيها مشفقون عليها لما يرون من سفاهة أهلها وقادتهم، وكان الناس يتساءلون لِمَ لَم تتعظ أمريكا مما حصل معها؟ ونسوا سنة الله تعالى الجارية في الظالمين أنَّ بصيرتهم معطلة وأن تفكيرهم بالعواقب لا وجود له.
ولكن عليك أخي المسلم أن لا تستعجل، فلا بدّ للأمور من جريانها القدري الذي لا مفر منه ولا بديل عنه.
ثم اقرأ معي قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطورا}.
فلا بدّ للقرية من هلكة وإلا فعذاب، وأما الهلكة فلأن كبرياء الله تعالى تمنع حصول الضد لها، والعلو والارتفاع واستقرارهما تأباهما كبرياء الله تعالى، وهو ظاهر بين في تاريخ البشرية، وقد نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أن ناقته عليه الصلاة والسلام لم تكن تسبق، فجاء اعرابي على بعيرٍ له فسبقها، فشق ذلك على أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما ارتفع شيء إلا كان حقاً على الله أن يضعه"[حديث صحيح]. و(شيء) منكرة لتدل على الاستغراق والعموم، فسبحان الذي جعل العزة إزاره والكبرياء رداءه، وأما العذاب فهو عقوبة العصيان والظلم والطغيان.
والرب يغار، ومن يغار ويملك القوة فلا بدّ أن ينتقم ممن تجرأ على حماه ومحارمه، وهذه القرية (أي أمريكا) الحقيرة الذليلة علت وعصت.
ثم اعلم أن سنة الله تعالى اليوم هي هي كما كانت وستبقى، وإياك أن تظن أو يأتي على وهمك أن سنة الله تعالى الكونية اليوم قد تغيرت، حيث صار بدل الحمار طائرة، وبدل الرمح صاروخاً، فكل هذا من مكر الله تعالى بالظالمين، حيث يكون الأخذ الشديد.(/4)
إن هذا العلو للقرية الظالمة الذي تراه اليوم يا عبد الله خداع زائف لا أساس له ولا قرار، وسل إن شئت كم تحتاج هذه القرية الظالمة الى هزة لتكون قاعاً صفصفاً، يتهارش أهلها فيها تهارش الحمر، وتختلف كلمتهم حتى يقتل بعضهم بعضاً.
وسل إن شئت أهل الخبرة الى أي درجة هذا الاقتصاد متيناً يتحمل الهزات والكوارث، وهل هذه الأوراق البنكية تصمد أمام محن التاريخ أم أنها ستصبح وبالاً وسبب هلاك أهلها.
وسل إن شئت أهل المعرفة عن روابط هذا المجتمع، وعن قواعده الاجتماعية هل تصلح لتمنع الناس من أن يأكل بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض حين يحصل بعض الانفلات الأمني، فكم في كل دقيقة يحصل من حوادث السرقة، والقتل، والاغتصاب، وهل هذه القشة الخادعة ستصمد كثيراً مع عامل الزمن الذي يزيدهم أمراضاً وشيخوخة.
أما إن سألت عن مواطن الصراع بيننا وبينهم فإياك أن تخطيء عينك الحقيقة التي يراها كل مؤمن.
في فلسطين: قد تخلى المرتدون عن الأمر، وزادوا البلاء على أهل الاسلام بلاءً، وكان آخرها ما صرح به الملعون ولي العهد العاهر السعودي حيث تاجر بدماء الشهداء، وبتضحيات أهل الاسلام ليجعل كل ذلك ثمناً لبقاء دولة يهود على أرض فلسطين، ومع ذلك فماذا ترى هناك؟؟؟
هل ترى تراجعاً أم هو الإقدام من شباب الاسلام نحو الشهادة والموت في سبيل الله تعالى؟
هل ترى استسلاماً أم ارادة الصمود حتى لو أدى ذلك الى الموت عن آخرهم؟
ضع دائماً الأمور في نصابها ولا تقع ضحية الاحصاء الكاذب ذلك بأن ترى البلاء ولا ترى العطاء، وترى المحن ولا ترى المنح، بل حين يكون الحساب متعلقاً بالشعوب وتاريخها لا حساب التجار بقرشهم ودرهمهم تكون قيمة الارادة في نفوس الشعوب هي الحياة وهي النصر.
وإن شئت دليلاً من الزمن الحاضر على قيمة ارادة الشعوب حتى لو كانت كافرة فانظر الى جنوب أفريقيا وتأمل ما فيها من عبر تعرف لمن تكون الخواتيم.
لقد أقيمت دولة يهود حين كان اليهودي صاحب ارادة وهمة للوصول الى هدفه، وقد ضحى بالغالي والنفيس لتكون له هذه الدولة، ولم تأته كما يظن البعض على طبق من فضة، بل عانى وقاسى وبذل حتى تحقق له ما أراد، ووقتها كانت أمتنا قد علقت آمالها على حكام مرتدين جاؤوا بعد هزيمة ما يقال له بالاستقلال، فرجوا منهم الخير فما زادوا الأمر إلا شراً وعذاباً، مع أن اليهود يومها كانوا مجرد عصابات وجماعات لا دولة لهم ولكنهم بالارادة تحقق لهم ما يشتهون.
واليوم من هو الذي يملك هذه الارادة?
ومن الذي طلب الموت مظانه?
لا شك أنك معي في الجواب.
واعلم أن من يملك هذين الأمرين سيكون له مراده وستوهب له الحياة.
في أفغانستان: هذا البلد الذي كان قدره في هذه الحياة أن يكون آية، سواء كان في جاهلية أو اسلام، فهل تظن أن هذه الآية قد بطل مفعولها اليوم مع الغازي الجديد؟؟؟
تعال وتأمل: كل الغزاة وطؤوا أرضه بسهولةعجيبة حتى ليخيل إليهم أنهم في رحلة صيد، فما أسهل أن يتراجع أهلها بطريقة تذهل كل مراقب، حتى أن العرب الأنصار في الجهاد كان يتعبهم هذا الأمر ويحق لهم أن لا يرضوه، ولو تأملت التاريخ القريب جداً في هذا البلد لرأيت أن الكل يتراجع أمام الكل، وأن أمر التخلي عن الأرض في المعارك لا يعدُّ قضية تُؤرق نفسية المقاتل، حتى إن أحد الأخوان الأنصار قال لي أنه قال يوماً لأحد قادة طالبان وهم يقاتلون مسعود على حدود كابل وقد تراجعوا أمامه بطريقة مذهلة لولا مجموعة من شباب الأنصار العرب صدوه عنها، قال له: لماذا تتخلون عن كابل بهذه السهولة؟
فرد عليه الأفغاني الطالباني: لا عليك ليأخذها ولا بأس في هذا، وسنأخذها منه بعد ذلك.
عجب والله وإيما عجب، وكأن القوم يتصارعون مع خصومهم لا على من ينتصر ولكن على من يصبر.
وهم لا يهمهم ولا يعنيهم كثيراً ما يقول الناس عنهم، وليس هذه من قيم الحياة الكبيرة لديهم.
ثم ثانية: مبدأ الغنيمة هو جزء من حياتهم، فالقتال حياة على معناه الدنيوي حتى ولو خلا من حقيقته الجهادية وتحصيل الآخرة، وهذا أمر قد يزعج بعض الأخوان ولكن حين يصبح الجهاد حركة أمة كاملة لا طائفة ونخبة فلا بدّ من هذه الاعتبارات لأهميتها في حسم الصراع وفي استدامته أولاً.
إن من خبر طريقة القوم في القتال ضد خصومهم يرى أن مبدأ الغنيمة أمر مهم في التحريك والتفاعل، وقد قال هذا الأمر الرجل الذي خبرهم حتى النخاع خلال الجهاد ضد الدب الروسي صاحب كتاب (فخ الدب) وتحدث في هذا الباب عجباً عن أهل أفغانستان، وقال بأنه لم يحصل قط أن قام المجاهدون الأفغان بعملية ذات شأن ضد الروس إلا وعين المقاتلين الى ما سيحصلون من غنيمة في المعركة، فإذا خلت المعركة من هذا الأمر فمن الصعب بل لم يحدث قط أن تحركوا معها أو فعلوها.
وقد علم الأنصار العرب أن بعض مناطق الجهاد في أفغانستان كان المجاهدون يتركونها رجاء أخذ العدو لها حتى تمتليء بالطعام والذخيرة فيعودون ويقاتلون عليها فيحصلون الغنيمة الجديدة.(/5)
هذا المبدأ ليس عجيباً ومن ظن اأنه فريد في التاريخ الاسلامي مع الجهاد فهو مخطيء، فإن شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقرر أنه قلما خلص جهاد الناس عند المتأخرين عن رغبة الملك والغنيمة ،يقول رحمه الله تعالى: فإنه لا بدّ من أحد أمرين إما ترك الغزو معهم (أي الأمراء الفجار والعسكر كثير الفجور) فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضرراً في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الاسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها، فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه. انتهى.
وها أنت ترى الآن كيف يتحرك الخير هناك وعلى طريقته، وقطعاً أنك لن تفهم الأمور جيداً إذا كنت من أهل الوهم والأحلام وهو أنك تتصور المعارك كما تتخيلها: وهو ما يصوره البعض بأن يأتي أهل الاسلام على خيول بيضاء يصرخون وهم شاهرون أسلحتهم فما هي إلا لحظات حتى تترك ساحة المعركة وقد أبيدت خضراء الأعداء، لا، دعك من هذه الأوهام، وإن شئت فاقرأ بالتفصيل ما كتب في ثنايا السطور عن الحروب الصليبية تدرك أن الانهاك الذي كان يقوم به طائفة العلم والجهاد هو الذي حقق النصر في المعارك الكبرى لا المعارك الكبرى ذاتها، بل لم تكن هذه المعارك الكبرى كحطين إلا محصلة لمعارك صغيرة لا تكاد تذكر في التاريخ لكنها كانت الأرقام الأولى لتشكل النصر الكبير النهائي.
وها أنت اليوم أخي الحبيب تقرأ وتسمع كيف أن القضية ما تزال تسير على سنتها وبابها/ و لم تخرم منه شيئاً، ولعل معارك غرديز وخوست الأخيرة ومطار قندهار الذي هاجمه الأخوة أكثر من مرة تعطيك بعض الجوانب فيما تسأل عنه.
وذاك في ذات الاله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع.
وعجيب من قوم أغلقوا الملف فما بين باكٍ يائس هزته المناظر ولم يعد في قلبه بريق أمل، أو قوم أخذتهم نشوة الاستهزاء والضحك على قوم وثقوا بالله وآمنوا به وبوعده فلم يجدوا شيئاً بحسب نظرهم وحساباتهم.
إن التاريخ لم ينته وما زال في القصة فضل بقية هو الأجمل لنا في هذه الدنيا، وإن كان أولها أجمل لمعنى الصبر والبلاء، لكن آخرها كما قال تعالى: {وأخرى تحبونها نصرٌ من الله وفتح قريب}.
وتأمل في قوله تعالى: (تحبونها) تعلم موقعها في هذه القصة وأين تقع.
إن العين التي لا ترى إلا ألمها عين مهزومة لا تصلح لخوض الحروب ولا لحمل آمال الأمم وأهدافها فالله تعالى يقول:
{إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}.
إن قصة اليوم هي قصة الأمة في كل أزمنتها وفي كل أوقاتها، هكذا هي، فما الشيء العجيب اليوم نعيشه وهو على خلاف ما نعرف؟!.
يا قوم إن لم يكن لكم في كتاب الله تعالى عبرة وهداية وجواب لما سيقع من قصة هذا الصراع مع هذا القرن الرومي وهذه القرية الظالمة أمريكا فاعتبروا بالتاريخ الذي تتبجحون أنكم تقرؤونه ،واعتبروا بالسنة الكونية التي تزعمون أنكم قد هديتم إليها، فأنتم تتشدقون بها أكثر من قراءتكم لكتاب ربكم.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولكنكم تستعجلون"[حديث صحيح].
وإنه لمن العجب فيما يقع أن يكون أهل البلاء هم أكثر الناس ثقة بنصر الله تعالى، وأن يكون القاعدون هم أهل الشك والريب.
والسبب واضح؛ ذلك أن القاعدين لا يرون إلا ما يسوقه سحرة فرعون من اعلام وزخرفة القول وانتقاء الصور، فترتجف أوصالهم وتهتز بوادرهم، ويسقط في أيديهم،.
وأهل البلاء يعيشون رحمة الله تعالى، ويحسون نعمة الله تعالى بأيديهم، وبهذا تستمر بسمة وجوههم، فهذا واحد من جنود الطاغوت الأمريكي الجرحى من معركة غرديز الأخيرة يصف غرائب أهل الإيمان وهو يقصفهم بطائرته ويقول: لقد كان باستطاعتنا أن نسمع ضحكاتهم وهم يقاتلوننا.
الله أكبر الله أكبر.
وهذا الملا محمد عمر حفظه الله تعالى من كل مكروه يتصل بحاكم قندهار الجديد ويحذره من أن يزيد في عذابه على الناس لأن الأمر لن يطول، والمحكمة ليست بعيدة في يومها عنه.
والبشائر كثيرة لو تعلمون، لكن لا بدّ من الصبر.
وها بين يدي حديث عجيب يبين لك افتراق الناس في مثل هذه الأحداث وكيف ستكون العاقبة ولمن ستكون، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه من طريق أبي قتادة العدوي رضي الله عنه، عن يسير بن جابر رضي الله عنه قال: "هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجير، إلا: يا عبدالله ابن مسعود جاءت الساعة، فقال: فقعد وكان متكئاً، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يُقَسّمُ ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام فقال: عدوٌ يجمعون لأهل الاسلام ويجمع لهم أهل الاسلام، فقلت: الروم تعني؟ قال: نعم، قال: ويكون عند ذاكم ردة شديدة"[هذا لفظ مسلم رحمه الله تعالى].(/6)
وفيه تفصيل لهذه الردة وما يحدث بعد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليه جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً".
أما كيف يقتل أهل الاسلام، فالتفصيل في حديث ابن مسعود رضي الله عنه فنعود إليه.
قال: فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتلون، حتى يفيء هؤلاء وهؤلاء، كلٌ غير غالب، وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الاسلام، فيجعل الله الدائرة عليهم، فيقتتلون مقتلة، إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم ير مثلها، (والشك هنا من الراوي) حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً".
وهذا الحديث عظيم وإن لم يأت تأويله بعد لكنه كأنه يصف حال الأخوة المجاهدين الأفغان من الطالبان والمجاهد الملا محمد عمر في عدم تسليمهم لأمريكا الشيخ المجاهد أسامة بن لادن حفظه الله تعالى أو اي أحد من الأخوة المجاهدين الأنصار فإن قول الروم لجماعة من أهل الإسلام: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم هو كقول امريكا لطالبان خلوا بيننا وبين العرب والمجاهدين نقتلهم ونقاتلهم فما كان جواب أهل الإيمان الا: لا والله لا نخلي بينكم وبينهم فإنه الدم الدم والهدم الهدم.
كما يبين منازل الناس في الفتن، وكيف يقع نصر الله تعالى على البقية الباقية من أهل الايمان.
فقسمٌ من المسلمين يفر من المعركة، وهؤلاء لا يتوب الله تعالى عليهم أبداً، وقد رأينا شبيهاً بهؤلاء في هذه المحن كيف خذلوا أهل الاسلام، بل كيف أعانوا الكفرة الملاعين وأفتوا لهم بقتل المسلمين، وأصدروا الفتاوى العجيبة التي تمجها عقول الأسوياء فضلاً عن عقول أهل الايمان، بجواز مشاركة المسلم الكافر في قتل المسلمين، فهل هؤلاء يعودون الى خير، لا والله حتى ولو تابوا فإنهم لن يعودوا الى ما كانوا عليه، وقد بلغني عن أحدهم وقد خاض في الشر مع من خاضوا ثم آب الى رشده فهو في هم ونكد، فلما بلغني خبره قلت: هيهات أن يعود الى ما كان عليه، فإنه وإن تاب فأين الدماء التي سالت؟، وأين من ذهب مذهبه واستدل بأقواله؟، كيف يرجع ايمانه الى ما كان عليه، فالله المستعان.
وأما طائفة الإيمان فهي طائفة البيعة مع الله تعالى، فهي التي يفتح الله تعالى عليها، ولا يفتح الله تعالى عليها حتى يذهب أكثرها، حتى إن الحديث في نهايته يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "فيتعاد بنو الأب كانوا مائة، فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يُفرح؟ أو أي ميراث يقاسم?".
فأين هؤلاء الذين يتصورون نصراً أشبه بمهرجانات السيرك المزخرفة?.
إن الأمر أمر دماء وأشلاء وبلاء، وهذه هي طبيعة المعارك اليوم ليس لها صورة إلا هذه، ولكن هذه الصورة لا تسقط الجهاد ولا تجعله حرباً مكروهة كما يريد بعض المأفونين تصويرها ليلزموا أهل الاسلام بالذل وقبول الرضوخ لأعدائهم.
إنها حرب فيها القتل والدمار ولكن العاقبة للمتقين، وأما الجمع فسيهزمون ويولون الدبر ولا شك في وعد الله تعالى.
إن البشائر والله كثيرة وعديدة، من فلسطين الحبيبة، الى أفغانستان أرض الآيات، الى الشيشان الأعجوبة، الى كل هذا الزخم الايماني المتعالي المتصاعد في كل الصعد.
فأيُّ عيون عمياء هذه التي لا تبصر هذا?!.
أما الذين يحصون عدد موتانا وسجنائنا وبذلك يقيسون الأمور فقل لهم: إن زلزالاً صغيراً واحداً في مصر أو في تركيا أو في أفغانستان يحصد هذه الأعداد، بل احتراق قطار في مصر أودى بمئات القتلى، فمن أجمل ومن أعظم في ميزان الله تعالى وميزان الايمان والآخرة، موت هؤلاء شهداء في سبيل الله تعالى أم موتهم وأغلبهم في معصية وسكر وادبار عن الله تعالى؟!
{نبؤني بعلم إن كنت صادقين}.
ثم تذكر أن الله تعالى لم يَعد أهل الايمان أن لا يبتليهم ويقرمهم، بل حصول هذا هو من طبيعة الطريق لكن يحتاج الى الصبر كما قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[حديث صحيح].(/7)
فكما كانت معركة بدر نعمة ورحمة، فكذلك معركة أحد نعمة ورحمة، كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قال: فكان من حكمة الله تعالى ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم، ليمحص الله الذين آمنوا، وينيبوا الى ربهم، وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الاسلام فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر، وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام، فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف، كما أن نصر الله تعالى للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة، وهزيمتهم يوم أحد كانت نعمة ورحمة على المؤمنين. انتهى.
إن اليأس من رحمة الله تعالى من الكبائر بل من اعظمها كما قال الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: إنه لا ييأس من روح الله إالا القوم الكافرون، وأن من اعظمها اشاعته بين أهل الإسلام كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: من قال هلك الناس فهو اهلكهم.
وقد عد رسولنا اليأس من الكبائر كما في الحديث الصحيح.
وإن من علم سنة صعود الأمم وهبوطها ومن قرأ تاريخ الحضارات وكيف تشاد وكيف تزول ليعلم علم اليقين من هو الذي من الفريقين في علو ومن هو في هبوط.
انظر لهذه الأمة اليوم ووعيها وقارن هذا الوعي بما كانت عليه قبل ،وكيف ميزت اصدقاءها من اعدائها وكيف ادركت الطريق الصحيح فيالتعامل مع خصومها، وكيف علمت حقيقة حكامها.
لتكن دائما على ذكر بما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض وسيبلغ ملكي ما زوي لي منها.
وما تراه من مكرهم فاعلم انه في تباب. وما تراه من انفاقهم فسينفقونه ثم يكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا الى جهنم يحشرون.
وأنك حين ترى هذه الجموع وهي تتدافع نحو الشهادة، وإنك حين ترى هذه الأم وهي تقدم ابنها لها وهي تعلم أنه لن يعود، وإنك حين تعلم أن أهل الإيمان يتفلتون من دنياهم كأنها الجرب ويركضون الى رضوان الله، ثم تنظر في الجهة المقابلة فترى كل خسة ونذالة وترى تكالبا على الدنيا، وترى هبوطا أخلاقيا لا يتصور.
تعلم حينها لمن العاقبة إن كان لك بصر.
قف عند هذه المعاني الايمانية يا عبد الله وارجع الى نفسك بالتأديب والتعليم، واستجمع ارادتك فلعلك تصيب ما أصابه أنس بن النضر رضي الله عنه في أحد، أو يقع عليك الوعد الالهي، وهو حقاً نراه.
والحمد لله رب العالمين.(/8)
تمزق العمل الإسلامي بين ضجيج الشعارات واضطراب الخطوات
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
تمهيد
أقدّم هذه الكلمة لا لأنتقد ولكن لأنصح، ولا أوجهها إلى فئة معينة ولا إلى حركة خاصة في الساحة الإسلامية، ولكن أوجهها إلى نفسي أولاً فأنصحها وأبذل جهدي لآخذها بالعزيمة. ثمّ أنصح لكلِّ مسلم وكلَّ حركة إِسلامية، والعمل الإسلامي كله، فكل بني آدم خطّاء، كثير الخطأ، وخيرهم من تاب وأناب واستغفر، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف :
فعن أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
(( كلّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوّابون )
[ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم ] (1)
وإِني إِذ أقدّم هذه الكلمة، فإني أقصد بها النصح الخالص لوجه الله، بعيداً عن كلمة " النقد "، فقد اقترحت منذ عدة سنوات أن نستبدل كلمة " النصح " بكلمة " النقد "، وخاصة في ميادين الإسلام والعمل الإسلامي(2)، فكراً ونهجاً وتربية وفقهاً وأدباً. فكلمة النصح أطيب معنى وأغنى دلالة وأقرب إلى نفوس المؤمنين.
شهد العصر الحديث ظهور العمل الإسلامي تحت شعارات مختلفة، اتَّخذ بعضها صورة حزبيّة واضحة ملتصقة بالشعار، واتخذ بعضها شعار العمل الخيري، وقسم آخر ابتدأ نافياً عن نفسه صفة الحزبيّة، ولكنه ما لبث أن كوّن التجمع منه صورة حزبية من الناحية العملية والعاطفية والعلاقات. وحمل كلُّ تجمُّعٍ لوناً من ألوان العصبية التي ساهمت في زيادة الفرقة أَكثر مما ساهمت في جمع القلوب والصفوف.
ونودّ أن نعرض فيما يلي بعض النقاط التي نراها هامة بالنسبة لما نشعر بوجوب النصح فيه في هذه المرحلة من مسيرة العمل الإسلامي.
(1)
أُخوَّة الإِيمان والولاء بين الشعار والتطبيق
ومع الأيام تكوّنت ولاءات متعددة مرتبطة بالشعار أو بالتجمع أو بالأشخاص، في صورة فقدت معها إشراقة الولاء الحق لله، الولاء الأول الذي يجب أن تنبثق منه كل موالاة في الحياة الدنيا، وأهمها أخوّة الإيمان.
أخوّة الإيمان لا يمكن أن تتحقّق في الواقع في الحياة الدنيا إِلا إِذا تحقّق الولاء الأول لله وحده، والعهد الأول مع الله وحده والحبُّ الأكبر لله ولرسوله، لينبع من ذلك كلُّ موالاة إِيمانيّة صادقة وكل عهد في الدنيا صادق، وكلُّ حب في الله صادق.
والولاء كما يصوره لنا منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ هو تصوّر فكريّ محدَّد، وإيمان واضح المعالم، وعاطفة صافية، ومسؤوليات وواجبات، وممارسة إيمانيّة في الواقع، ممارسة إيمانيّة واعية صادقة تقوم على صفاء الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، ووعي الواقع من خلال منهاج الله لا من خلال سواه. إنه ليس مجرّد شعار خالٍ من الممارسة والتطبيق.
فالولاء الأول لله، والعهد الأول مع الله، والحب الأكبر لله ولرسوله، أسس لابد من تحقيقها في النفس، في الفكر والتصور في الممارسة والتطبيق، حتى تتحقّق الأخوة الإيمانيّة على الصورة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، خالية من العصبيات الجاهلية، نقيّة من الأهواء وتضارب المصالح الدنيوية الماديّة.
وأخوّة الإيمان ليست عاطفة فحسب، ولكنها مسؤوليات وواجبات، وحقوق والتزام، لا تسقط حتى لو تغيّرت العاطفة. وهي رابطة المؤمنين جميعاً يجب الوفاء بحقوقها والوفاء بمسؤولياتها بين جميع المؤمنين في الأرض. إِنها رابطة ربّانيّة أمر بها الله المؤمنين جميعاً.
وفي واقع الإنسان لا يتحقق ذلك إلا بالتربية والبناء، والتعهّد والتدريب، والمعالجة والتقويم، والإدارة والإشراف، والمتابعة والتوجيه، حتى يهيّء هذا كله صدق الالتزام تحت الإشراف والتوجيه والمعالجة. لابد من الإدارة الحازمة ونظامها الواضح وقواعدها الجليّة، لترتبط مع نهج التربية والبناء والتدريب والإعداد ومع المناهج التطبيقية والنماذج العمليّة، ليضم ذلك كله نظريّة عامّة للدعوة الإسلامية تحمل معها الدراسات التفصيلية لكل بند من بنودها، وتحمل معها " ميزان المؤمن " !
لقد شهد عصرنا الحديث في الساحة الإسلامية اضطراب التصوّر لمعنى الولاء، حتى كاد " الولاء " نفسه يصبح شعاراً خالياً من نبضة الحياة وإشراقة الممارسة الإيمانيّة. وكادت مبادئ أخرى في الإسلام تصبح شعاراً أكثر مما هي ممارسة، شعاراً نتغنىّ به في المقالات، ونتنافس فيه في ميادين الإعلام " وإثبات الوجود " في الساحات.
من خلال ذلك أصبح الولاء في الساحة الإسلامية من الناحيّة العملية لدى بعض المسلمين ولاءً لرجل أو وطن أو مصلحة على صورة مستقلة عن الولاء لله، ليست نابعة منه، ولا مرتبطة بالعهد مع الله، ولا بالحبّ الأكبر لله ولرسوله.(/1)
وأصبح الولاء للشعار نفسه ولاءً بعيداً عن محتوى الشعار ومتطلباته. فلا عجب إذن إذا شهدنا تمزّق العمل الإسلامي وتفتّته في تكتلات تظل تنقسم وتتزايد وتتوالد، بدلاً من أن تقلَّ وتضمر! من خلال ذلك سهل على الضُّعفاء والمنافقين أن يتسلَّلوا إلى داخل الساحة الإسلامية، يحميهم الشعار والعصبيات الجاهليّة. سَهُل ذلك كله ولكن صعب التمييز بين حالة وحالة. وأصبح العمل الإسلامي يحرص على كسب الأنصار والمؤيّدين، وعلى التنافس في ذلك، أكثر من الحرص على البناء والإعداد والتدريب. وأخذت الأخطاء تتزايد، والانحراف لدى هذا وذاك ينمو، دون أن يجد النصيحة الصادقة والتوجيه الحازم، والمعالجة الأَمينة.
لقد تسلل إلى صفوف المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون، أوحى الله بأسمائهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين للصحابة إِلا لحذيفة بن اليمان، ولكن وضع بين أيديهم ميزاناً واحداً دقيقاً تعلّموه في مدرسة النبوة الخاتمة، يُنزِلون به كل إنسان منزلته الأمينة، ميزاناً يحكم على الكلمة والموقف والعمل، لا بالظن ولكن بالتبيّن :
( ولو شئنا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم )
[ محمد : 30 ]
ولكننا نخشى اليوم أن يكون الميزان قد تعدّد أو تعطل، فسهل على بعضهم أن يخترق صف المؤمنين، وأن يطرح من الشعارات ما يشاء، ولو حملت الانحراف في زخرف وزينة تجذب بعض النفوس، وتختلط مع شعارات الإسلام ومصطلحاته، حتى تتيه المعاني والأفكار. فزاد ذلك من اضطراب معنى الولاء ومعنى أخوة الإيمان، وزاد من تمزّق صفوف المسلمين.
غلب مصطلح " المنهج الوطني " والمصلحة الوطنية، والمصلحة القومية والإقليمية، والأخوة القومية والوطنية والإقليمية والإنسانية في أجواءٍ تمزّقت فيها أخوّة الإيمان، وما حرص بعضهم على الدعوة إليها كما حرصوا على الدعوة إلى تلك. فظهرت صور متعدّده من العصبيات الجاهليّة حتى غُرِست في النفوس، وحملها النثر والشعر والأدب، وتغنّت بها المحافل والأندية.
وأصبح بعض المسلمين حرصون على لقاء غير المسلم والدعوة إِلى التعاون معه، وخفض الجناح له، والحوار معه، دون الالتفات إلى حقوق المسلم ووجوب اللقاء معه والتعاون معه والحوار معه، إلا بمقدار ما توفّره المجاملات واللحظات الآنيّة. مع غير المسلم لين وخفض جناح، ومع المسلم صراع وشقاق!
لو أخذنا جهود قرن أو قرنين من العمل الإسلامي، فهل استطاعت تلك الجهود أن تحقق جوهر أخوة الإيمان، حقوقاً وواجبات، وعاطفة ومسؤوليات، بين المسلمين في واقعنا اليوم ؟! هل استطاعت تلك الجهود أن تبني أخوّة تقاوم عوامل التمزّق، أخوةً تتحقق بين جميع المسلمين، يفهمها الجميع ويؤمنون بها ويوفون حقوقها ومسؤولياتها ؟! وهنا نتساءل على أيّ أخوّة كانت تُربّى الأجيال المسلمة المتصارعة، وما هو الغذاء الذي تلقّته وما هو التدريب الذي نالته ؟! وهل تحقّق الولاء الحق لله فكراً وتصوراً وممارسة ؟!
(2)
بين الشعار والنهج
إنَّ أَعظم شعار نرفعه هو " الكتاب والسنة ". الجميع يرفعونه، بل من يجرؤ على إنكاره علانية أو محاربته جهاراً ؟! كلُّهم يجمعون عليه، ولكن هل التقوا عليه كما التقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد النبوة الخاتمة والخلافة الراشدة ؟! العهد الذي أُمرنا أن نعضّ عليه بالنواجذ تمسّكاً وممارسة ؟! لعل هذا الشعار العظيم لم يتحوّل في واقع بعض المسلمين إِلى نهج وممارسة، إلى نهج يظل ينمو مع الممارسة في هداية منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ. أين الخلل ؟!
قامت " الصحوة الإسلامية " وضج الناس بشعارها، فما وجدت إلا الحماسة العاطفية والتصفيق، ولم تجد النصح والتوجيه، حتى وقعت أشدّ الهزائم مرارة تحت شعار " الصحوة الإسلامية " ! وأَيُّ نصح كان يُرتجى غاب وطُوي بين هدير الحناجر وتصفيق الأكف ودويّ الشعار ! واختفت العيوب والأخطاء والخلل في طيّات الشعار.
كان يجب أن تكون " الصحوة الإسلامية " نهجاً محدَّد المعالم والأُسس أكثر منها شعاراً. كان يجب أن تكون " الوسطية " نهجاً محدد المعالم بدلاً من أن تكون شعاراً رأى فيه الناس مسلسل التنازلات في ميدان الفكر والسياسة بصورة أو بأخرى!
لسنا بحاجة إلى شعار " الوسطية " ولكننا بحاجة إِلى نهجها و فهمها من خلال الكتاب والسنة والواقع. نحن بحاجة إلى أن نفهمها من خلال عمليّة البناء والتدريب والإعداد، من خلال تدبُّر منهاج الله تدبُّراً منهجيّاً، دون الحاجة إِلى شعار الوسطية والاعتدال الذي أخذ ينادي به نيكسون(3)، وأمريكا، وغيرهم. نحن بحاجة إلى تعلُّم منهج " الوسطية " من الكتاب والسنّة حتى لا يولّد الشعارُ مفهوماً للتنازل، وحتى لا يولّد شعاراً مضادّاً هو التطرُّف والمغالاة.(/2)
نحن لسنا بحاجة إلى إطلاق شعار " العدل "، وكلُّ المجرمين في الأرض يطلقونه، فالديمقراطية تطلقه، والعلمانيّة تطلقه، والاشتراكية تطلقه، والثورة الفرنسية أطلقته. وصوت هؤلاء اليوم غلب صوتنا حتى صار بعض الدعاة المسلمين يدعون ليل نهار إلى الديمقراطية وعدالتها وإلى الإخاء فيها والمساواة فيها، في المؤتمرات الإسلامية، وكأنهم نسوا أن للديمقراطية دولاً تدعو إليها وحسبها ذلك، وأنهم يُسمَّون دعاةً مسلمين، أي دعاة يدعون إلى الإسلام، فلِمَ انبرى عدد غير قليل من دعاة الإسلام يدعون إلى الديمقراطية والعلمانيّة وأخوة القومية وأخوة الإقليمية وأخوة الإنسانية، وعدالة الاشتراكية، ومساواة الإنسانية ! ذلك كله تحت شعار الإسلام، دون أن يدعوا إلى أُخوة الإسلام وعدالة الإسلام وحرّية الإسلام، وعهد الله، وإلى ضرورة بناء ذلك كله. لا تنقصنا أخوة الوطن ولكن تنقصنا أخوة الإسلام.
نحن بحاجة إلى أن نطلق " نهج العدل " و " نهج الوسطية "، "ونهج الأخوة " و " نهج المساواة "، كما يقررها الكتاب والسنة لا مجرّد شعاراتها، لقد أصبح " الكتاب والسنّة " لدى الكثيرين شعاراً، دون أن يجدوا في الشعار نهج العدالة والأخوة والمساواة، ولاهم وجدوها في واقع الدعاة المسلمين المتصارعين، والساحة الإسلامية الممزّقة. فاتجهت أنظارهم وقلوبهم إلى الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة، وأخذوا يدعون إِلى عدالتها وأُخوَّتها ومساواتها غير الصادقة !
لقد مضى على قضية فلسطين قرابة قرن، لم يستطع المسلمون أن يضعوا نهجاً نابعاً من الكتاب والسنة، يجمع عليه المسلمون ويلتقون عليه إيماناً وعملاً وتطبيقاً ! وكان لأعداء الإسلام، للطرف الأخر، نهج موحّد التقوا عليه، لقد وجدت قضية فلسطين عاطفة جياشة هائجة كثيراً، ولكنها لم تجد التوجيه الإيماني الموحَّد، وجدت الشعارات التي تتوالى شعاراً بعد شعار، ووجدت الناس يصفّقون لهذا الشعار سنين طويلة، ثم يصفقون لغيره، ثم لغيره، وخلال ذلك يبقى لليهود شعار واحد ونهج واحد ! وخلال ذلك تضيع قضية فلسطين ! يلتقي المسلم مع غير المسلم ولا يلتقي المسلم مع المسلم ! وتجلس الملايين من المسلمين قوى مشلولة معطلة.
لقد غلب العمل الإقليمي أو القومي في قضية فلسطين تحت شعار الإسلام، ولكن لم يكن النهج الإسلامي الجامع هو الذي يحدّد المسيرة. فشهدت قضية فلسطين مسلسلاً طويلاً من التنازلات بين دويّ الحناجر والهتافات وتصفيق الأكف وانطلاق المظاهرات، في صور عاطفية ارتجالية، بعيدة عن سلامة النهج ووحدته، وفي نشاط إقليمي في وسط من الملايين المشلولين. وإِن أَول تنازل وقع من المسلمين كان لابدّ أن يليه مسلسل التنازلات الذي لا ينتهي إلا باليقظة والعودة الصادقة إلى منهاج الله .
لو جُمِع ما كتب عن فلسطين لوجدتَ أكواماً وأكواماً، ولو راجعت المؤتمرات والندوات لهالك عددها، ولو أحصيْت المظاهرات لفاقت التصور، ولو أصغيت إلى الهتافات ودوي الشعارات وضجيجها، ودويّ العاطفة وهديرها، لفزعت، ولو أصغيت إلى الخطابات والبيانات لراعك بيانها، ومع ذلك فقد ضاعت فلسطين :
كلٌّ يقول أنا الذي ينجي الديا رَ بوهمه وشعاره المتعَجّل
كلٌّ يقول أنا " الذي " فإذا " الذي " ليس " الذي " ! يا ويحَ من لم يعدِلِ
يا أُمتي ! كم من دماءٍ قد صَبَبْـ ـتِ ومن صريعٍ في الدّيار مجَدَّلِ
كم جُدْتِ بالكفّ السخيّ على ميا دين النزال وجمعها ؟! لم تبخلي
قد جُدْتِ بالمال الوفير و بالدِّما ء، بكل غصن من شبابك مخْضَلِ
كم من نسائك قد خلعن قلائداً زانت ، وجُدْنَ بكلِّ غالٍ من حلي
يا أمّتي ! مهلاً ! بذلت مع السـ ـنين تطول! أين جنى العطاءِ المجزلِ ؟
يا أمّتي ! لِمَ بعْدَ ذلك لم نجدْ إلا الهزائم ؟! هل وقفتِ لتسألي (4)
كلٌّ يحرص على من معه في التنظيم، حتى تحوّلت " أخوة الإيمان " إلى أخوة التنظيم، فلا يعترف المسلم بأخيه المسلم إِلا إِذا كان معه في التنظيم، وفي ذلك الجزء من التنظيم إِذا تعدّد التنظيم !
ألا ترى أن مِنَ المسلمين مَنْ إذا ذكر " الشهداء " ذكر من ينتسبون لحزبه أو جماعته وأغفل سواهم كأنهم ليسوا من المسلمين، وفي جميع الحالات ليس لأحد أن يحدِّد الشهيد من غير الشهيد، فهو أمر يختص به الله سبحانه وتعالى وحده. وما ذكر المسلمون في عهد النبوة والخلافة الراشدة عن أحد أنه شهيد إلا ما علّمه الله لرسوله، وبلّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين.
ألا ترى أن من المسلمين من إِذا كتب عن الكتاب والأدباء أو الشعراء ذكر أَحِبَّاءه فحسب وأغفل من كان خارج دائرته الحزبيّة أو العائلية أو الإقليمية، وفارق عدالة النهج الإيماني. وحين يكتب غير المسلمين كالغرب مثلاً فقد يتّبعون قواعد يسمونها النهج العلمي، فيوفونه أحياناً أمانة ودقّة. الأمثلة على ذلك في واقع المسلمين كثيرة جداً لا حاجة لذكرها.(/3)
نحن بحاجة إِلى أَن يُنصِف بعضُنا بعضاً، وأَن ننصف الناس جميعاً، فالعدالة أساس في الإسلام نظريّة وتطبيقاً. وإِن كان الإسلام قد حرّم شيئاً من هذا القبيل فإنه حرّم الموالاة والموادّة لغير المسلمين، وأمر بالأخوة بين المؤمنين، وأمر بالقسط والبرّ مع كلِّ من لم يحارب الإِسلام والمسلمين. ولكننا اليوم منا من أعطى الولاء والموالاة والموادة لغير المسلمين، وحرَّم ذلك على المسلمين، فظلم نفسه، وظلم المسلمين، وما قسط وما عدل بذلك مع أحد.
كلٌّ يُريد أن يُثْبت وجوده، أو يُثَبّت وجوده، ليظَلَّ هو ثابتاً مثبَّتاً، ولتذهب الدنيا ! فلا هو أفلح ووضع نهجاً ولا غيره صَدَقَ فنصحَ، ولا المخطئون تابوا واستغفروا وأنابوا !، ولا النائمون استيقظوا ! وظل المخطئ على خطئه، تتجمع الأخطاء حتى تصبح ركاماً عالياً يحجب الرؤية و يخفي الحق والحقائق، ويلقي غشاوة على العيون، ويضع القلوب في أكنّة، وتزداد الفواجع والكوارث والنكبات ! نتحدث عن الصحوة وعن قضية فلسطين كنموذج، ولكن سائر القضايا أصابها ما أصابهما، وما زلنا نتغنى بالشعارات ونصوّر الهزائم صحوة ونصراً ، دون أن نرفق الشعار بالنهج المفصل والخطة المدروسة!
ألا يستحق واقعنا أن نسأل ونتساءل أين النهج الجامع الذي ينبع من الكتاب والسنة، ويُلبِّي حاجة الواقع، ويوفر العلاج، ويضع " الميزان العادل " ليوفي كلَّ أمر حقّه وكلَّ عامل حقه وكلَّ جهد فُسْحته، ويَجْمع القلوب والجهود على صراط مستقيم، بقلوب متجهة إلى الدار الآخرة، إلى الجنّة، إلى ما عند الله، تؤثره على الدنيا وزخرفها :
أين المناهج ؟! هل ترى أحداً يسا ئل عن سبيلٍ للنجاة مُفَصَّلِ
أو أين أهدافٌ وأَين معالمٌ تُجْلى على دربٍ إليها موصِلِ
خدر يسيل مع الدماء ويغتلي بين العروقِ وفي الفؤاد ومِفْصَل
ضَجّت حَنَاجِرُهُمْ ! وأُلِهِبتِ الأكٌـ ـفُّ على ارتجال تائِهٍ متَعلِّلِ
ضجّوا ! وبعد هنيهة غاب الضجيـ ـجُ وغاب كلُّ مصفّقٍ ومهروِلِ
تمضي السنون ! تمرّ تَسْأل أين مَنْ ضجُّوا وأينُ حصادُ جُهْدٍ ممحلِ (5)
حتى حين تُطرح فكرة اللقاء وبناء الصف الواحد، يُخيَّل إلى بعضهم أنها عمليّة تجميع ومجاملات وتكتلات تحمل خصائصها السابقة وعللها وأمراضها، وكأننا نجمع خللاً إلى خلل، ووهناً إلى وهن. أو أننا نريد أن نجمع ممثلاً من هنا وممثلاً من هناك.
كلا ! إن اللقاء الذي ندعو إليه لقاء على نهج واحد، نهج يحمل النظرية والتطبيق والمناهج والنماذج، نهج يكشف لنا أمراضنا وعللنا ويضع لها العلاج دون أن نُخْفي ذلك في طيّات المجاملات والمراء، نهج يحمل الخطة والتطبيق، يحمل الإدارة والتنظيم، يحمل النهج والتخطيط، يحمل التربية والبناء، والإشراف والتوجيه، والمتابعة، والإعداد والتدريب، ويحمل الميزان الأمين، ميزان المؤمن !
لا ننكر أن المسلمين بذلوا وقَدَّموا دماءً غزيرة وأَموالاً وجهوداً وأوقاتاً، ندعو الله أن يتقبل ذلك عنده ويضاعف الأجر والثواب. ولا ننكر أننا نلمس هنا وهناك بعض النشاط والبذل على صور شتى، ندعو الله أن يتقبله عنده، ولكن السؤال الذي يجب أن يُسْأَل : ما هي ثمرة ذلك كله ؟! ولماذا الهزائم المتوالية والهوان الممتد ؟!
لقد كشفت الأَحداث في مواقع كثيرة من العالم الإسلامي هول الفواجع وشدّة الهوان وهول العجز، وضجيج الشعارات. وكشفت كذلك أن المآسي آخذة بالامتداد والازدياد، والعجز أظهر وأبين !
ألا يفرض هذا ضرورة الوقوف " وقفة إِيمانيّة " نحاسب فيها أنفسنا بوضوح وصدق، دون كبر ولا غرور ؟!
(3)
غياب النصيحة
وظهور الانحرافات وزيادة الفرقة والتمزّق
لقد استطاع بعضهم عن طريق الكلمة والأدب أن يتسلل إلى صفوف المؤمنين دون أن يحمل نهجهم أو يلتزم التزامهم إِلا بالكلمة التي قد تعوج والخليط الذي أصبح لا يُثير الدهشة والاستغراب مع شذوذه وغرابته.
لقد اعتاد بعض المسلمين قبول الخلل في الكلمة والشعار، وقبول التنازل بعد التنازل، والانحراف بعد الانحراف، وغابت النصيحة في طيات المجاملات وفي عدم التزام قواعدها الربانية :
عن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
" الدين النصيحة "
[ رواه البخاري في التاريخ والبزار عن ابن عمر ]
نحن بحاجة إلى النصيحة كما أمر الله ورسوله، نحن بحاجة إِلى تغيير كبير قبل أن تزداد الفواجع والمذلة والهوان، وقبل أن نقول :
" لات ساعة مندم "
لقد نزلت بعض مظاهر الانحراف في واقعنا نحن المسلمين، فمنا من كان يثور ويغضب وينتقد، ثم يهدأ ويصمت، ثم يمضي ويستحسن، ثم يدعو ويلتزم ذلك الانحراف، ثم يدعو إليه بدلاً من أن يدعو إِلى الإِيمان والتوحيد، إِلى الكتاب والسنّة، إِلى الله ورسوله، إلى الإسلام كله كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أصبح بعض من أساء إلى الإسلام جهاراً موضع حفاوة وتكريم من بعض المسلمين.(/4)
المؤمنون يجب أن يكونوا أشدَّ إصراراً على الحق الذي يدعون إليه، وأشد ثقة واطمئناناً بنصر الله إِذا استقاموا على الدرْب وصدقتْ النِّيّة وصح النهج والعزم.
إن في النفوس كبراً جعلها ترفض النصيحة، وترفض أن تُنصَح وترفض أن تَنْصَح، وأصبح بعضهم تبعاً لذلك لا يشعر بخطئه، ولم يتّعظ من الأحداث والواقع، فأنى لمثل هؤلاء أن يغيروا ما بأنفسهم ؟! وأنى لهم أن يغيّروا طريقة تفكيرهم ؟! وأنّى لهم أن ينهضوا لمعالجة الخلل والأمراض والعلل ؟!
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون )
[ الحديد : 16 ]
كان من أثر غياب ذلك أن أخذ بعضهم يدعو إِلى العلمانيّة بوضوح وجرأة، في مؤتمرات إسلامية، وأن يدعو آخرون إلى مساواة المرأة بالرجل مساواة مطلقة، دون أي ضوابط يعلنونها، ولو أنصفوا لدَعَوْا إلى " تكامل الرجل والمرأة " بدلاً من مساواتهما، فالرجل رجل، والمرأة مرأة، إلا في عالم " الخنوثة والشذوذ ".
واختلفت الآراء حول ذلك، فزادت الانقسامات وزاد التمزّق، وهاجت الأهواء. وفي ظل هذه الدعوات انطلقت المرأة وخاضت كل الميادين، فما نهض المجتمع ولا الأمة، ووقعت أشد الهزائم في حياتنا في ظلال هذه الدعوات وأمثالها، واختلط الحابل بالنابل، وحار المسلم وهو يقرأ القرآن ويدرس السنَّة، بين ما يقرأ وبين ما يشاهد وما رضي به الناس فسكتوا عنه أو آزروه ! حار المسلم بين ما يقرأ وما يشاهد، حتى لو جاءت الفتوى من هنا أو هناك، فإنها تزيده حيرة واضطراباً.
لم يكن للمرأة مشكلة أيام النبوّة الخاتمة والخلافة الراشدة. فقد كانت المرأة المسلمة تعرف دينها والرجل يعرف دينه، وكل منهما يعرف حدوده التي حدّدها الله فالتزمها، فما كان من مشكلة. ولكننا اليوم حين جهل الكثير من النساء والرجال دينهم ووفدت أفكار العلمانيّة، ووُجد من يتطوّع للدعوة إليها، ظهرت المشكلة. نحن خلقنا المشكلة بأنفسنا. عَلِّموا الفتاة دينها لتؤمن وتعرف هي حدودها ومسؤولياتها، وعلِّموا الرجل دينه ليؤمن ويعرف حدوده ومسؤولياته، تنتهِ المشكلة.
ولنتذكر الآيات والأحاديث الكثيرة التي تبين حدود كل من الرجل والمرأة ومسؤولياتهما. والرجال الذين أجادوا وكملوا كثيرون، ومن النساء القليل، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه أبو موسى الأشعري :
" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
[ رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه ](6)
ليست المشكلة اليوم محصورة في المرأة، ولا هي محصورة في موضوع مساواتها أو عدم مساواتها بالرجل، فللرجل نفسه مشكلات، وله حقوق كذلك غائبة عنه، وعليه مسؤوليات غاب عنها. المشكلة تنحصر في أن يعرف كلٌّ مسؤولياته وحقوقه وحدوده. يعرفها من الكتاب والسنّة، فقد بيّن الله لعباده ذلك وفصّله تفصيلاً.
نحن لا نعالج أخطاءنا وأمراضنا مهما كثرت، ولكننا نلقي باللوم دائماً على الأعداء فهم وحدهم سبب هزائمنا كما ندّعي ! حجّةٌ مضحكة وتفكير سقيم ! ماذا تريدون من الأعداء، أتريدون أن يحملوا لنا النصر على أطباق من الذهب، ونحن غافلون !
مالي ألوم عدوّي كلما نزلت بي المصائب أو أرميه بالتُّهَم
وأدّعي أبداً أني البريء وما حملتُ في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله وليس يحمله غيري من الأمم
والمجرمون هُمُ ! والله يأخذهم أخذ العزيز بليلٍ واسع النّقم
إذا نهضنا لعهد الله وانطلقت عزائم الصدق والإيمان والشمم(7)
وكلما توانى المؤمنون عن الوفاء بالعهد والتزام الحق والدعوة الصافية في صفٍّ واحد كالبنيان المرصوص، أنزل الله بهم البلاء والعقاب والعذاب، حتى يستيقظوا أو يهلكوا.
(4)
مراجعة المسيرة والوقفة الإيمانية
إنها واجب كل مسلم وكل حركة إِسلامية، أن تراجع المسيرة في وقفة إِيمانية. والمراجعة والتقويم يجب أن يكون دورياً على صورة منهجيّة تخضع لخطوات محدّدة.
ولكننا اليوم نحتاج إلى مراجعة شاملة ووقفة إِيمانيّة واعية، فمن ظنّ أنه ليس بحاجة إلى هذه الوقفة الإيمانية فقد وقع في الخطأ الأول. فالأخطاء كثيرة كما ذكرنا في أول الكلمة، وما يمنع هذه الوقفة إلا الغرور والكبر، والإعجاب بالذات، والعصبيات الجاهلية.
إن ما أصاب المسلمين في القرنين الأخيرين مآسٍ مذهلة وفواجع وهوان وإذلال. وهم حملة رسالة ربانيّة، رسالة الإسلام، ليبلّغوها إِلى الناس كافّة كما أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
ألا يستحقّ هذا الدين العظيم، وهذه الفواجع والمآسي، وقفة إيمانيّة، وقفة مصارحة تُطوى فيها المجاملات وتُكشَف الحقائق، وتُحدَّد فيها الأخطاء والعلل والأمراض، ويتعاون الجميع على معالجة الأمراض ؟!(/5)
الخلل ممتد في واقع المسلمين. وهو السبب الرئيس في هزائمنا. إن ما أصابنا هو بقدر الله وقضائه وحكمته، وقضاؤه حق وقدره غالب وحكمته بالغة، والله لا يظلم أحداً ولا يظلم شيئاً. لقد ظلمنا أنفسنا !
( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون )
[ يونس : 44]
وربما يقول بعضهم إن الأخطاء بسيطة، والخلافات سنة الله، ثم يطوون ذلك بالمجاملات والمسكنات لتخفيف الآلام والأوجاع، والخلل يبقى والأمراض تبقى، ولا يجدي التخدير في العلاج. إِن الخطر المحدق بنا عظيم، والهجمة على المسلمين واسعة ممتدة، وإن بقاء الخلل والعلل يعرّضنا لأخطار أشد وهزائم أبعد وهوان أقسى.
إِن من أول واجباتنا في الوقفة الإِيمانيّة تحديد أخطائنا في دراسات منهجيّة. وحين تقوم مثل هذه الدراسات سنجد أن الخلل واسع والأخطاء كبيرة. ولا ينفع فيها أن يهاجم فريقٌ فريقاً آخر، وينقده ويتهمه. ثمّ ينبري الفريق الآخر ليكيل الصاع صاعين، فيمضي الزمن والخلافات تتسع والتمزّق يزداد.
ولا يمكن أن يتمّ التغيير في أنفسنا إلا إذا تولّدت القناعة الذاتيّة بضرورة التغيير، حين تنكشف الأخطاء، ونتبيّن هول الأخطار، ونستشعر صدق الخشية من الله وعقابه وعذابه. ومن لم يشعر بذلك، ولم يدرك أخطاءه، ولم يتبيّن حقيقة الخطر، ولم تهزّه الخشية من الله، فلن يشعر بضرورة التغيير. والأمر كله بيد الله، يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.
لا بد أن نقتنع بأن ما أصابنا من هزائم وفواجع وهوان هو بما كسبت أيدينا. وأن الواقع لا يتغيير إلا إذا غيّرنا ما بأنفسنا، فذلك أمر الله وحكمته :
(.. إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. )
[ الرعد : 11]
إنّ هذا التغيير يقتضي، مع القناعة بضرورته، مجاهدة النفس. فهي أول الجهاد، والنفس أول الميادين، فمن انتصر في هذا الميدان يمكنه أن يخوض ميداناً آخر :
فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
" المجاهد من جاهد نفسه في الله "
[ رواه الترمذي وابن حبان ](8)
إِذا لم نجاهد كُلّنا أنفسنا، ولم نغيّر ما بها، ولم نغسل قلوبنا، فكيف يمكن أن يُغيَّرَ واقعنا، وأن يُبَدَّل حالنا، والأمراض هي الأمراض والعلل هي العلل !
وإذا غيّرنا ما بأنفسنا، فإن أول ما يتغيّر تبعاً لذلك نهج التفكير. وإن بعض المسلمين اليوم، تحت شعار الإسلام، يفكرون تفكيراً علمانيّاً مادِّياً معزولاً عن إشراقة الإيمان والخشية من الله والإقبال على الدار الآخرة. للإيمان والتوحيد نهجه المتميز للتفكير، وللعلمانيّة والماديّة نهج آخر للتفكير مختلف عن النهج الإيماني :(9)
نهجان قد ميَّز الرحمن بينهما نهجُ الضلال ونهجُ الحقِّ والرشد
لا يجمع الله نهج المؤمنين على نهج الفساد ولا صدقاً على فند
والنهج الإِيماني للتفكير يحتاج إِلى تربية وبناء، وتدريب وإعداد، يحافَظُ فيه أولاً على سلامة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ثم يُغذَّى ذلك بالغذاء المنهجي الحق. فالمحافظة على سلامة الفطرة هي الحق الأول للإنسان، الحق الذي أغفلته لجان حقوق الإنسان، ومحافلها وساحاتها.
حَسْبُناً من الأمراض هذا التمزّق الذي نعيشه. تمزّقنا أقطاراً ودياراً، وشيعاً وأحزاباً، ومصالح وأهواء. حسبنا هذا الخلل ـ خلل التمزّق والفرقة ـ، فإنه يضعفنا ويوهن من قوانا، ويفتح منافذ وأبواباً للأعداء والمنافقين، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، فإِنه يُسبِّب غضَبَ الله علينا، خاصة بعد أن لم تُفلح النذر والمواعظ في إيقاظنا.
كيف لا نكون قد أغضبنا الله في تفرُّقنا وصراعنا ونحن نرتكب بذلك مخالفة كبيرة لأمر الله، إننا نعصيه في تفرّقنا وصراعنا وعدم التقائنا على صراطه المستقيم، والله سبحانه وتعالى يقول : ( ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )
[ آل عمران : 150 ]
كيف لا نكون قد أغضبنا الله سبحانه وتعالى وهو القائل في كتابه العزيز :
( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )
[ الأنعام : 153 ]
لقد جعل الله برحمته صراطه مستقيماً حتى لا يَضلَّ عنه أحد، وجعله واحداً حتى لا يُخْتَلَفَ عليه، ثمّ بيّنه وفصّله تفصيلاً حتى لا يبقى لأحد عذر في عدم اتباعه.
هذا خلل كبير في واقع المسلمين لا يمكن علاجه بالمسكنات والمجاملات. ولا بدَّ من علاجه، لأن بقاءه يعني بقاء الهزائم والفواجع، والمذلة والهوان، وبقاء الخطر علينا جميعاً.
ولا يمكن علاجه بلقاءات إِداريّة تحمل ضعفنا وخللنا وأمراضنا. يجب أن نلتقي صفّاً واحداً كما يحبّه الله ويرضاه، وعسى أن يُرْفَع البلاء عنا. ولكن كيف يكون ذلك.
لا يمكن أن يتم علاج إلا إذا تمّ تغيير حقيقي في أمرين أساسيين هما :
أولاً : تغيير ما بأنفسنا كما أمر الله.
ثانياً : تغيير طريقة تفكيرنا وعملنا إلى النهج الإيماني للتفكير والعمل.(/6)
وإِذا تم هذا التغيير، فإن أموراً أخرى ستتغيّر بصورة تلقائية. ستتغيَّر وسائلنا، وأساليبنا، ومناهجنا، وعلاقاتنا فيما بيننا ومع الآخرين. سيكون هناك تغيير واسع يوجهه الإِيمان والتوحيد، والكتاب والسنّة، بعد أن تكون الأهواء قد أُلجمت !
(5)
على طريق التغيير والعلاج
لو أردنا أن نعدِّد عيوبنا وأخطاءنا نحن المسلمين، خطأً خطأً، وخللاً خللاً، لكانت القائمة طويلة، تجعلنا نحار من أين نبدأ العلاج وأيّ درب نسلك ! ولكننا نستطيع أن نجمع مظاهر الخلل كلها في واقعنا الإسلامي في أربع وحدات كبرى، ترتبط بها سائر أنواع الخلل، كل خلل يرتبط بواحدة أو أكثر من هذه الوحدات الأربع، وبها يبتدئ العلاج، ومنها يمكن أن تنطلق خُطّة العلاج ونهجه، وتحديد الخطوات والمراحل.
ونعرض هذه الوحدات الكبرى كما يلي :
أولاً : الخلل في التصور لقضية الإيمان والتوحيد والبذل لها.
ثانياً : هجر منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ.
ثالثاً : جهل الواقع وعدم فهمه من خلال منهاج الله.
رابعاً : الخلل الناتج عن الوحدات الثلاث الأولى لينكشف في الممارسة الإيمانية.
وإِن أخطر قضيّة بين هذه القضايا الأربع على أهميتها كلها وتماسكها، هي قضيّة الإيمان والتوحيد. والخلل فيها هو الخلل المهم، الخلل الذي يولّد خللاً بعد خلل. ولا نقصد بالخلل في قضيّة الإيمان والتوحيد خللَ التفكير فحسب، ولكنه خلل في الممارسة والتطبيق، في اللفظة والكلمة، في النيّة في أعماق النفس، في الموقف، في السعي والعمل. إنه خلل ينكشف في ضعف وتخاذل، وانحراف مسيء، واضطراب الرؤية والتحليل، واضطراب الخطا، واضطراب الفهم لبعض القضايا.
وهي تمثّل الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، والقضيّة الأخطر في حياة كل إِنسان، والهدف الربانيّ الأول في الدعوة والبلاغ.
فلابد أن تكون أول قضية نعالجها في نفوسنا، وفي نفوس من ندعوهم، حتى يتحقّق الولاء الأول لله، والعهد الأول مع الله، والحب الأكبر لله ورسوله، وحتى تحقق سائر خصائص الإيمان والتوحيد كما يفصلها منهاج الله. وهي مسؤولية تمتدّ في جميع المراحل والخطوات، لا تتوقف وإنما تمضي معالجة ونصحاً وتذكيراً مع سائر القضايا. لذلك لا بد من نهج يتدرّب عليه الداعية في مدرسة الإسلام، نهج يضمّ الخصائص السابقة كلها، ويمهّد الطريق للداعية ويعينه في مهمته. لتظلّ هي القضيّة الأُولى والأخطر في حياته، ولتبني أخوة الإيمان بناءً صادقاً مع التعهّد والتدريب.
والقضيّة التي تليها وترتبط بها ولا تنفصل عنها هي قضية هجر منهاج الله بين المسلمين، أو التعامل معه بطريقة غير منهجيّة، أو تلاوته دون تدبّر.
والإيمان والتوحيد يدعو إلى تدبّر منهاج الله، ومنهاج الله يدعو إلى صفاء الإيمان والتوحيد ويظل التأثير بينهما متبادلاً لا يتوقف، ويظلان يعملان معاً في مسيرة المعالجة والتربية والبناء، والإعداد والتدريب.
منهاج الله ـ قرآناً وسنّةً ولغة عربيّة ـ يكاد يكون غائباً عن الملايين من المنتسِبين إلى الإسلام. فاللغة العربية يجهلها أبناؤها، ويتنكّر لها بعض أبنائها. وقد ترى اللغة السائدة بين بعض المسلمين المقيمين في الغرب لغة البلد التي يقيمون فيها، حتى في بيوتهم. وفي العالم الإسلامي أقطار كثيرة تخلت عن اللغة العربيّة، وفي العالم العربي تجد من يتكلم الفرنسية أو الإنكليزية في تعامله اليومي. ونجد بعض الأطباء في المستشفيات يتحدّثون الإنكليزية أو الفرنسية أو غيرهما في تعاملهم فيما بينهم. ولقد سيطرت العامية على قطاع كبير.
نسبة الجاهلين بالكتاب والسنّة بين المتعلمين نسبة عالية. ومن يتلون كتاب الله فكثير منهم لا يتلونه تلاوة منهجيّة، ولا يتدبّرونه تدبّراً منهجيّاً، ولا يقرنون ذلك بدراسة السنّة دراسة منهجيّة، ولا بدراسة اللغة العربيّة دراسة منهجيّة. مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل طلب العلم، أوله وأساسه منهاج الله، فرضاً على كل مسلم :
فعن أنس وآخرين عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
" طلب العلم فريضة على كل مسلم "
[ أخرجه الطبراني وغيره ](10)
وربما جهلت الملايين من المسلمين هذه القاعدة الرئيسة، وهذا الحديث الصحيح المتواتر، وجهلوا بذلك خطورته وأهميته في بناء التربية ومناهجها. لقد كان هذا الحديث الشريف قاعدة أساسية في مدرسة النبوة. وغاب عن بال كثير من المسلمين أن " طلب العلم " لا يكون إلا منهجيّاً وجهداً منهجيّاً منظّماً في أي علم من العلوم، ومنهاج الله أساس العلوم كلها وهو أولى العلوم أن تكون دراسته منهجيّة، وقد جعله الله برحمته ميسَّراً للذكر :
( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )
[ القمر : 17،..]
أعداد كبيرة من المسلمين الذين نالوا الشهادات العالية لا يعرفون حقيقة هذه القاعدة ولا منهجيّتها ولا مداومتها، ولا ارتباط تعلُّم القرآن بتعلم السنة واللغة العربيّة، وتركوا ذلك لطلبة كليات الشريعة !(/7)
أين هذه القاعدة من الأجيال المسلمة خلال قرن من الزمان أو أكثر ؟! وكيف نرجو لقاء قلوب الملايين منهم وهي فارغة من آيات الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتلقَّونه من العلم مختلف ومضطرب ؟! ومن أقبل على ذلك فإنما يقبل من خلال بقيّة وقته المستنفذ وبقيّة جهده المنهوك على غير خطة مدروسة ولا نهج مقرر. أو يقول بعضهم لسنا مكلفين بذلك، فهذا خاص بالشيوخ والعلماء ! وربما يجدون من يُفتي لهم بذلك، ومن يتعمّد إِخفاء جوهر التكاليف الربانيّة المفصّلة في الكتاب والسنة، وربما قالوا إن القرآن صعب لا يفهمه إلا العلماء ! وينسى أن يسأل نفسه لم لا يكون هو من العلماء، وقد فرض الله هذا العلم على كل مسلم، ويسّره حتى لا يبقى عذر إلا لمتفلّت صرفه الشيطان إِلى التفلّت.
ولقد كان من رحمة الله بعباده أن يسّر القرآن للذكر، وجعل لتدبّر كتابه مفتاحين : صدق الإيمان، وإِتقان اللغة العربية، ثمّ يأخذ كُلُّ مُسلم قدر وسعه الصادق الذي سيحاسبهُ الله عليه. ويتفاوت الوسع وتتفاوت المواهب والقدرات، ولكن الجميع يأخذون أخذاً منهجيّاً صحبة عمر وحياة، أخذاً لا يتوقف.
وتُطْرَحُ قضايا يتصارع الناس حولها، ويعلو الضجيج والصّراخ، ويشتد الخلاف والتمزّق، وما كان المسلمون بحاجة لإثارتها، ولا هي مما تصلح واقعهم، ولا ترشد جهودهم. ويأتي بعد ذلك وعي الواقع من خلال منهاج الله، لا من خلال الأهواء والمصالح وضغوط من هنا ومن هناك. لابد من وعي الواقع من خلال منهاج الله وردّ الأمور كلها إِليه. فهذا هو أمر الله.
ولذلك كان من واجب مدرسة الدعوة الإسلامية أن تُدرِّبَ المسلم على فهم الواقع من خلال منهاج الله وردّ الأمور صغيرها وكبيرها إليه. فمع التعهّد والبناء والتدريب يصبح المسلم واعياً للواقع وعياً سليماً، وعياً يترك أثره الظاهر في مسيرته وحياته، وعلاقاته.
ومن هذه القضايا الثلاث : الإيمان والتوحيد، وتدبّر منهاج الله، ووعي الواقع من خلاله، تصدق الممارسة الإيمانيّة في الواقع أو تضطرب على قدر صدق القضايا الثلاث أو اضطرابها.
وأول خطوة أقترحها هي توحيد الأسس الثابتة للتربية، لتقوم على الكتاب والسنة واللغة العربية ومدرسة النبوّة الخاتمة، ولتكون منهجية ملزمة تحت إشراف إِداري وتوجيه. ثم تتوالى الخطوات المنهجية على صراط مستقيم بيّنه الله سبحانه وتعالى وفصَّله ليجمع المؤمنين المتقين .
ونجمع هذه القضايا الأربع وما سبق من رأي ونظر في ما نسميه :
" النظرية العامة للدعوة الإسلامية "
ولينطلق النهج كله بعد ذلك في دراسات منهجيّة مفصّلة لكل جزء من هذا النهج، ودراسات موجزة أيضاً، وتتحدّ من خلالها المناهج والنماذج والوسائل والأساليب.
وعندما تتكاتف الجهود في ذلك فإن الجنى سيكون أطيب والعطاء أغزر والأجر من عند الله أعظم إذا صدقت القلوب وخشعت بين يدي الله، تابت وأنابت، وطرحت عن نفسها الكبر والغرور. ونوجز النظريّة العامة لأهميتها بما يلي :
(6)
النظرية العامة للدعوة الإسلامية
تهدف النظرية العامة للدعوة الإسلامية للتذكير بالأسس الربانيّة ولإرسائها في الواقع الفكري والتطبيقي، والأسس الضرورية للقاء المؤمنين وبناء الأمة المسلمة الواحدة. وهي تكشف لنا شدّة الترابط بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الأمة. وتُبِرز أخطر القضايا التي يحتاجها الواقع الإسلامي، وتوفرّ لنا حسن الموازنة، وسلامة المضيّ على صراط مستقيم. وهي نابعة من الكتاب والسنة ملبّية لحاجة واقعنا اليوم، ماضية مع مدرسة النبّوة الخاتمة. تتألف النظرية العامة للدعوة الإسلامية من ستة بنود وخمس مراحل. البنود الستة هي :
أ- القاعدة الصلبة : وهي قضية الإيمان والتوحيد والدعوة إليها والبذل والتخطيط لها. وهي الهدف الرباني الثابت في الدعوة الإسلامية، وهي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، وهي أخطر قضية في حياة كل إنسان.
ب- الركنان الرئيسان : المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ والواقع الذي ندرسه من خلال المنهاج الرباني. أما الزاد الرئيس للداعية فهو : الإيمان والتوحيد وصدقهما، والمنهاج الرباني، ووعي الواقع الذي يُدْرَس من خلاله تؤلف هذه كلها الزاد الرئيس الضروري للداعية.
ج- المشكلات الأربع الكبرى في الواقع : والتي ترتبط بواحدة منها أو أكثر، كلُّ مشكلة أخرى جزئية، والتي بغير معالجتها لا يتيسّر النجاة مما يعانيه الواقع، والتي تتحوَّل عند الداعية إلى أسس أربعة.
د- المشكلات الأربعة الكبرى هي : الخلل في التصور لقضية الإيمان والتوحيد، والخلل في البذل لها، هجر منهاج الله، عدم وعي الواقع من خلال منهاج الله، الخلل في الممارسة الإيمانية.
ه- عناصر التنفيذ :
هـ ـ 1 : الأسس الأربعة : التي يجب توافرها عند الدعاة وهي : صفاء الإيمان والتوحيد، تدبر منهاج الله، وعي الواقع من خلاله، سلامة الممارسة الإيمانيّة.(/8)
هـ ـ 2 : النهج الإيماني للتفكير : وهي طريقة التفكير التي يتميّز بها المؤمن، بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا خصائصها في المنهاج الرباني.
هـ ـ 3 : النهج والتخطيط العام للدعوة.
هـ ـ 4 : النهج والتخطيط لكل ميدان تخوضه الدعوة.
هـ ـ 5 : الإدارة والنظام : والإشراف والمراقبة، والمتابعة والتوجيه، والتعاون والتنسيق. ميزان المؤمن :الذي يُنزل الناس منازلهم.
هـ ـ 6 : المؤسسات الإيمانية : نظريتها وخصائصها. التقويم الدوري : نظريته، وأنواعه، ونماذجه.
و- المضيّ على الصراط المستقيم : دون توقف ولا تراجع ولا انحراف، مع تحقيق الإِتقان والإحسان والمضيّ على الصراط المستقيم .
ز- إلى الهدف الأكبر والأسمى : الجنَّة والدار الآخرة ورضوان الله، الهدف الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لنا، لترتبط به كل الأهداف، ولتظلّ القلوب متعلقة به مع المسيرة والمضيّ.
أما المراحل الخمس فهي :
أ- التزود بالزاد الرئيس للداعية.
ب- دراسة الميدان وتحديد مشكلاته الكبرى.
ج- النهج والتخطيط.
د- المضي على الصراط المستقيم.
ه- الهدف الأكبر والأسمى ـ الدار الآخرة ورضوان الله والجنة ـ.
أهم الكتب والدراسات حولها :
o النظرية العامة للدعوة الإسلامية.
o نهج الدعوة وخطة التربية والبناء.
o موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية وأساس لقاء المؤمنين.
o موجز النظرية العامة للدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين.
o وكتب أخرى..
إن هذه النظرية مع جميع الدراسات التفصيلية لبنودها وفقراتها وعناصرها، ومع المناهج والنماذج، ومع دراسة الأهداف وتحديدها، إن هذا كله يمثّل النهج الذي نرجو أن يكون قاعدة للقاء المؤمنين. ومن أجل تحقيق ذلك نقدم في الصفحات القادمة الخطوة الأُولى لتوحيد جهود المؤمنين، دون أن يَعْني ذلك توحيد العاملين والدعاة كلهم في إطار حزب واحد، ولكن توحيد أسس منهج التربية والبناء، والإعداد والتدريب لدى الجميع لتتآلف القلوب وتتقارب الأفكار، وتلتقي الجهود. ويمكن دراسة النهج بتفصيلاته من مراجعه.
(7)
الخطوة الأولى
لا بدّ من نهج مفصَّل نابع من الكتاب والسنة ومدرسة النبوة الخاتمة، يحمل النظريّة العامة والمناهج التطبيقية والنماذج العملية، والوسائل والأساليب، والأهداف المحددة، والدرب الموصل إلى الأهداف، والميزان الذي ينزل كلَّ إِنسان منزلته، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون ذلك كله من خلال دراسات منهجيّة مفصّلة.
لا بد من هذا النهج ليكون القاعدة التي يلتقي عليها المؤمنون، وتذوب فيها الخلافات، وتتآلف القلوب، وتجتمع الجهود، وتتحد العزائم على صراط مستقيم بيَّنَه الله وفصّله، وجعله مستقيماً حتى لا يضلَّ عنه أحد، وواحداً حتى لا يُختلفَ عليه.
من أجل تحقيق هذا النهج نرى أن الخطوة العمليّة الأولى هي توحيد أسس المناهج للتربية والبناء، والإعداد والتدريب كما ذكرنا قبل قليل. ذلك لأن الزاد الذي يكتسبه الإنسان له دوره الرئيس في الكلمة والرأي والموقف والعمل (11). وتوحيد هذه المناهج بأسسها يوجد اللغة المشتركة، ويُيَسِّر سبيل التفاهم وتبادل الرأي، ويمهّد الطريق إلى تآلف القلوب، وإِلى جمع الجهود لتصبَّ كلها في مجرى صادق واحد بدلاً من أن تتبعثر وتتناثر، وإلى توحيد المصدر والمرجع بتلك الأسس.
ولا نعني بتوحيد أسس المناهج توحيد كل كلمة ومقالة وكتاب. ولكنه توحيد الأسس التي تنبع من كتاب الله، وتوحيد النهج بما يحمل معه من مرونة.
إن توحيد هذه الأسس واجب عندما ندرس مدرسة النبوّة الخاتمة، إننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلمبنى الجيل المؤمن، الجيل الفريد، بالنهج الواحد والمنهج الواحد : الكتاب والسنّة، كما جاءا باللغة العربية، وكما بين أسلوب البناء والتربية في مدرسةٍ يجب أَن تظلًَّ قدوة للمؤمنين، وأساس كل نهج متجدد، مع الزمن كله.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد بعض أصحابه كتاباً أو صحفاً غير كتاب الله، فقال : كفى بقوم حمقاً ( أو ضلالة ) أن يرغبوا عما جاءهم به نبيّهم إِلى نبيٍّ غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم. " فأنزل الله عز وجلّ (12):
( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم )
[ العنكبوت : 51 ]
وأخرج بن عبد البر في جامع بيان العلم (42:2 ) عن طريق ابن أبي شيبة بإسناده عن جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي بكتاب أصابه من بعض الكتب فقال : يا رسول الله ! إني أصبت كتاباً حسناً من بعض أهل الكتاب. قال : فغضب وقال : أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب ؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء، فيُحدِّثونكم بحقٍّ فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدّقوا به. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني. "(13)
وتأتي هذه القصة بروايات متعدّدة لا تختلف بالجوهر الذي نقصده ونعنيه، ألا وهو توحيد أسس المصدر والمنهج ومادة المنهج.(/9)
ويؤيِّد هذا ما تَحمِلُه الآية الكريمة المذكورة أَعلاه من ظلال ومعنى. وكذلك الآية الكريمة : ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أَولياء قليلاً ما تذكرون )
[ الأعراف : 3 ]
وكذلك :
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون )
[ الأنعام : 155 ]
وكذلك :
( فاستمسك بالذي أوحي إليك إِنك على صراط مستقيم. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )
[ الزخرف : 44،43 ]
والآيات كثيرة في هذا المعنى، والأحاديث كثيرةٌ، ومنهاج الله يلحُّ بهذه القضيّة إِلحاحاً شديداً من ناحيتين : المصدر الذي يُتلقّى منه، والمرجع الذي تُرَدُّ إِليه الأمور.
وأخرج نصر المقدسي عن ميمون بن مهران قال : أتى رجلٌ عمرَ بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ! إنا لما فتحنا المدائن أصبت كتاباً فيه كلام مُعْجب. قال : أمن كتاب الله ؟! قال : لا ! فدعا بالدرّة فجعل يضربه بها وقرأ :
( الر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون. نحن نقصُّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)، ثم قال : إنما هلك من كان قبلكم بأنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا وذهب ما فيهما من العلم. "(13)
وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بالكتاب "
[ رواه مسلم ](14)
نخرج من مجمل هذه الآيات والأحاديث إلى ضرورة توحيد مصدر التلقي والمرجع.
ودراسة منهاج الله يجب أن تكون منهجيّة، لأن كلَّ علم لا يُدْرَسُ ولا يُتَدبَّر إلا بصورة منهجيّة، ومنهاج الله هو أساس العلم كله. وهو فرض على كل مسلم.
وأي مصدر آخر بعد منهاج الله يجب أن يكون نابعاً منه، مرتبطاً به، دارساً للواقع في ميدان من ميادينه من خلال منهاج الله، لتكون الكتب البشريّة كتباً منهجيّة مترابطة مع النهج، ملبيّة لحاجة الواقع، نابعة من منهاج الله.
وهذا لا يتعارض مع أي دراسة تخصصية في أي باب من أبواب العلوم. ولكن يظل منهاج الله مصدر البناء والتكوين من خلال نهج محدّد السبيل والأهداف. وهذا ما يحضّ عليه أئمة الإسلام الأعلام في جميع العصور، وهو ما يُبيّن أهمية دورهم ومسؤولياتهم، التي سيحاسَبون عليها بين يدي الله. وهم الذين يوجّهون هذا التوجيه إلى وجوب توحيد أسس مناهج البناء والتربية، والإعداد والتدريب، على أساس من قواعد الإيمان والتوحيد، ومنهاج الله، ووعي الواقع من خلال منهاج الله.
لأجل ذلك نقدّم " نظريّة المنهاج الفرديّ " للمسلم ليمثّل الخطوة الأولى في سبيل توحيد أسس التربية والبناء، بما تَحمل هذه النظرية للمنهاج الفردي من المرونة الكاملة لجميع القدرات والأوضاع والظروف.(15)
ومن أسس نظرّية التربية في الإسلام أن يكون البيت والمسجد والمعهد ووسائل الإعلام كلها ميادين تربية وبناء، وإِعداد وتدريب، تترابط كلها فيما بينها بالمنطلق والنهج والهدف.
ونقدّم كذلك " منهج لقاء المؤمنين " بمرونته ليكون باباً من أبواب التدريب العملي، بالإضافة إلى الدراسة النظرية في المنهاج الفرديّ. ويُبنى " منهج لقاء المؤمنين " على " أساس المنهاج الفردي "، وكلٌّ يتمم الأخر في خطوات التربية والتدريب، في نظرية شاملة ومنهج متكامل المراحل والخطوات .
لقد قمت برحلات متعدّدة أدعو إلى هذا النهج والخطوات، وانبه إلى شدّة الخطر المحدق بالمسلمين بعامة. ومن خلال هذه الرحلات التي شملت بلداناً كثيرة كانت هذه الأبيات :
دعوة ونداء
ذكرى وعِتاب
أبيات من الشعر أطلقها مُدويّةً في أذُن كل مسلم يخشى الله واليوم الآخر، وقد امتدّت الأحداث والفواجع في ديار المسلمين، قتلاً وتدميراً وتشريداً وتجويعاً واغتصاباً، على مكر من الأعداء مازال يمتدُّ ويتُّسع، وتتكشَّف خبيئة كيده يوماً بعد يوم، حين تزول البسمة الماكرة عن وجهه، وتبرز الأنياب والأظافر والمخالب، وكلُّ أسلحة الهلاك ! دروس وعبر، وفواجع ونذر، فهل نعتبر، ونصحو من غفوتنا.
ذكرى وتذكير، ودعوة ونداء، كلمات موجزة عن سعي جاد لتذكير القلوب، وجمع النفوس، معذرةً إلى الله سبحانه وتعالى، دون يأس أو كلل أو ملل، وإنما هي ثقة متينة بالله ورحمته، إذا تابعنا التذكير والدعوة، والنداء والنصيحة، مادام الصراط المستقيم مشرقاً بنور الحق، مستقيماً فلا يضلُّ عنه صادق، وواحداً فلا يُخْتَلف عليه، يجمع المؤمنين في الأرض أُمة مسلمة واحدة، إلا إذا غلب الهوى والخلاف !
عقود كثيرة مضت وأنا أُؤكد هذه الدعوة الإيمانيّة الشرعية، الدعوة إلى لقاء المؤمنين على أسس ربانيّة، ونهج عام واحد، يرسم الصراط المستقيم الذي بينّه الله لنا وأمرنا باتباعه، ليجمع المؤمنين صفاً واحداً كالبنيان المرصوص. فلماذا تاه المسلمون عنه فتفرقوا، واختلفوا عليه فتمزقوا، ثم ضعفوا وهانوا ؟!
عقود كثيرة وأنا أُذكر بخطر النهج في قضية فلسطين، في نصح وتذكير، ودراسات وكتب، ولقاءات ومؤتمرات.(/10)
دعوة ونداء
ذكرى وتذكير
أخي رُوَيْدَكَ ! بي ممّاَ يَحلُّ بِنا همٌّ يَطُولُ وبي مِنْ قوْمنِا عَجَبُ
همٌّ يَكادُ مَعَ الأهْوالِ يَذْهَبُ بي وغَضْبةٌ لم تَزَلْ في الصَّدْر تَضطربُ
ضَجَّتْ شِعاراتُنا في كلِّ ناحِيةٍ ولم تضجَّ بنا الساحاتُ و الهضبُ
يَكادُ بنياننا يَنْهارُ مِنْ وَهَنٍ والناس في غفوة الأحلام قد ذهبوا
ما بالُنا افْتَرَقَتْ ساحاتُنا شِيعَاً يكاد يَطْحَنُهمْ مِن خُلْفهِمْ حَرْبُ
كلُّ يُقيمُ عَلَى أحلامِهِ وثَناً يَظَلُّ في وهْمِهِ يَرْجو ويَرْتَقِبُ
الجاهليّة مَدَّت مِنْ مَخالِبها فَقْطّعَ الرّحِمُ الموصُولُ والسَّبَبُ
*** * ***
أخي مَدَدْتُ يَدِيْ بالأمْسِ مرتَجِياً عَوْناً على الحقِّ! نِعْمَ السعيُ والطَّلَبُ
رَجَوتُ لُوْ يَلْتَقي حَشدُ الدعاة على صَفٍّ وَيَنْهضُ بُنيانٌ لنا أشِبُ
ولو تَلُمُّ عُرَا الإيمان فُرْقَتنا وعروةُ الحقِّ والتوحيد مُنْتَسَبُ
أشاحَ وانْفضَّ مَنْ أمّلتُ نصَرتَهُمْ وأدْبَروا في دُرُوب الخُلف و احْتَجَبُوا
كلٌّ يظنُّ هَواهُ الحقَّ يَدْفَعُه وهْمٌ يُزَيَّنُ فيه النّصْرُ والغَلبُ
حتى جَنَوا غُصَصاً تَدْمَى وفاجعةً وَفَتْنَة لم تَزَلْ تَعْلُو وتَلتَهبُ
و ذلّة لم تَزَلْ تُحنِي أُنُوفَهُمُ إلى التُّرابِ وتحنِيهمْ بها الكُرَبُ
هَمْسٌ يَدُور ونجْوَى لا وَفَاءَ بها كم فرّقَ المسلمين الظنُّ و الكذبُ
وفوَّتوا فُرَصاً كانت نجاتُهُمُ فيها فما عادَ يُجدي اللَّومُ والعَتَبُ
لله أشْكُو الذي نَلْقَاه ! ما يَئِسَتْ نفسي ولا وهَنَ البذلُ الذي يجبُ
ولا العَزَائِمُ هَانتْ وهي صادقة لله يدفَعُها الترْغيبُ والرّهَبُ
خوفاً مِنَ الله، أشواقاً لجَنَّتِهِ تَكَشَّفَتْ عندها الأسْتَارُ والحُجُبُ
فانهضْ لنجمَع مِنْ أشْتاتنا أمَلاً وتَوْبَةً عَلَّنا نَدْنُو و نَقْتَرِبُ
الرياض
15ذو الحجة 1416هـ
الموافق 2/5/1996م
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته ( رقم 4515).
(2) د. عدنان النحوي: الأدب الإسلامي في إنسانيته وعالميته: الباب السادس : الفصل الثاني :ص : 425.
(3) نيكسون : الفرصة السانحة : (ص : 135ـ162) ، نصر بلا حرب (ص:307ـ308).
(4) من " ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين ".
(5) من " ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين ".
(6) ) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (رقم :4578).
(7) من ملحمة الغرباء.
(8) صحيح الجامع الصغير وزيادته ( رقم 6679 ).
(9) د. عدنان النحوي : النهج الإيماني للتفكير.
(10) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( رقم : 3913 ).
(11) يراجع قانون الفطرة : في كتاب " النهج الإيماني للتفكير " ، " التربية في الإسلام ـ النظرية والمنهج " للمؤلف وغيرهما من كتب الدعوة للمؤلف.
(12) حياة الصحابة للكندهلوي : ج3/650 : عن ابن عبد البر في جامع البيان (40:2) عن عمرو بن يحيى بن جعدة. وفي تفسير ابن عطية لسورة العنكبوت ذكر ابن عطية ذلك وقال : رواه الطبري عن يحيى بن جعدة. وقال الحافظ بن حجر عن جعدة : ثقة. وزاد السيوطي في " الدر المنثور " : الدارمي وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(13) حياة الصحابة ج3/652. وفيه مجالد بن سعيد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد. وأخرجه أحمد و الطبراني عن عبد الله بن ثابت.
(13) حياة الصحابة للكندهلوي : ج3. (ص:654). وقال : كذا في الكنز : 1 : 95.
(14) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (رقم :2374). مسلم :47/1/2666.
(15) يدرس المنهاج الفردي من كتاب : " منهج المؤمن بين العلم والتطبيق " ، وكتاب : " حتى نتدبر منهاج الله " ، وكتاب : " لؤلؤة الإيمان " !(/11)
تمويه
سليم عبد القادر
اسألوا الشعب ما يريد، اسألوهُ أو تنحّوا عن دربه ، ودعوهُ
اسألوه، إن استطعتم، وهيهات فإن الجواب لم تجهلوهُ
اسألوه : أشرعةَ الله يبغي أو دروباً يضلّ فيها التِّيهُ
اسألوه : هل التقيُّ هو الأدنى إليه ، أم الشقيُّ السفيهُ؟
قد ضربتم نير العبيد عليه أهُو إرثٌ، آباؤكم تركوهُ ؟!
وهَبوه إرثاً، فمُنّوا عليه ذات يوم، شهامةً، واعتقوهُ
ودعوه يعيش مثل سواه من شعوب الزمان، لا تذبحوهُ
الكراسي من هامه قد أُقيمت ليس بِدعاً من بعدُ أن تَهبوهُ
فاحرسوها من قهره، ثم جودوا بابتسامٍ، وفي الظهور اطعنوهُ
أو أذيبوا أعصابه في برود جهرةً، من يكون كي تحذروهُ!؟
قد تعرّت وجوهكم عن ذئابٍ ليس يُجدي في قبحها تمويهُ
ربَّ شعب يحيا حياة تُحيل الموتَ حلماً، والعيش مرٌّ كريهُ(/1)
تميز حقوق الطفل في الإسلام
إعداد الدكتور: نظمي خليل أبو العطا
تميزت حقوق الطفل في الإسلام على حقوقه في القانون الدولي والوضعي بالعديد من المميزات التي يجب علينا تعرُّفها وتعلُّمها وإدماجها في برامجنا التربوية والتعليمية والتدريبية حتى نفعلها في حياتنا تفعيلاً عقلياً شرعياً، وحتى ندافع عن ديننا في ظل التشويه العالمي والمحلي لهذا الدين وشريعته السمحة الغراء، ووسطيته العادلة الفريدة في عالم غابت فيه الوسطية ومعايير العدالة المطلقة.
وقد أعد الدكتور عبد العزيز عبد الهادي من جامعة الكويت بحثاً فيما في حقوق الطفل ضمنها هذه المميزات ومنها:
1ـ أن الحقوق المقررة في التشريعات الوضعية جاءت نتيجة لأوضاع اجتماعية ظالمة، أو بسبب مشكلات يعاني منها المجتمع ومن ثم يحاول علاجها والسيطرة عليها بدراسات وتشريعات عرضة للخطأ والصواب والتعديل والتبديل.
ـ أما حقوق الطفل في الشريعة الإسلامية فهمي مقررة من رب العباد، الذي لا يضل ولا ينسى، وهو الخالق العليم بما يصلح للنفس البشرية التي خلقها وسواها ولهذا جاءت أحكام الشريعة متخطية لحدود الزمان والمكان، والمحاولة والخطأ عادلة عدالة مطلقة.
ـ فالله واهب البنين وواهب البنات وهو واهب الحياة من هنا كان احترام هذه التباينات والحقوق واجب شرعي لا يجوز الاعتداء عليها في أي زمان ومكان بأي حالٍ من الأحوال، وما حدث في مؤتمرات السكان من محاولات إباحة الإجهاض دليل قاطع على أن ديمومة الشريعة أجب وأحفظ للحقوق.
ـ وعندما حفظت الشريعة حق المولود في النسب المعلوم والموثق والمشهود عليه والمعلن وحرمت إنجاب الأطفال خارج العلاقة الزوجية الشرعية، فقد حمت الأطفال من المشكلات المستقبلية التي يعاني منها المنجبون خارج إطار الأسرة الشرعية.
ـ حمت الشريعة الإسلامية حقوق الطفل من مصيبة التشريع بالأهواء وعدد الأصوات فلعن الله نظاماً يحل قتل الجنين بواحد وخمسين صوتاً ولا يستطيع منعه، بتسع وأربعين صوتاً، فهناك ثوابت مثل حق الحياة، وحق النسب، وحق الرعاية الأبوية، لا يمكن الخروج عليها شرعاً.
ـ أقرب الشريعة الإسلامية حقوقاً للطفل عجزت القوانين الوضعية لحقوق الطفل التغلب عليها كحقه في اختيار الأم ذات الأخلاق الحميدة، وحقه في الاسم الحسن، وحقه في الانجاب داخل الأسرة، وحقه في الرضاعة، وحقه في بيئة رحمية أولية طاهرة، وحقه في التربية الإيمانية، وحقه في الحماية من النار والشيطان والصيانة من الشاذّين خلقياً وجنسياً.
ـ كما حمت الشريعة الإسلامية حق الطفل في الرضاعة الطبيعية، والوصية الحنونة الهادئة، وحقه قبل الميلاد في الميراث، وحقه في الوصية والميراث الشرعي.
كما حمت الشريعة حق اليتيم في الرعاية الاجتماعية، وحفظ الأموال، والعطف من الجميع والحنان ونشأته في أسرة كافلة سوية.
ـ كما أن حقوق الطفل في الشريعة حقوق كلية حرصت على الكليات والحقوق الأساسية وأجازت الاجتهاد لوضع الآليات والتفاصيل التي تحكمها المستجدات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية.
ـ كما حمت الشريعة الإسلامية الطفل من التبني، وتغيير العقيدة، والاسترقاق وحفظت حقوق اللقيط والمريض وذوي الاحتياجات الخاصة، وحقه في الحياة وتحريم المتاجرة في أعضائه البشرية تحريماً أبدياً قاطعاً.
فلماذا لا تبنى جمعيات المرأة والطفل في ديارنا هذه التشريعات الربانية وتناقشها مع المنظمات العالمية بدلاً من الاكتفاء بالتلقي والتبعية في تلك التشريعات التي تميزت بها الشريعة الإسلامية.
المصدر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة(/1)
تميّز المسلم
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن والاه , وبعد:
فإن مما يتميز به المسلم أن محور حياته دين الإسلام , وهو مرجعيته في شؤونه وتصرفاته , وهو منهاجه الذي يسير عليه في العقيدة والعبادة والأخلاق والعلاقات ونظم الحياة كلها , ويتمثل ذلك في مرجعيته الراسخة القرآن العظيم والسنة الشريفة. وعلى مدى أربعة عشر قرناً وهذه الحقيقة ثابتة راسخة متجذرة , رغم كثرة المحاولات التي سعى المغرضون من خلالها لزحزحة هذه المرجعية والتشكيك فيها وإزاحتها عن التأثير, لقد بقي الإسلام في مرجعيته صامداً رغم كل الفتن والمشكلات , وأثبت أنه دين محفوظ بحفظ الله لكتابه , رغم عدوان المعتدين وطغيان المشككين وفي هذه الأيام العصيبة يشهد المسلمون عدواناً مكثفاً يستهدف بعض بلدانهم , ويستنزف ثرواتهم ويحاول السيطرة على مواطن التأثير والفاعلية فيهم , وتزايد طمع الطامعين في الإسلام وأهله حتى جاهروا بموقفهم من القرآن العظيم , فأصدروا هراء سموه (الفرقان العظيم) ليكون بزعمهم بديلاً لكلام الله الحكيم, ثم تكلموا في تقاريرهم عن الخطط التي يرونها تحقق لهم هدفهم في إبعاد المسلمين عن دينهم من خلال إبعادهم عن الوحي المعصوم , وعن الفهم الصحيح له .
ومن آخر ما حدث ندوة أقيمت في الدار البيضاء في المغرب تحت عنوان (من تفسير القرآن إلى القراءات الحديثة للظاهرة القرآنية ) أقامتها مؤسسة الملك عبدالعزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية في يومي 10 – 11 ديسمبر 2004
ودعي لهذا المؤتمر شخصيات عرفت بعداواتها الظاهرة للإسلام وللوحي المعصوم, ومنهم محمد أركون ونصر أبو زيد وجان دامن ماكوليف
(إضافة إلى شخصيات طائفية أو ذات مواقف شكية من القرآن ومنهم المنصف عبد الجليل وفيصل العوامي ومحمد الشريف فرجاني)
ولكل من هؤلاء أقوال شنيعة تصف القرآن بالبشرية وتصفه بالتحول إلى كائن مخلوق تحول إلى نص إنساني ولغوي قابل للتعامل معه كأي نص من النصوص . لقد تبين من خلال أبحاث هذه الندوة أي قراءة جديدة تروج لها هذه المؤسسة المنسوبة إلى بلاد الحرمين , وأي منهج يريدون أن نتعامل به مع القرآن العظيم , حيث لا تتردد الأبحاث المقدمة في ربط ما أسموه بالقراءة الجديدة بأفكار المستشرقين ودوائر التعصب المتطرف في أمريكا وأوروبا , وأهم ما في أطروحاتهم إلغاء القداسة عن القرآن , وإلغاء تفاسير أهل العلم والإيمان وجرحها وإبعادها تحت شبهات عديدة , ثم بعد ذلك ينادون بترك معنى النص القرآني مفتوحاً لأي تأويل وأي رأي وأي قراءة .(/1)
تنبوأت سونامي جديد
تمرّ بنا الذكرى السنوية الأولى لوقوع تسونامي (صباحَ الأحد 2004/12/26م): خَسْفٌ في قعر المحيط الهندي انقشعت بسببه الشواطئ لتعود أمواجاً عاتية تعلو عشرات الأمتار وتقتحم اليابسة 18 كيلومتراً، وكأنها مكنسة أزالت عن وجه الأرض مَعالم عمران مُدُن كاملة ، أَهلكَتْ أكثر من 217 ألف إنسان!
أما اليوم فكيف يمكن أن نتخذ "تدابير وقائية" تحمينا من تكرر مثل تلك المأساة؟
بَيَّن نبيُّنا محمد أن سورة "هُود" نبي الله عليه السلام الواردة في القرآن قد شيَّبَته وخاصة الآية التي لها علاقة بعقاب الشعوب الذي لا يبعد عنه عقاب (طوفان تسونامي).
وإليكم مقطعاً من سورة "هود" فيها الآيات ذاتِ الصلة بموضوعنا لتكون موضوع التدبّر ولاستنباط بنود قانون العقاب الرباني؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ! إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ! يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ! وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ! ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ! وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ! وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ! إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود) .
فبعد أن حرَّر الإسلامُ المؤمنين من خرافات التنجيم والأبراج واعتبرها كُفراً يتعارض مع الإيمان بالله، علَّقهم بالقوانين و"السُّنن" التي نظّم الله سَيْرَ الكون عليها. وعلى ضوء الآيات السابقة يمكن رَصْد مؤشِّرات حدوث أي عذاب - الذي منه أمواج طوفان تسونامي - وهاكم بعض هذه المؤشّرات:
1) الفساد السياسي: ربما تتعجبون من ذلك! نعم إن فرعون أول ما وقع فيه ليستحق الغرق في أمواج "تسونامي" البحر الأحمر: هو التَّمَحْوُرُ حولَ الذات، وعبادةُ الهوى الشخصي وتقديم "برنامج سياسي" يقوم على عقيدة تخالف التوحيد وشريعة الله (فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ).
2) الإعراض عن التفكر في الحُجج والبراهين التي أوحى الله بها إلى الأنبياء عليهم السلام فبلّغوها بأنفسهم أو بلَّغها العلماء والدعاة المصلحون. فلا يليق بالعقلاء الذين ميزهم الله عن بقية المخلوقات أن يرهنوا عقولَهم لمَلِكٍ أو نظامٍ حاكم أو زعيمِ حزب أو تَوَجُّهِ تيارٍ بَدَلَ أن يَعرضوا أوامرَ تلك الجهة أو ذلك الشخص على قِيم الرشاد أو الضلال (وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد).
3) رَدُّ الحجج الواضحة قبل التفكر فيها، أو تكبراً عليها بعد فَهم ذلك السلطان المبين. فذلك المُعْرِض عن الحق يُعرِّض نفسه لأَنْ يَحصُدَه عذابُ الله وتلحقَه لعنتُه في الدنيا، ولعذاب الآخرة أسوأ وأشد.
4) اتْبَعْ أيها الإنسان في الدنيا مَن تريد أن تتبعَه في الآخرة، فسيقْدُمك هناك مَن هو قُدّامَك هنا، والخيار إليك (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يوم القيامة).
5) القُرْب من الفراعنة واتّباعُهم وأن تُحْسَب على حاشيتهم وخِدْمة برامجِ عَمَلهم وسياستِهم يهدد مستقبل هؤلاء الأتباع ويعرِّضهم للمهانة وسوء العاقبة (وَمَلَئِهِ).
6) كل ما يُقَدَّم على الله وأوامره وتعاليمهفهو نوع من المعبودات من دون الله، ومن عظَّم شيئاً أكثر من الله فقد اتخذه إلهاً ووقع في نوع من الشرك (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُم).
7) إذا كَثُرَ "الظُّلم" مِن الناس تجاه أنفسهم وغيرهم في مجتمعٍ ما و"تَفَرْعَنُوا" ولَمْ يواجَهوا بشَريحة مُصلِحة مِن أهله فقد استحقوا الأخذَ بالعذاب الأليم الشديد (مثل الزلازل والطوفان والنَّكَد والضَّنْك) هذا في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر (وَلَكِنْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ).
8) القرآن يوجِّه أتباعه والراغبين في الاستفادة منه إلى القراءة المتعمِّقة للوقائع، ودراسة "ما وراءَ الحدث"، ويَعِيب على الذين يقفون عند القشور الظاهرة (يعلمون ظاهرًا مِن الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون).
تَحْذيْرٌ: إن الذي حَصَل لأولئك (مثل فرعون وهامان وقارون وقوم لوط...) ولهؤلاء (مثل تسونامي، وإعصارَيْ كاترينا وريتّا في أمريكا...) يمكن أن يتكرر كلما
تكرّرتْ أسبابُه؛ قال رسول الله : "إن اللهَ لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أَخذَه لم يُفْلِتْه" ثم قرأ: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد)" رواه البخاري.(/1)
فهل أسباب العذاب متوفرة فينا؟ فسادٌ سياسي، واستبداد وخروج عن تحكيم شريعة الله على المستوى العام وفي خصوصيات الأفراد، وتضييع للأمانة والصلاة، واتّباع للشهوات وتأليهٌ للجِنس وتجاوز للأخلاق والقيم في حفلات عامة باسم السياحة والحرية والرخاء الاقتصادي ووسائل الإعلام، ولوحات إعلان رذيلة (تقتلعها الأعاصير أحياناً)، وتَوَاطُؤ مِن الحكام مع الأعداء على الشعوب لتضليلها وتهجيرها وتجويعها عبر مؤسسات النظام، وجامعات الدول، ومؤتمرات المنظمات المحسوبة على الإسلام، وباعتقال الأبرياء وتعذيبهم باسم الدين أحياناً تحت تأثير الحقد المذهبي، وانتهاك أعراض الطاهرات. وتحت عنوان الاحتفال فرحاً بميلاد النبي المكرّم عيسى عليه الصلاة والسلام تُشرَب الخمور ويُجعل موسماً لارتكاب الفواحش...
فليس لنا إلا أن نعلن الاستنفار ونتخذ أعلى التدابير والإجراءات الاحتياطية، فنحاولَ "الإنذار" والإصلاح والضغط بالوسائل المشروعة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .
وإلا فإن خفنا أيام وقوع طوفان تسونامي فقط، ثم نسينا وانحرفنا فما أشبهنا بالذين ذمهم الله تعالى بقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ! هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا: جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فلمّا أنجاهم إذا هم يَبْغُون في الأرض بغير الحق..) .
فإذا استمرت أمواج الفساد مرتفعة دون أن توقفَها صخورُ التوبة و جبالُ الإصلاح... عندها فلْنَتَنَبَّأْ صادقين بوقوع "تسونامي" جديد عاجلاً أم آجلاً! أَجِرْنَا من ذلك يا رب العالمين.
(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد)(/2)
تنبيه الأمة على وجوب الأخذ
بالكتاب والسنة
كتبه الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في شهر شوال الموافق 26/10/1412هـ
القصيم – بريدة
قام بتفريغ هذه المادة إخوانك في شبكة الدفاع عن السنة
http://www.d-sunnah.net/forum/index.php?
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الواجب على جميع العباد امتثال أمر رب الأرض والسموات ، وأمر المبعوث رحمة للعباد ، وطرح كل قول يخالف الكتاب والسنة دون شقاق أو عناد ، فإن ذلك تمام الانقياد الذي هو شرط من شروط لا إله إلا الله .
فلا توحيد إلا بطاعة الله ورسوله ، ولا فوز ولا فلاح إلا بتقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال ، التي هي محط أنظار قابلة للرد والقبول ، وما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد سوى المبعوث بالفرقان ، وما من إمام من الأئمة إلا وله أقوال مرغوب عنها عند أولى النهى والأبصار ، فالسعيد من تمسك بالوحيين وان جفاه الطغام . والشقي من نبذهما من أجل التمسك بآراء الرجال .
وإني لما رأيت كثيرا من الناس ،نبذوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم تعضيما لمحض الآراء ،وتعصبا لمذهب من هو عرضة للنسيان والخطأ ،وعادوا من لا يتعصب لمذهب معين ويلتزمه جهلا منهم بكتاب ربهم الذي أنزل على خير الورى أحببت أن اكتب هذه الرسالة في وجوب الأخذ بالكتاب والسنة ورد المسائل المتنازع فيها إليهما ،كي تتوحد الأقوال على وفق الأدلة الشرعية ،ويقل الخلاف بل يضمحل عند الرجوع إلى حبل الله المتين المنزل على الرسول الأمين وتستقيم الأرض على طاعة رب الأرض والسموات على رغم أنوف المبطلين لأنه مما لا يخفى أن أعظم شيء أضر بكثير من أهل العلم والدين وأخرهم عن اللحوق بسلفهم هو التعصب المذهبي والجمود على مذهب من ينتمون إليه دون نظر في الأدلة الشرعية وترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه.
وكم جر هذه التعصب من سقوط بلاد إسلامية بسبب تفرقها وتعصبها وعدم تمسكها واعتصامها بالكتاب والسنة .
وثم مصيبة يندى لها الجبين وهي أن الكثير من المتعصبين لأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم جمعوا مع الحشف سوء الكيل فهم يعادون أهل التجرد للدليل ويلمزونهم بذلك ، بل يرمونهم بالمنكرات وعظائم الأمور زورا وبهتانا كي ينفروا عنهم لما من الله عليهم به من تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن لا ضير على أهل التوحيد الخالص من جعجعة المرجفين ، ولمز المبطلين فصيحتهم كمثل دخان ، وهذه سنة الله في عباده المؤمنين ، وما على المسلم إلا الصبر والاحتساب حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا وليتأس بمن قبله فقد تناولتهم الألسنة البذيئة من أعدائهم وخصومهم واخرجوا من ديارهم وأوطانهم كما جرى ذلك لأئمة الإسلام وهداة الأنام فكيف بمن كان في آخر الزمان مع غربة الدين بين الأنام ، قال الرسول الأمين المبعوث رحمة للعالمين صلى عليه ربنا إلى يوم الدين : ( بدا الإسلام غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء )(1) .
فالمسلم غريب بين الكفار والسني غريب بين أهل البدع ، وكلما قوي إيمان العبد قويت غربته .
فالمتمسك بالسنة حق التمسك في هذا الزمان غريب بين الناس يشار إليه بالأصابع لتباين منهجه مع مناهجهم وطريقته مع طريقتهم وسبيله مع سبيلهم .
قال سهل بن عبد الله :
( عليكم بالأثر والسنة ، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه ، وأذلوه وأهانوه ) .
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله –:
( رحم الله سهلا ما اصدق فراسته ، فلقد كان ذلك وأعظم ، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة ، والأمر بإخلاص العبادة لله ، وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله صلى الله علية وسلم ، وتحكيمه في الدقيق والجليل )(2) .
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
__________
(1) هذا الحديث مروي من طريق جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أبو هريرة وحديثه عند مسلم في صحيحيه (2/175-176-نووي) وغيره كأحمد وابن ماجه...
وعبد الله بن مسعود وحديثه عند الترمذي : (5/19)وغيره.
وعبد الله بن عمر وحديثه عند مسلم : (2/176- نووي) وغيره.
وأنس بن مالك وحديثه عند ابن ماجه: (2/1320) وغيره.
وسعد ابن أبي وقاص وحديثه في المسند: (1/184).
وعمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني وحديثه عند الترمذي : (5/19)وغيره.
وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
(2) تيسر العزيز الحميد: (ص61)(/1)
( يأتي على الناس زمان ، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) (1)
وهؤلاء هم الغرباء حقا .
(وأهل هذه الغربة ، هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به ، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم ، بقوا في مكانهم ، فيقال لهم : " ألا تنطلقون حيث انطلق الناس ؟ فيقولون : فارقنا الناس ، ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده" فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو أنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا ، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا ، وان عاداه اكثر الناس وجفوه )(2) .
وهؤلاء الغرباء هم : ( القابضون على الجمر حقا ، واكثر الناس بل كلهم لائم لهم ، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم )(3) .
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فصل
اعلم أنه لا يجوز لأي أحد من الناس أن يوجب على العباد إلا ما أوجبه الله ورسوله أو يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله .
فمن أوجب شيئا لم يوجبه الله ورسوله أو حرم شيئا لم يحرمه الله ورسوله فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله ولا تجوز طاعته في هذه الحالة لأنه يأمر بمعصية الله ورسوله وقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ورسوله .
وقد أمرنا الله جل وعلا بطاعة رسوله في نحو ثلاثة وثلاثين موضعاً(4) من كتابه فلا يحل مخالفتها إذ أنه عين الضلال وعين المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد عمت البلوى في هذا الزمان فلا يقبل الكثير منهم إلا آراء الرجال. أما الكتاب والسنة فقد رغب عنهما الكثير ممن سفه نفسه وأعلن عليها بالفجور ولا يعول عليهما إلا عند الحاجة كالميتة لا تؤكل إلا عند الضرورة .
ومن العجائب والعجائب جمة أن كل متمذهب بمذهب ينكر على صاحب المذهب الآخر عدم انتمائه إليه ولا أدري ما هو الدليل الذي دلهم على مذهب غيرهم حتى يعلنوا النكير على أتباع المذاهب الأخرى ؟!
وقد أقسم الله بنفسه في سورة النساء أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي والأمي في الصغير والكبير في جميع الأمور،
فقال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ً)سورة النساء آية :65
والله تبارك وتعالى لم يوجب على أي فرد من الناس طاعة شخص بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقد أمرنا بطاعته وعدم الخروج عن أمره لأنه مبلغ عن الله فلا يأمر إلا بما يحبه الله ولا ينهى إلا عما يكرهه الله .
قال تعالى : (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) سورة آل عمران آية:132
فهذه الآية يأمر الله تعالى بها عباده أن يطيعوه ويطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم ، والأمر يقتضي الوجوب على الصحيح إلا لصارف و لا صارف له هنا .
بل الآيات كثيرة تؤكد هذا الوجوب، ثم إنه من المعلوم إذا ثبت الأمر يدل على الوجوب أن مخالفه آثم وعاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن مخالفة الأمر معصية .
قال تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) سورة النور آية:63
فرتب الله تعالى على مخالفة الأمر الفتنة أو العذاب الأليم.
قال الإمام أحمد – رحمه الله- : (أتدري مالفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)
قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك الفوز العظيم .ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) سورة النساء الآيتان 13-14
وقال تعالى : (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) سورة النور آية 54
فهذه الآيه فيها الأمر من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه الترمذي في جامعه : (6/538-تحفة الأحوذي) بسند ثلاثي، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي الكوفي أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وقال بعده :هذا حديث غريب من هذا الوجه . وعمر بن شاكر روى عنه غير واحد من أهل العلم وهو شيخ بصري.
قال ابن حجر في التقريب : (2/57)في عمر بن شاكر ضعيف ورواه ابن عدي في الكامل : (5/1711) في ترجمة عمر بن شاكر وابن بطة في الإبانة : (1/196) والحديث ضعيف ولكن له شواهد من حديث أبي هريرة عند أحمد : ()2/390 وحديث ابن مسعود وحديث أبي ثعلبة الخشمي.
(2) مدارج السالكين : (3/206)
(3) مدارج السالكين : (3/207)
(4) قال أحمد : (نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً...)(/2)
ثم إن الله تعالى قال: (وإن تطيعوه تهتدوا ) فلا يحصل الإهتداء إلا بطاعته لأن الآية فيها فعل الشرط تخلف جوابه.
فعلى هذا لا يحصل اهتداء إلا بطاعته فإن وجدت الطاعة حصل الإهتداء وإلا فلا.
ولذلك رتب الله على طاعته وطاعة رسوله الفوز والفلاح في سورة الأحزاب فقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) سورة الأحزاب آية 71
وقال تعالى مبينًا ما أعد للمتولين عن طاعته وطاعة رسوله : (ومن يتول يعذبه عذابا أليما) سورة الفتح آية 71
وقال تعالى حاكما بالضلال المبين على من عصاه وعصى رسوله : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) سورة الأحزاب آية 36
ومخالفة الأمر معصية كما تقدم.
وقال تعالى ، ناهيا عباده عن التقدم بين يدي الله ورسوله : (يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .واتقوا الله أن الله سميع عليم) سورة الحجرات آية 1
وأي تقدم اعظم من مخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأقوال من يخطيء ويصيب وبعلم ويجهل.
وقال تعالى ، آمرا لنا بأخذ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقيها بالقبول دون توقف : (وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا ) سورة الحشر آية 7
وما الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الرسول والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدا.
منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...الحديث)(1)
قوله صلى الله عليه وسلم (من رغب عن سنتي فليس مني)(2)
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى . فقالوا يا رسول الله : من يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )(3)
وأعظم الناس وأقواهم تمسكا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة- رضي الله عليهم-.
ومن أعجب ما وقفت عليه من حقيقة الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ،وتعظيم أمره ما فعله الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – وأرضاه ، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه وهو يقول : اجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: (زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله)(4)
فصل
كان السلف – رضوان الله عليهم – يشتد نكيرهم على من خالف الأحاديث بالآراء والتعسفات المريضة ،وربما هجروه تعظيما للسنة وتوقيراً لها.
فروى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها. قال فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ، ما سمعته سبه مثله قط . وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: والله لنمنعهن)(5)
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل أنه رأى رجلا يخذف فقال له :لاتخذف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف – أو كان يكره الخذف – وقال: إنه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف –أو كره الخذف – وأنت تخذف ؟! لا أكلمك كذا وكذا)
__________
(1) هذا الحديث مروي من طريق العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو مخرج عند الإمام أحمد : (4/126-127)، وأبي داود في السنة في باب لزوم السنة : (12/358-359-عون المعبود)، والترمذي في باب :ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (5-43-رقم 2676)، وابن ماجة: (1/16-رقم 43)
، والدارمي : (1/44-45)، وابن حبان : (رقم 102-موارد)، والحاكم: (1/95-96) ،وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري : (9/104-فتح الباري)، ومسلم: (2/1020-رقم 1401) وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري : (13/249-فتح الباري)، وأحمد في مسنده: (2/22361) وغيرهما من حديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(4) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة : (4/66) اخرج البيهقي بسند صحيح من طريق ثابت عن ابن أبي ليلى كان النبي صلى الله عليه وسلم. يخطب فدخل عبد الله بن رواحة ... الحديث ثم قال: (وأخرجه من وجه آخر إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة والمرسل أصح سنداً)، وذكر في مجمع الزوائد : (9/316)من حديث عائشة وقال: (رواه الطبراني في الأوسط) وفيه ابراهيم بن إسماعيل بن مجمح وهو ضعيف، وانظر سير أعلام النبلاء: (1/232)
(5) مسلم : (4/161) ورواه البخاري في صحيحه : (2/327،351،382-فتح الباري) ولكن المرفوع منه فقط.(/3)
وروى البخاري في( صحيحه 3/475-فتح) عن الزبير بن عربي قال : سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما، عن استلام الحجر، فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله ، قال قلت : أرأيت إن غلبت. قال اجعل: (أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله)
قال الحافظ ابن حجر: على قول ابن عمر : اجعل أرأيت باليمن، وإنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي.
وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ( والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله . أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتحدثونا عن أبى بكر وعمر)(1)
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله - : ( فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر.وهما هما. فما تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه . ويجعل قوله عيارا على الكتاب والسنة ، فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله فالله المستعان.
وما أحسن ما قال بعض المتأخرين:
فإن جاءهم فيه الدليل موافقا ... ... لما كان للآبا اليه ذهاب
رضوه وإلا قيل: هذا مؤول ... ... ... ويركب للتأويل فيه صعاب
ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ]سورة التوبة آية 31[(2)
وقال أبو السائب : (كنا عند وكيع : فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول أبو حنيفة هو مثله قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثلة ، قال فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا . وقال : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: قال إبراهيم . ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا)(3)
وهذا الذي ينبغي أن يفعل فيمن رام الوقوف أمام النصوص ومعارضتها بقول فلان وفلان، بحجة انه اعلم منك!!
وقال الشافعي رحمه الله في الرسالة (ص 450):
(أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي ، قال حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل، وإن احب فله القود ) قال أبو حنيفة ، فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري ، وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : تأخذ به !! نعم آخذ به . وذلك الفرض عليً وعلى من سمعه.
إن الله اختار محمدا من الناس فهداهم به وعلى يديه.
واختار لهم ما اختار له ، وعلى لسانه ،فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك .قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت)
وروى أبو يعلى في طبقات الحنابلة : (1/251) عن الفضل بن زياد بن أحمد بن حنبل قال: (بلغ ابن أبي ذئب ،أن مالكا لم يأخذ بحديث (البيعان بالخيار) فقال: يستتاب في الخيار فإن تاب وإلا ضربت عنقه .ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك...).
وهكذا كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنا من كان ،ويهجرون فاعل ذلك ،وينكرون على من يضرب له الأمثال .ولا يسوغون غير الإنقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة ،ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان ، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ،وبقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ،ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وبقوله تعالى : (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) وأمثالها.
فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم : (ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا )يقول: من قال بهذا ويجعل هذا دفعا بصدر الحديث ،أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به ،ولو نصح نفيه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل.
__________
(1) قال ابن عبد البر في بيان جامع العلم: (2/195)وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن أيوب قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية فقا عروة : أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس : فذكره . وانظر مسند الإمام أحمد : (1/337)، وكتاب الفقيه والمتفقه : (1/145)، والمطالب العالية : (360-361)
(2) تيسير العزيز الحميد : (544-545)
(3) جامع الترمذي : (3/250)، الفقيه والمتفقه: (1/149)(/4)
وأقبح من ذلك عذره في جهله ،إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع ،وهو جهله على السنة والله المستعان .
ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به فإن جهل من بلغه الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل)(1).
فصل
في ذم التقليد
اعلم أن التقليد هو قبول قول القائل من غير معرفة لدليله (ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم ،وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم)(2)
ولذلك نهى العلماء –رحمهم الله-عن تقليدهم ،وما من إمام من أئمة الإسلام إلا ونقل عنه ما يدل على ذلك ،لأن الواجب على كل مسلم ومسلمة معرفة الهدى بدليله (3).
وقد تتابعت أقوال العلماء خصوصا الأئمة الأربعة –رحمهم الله – على وجوب الأخذ بالحديث وترك التقليد وهاك أقوالهم فإن فيها منفعة لقمعها أهل التعصب:
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه )
وأما الإمام مالك رحمه الله فقد اشتهر عنه أخذه بالسنة والتمسك بها فلذلك كان رحمه الله من أشد الناس تمسكا بالسنة ودفعا للبدعة وهو القائل : (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ،وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه).
وقال رحمه الله : (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه معصوم فيما يبلغه عن الله وأما غيره فيؤخذ من قوله ما وافق الكتاب ب والسنة وما عداهم فيطرح خلافا لبعض الغلاة المتعصبين الذين يغلون في أئمتهم حتى قال بعضهم : (إن عيسى ابن مريم عندما ينزل يحكم بمذهب أبي حنيفة) وهذا غلو شديد وتعصب مهلك ومما ينسب أيضا إلى بعض المتعصبين من الحنفية : (كل آية أو حديث تخالف المذهب فهي مؤولة أو منسوخة)
وهذا تعصب ينبىء عن قلة دين وغلبة هوى .وحكايته تغني عن رده ،وأقوال المتعصبة في مثل ذلك كثير، فيكاد يصبح التقيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وكم جر هذا التعصب من فتن بين المسلمين وتفريق لكلمتهم وزعزعة في صفوفهم وإثارة للضغائن بينهم ،مع صرف الولاء والبراء لهذه المذاهب ،فكل متمذهب بمذهب ما يعادي صاحب المذهب الآخر(4) مع أن أئمتهم لا يرضون بذلك بل ينهون عنه أشد النهي وينعون أهله ،ورحم الله ابن أبي العز حيث يقول: (فمن تعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم ،كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ورأى أن قول هذا هو الصواب الذي ينبغي اتباعه ،دون قول الأئمة الباقين فهو جاهل ضال ،وإن اعتقد أنه يجب على الناس اتباعه دون غيره من هؤلاء الأئمة فإنه يخشى عليه)
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فقد اشتهر قوله في وجوب الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه .فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي)(5)
وقال رحمه الله : ( أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)
__________
(1) إعلام الموقعين : (4/244-245)
(2) إعلام الموقعين : (1/45)
(3) قال ابن أبي العز –رحمه الله-: (ولا نقول إن هؤلاء الأئمة وأمثالهم لا يجوز تقليدهم لآحاد العوام . وأنه يجب على آحاد العوام أن يكون مجتهدا كل مسألة تنزل به . فإن هذا قول ضعيف قاله بعض أهل الكلام وجمهور الأئمة والأمة على خلافه، وهو خطاء لأن أكثر العوام عاجزون عن معرفة الاستدلال على كل مسألة) اهـ "الاتباع": (ص43)
(4) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : (1/209) في الكلام على أصبهان : (وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين ، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها ،ولا يأخذهم في ذلك إلَ ولا ذمة ،ومع ذلك فقلَ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها...)
(5) وقال رحمه الله : (كل ماقلت : وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني) رواه ابن أبي حاتم في : (آداب الشافعي : ص67) وانظر الحلية لأبي نعيم : (9/106-107) والفقيه والمتفقه للخطيب : (1/150)(/5)
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله : (بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلا جهال المقلدين وجفاتهم ،ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم ،كما حكى الإجماع على أنهم من أهل العلم أبو عمر بن عبد البر وغيره.
قال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) سورة الأعراف آية 3
وقال تعالى : (إن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلغ المبين) سورة النور آية 54
فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية ،وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتد إنما المهتدي من عصا ه، وعدل عن أقواله ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك ، وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم، ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ، ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب ويرى الخروج عنها من العظائم ، وفي كلام أحمد: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان)(1) إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام :الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة . نعم وينكر الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة بل إن قرؤوا شيئا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنما يقرؤونه تبركا لا تعلما وتفقها ، أو لكون بعض الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلا فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قوله تعالى : (وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيها وساء لهم يوم القيامة حملا)سورة طه آية 99-100
وهذا الكلام كلام عظيم يعض عليه بالنواجذ وتشد الرحال من أجله مع العلم أن ما ذكره الشيخ رحمه الله من حال هؤلاء المقلدين وضلالهم المستبين غيض من فيض ونقطة من بحر وإلا فمن سبر حال المقلدين المتعصبين رأى العجب العجاب من اتباع الهوى والوقوع في الآصار والأغلال.
فرحم الله من نصح نفسه واتبع الكتاب والسنة وإن خالفه من خالفه.
ولله در العلامة ابن القيم رحمه الله إذ يقول:
يا من يريد نجاته يوم الحسا ... ... ... ب من الجحيم وموقد النيران
اتبع رسول الله في الأقوال والأ ... ... عمال لا تخرج عن القرآن
وخذ الصحيحين اللذين هما ... ... لعقد الدين والإيمان واسطتان
واقرأهما بعد التجرد من هوى ... ... وتعصب وحمية الشيطان
واجعلهما حكما ولا تحكم على ... ما فيها أصلا بقول فلان
ومما يشرح صدور المؤمنين ويقمع تعصب المتعصبين ما قاله الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله قال: (ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه لايجد لضعفه مدفعا ،وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد إمامه ، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده.
قال: وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه ،تعجب منه غاية التعجب من غير إسترواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجدها.
قال :وما رأيت أحدا يرجع من مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع عمه بضعفه وبعده فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد له ، ولا يعلم المسكين أم هذا المقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على ما ذكرته.
قال :ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقليد ولا تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين.
إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصوبوها من المقلدين فإن أحدهم يتبع إمامه من بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل إليه ،وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لايرضى به أحد من أولي الألباب)(2)
__________
(1) تيسر العزيز الحميد : (ص546-548)
(2) منقول بواسطة السيوطي في كتابه "الرد من أخلد إلى الأرض": (ص140-141) وانظره في كتاب "قواعد الأحكام" لأبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام : (2/305) إلا أن بعضا مما ذكره السيوطي نقلا عن ابن عبد لاسلام لم أجده في القواعد فليعلم.(/6)
وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فهو ناصر السنة قامع البدعة الصابر يوم المحنة فضائله مشهورة ومناقبه مأثورة له المرجع في العلم في زمانه ومع ذلك اشتهر عنه ذم التقليد حتى قال: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث اخذوا )
وأقوال العلماء رحمهم الله في ذم التقليد ووجوب الأخذ بالدليل كثيرة مشهورة .
(فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك لأي عظيم من الأمة ،فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم :أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق ، فإذا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غير ه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ل أن يقدم ويتبع ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له . بل ذلك المخالف المغفور له . لا يكره أن يخالف أمره إذا ومتابعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه ، كما أوصى الشافعي : إذا صح الحديث في خلاف قوله : (أن يتبع الحديث ويترك قوله وكان يقول : ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطيء ، وما ناظرت أحدا فباليت أظهر الحق على لسانه أو على لساني . لأن تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله لا ظهور نفوسهم والانتصار لها وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق صغيرا أو كبيرا وينقادون لقوله ...))(1)
فصل
وبما تقدم ذكره من وجوب الأخذ بالكتاب والسنة ومن ذم التقليد والتعصي لآراء الرجال . لا يظن بنا ظان أننا نبطل النظر في كتب الأئمة الأربعة أو غيرهم من الأئمة أو نهدر حقوقهم ونهظمهم حقهم فإن هذا لا نقول به ولا نرتضيه وإنما نطالب بتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم لأن ذلك شرط من شروط لا إله إلا الله .
فلا يستقيم إسلام المرء حتى يجرد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه ،فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها لشبهة أنه أعلم بها منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا.
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم ، بل اقتدى بهم ، فإنهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما وصوا به لا من خالفهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال، بين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه(2) ، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمي تقليدا بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى(3).
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله: (فإن قلت : فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب ؟
قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم المتاب والسنة ،وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) سورة النساء
__________
(1) "الحكم الجديرة بالإذاعة" للحافظ ابن رجب رحمه الله (ص41-42)
(2) قال ابن أبي العز –رحمه الله- في رسالته "الاتباع" ص43: (ومن ظن أنه يعرف الأحكام من الكتاب والسنة بدون معرفة ما قاله هؤلاء الأئمة وأمثالهم فهو غالط مخطيء) أقول : أقوال الرجال يستضاء بها في فهم الكتاب والسنة فإذا خالفت شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ردت على قائلها فأقوالهم يحتج لها ولا يحتج بها كما ذكر ذلك غير واحد من المحققين.
(3) "الروح" لابن القيم : (ص390-391) طبعة دار الكتاب ،و (ص356-357) طبعة دار الكتب.(/7)
وهذا آخر ما تيسر إيراده على سبيل الاختصار نصحا للمسلمين وغيرة عليهم أن تذهب أعمارهم تطلبا لقول فلان وفلان وشفاؤهم قريب منهم لو طلبوه لوجدوه .
ومن لم يشفه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويشفيه قول فلان وفلان فهذا على شفا جرف هار وهو في الغي والضلال الهائم.
ورحم الله العلامة ابن القيم حيث يقول :
من لم يكفيه ذان فلا كفا ... ... ه الله شر حوادث الزمان
من لم يكن يشفيه ذان فلا ... ... شفاه الله في قلب ولاأبدان
من لم يكن يغنيه ذان ... ... رماه رب العرش بالإعدام والحرمان
من لم يكن يهديه ذان فلا ... ... هداه الله سبل الحق والإيمان
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: ( فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترده لأجل هواك أو انتصارا لمذهبك أو لشيخك أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو الدنيا فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عز وجل عن مخالفة أحد فإن من يطيع
أو يطاع تبعا للرسول وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع فاعلم واسمع وأطع واتبع ولا تبتدع تكن أبتر مردودا عليك عملك بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع ولا خير في عامله والله أعلم )(1).
تمت الرسالة بحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في شهر شوال الموافق 26/10/1412هـ
القصيم - بريدة
__________
(1) "فتاوى شيخ الإسلام" : (16/528،529)(/8)
تنبيه الخاصّة والعامّة إلى حكم تولّي المرأة الولايات العامّة
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، أشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين ، وأشهد أن محمدا صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه عبده ورسله إمام المتقين ، المبعوث رحمة للعالمين ، وبعد :
فقد تساوق مع التغيرات السياسية التي طرأت بعد حرب الخليج الثانية ، حماس مفاجئ للدعوة إلى إقحام المرأة الكويتية في الصراع السياسي ، وذلك بالسماح لها بالترشيح والانتخاب لمجلس الأمة .
ومن المعلوم أن إقحام المرأة الكويتية في هذه الساحة ، سيؤدي لا محالة إلى الزج بالحالة العامة للمرأة في الصراع السياسي ، بكل تعقيداته وصراعه الحزبي والقبلي والطائفي والشخصي ، والتجاذب السياسي بين الحكومة والمعارضة من جهة وبين التيارات وبعضها من جهة أخرى .
وسوف يلقي ذلك كله بظلاله على كل ما يتعلق بمسؤولية المرأة في الأسرة الكويتية التي تعاني اليوم من مظاهر التفكك وارتفاع نسبة الطلاق ، وسيؤدي ذلك على المدى البعيد إلى فساد كبير في النظام الاجتماعي الكويتي .
ومن هنا فإن عرض قضية منح المرأة حق الترشيح والانتخاب للمجلس النيابي ، على أنها مسألة خلافية في الشريعة الإسلامية ، عرضا مقطوعا عن الواقع الذي سيفرض نفسه بلا ريب ، وما سينسحب معه من مخالفات ومشكلات حظرتها الشريعة بصورة قطعية ، ضرب من السطحية في التفكير ، ينبغي أن يسمو عنها نظر المفتي الشرعي .
وهذه الرسالة المختصرة تتضمن الأدلة الشرعية على أن منح المرأة حق الترشيح والانتخاب كمادلت عليه النصوص بوضوح وحسم ، وعلى ضوء ما سيكون عليه الواقع الكويتي ـ لا كما يتخيله بعض المفتين بالجواز في مخيلتهم حيث يفرضون واقعا إسلاميا منضبطا بأحكام الشريعة تتنزل عليه هذه المسألة ـ هو أمر مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ، ومقتض لحصول كثير من المضار الاجتماعية المحققة .
والله سبحانه أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، ويتقبلها منا إنه هو السميع العليم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين.
حامد بن عبدالله العلي
ربيع الأول من عام 1422هـ
أولا
الدليل الإجمالي على منع المرأة من تولي الولايات العامة في الشريعة
وحاصل هذا الدليل أن منح المرأة حق الترشيح والانتخاب ، ليست قضية فقهية فرعية ، عرضت على مجتمع يتمتع بصحة اجتماعية وفق تعاليم الإسلام ، ويعيش حالة استقرار في المفاهيم الإسلامية ، وفي أمن تام من غزو ثقافي ، بل هي جزئية مرتبطة بالصراع الدائر بين ثقافة غربية قائمة على منهج علماني ، لاديني له نظرته الخاصة عن المرأة والمجتمع بصورة عامة ، وهو يختلف جذريا عن المنهج الإسلامي ، ويحاول اقتحام المجتمعات العربية والخليجية بفرض مفاهيمه الخاصة بشتى الطرق ، بين هذه الثقافة الغربية بنظامها الاجتماعي ، والنظام الاجتماعي في الإسلام بنظرته المتميزة ذات المصدر الرباني للمرأة ومكانتها في المجتمع ، ولقيم الأسرة المسلمة .
ويستغل مؤيدو النظام العلماني والمؤمنون به في الكويت والخليج والوطن العربي والإسلامي ، قانون منح المرأة حق الترشيح والانتخاب لتعزيز ذلك المنهج العلماني بصورة عامة ، وتحويله إلى واقع قانوني واجتماعي مفروض.
الفرق بين النظام الاجتماعي الإسلامي والغربي العلماني :
ونقطة الخلاف الرئيسة بين النظامين ، والتي يمكن من خلالها تفسير الخلاف بين جميع الصور الفرعية التي يخالف فيها النظام الاجتماعي الإسلامي ، النظام الاجتماعي الغربي هي :
أن النظام الاجتماعي الإسلامي يقوم على المحافظة على الفاصل الوظيفي في المجتمع بين المرأة والرجل ، ذلك الفاصل الذي يعتمد على أن حقيقة الاختلاف الفطري والتكويني بين الرجل والمرأة ، حقيقة علمية مستقرة غير قابلة للجدل .
بينما يقول النظام الغربي على وهم المساواة المطلقة بينهما ، تلك المساواة المقتضية للخلط الوظيفي بينهما في المجتمع ، وقد أدت هذه النظرة إلى الغلو في فرض المساواة إلى درجة تصور إمكان إقامة الأسرة بين المرأتين والرجلين ، بل إلى تحوي هذا التصور إلى واقع قائم ومعترف به .
وقد أدى إيمان الغرب بهذا الوهم ـ وهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ـ إلى أحداث تصور جديد ، حاصلة أن الجنس البشري ، لا ينقسم إلى ذكر وأنثى إلا باعتبار النسبية المجتمعية ، أي باعتبار الخيار الذي تفرضه ظروف المجتمع الذي يعيش فيه ، وإلا فإنه في الأصل شيء واحد بلا فرق له قيمة بين الذكر والأنثى ، وإنما يدفعه المجتمع المحيط به إلى الانحياز إلى الذكورة والأنوثة بالبقاء عليها .(/1)
وتقول هذه النظرية أن النظرة الاجتماعية الصحيحة هي أن نسمح للإنسان بتوجيه اختياره لنفسه ، بأن يبقى على جنسه أو يتحول إلى الجنس الآخر ، استفادة من تطور الطب الحديث ، وذلك بتوفير عمليات التحول الجنسي ،ووضع القوانين الكفيلة بحماية الشاذين جنسيا ، وقد طرحت هذه النظرية بقوة في مؤتمر بكين السابق عن المرأة والأسرة ، وفي مؤتمرات أمريكية أيضا.
كما أدت هذه النظرية الغربية إلى تكليف المرأة بما يكلف به الرجل ، وزجها في كل مجالاته ، فوقع عليها ظلم بين وسلبت منها جميع خصائصها وما أكرمها الله به .
هذا مع أن بعض رجال الفكر والقانون الغربي قد أيدوا النظام الإسلامي ، انطلاقا من نظرتهم إلى الحقائق الواقعية والطبيعة الفطرية ، مثل القانوني الفرنسي اسمان الذي قال ( إن المرأة أقل من الرجل من الناحية الجسمانية والعقلية وأن ثمة تقسيما للعمل ـ نتيجة لذلك ـ بين الرجل والمرأة ، فهي تختص بشئون المنزل ) القانون الدستوري الفرنسي والمقارن .أسمن ص37
أما النظام الإسلامي ، فإنه قائم على أساس مناقض تماما للنظام الغربي العلماني ، وأساسه هو الفصل بين وظيفتي الرجل والمرأة ، بناء على اختلافهما في الفطرة والخلقة التكوينية ، ويتفرع على هذا الأساس الإسلامي أمران:
الأول : أن الرجل يتولى مهام قيادة المجتمع في النواحي الحيوية والاستراتيجية ، وكل الوظائف التي تحتاج إلى مميزاته من القوة والرأي والحزم والصلابة ، كالإمامة والحرب والقضاء وسائر الولايات العامة في المجتمع ، والمرأة تتولى حفظ مهد المجتمع ونواته ومصنع رجاله وهو الأسرة ، وكل ما يحتاج إلى مميزاتها من الحنان والعاطفة والسكن والمودة .
والناظر إلى روح الشريعة الإسلامية ، يجد أنها تتشوف إلى أي قانون اجتماعي يعزز هذا التقسيم الوظيفي ويشجع عليه ، والعكس بالنسبة إلى أي قانون يضعف هذا التقسيم ، وذلك بغية تحصيل مجتمع قوي ، متماسك البنيان ، يتمتع بصحة اجتماعية .
الثاني : أن المرأة إذا احتاجت إلى العمل في خارج نطاقها ، فإن الشريعة المطهرة لم تمنعها من ذلك ، لكن أمرتها أن تستصحب آدابا ، هي زينة لها وجمالا ،وليس قيودا ثقالا ، وقد شرعت هذه الآداب للحفاظ على المرأة نفسها ، وعلى المجتمع من مخاطر مجاوزة الفاصل الذي شرعه الله بينها وبين الرجل .
وهي آداب تضفي عليها وقار الإيمان ، وجمال الحشمة ، في ثيابها ، ومشيها ، وخطابها وعلاقتها بالرجل ، فيكون خطابها بلا خضوع في القول ، ولبساها بلا تبرج وفتنة ، والمقصود أنها تحافظ على مسافة أدبية أخلاقية بينها وبين الرجال الأجانب .
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة ، بأمر المرأة بالحجاب ، ليحصل لها بذلك الإكرام ، كما قال تعالى ( يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلايؤذين ) سورة الأحزاب آية 59
وأحاطتها بما يطهرها من أفضل الأحكام كما قال تعالى : ( وإذا سألمتوهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) سورة الأحزاب آية 53
من تلك الأحكام أيضا نهي المرأة عن تعمد استدعاء سمع الرجال بزينتها الخفية كما قال تعالى ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) سورة النور آية 31، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن تعطر المرأة ومرورها أمام الرجال ، حتى وصفها أنها زانية ، وحرمت الشريعة أن تخلو المرأة بالرجل الأجنبي عنها ، وأن تسافر من غير محرم .
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن العلة الغائية لتأديب المرأة المسلمة ، بهذه الآداب الجليلة هي : وقاية المجتمع من الرجس الذي يقتضيه تبني النظرة الغربية العلمانية القائمة على وهم المساواة بين الرجل والمرأة .
ذلك الوهم الذي ترتب عليه خلط المرأة بالرجل في كل ميادين الحياة بلا ضوابط البتة .
وقد بين القرآن ذلك بقول الله تعالى : ( فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولاتبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) 33 سورة الأحزاب
فقوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ) بعد الأمر بآداب الحشمة ، يقصد به درء النجاسة المعنوية المترتبة على العلاقة الفوضوية بين الرجال والنساء في أي مجتمع ، تلك النجاسة المتمثلة في الأمراض الاجتماعية ، وانتشار الزنى واختلاط الأنساب ، وما يتبع ذلك من انحرافات أخلاقية كثيرة .
خلاصة الدليل الإجمالي :
والمقصود أن حاصل هذا الدليل الإجمالي أن إقحام المرأة في المعترك السياسي تحت حجة منحها حق الترشيح والانتخاب ، يؤدي حتما إلى التبني الشمولي للنظام الاجتماعي الغربي العلماني في نظرته إلى المرأة ، وهذا وإن لم يكن ظاهرا على المدى القريب ، فإن عين البصيرة تقطع بحصوله على المدى البعيد .(/2)
وفي ذلك مناقضة للنظام الاجتماعي الإسلامي ، في تشريعاته المختصة بالمرأة ، وذلك بالنظر إلى ما يحدث في الواقع الملموس ، والحدث المحسوس ، من المخالفات الجزئية الكثيرة التي سيؤدي إليها حتما الزج بالمرأة في المعترك السياسي ، والتي إذا انضمت إلى بعضها مجتمعة أفضت إلى تحويل موقع المرأة في المجتمع من وظيفتها الفطرية الأصلية في الإسلام ، إلى منحى آخر يختلف تماما ، لا بالنظر المقطوع الساذج الذي ينظر إلى آحاد الأمثلة والقضايا المنفصلة .
ما يترتب على دخول المرأة المعترك الانتخابي :
ويصدق ما ذكرناه آنفا ، أن المرأة إذا دخلت هذا المعترك ، اقتضاها ذلك أن تخالط الرجال في المجالس العامة والخاصة ، وتتدخل في شئونهم الخاصة مما يتعلق بالانتخابات وحساب الأصوات وغير ذلك ، مما يضطرها إلى تكوين الأنصار وما يسمى المفاتيح الانتخابية ، والتنقل بين المجالس طلبا لحشد التأييد ، وتحتاج إلى نشر صورتها في الأماكن العامة ، ومخاطبة كل من يرغب ، ومجالسة كل من يطلب ، بحيث تكون أشبه بالمرفق العام الذي يرتاده الخاص والعام ، وينافسها الرجال فيطعنون فيها انتصارا للنفس ، ويبحثون عن ماضيها لنفس الغرض .
وقد ينالها ما ينال غيرها في هذه المعارك من تشويه السمعة ، والطعن الذي قد يمتد إلى شرفها ويتناول معها أسرتها ، فتضطر إلى الدفاع عن نفسها ، وتتعرض مع ذلك إلى ضغوط كثيرة في هذا الميدان الوعر.
وستضطر إلى أن تخلط الرجال بالنساء في مقرها الانتخابي ، وسيترتب على هذا كله ، مفاسد كثيرة جدا .
وحتى لو قدر لها أن تصبح نائبة ، فما ستضطر إليه من الاعمال بعد دخولها المجلس النيابي ، أشد ضررا مما كان ، فإنها مضطرة أن تنتصب لناخبيها ، لتقضي حاجاتهم ، وتسعى في طلباتهم ، وتنتصر لظلاماتهم ، مما يحتاج الى الترفق في الطلب لذوي الرتب ، أو المناحرة والمجاهرة بالقول والخطب ، وكل ذلك بمحضر من الرجال ، وتسعى في ذلك الليل والنهار ، وتذر واجبها تجاه زوجها وأسرتها ،وتهمل ذلك كله إهمالا كليا أو جزئيا .
وكل من أوتى بصيرة في الدين ، يعلم أن الشريعة الإسلامية في واد ، وإقحام المرأة في هذا الميدان في واد آخر ، وأنه لالقاء بينهما البتة ، وإنما يحدث مثل هذا العبث في حياة المرأة عند غير المسلمين ، حيث لا يوجد لديهم مالدى المسلمين من الأحكام الشرعية التي تأدب المرأة بآداب الإسلام ، فلا يؤمنون برب ولادين .
وكأن هؤلاء الذين يجيزون للمرأة الدخول في المجالس النيابية ، وخوض المعارك الانتخابية ـ يفتحون من حيث لا يشعرون ـ بابا واسعا لحصول جميع ما تقدم ذكره من المخالفات الشرعية .
ذلك أنهم لا ينظرون إلى هذه المسألة كما ستقع في مجتمعنا ، وإنما بحسب ما تتخيله عقولهم ، وتفرضه أذهانهم مما لا يقع مثله في هذا الزمان ، وهو أن منح المرأة حق الترشيح والانتخاب للمجالس النيابية ، سيكون منضبطا بالضوابط الشرعية ، ويتوهمون أن واضع القانون قد سد ذرائع المنكرات التي قد يجلبها ذلك القانون ، والواقع الكويتي مخالف لهذا قطعا ، فبأي وجه ـ ليت شعري ـ تصح الفتوى بالجواز ، وأي مذهب أو نظر فقهي صحيح قائم على قواعد الشريعة وفقه روحها ، يمكنه فتح أبواب المحرمات بمثل هذه الفتوى ، ويكف يقال أن هذه مسألة اجتهادية وهذا هو واقعها ؟!
ثانيا
الأدلة التفصيلية على منع المرأة من تولي الولايات العامة
قبل أن نذكر الأدلة التفصيلية على أن الشريعة تمنع المرأة من الترشيح والانتخاب للمجلس النيابي لانه من الولايات العامة ، نذكر أولا :
معنى الولاية العامة :
الولاية في القانون هي ( السلطة ، وحق إصدار الأوامر ) كما في المعجم الحقوقي الفرنسي ( كابيتان ) ومعنى كونها عامة أي متعلقة بشؤون المجتمع بوجه عام .
وهي في الشريعة ( السلطة في شأن من شئون الجماعة العامة كولاية سن القوانين والفصل في الخصومات وتنفيذ الأحكام ، والهيمنة على القائمين بذلك ) أي القيام بأعباء إحدى السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية .
ومنصب النائب في مجلس الأمة هو ولاية عامة بلا ريب ، لان النائب يملك سلطة سن القوانين الملزمة ، والرقابة على السلطة التنفيذية ، ويعطي حق استجواب الوزراء أو نزع الثقة منهم بحسب ضوابط قانونية ، ويمثل الامة في ذلك كله ، ويتظلم إليه الناس عامة في المجتمع ، وإذا لم يكن هذا كله ولاية عامة ، فما هي الولاية العامة إذن .
وقد دلت الأدلة الكثيرة على أن الشريعة الإسلامية تقصر هذا المنصب على الرجل دون المرأة ، ليس احتقارا لها ، ولا تهميشا لدورها في المجتمع ، بل مرعاة للاختلاف الفطري بين الرجل والمرأة ، وحفاظا على التقسيم الوظيفي لهما في المجتمع.
فمن هذه الأدلة :
الدليل الأوّل
قول الله تعالى ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ) سورة النساء آية 34(/3)
ودلالة الآية على أن القوامة ـ وهي الدرجة الأعلى التي تتضمن السلطة العامة في المجتمع ـ هي للرجال دون النساء ، دلالة واضحة لايمكن دفعها.
ولم يصب الذين حاولوا دفع الدلالة بعيدا عن هذا الحكم الصريح ، عندما زعموا أن الآية مخصوصة بشئون الأسرة فحسب .
أولا : لان ذلك تخصيص لابرهان عليه .
ثانيا : لانه حتى لو فرض أن الآية دلت على منع المرأة من القوامة في شئون الأسرة ، فإنها تدل من باب أولى على منعها الولاية العامة في شئون المجتمع ، لان الشريعة الإلهية ، لايمكن أن تتناقض فتجعل القوامة للرجل على المرأة في حدود الأسرة وهي من الأمور الخاصة قليلة الشأن ، بينما تجعل لها القوامة على الرجال في ولاية عامة تتناول الأمور الجليلة عظيمة الشأن .
ثم إن الآية الكريمة قد نصت على أن العلة التي من أجلها جعلت القوامة للرجل على المرأة ، هي أن الرجل أعلى درجة منها ، كما قال تعالى : (بما فضل الله بعضهم على بعض ) ، أي بسبب فضل قد خلقه الله تعالى في الرجل ، علا به عن درجة المرأة ،استحق أن يكون هو صاحب الولاية والقوامة عليها ، وهذه العلة عامة ، ومعلوم أن العلة إذا كانت عامة ، فإن الحكم يتبعها أيضا ، فكيف يكون له القوامة عليها في شئون الأسرة لانه فضل عليها ، ثم تكون لها القوامة عليه في الولايات العامة ؟؟!!
الدليل الثاني
قوله تعالى ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) سورة النساء آية 32
وهذه الآية أوضح برهان على بطلان دعوة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، فقد نصت الآية على أن هناك فرقا بينهما ، وهذا الفرق جعل نصيب الرجل من الحقوق والواجبات ، يختلف عن نصيب المرأة في بعض الأحكام ، وإن كانا متساويين في أكثر الأحكام الشرعية .
ونهى الله تعالى في هذه الآية أن تتمنى المرأة ما اختص به الرجل من الأحكام بسبب فضله عليها ، كما دل على ذلك سبب النزول .
فقد روى الترمذي والحاكم وغيرهما عن أم سلمة قالت يا رسول الله : يغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت الآية .
وفي هذا دلالة واضحة على أن فضل الرجل على المرأة يقتضي أن يكون له الولاية العامة دونها .
الدليل الثالث
قوله تعالى ( وللرجال عليهن درجة ) سورة البقرة آية 228
وهذه الدرجة التي جعلها الله للرجال هي الفضل المذكور في قوله تعالى ( بما فضل الله بعضهم على بعض ) ، وهذه الآية كسابقتها في وضوح البرهان على بطلان دعوى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، فقد جعل الله تعالى الرجال أعلى درجة من النساء .
الدليل الرابع
قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
ومعنى ( ولو أمرهم ) جعلوا شيئا من أمر ولاياتهم العامة إلى المرأة ، ولن تفيد النفي المقتضي للتحريم ، والحكم بعدم الفلاح يقتضي المنع الشرعي قطعا.
الرد على من قال بتخصيص الحديث بسبب وروده فقط :
وأما قول من قال إن الحديث مقصور على سبب وروده ولا يتعداه ، وهو أن كسرى ملك الفرس لما مات تولت من بعده ابنته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ) ، فهو مردود عليه بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولولا هذه القاعدة المتفق عليها ، لبطل الاستدلال بأكثر الأحكام الشرعية التي وردت لاسباب اقتضتها ، لكنها جاءت بألفاظ عامة ، ولهذا اتفق علماء الشريعة على أن اللفظ إن كان عاما ، فإنه يستفاد منه تعميم الحكم ، ولا يقتصر فقط على سبب وروده .
ومما يدل على هذا : أن الصحابي الجليل أبي بكره رضي الله عنه ، راوي الحديث استدل به على منع نفسه من المسير مع جيش عائشة الذي توجه في مشروع الصلح بعد الخلاف الذي نشب بين المسلمين بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه .
قال أبو بكرة رضي الله عنه : ( عصمني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هلك كسرى قال : من استخلفوا ؟ قالوا : ابنته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) فلما قدمت عائشة ـ يعني البصرة في يوم الجمل ـ ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ فعصمني الله به ) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما .
فهذا الصحابي الجليل لم يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن النص الخاص لا يتعدى سبب وروده ، بل استدل به استدلالا عاما كما يدل عليه عموم اللفظ ، وعلى هذا جرى العلماء من عصر الصحابة إلى يومنا هذا .
الرد على من قال : إن الحديث خاص بتولى رئاسة الدولة فقط دون سائر الولايات العامة
وأما من زعم أن الحديث مخصوص بمنع المرأة من تولى رئاسة الدولة ، فالجواب : إن لفظ الحديث عام يشمل الخلافة أو رئاسة الدولة ، ويشمل غيره ذلك من الولايات العامة ، وقصر الحديث على رئاسة الدولة فقط تحكم محض لادليل عليه .(/4)
ثم لو سألنا هؤلاء الذين يقصرون معنى الحديث على رئاسة الدولة ، ما هو السبب الذي من أجله منعت المرأة من تولى منصب رئاسة الدولة عندكم ، أليس هو أنها لاتستوى والرجل في كل شيء ، وأن الرجل أعلى درجة منها ، ولهذا فالرجل وحده ينفرد بهذا المنصب الخطير ، ثم يقال لهم : أليس هذا المعنى نفسه متحققا في سائر الولايات العامة .
ونقول لهم أيضا : إنكم متناقضون أشد التناقض عندما تمنعونها من رئاسة الدولة ، معللين ذلك بأن هذا المنصب لا يليق بالمرأة وينبغي أن يقتصر على الرجال ، لان المرأة عاطفية شديدة التقلب في مزاجها ، وقد ميزت بالرقة والحنان والعطف الذي قد يتعارض مع حاجة هذا المنصب للحزم والشدة أحيانا ، تتناقضون عندما تمنعونها من هذا المنصب لهذه الأسباب ، ثم تسمحون لها بغير ذلك من الولايات العامة مع أن فيها نفس المعنى !!
ونسألهم أيضا : ما المقصود برئاسة الدولة ، هل هي رئاسة الوزراء ، أم منصب رئيس الدولة ، وهل يجوز لها أن تكون رئيسة حزب سياسي ، وإذا نجح هذا الحزب بأغلبية وجعل إليه تكليف تشكيل الحكومة ، هل يجوز أن تصبح رئيسة الحزب هي رئيسة الحكومة التي شكلها حزب الأغلبية ، أم تستقيل حينئذ لأنها لم تعد تصلح لمنصب رئيس الوزراء ، وهل يجوز لها أن تكون رئيسة البرلمان ؟
فإن قلتم لا يجوز لها أن تكون رئيسة البرلمان ، تناقضتم لانها إذا صارت نائبة في المجلس جاز لها أن تكون رئيسة له وفق القوانين واللوائح ، وأيضا فإن المعنى الذي من أجله منعتموها من رئاسة المجلس متحقق في كونها نائبة فيه ، وإن قلتم نعم يجوز لها أن تكون رئيسة البرلمان ، تناقضتم إذا منعتموها من رئاسة الوزراء ، فيقال لهم لماذا منعتموها من رئاسة الوزراء ، وأجزتم لها أن تكون رئيسة البرلمان ، وأن أجزتم لها أن تكون رئيسة للوزراء في حال تكون فيه ذات ولاية عامة مباشرة على كل شئون الأمة في نظام الدولة الحديث ، فلماذا منعتموها من أن تكون رئيسة للدولة ، وما الفرق بينهما ؟
ولاريب أنهم لن يجدوا بدا من الوقوع في التناقض ، فإما أن يجيزوا لها أن تكون ذات ولاية عامة حتى لو كانت رئيسة الدولة ، فيصادموا نص الحديث ويعطلوا مقتضاه بالكلية ، إما هذا أو يتحكمون بغير برهان ، فيجيزون لها تولي بعض الولايات العامة التي يكون فيها نفس المعنى الذي من أجله منعت من الرئاسة العامة ، ويمنعونها من بعض الولايات العامة الأخرى ، وفي هذا من التناقض البين ما يدل على بطلان قولهم قطعا.
ونقول أيضا للمنتسبين إلى علم الشريعة الذين يخصصون دلالة حديث ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) بغير دليل ، ويقصرون التحريم على منصب رئاسة الدولة فقط ، نقول لهم : إن المطالبين اليوم بمنح المرأة حق الترشيح والانتخاب ، إنما ينطلقون من مبدأ علماني لاديني ، مبني على المساواة بين الرجال والنساء في كل شيء ، في جميع الواجبات والحقوق بلا استثناء ، وسوف يطالبونكم يوما من الأيام بالتراجع أيضا عن تحريم منصب رئيس الدولة على النساء ، وسوف يسألونكم ما الفرق بين منحكم المرأة حق تولي رئاسة الوزراء ، أو رئاسة حزب سياسي ذي أغلبية ، أو رئاسة البرلمان ، ومنعكم إياها من رئاسة الدولة في نظام الدولة الحديث الذي يحدد مهام رئيس الدولة في اختصاصات معينة لا يتعداها ، وسوف تحارون جوابا وتغلبون ؟ فخير لكم أن تتمسكوا بظاهر النص وعمومه ، من أن تخصصوه بغير برهان سوى التحكم المحض .
الرد على من قال إن عائشة رضي الله عنها تولت الولاية العامة
وأما قول من قال : إن عائشة رضي الله عنها ، تولت الولاية العامة عندما قادت الجيش إلى العراق بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، وأن هذا يدل على جواز تولي المرأة الولاية العامة ، فهو مردود عليه بما يلي :
أولا : بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه في حياته ـ وهو من دلائل نبوته الكثيرة ـ ما سيقع من عائشة رضي الله عنها من وذلك المسير ، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن وقوع ذلك منها غير محمود ، فقال ( أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبح عليها كلاب الحوأب ) ـ والحوأب : موضع ماء ـ رواه الإمام أحمد وغيره ، غير أنها رضي الله عنها ، لما تذكرت هذا الحديث وهمت بالرجوع ، أشير عليها بالمضي في مسيرها ، للإصلاح بين الناس ، فترجحت لديها هذه المصلحة اجتهادا منها ، وهي غير معصومة من الخطأ في الاجتهاد .
ثانيا : بأن الصحابة رضي الله عنهم خالفوا عائشة رضي الله عنها في مسيرها ذاك ، كما ورد في الحديث الذي رواه الصحابي الجليل أبو بكره ومر آنفا ، وقد نهاها عن ذلك المسير عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، وأنكر عليها علي رضي الله عنه ، وأم سلمة رضي الله عنها ، وغيرهم من الصحابة ، وبينوا لها إن اجتهادها لم يوافق الحق.
ثالثا : بأن عائشة رضي الله عنها نفسها قد ندمت على فعلها ذاك ، وقد روى ابن سعد في الطبقات أنها كانت كلما ذكرت خروجها بكت حتى تبل خمارها .(/5)
رابعا : بأن وجود عائشة في الجيش كان أشبه بالثقل المعنوي الذي يقصد به التأثير على الناس ، لانها أم المؤمنين ، ولم تكن هي قائدة الجيش ، ولاذات ولاية عامة ، وإنما ذلك أمر ظنه أبو بكره رضي الله عنه ، ويدل على هذا أنها همت بالرجوع في أثناء الطريق نادمة على خروجها ، فقال الناس : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم ) رواه الإمام أحمد في المسند 6/52.
الرد على احتج بوقائع تاريخية تولت فيها المرأة الولاية العامة
أولا : شجرة الدر :
أما الاحتجاج بأن شجرة الدر ـ هي زوجة الملك الصالح أيوب من الملوك الأيوبية الذين حكموا مصر ، وقد تولت سلطنة مصر عام 648هـ بعد وفاة زوجها ـ قد تولت الولاية العامة في التاريخ الاسلامي ، فهو مردود عليه بما يلي :
1ـ أن هذه الحادثة تحكي واقعا ، وليس الواقع دليلا شرعيا ، فكم يقع في واقع المسلمين ما هو مخالف للشرع .
2ـ أن خليفة المسلمين العباسي أنكر على المصريين توليتهم شجرة الدر ، فاشار القضاة والأمراء إلى تولية أحد الأمراء السلطنة وأن يتزوجها ، لكنها اغتالته بعد الزواج منه ، فقبض عليها ابنه فقتلها وذلك سنة 656هـ.
وهذا يدل على أن علماء الشريعة لم يوافقوا على توليها الولاية العامة .
ثانيا : بقليس :
أما احتجاجهم بأن بلقيس تولت عرش اليمن وذكرها الله تعالى في القرآن ، ولم يعب ذلك عليها ، ولا على قومها .
فهو مردود عليه بأن القرآن العظيم إنما حكى واقعا تاريخيا عن قوم في جاهلية مشركين يعبدون الشمس قبل أن يدخلوا في الإسلام ، وأي دليل في هذا على جواز تولي المرأة الولاية العامة في الشريعة الإسلامية ، ثم إنها لما دخلت الإسلام تركت الولاية وأسلمت مع سليمان عليه السلام ، وأسلمته ملك اليمن كله ، والدليل على ذلك أن سليمان عليه السلام قال ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) النمل 37، وهو دليل على أن سليمان عليه السلام إنما أراد أن تكون اليمن في ملكه الذي آتاه الله إياه ، فتم له ما أراد بلا حرب ، بأن أسلمت بلقيس ودخلت وجنودها في ملكه العظيم .
وعلى أية حال فإن شرع من قبلنا لا يكون شرعا لنا إذا جاء في شرعنا ما يخالفه ، باتفاق العلماء ، وقد دلت النصوص من القرآن والسنة على منع المرأة من الولايات العامة ، وذلك ناسخ لكل شريعة كانت قبل شريعتنا التامة.
الدليل الخامس
ومن الأدلة أيضا على منع المرأة من تولي الولايات العامة إجماع العلماء ، فقد أجمع علماء الأمة على ذلك ، وتوالت جميع العصور الإسلامية على منع المرأة من تولي الولايات العامة ، عملا بالنصوص الواردة في هذا الشأن ، وقد قال الإمام ابن قدامه الحنبلي في المغني ( ولا تصلح المرأة للإمامة العظمى ، ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا من بعدهم امرأة قضاء ، ولا ولاية بلد ، فيما يبلغنا ، ولو جاز لم يخل منه جميع الزمان غالبا ) المغني والشرح الكبير 11/380
الدليل السادس
ومن الأدلة على منع الشريعة الإسلامية من تولي المرأة الولاية العامة ، القياس الصحيح المطرد ، فقد وجدنا الشريعة تمنع المرأة من إمامة الرجال ولو كان رجلا واحدا ، ولو كانت أعلم منه وأقرأ منه للقرآن ، وتمنعها من الخطبة في الجمعة والأذان ، ومن توليها عقد النكاح لنفسها ، وذلك كله إشارات واضحة من الشريعة إلى منعها من الولايات العامة .
إذ لا يعقل أن الشريعة الإلهية المعصومة من التناقض ، تحظر على المرأة أن تتولى عقد النكاح لنفسها ، ثم تجيز لها أن تكون وزيرة عدل ، تتولى أمر كل القضاء ويرجع إلى حكمها كل عقود الانكحة .
كما لا يعقل أن الشريعة الإلهية المعصومة من التناقض ، تمنع المرأة من الإمامة في الصلاة ، وتجيز لها أن تكون وزيرة لها سلطان تتولى به أمر كل أئمة الصلاة ، كما لا يعقل أن تمنع الشريعة المرأة من خطبة المرأة والأذان للصلاة ، ثم تجيز لها أن تكون نائبة عن الرجال في مجلس نيابي تحتاج فيه إلى أن ترفع صوتها بالخطب في مشاهد الصراع السياسي .
فأي تناقض ـ لو فرضنا أنها تحظر على المرأة إمامة الرجال في الصلاة والأذان والخطبة وتولي عقد النكاح لها أو لغيرها ، ثم تجيز لها تولي الولايات العامة ـ أي تناقض توصم به الشريعة أقبح من هذا التناقض العجيب .
الدليل السابع(/6)
ومن الأدلة على منع الشريعة الإسلامية المرأة من تولى الولاية العامة ، الضرر الاجتماعي المترتب على تركها لوظيفتها الأصلية التي خلقها الله لها ، وركب فيها الصفات التي تناسبها ، وهي وظيفة رعاية الأسرة وتربية الأولاد وتنشئة الجيل والقيام بحق الزوج ، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كل راع ومسئوليته في الإسلام ، جعل المرأة راعية لبيت زوجها ، كما في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهم قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، والأمير راع … والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده ) .
وإنما جعلت المرأة في هذه المسؤولية لأنها إذا أخلتها منها لم يمكن سدها بغيرها ، فالرجل لا يمكنه بحال أن يقوم بوظيفة المرأة في الحمل ، والولادة ، والرضاعة ، والحضانة ، ورعاية الأولاد ، وتنشئتهم في طور هم في أمس الحاجة إلى ما تمتاز به المرأة من الحنان ، والسكن ،والعطف ،والمودة ،واللمسة الناعمة الدافئة ، والصبر على مشقة السهر مع أنين الطفل ، ومراعاة حاجاته في الليل والنهار ، حتى يبلغ أشده ويستوي عوده بنفس سوية مستقرة ، وروح متشبعة من العاطفة التي احتاجت إليها في أول النشأة ، فتسكن نفسه وروحه إلى الاعتدال والاستقرار العاطفي في سائر الحياة ، وبجسد أخذ حقه من الرعاية الصحية من أم حنون .
إن حياة الإنسان لا تستقيم إلا وفق هذا التقسيم الفطري لوظيفة المرأة والرجل في المجتمع ، وأي قانون من شأنه أن يخرب هذا التقسيم ، فإنه يعرض المجتمع لضرر اجتماعي محقق ، يبدأ من تفكيك الأسرة وينتهي بانتشار الأمراض الاجتماعية في المجتمع كله ، وكلما زادت القوانين التي لاتراعي هذه الفطرة الإنسانية ، زادت معاناة المجتمع ، وكلما روعيت هذه الناحية الفطرية في قوانين الدولة ، ووجهت المرأة إلى الاهتمام بالأسرة من خلال قوانين وحوافز ملائمة ، أدى ذلك إلى تقوية بنيان الأسرة في المجتمع .
وإذا عرض على أي عاقل لم تفسد فطرته هذا السؤال : أيهما افضل وأعظم نفعا للمجتمع ، امرأة أنجبت أولادا نجباء أصحاء نفسيا وجسديا وتربويا ، وقدمتهم إلى المجتمع يبنونه بعقولهم وسواعدهم ، أو امرأة أخرى آثرت دخول الصراعات السياسية ، والمعارك الانتخابية النيابية ، فاضطرها ذلك إلى ترك الإنجاب خشية أن تضيع أولادها ، أو أخرى قد ضيعت أسرتها وأولادها بالفعل .
إذا عرض على أي عاقل هذا السؤال فسيكون جوابه إن المرأة التي اختارت ما اختاره الله لها في قوله ( وقرن في بيوتكن ) هي أسعد الثلاثة بلا ريب .
وأما ما يقوله بعض قصار النظر من أن قلة من النساء فقط ، سيدخلن هذا المجال السياسي ، وهن غالبا غير متزوجات او تجاوزن في العمر مرحلة حاجة الأزواج والأولاد إليهن ، فدعواكم حصول الضرر الاجتماعي مبالغة من القول .
فالجواب إن هذا القول ضرب من الغفلة ، فهل سيحدد قانون منح المرأة حق الترشيح والانتخاب شروطا للمرأة التي يحق لها خوض هذا المعترك السياسي ، بأن تكون عانسا مثلا أو عقيما لا تلد أو بلغت من الكبر عتيا.
وهل سيقبل النساء بالمطالبات بمنحهن حق الترشيح والانتخاب هذه الشروط ،وهل تضمنون أن لا يؤدي هذا القانون إلى بعثرة وضع المرأة الكويتية رأسا على عقب ، واشتغالها بصراعات سياسية كانت طيلة تاريخها الماضي في عافية منها ، إذ كانت تؤدي دورا أهم في المجتمع ؟
أم أن الواقع ينطق بوضوح ، أن هذا القانون سيتطور مع مرور الزمن ، إلى استنساخ نسخة نسائية أخرى من الصراع السياسي الذي يدور في ساحة الرجال اليوم ، بكل ما في هذه الساحة من انشغال المرشحين والناخبين بسباق ينطلق من قبل تسجيل المرشحين أسماءهم في هذا المضمار ، ويمر بسجالات الحملة الانتخابية ونشر الإشاعات بين المرشحين المتنافسين ، وتحالفات وصراعات اللحظات الأخيرة ، ثم لاينتهي بوصول المرشح إلى المجلس ، ولا بطعن مرشح لم ينجح بنائب قد نجح ، بل يستمر إلى المجلس الذي يليه وهكذا دواليك .
ثم مع مرور الزمن تختلط نسخة الصراع الرجالية مع النسخة الأخرى النسائية في دوامة تشغل المرأة عن دورها الأساسي في المجتمع ، وتلقي بأضرار محققة على المجتمع كله ، وتنشر من المخالفات الشرعية مالا يعد ولا يحصى.
ثم لا نأمن أن يقفز المطالبين اليوم بتسيس المرأة الكويتية ، إلى المطالبة بإدخالها الجيش ، ثم التجنيد التطوعي ، ثم الإلزامي ، ثم زجها في كل ميدان اقتحمته في الغرب التائه ، تصديقا لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) .
ما الذي نجنيه(/7)
وما هو المقابل الذي يستحقه كل هذا العناء ، وما الذي سنجنيه من هذا كله ، هل هو مجرد إرضاء الغرب حتى يقول إن المرأة أعطيت مكانتها في الكويت ، وهل مكانتها هي أن تقحم المرأة والام والزوجة في ساحة نحن على يقين أنها لن تؤدي بها إلا إلى استغلال سياسي يستفيد منه الرجال بطريقة أخرى ، ولن تقدر أي امرأة ـ بسبب واقع اجتماعي مفروض ـ أن تصل إلى كرسي مجلس الأمة ؟
ماهي المحصلة النهائية ، وأي شيء يستفاد من هذا كله ؟ وما هو الذي جنته المرأة في الدول العربية التي منحت المرأة حق الترشيح والانتخاب ، لاشيء سوى أننا نخادع أنفسنا ، لاشيء سوى أننا نجري وراء سراب يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، لاشيء سوى إضافة صراعات جديدة ، ومشكلات سياسية جديدة ، على مجتمع صغير قد أثقلت كاهله الأزمات المتلاحقة .
نصف المجتمع
هذا وإنه من أعجب العجب قول من يقول : إن الذي نجنيه هو عدم تعطيل نصف المجتمع من أداء دوره في الحياة ، فيا للعجب ، أليست الأسرة بحاجة إلى هذا النصف ، فما بالكم أفرغتم الأسرة من نصف المجتمع ، ورميتم به إلى خارجها ، فجعلتم كل المجتمع خارج دائرة الأسرة ، ولاشيء منه داخلها .
ثم استبدلتم الام بالخادمة لتكون النصف الذي يبقى في الأسرة وهي امرأة أيضا ؟ أليس هذا هو عين التناقض ؟ ثم لماذا تحتقرون عمل الام والزوجة والجدة ودروهن في الحياة ، وتجعلونه عملا مزريا لا يليق إلا بالخادمة الآسيوية ، ثم أليست الخادمة امرأة أيضا ، أليس الواجب أن تجري عليها نظريتكم عن تعطيل نصف المجتمع ، فلماذا هذا التمييز العنصري في نظرتكم إلى المرأة .
وهل أضحت رعاية طفولة الإنسان لاقيمة لها لديكم إلى هذه الدرجة ، حتى قلتم إن نصف المجتمع سيكون معطلا إذا لم يسمح للمرأة باقتحام عالم الصراع السياسي ؟
الخاتمة
وبعد هذا العرض للأدلة الإجمالية والتفصيلية على منع المرأة من تولي الولايات العامة ، يتبين بوضوح أن الدعوة إلى إقحام المرأة في هذا الميدان ، أمر مخالف لشريعة الرحمن ، ويترتب عليه ضرر عظيم على المجتمع ، ويؤدي إلى تحول تدريجي من النظام الإسلامي القائم على مفاهيم العفاف والطهر والحشمة والحياء وتوجيه المرأة إلى حفظ وظيفتها الأساسية وهي تربية النشأ ، والقيام بواجبات الأسرة ، إلى مفاهيم النظام الاجتماعي الغربي اللاديني الذي لا يؤمن إلا بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، والخلط الوظيفي بينهما في المجتمع ، ولا يقيم أي وزن لقيم الأسرة الإسلامية ، بل يراها واقعا متخلفا يجب أن ينزع من المجتمعات الإسلامية ، كي تتبنى ثقافته ونظامه الاجتماعي وتسير في فلكه .
وأن الواجب السعي بكل سبيل لدرء هذه الفتنة عن المجتمع الكويتي، وإفشال هذا الكيد الذي يقصد الغرب من وراءه استلابنا حضاريا ، واحلال مفاهيمه وثقافته الضالة التائهة محل ثقافتنا الربانية ، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين .(/8)
تنبيه المحتار
على عدم صحة القول بفناء النار
عن الصحابة الأخيار
كتبه الفقير إلى ربه
سليمان بن ناصر العلوان
قام بصفه ونشره
[أبو عمر الدوسري]
أجزل الله لهُ المثوبة
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الكذب على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيرهم ممن بعدهم، بل الكذب عليهم أعظم، وجرمه أخطر، ولا يتجرأ عليه إلا الروافض وأشباههم، فقد وقفت على رسالة(1) لبعض ذوي الجهل، يقول بأن بعض الصحابة قال بفناء النار فتبديع القائل بفناء النار يرجع التبديع إليهم، وقد كنت كتبت رسالة في الرد عليه بزعمه أن النار تفني، وبينت فيها أنه لم يثبت القول بفناء النار عن أحد من الصحابة، ولكنه لم يصغ إليه، وكذلك بينت في الرسالة أن ابن القيم وشيخه لم يقولا بفناء النار، بل قال شيخ (الإسلام) رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ص 157 جـ1 ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاء مطلقا، قال المعلق على الكتاب وهو محمد عبد الرحمن بن القاسم: ((هذا مع ما يأتي يكذب ما افتراه عليه أعداؤه من القول بفناء النار)).
وهذه الرسالة كتبتها لبيان الآثار التي تروى عن الصحابة في هذه المسألة وبيان أسانيدهم وما قيل فيها، ثم اتبع ذلك البيان في أن تبديع القائل بفناء النار لا يلزم منه تبديع ابن القيم ولا شيخه(2)، ولا على القول به الصحابة ولا غيرهم وأن من الزم بهذا فهو لازم باطل لم يقل به أحد من أهل المعرفة والتحقيق. وقيل أن الشرع في الموضوع أذكر ما قاله الذهبي في ((تذكرة الحافظ)) لأهميته ج1 ص30 قال على قول أبي بكر الصديق إياكم والكذب، فإن مجانب الإيمان صدق الصديق فإن الكذب رأس النفاق وآية المنافق. والمؤمن يطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية لا على الخيانة والكذب.فما الظن بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه وهو القائل: ((إن كذبا علي ليس ككذب على غيري، من يكذب على بني له بيت في النار)) ثم قال فإنا لله وإنا إليه راجعون ماذا إلا بلية عظيمة وخطر شديد ممن يروى الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقلتها بالكذب. فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه, وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ولا سبيل إلا أن يصير العارف الذي يزكى نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطب عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل فدع عنك الكتابة لست منها. ولو سودت وجهك بالمداد.. إلى آخر كلامه، فليرجع إليه في موضعه.
فصل
أبدأ الآن في بيان أسانيد الآثار التي يحتج فيها، وأبين ما قيل فيها على وجه الإنصاف وتحري الصدق والله الموفق.
(1) ورد في معجم الطبراني حديث مرفوع، من طريق عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم واحد تخفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين)).
قلت: هذا حديث موضوع، لا يصح، فمن نسبه إلى النبي فقد دخل في الوعيد الشديد: ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات ج3 ص268 [هذا حديث موضوع محال، وجعفر هو ابن الزبير، قال شعبة: كان يكذب، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال السعدي: نبذوا حديثه، وقال البخاري والنسائي والدارقطني: متروك] أ.هـ
وقال الذهبي في ترجمة جعفر بن الزبير: [ويروى بإسناد مظلم عنه حديث متنه: يأتي على جهنم يوم ما فيها أحد من بني آدم تخفق أبوابها] أ.هـ ص47 ج1 ميزان الاعتدال.
__________
(1) وهذه الرسالة ورقتان، ومع هذا ففيها أشباه كثيرة من الأغلاط النحوية، فيرفع المنصوب، وينصب المرفوع، وإليك أيها القارئ بيانها لتعلم مبلغ علمه، ويا ليته عرف قدر نفسه وسكت.
قال في السطر الثاني (ردِّ) كذا شدد الدال وجعل تحتها كسرتين، وصوابه [ردّاً] بالنصب.
قال في السطر السابع: (لأن قائليه معروفين) وصوابه [معروفون] بالرفع.
قال في السطر السادس عشر: (وإن كنت محق) وصوابه (محقاً) بالنصب على أنه خبر كان.
قال في السطر السابع عشر: (واعدني يوم) وصوابه (يوماً) بالنصب.
قال في السطر التاسع عشر: أو يمسخني خنزير أو قرد) وصوابه (خنزيراً أو قرداً) بالنصب.
قال في السطر ما قبل الأخير من الورقة الأولى: (إن كنت كاذب) وصوابه (كاذباً) بالنصب.
(2) تقدم أنه لم يصح القول به عنهما ولكن هذا على سبيل التنزل.(/1)
وكذلك في إسناده عبد الله بن مسعر بن كدام، قال الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة [قال أبو حاتم: متروك الحديث] ثم قال الذهبي [وفي معجم الطبراني من حديث هذا التالف...] ثم ساق له هذا الحديث ثم قال: [وهذا باطل].
(2) الأثر الثاني والجواب عنه: روى عبد بن حميد في تفسيره فقال: حثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال: قال عمر: [لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه].
فأقول: هذا الأثر رجاله كلهم ثقات ولكنه منقطع، فقولنا رجاله ثقات توفرت ثلاثة شروط من خمسة، وسبب انقطاع هذا الأثر هو أن الحسن لم يسمع من عمره، والمنقطع عند أهل الحديث من قبل الضعيف، والضعيف لا يحتج به في هذه المسائل، بل ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به، ولا في فضائل الأعمال(1)، فكيف بمسألة هي أكبر من الدنيا وما فيها كما قاله ابن القيم رحمه الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ج11 ص422: [هو منقطع] ثم قال [ولو ثبت حمل على الموحدين] أ.هـ قلت: وظاهر هذا الأثر ليس فيه دلالة على أنهم الكفار فيجب حمله على الموحدين، وهذا لو ثبت، وإلا فهو ضعيف لا يحتج به، ونحن في غنية بالأحاديث الصحيحة الدالة على بقاء الجنة والنار أبد الآبدين، عن الأحاديث الموضوعة والآثار الواهية، ومما يُضاف إلى ذلك ما قاله الذهبي رحمه الله: ((كان الحسن كثير التدليس)) أ.هـ ومعلوم أن المدلس لا يُقبل حديثه حتى يصرح بالسماع، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ((ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد)).
(3) الأثر الثالث والجواب عنه: أخرج البزار من طريق أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله ابن عمرو، قال: ((ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً)).
الجواب عن هذا: أن يقال: هذا الأثر ضعيف كسابقه، لأن في إسناده أبا بلج(2)، قال قال ابن مجر في تقريب التهذيب في ترجمته: ((صدوق ربما أخطأ)) أهـ قلت: هذا من أخطائه، ولذلك قال الحافظ الذهبي في ترجمته: ((ومن بلاياه: الفسوى في تاريخه حدثنا بندار عن أبي داود عن شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وهذا منكر، قال ثابت البناني: سألت الحسن عن هذا فأنكره)) أهـ (ص385 ج4 ميزان الاعتدال.
وبذلك تعلم أن قول بعضهم [رجاله ثقات]، فيه نظر لما تقدم من ضعف أبي بلج. قال أحمد: [روى حديثاً منكراً]، وقال البخاري: [فيه نظر] قال الذهبي في الموقظة [عادة البخاري إذا قال (فيه نظر) أنه بمعنى أنه متهم أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف] أهـ.
مع أن هذا الأثر لو ثبت فهو محمول على الموحدين، ولذلك قال عبيد الله بن معاذ في هذا الأثر وأثر أبي هريرة (الآتي إن شاء الله). [كان أصحابنا يقولون: ((يعني من الموحدين))]
(4) الأثر الرابع والجواب عنه:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا) فأقول: هذا الأثر ذكره ابن جرير في تفسيره ج8 ص118 قال: حدثت عن المسيب عمن ذكره قال قال ابن مسعود، فكذره، وذكره البغوي في تفسيره بدون إسناد، وهذا أثر لا يصح، ابن جرير لم يذكر الذي حدثه، والمسيب لم يذكر من حدثه، فهو أثر تالف باطل.
وعلى سبيل صحته فقد قال البغوي في تفسيره: [معناه عند أهل السنة إن ثبت أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً] ج2 ص403.
(5) الأثر الخامس: ساقه ابن القيم رحمه الله في (حادي الأرواح) من رواية إسحاق بن راهويه قال حدثنا عبيد الله(3) حدثنا أبي حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد) وقرأ قوله { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } . الآية قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون: يعني من الموحدين.
الجواب عنه: هذا الأثر إسناده على شرط الشيخين إلا يحيى بن أيوب فلم يخرجا له، وذكر العقيلي في كتاب الضعفاء بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال [ضعيف] ونقل عن يحيى بن معين أنه ثقة، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: ((لا بأس به))، وهذه من صيغ توثيق الرجل وقبوله ولكنه في المرتبة الرابعة من المراتب التي ذكرها الحافظ في مقدمة تقريب التهذيب، فالذي يظهر لي أن هذا الأثر إسناده صحيح، ولكن جوابه من وجهين:
__________
(1) منهم: البخاري ومسلم ويحيى بن معين وابن حبان وغيرهم.
(2) اسمه يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم.
(3) هو ابن معاذ خرج له الشيخان وغيرهما، قال ابن حجر: ثقة حافظ، أما أبوه فهو معاذ بن العنبري خرج له السنة، قال الحافظ: ثقة.(/2)
الوجه الأول: أنه ليس فيه دلالة على فناء النار، بل هو محمول على الموحدين للجمع بينه وبين الأحاديث الثابتة على بقاء النار، ولذلك قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين، فحمل هذا الأثر على الطبقة التي فيها عصاة المسلمين منعين لأنه به يحصل الجمع بين الأدلة.
الوجه الثاني: إن أبى القائل بفناء النار إلا على حمله على فناء النار، فإنه يقال: هذا قول صحابي، وقول الصحابي إذا خالف القرآن أو خالف السنة لا يقبل، بل نفل ابن عقيل الإجماع على أن قول الصحابي على صحابي مثيله ليس بحجة، فكيف إذا خالف القرآن والسنة وقد ذكر الله التأبيد(1) في ثلاثة مواضع في سورة النساء في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } .
والثاني في قوله تعالى في سورة الأحزاب { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا... } . والثالث في سورة الجن في قوله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ، والأحاديث في أدبية النار كثيرة ذكرنا بعضها في كتابنا (الأدلة والبراهين لإيضاح المعتقد السليم والرد على المخالفين) فليرجع إليها.
وهذا على القول بأن هذا الأثر أعني أثر أبي هريرة يدل على فناء النار، وإلا فالصحيح أنه لا دلالة فيه البتة، ومن أجل ذلك قال الخازن في تفسيره على أثر أبي هريرة وابن مسعود المتقدم: [وهذا إن صحّ عن ابن مسعود وأبي هريرة فمحمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين، وخلود الكافرين فيها] أهـ المقصود منه من الجزء الثالث ص254... وتقدم كلام البغوي على هذا الأثر بما يغني عن إعادته.
وبعد هذا البيان يتضح للقارئ أنه لم يصح شيء عن الصحابة في فناء النار، فنسبة القول إليهم بفناء النار خطأ قطعاً، يجب إنكاره والذب عن الصحابة الأخيار أن ينسب إليهم ما لم يقولوه وخلاصة الكلام فيما تقدم أذكر ما قاله صاحب كتاب الزواجر، قال: (لم يصح عنهم -يعني الصحابة- من ذلك شيء، وعلى التنزل، فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكره الله في آيات كثيرة) أهـ ج1 ص37.
فصل
أما قول القائل إن تبديع من قال بفناء النار ينصرف إلى قائليه من الصحابة وغيرهم، فالجواب تقدم أنه لم يثبت القول بفناء النار عن أحد من الصحابة، أما هذا الإلزام فهو باطل، وقد أحسبت عن هذا في رسالتي(2) ((الأدلة والبراهين لإيضاح المعتقد السليم والرد على المخالفين)) ونذكر خلاصته وهو أن العالم قد يقول قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه مغفوراً له خطؤه لعدم بلوغ المحجة إلى غير ذلك من الأعذار التي توجب العفو.
أما غيره ممن بلغته المحجة فهذا يبدع، ولا يكون بمنزلة الأول، وهذا الباب باب عظيم يجب تفهمه وتدبره وإلا وقع الإنسان في الخطأ كما وقع هذا القائل، وشيخ الإسلام رحمه الله عليه كلام مهم في هذه المسألة نذكره بلفظه، قال في الفتاوى ج6 ص61: [إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اعتذر للأول، فلهذا يُبدَّع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم، فتدبره فإنه نافع] ولما تكلم شيخ الإسلام في الجزء العشرين من فتاوى ص33 على الخطأ المغفور في الاجتهاد قال: [وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } بأنها تنظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح...]
فهل يقول هذا القائل إن الذي ينكر رؤية الله لا يبدع من أجل أن بعض التابعين قال به أم يراجع الحق والصواب ويدع الطغيان؟
ونسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، موجباً الفوز لديه بجنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قام بصفها ونشرها
[أبو عمر الدوسري]
أجزل الله له المثوبة
ندعوك لزيارة هذا الموقع
www.frqan.com
__________
(1) أي تأبيد الكفار.
(2) ذكرت في تلك الرسالة أقوال العلماء الذين انكروا فناء النار وبدّعوه ونقلت عن بعضهم الإجماع على عدم فنائها وسوف أزيد عليها إن شاء الله أقوالاً كثيرة في إبطال هذا الإلزام وإدحاضه ولا نعلم أحداً من أهل العلم المحققين قال بهذا الإلزام ولذلك فهو اللائق بقائله.(/3)
تنبيه المفتون بكتاب (هرمجدون)
فتوى في كتاب (هرمجون) لمؤلفه أمين محمد جمال الدين
حامد بن عبدالله العلي
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد سألني أخ كريم صاحب مكتبة إسلامية ، عن حكم بيع كتاب موسوم بـ( هرمجدون آخر بيان يا أمة الإسلام ) ، لمؤلفه أمين محمد جمال الدين ، فطلبت منه أن أقرأه ليتبين لي أمره ، فلما قرأت الكتاب المذكور ، أفتيته بأنه لا يجوز بيعه ، لما فيه من القول في دين الله تعالى بغير علم ، ونقل أحاديث ليس لها أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بيان حالها ، بل اعتمد عليها في تفسير وقائع الزمان ، ولما فيه من التعسف في تأويل الأحاديث الصحيحة لتوافق ما ادعاه ، وفي ذلك من الجرأة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه .
غير أنني مع ذلك ، أحسب مؤلفه من أهل الصلاح والخير ، وأن فيه من سلامة النية ، والمقصد الحسن ، وحبّ المسلمين ، والحرص على رجوعهم إلى دينهم ، ماحمله على ما وقع فيه من أخطاء ، ولهذا لا ينبغي لمن يقرأ هذا الرد ، أن يسيء الظن في مؤلف الكتاب المردود عليه ، بل يدعو لأخيه بالهداية والتوفيق .
وقد طلب مني الأخ السائل أن أكتب فيه جوابا فيه شيء من التفصيل ، بما يسمح به الوقت ، إذ كان الرد المفصّل على كل ما في الكتاب المذكور ، لاحاجة ملحة تدعو إليه ،وليس عندي من فسحة الوقت ما يعينني عليه ، فكتبت هذا الجواب ، واقتصرت فيها على الاختصار والتمثيل ، دون الإسهاب والتطويل .
الحمد لله القائل في محكم التنزيل ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) أشهد أن لا إله إلا هو رب العالمين ، وأشهد أن نبينا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، القائل ( من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) رواه مسلم ، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد اطلعت على كتاب بعنوان ( هرمجدون ) آخر بيان .. يا أمة الإسلام ، لمؤلفه أمين محمد جمال الدين ، فوجدت فيه مما يقتضي التوجه بالرد عليه ما يلي :
أولا :
قد أكثر المؤلف من النقل عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد رحمه الله ، ويشير إليه في غير موضع أنه شيخ البخاري ، ليظن القارئ الذي يجد اقترانه بالإمام البخاري ، وهو الإمام الذي قد عُرفت جلالته في علم الحديث ، أنّ كلّ ما رواه نعيم ، هو أيضا موثوق به ، وفي هذا الصنيع تدليس لا يليق بالباحث ـ هداه الله ـ ذلك أن نعيم بن حماد إنما روى له البخاري مقرونا بغيره ، ولم يخرج له في الصحيح سوى موضع ، أو موضعين أيضا ، وروى له مسلم في المقدمة في موضع واحد فقط ، كما ذكر الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري 447
هذا مع أن ذكر الرجل في طبقة الشيوخ عند المحدثين ، قد لايعني سوى أنّه ممن روى عنه المحدث ، ولا يقتضي ذلك أن يكون ثقة عنده ، بلْهَ أن يكون قد أخذ عنه علمه ، ولهذا فربما ذُكر في طبقة شيوخ بعض الحفاظ ، أكثر من ألف شيخ كالحافظ الطبراني.
وأما نعيم فهو ثقة في نفسه ، ولكنه كما قال الإمام الناقد الذهبي : لكنّه لاتركن النفس إلى رواياته ، السير 10/600 .
وقال يحي بن معين : يروى عن غير الثقات ، سير أعلام النبلاء 10/597
وقال الإمام المحدث صالح جزرة عن نعيم : ( وكان يحدث من حفظه ، ولديه مناكير كثيرة لا يتابع عليها ، سمعت يحيى بن معين سئل عنه فقال : ليس في الحديث بشيء ، ولكنه صاحب سنة )
وقال الإمام الذهبي : قلت لا يجوز لاحد أن يحتج به ، وقد صنف كتاب الفتن فأتى به بعجائب ومناكير ، 10/609
وبهذا يعلم أن كتاب (هرمجدون ) قد بُني على مصدر مليء بالمناكير ، دون تحقيق لما فيه ، ولا انتقاء لما يحتويه ، ولا يحل في دين الإسلام ، أن يكون مثل هذا مصدرا شرعيا ، في الأخبار والأحكام .
ثانيا : تندرج المؤاخذات على الكتاب المذكور في ثلاثة أنواع :
النوع الأول
إيراده ـ غفر الله له ـ أحاديث ضعيفة ، وأخرى لا أصل لها ، واعتماده عليها فيما يدعيه من وقوع أمور مستقبلية ، وأحيانا يعزو ما يذكره إلى مصادر مجهولة ، لا يعرفها العلماء ، بزعم أنها مخطوطات مخبئة في بعض المكتبات ، فينسب إليها بعض الأقوال عن الصحابة ، ويجعلها أساسا لما يقوله ويزعمه من الإخبار بالمستقبل .
النوع الثاني
إيراده تخاريف الكهنة مثل الكاهن المشهور نستراداموس .
النوع الثالث
تنزيله الأحاديث الصحيحة المخبرة عن أمور مستقبلية على واقع يحدده ، بغير دليل واضح ، مع الجزم بأن ما أنزلها عليه هو معناها ومقتضاها ، حتى قال هداه الله ( لولا أنني على يقين من أمري ما تورطت في أمر كهذا !!
ويتعسف ـ عفا الله عنه ـ في تأويل الأحاديث الصحيحة ـ والضعيفة أيضا ـ لتوافق توهماته.
فأما النوع الأول(/1)
فمن أمثلته حديث يزعم أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه ، وهو كلام عجيب وغريب ، ادعى أن مصدره مخطوطة بدار الكتب الإسلامية في كتابخانة اسطانبول ، يقول الحديث المزعوم : ( حرب آخر الزمان حرب كونية ، المرأة الثالثة بعد اثنين كبريين يموت فيهما خلائق كثيرة ، الأول أشعلها رجل كنيته السيد الكبير ، وتنادى الدنيا باسم ( هتلر ) ، قال : وهذا مما رواه أبو هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، في رواية خاف أن يحدث بها أبو هريرة ، ولما أحس الموت خاف أن يكتم علما فقال لمن حوله: ( في نبأ علمته عما هو كائن في حروب آخر الزمان ، فقالوا : أخبرنا ولا باس جزاك الله خيرا ، فقال : في عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة ، واعقدوا عقودا يرى ملك الروم أن حرب الدنيا كلها يجب أن تكون ، فأراد الله له حربا ، ولم يذهب طويل زمن ، عقد وعقد فسلط رجل من بلاد اسمها جرمن ، له اسم الهر ، أراد أن يملك الدنيا ، ويحارب الكل ، في بلاد ثلج وخير ، فأمسى في غضب الله بعد سنوات نار ، أرداه قتيلا سر الروس ، وفي عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة عد خمسا أو ستا ، يحكم مصر رجل يكنى ناصر ، يدعوه العرب شجاع العرب ، وأذله الله في حرب وحرب وماكان منصورا ، ويريد الله لمصر نصرا له حقا في أحب شهوره ، وهو له ، فأرضى مصر رب البيت ، والعرب بأسمر سادا ، أبوه أنور منه ، لكنه صالح لصوص المسجد الأقصى بالبلد الحزين ، وفي عراق الشام ) ..
وهذا الخبر لا يعرف له أصل ، ولاتحل روايته ، دون بيان درجته .
وكيف يحل لاحد أن يورد مثل هذه الخرافات ، وينسبها إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، لاسيما وهي في أخبار الغيب ، التي لا يقال فيها بالرأي ، فهي في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، مع ما فيها من الكلام الركيك الذي يشبه هذيان المحموم .
كما قال المؤلف ( هذا من الآثار العجيبة والتي حدث بها الصحابي الجليل أبو هريرة ) فهو يجزم بأن أبا هريرة رضي الله عنه ، قد حدث بهذا الكلام كأنه حديث أعجمي ، مليء بفساد التركيب ، وضعف الصياغة .
*ومن ذلك استشهاده بحديث ( بين الملحمة وفتح القسطنطينية ست سنوات ويخرج الدجال في السابعة ) وهو حديث ضعيف بين العلامة الألباني رحمه الله ضعفه في مشكاة المصابيح 5426 فليرجع إليه ، ولا حاجة لدراسته دراسة حديثية هنا إذ كان المقصد هو الاختصار .
*ومن ذلك حديث ( ليغزون الهند لكم جيش يفتح الله عليهم ، حتى يأتوا بملوكهم مغللين بالسلاسل يغفر الله ذنوبهم فينصرفون حين ينصرفون فيجدون ابن مريم بالشام ) . وهذا الحديث لم أجد له خطاما ولا زماما .
*ومن ذلك هذان الحديثان المنكران : ( يكون صوت في رمضان ، ومعمعة في شوال ، وفي ذي القعدة تجاذب القبائل ، وعامئذ ينتهب الحاج وتكون ملحمة عظيمة بمنى يكثر فيه القتلى ، وتسيل فيها الدماء ، وهم على جمرة العقبة (
وحديث ( إذا كانت الصيحة في رمضان فإنه يكون معمعة في شوال .. قلنا : وما الصيحة يا رسول الله ؟ قال : هدّة في النصف من رمضان ، ليلة جمعة ، فتكون هدّة توقظ النائم وتقعد القائم وتخرج العواتق من خدورهن في ليلة جمعة في سنة كثيرة الزلازل.. الحديث(
ومن ذلك ما أورده ناسبا إياه إلى نسخة خطية في دار الكاتبخانة في تركيا ، كتبها ـ فيما ادعى الناقل عنها ـ كلدة بن زيد بن بركة المدني ، وجاء فيه ( وحرب في بلد صغير من عجب الذنب يجمع أهل الدنيا لها ، كأنها أغنى بلد أولم عليها الوالمون ، وأمير فيها سلم رايته لزعيمة الشر الآتية من الشواطئ البعيدة ، بداية آخر الزمان ، فتجمع له صريخها من كل الدنيا ، وترد له عرش الملك ويخرب عراق في ملاحم بداية آخر الزمان ، ويحارب أمير الذنب الصغير جيوش المهدي ، وحان خراب البلد مرة أخرى ، لأن أميرها سر الفساد ... المهدي يقتله ويعود الذنب إلى جسد.. ) .
فهل هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أم هو كلام بعض الصحابة ، وأين إسناده إن كان كذلك ، مع أنه في غاية الركاكة ، بعيدُ بعدَ المشرقين عن فصاحة اللفظ النبويّ ، بل كلُّ من يعرف كلام العرب ، يجزم بأن هذا التركيب لايمكن أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يقطع بأنه ليس من كلام العرب الأوائل أيضا .
ثم إن قوله : إن أمير الذنب الصغير ـ ويقصد الكويت ـ يحارب جيوش المهدي ، أمر يثير الضحك ، فالمعلوم أن الكويت دولة صغيرة ، وجيشها قليل العدد ، غير قادر على مجابهة جيوش المهدي ، وليس من عادة حكامها الطغيان ، ولا البدء بالعدوان ، بل هو قوم مسالمون ، وذلك معلوم لدى الناس كلّهم ، فهم لم يحاربوا قط أصغر دولة ، فكيف يحاربون جيوش المهدي ؟!
أما النوع الثاني : فمنه إيراده ما ذكره نستراداموس في إحدى رباعياته ( وفي عام القرن الجديد والشهر التاسع ( سبتمبر 2001) من السماء سيأتي ملك الموت العظيم ، ستشتعل السماء في درجة خمسة وأربعين ، وتقترب النيران من المدينة العظيم في مدينة يورك.. ((/2)
فمتى كان المسلمون يستشهدون بكلام الكهنة والمشعوذين مما تأتيهم به الشياطين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم عنهم : إنهم ليسوا بشيء ، كما روى البخاري : ( عن عائشة رضي الله عنها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان فقال ليس بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة ) ، وما أدرانا أن مع خبر هذا الكاهن مائة كذبة ، هذا إن كان هذا الكاهن اليهودي ، قد ذكر ما نقله مؤلف كتاب هرمجدون ، ولم ينسبه بعض الدجالين المعاصرين إليه ، طمعا في الربح المادي من وراء نشر كتب الغرائب والعجائب !
أما النوع الثالث :
فمن ذلك إنزاله حديث ( كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن ، فأكثر من ذكرها حتى ذكر فتنة السرّاء ، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ، يزعم أنه مني ، وليس مني .. الحديث ) وهو حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه
إنزاله هذا الحديث على أن فتنة السرّاء هي فتنة غزو صدام للكويت ، وجزمه بذلك وترجيحه أن أمير الكويت هو المقصود بقوله ( دخنها تحت قدمي رجل من أهل بيتي ) ص 20 الحاشية.
ومعلوم أن الحديث ذكر أن فتنة السراء ، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، وأن أسرة الصباح التي تحكم الكويت ، ليست من أهل البيت ، ولاهم يدعون ذلك ، لا وأنهم من قريش أيضا، فإنزال الحديث على غزو صدام للكويت في تعسف واضح .
وتتميما للفائدة نذكر ما قاله العلماء في بيان معاني هذا الحديث
روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر قال :
(كنا قعودا عند رسول الله فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس قال هي هرب وحرب ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني وإنما أوليائي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمّة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده ) .
فتنة الأحلاس: قال في النهاية : الأحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب , شبهها به للزومها ودوامها . انتهى .
وقال الخطابي : إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامها وطول لبثها أو لسواد لونها وظلمتها .
قال القاري : والمراد بالسرّاء النعماء التي تسر الناس من الصحة ، والرخاء ، والعافية من البلاء والوباء , وأضيفت إلى السراء ، لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي بسبب كثرة التنعم أو لأنها تسر العدو انتهى.
دخنها : يعني ظهورها ، وإثارتها ، شبهها بالدخان المرتفع , والدخن بالتحريك مصدر دخنت النار تدخن إذا ألقي عليها حطب رطب ، فكثر دخانها , وقيل أصل الدخن أن يكون في لون الدابة كدورة إلى سواد قاله في النهاية.
( من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ) : تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها أو إلى أنه يملك أمرها .
ثم يصطلح الناس على رجل : أي يجتمعون على بيعة رجل .
( كوَرِك ) : بفتح وكسر قاله القاري .
( على ضِلَع ) : بكسر ففتح، ويسكن ، واحد الضلوع أو الأضلاع قاله القاري . قال الخطابي : هو مثل ومعناه الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك . وبالجملة يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به انتهى .
وفي النهاية : أي يصطلحون على أمر واه لا نظام له ، ولا استقامة لأن الورك لا يستقيم على الضلع ، ولا يتركب عليه ، لاختلاف ما بينهما وبعده , والورك ما فوق الفخذ انتهى .
وقال القاري : هذا مثل والمراد أنه لا يكون على ثبات , لأن الورك لثقله لا يثبت على الضلع لدقته , والمعنى أنه يكون غير أهل للولاية لقلة علمه وخفة رأيه .انتهى
ثم فتنة ( الدهيماء) وهي بضم ففتح ، والدهماء السوداء ، والتصغير للذم أي الفتنة العظماء ، والطامة العمياء . قاله القاري .
وفي النهاية: تصغير الدهماء ، الفتنة المظلمة ، والتصغير فيها للتعظيم ، وقيل أراد بالدهيماء الداهية ، ومن أسمائها الدهيم ، زعموا أن الدهيم اسم ناقة كان غزا عليها سبعة إخوة فقتلوا عن آخرهم ، وحملوا عليها حتى رجعت بهم فصارت مثلا في كل داهية
( لا تدع ) : أي لا تترك تلك الفتنة .
( إلا لطمته لطمة ) : أي أصابته بمحنة ومسته ببلية , وأصل اللطم هو الضرب على الوجه ببطن الكف , والمراد أن أثر تلك الفتنة يعم الناس ويصل لكل أحد من ضررها
( فإذا قيل انقضت ) : أي فمهما توهموا أن تلك الفتنة انتهت
( تمادت ) : بتخفيف الدال أي بلغت المدى أي الغاية من التمادي وبتشديد الدال من التمادد تفاعل من المد أي استطالت واستمرت واستقرت قاله القاري .(/3)
هذا ما ذكره أهل العلم في معاني الحديث ، وما علمت أدب العلماء مع حديث النبي صلى الله عليه إلا أنهم لا يفسرونه على واقع ليس لهم عليه برهان واضح ، فيظنّون فيه ظنا وما هم بمستيقنين ، بل يكلون علم ذلك إلى الله تعالى قائلين : سبحانك اللهم لاعلم لنا إلا ماعلمتنا.
النوع الثالث
*فمن ذلك استدلاله بحديث ( سيكون من بني أمية رجل أخنس بمصر يلي سلطانا يغلب على سلطانه أو ينزع منه فيفر إلى الروم فيأتي بالروم إلى أهل الإسلام فذلك أول الملاحم) وهو حديث ضعيف ، بين ضعفه العلامة الألباني في تحقيقه للجامع الصغير 3306 .
استدلاله به على أن المقصود به أمير الكويت ، مع أن المقصود بمصر ، مصر نفسها ، ولهذا فقد ورد الحديث بلفظ ( فيفر إلى الروم فيأتي بهم إلى الإسكندرية ) مع أنه ضعيف أيضا ،ولكن المؤلف لم يذكر هذه اللفظة ، ثم إن أمير الكويت من أسرة الصباح ، وهي ليست من بني أمية ، ولا من قريش أصلا ، لاهم يدعون ذلك ،ولا أهل الأنساب ينسبونهم إلى بني أمية ، فإنزال هذا الحديث الضعيف على الكويت ، فيه تكلف وتعسف ظاهر .
ومعلوم أيضا أن الكويت استنجدت أولا بالعرب ، فلما لم ينجدهم أحد من العرب ، عرضت عليهم أمريكا ما عرضت ، لأهداف تخصهم ، ويتجه جدا أن أمريكا خططت لذلك من البداية ، لتحقيق أهدافهم الاستعمارية .
وتأمل كيف جعل أمير الكويت من بني أمية تارة ، ومن بني هاشم تارة أخرى ، وإنما حصل له هذه التناقض ، دون أن يشعر ، لانّ همَّه متوجه لتركيب الأحاديث ، على واقع تخيله في مخيلته ، فلما صارت الأحاديث تبعا لما في مخيلته ، لم يشعر بتناقض ما يقوله .
*ومن ذلك أيضا استشهاده بحديث لاتعرف صحته ( يهزم السفيانيُّ الجماعةَ مرتين ثم يهلك ) وقد جعل السفياني هو صدام حسين ، وادعى أنه في الحقيقة هو المنتصر في حرب الخليج ، وأن التحالف الدولي الذي حاربه هم الجماعة ، قال : ( لم يهزموا العراق ، فنظامه باق ، وشعبه ما ازداد لرئيسه إلا حبا ) والعجب من يدعي أن العراق انتصر في حرب الخليج إثر غزوه الكويت ، وقد قتل التحالف العالمي من جنوده ما لا يحصى ، وجعلوا جيشه قاعا صفصفا ، وانسحب ما تبقى من جيشه مهزوما لا يلوي على شيء ، وقد فرض عليه المنتصرون ، شروطا قبلها في هوان ، فكيف تكون الهزيمة إذن إن لم تكن هذه هزيمة ؟!
*ومن ذلك إنزاله حديث ( يوشك أهل الشام ألا يجبى إليه دينار ولا مدي : قلنا من أين ذلك ، قال : من قبل الروم ) رواه مسلم ، على أن المقصود الحصار على فلسطين وأنه واقع الآن ، مع أن الحديث ذكر أن الحصار يقع على الشام كله ، وليس على فلسطين لوحدها ، وأيضا فإن فلسطين الآن لا يمنع عنها الدينار ولا الطعام ، بل تدخلها التحويلات الخارجية إلى البنوك في فلسطين ، ويدخلها الطعام من خارج فلسطين إليها ، وهو أمر مشهود معلوم.
*ومن ذلك إنزاله حديث لاتعرف صحته ( إذا اختلفت الرايات السود فيما بينهم أتاهم الرايات الصفر ) على أن الرايات السود هم الأفغان ، والرايات الصفر هم جيوش الغرب ، فمن أين ليت شعري جعل الأصفر هو لون رايات الأمريكيين !! .
*ومن العجائب أيضا إنزاله حديث لاتعرف صحته ( علامة خروج المهدي ألوية تقبل من المغرب عليها رجل أعرج من كنده ) على أن المقصود به الجنرال ريتشارد مايرز قائد القوات المشتركة الأمريكية ، لانه كان يمشي على عكازين ، مع أن كندة قبيلة عربية مشهورة ، أبوهم كندة بن ثور ، وقيل حيّ من اليمن ، فما دخل قائد القوات المشتركة الأمريكية بها ؟!
ومن ذلك أنه جمع أحاديث ليس لها زمام ولا خطام في شأن السفياني وادعى أنه صدام ، وتعسف في تركيب وصف صدام على ما ذكر في تلك الأحاديث ،
فقال : روى نعيم بن حماد عدة آثار في صفة السفياني منها ( السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان رجل ضخم الهامة ، بوجهه آثار جدري ، وبعينه نكتة بياض (
وصدام ليست هامته خارجة عن العادة بحيث يوصف بأنه ضخم الهامة ، ولا في وجهه أثر الجدري ، ولا في عين نكتة بياض ، ومع ذلك يصر المؤلف على أن صدام هو ما يزعم أنه السفياني الذي لم يصح في ذكره حديث أصلا.
ومن الطرائف قوله في وصف السفياني الذي هو صدام كما زعم ( دقيق الساعدين والساقين ) قال المؤلف : ( وأخبرني من رآه أن ساعديه دقيقان مفتولان!! (
وأطرف منها أنه أورد هذا الحديث ( يخرج ولد من ولد أبي سفيان في الوادي اليابس في رايات حمر ، دقيق الساعدين والساقين ، طويل العنق ، شديد الصفرة به أثر العبادة )
فأين هذه الصفات من صدام حسين ، وأعجب شيء قوله : ( به أثر العبادة) .(/4)
ومن ذلك جزمه أن الهرمجدون ـ وهي من مزاعم أهل الكتاب ـ هي حرب قادمة بين روسيا مع الصين من جهة ( وأطلق عليه المعسكر الشرقي ) ، وأمريكا وبريطانيا معهم المسلمون مكرهين على ذلك من جهة أخرى ، ثم اقترح عدة (سيناريوهات ) كما سماها ، لحدوث معركة الهرمجدون ، ولم يعلم أنه لا يوجد الآن ما يسمى المعسكر الشرقي ، وأنه انتهى بانتهاء الحرب الباردة ، وأن روسيا اليوم لا يتحمل اقتصادها وحالها المتردي ، أن تتماسك في زمن السلم ، فكيف تخوض حربا ، ولهذا طلبت من الغرب أن يمدها بالمال لتحارب المجاهدين في الشيشان ، وهذا معلوم لدى الخاص والعام ، لا يجهله أي متابع لما يحدث في العالم.
والخلاصة : أن الكتاب ليس مبينا على أصول العلم المحقق ، بل هو أشبه بعمل حاطب ليل ، قد استحوذت عليه أفكار مسبقة ، فهو يسعى لأن يجمع لها ما هبّ ودبّ ، ويتكلف المعاني البعيدة يستخرجها من نصوص غالبها لا يصح مما لا أصل له ، أو هو منكر ، أو موضوع ، أو ضعيف ، وجلّ اعتماده على كتاب الفتن لنعيم بن حماد ، وهو كتاب مليء بالأحاديث المنكرة .
وإذا اعتمد على الصحيح حرف معناه ليوافق فكرته ، وقد حشر في كتابه خرافات ، وقصص تشبه حكايات الكهنة ، وأسوأ مافيه أنه يقول في معاني كلام النبوة ، بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير ، ويجزم أن معناها كذا وكذا مما يقع في زماننا ، بجرأة عجيبة في الجزم بما ليس عليه دليل ظاهر .
والواجب منع هذه الكتاب ، ولا يجوز بيعه ، وأنصح مؤلفه بالتوبة إلى الله تعالى ، والرجوع عما اشتمل عليه الكتاب ، وأن يلتزم بما عليه أهل العلم من التورع عن القول في الدين ، بغير هدى من الوحي الثابت في الإسناد ، المحقق المعاني.
ولو أنه اعتمد على الأحاديث الصحيحة فقط ، ثم أورد الاحتمالات التي قد يصدق عليها الواقع ، مما هو قريب ملائم ، من غير جزم بشيء ، لكان الخطب أيسر و أهون ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(/5)
تنبيه المفتون بكتاب (هرمجدون(
فتوى في كتاب (هرمجون) لمؤلفه أمين محمد جمال الدين
حامد بن عبدالله العلي
ــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
فقد سألني أخ كريم صاحب مكتبة إسلامية ، عن حكم بيع كتاب موسوم بـ( هرمجدون آخر بيان يا أمة الإسلام ) لمؤلفه أمين محمد جمال الدين ، فطلبت منه أن أقرأه ليتبين لي أمره ، فلما قرأت الكتاب المذكور ، أفتيته بأنه لا يجوز بيعه ، لما فيه من القول في دين الله تعالى بغير علم ، ونقل أحاديث ليس لها أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بيان حالها ، بل اعتمد عليها في تفسير وقائع الزمان ، ولما فيه من التعسف في تأويل الأحاديث الصحيحة لتوافق ما ادعاه ، وفي ذلك من الجرأة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه .
غير أنني مع ذلك ، أحسب مؤلفه من أهل الصلاح والخير ، وأن فيه من سلامة النية ، والمقصد الحسن ، وحب المسلمين ، والحرص على رجوعهم إلى دينهم ، ماحمله على ما وقع فيه من أخطاء ، ولهذا لا ينبغي لمن يقرأ هذا الرد ، أن يسيء الظن في مؤلف الكتاب المردود عليه ، بل يدعو لأخيه بالهداية والتوفيق .
وقد طلب مني الأخ السائل أن أكتب فيه جوابا فيه شيء من التفصيل ، بما يسمح به الوقت ، إذ كان الرد المفصل على كل ما في الكتاب المذكور ، لاحاجة ملحة تدعو إليه ،وليس عندي من فسحة الوقت ما يعينني عليه ، فكتبت هذا الجواب ، واقتصرت فيها على الاختصار والتمثيل ، دون الإسهاب والتطويل .
ـــــــــــــــــــ
الحمد لله القائل في محكم التنزيل ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) أشهد أن لا إله إلا هو رب العالمين ، وأشهد أن نبينا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، القائل ( من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) رواه مسلم ، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد اطلعت على كتاب بعنوان ( هرمجدون ) آخر بيان .. يا أمة الإسلام ، لمؤلفه أمين محمد جمال الدين ، فوجدت فيه مما يقتضي التوجه بالرد عليه ما يلي :
أولا :
ـــ
قد أكثر المؤلف من النقل عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد رحمه الله ، ويشير إليه في غير موضع أنه شيخ البخاري ، ليظن القارئ الذي يجد اقترانه بالإمام البخاري ، وهو الإمام الذي قد عرفت جلالته في علم الحديث ، أن كل ما رواه نعيم هو أيضا موثوق به ، وفي هذا الصنيع ، تدليس لا يليق بالباحث ـ هداه الله ـ ذلك أن نعيم بن حماد إنما روى له البخاري مقرونا بغيره ، ولم يخرج له في الصحيح سوى موضع ، أو موضعين أيضا ، وروى له مسلم في المقدمة موضعا واحدا فقط ، كما ذكر الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري ( 447) .
هذا مع أن ذكر الرجل في طبقة الشيوخ عند المحدثين ، قد لايعني سوى أنه ممن روى عنه المحدث ، ولا يقتضي ذلك أن يكون ثقة عنده ، بله أن يكون قد أخذ عنه علمه ، ولهذا فربما ذُكر في طبقة شيوخ بعض الحفاظ ، أكثر من ألف شيخ كالحافظ الطبراني .
وأما نعيم فهو ثقة في نفسه ، ولكنه كما قال الإمام الناقد الذهبي : لكنه لاتركن النفس إلى رواياته ( السير 10/600) .
وقال يحي بن معين : يروى عن غير الثقات ( سير أعلام النبلاء 10/597)
وقال الإمام المحدث صالح جزرة عن نعيم : ( وكان يحدث من حفظه ، ولديه مناكير كثيرة لا يتابع عليها ، سمعت يحيى بن معين سئل عنه فقال : ليس في الحديث بشيء ، ولكنه صاحب سنة ) .
وقال الإمام الذهبي : قلت لا يجوز لاحد أن يحتج به ، وقد صنف كتاب ( الفتن ) فأتى به بعجائب ومناكير . ( 10ش/609)
وبهذا يعلم أن كتاب (هرمجدون ) قد بني على مصدر مليء بالمناكير ، دون تحقيق لما فيه ، ولا انتقاء لما يحتويه ، ولا يحل في دين الإسلام ، أن يكون مثل هذا مصدرا شرعيا ، في الأخبار والأحكام .
ـــــــــــــــــ
ثانيا : تندرج المؤاخذات على الكتاب المذكور في ثلاثة أنواع :
النوع الأول :
ـــــــ
إيراده ـ غفر الله له ـ أحاديث ضعيفة ، وأخرى لا أصل لها ، واعتماده عليها فيما يدعيه من وقوع أمور مستقبلية ، وأحيانا يعزو ما يذكره إلى مصادر مجهولة ، لا يعرفها العلماء ، بزعم أنها مخطوطات مخبئة في بعض المكتبات ، فينسب إليها بعض الأقوال عن الصحابة ، ويجعلها أساسا لما يقوله ويزعمه من الإخبار بالمستقبل .
النوع الثاني :
ـــــــ
إيراده تخاريف الكهنة مثل الكاهن المشهور (نستراداموس) .
النوع الثالث :
ـــــــ
تنزيله الأحاديث الصحيحة المخبرة عن أمور مستقبلية على واقع يحدده ، بغير دليل واضح ، مع الجزم بأن ما أنزلها عليه هو معناها ومقتضاها ، حتى قال هداه الله ( لولا أنني على يقين من أمري ما تورطت في أمر كهذا ) !!
ويتعسف ـ عفا الله عنه ـ في تأويل الأحاديث الصحيحة ـ والضعيفة أيضا ـ لتوافق توهماته.
ـــــــــــــــ
فأما النوع الأول :
ـــــــــ(/1)
فمن أمثلته حديث يزعم أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه ، وهو كلام عجيب وغريب ، ادعى أن مصدره مخطوطة بدار الكتب الإسلامية في كتابخانة اسطانبول ، يقول الحديث المزعوم : ( حرب آخر الزمان حرب كونية ، المرأة الثالثة بعد اثنين كبريين يموت فيهما خلائق كثيرة ، الأول أشعلها رجل كنيته السيد الكبير ، وتنادى الدنيا باسم ( هتلر ) ، قال : وهذا مما رواه أبو هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، في رواية خاف أن يحدث بها أبو هريرة ، ولما أحس الموت خاف أن يكتم علما فقال لمن حوله : ( في نبأ علمته عما هو كائن في حروب آخر الزمان ، فقالوا : أخبرنا ولا باس جزاك الله خيرا ، فقال : في عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة ، واعقدوا عقودا يرى ملك الروم أن حرب الدنيا كلها يجب أن تكون ، فأراد الله له حربا ، ولم يذهب طويل زمن ، عقد وعقد فسلط رجل من بلاد اسمها جرمن ، له اسم الهر ، أراد أن يملك الدنيا ، ويحارب الكل ، في بلاد ثلج وخير ، فأمسى في غضب الله بعد سنوات نار ، أرداه قتيلا سر الروس ، وفي عقود الهجرة بعد الألف وثلاثمائة عد خمسا أو ستا ، يحكم مصر رجل يكنى ناصر ، يدعوه العرب شجاع العرب ، وأذله الله في حرب وحرب وماكان منصورا ، ويريد الله لمصر نصرا له حقا في أحب شهوره ، وهو له ، فأرضى مصر رب البيت ، والعرب بأسمر سادا ، أبوه أنور منه ، لكنه صالح لصوص المسجد الأقصى بالبلد الحزين ، وفي عراق الشام .... ) .
وهذا الخبر لا يعرف له أصل ، ولاتحل روايته ، دون بيان درجته .
ــــــ
وكيف يحل لاحد أن يورد مثل هذه الخرافات ، وينسبها إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، لاسيما وهي في أخبار الغيب ، التي لا يقال فيها بالرأي ، فهي في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، مع ما فيها من الكلام الركيك الذي يشبه هذيان المحموم .
ـــــــ
كما قال المؤلف ( هذا من الآثار العجيبة والتي حدث بها الصحابي الجليل أبو هريرة ) فهو يجزم بأن أبا هريرة رضي الله عنه ، قد حدث بهذا الكلام كأنه حديث أعجمي ، مليء بفساد التركيب ، وضعف الصياغة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
*ومن ذلك استشهاده بحديث ( بين الملحمة وفتح القسطنطينية ست سنوات ويخرج الدجال في السابعة ) وهو حديث ضعيف بين العلامة الألباني رحمه الله ضعفه في مشكاة المصابيح 5426 فليرجع إليه ، ولا حاجة لدراسته دراسة حديثية هنا إذ كان المقصد هو الاختصار .
ــــــــــــــــــــــــــــ
*ومن ذلك حديث ( ليغزون الهند لكم جيش يفتح الله عليهم ، حتى يأتوا بملوكهم مغللين بالسلاسل يغفر الله ذنوبهم فينصرفون حين ينصرفون فيجدون ابن مريم بالشام ) . وهذا الحديث لم أجد له خطاما ولا زماما .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*ومن ذلك هذان الحديثان المنكران : ( يكون صوت في رمضان ، ومعمعة في شوال ، وفي ذي القعدة تجاذب القبائل ، وعامئذ ينتهب الحاج وتكون ملحمة عظيمة بمنى يكثر فيه القتلى ، وتسيل فيها الدماء ، وهم على جمرة العقبة ) .
وحديث ( إذا كانت الصيحة في رمضان فإنه يكون معمعة في شوال .. قلنا : وما الصيحة يا رسول الله ؟ قال : هدّة في النصف من رمضان ، ليلة جمعة ، فتكون هدّة توقظ النائم وتقعد القائم وتخرج العواتق من خدورهن في ليلة جمعة في سنة كثيرة الزلازل .. الحديث ) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
ومن ذلك ما أورده ناسبا إياه إلى نسخة خطية في دار الكاتبخانة في تركيا ، كتبها ـ فيما ادعى الناقل عنها ـ كلدة بن زيد بن بركة المدني ، وجاء فيه ( وحرب في بلد صغير من عجب الذنب يجمع أهل الدنيا لها ، كأنها أغنى بلد أولم عليها الوالمون ، وأمير فيها سلم رايته لزعيمة الشر الآتية من الشواطئ البعيدة ، بداية آخر الزمان ، فتجمع له صريخها من كل الدنيا ، وترد له عرش الملك ويخرب عراق في ملاحم بداية آخر الزمان ، ويحارب أمير الذنب الصغير جيوش المهدي ، وحان خراب البلد مرة أخرى ، لأن أميرها سر الفساد ... المهدي يقتله ويعود الذنب إلى جسد ... ) .
فهل هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أم هو كلام بعض الصحابة ، وأين إسناده إن كان كذلك ، مع أنه في غاية الركاكة ، بعيدُ بعدَ المشرقين عن فصاحة اللفظ النبويّ ، وكلُّ من يعرف كلام العرب ، يجزم بأن هذا التركيب لايمكن أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يقطع بأنه ليس من كلام العرب الأوائل أيضا .
ثم إن قوله : إن أمير الذنب الصغير ـ ويقصد الكويت ـ يحارب جيوش المهدي ، أمر يثير الضحك ، فالمعلوم أن الكويت دولة صغيرة ، وجيشها قليل العدد ، غير قادر على مجابهة جيوش المهدي ، وليس من عادة حكامها الطغيان ، ولا البدء بالعدوان ، بل هو قوم مسالمون ، وذلك معلوم لدى الناس كلهم ، فهم لم يحاربوا قط أصغر دولة ، فكيف يحاربون جيوش المهدي ؟!
ــــــــــــــ(/2)
أما النوع الثاني : فمنه إيراده ما ذكره نستراداموس في إحدى رباعياته ( وفي عام القرن الجديد والشهر التاسع ( سبتمبر 2001) من السماء سيأتي ملك الموت العظيم ، ستشتعل السماء في درجة خمسة وأربعين ، وتقترب النيران من المدينة العظيم في مدينة يورك ، ... ) .
فمتى كان المسلمون يستشهدون بكلام الكهنة والمشعوذين مما تأتيهم به الشياطين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم عنهم : إنهم ليسوا بشيء ، كما روى البخاري : ( عن عائشة رضي الله عنها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان فقال ليس بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة ) ، وما أدرانا أن مع خبر هذا الكاهن مائة كذبة ، هذا إن كان هذا الكاهن اليهودي ، قد ذكر ما نقله مؤلف كتاب هرمجدون ، ولم ينسبه بعض الدجالين المعاصرين إليه ، طمعا في الربح المادي من وراء نشر كتب الغرائب والعجائب !
ــــــــــــــــ
أما النوع الثالث :
ـــــــــ
فمن ذلك إنزاله حديث ( كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن ، فأكثر من ذكرها حتى ذكر فتنة السرّاء ، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ، يزعم أنه مني ، وليس مني .. الحديث ) وهو حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه .
إنزاله هذا الحديث على أن فتنة السرّاء هي فتنة غزو صدام للكويت ، وجزمه بذلك وترجيحه أن أمير الكويت هو المقصود بقوله ( دخنها تحت قدمي رجل من أهل بيتي ) ص 20 الحاشية.
ومعلوم أن الحديث ذكر أن فتنة السراء ، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، وأن أسرة الصباح التي تحكم الكويت ، ليست من أهل البيت ، ولاهم يدعون ذلك ، لا وأنهم من قريش أيضا، فإنزال الحديث على غزو صدام للكويت في تعسف واضح .
وتتميما للفائدة نذكر ما قاله العلماء في بيان معاني هذا الحديث :
روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر قال :
كنا قعودا عند رسول الله فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس قال هي هرب وحرب ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني وإنما أوليائي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده .
فتنة الأحلاس: قال في النهاية : الأحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب , شبهها به للزومها ودوامها . انتهى . وقال الخطابي : إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامها وطول لبثها أو لسواد لونها وظلمتها .
قال القاري : والمراد بالسرّاء النعماء التي تسر الناس من الصحة ، والرخاء ، والعافية من البلاء والوباء , وأضيفت إلى السراء ، لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي بسبب كثرة التنعم أو لأنها تسر العدو انتهى .
دخنها : يعني ظهورها ، وإثارتها ، شبهها بالدخان المرتفع , والدخن بالتحريك مصدر دخنت النار تدخن إذا ألقي عليها حطب رطب ، فكثر دخانها , وقيل أصل الدخن أن يكون في لون الدابة كدورة إلى سواد قاله في النهاية .
( من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ) : تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها أو إلى أنه يملك أمرها .
ثم يصطلح الناس على رجل : أي يجتمعون على بيعة رجل
( كوَرِك ) : بفتح وكسر قاله القاري
( على ضِلَع ) : بكسر ففتح، ويسكن ، واحد الضلوع أو الأضلاع قاله القاري . قال الخطابي : هو مثل ومعناه الأمر الذي لا يثبت ولا يستقيم وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك . وبالجملة يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به انتهى .
وفي النهاية : أي يصطلحون على أمر واه لا نظام له ، ولا استقامة لأن الورك لا يستقيم على الضلع ، ولا يتركب عليه ، لاختلاف ما بينهما وبعده , والورك ما فوق الفخذ انتهى .
وقال القاري : هذا مثل والمراد أنه لا يكون على ثبات , لأن الورك لثقله لا يثبت على الضلع لدقته , والمعنى أنه يكون غير أهل للولاية لقلة علمه وخفة رأيه انتهى
ثم فتنة ( الدهيماء ) : وهي بضم ففتح ، والدهماء السوداء ، والتصغير للذم أي الفتنة العظماء ، والطامة العمياء . قاله القاري .
وفي النهاية: تصغير الدهماء ، الفتنة المظلمة ، والتصغير فيها للتعظيم ، وقيل أراد بالدهيماء الداهية ، ومن أسمائها الدهيم ، زعموا أن الدهيم اسم ناقة كان غزا عليها سبعة إخوة فقتلوا عن آخرهم ، وحملوا عليها حتى رجعت بهم فصارت مثلا في كل داهية
( لا تدع ) : أي لا تترك تلك الفتنة .(/3)
( إلا لطمته لطمة ) : أي أصابته بمحنة ومسته ببلية , وأصل اللطم هو الضرب على الوجه ببطن الكف , والمراد أن أثر تلك الفتنة يعم الناس ويصل لكل أحد من ضررها .
( فإذا قيل انقضت ) : أي فمهما توهموا أن تلك الفتنة انتهت .
( تمادت ) : بتخفيف الدال أي بلغت المدى أي الغاية من التمادي وبتشديد الدال من التمادد تفاعل من المد أي استطالت واستمرت واستقرت قاله القاري .
هذا ما ذكره أهل العلم في معاني الحديث ، وما علمت أدب العلماء مع حديث النبي صلى الله عليه إلا أنهم لا يفسرونه على واقع ليس لهم عليه برهان واضح ، فيظنون فيه ظنا ولاهم بمستيقنين ، بل يكلون علم ذلك إلى الله تعالى قائلين : سبحانك اللهم لاعلم لنا إلا ماعلمتنا .
ــــــــــــــــــ
النوع الثالث :
ـــــــ
*فمن ذلك استدلاله بحديث ( سيكون من بني أمية رجل أخنس بمصر يلي سلطانا يغلب على سلطانه أو ينزع منه فيفر إلى الروم فيأتي بالروم إلى أهل الإسلام فذلك أول الملاحم) وهو حديث ضعيف ، بين ضعفه العلامة الألباني في تحقيقه للجامع الصغير 3306 .
استدلاله به على أن المقصود به أمير الكويت ، مع أن المقصود بمصر ، مصر نفسها ، ولهذا فقد ورد الحديث بلفظ ( فيفر إلى الروم فيأتي بهم إلى الإسكندرية ) مع أنه ضعيف أيضا ،ولكن المؤلف لم يذكر هذه اللفظة ، ثم إن أمير الكويت من أسرة الصباح ، وهي ليست من بني أمية ، ولا من قريش أصلا ، لاهم يدعون ذلك ،ولا أهل الأنساب ينسبونهم إلى بني أمية ، فإنزال هذا الحديث الضعيف على الكويت ، فيه تكلف وتعسف ظاهر .
ومعلوم أيضا أن الكويت استنجدت أولا بالعرب ، فلما لم ينجدهم أحد من العرب ، عرضت عليهم أمريكا ما عرضت ، لأهداف تخصهم ، ويتجه جدا أن أمريكا خططت لذلك من البداية ، لتحقيق أهدافهم الاستعمارية .
وتأمل كيف جعل أمير الكويت من بني أمية تارة ، ومن بني هاشم تارة أخرى ، وإنما حصل له هذه التناقض ، دون أن يشعر ، لانّ همَّه متوجه لتركيب الأحاديث ، على واقع تخيله في مخيلته ، فلما صارت الأحاديث تبعا لما في مخيلته ، لم يشعر بتناقض ما يقوله .
ـــــــــــــــ
*ومن ذلك أيضا استشهاده بحديث لاتعرف صحته ( يهزم السفيانيُّ الجماعةَ مرتين ثم يهلك ) وقد جعل السفياني هو صدام حسين ، وادعى أنه في الحقيقة هو المنتصر في حرب الخليج ، وأن التحالف الدولي الذي حاربه هم الجماعة ، قال : ( لم يهزموا العراق ، فنظامه باق ، وشعبه ما ازداد لرئيسه إلا حبا ) والعجب من يدعي أن العراق انتصر في حرب الخليج إثر غزوه الكويت ، وقد قتل التحالف العالمي من جنوده ما لا يحصى ، وجعلوا جيشه قاعا صفصفا ، وانسحب ما تبقى من جيشه مهزوما لا يلوي على شيء ، وقد فرض عليه المنتصرون ، شروطا قبلها في هوان ، فكيف تكون الهزيمة إذن إن لم تكن هذه هزيمة ؟!
ـــــــــــــــ
*ومن ذلك إنزاله حديث ( يوشك أهل الشام ألا يجبى إليه دينار ولا مدي : قلنا من أين ذلك ، قال : من قبل الروم ) رواه مسلم ، على أن المقصود الحصار على فلسطين وأنه واقع الآن ، مع أن الحديث ذكر أن الحصار يقع على الشام كلها ، وليس على فلسطين لوحدها ، وأيضا فإن فلسطين الآن لا يمنع عنها الدينار ولا الطعام ، بل تدخلها التحويلات الخارجية إلى البنوك في فلسطين ، ويدخلها الطعام من خارج فلسطين إليها ، وهو أمر مشهود معلوم.
ـــــــــــــــ
*ومن ذلك إنزاله حديث لاتعرف صحته ( إذا اختلفت الرايات السود فيما بينهم أتاهم الرايات الصفر ) على أن الرايات السود هم الأفغان ، والرايات الصفر هم جيوش الغرب ، فمن أين ليت شعري جعل الأصفر هو لون رايات الأمريكيين !! .
ــــــــــــــ
*ومن العجائب أيضا إنزاله حديث لاتعرف صحته ( علامة خروج المهدي ألوية تقبل من المغرب عليها رجل أعرج من كنده ) على أن المقصود به الجنرال ريتشارد مايرز قائد القوات المشتركة الأمريكية ، لانه كان يمشي على عكازين ، مع أن كندة قبيلة عربية مشهورة ، أبوهم كندة بن ثور ، وقيل حيّ من اليمن ، فما دخل قائد القوات المشتركة الأمريكية بها ؟!
ـــــــــــــــ
ومن ذلك أنه جمع أحاديث ليس لها زمام ولا خطام في شأن السفياني وادعى أنه صدام ، وتعسف في تركيب وصف صدام على ما ذكر في تلك الأحاديث .
فقال : روى نعيم بن حماد عدة آثار في صفة السفياني منها ( السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان رجل ضخم الهامة ، بوجهه آثار جدري ، وبعينه نكتة بياض ) .
وصدام ليست هامته خارجة عن العادة بحيث يوصف بأنه ضخم الهامة ، ولا في وجهه أثر الجدري ، ولا في عين نكتة بياض ، ومع ذلك يصر المؤلف على أن صدام هو ما يزعم أنه السفياني الذي لم يصح في ذكره حديث أصلا.
ومن الطرائف قوله في وصف السفياني الذي هو صدام كما زعم ( دقيق الساعدين والساقين ) قال المؤلف : ( وأخبرني من رآه أن ساعديه دقيقان مفتولان ) !!(/4)
وأطرف منها أنه أورد هذا الحديث ( يخرج ولد من ولد أبي سفيان في الوادي اليابس في رايات حمر ، دقيق الساعدين والساقين ، طويل العنق ، شديد الصفرة به أثر العبادة )
فأين هذه الصفات من صدام حسين ، وأعجب شيء قوله : ( به أثر العبادة ) .
ــــــــــــــ
ومن ذلك جزمه أن الهرمجدون ـ وهي من مزاعم أهل الكتاب ـ هي حرب قادمة بين روسيا مع الصين من جهة ( وأطلق عليه المعسكر الشرقي ) ، وأمريكا وبريطانيا معهم المسلمون مكرهين على ذلك من جهة أخرى ، ثم اقترح عدة (سيناريوهات ) كما سماها ، لحدوث معركة الهرمجدون ، ولم يعلم أنه لا يوجد الآن ما يسمى المعسكر الشرقي ، وأنه انتهى بانتهاء الحرب الباردة ، وأن روسيا اليوم لا يتحمل اقتصادها وحالها المتردي ، أن تتماسك في زمن السلم ، فكيف تخوض حربا ، ولهذا طلبت من الغرب أن يمدها بالمال لتحارب المجاهدين في الشيشان ، وهذا معلوم لدى الخاص والعام ، لا يجهله أي متابع لما يحدث في العالم.
والخلاصة : أن الكتاب ليس مبينا على أصول العلم المحقق ، بل هو أشبه بعمل حاطب ليل ، قد استحوذت عليه أفكار مسبقة ، فهو يسعى لأن يجمع لها ما هبّ ودبّ ، ويتكلف المعاني البعيدة يستخرجها من نصوص غالبها لا يصح مما لا أصل له ، أو هو منكر ، أو موضوع ، أو ضعيف ، وجل اعتماده على كتاب الفتن لنعيم بن حماد ، وهو كتاب مليء بالأحاديث المنكرة .
وإذا اعتمد على الصحيح حرف معناه ليوافق فكرته ، وقد حشر في كتابه خرافات ، وقصص تشبه حكايات الكهنة ، وأسوأ مافيه أنه يقول في معاني كلام النبوة ، بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير ، ويجزم أن معناها كذا وكذا مما يقع في زماننا ، بجرأة عجيبة في الجزم بما ليس عليه دليل ظاهر .
والواجب منع هذه الكتاب ، ولا يجوز بيعه ، وأنصح مؤلفه بالتوبة إلى الله تعالى ، والرجوع عما اشتمل عليه الكتاب ، وأن يلتزم بما عليه أهل العلم من التورع عن القول في الدين ، بغير هدى من الوحي الثابت في الإسناد ، المحقق المعاني .
ولو أنه اعتمد على الأحاديث الصحيحة فقط ، ثم أورد الاحتمالات التي قد يصدق عليها الواقع ، مما هو قريب ملائم ، من غير جزم بشيء ، لكان الخطب أيسر و أهون ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(/5)
تنبيه هام لذوي العلوم والأفهام
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتاب " أعلام الموقعين" :
فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال: وهذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به لأن الشريعة مبناها عل الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها .. إلخ.
وأقول: لقد سمعنا من بعض المنتسبين إلى العلم بأنهم يبدون إنكارهم لهذه القاعدة ويعارضونها بالتفنيد وعدم التسديد لزعمهم أنها مخالفة لنصوص الدين وأصوله التي لا تتغير و لا تتبدل بتغير الزمان والمكان والأحوال، فهذا مثار الإشكال الذي حصل بسببه الإنكار.
وخفي على هؤلاء بأن العلامة ابن القيم ، لم يقل بجواز تغير الدين وقواعده وعقائده ، وإنما يتكلم بتغير الفتوى في فروع العبادات التي حقق العلماء بأن للاجتهاد فيها مجالا ولم يقل بهذا إلا وعنده مستند صحيح من النصوص والأصول تثبت صحة ما يقول » ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم « والاستنباط هو استشارة ما عسى أن يكون خفياً على بعض الأذهان وحيث يبرزه باستنباطه إلى العيان ، ومما يدل على تغير الفتوى وتغير الزمان والمكان والأحوال ما روى الإمام أحمد وأبو داود والدار قطني عن عمرو بن العاص ، أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: فاحتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن إغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، فلما قدمنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكروا ذلك له فقال: يا عمرو : صليت بأصحابك وأنت جنب . قلت: نعم يا رسول الله ، ذكرت قول الله تعالي: » ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما « فتيممت وصليت. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ولم يقل شيئا، فدل هذا الحديث على أن سكوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإنكار عليه هو حقيقة في الإقرار على فعله وهذه مما تتغير به الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال . إذ الأصل لواجد الماء أن يمسه بشرته ، لقول الله تعالي: » وإن كنتم جنبا فاطهروا « ، وفي الحديث » الصعيد وضوء المسلم إذا لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته « .
ومثله ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان في أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائهم ، فذكر ذلك سعد لرسول الله ، فقال: » إضربوه حده« ، فقال سعد: إنه أضعف من ذلك . فقال: » خذوا عشكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا « . ذكره ابن حجر في بلوغ المرام من أصول الأحكام ، فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله من حالة الشدة إلى حالة التسهيل لتغير حالة هذا الشخص ، إذ الأصل في الجلد في الحد أن يفرق على جسده ضربة ضربة موجعة ، ونظرا لضعف حاله جعله رسول الله ضربة واحدة وبعشكول فيه مائة شمراخ ، فماذا ترى يقول المعترض على هذه الفتوى.
ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم وأهل السنن قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: » هلكت؟ قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على إمرأتي في رمضان ، قال: أ هل تجد ما تعتق به رقبة ؟ قال: لا ، قال: وهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال: لا . قال: وهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا ثم جلس فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرق فيه تمر، فقال: إذهب فتصدق به . فقال: أ فعلى أفقر منا، فوالله ما بين لا بيتها أهل بيت أحوج منا، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ، ثم قال: إذهب فاطعمه أهلك « .
فهذه فتوى رسول الله وقد عرفت كيف تغيرت من حالة الشدة التي هي الأصل في التكفير إلى حالة التسهيل والتيسير حيث تحمل عنه رسول الله أعباء التكفير بالإطعام ثم تصدق به عليه وعلى أهله والدين هو الدين لا يتغير بتغير الأحوال ، وإنما الافتاء في مثل هذه المسائل الفروعية يتغير من حالة إلى حالة .
ومثله فتوى الصحابة للحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما بأن يفطرا ويقضيا بدله ، وقد صدرت هذه الفتوى عن اجتهاد منهم بدون أن يوجد فيها نص عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه الفتوى مما تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال ، إذ الأصل أن الصوم يجب على كل مسلمة بالغة عاقلة ليست بمريضة ولا مسافرة و لا حائض ولا طاعنة في السن. فالمرأة الحامل القوية الصحيحة الجسم لا يقبل منها دعوى الخوف على نفسها نم الصيام ، لأن نساء المسلمين والحوامل والمراضع في سائر الأزمان والأقطار من بدو وحاضرة ، يصمن رمضان شتاء وصيفا ولا يتأثرن من الصيام فلا يجوز عن تفتى بالفطر والحالة هذه كل امرأة .
أما المرأة الضعيفة النحيفة التي تعلم أن الصوم يشق عليها فوق المشقة المعتادة وتخاف على نفسها ، فإنه يجوز أن تفتى بالفطر ولكل سؤال جواب ولكل مقام مقال.(/1)
وقد استدل العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه القاعدة بإسقاط عمر حد السكر عن أبي محجن بسبب ما أبلى به من قتال الكفار ، ورأي أن جريمته بمثابة نقطة النجاسة غمرها الماء الكثير فغسلها ، لأن الحسنات يذهبن السيئات .
واستدل لهذه القاعدة أيضا بإسقاط عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة ، ولهذا يعد من باب تعارض المانع للمقتضي ، وكون المشقة تجلب التيسير.
وإذا اتسعت علوم الشخص وأعطى فهما لصحة الاستدلال والاستنباط فإنه يتسع رحبه لتقبل مثل هذه القاعدة ويعلم بطريق اليقين أن لها أصلا من السنة ترد إليه وتقاس عليه . أما من نقص علمه وتحجر رأيه وجمد فهمه ، فإنه يضيق ذرعه بكل ما يخالف رأيه وينكر كل ما لم يحط بعلمه وذلك لا يغنيه من الحق شيئا.
ذلك بأنني لما أفتيت بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق حينما رأيت الناس من مشارق الأرض ومغاربها قد قوضوا إلى الحج من كل فج فأقبلوا إليه يجترون وفي كل زمان يزيدون ، فعظم الجمع واشتد الزحام وضاق ذرع الأمة بهذا المقام وصاروا يحصون وفيات الزحام في كال عام ، لأن الجمع كثير وحجم المرمى صغير وزمن الرمي قصير ، لأن الفقهاء المتقدمين قد حددوا وقت الرمي بما بين الزوال إلى الغروب ، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزه ، لهذا ظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ، وأنه لن تتغير الفتوى فيه بحال وصار هذا الفهم هو العامل الأكبر في حصول الضرر وتوسيع دائرة الخطر ولو فكروا بإمعان ونظر لوجدوا في الشريعة السمحة طريق المخرج عن هذا الحرج فرحم الله العلامة ابن القيم وعفا عنه ونفعنا وإخواننا المسلمين بعلومه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
تنبيهات وضوابط لقراء السّّير
فضيلة الشيخ :عمر المقبل 2/2/1423
15/04/2002
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد :
فإن قراءة السير والأخبار متعة لدى كثير من الناس ، لما فيها من عرض للأحداث في غابر الزمان ،وأخبار أمم وقرون انقرضت ،وفيها من الوقوف على أخبار عقلاء الناس وتجاربهم الشيء الكثير .
ولما كانت كتب السير تجمع في طياتها أخبارا وسيرا لم تمحص ،ونقولات لم تعرض على ميزان النقد العلمي ـ لأن غرض المؤلف (غالبا) هو الجمع المحض من غير نقد ولا تمحيص ـ نشأ عن ذلك وجود عدد ليس بالقليل من الأخبار المردودة شرعا ،أو المواقف التي تنسب إلى أعيان من الفضلاء ـ قد يعتذر لهم عنها ـ ولكن لا يتابعون عليها ؛لكون ذلك العمل اجتهاد مطروح ؛ لمصادمته للنص ـ مثلاً ـ .
من هنا أحببت المشاركة بالإشارة إلى بعض الضوابط والتنبيهات التي ينبغي مراعاتها عند قراءة كتب السير والتراجم ،لما يُلحظ من أخطاء في التعامل مع هذه السير والأخبار ،ستتبين من خلال هذه التنبيهات والضوابط التنبه لها :
التنبيه الأول :
السير والأخبار فيها الصحيح والضعيف بل والمكذوب ،وإذا كان حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أدخل فيه ما ليس منه من الضعاف والموضوعات ،فما بالك بأخبار الرجال وسيرهم ؟!
ولهذا فإن التثبت واجب فيما ينقل من أخبارهم ، خاصة تلك التي يترتب عليها استدلال ـ وهذا فيما يتعلق بالصحابة بالذات وغيرهم على وجه العموم ـ لأن أقوال الصحابة رضي الله عنهم حجة إذا لم يُخالف أحدهم والمسألة مبحوثة في أصول الفقه ،والمقصود التثبت فيما يروى من قدح أو ذم ،يجب أن ينظر في ثبوته عنهم ،فإن الخطأ والتحريف ،والكذب فيما ينقل عمن اشتهر فضلهم ،وورعهم ،وصدقهم ،وبلاؤهم في الإسلام ـ وعلى رأسهم الصحابة – رضوان الله عليهم ـ الخطأ والكذب على هؤلاء كثير .
ولما تكلم شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في "الواسطية " عن منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع ما روي عن الصحابة – رضوان الله عليهم ـ ،وعن الفرق بينهم وبين الرافضة ،قال رحمه الله تعالى:ص (36) :
" ويتبرءون من طريقة الروافض ،الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ،وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقولٍ أو عمل ،ويمسكون عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم ،منها ما هو كذب ، ومنها ما قد زيد فيه ونقص ، وغُيِّر عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون : إما مجتهدون مصيبون ،وإما مجتهدون مخطئون " ا. هـ كلامه ـ رحمه الله تعالى ـ .
فإذا كان الكذب والخطأ فيما يروى عن الصحابة – رضوان الله عليهم ـ ، فغيرهم من باب أولى ، ولذلك كان مما اختص الله به أمة الإسلام من بين سائر الأمم : الإسناد ،إذْ لولا الإسناد لقال في الدين من شاء أن يقول ، كما قال الإمام عبد الله بن المبارك ـ فيما رواه مسلم في مقدمة صحيحه ـ بل لقد بلغ الأئمة في هذا الباب مبلغا عظيما من الاحتياط ،فصاروا ينقلون أقوال أئمة الجرح والتعديل بالأسانيد ،وهذا ظاهر جلي في كتاب "الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم " أو "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان وغيرها من الكتب .
ويلحظ الناظر في كتاب الحافظ الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ "سير أعلام النبلاء " تطبيقا عمليا لهذا المنهج ،فكم حكم على قصص رويت ،أو أخبار ذكرت بالبطلان !! .
ومن عباراته ـ رحمه الله تعالى ـ : " إسنادها مظلم ، إسنادها تالف ،لا تصح ، حكاية منقطعة ..الخ تلك العبارات التي ينقد بها ما يورده من أخبار وحكايات .
التنبيه الثاني :
بعد التحقق والتثبت من ذلك المروي عن بعض السلف من قول أو فعل ،سواء كان من الصحابة – رضوان الله عليهم ـ أو غيرهم ، فينبغي أن يعذر ذلك الشخص فيما نقل عنه إن تبين خطؤه فيه ، وأن يعلم أنه لا يمكن أن يصدر تعمد مخالفة السنة ممن عرف بالفضل والعلم والصلاح ،كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيم : "رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ،يقول رحمه الله تعالى في مقدمة هذا الكتاب :
" وليعلم أنه ليس أحدٌ من الأئمة ـ المقبولين عند الأمة قبولا عاماً ـ يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته دقيقٍ ولا جليل ،فإنهم متفقون اتفاقا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ،إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه ،فلا بد له من عذر في تركه ،وجميع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله .
والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .(/1)
وهذه الأصناف الثلاثة ، تتفرع إلى أسباب متعددة ... " ثم ذكرها ـ رحمه الله تعالى ـ وهي جديرة بالمراجعة لأهميتها ،والمقصود هنا ،وجوب التماس العذر لمن هذه صفته والله المستعان .
التنبيه الثالث :
أن الشخص قد يقرأ في بعض السير ـ وأعني بذلك سير التابعين ومن بعدهم ـ أخباراً عن أحوال وأقوال زائدة عن الأحوال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم ،فبالإضافة إلى ما سبق من التنبيهين السابقين :[وهما : التثبت في النقل ،والتماس العذر لمن ثبتت عنه المخالفة ] فلا بد من الوقوف مع هذه المسألة لكثرة ما يعرض لقراء السير من ذل .
وأكتفي في التنبيه على هذه القضية بذكر كلام متين لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في الفتاوى" 11/13-14 حينما تكلم عن بعض الأحوال التي تذكر عن بعض الصالحين من الزهاد والعباد والتي وقع فيها زيادة في العبادة والأحوال ،قال ـ رحمه الله تعالى ـ :
" وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة ،وأمثال ذلك ،قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم ،وعلى ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور توجب أن يصير الناس على طرفين :
قومٌ يذمون هؤلاء وينتقدونهم وربما أسرفوا في ذلك ، وقومٌ يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها ،والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون ... إلى أن قال : والصواب للمسلم : أن يعلم أن خير الكلام كلام الله ،وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ،وخير القرون القرن الذي بُعث فيهم ، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه ،ويُعْلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم ،كما قال تعالى : "فاتقوا الله ما استطعتم " وقال - صلى الله عليه وسلم - :"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ،وقال تعالى :" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وإن كثيرا من المؤمنين ـ المتقين أولياء الله ـ قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة ،فيتقي الله ما استطاع ،ويطيعه بحسب اجتهاده ،فلا بد أن يصدر منه خطأ : إما في علومه وأقواله ،وإما في أعماله وأحواله ،ويثابون على طاعتهم ،ويُغفر لهم خطاياهم ،فإن الله تعالى قال : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ،كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ...إلى قوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال الله تعالى : قد فعلت ،فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع ، ومن جعل كل مجتهد في طاعةٍ أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا ،فهو مخطئ ضال مبتدع ..." .
ولعلي أضرب لذلك مثلاً يمر كثيرا بقراء بعض سير العباد ،فمثلاً : قد يقرأ أحدنا في ترجمة رجلٍ ما : أنه كان يقوم الليل كله ، أو كان يختم القرآن كل يوم ، أو كان يصوم الدهر ،فإذا عرضنا هذه الأعمال على السنة وجدنا بعضها مخالف صراحةً للسنة كقيام الليل كله كما قالت عائشة رضي الله عنها ،وبعضها الراجح فيها من حيث الدليل ـ أيضا ـ أنها مخالفة للسنة كختم القرآن في أقل من ثلاث ، أو صيام الدهر .
التنبيه الرابع :
أنه ينبغي ـ بعد التثبت ـ من صحة ما قرأ ، أن يسأل عن سبب هذا النقد ؛ أو ذاك الذم ، فقد يكون الدافع لذلك النقد الذي وُجِّه إلى ذلك الشخص هو الحسد ، أو هو من قبيل التنافس بين الأقران ، وما أعظم أثر هذا السبب !!!
ولهذا لما أورد الحافظ الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ بعض الحكايات وكلام الأقران بعضهم في بعض في كتابه " سير أعلام النبلاء " قال ـ رحمه الله تعالى ـ : 5/275 : " كلام الأقران يطوى ولا يروى ، فإن ذُكر ، تأمله المحدّث فإن وجد له متابعا وإلا أعرض عنه " وقال مرةً (10/92) : " كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية ، لا يلتفت إليه ، بل يطوى ولا يروى ..." ا.هـ .
والإنسان بشر ، يغضب وتعتريه حِدّة نفَس ،ويغلط في بعض الأحيان ، فتصدر منه بعض الكلمات التي قد يتراجع عنها فيما بعد .
وقد يكون ذلك النقد وهماً من أحد النقاد بحيث يريد شخصا فيقع النقد على آخر ، وهذا كثير في كتب الرجال والتراجم .
ومن الأمثلة على ذلك ـ وهو محل تأمل ـ أن ابن حبان جزم في أن النسائي أنما تكلم في أحمد بن صالح الشمومي ، لا في أحمد بن صالح المصري الإمام الحافظ المشهور ـ كما في التقريب(48) ـ وهذا مبحث معروف عند أهل العلم ، وهو مبحث : الرواة الذين يقع الاشتباه في أسمائهم ، ولا يكاد يسلم من الوهم فيه إمام من الأئمة ، رحمة الله على الجميع .
التنبيه الخامس :(/2)
أن ما ذكر من التنبيهات ،ينبغي ألا يحدث ردة فعل عكسية ،بحيث يبدأ الإنسان لا يقبل ثناءً ولا مدحا قيل في فلان إلا بعد التثبت والنظر ، كلا ، فجانب المدح والثناء على الشخص الأمر فيه أسهل ، والخطب فيه أيسر ، اللهم إلا إذا ترتب على توثيقه وتعديله أثراً في الحكم على الأحاديث النبوية ، فهنا يأتي مجال الجرح والتعديل لرواة الحديث النبوي ، ولهذا الميدان رجاله وفرسانه .
أما إذا كان المدح والثناء على شخص بكثرة التعبد ، وبالزهد ،وببر الوالدين ، وصلة الأرحام ، فلا حاجة هنا للبحث والتفتيش ، إذْ الأصل في المسلم عموماً هو الخير والصلاح ، فكيف إذا نقل هذا عن أهل علم وفضل وصلاح ؟! .
وعلى كل حال : فإن الإنسان إذا اشتهر فضله ،وذاع في الخير صيته ، وعُرِف صلاحه عند صلحاء الأمة ، كان ذلك برهانا على صلاحه ،وأمر السرائر إلى الله تعالى ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما في الصحيحين ـ من حديث أنس – رصي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم شهداء الله في الأرض ،أنتم شهداء الله في الأرض ،أنتم شهداء الله في الأرض " .
التنبيه السادس والأخير :
يقف بعض قراء السير على مواقف لبعض السلف – رضوان الله عليهم ـ ، سواء كان ذلك الموقف في التعامل مع الأهل ، أو مع الوالدين ، أو مع الأصحاب ، أو حتى مع السلاطين والحكام ، فيتخذ من ذلك الموقف أو تلك القصة منهجا يتعامل به ، وقد يكون ذلك الموقف غير صحيح من الناحية الشرعية ،وهو إما اجتهاد مرجوح ، أو غلط صدر منه وهو معذور فيه ، لكنه لا يتابع عليه .
ومكمن الخطأ الذي قد يقع فيه البعض هنا ، أنه يبدأ يتحاكم إلى هذا الموقف ، فيصوب ما وافقه ، ويخطّئ ما خالفه ،وأشد من ذلك أن يجعل هذا الفعل منهجاً ،فيقول : منهج السلف هكذا ، وهذه طريقة السلف ، وهو حينما يتحدث ، ربما ليس في ذهنه إلا هذا المثال ،مع أنه قد يتبين من خلال البحث أن ذلك الإمام مخالف من قِبَل آخرين من ممن شهدت لهم الأمة بالإمامة .
إن من الخطأ البين أن يختصر منهج السلف كله في منهج رجل أو رجلين ، أصاب أو أخطأ !! إن منهج السلف – رضوان الله عليهم ـ يتشكل من النظر في سيرة عشرات بل مئات من الأئمة الذين عاشوا في تلك الحقبة المباركة من عمر هذه الأمة ، فبمجموع ما ينقل عنهم ويُسْتقرأ من أحوالهم ـ إما كلُهم أو أغلبُهم على الأقل ـ يمكن أن يصف الإنسان ذلك المنهج بأنه منهج السلف أو بعبارة أدق : منهج كثير من السلف .
ومما ينبغي التنبه له أيضاً ، معرفة منازل أولئك الأئمة ،ومقدار بلائهم في الدين ، علما وعملاً ودعوة ،ولكل منهم قدره وفضله ،لكن : " ولكل درجات مما عملوا " .
هذا ما أحببت الإشارة إليه في هذه العجالة ، وفي اعتقادي أن الموضوع يحتاج إلى بسط ومزيد أمثلة ، ولعل فيما تقدم تنبيه على ما لم يذكر ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/3)
تنبيهات وفروقات ينبغي مراعاتها عند معالجة الأخطاء
يتناول الدرس بعض الضوابط والتنبيهات الهامة التي يجب معرفتها ومراعاتها عند الحديث عن الأخطاء ومعالجتها، حتى لا يتسبب ذلك في إيقاع فتنة وشر أكثر من الخطأ التي يطلب الشخص تغييره.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين معلّم الخلق المبعوث رحمة للعالمين، وبعد،،،
1- الإخلاص لله:يجب أن يكون القصد عند القيام بتصحيح الأخطاء إرادة وجه الله تعالى، وليس التعالي، ولا التشفي، ولا السعي لنيل استحسان المخلوقين، فعن شُفَيٍّ الأَصْبَحِيّ أنه دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلا قُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَبِحَقٍّ لَمَا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلْتُهُ وَعَلِمْتُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً [ أي شهق حتى كاد أن يغمى عليه ] فَمَكَثَ قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ أَفْعَلُ لأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ فَأَسْنَدْتُهُ عَلَيَّ طَوِيلا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ يَقْتَتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ]ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: [يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه مسلم والترمذي واللفظ له، والنسائي وأحمد . وإذا صدقت النية من الناصح حصل الأجر والتأثير والقبول بإذن الله .(/1)
2- الخطأ من طبيعة البشر:لقوله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ] رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد . ووضوح هذه الحقيقة واستحضارها يضع الأمور في إطارها الصحيح، فلا يفترض المربي المثالية أو العصمة في الأشخاص، ثم يحاسبهم بناء عليها، أو يحكم عليهم بالفشل إذا كبُر الخطأ أو تكرر . بل يعاملهم معاملة واقعية صادرة عن معرفة بطبيعة النفس البشرية المتأثرة بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنسيان . وهذه الحقيقة أيضا تفيد في منع فقدان التوازن نتيجة المباغتة بحصول الخطأ مما يؤدي إلى ردات فعل غير حميدة .
وإدراك هذه الحقيقة فيه كذلك: تذكير للداعية والمربي، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر بأنه بشر من البشر يمكن أن يقع فيما وقع فيه المخطئ، فيعامله من شقّ الرحمة أكثر مما يعامله من شقّ القسوة؛ لأن المقصود أصلا هو الاستصلاح لا المعاقبة ... ولكن كل ما سبق لا يعني أن نترك المخطئين في حالهم، ونعتذر عن العصاة وأرباب الكبائر بأنهم بشر، أو أنهم مراهقون، أو أن عصرهم مليء بالفتن والمغريات... وغير ذلك من التبريرات، بل ينبغي الإنكار والمحاسبة، ولكن بميزان الشرع .
3- أن تكون التخطئة مبنية على الدليل الشرعي مقترنة بالبينة وليست صادرة عن جهل أو أمر مزاجي: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ ؟ فَقَالَ:[ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ]رواه البخاري. قال ابن حجر رحمه الله: المراد بقوله أحمق هنا أي جاهل...والغرض: بيان جواز الصلاة في الثوب الواحد ولو كانت الصلاة في الثوبين أفضل، فكأنه قال: صنعته عمدا لبيان الجواز إما ليقتدي بي الجاهل ابتداء أو يُنكر عليّ فأعلّمه أن ذلك جائز، وإنما أغلظ لهم في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثّهم على البحث في الأمور الشرعية.
4- كلما كان الخطأ أعظم كان الاعتناء بتصحيحه أشد:فالعناية بتصحيح الأخطاء المتعلقة بالمعتقد ينبغي أن تكون أعظم من تلك المتعلقة بالآداب مثلا وهكذا، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم غاية الاهتمام بتتبع وتصحيح الأخطاء المتعلقة بالشرك بجميع أنواعه؛ لأنه أخطر ما يكون، وفيما يلي أمثلة:
1- عن الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَة قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ] رواه البخاري ومسلم وأحمد .
2- عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] رواه الترمذي وأحمد .
3- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ: قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: [هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك وأحمد .
4- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ: [جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلاً ؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ] رواه أحمد .(/2)
5- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلا فَلْيَصْمُتْ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد .
6- وعن أبي شريح هانئ بن يزيد قال: وفَد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال له: [ ما اسمك ؟] قال: عبد الحجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا، أنت عبد الله] رواه البخاري في الأدب المفرد وهو في صحيح الأدب المفرد .
5- اعتبار موقع الشخص الذي يقوم بتصحيح الخطأ: فبعض الناس يُتقبّل منهم مالا يُتقبل من غيرهم؛ لأن لهم مكانة ليست لغيرهم، أو لأن لهم سلطة على المخطئ ليست لغيرهم، ومن أمثلة هذا: الأب مع ابنه، والمدرّس مع تلميذه، والمحتسب مع من ينكر عليه، والإدراك لهذه الفروق يؤدي بالمُصلح إلى وضع الأمور في نصابها وتقدير الأمور حقّ قدرها، فلا يؤدي إنكاره أو تصحيحه إلى منكر أكبر أو خطأ أعظم، ومكانة المُنكِر وهيبته في نفس المخطئ مهمة في تقدير درجة الإنكار وضبط معيار الشدّة واللين، ومن هذا نستفيد أمرين:
أولاً : إن على من آتاه الله مكانة، أو سلطانا أن يسخّر ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الخلق، وأن يدرك أنّ مسئوليته عظيمة؛ لأن الناس يتقبّلون منه أكثر مما يتقبّلون من غيره ـ غالبا ـ ويتمكّن مما لا يتمكّن منه الآخرون .
ثانيا: إنّ على الآمر الناهي ألّا يُسيء التقدير، فيضع نفسه في موضع أعلى مما هو عليه، ويتصرّف بصفاتِ شخصية لا يملكها؛ لأن ذلك يؤدي إلى النفور والصدّ . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفيد مما أعطاه الله من المكانة والمهابة بين الخلق في إنكاره وتعليمه وربما أتى بشيء لو فعله غيره ما وقع الموقع المناسب، وفيما يلي مثال على ذلك: عن يَعِيشَ بْنِ طِهفَةَ الْغِفَارِيِّ عن أبيه قَالَ:ضفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تضيفه من المساكين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يتعاهد ضيفه فرآني منبطحا على بطني فركضني برجله وقال: [ لَا تَضْطَجِعْ هَذِهِ الضِّجْعَةَ فَإِنَّهَا ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ]وفي رواية: [فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَأَيْقَظَهُ فَقَالَ هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ]رواه والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد، وهو في صحيح الجامع . وإذا كان إنكاره صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة مناسبا لحاله ومكانته، فإنه ليس بمناسب لآحاد الناس، ولا يصلح لأي شخص يريد أن يُنكر على آخر نومه على بطنه أن يركضه برجله وهو نائم، فيوقظه، ثم يتوقّع أن يقبل منه ويشكره ... وقريب من هذا ضرب المخطئ أو رميه بشيء كالحصى ونحوه وقد فعل ذلك بعض السلف وكل ذلك يعود إلى مكانة المُنكِر وفيما يلي بعض القصص:
1- روى الدارمي رحمه الله عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلا يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ: [ مَنْ أَنْتَ ]قَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: [ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ ] فَجَعَلَ لَهُ ضَرْبًا حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي. رواه الدارمي
2- روى البخاري: أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ كَاتِبْهُ فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ:}فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [33]{ سورة النور.فَكَاتَبَهُ .(/3)
6- التفريق بين المخطئ الجاهل والمخطئ عن علم: ومن القصص الواضحة في هذا ما حدث لمعاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لما جاء إلى المدينة من البادية ولم يكن يدري عن تحريم الكلام في الصلاة قَالَ :بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ- أي أوشكت أن أردّ عليهم لكني تمالكت نفسي ولزمت السكوت- فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَ اللَّهِ مَا كَهَرَنِي- أي زجرني وعبس في وجهي- وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَال:َ[ إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءةُ الْقُرْآنِ] رواه مسلم وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد. فالجاهل يحتاج إلى تعليم وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان والغافل يحتاج إلى تذكير والمصرّ يحتاج إلى وعظ، فلا يسوغ أن يسوّى بين العالم بالحكم والجاهل به في المعاملة والإنكار، بل إن الشدة على الجاهل كثيرا ما تحمله على النفور ورفض الانقياد بخلاف ما لو علّمه أولا بالحكمة واللين؛ لأن الجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ، فلسان حاله يقول لمن يُنكر عليه: أفلا علمتني قبل أن تهاجمني .
وقد يُجانب المُخطئ الصواب وهو لا يشعر بل قد يظنّ نفسه مصيبا فيُراعى لأجل ذلك:فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَقَامَ وَقَدْ كَانَ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَانْتَهَرَنِي وَقَال: [َ وَرَاءَكَ فَسَاءَنِي وَاللَّهِ ذَلِكَ] ثُمَّ صَلَّى فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِ انْتِهَارُكَ إِيَّاهُ وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: [َ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي شَيْءٌ إِلا خَيْرٌ وَلَكِنْ أَتَانِي بِمَاءٍ لأَتَوَضَّأَ وَإِنَّمَا أَكَلْتُ طَعَامًا وَلَوْ فَعَلْتُهُ فَعَلَ ذَلِكَ النَّاسُ بَعْدِي] رواه أحمد . ويُلاحظ هنا: أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هؤلاء الصحابة الأجلاء لم تكن لتؤثر في نفوسهم تأثيرا سلبيا، فتحملهم على كره أو نفور بل إنها كانت تؤثر في نفوسهم تأثيرا إيجابيا، فيبقى الواحد منهم بعد تخطئته من النبي صلى الله عليه وسلم وجلا، مشفقا، متهما نفسه، يعيش في حرج عظيم لا يسرِّي عنه إلا أن يتأكد من رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه . ويُلاحظ في هذه القصة كذلك أن تخطئة النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة لم تكن غضبا من شخص المغيرة، ولكن شفقة على الناس وتبيينا لهم حتى لا يظنوا ما ليس بواجب واجبا فيقعوا في الحرج .
7- التفريق بين الخطأ الناتج عن اجتهاد صاحبه وبين خطأ العمد والتقصير: ولا شكّ أن الأول ليس بملوم بل إنه يؤجر أجرا واحدا إذا أخلص واجتهد لقوله صلى الله عليه وسلم: [إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِد] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد . وهذا بخلاف المخطئ عن عمد وتقصير، فلا يستويان، فالأول: يعلّم ويناصح، بخلاف الثاني، فإنه: يوعظ ويُنكر عليه .(/4)
ويجب أن يكون الاجتهاد الذي يُعذر به صاحبه اجتهادا سائغا، من شخص مؤهل: بخلاف من يفتي بغير علم، أولا يُراعي الأحوال؛ ولذلك اشتد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المخطئين في قصة صاحب الشجّة، فعن جَابِرٍ رضي الله عنه قَال:َ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَال:َ [ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ] رواه أبو داود، وحسنه الألباني،وأشار إلى ضعف الزيادة في آخره . وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن: [الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. فلم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثالث معذورا .
ومن الأمور التي تضبط درجة إنكار الخطأ مراعاة البيئة التي حصل فيها الخطأ: مثل انتشار السنة، أو البدعة، وكذلك مدى استشراء المنكر، أو وجود من يفتي بجوازه من الجهلة، أو المتساهلين ممن يراهم الناس شيئا .
8- إرادة المخطئ للخير لا تمنع من الإنكار عليه: فعن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: [ كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى بَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ قُلْنَا لا فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلا خَيْرًا قَالَ فَمَا هُوَ فَقَالَ إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ قَالَ رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ كَبِّرُوا مِائَةً فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً فَيَقُولُ هَلِّلُوا مِائَةً فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً وَيَقُولُ سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً قَالَ فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ قَالَ مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ قَالَ أَفَلا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ قَالَ فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ هَؤُلاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلالَةٍ قَالُوا وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلا الْخَيْرَ قَالَ وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا[ أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُم]ْ وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ ]رواه الدارمي وهو في الصحيحة 2005 .(/5)
9- العدل وعدم المحاباة في التنبيه على الأخطاء: قال الله تعالى: }وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [152]{ سورة الأنعام ، وقال: }وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [58]{ سورة النساء ولم يمنع كون أسامة بن زيد حبّ النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حبه؛ أن يشتدّ عليه في الإنكار حينما حاول أن يشفع في حدّ من حدود الله، فقد روت عَائِشَةُ رضي الله عنها: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ] فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَطَبَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: [ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ يَدُهَا] رواه البخاري ومسلم . وموقفه عليه الصلاة والسلام من أسامة رضي الله عنه دالّ على عدله، وأن الشرع عنده فوق محبة الأشخاص، والإنسان قد يسامح من يريد في الخطأ على شخصه، ولكن لا يملك أن يُسامح، أو يُحابي من يخطئ على الشرع . وبعض الناس إذا أخطأ قريبه أو صاحبه لم يكن إنكاره عليه مثل إنكاره على من لا يعرفه، وربما ظهر تحيز وتمييز غير شرعي في المعاملة بسبب ذلك، بل ربما تغاضى عن خطأ صاحبه وشددّ في خطأ غيره
وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة ولكنّ عين السُّخط تُبْدي المساويا
وهذا ينعكس على تفسير الأفعال أيضا، فقد يصدر الفعل من شخص محبوب، فيُحمل على محمل، ويصدر مثله من شخص آخر، فيُحمل على محمل آخر . وكل ما سبق مقيد بما إذا استوت الأحوال وإلا فقد يكون هناك تفاوت في الاعتبارات كما سيأتي ذكره .
10ـ الحذر من إصلاح خطأٍ يؤدي إلى خطأ أكبر: من المعلوم أن: من قواعد الشريعة تحمّل أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، فقد يسكت الداعي عن خطأ لئلا يؤدي الأمر إلى وقوع خطأ أعظم . لقد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ولم يقتلهم مع ثبوت كفرهم وصبر على أذاهم لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه خصوصا مع خفاء أمرهم. وقبل ذلك نهى الله تعالى عن سبّ آلهة المشركين مع أنه طاعة وقربة؛ إذ كان ذلك يؤدي إلى سب الله عز وجل وهو أعظم منكر . فقد يسكت الداعية عن منكر أو يؤجل الإنكار أو يغيّر الوسيلة إذا رأى في ذلك تلافيا لخطأ أو منكر أكبر، ولا يُعتبر ذلك تقصيرا، ولا تخاذلا مادام صادق النية، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الذي منعه مصلحة الدين لا الخور والجبن . ومما يُلاحظ أن من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في خطأ أكبر عند إنكار خطأ ما؛ هو الحماس غير المنضبط بالحكمة
11- إدراك الطبيعة التي نشأ عنها الخطأ: هناك بعض الأخطاء التي لا يمكن إزالتها بالكلية؛ لأمر يتعلق بأصل الخلقة، ولكن يمكن تقليلها والتخفيف منها؛ لأن التقويم النهائي يؤدي إلى كارثة كما هو الشأن في المرأة ؛ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاقُهَا] رواه البخاري ومسلم واللفظ له، والترمذي وأحمد . قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله:' كأن فيه رمزا إلى التقويم برفق بحيث لا يُبالغ فيه، فيكسر ولا يتركه، فيستمر على عوجه .. فيؤخذ منه: أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدّت ما طُبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب . وإنما المراد: أن يتركها عل اعوجاجها في الأمور المباحة . وفي الحديث: المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه: سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن؛ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتمّ إلا بالصبر عليها' .(/6)
12- التفريق بين الخطأ في حق الشرع والخطأ في حق الشخص: فإذا كان الدين أغلى عندنا من ذواتنا؛ وجب علينا أن ننتصر له ونحامي عنه، ونغضب له أكثر مما نغضب لأنفسنا وننتصر لها . وإن من ضعف الحمية الدينية أن ترى الشخص يغضب لنفسه إذا سبّه أحد، ولا يغضب لدين الله إذا اعتدى على جنابه أحد، أو تراه يدافع باستحياء وضعف . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسامح من أخطأ عليه كثيرا وخصوصا جُفاة الأعراب؛ تأليفا لقلوبهم فقد جاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . رواه البخاري ومسلم وأحمد . وأما إذا كان الخطأ على الدين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله تعالى، وستأتي أمثلة.
13- وهناك أمور أخرى تحتاج إلى مراعاة في باب التعامل مع الأخطاء مثل: التفريق بين الخطأ الكبير والخطأ الصغير، وقد فرقت الشريعة بين الكبائر والصغائر ... التفريق بين المخطئ صاحب السوابق في عمل الخير والماضي الحسن، الذي يتلاشى خطؤه، أو يكاد في بحر حسناته، وبين العاصي المسرف على نفسه، وكذلك: فإن صاحب السوابق الحسنة يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره ومما وقع للصديق في ذلك القصة التالية: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْنَا فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي وَكَانَتْ زِمَالَةُ [دابة السفر ] أَبِي بَكْرٍ وَزِمَالَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً مَعَ غُلامٍ لِأَبِي بَكْرٍ فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ فَطَلَعَ وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ قَالَ أَيْنَ بَعِيرُكَ قَالَ أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ قَالَ فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: [انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ ] قَالَ ابْنُ أَبِي رِزْمَةَ فَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَقُولَ : [انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ ] وَيَتَبَسَّمُ .رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني . التفريق بين من وقع منه الخطأ مرارا، وبين من وقع فيه لأول مرة ... التفريق بين من يتوالى منه حدوث الخطأ، وبين من يقع فيه على فترات متباعدة ... التفريق بين المجاهر بالخطأ والمستتر به. مراعاة من دينه رقيق ويحتاج إلى تأليف قلب، فلا يُغلظ عليه ... اعتبار حال المخطئ من جهة المكانة والسلطان، وهذه الاعتبارات التي مضى ذكرها لا تتعارض مع العدل المشار إليه آنفا
14- الإنكار على المخطئ الصغير بما يتناسب مع سنّه:فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ:[كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ] رواه البخاري ومسلم والدارمي وأحمد . وعن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل، فأخذ حفنة من ماء، فضرب بها وجهي، وقال: [وراءك أي لكاع] رواه الطبراني، وقال الهيثمي: إسناده حسن. وبهذا يتبين أن صِغَر الصغير لا يمنع من تصحيح خطئه بل ذلك من إحسان تربيته، وهذا مما ينطبع في ذاكرته، ويكون ذخيرة لمستقبله، فالحديث الأول: فيه تعليم الطفل الورع . والثاني: فيه تعليمه الأدب في الاستئذان، وعدم الاطّلاع على العورات.(/7)
ومن الشواهد الرائعة في هذا أيضا: قصة الغلام الصغير عمر بن أبي سلمة: فعنه رضي الله عنه قال:كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ] فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ . رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه ومالك وأحمد. نلحظ في هذه القصة: أن توجيهات النبي صلى اله عليه وسلم لذلك الغلام الذي أخطأ في تجوال يده في الطعام كانت قصيرة ومختصرة، وواضحة يسهل حفظها وفهمها، ولقد أثّرت في نفس الغلام طيلة عمره، فقال: [ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْد ُ].
15- الحذر عند الإنكار على النساء الأجنبيات:حتى لا يُفهم الإنكار فهما خاطئا، وحتى تؤمن الفتنة، فلا يُتساهل في كلام الشاب مع الفتاة الشابة بحجة بيان الخطأ أو الإنكار والتعليم، وكم جرّ هذا من مصائب، وينبغي أن يتاح في هذا المجال دور كبير لأهل الحسبة، ومن يقوم معهم بالإنكار من كبار السن . وعلى الآمر الناهي أن يعمل بما غلب على ظنه في جدوى الإنكار فإن غلب على ظنه النفع تكلم وإلا أحجم عن الكلام مع سفيهات ربما رمينه ببهتان وهنّ مصرّات على الباطل . ويبقى حال المجتمع ومكانة الآمر الناهي لها دور أساسي في نجاح عملية الإنكار أو التبليغ وإقامة الحجة وفيما يلي قصّة: عن مولى أَبِي رُهْمٍ وَاسْمُهُ عُبَيْدٌ أَنَّ: أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِيَ امْرَأَةً مُتَطَيِّبَةً تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَالَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ أَيْنَ تُرِيدِينَ قَالَتِ الْمَسْجِدَ قَالَ وَلَهُ تَطَيَّبْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:ُ[ أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ تُقْبَلْ لَهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِلَ] رواه ابن ماجه وأبوداود، وهو في صحيح ابن ماجه .
16- عدم الانشغال بتصحيح آثار الخطأ وترك معالجة أصل الخطأ وسببه .
17- عدم تضخيم الخطأ والمبالغة في تصويره
18- ترك التكلف والاعتساف في إثبات الخطأ وتجنّب الإصرار على انتزاع الاعتراف من المخطئ بخطئه .
19- إعطاء الوقت الكافي لتصحيح الخطأ خصوصا لمن درج عليه واعتاده زمانا طويلا من عمره هذا مع المتابعة والاستمرار في التنبيه والتصحيح .
20- تجنب إشعار المخطئ بأنه خصم ومراعاة أن كسب الأشخاص أهم من كسب المواقف .
كتاب:الأساليب النبوية في معالجة الأخطاء للشيخ/ محمد صالح المن(/8)
تنظيم الوقت من الإزاحة الى الإتاحة
إعداد: ياسر فاروق
2
بين أيدينا العناصر التالية:
- حقائق عن الوقت.
- قيمة الوقت.
الخطوة الأولى
هل أنت من هؤلاء ؟
- إدارة الوقت.
- دعامات البناء، ومعاول الهدم.
- نصائح عامة للتعامل مع الوقت.
الخطوة الثانية
3
1- هل أنت من هؤلاء ؟
تشعر بفقدان الاتجاه والبلبلة في حياتك وتنتقل من نشاطٍ إلى آخر بتلقائية وبطريقة ميكانيكية دون تفكير أو تخطيط.
تحدث نفسك قائلا: ”ليس لديَّ ذلك التوازن بين عملي وحياتي الخاصة ودعوتى، ويبدو أنه كلَّما أعطيت أحدهم وقتًا على حساب الآخر زادت الأمور سوءًا، وهناك الكثير من الأعمال المطلوب إنهاؤها، لكنها أعمال ملحة، ولكن أيها أختار؟ وكيف؟
4
تريد المزيد من الوقت
أنت باستمرار تدور حول نفسك ولا تجد الوقت الكافي لراحتك ومتعتك.
أنت دائمًا في مأزق لأنك تؤجل الأعمال.
رغم كل هذا الجهد فإنجازاتك ضعيفة
5
لكي لا تكون من هؤلاء.. تابع معنا هذا البرنامج.
6
الخطوة الأولى:
أدرك قيمة الوقت قبل أن تتعامل معه
7
- الوقت مورد محدود.
- استحالة تخزين الوقت.
- لا يمكن تعويضه.
- الوقت يمر مرَّ السحاب ويجري جري الريح.
- استغلال الوقت يزيد من قيمته.
1- حقائق عن الوقت
8
إذا أردت أن تدرك قيمة العام، فاسأل من رسب في الامتحانات.
2- قيمة الوقت
إذا أردت أن تعرف قيمة الشهر، فاسأل من رزقها الله بمولود ناقص النمو.
9
إذا أردت أن تعرف قيمة الأسبوع، فاسأل المحرر الذي يصدر جريدة أسبوعية.
وإذا أردت أن تعرف قيمة اليوم، فاسأل من ستنتهي عطلته الأسبوعية غدًا.
10
إذا أردت أن تعرف قيمة الدقيقة، فاسأل من فاته القطار.
وإذا أردت أن تعرف قيمة الثانية، فاسأل سائقًا نجا من حادث محقق.
11
إذا أردت أن تعرف قيمة الجزء من الثانية، فاسأل بطلا شارك في سباق المائة متر.
12
ومعنى ذلك أنك تستطيع إنجاز أعمال عديدة فى دقائق وثوانى وأجزاء من الثانية؛ ولهذا يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على قيمة الوقت فيقول: (لا تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن عمره فيما أفناه،..) رواه الترمذي
13
الخطوة الثانية :
ضع أسسًا لتعاملك
مع الوقت
14
3- تعرف على دعامات البناء ومعاول الهدم
دعامات البناء
1- تحديد رسالتك في الحياة.
2- تحقيق مفهوم التوازن في الحياة.
3- تطبيق قاعدة 80/20.
معاول الهدم
4- التسويف.
5- مضيعات الوقت.
15
من الضروري لكي تكون حريصًا على وقتك أن تحدد غايتك ورسالتك فى الحياة بصورة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وتظل هذه الغاية ماثلة أمام ناظريك لا تغيب عنك، ويساعدك على ذلك أن تضع غايتك هذه في عبارة بسيطة:
1- تحديد رسالتك في الحياة
دعامات البناء
غايتي في الحياة هي:
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
16
دعامات البناء
عندما أبلغ من العمر ( سنة )
أعمال أود تحقيقها
( تذكر دورك )
80
70
60
50
40
30
20
ويتبع هذا التحديد للغاية تحديد الأهداف المرحلية التي يساعد إنجازها على تحقيق الغاية التي يرجوها
أهدافي المرحلية:
17
2- تحقيق مفهوم التوازن في الحياة
هناك حاجات أساسية هامة في حياة الإنسان، وهذه الحاجات إن لم نشبعها لا نشعر بالراحة والاستقرار مثل:
الحاجات المادية
الحاجات الاجتماعية
الحاجات
العقلية
الحاجات الروحية
دعامات البناء
حاجات الإنسان بين الانفصال والتفاعل:
18
التوازن بين الحاجات بافتراض انفصالها
مادية
اجتماعية
عقلية
روحية
التوازن بين الحاجات
بافتراض تداخلها وتفاعلها
مادية
اجتماعية
عقلية
روحية
دعامات البناء
19
حقيقة التوازن
• ... إن الحاجات والأدوار المختلفة للداعية متداخلة إلى حد بعيد، بل هي بيئة متكاملة بحيث يؤثر كل دور في الآخر تلقائيًا.
• ... إذن التجزئة هي أساس عدم التوازن.
• ... إن التوازن ليس: إما هذا.. أو ذاك.
• ... بل التوازن هو: هذا.. بالإضافة إلى ذاك.
دعامات البناء
20
3- تطبيق قاعدة 80/20
* يطلق على قاعدة 80/20 قانون القلة القوية والكثرة الضعيفة
* 20% من الوسائل التي نتبعها تحقق 80% من النتائج التي
نحصل عليها، بينما لا تحقق الـ 80% الأخرى من الوسائل
إلا 20% فقط من النتائج.
أي أن هناك نوعًا من عدم التوازن بين الوسائل والنتائج أو بين المدخلات والمخرجات.
دعامات البناء
21
وذلك من خلال:
1) أن نعلم أن قاعدة 80/20 تنطبق علينا شئنا أم أبينا.
2) أننا مطالبون بتقليص الهدر في جهودنا ومواردنا وأوقاتنا بالتركيز على النتائج الهامة والوسائل الفعالة.
3) الاختيار الدقيق للأعمال التي تقع في فئة 20% وتلك التي تقع في فئة 80%.
4) الربط بين الوسائل والنتائج بأسلوب مبتكر وغير تقليدي.
5) التخلي عن الأعمال التي يستطيع غيرنا إنجازها بطريقة أفضل وبسرعة أكبر.
دعامات البناء(/1)
استفد من قاعدة 80/20 في إدارة الوقت
22
هو: أن تؤجل قيامك بمهامك الواجب عليك القيام بها، أو هو القيام بمهام ذات أولوية منخفضة بدلاً من إنجاز المهام ذات الأولوية العالية.
مخاطر التسويف
* من أكثر مضيعات الوقت خطورة.
* محبوب، قاتل.
* يخرج خطتك عن مسارها.
* يؤدي إلى تراكم الأعمال.
4- التسويف
معاول الهدم
23
1- حدد الأعمال التي تتجنب القيام بها وتؤجلها باستمرار ودوِّنها. 2- حدد الأعمال التي تقوم بها فى وقت الأعمال التي تتجنبها أو تتهرب من تنفيذها (حدد أساليبك التى تؤجل بها الأعمال المهمة).
3- ادرس الأسباب، واربط الأعمال بالمهمة والأهمية.
4- حفز نفسك وشجعها وكافئها على العمل.
5- ضع وقتا للانتهاء من كل مهمة.
6- قسم المهام الصعبة والكبيرة.
7- ابدأ الآن في العمل، لا تنتظر الإيحاء أو المزاج الملائم.
كيف تقضي على التسويف ؟
معاول الهدم
24
مضيعات الوقت البيئية:-
مضيعات الوقت الذاتية:-
الزوار- التليفونات- الاجتماعات واللجان- الانتظار- الطوارئ والمشكلات- التعامل مع الأوراق- الروتين والتعقيدات الإجرائية- الضوضاء، .....
الافتقار إلى التخطيط والتفويض- الفوضى- التسويف- عدم القدرة على الرفض- فقدان الرغبة والملل- الدردشة والثرثرة- الرغبة الزائدة في المثالية- حب الجدل،...
5 - مضيعات الوقت ما هى ؟
معاول الهدم
25
نصائح عامة
للتعامل مع الوقت
26
1- افهم دورك جيدًا واعرف ما هو المطلوب منك.
2- حدد أولويات لمهامك، وابدأ بالمهمة ذات الأولوية.
3- جهز قائمة بالأعمال التي تود أداءها في بداية اليوم، ودونها في ورقة واحدة بدلاً من عدة قصاصات.
27
4- أوجد مكانًا لكل شيء، واحفظ كل شيء في مكانه:
حتى لا يضيع جزء كبير من أوقاتنا في البحث عن أشياء موضوعة في مكان غير مكانها الصحيح.
5- ضع مواعيد نهائية للانتهاء من الأعمال.
6- تقسيم الأعمال الكبيرة:
قسمها إلى مراحل حتى تشعر بالإنجاز عند الانتهاء من كل مرحلة.
28
7- أنجز شيئًا كاملاً كل يوم:
حتى ولو كان صغيرا، فسوف يزيد من شعورك بالارتياح ويخفف من الإجهاد.
8- لا تقلق ولا تشتت ذهنك بالمهام القادمة:
فعدم القلق يحرر ذهنك ويجعلك تركز على المهمة الحالية.
9- ابحث دائما عن طرق لتحسين إدارتك الوقت:
لا ترض بالأمر الواقع.
29
10- استقطع وقتًا لتتزود فيه:
• ... خذ وقتا للتأمل أو التعبد أو الاسترخاء أو اللعب مع الأولاد.
11- طبق قاعدة 20% - 80%:
خصص الأوقات التي يكون مستوى طاقتك منخفضًا للأعمال الروتينية
واجعل أوقات ارتفاع طاقتك للمهام الهامة.
12- فوض:
لا تخش التفويض، ولكن اختر الشخص المناسب للمهمة المناسب واختر له مستوى التفويض المناسب.
30
13- افعل شيئًا منتجًا في أوقات الانتظار:
- اقرأ كتابا.
- خطط لمهام الغد.
- أجر اتصالا.
14- تدرج في تنفيذك للنصائح السابقة حتى يمكنك الالتزام بها.
31
أخيراً قم الآن و…..
1) حدد واحدًا من الأنشطة الهامة غير العاجلة التى لها تأثير إيجابي على حياتك واعزم أمرك على أن تفعلها بانتظام من الآن.
2) أعد جدولاً لتنظيم وقتك طبقًا لأدوارك الهامة والأهداف والنتائج التي تريد الحصول عليها من كل دور، ثم حدد الأوقات الملائمة للتنفيذ.
3) اكتب كشفًا بالأعمال والمهام التى يمكنك تفويضها، وحدد الأشخاص الذين يمكن الوثوق بهم، ثم دربهم على عمل هذه الأشياء(/2)
تنمية الثقافة لدى الفتاة المسلمة
إن العلم من الفروض الدينية الأساسية التي لا قيام لحياة الإنسان بدونها، وذلك لأن الإسلام لا يقوِّم حاجات المجتمع بضرورات المأكل والمشرب والمسكن فحسب، بل يهتم مع ذلك بالوسائل التهذيبية والمقومات الروحية والعقلية.
يقول عليه الصلاة والسلام: 'طلب العلم فريضة على كل مسلم'.[سنن ابن ماجه، المقدمة، رقم 220، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3913].
وهو نص يشمل الرجل والمرأة باتفاق علماء الإسلام، وقد جاء النص بصفة خطاب المذكر للتغليب.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم'. [أخرجه البخاري، كتاب/العتق، باب/كراهية التطاول على الرقيق].
والفتاة المسلمة اليوم هي أم المستقبل غدًا، ولكي تؤدي وظيفتها في الحياة من خلال وظيفة الأمومة والزوجية على الوجه الأكمل فرض الإسلام عليها العلم، وأوجب عليها أن تتعلم ما ينفعها في أمر دينها ودنياها.
التنشئة الفكرية لدى الفتاة المسلمة:
ونعني بالتنشئة الفكرية: تكوين فكر الفتاة بكل ما هو نافع من العلوم بمختلف ألوانها، والثقافة العلمية الحديثة التي تحتاج إليها, والتوعية الفكرية الحضارية حتى ينضج عقلها ويتكون علميًا وثقافيًا 'فتصبح لديها القدرة على التفكير السليم والمستقل'.
ونعني بها أيضًا: 'تثقيف الطفلة بألوان المعارف والعلوم التي تجعلها عزيزة في حياتها، شديدة الصلة بربها، بصيرة بشئون الدين والدنيا'.
والتاريخ الإسلامي يزخر بالعالمات والمثقفات من مفسرات وفقيهات وطبيبات وشاعرات. وليس أدل على ذلك من السيدة عائشة رضي الله عنها التي روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفين ومائتي وعشرة أحاديث.
ولقد تعددت وسائل العلم والمعرفة وتنوعت في العصر الحديث، إما مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية، ومع كثرة هذه الينابيع تبقى القراءة هي الركن الأساسي في تنمية الدافع الثقافي والفكري.
ولكن مما يؤسف له، أن بعض الشباب في العصر الحاضر قد هجروا القراءة المثمرة ومالوا إلى وسائل الإعلام وخاصة البرامج ذات الطابع الترفيهي والترويحي، فبقي الشباب دون ثقافة تبني شخصيتهم.
وهناك أسباب لعزوف الشباب عن القراءة الهادفة يمكن إجمالها فيما يلي:
1ـ عدم إدراك الشباب والفتيات للمغزى والهدف من القراءة، وأنها الوسيلة المثلى لتنمية قواهم العقلية وتلبية حاجاتهم النفسية وإشباع الحاجة النفسية للاطلاع والمعرفة.
2ـ عدم غرس هذه العادة الطيبة في نفوسهم منذ الصغر وهي مثل كل عادة حميدة ينبغي غرسها ورعايتها من الصغر.
3ـ وجود هذا الكم الهائل من المؤلفات التي غزت المكتبات فأصبح المرء يقف حائرًا ماذا يقرأ ؟ وماذا يختار ؟
قد يبتعد الشباب عن القراءة نظرًا لما يلقاه من عناء ومشقة في قراءة الكتب المدرسية مما يولد كرهًا للقراءة عند بعضهم، لما في هذه الكتب من حشد من المعلومات التي لا طائل من تحتها إلا القليل, وقد يكون للرفقة والقرناء دور في ذلك إذا كانوا لا يحبون القراءة ويسخرون من الشخص القارئ.
فما الحل إذن؟
هناك عدد من الحلول التي قد تكون ناجحة ومساعدة للوالدين في ترسيخ حب القراءة في نفس المراهقة:
1ـ أن يحثها الوالدان على أن تجعل نية القراءة خالصة لله تعالى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى' والنية هنا هي القراءة المفيدة ونشر دين الله عز وجل, وأن تدعو الله بقلب خالص أن يوفقها لطلب العلم وحب القراءة.
2ـ أن يُعرفاها بالقيمة الفعلية للقراءة، ويحثانها على تذوق القراءة والاستمتاع بها ويوضحا لها أن الكتاب صديق لا يُمل، ورفيق يؤنس ويسلي.
3ـ أن يُتيحا لها فرصة أن تقرأ ما تميل إليه نفسها، وأن يعوداها على اختيار الوقت المناسب للقراءة والمكان المناسب البعيد عن مصادر الضوضاء لأن الأصوات تؤدي إلى اضطراب الفكر، وأن تكون الإضاءة صحية بحيث لا تتعب النظر عند القراءة.
4ـ يوضحان لها أن من أسباب النسيان عدم التلخيص والتدوين، ويذكران لها بعض فوائد التلخيص ومنها:
فهم الإطار العام الذي يتحدث عنه الكتاب وذلك بكتابة الأفكار الرئيسة، وتثبيت الأسماء والمعلومات لديها، وتعويدها الكتابة، وصقل علقها عن طريق الترتيب والتنظيم، واقتباس الكلمات التي تحب أن تختارها.
5ـ أن يرغبها الوالدان في تحديث الآخرين بما تقرأ, وهذا يُثبِّت لديها المعلومات، ويفيد المستمع، ويقفل باب الغيبة، ويصقل لسانها ويدربها على حسن الإلقاء، ويعودها التحدث باللغة العربية.
6ـ يحرص الوالدان على التدرج مع الفتاة من السهل إلى الصعب ويعرفاها بهمة السلف في القراءة وأن العلم لم يصل إلى ما وصل إليه دون عناء أو جهد وأن هناك أناسًا جابوا البحار والقفار بحثًا عن العلم.
7ـ أن يتيحا لها فرصة تنويع مصادر الثقافة؛ لأن ذلك يجدد من نشاطها، ويصقل عقلها وخاصة قراءة الكتب الإسلامية التي تساعد على البناء الفكري.(/1)
وعلى الوالدين تقع مسئولية توجيه المراهقة لقراءة المجلات والجرائد المفيدة والابتعاد عن المجلات اللاأخلاقية [المجلات الفنية] أو المجلات الفكرية المنحرفة التي تخدم تيارات مشبوهة.
وأخيرًا تأتي فكرة إنشاء مكتبة خاصة للفتاة وتعرُّفها على مكتبة والديها ـ إن وجدت ـ هي خطوة لا بأس بها في السير نحو طريق الشخصية الأدبية والثقافية.
كيف السبيل إلى توعية الفتاة فكريًا؟
توعية الفتاة فكريًا يتصل بعدة وجوه منها: التلقين الواعي، والقدوة الواعية، والمطالعة الواعية، والرفقة الواعية.
1ـ التلقين الواعي:
يكون بتلقين الوالدين الفتاة مبادئ الفكر والمعرفة ومن أهمها أن الإسلام صالح لكل الأزمنة والأمكنة، ولما يمتاز به من مقومات الشمول، والخلود، والتجديد، والاستمرار , وأن الآباء الأولين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من عز وقوة، وحضارة إلا بفضل اعتزازهم بالإسلام.
وأن يُكشف لها عن المخططات التي يرسمها أعداء الإسلام لطمس معالم الإسلام في كل أرجاء المجتمعات التي ينتمي أهلها إلى الإسلام , وأن يذكراها بأن أمة الإسلام لن تستعيد مكانتها إلا حين تتخذ الإسلام منهاجًا وتشريعًا، وأن المستقبل للإسلام مهما تآمر الأعداء , والتفاؤل بالنصر هو مقدمة النصر، وأن القوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع أجيالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة.
2ـ القدرة الواعية:
والمقصود بها أن يكون الأبوان مخلصين، واعيين، فاهمين للإسلام، يعطيان الفتاة الإسلام بوصفه منهاجًا شاملاً عامًا، وارتباط الفتاة بالقدوة الواعية يجعلها تتربى على التقوى والإيمان وأيضًا الجرأة في الحق.
3ـ المطالعة الواعية:
فظاهرة حب الاستطلاع تعد نوعًا من الدافعية الذاتية والحاجة النفسية, وتظهر هذه الحاجة واضحة في سلوك المراهقين عندما يستطلعون، أو يسألون، أو يغامرون. وتتطلب هذه الظاهرة الإشباع والتوجيه والاستثمار.
فتوجّه المراهقة إلى اقتناء الكتب، والقصص، والصحف، والمجلات لإشباع حاجة حب الاستطلاع والمغامرة والاكتشاف لديها, لذلك كان لابد للوالدين من العناية بحاجة المراهقة إلى الاستطلاع، وذلك بتهيئة مكتبة منزلية للفتاة والاهتمام بها اهتمامهما بالطعام والشراب، ويراعيان أن تحتوي على مواد تهم الفتاة وتناسب ميولها في هذه المرحلة.
4ـ الرفقة الواعية:
على الأم أن تهيئ لابنتها رفيقات صالحات، مأمونات، متميزات عن غيرهن بالفهم الإسلامي الناضج، والوعي الفكري، والثقافة الإسلامية، كما تحثها على اختيار مثل هؤلاء الرفيقات والاقتران بهن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل'.[أخرجه الترمذي، كتاب الزهد، رقم2300]
وبعد فهذه هي بعض الملامح لتكوين العقلية الفكرية والثقافية لدى الفتاة، التي هي مصنع القادة، ولابد أن نعلم أن السلوك هو مرآة الفكر، والأمة كي تكون قوية لابد أن تكون لديها معرفة؛ لأن القاعدة تقول: بناء المعرفة ومن ثم بناء القوة. وهذه المعرفة لابد أن تتكون في البيوت مع اللبن الذي تُرضعه الأم لأبنائها.
وإلى لقاء قريب لكم منا التحية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
تنمية المعرفة ضرورة حيوية
مفكرة الإسلام : لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل دينًا أو فلسفة أو مذهبًا، أعطى كل هذا القدر من الاهتمام والاحترام لمسألة العلم كدين الإسلام.
إن الإنسان لا يكتمل ولا يترقى في مدارج الإنسانية إلا بمقدار ما يتعلمه، وما يستفيده من أنواع الإدراك والخبرة في جوانب الوجود المختلفة.
إن المعرفة هي السبيل الأكثر نجاحًا اليوم لاكتساب منظور واسع للقضايا المختلفة، من خلال إدراك خصائص الشئون المختلفة وعلاقاتها.
إننا نرى اليوم بأم أعيننا أن الذين بأيديهم نواحي المعرفة هم أكثر الناس قدرة على التصرف في الطبيعة، وأعظم قدرة على إبداع النماذج وتطويرها، فقد استطاع العلماء أن يصنعوا من عناصر الأرض التي تزيد على المائة أكثر من مليوني نوع من المصنوعات.
إن من المؤسف حقًا أن تتحول أمة العلم والبحث والتجربة إلى أمة تغلب عليها الأمية الهجائية، والأمية الثقافية، وأن تحتاج إلى من يشرح لها مدى حاجتها إلى العلم مع أنها تتلو كتاب ربها الذي يمجد العلم في كل آن.
إن العلم من الفروض الدينية الأساسية التي لا قيام لحياة الإنسان بدونها، وذلك لأن الإسلام لا يقوم حاجات المجتمع بضرورات المأكل والمشرب والمسكن فحسب، بل يهتم ـ مع ذلك ـ بالوسائل التهذيبية والمقومات الروحية والعقلية.
يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : 'طلب العلم فريضة على كل مسلم'.
[سنن ابن ماجه، المقدمة، رقم 220، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم 3913].
وهو نص يشمل الرجل والمرأة باتفاق علماء الإسلام، وقد جاء النص بصفة خطاب المذكر للتغليب.
ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ 'والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم'.
[أخرجه البخاري، كتاب العتق، ب/ كراهية التطاول على الرقيق].
والفتاة المسلمة اليوم هي أم المستقبل غدًا، ولكي تؤدي وظيفتها في الحياة من خلال وظيفتي الأمومة والزوجية على الوجه الأكمل فرض الإسلام عليها العلم، وأوجب عليها أن تتعلم ما ينفعها في أمر دينها ودنياها.
التنشئة الفكرية والثقافية لدى الفتاة المسلمة:
ـ ونعني بالتنشئة الفكرية 'تكوين فكر الفتاة بكل ما هو نافع من العلوم بمختلف ألوانها، والثقافة العلمية الحديثة التي تحتاج إليها، والتوعية الفكرية والحضارية حتى ينضج عقلها، ويتكون علميًا وثقافيًا، فتصبح لديها القدرة على التفكير السليم والمستقل.
ـ ونعني بها أيضًا: 'تثقيف الطفلة بأنواع المعارف والعلوم التي تجعلها عزيزة في حياتها، شديدة الصلة بربها، بصيرة بشئون الدين والدنيا'.
ـ والتاريخ الإسلامي يزخر بالعالمات والمثقفات من مفسرات وفقيهات وطبيبات وشاعرات. وليس أدل على ذلك من السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ التي روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة أحاديث ومائتين وألفين حديث.
* ولقد تعددت وسائل العلم والمعرفة وتنوعت في العصر الحديث، إما مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية، ومع كثرة هذه الينابيع تبقى القراءة هي الركن الأساسي في تنمية الدافع الثقافي والفكري.
ـ ولكن مما يؤسف له أن بعض الشباب في العصر الحاضر قد هجروا القراءة المثمرة ومالوا إلى وسائل الإعلام وخاصة البرامج ذات الطابع الترفيهي والترويحي، فبقي الشباب دون ثقافة تبني شخصيتهم.
وهناك أسباب لعزوف الشباب عن القراءة الهادفة يمكن إجمالها فيما يلي:
1ـ عدم إدراك الشباب والفتيات للمغزى والهدف من القراءة، وأنها هي الوسيلة المثلى لتنمية قواهم العقلية وتلبية حاجاتهم النفسية وإشباع الحاجة النفسية للإطلاع والمعرفة.
2ـ عدم غرس هذه العادة الطيبة في نفوسهم منذ الصغر. وهي مثل كل عادة حميدة ينبغي غرسها ورعايتها من الصغر.
3ـ وجود هذا الكم الهائل من المؤلفات التي غزت المكتبات فأصبح المرء يقف حائرًا ماذا يقرأ؟ وماذا يختار؟
* قد يبتعد الشباب عن القراءة نظرًا لما يلقاه من عناء ومشقة في قراءة الكتب المدرسية مما يولد كرهًا للقراءة عند بعضهم، لما في هذه الكتب من حشو من المعلومات التي لا طائل من تحتها إلا قليلاً.
ـ قد يكون للرفقة والقرناء دور في ذلك إذا كانوا لا يحبون القراءة ويسخرون من الشخص القارئ.
فما الحل إذن؟
هناك عدد من الحلول التي قد تكون ناجحة ومساعدة للوالدين في ترسيخ حب القراءة في نفس المراهقة:
1ـ أن يحثها الوالدان على أن تجعل نية القراءة خالصة لله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: 'إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى'.
والنية هنا هي القراءة المفيدة ونشر دين الله عز وجل.
وأن تدعو الله بقلب خالص أن يوفقها لطلب العلم وحب القراءة.
2ـ أن يعرفاها بالقيمة الفعلية للقراءة، ويحثانها على تذوق القراءة والاستمتاع بها ويوضحان لها أن الكتاب صديق لا يمل، ورفيق يؤنس ويسلي.(/1)
3ـ أن يتيحا لها فرصة أن تقرأ ما تميل إليه نفسها، وأن يعوداها على اختيار الوقت المناسب للقراءة والمكان المناسب البعيد عن مصادر الضوضاء لأن الأصوات تؤدي إلى اضطراب الفكر، وأن تكون الإضاءة صحيحة بحيث لا تتعب النظر عند القراءة.
4ـ يوضحان لها أن من أسباب النسيان عدم التخلص والتدوين، ويذكران لها بعض فوائد التلخيص ومنها:
فهم الإطار العام الذي تحدث عنه الكتاب وذلك بكتابة الأفكار الرئيسية، وتثبيت الأسماء والمعلومات لديها، وتعويدها الكتابة، وصقل عقلها عن طريق الترتيب والتنظيم، واقتباس الكلمات التي تحب أن تختارها.
5ـ أن يرغبها الوالدان في تحديث الآخرين بما يقرأ، وهذا يثبت لديها المعلومات، ويفيد المستمع، ويقفل باب الغيبة، ويصقل لسانها ويدربها على حسن الإلقاء، ويعودها التحدث باللغة العربية.
6ـ يحرص الوالدان على التدرج مع الفتاة من السهل إلى الصعب، ويعرفاها بهمة السلف في القراءة وأن العلم لم يصل إلى ما وصل إليه دون عناء أو جهد، وأن هناك أناسًا جابوا البحار والقفار بحثًا عن العلم.
7ـ أن يتيحا لها فرصة تنويع مصادر الثقافة، لأن ذلك يجدد من نشاطه، ويصقل عقلها. وخاصة قراءة الكتب الإسلامية التي تساعد على البناء الفكري.
وعلى الوالدين تقع مسئولية توجيه المراهقة لقراءة المجلات والجرائد المفيدة والابتعاد عن المجلات 'اللاأخلاقية [مثل المجلات الفنية]، أو المجلات الفكرية المنحرفة التي تخدم تيارات مشبوهة.
وأخيرًا تأتي فكرة إنشاء مكتبة خاصة للفتاة، وتعرفها على مكتبة والديها إن وجدت هي خطوة لا بأس بها في السير نحو طريق الشخصية الأدبية والثقافية.
* فهذه هي بعض الملامح لتكوين العقلية الفكرية والثقافة لدى الفتاة، التي هي مصنع القادة. ولا بد أن نعلم أن السلوك هو مرآة الفكر، والأمة كي تكون قوية لا بد أن يكون لديها معرفة، لأن القاعدة تقول ببناء المعرفة ومن ثم بناء القوة، وهذه المعرفة لا بد أن تتكون في البيوت مع اللبن الذي ترضعه الأم لأبنائ(/2)
تهزّ المهد فتهزّ العالم [1] هل أنت أم ناجحة؟
مفكرة الإسلام: 'فتش عن المرأة'، 'وراء كل عظيم امرأة'، 'إن التي تهزّ المهد بيمينها تهزّ العالم بشمالها'.
عبارات وأقوال أُطلقت عن المرأة والأم، ولكن علامَ تدل هذه العبارات؟!
إنها أقوال تشير وتجسّد أثر المرأة والأم في نجاح الزوج والأولاد في حياتهم..
عزيزتي الأم القارئة:
هل يمكن أن تهزّ الأم المهد بيمينها فتهز العالم بشمالها كما يقولون؟!
هل هذا مستحيل أم من الصعوبة بمكان؟!
وما دور الأم في حياة أبنائها؟!
وكيف هيأها الله للقيام بهذا الدور؟!
وهل عندنا أمثلة تجسد لنا عظمة الأم وأثرها الواضح في حياة أبنائها؟!
هذا ما سنعرفه في هذا المقال إن شاء الله. وفي هذا الملف سنطرح موضوعات مهمة؛ منها: الأمومة الإيجابية, وكيف تحقق الأم الصحة النفسية لأبنائها لتكون بالتالي عنصرًا أساسيًا في نجاحهم في حياتهم.
تابعي معنا عزيزتي الأم هذه السلسلة المتميزة من 'هل أنت أم ناجحة؟!'
والآن فلنبدأ معًا بهذا المشهد..
وظيفتي أم:
في لقاء صحفي مع زوجة أرنولد الممثل الأمريكي الشهير سألت المذيعة الزوجة: ما وظيفتك التي تشتغلين بها؟!
وكان هذا الجواب العجيب من الزوجة: وظيفتي أم.. ونحن على الخط الأمامي للبشرية 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع لخلق جيل جديد, وهذه هي قوة المرأة. فهل تستطيع فعل ذلك أنت أيها الرجل؟! 'انتهي الحوار'
ومن العجيب أن يشهد شاهد من أهلها أن المرأة دورها الأساسي والأول ووظيفتها أن تكون أمًا، فهل وعيتم الدرس أيها المستغربون؟!
إنها مهيأة لذلك:
إن للأم وظيفة مهمة في التربية النفسية للطفل الصغير خاصة؛ إذ إن بناءها الجسمي والنفسي مهيأ لتحمل أعباء التربية والحضانة والاعتناء بالطفل، فلا يستطيع الرجل أن يسد مكان الأم ودورها في التربية، وأقرب مثل لهذا الموضوع ما يُشاهد في عالم الحيوان؛ إذ ينتهي دور الذكر بالتلقيح في معظم الحيوانات، أما الأم فلا ينتهي عملها ووظيفتها التربوية حتى يكتمل البناء الجسمي للصغير، ويصبح معتمدًا على نفسه في جميع شئونه.
أما في الإنسان؛ فالقضية أعمق من ذلك؛ نظرًا لوجود عامل العقل والتفكير, فإن رعاية الأم للطفل يأخذ سنوات طويلة غير الحيوانات التي قد تستغرق عامًا أو أقل.
فالطفل يولد وهو كائن في غاية الضعف، فهو أضعف الكائنات جميعًا؛ إذ يحتاج إلى رعاية تستغرق سنوات طويلة حتى يصل إلى مرحلة يستطيع أن يعتمد فيها على نفسه، فمن الثابت علمياً أن طفولة الفرد الإنساني أطول من طفولة أي كائن آخر.
والطفل يظل في رعاية الأم منذ الولادة حتى 6 سنوات, ثم يدخل بعد ذلك عنصر الأسرة والمدرسة وتأثير المجتمع من 6 – 12 سنة, وتستمر في مرحلة المراهقة إلى أن يكتمل نضجه ونموه النفسي والجسمي.
وما هو دور الأم؟!
الأم لها عدة وظائف تجاه الطفل منها:
1-وظيفة الرعاية.
2- وظيفة الحماية.
3- الوظيفة التربوية والتدريب والبرمجة.
4- وظيفة الإشباع النفسي والعاطفي.
وبهذا لا يمكن إغفال دور الأم الكبير، إلا أن نصيبها أوفر وأهم من الرجل؛ لأن الأم هي التي حملت ثم وضعت ثم أرضعت، فضلاً عن وجودها مع أولادها وقتًا أكبر من الرجل. وأكبر من المدرسة ومن حوله في المجتمع، حيث يقضي الطفل مع أمه 70 ألف ساعة في طفولته, بينما لا يقضي في المدرسة سوى عشرة آلاف ساعة فحسب، فأنفاس الأم ضرورية في إنضاج الطفل, وضربات قلبها ضرورية لتعليمه نظام الحياة، وإرادة الحياة.
يقول الشاعر جلال الدين الرومي: 'إذا احتضنت الأم طفلها لترضعه ، فليس لدى الطفل وقت ليسألها عن إقامة البرهان على أمومتها', فدور الأم في التربية أكبر من دور الأب أو المعلم, وهي على أداء هذا الدور أصبر.
يقول الشاعر:
وأعبث في البيت مستبسلاً فأي إناء أصبتُ انكسر
أطيش فيضجر بي والدي وليس يُلمّ بأُمي الضجر
فالبيت الذي يخلو من أم صالحة وواعية هو بيت يتيم، أما البيت الذي يكون الأب سقفه، والأم قلبه، ويغشاه الحب والرحمة والوعي والإيمان؛ فهو البيت الذي يخرج الإنسان.
الحرمان من الأم:
من العوامل المؤثرة في الصحة النفسية حرمان الطفل من الأم؛ فإنه ينتج عنه الكثير من الأضرار النفسية والاجتماعية.
وقد يعتقد البعض أن العناية البدنية أو الجسمانية التي تُمنح للطفل تعتبر كافية لتعويضه الحرمان الذي يعاني منه، ولكن اتضح من خلال العديد من الدراسات أن كل طفل بالإضافة إلى إشباع الحاجات الفسيولوجية فإنه يحتاج إلى الأمومة.
وإذا تساءلنا: ما الآثار المترتبة على الحرمان من الأم؟!
يؤكد خبراء التربية وعلم النفس على أن الحرمان من الأم يؤدي إلى:
1- اضطراب في شخصية الطفل.
2- الحرمان من الأم في سنوات الأولى يُعد من أسباب الشخصية الجانحة.
3- بعض المظاهر السلوكية السلبية كالخوف والعدوان وعدم الشعور بالأمن.
4- ظهور الانطواء والعزلة والخوف والخجل.
5- ظهور القلق وقلة التوافق النفسي والاجتماعي.
وبضدها تتميز الأشياء:(/1)
أما في وجود الأم فإن الحال مختلف، ومن المعروف اجتماعيًا أنه إذا مات الأب فإن المركب تسير، إما إذا ماتت الأم أو غابت بسبب من الأسباب فإن المركب طبعًا تقف وتتعسر، وبالمثال يتضح المقال. فنحن نجد من الأمثلة التي زفر بها التاريخ ما يؤكد عظمة الأم وأثرها الواضح وبراعتها في نجاح أولادها؛ من ذلك نستقي هذه الأمثلة:
• الزبير بن العوام, مدين بعظمته لأمه صفية بنت عبد المطلب.
• عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير, ثمرات غرس أمهم أسماء بنت أبي بكر.
• علي بن أبي طالب, لقن الحكمة والفضل ومكارم الأخلاق من صدر أمه الحافل بالحكمة فاطمة بنت أسد.
• عبد الله بن جعفر, الذي حُرم من أبيه صغيرًا فتعاهدته أمه أسماء بنت عميس.
• معاوية بن أبي سفيان, ورث عن أمه هند بنت عتبة من قوة الشخصية وألمعية الذهن ما لم يرثه عن أبيه أبي سفيان.
• عمر بن عبد العزيز, أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب, وأمها المرأة التقية التي اتخذها عمر زوجة لابنه عاصم؛ إذ رأى فيها الصدق مجسدًا والاستقامة ناطقة عندما لم ترضَ أن تمزج اللبن بالماء كما طلبت منها أمها لأن الله يراها.
• وهذه أم الإمام الشافعي, الذي لم ير أباه؛ إذ مات وهو رضيع، وتولت أمه تربيته والعناية به.
كل هؤلاء كانوا ثمارًا لغرس أمهات عظيمات كانت بارعة في تكوين الرجال والتأثير فيهم وصُنْع عظيم من العظماء الذين تحدث عنهم التاريخ.
عزيزتي الأم القارئة.. تابعي معنا لتصلي إلى حقيقة الأمومة الإيجابية, وتكونين فعلاً أمًا ناجحة(/2)
________________________________________
توبة الأمة
رئيسي :تربية :الثلاثاء 12 ربيع الآخر 1425هـ - 1يونيو 2004 م
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،،،
فإن الأمة تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها..وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن: غفلة الأمة عن التوبة؛ فإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.
وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته عز وجل في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين هي هي سنته سبحانه في الأمم والشعوب.
فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد؛ يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من شرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وخذلان لأوليائه، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركٍ للصلوات، ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة كالربا والفسوق، والمجون، ونقص المكاييل وغير ذلك.
فإذا تابت إلى ربها؛ متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...[55]}[سورة النور].
مثال على توبة الأمة من القرآن:
وهو قوله تعالى:{فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ[98]}] سورة يونس[.
ومعنى الآية: أن قوم يونس عليه السلام لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء، فلما علم الله منهم صدق التوبة؛ كشف عنهم العذاب، وقال:{وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى انتهاء أعمارهم.
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والتبعية لأعدائها.
هذا ومما يجب على الأمة التوبة منه زيادة على ما مضى:
1- التوبة من الإسراف: فهو مؤذن بالهلاك؛ و ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة، ومنها:
أ- أنه يدعو إلى الجبن: لأنَّ شِدَّةَ تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوِّي حرصها على الحياة، فتجتنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف، وذود عن الدين، والنفس، والمال، والعرض.
ب- أنه يسهل على النفوس ارتكاب الجور: لأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة.
ج- أنه يَذْهَبُ بالأمانة: لأن الغريق في الترف همُّه الوصولُ إلى زينة، أو لذة، أو مطعم، ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتُمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
د- أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير: فالترف أعظم قصدِه من جمع المال إنفاقه فيما يَلَذُّه من مأكول، أو يتزين به من ملبوس أو مفروش؛ لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي: قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هـ- للإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق: فمن اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسُه العيش الناعم يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.
ع- وللإسراف أثر في الصحة: فالمسرف لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
غ- والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم: فمرتبة العبقرية لا تُدْرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرفُ في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.(/1)
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح؛ فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير، قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي:'إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها؛ لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها'.
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.
وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها.
2- التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.
إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً:
- فيجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.
- ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.
- ويجهلون قيم الإسلام،ومُثُلَه،وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.
- ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.
- ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.
فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهو الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة، وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حِطَّةً أمام الغرب. وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.
وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية، ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين، والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.
أما الحياة بشمولها فإنها في نظرهم لابد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان.
ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.. وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم.
وما علموا أن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته، وما الجهاد دفعاً كان أو طلباً إلا تخليص للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وما هو إلا وسيلة للحياة الكريمة.
وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله، فانتصرت، وغلبت، فرحمت، وحكمت، فعدلت، وساست، فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.. واسأل التاريخ.
أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟
الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟! أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟
ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟(/2)
وماذا صنعت، أو تصنعه أمريكا من التسلط، والصلف، وهي التي تدعي أنها حاملة لواء السلام؟ فماذا صنعت بأطفال أفغانستان وشعبه البائس، وماذا ستفعله في العراق وغيره؟!
أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟
هذه هي حال كثير من مثقفينا! ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة..فلابد إذاً من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم. فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية.
3- التوبة الإعلامية: فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.
فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.
وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.
4- التوبة من التفرق والتدابر: فالناظر في أحوال الأمة يرى عجباُ؛ فأعداؤها يحيطون بها من كل جانب، ويكيدون لها ويتربصون بها الدوائر، ومع ذلك ترى الفرقة، والتدابر، والتنافر؛ فالعقوق، والقطيعة، وإساءة الظن، وقلة المراعاة لحقوق الأخوة في الله تشيع في أوساط المسلمين.
ولا ريب أن ذلك مما يسخط الله، ومما يفرح الأعداء، ويذهب الريح، ويورث الفشل.
فواجب على الأمة أن تجمع كلمتها على الحق، وأن ينبري أهل العلم والفضل والإصلاح لرأب الصدع، ونبذ الفرقة.
5- التوبة من التبرج: تلك السنة الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير، ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.. وهذا نذير شر، ومؤذن لعنة وعذاب؛ فالتبرج موجب لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغيرة، واضمحلال الحياء.وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.
وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام، قال تعالى مخاطباً نساء المسلمين:{...وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى...[33]}]سورة الأحزاب[. وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها. كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية، فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق، التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاءًا تاماً في القريب العاجل.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة.، وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد، وغير ذلك من فضائل الحجاب.
كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأن يكون حجابه مستوعبا جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة. فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تَسعدَ الأمةُ بها.
6- التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فالبشرية بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام، ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله. والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة، ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟!
وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟
وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة؟
وما بال كثير منهم ينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟
وما بال الشرك يضرب بجرانه في كثير من بلاد المسلمين على مرأى ومسمع من أهل العلم دون أن يُغيَّر، أو ينكر؟(/3)
وما بال القبور تشيد، وتعظم، ويطاف عليها، وتهدى لها النذور، ويدعى أصحابها من دون الله عز وجل؟
إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.
ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين، ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون؛ فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها لا تنزل عقوبته بديار الظالمين، أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم، قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً...[25]}]سورة الأنفال[.
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:' يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ' قَالَ:]نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ[رواه البخاري ومسلم.
ومن البلية في سكوت أهل العلم: أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!.
ومن أثر التهاون بالإرشاد: أن يتمادى المفسدون في لهوهم، فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكرون في سوء عاقبتها.
ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق: فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها.
وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله..هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكل وجهة هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
نظرة في حال المجتمعات البعيدة عن الله:
وبعد أن تبين لنا حاجة الأمة إلى التوبة، وإلى التميز، والحذر من تقليد الأعداء الكفار في مستهجن العادات هذه نظرة في حال المجتمعات البعيدة عن الله:
فهناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتْباع النفوس هواها، وإرسالها مع شهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.
ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون! فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟
والجواب: ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ إباحية مطلقة، وشذوذ بكافة أنواعه، فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاءًا وحسرةً؛ فسنة الله عز وجل في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.
ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية معقدة؛ قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[124]}]سورة طه[. وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟
الخاتمة:
هذه مقتطفات يسيرة تنبه على وجوب التوبة العامة من الأمة، فلعل فيها موعظةً وذكرى، ولعل الأمة تتوب إلى ربها، وتحسن ظنها به جل وعلا، وأن تدرك أن الصبر والتقوى كفيلان برد كل عدوان، قال الله عز وجل:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]}]سورة آل عمران[. وقال تبارك وتعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[186]}]سورة آل عمران[.
اللهم مُنَّ علينا، وعلى أمتنا بالتوبة التي ترضيك عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
من كتاب:'توبة الأمة' للشيخ/محمد بن إبراهيم الحمد(/4)
توبة تكفيري" !!.....حامد بن عبد الله العلي
الكاتب: ابو عادل
التسجيل : 28 /09 /2005 م
المشاركات : 62
مراسلة الموقع الشخصي
... حرر في 30 /04 /2006 م 09:33 مساء - الزوار : 14 - ردود : 0 [الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
لم يكن الشاب الممتلئ ثقة ووقارا، ويتوقد من عينيه بريق ذكاء لا يخفى على من يلمح حدتهما التي تعلن أيضا عن إصرار لا يلين، لم يكن يحمل هم الزنزانة البائسة التي ألقوه فيها، ولا الأغلال التي غلوه بها، ولا ما يتقيأ به ساجنوه من شتائم لا يتفوه بها حتى أدنى السوقة سفالة، ولا التعذيب النفسي والجسدي الذي قد غدا صبوحه وغبوقه مذ حل ضيفا على "جهاز الاستخبارات"، "المباحث "، "الأمن الخاص "، " مباحث أمن الدولة"، سمها ما شئت، فكلها تعني عنده شيئا واحدا فحسب : إنها أحد دلائل النبوة، في قوله صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) ، ولا يخفى ما في اقتران هاتين الظاهرتين، الطغيان السياسي والفساد الأخلاقي والمجتمعي الذي يبدأ بإفساد المرأة، من مغزى...
نعم لم يكن ذلك كله يهمه، بل كان غمه الذي أغمه أنه يقبع هنا بعيدا عن ساحات الجهاد التي عشقها عشقا يستحيل أن يبلغه وصف البلغاء، أو شعر الشعراء.
وبينما هو في هذا الحال، إذ سمع قرقعة باب الزنزانة الحديدي، فصوب نظره ثم، فإذا به يدخل عليه "المشلح المذهب"، فقد منح مكافأة إضافية على التفرغ لتتويب " التكفيريين " وله فوق ذلك على كل توبة "تكفيري" علاوة سخية من "ولي الأمر"، ألقى "المشلح" بنظره إلى الشاب المسلسل المستند بظهره إلى حائط الزنزانة متقرفصا، فرفع الشاب بصره فأبصرت عينه شيخا في عينيه حيرة وضياع.
وأحضر " ذنب البقرة " للـ"مشلح "، كرسيا وفيرا، فجلس عليه، ثم تنحنح وترنح وتبحبح، ثم قال بعدما جلجل جدران الزنزانة بخطبة، لم يتلعثم فيها بحرف، ولا جرم فقد أكثر من تكرارها حتى حفظتها جدران المعتقل، وقد تكلم فيها عن حقوق ولي الأمر، فلم يدع له أمرا إلا وعظمه، ولا عذرا في تهوين جرائمه إلا ولملمه، ثم عرج على بيان وجوب السمع والطاعة، وحذر من التكفير، وأنه أمر خطير، ثم بين ما للمعاهدين من حقوق، وما في مخالفة ولي الأمر من عقوق ومروق، ثم قال : لعل عندك بعض الشبهات، فهات ما عندك هات، فقد أمر ولي الأمر أنه بعد السياط والأغلال، نحاوركم لنخرجكم الضلال.
فأسرها الشاب في نفسه ولم يبدها له : قال " وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى".
ثم رفع صوته : نعم عندي الشبهات، أحرقت كبدي، وأطالت في الحيرة أمدي، فإن كشفتها لي وتبت على يدك، هل إلى خروج من سبيل ؟
قال نعم : ولك أيضا من العطاء الجزيل، فقل ولا تخش من التطويل، وفصل فيما شئت، واذكر ما علمك من غرك من أهل التضليل.
قال : لقد علمونا أن الولاء والبراء أصل الدين، وهو والتوحيد في قرن متين، وأن أمة الإسلام أمة واحدة، تجمعها رابطة الإيمان، وهي توجب على المسلمين نصر بعضهم بعضا، وأن يكونوا صفا واحدا في مواجهة أعداءهم، ولا يحل لهم أن تفرقهم الحدود السياسية، ولا الانتماءات القومية، ولا التعصبات القبلية، يسعى بذمته أدناهم، وهم يد على من سواهم.
قال "المشلح" : هذا كل حق سديد، فقل ما هو جديد.
قال الشاب : علمونا أنه لا يطلق لقب " تكفيري " على وجه الذم إلا جاهل، ذلك أن هذا اللفظ مجمل، يحتمل الحق والباطل، فالتكفير منه فرض لا يصح الإسلام إلا به، فمن لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح دينهم فهو كافر، ومن الحكم بالتكفير، ما دل عليه ظاهر الدليل، وفي بعض مسائله نزاع، ومنه ما هو باطل، فلا يستعمل الذم بالمجمل والحالة هذه إلا جاهل مضلل.
قال " المشلح " : أرى أن هذا كله حق.
قال الشاب : وعلمونا أن القضية الجوهرية اليوم التي يجب أن تتجه إليها الجهود، هي أن أعداء الأمة اليهود، يغتصبون مقدساتنا، ويحتلون أرضنا في فلسطين، ويقتلون أهلنا فيها، ويخططون لهدم المسجد الأقصى، وأن الصليبيين المتصهينين حكام أمريكا، ما هم إلا صهاينة، جاءوا محتلين بلادنا، احتلالا سياسيا وعسكريا أيضا، وقد جاءوا أيضا يحمون اليهود، ويمدونهم بكل ما يحتاجونه للعدوان على الإسلام والمسلمين، ويسعون لإبقاء أمتنا ذليلة، بارتهان سياسة دولنا لمصالحهم، وثرواتنا لأطماعهم، ويحاربون ديننا، ويحولون بين شعوبنا وتحكيم شريعة الله فيهم.
قال "المشلح" لكن قالها هذه المرة بصوت ضعيف : صدقت.(/1)
قال الشاب : وعلمونا أنهم جاءوا محتلين العراق، في حملة صليبية، ليسرقوا ثرواته، ويعيثون فيه فسادا، ولإزالة أي تهديد قد يخيف أولياءهم اليهود، وليجعلوا سياسته الخارجية وفق مخططاتهم والصهاينة، وليحولوه إلى مرتع لكل زنديق، ومسرح لكل من له مع الشيطان عهد وثيق، متسترين بشعار الحرية الكاذبة، والديمقراطية الزائفة.
ثم قد صرحوا أيضا، أن ما سيفعلونه في العراق سيعمم على المنطقة بأسرها، وأظهروا إنهم إنما يريدون حماية اليهود، وأن يأتي اليوم الذي تطبع العلاقات بينهم وبين المسلمين، فتزال من عقيدة المسلمين ومناهجهم مفاهيم عداوة الكفار، والبراءة منهم، ويستبدلون ملتهم بدين الإسلام، وهذا إعلان حرب على أمتنا من أمة اليهود والصليب، لا تخفى على جاهل فضلا عن أريب.
هذه هي القضية الجوهرية اليوم.
وعلمونا أيضا أن إعانة الأعداء على مقاصدهم، ومظاهرتهم على المجاهدين الذين يتصدون لمخططهم، ردة عن الدين، وخيانة لأمة المؤمنين، وكفر برب العالمين.
قال " المشلح " وقد أطرق وتجللته هيبة الحق : صدقت.
قال الشاب : وقد علمونا أيضا أن كل مكسب تكسبه الحملة الصليبية التي يطلق عليها زورا وغرورا " الحملة الدولية على الإرهاب "، في أرض الإسلام، وكل احتلال لبقعة منه، وكل خطوة في اتجاه أهدافهم، تعني خسارة فادحة للإسلام والمسلمين، وظهورا أكبر للكفار على المؤمنين.
وكلما تأجلت المواجهة مع مخططهم الخبيث، جزعا منهم، أو شكا في نواياهم، أو ركونا إلى الدنيا، زاد حجم الخسائر التي تتكبدها الأمة بمرور الزمن، ثم إنها قد تتراكم بسبب تأجيل المواجهة، حتى يصبح أمر الإسلام مندرسا، وحال المسلمين منتكسا.
قال " المشلح" : عوذا بالله.
قال الشاب : وعلمونا أن عز الأمة في الجهاد، فهو سبيل الرشاد، ولهذا فأعداؤنا لا يحاربون مفهوما إسلاميا كمحاربتهم لمفهوم الجهاد، حتى إنهم يحاربون نفس اسمه، ويرومون انتزاعه من فكر الأمة وضميرها، ولهذا يشوهون سمعة المجاهدين، ويرمونهم بكل قبيح.
وعلمونا أن الخوف من الأعداء، والوهن منهم، والرضوخ لهم، لن يرضيهم، بل سيزيدهم طغيانا وطمعا فينا، ولهذا قال الله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) .
ولهذا قال تعالى ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) .
وعلمونا أن موتا كريما نقاتل فيه دون ديننا وعقيدتنا فننال الشهادة، خير من حياة ذليلة نصبح فيها عبيدا للطغاة.
وعلمونا أن التاريخ سيشهد على هذه الحقبة التي حلت فيه جيوش الصليب، بلاد الإسلام، فمن العار على هذه الأمة أن لا يذكر عن هذه الحقبة من أمر الجهاد شيئا، كأن الأمة تحولت إلى قطعان تساق إلى الذبح سوق السائمة، يخضع الزعماء للصلبان، ويبارك علماء السوء هذه الرزية والخذلان.
وعلمونا أن المسلم إنما يعيش لرسالة الإسلام، ويموت في سبيلها، ولا يحني جبهته إلا لله تعالى، فهو بما يحمل من قلبه من توحيد الله، أعز من كل علج كافر، أو طاغوت خاسر، وأن المؤمن حر بإيمانه وعزة نفسه، وإن كبلوه بالحديد، وأوثقوه كالعبيد.
وهنا تحدرت الدموع من عيني الشيخ، وقد أزاح من منكبيه "المشلح"، ووضعه جانبا، ثم قال بصوت خاشع : حدثني عن ساحات الجهاد أيها الفتى الأفلح ؟
قال ساحات الجهاد وما أدراك ما هي، هناك زبدة لذة الطاعة، وخلاصة طمأنينة الإيمان، ولب سرور النفس، وجماع انشراح الصدر، هناك مقامات التوحيد الحق، حب الله تعالى في أحلى حلاوته، والصبر كله في أجلى صورته، والتوكل كله في أوثق حضوره وحضرته، والإحساس الدائم بالقرب من الله تعالى، وبعزة المؤمن، وإنك في تلك الساحات، لتحلق في سماء الحرية حقا، فترى الدنيا من تلك العلياء، تراها على حقيقتها حقيرة حقارة الطواغيت الذين يستعبدون بها ضعاف النفوس، وترى الآخرة كرأي العين، كأنك تعانق الحور العين، فليس للموت عندك معنى، سوى انتقال الأرواح إلى أرض الأفراح، حتى إنك تبكي إذا استشهد أخوك فاستراح، وحل في الجنان مع البيض الملاح، وبقيت حيا مع السلاح، ولولا قوله تعالى ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) لتفطر قلبك أسفا، على بقاءك في الدنيا مخلفا، وإنك تتلذذ بما يخالط شغاف قلبك من ذلك الشعور الغامر بأن الله تعالى يستعملك في جنوده، وأنك على ذروة سنام الإسلام، وأنك ستلحق بركب الشهداء، فتكون في تلك المنزلة العالية الظلال، كمرتبة كل شهداء الإسلام من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى الذين يقاتلون الدجال.(/2)
ولما رفع الشاب رأسه، أبصر لحية الشيخ وقد بللها الدمع الغزير، ثم قال الشيخ : يا فتى الجهاد، والله ما الحق إلا ما أنتم عليه، فخذني معك، فوالله لئن أموت على ما تموتون عليه خير مما نحن فيه، ليس لنا هم سوى الترقيع للطواغيت، وكلما رقعنا لهم خرقا، خرقوا آخر أكبر منه، حتى لم نجد لهم حلا إلا مذهب المرجئة الجهمية، ولئن سرنا وراءهم فسيخوضون بنا بحر الزنادقة الراوندية.
وهاهم يطلبون منا اليوم تحويل مسار الصراع، من كونه مواجهة بين الإسلام والصليبية، ومعركة بين المسلمين والصهاينة، ومنازلة مع مخطط صليبي صهيوني أعلن عزمه تغيير المنطقة وإعادة رسمها لتحقيق أطماعه، وهاهو يتدخل حتى في تغيير مناهجنا، ويطلب حذف أساس عقيدتها من ثقافتنا.
تحويل هذا إلى مسار آخر، يصبح فيه : العدو هم أهل الجهاد، والصراع الشرعي معهم لا مع الصليبين، ويعلن فيه كما يقول الصليبيون سواء أن المعركة مع "الإرهاب" هي الأهم والأولى، وأما ما يجري على الأمة فيما وراء هذا فلا يعنينا، فاحتلال فلسطين شأن فلسطيني، واحتلال العراق شأن العراقيين، واحتلال أفغانستان شأنهم هم، وأما ما يفرضه الصليبيون من إفساد في ديننا في بلادنا، فسينظر فيه " ولي الأمر " بما تقتضيه " المصلحة " !!
ثم كلما نصر الله المجاهدين على الصليبين في واقعة، اشمأزت قلوب هؤلاء الطواغيت، وأعادوا حملة مكافحة " الإرهاب والتكفير " جذعة، وأقحمونا معهم في هذه البدعة، كأنهم يخشون من تعاطف المسلمين مع الجهاد والمجاهدين !!
قال الشاب : الحمد لله الذي بصر قلبك، ونور بصيرتك، وأبصرك الحق، ولئن أخرجني الله من هذه الغياهب، فستنطلق معي إن شاء الله، وتعانقا، ولما هم الشيخ بالخروج، تعلق به حارس الزنزانة وقد سمع كل حديثهما، فقال وألقى السوط من يده : ويحكما .. خذاني معكما.(/3)
توبة في رمضان
إبراهيم بن حمد المنصور
دار الوطن
أحمد الله الذي قرَّب لنا أبواب الخير، وفَتَح باب التوبة لعباده. وأُصلي وأسلم على رسول الله .. وبعد ..
فهذه كلمات جمعتها لكل من أراد تغيير حالة وفِعاله ليُرضي خالقه ويَسْعَد في دنياه ومآله. أسأل الله أن ينفع بها قارئها والدال عليها. وأستغفر الله من الذنوب ظاهرها وباطنها.
توبة في رمضان
أخي الكريم:
أهنئك بقدوم هذا الشهر المبارك ، شهر التوبة والمغفرة والعتق من النار .. شهر الخير والبركة .. شهر الجود والإحسان .. وأقول لي ولك ولكل مقصِّر مع ربِّه:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب *** حتى عصى ربَّه في شهر شعبان
لقد أظلك شهرُ الصبر بعدهما *** فلا تصيِّر أيضاً شهرَ عصيان
واتل الكتاب وسبِّح فيه مجتهداً *** فإنه شهرُ تسبيحٍ وقرآن
أَقْبَلَ .. فَأَقْبِل .. يا باغي الخير
* قال : { إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدَت الشياطين ومَرَدَة الجِن ، وغُلِّقَت أبواب النار فلم يُفتح منها باب ، وفُتِّحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليله } [ رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن ].
* وعن أبي هريرة أن النبي صعد المنبر فقال : { آمين ، آمين ، آمين } فقيل : يا رسول الله ، إنك صعدت المنبر فقلت : { آمين ، آمين ، آمين } ؟ فقال : { إن جبرائيل عليه السلام أتاني فقال : من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت آمين } الحديث [ رواه أحمد وهو صحيح ].
* نعم .. أقبل رمضان ، فأقبل على ربك – الذي عصيته – متضرعاً خاشعاً نادماً باكياً .. وقل:
يا إله الكون إني راجع
ويا واهبَ الخيرات هبْ لي هداية *** فما عند فقدان الهداية نافع
أقل عثرتي عفواً ولطفاً ورحمة *** فما لجميل الصفح غيرك صانع
* أخي إنْ لم يُغفر لك ، وتذرف عيناك ، وينكسر قلبك أمام ربك في هذا الشهر .. فمتى إذن ؟
* أخي ... ألا ذرفت عينك من خشية ربك ولو مرة واحدة ؟ ألا تشعر أن قلبك قريب من ربك في هذا الشهر ؟ ألا تظن أنها فرصة لك لتزداد قرباً وخشوعاً ... وإنابة وخضوعاً ؟ وتكون بداية صادقة في الرجوع إلى الله تزداد بها صلة بالله ؟ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [ محمد:17]
يا أيها الإنسان
* ها هو الله سبحانه يعاتبنا فيقول : يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6].
* نعم أيها الإنسان ما الذي غرَّك بربك حتى تجرَّأت على معصيته وتعديت حدوده ؟ أهو تجاهل لنعمته ؟! أم نسيان لرقابته وعظمته ؟!
أنا الذي أغلق الأبوابَ مجتهداً *** على المعاصي وعينُ الله تنظرني
ما أحلمَ الله عني حين أمهلني *** وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أخي .. لا تنظر إلى صغر الخطيئة .. ولكن انظر إلى عظمة من عصيت .
أخي .. لا تجعل الله أهون الناظرين إليك .
لك بشرى
* ها أنا أقدم لك بشرى من ربك تعالى ورسوله . قال تعالى : قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر:53]. وقال : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ الفرقان:68،70].
يا له من فضل عظيم ، ويا له من مكسب كبير ، يبدل الله جميع سيئاتك حسنات ... الله أكبر ! إنه لا يفرط في هذا المكسب إلا جاهل أو زاهد في الفضل.
إذن فتب – أخي الحبيب – إن أردت هذا المكسب العظيم : يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ . ثم استمع إلى ما قاله حبيبك تشجيعاً للتوبة : { لله أشد فرحاً بتوبة عبده ... } الحديث [متفق عليه ].
وقال : { قال الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو بَلَغَت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي }.
وقال : { يقول الله تعالى : يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم }.
وقال : { إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها }.
وعندما رأي رسول الله امرأة تبحث عن ولدها في السبي فلما رأته احتضنته وألقمته ثديها ، فقال : { أترون هذه ملقية ولدها في النار ؟ } قالوا : لا ، قال : { لله أرحم بعباده من هذه بولدها }.(/1)
الله أكبر .. هل بعد هذا الفضل نتقاعس عن التوبة ؟!! هل بعد هذا الجود نسوِّف في التوبة ؟! اللهم سبحانك ما أرحمك ، سبحانك ما ألطفك ، سبحانك ما أجودك.
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سُلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربِّي كان عفوُكَ أعظما
فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل *** تجود وتعفو منةً وتكرما
صارح نفسك
ما الذي يمنعك من التوبة وسلوك طريق الصلاح ؟
كأني بك تقول : الأهل والمجتمع والأصدقاء ! أخشى أن أتوب ثم أعود ! ذنوبي كثيرة فكيف يغفر لي ! أخاف على أهلي ومالي !
فأقول : هل تظن أنك تقول ذلك عند ربك يوم تلقاه ؟ لا والله .. بل هي عوائق موهومة وحواجز لا يحطمها إلا من خشي ربَّه .
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
فكن ذا عزةٍ بدينك وعزيمة صادقة على الخير والاستمرار عليه ، متوكلاً عليه سبحانه ، ثم تذكر رحمة ربك وسعة مغفرته .
أخي لو أتاك – في هذه اللحظة – ملك الموت فهل ترضى أن تقابل ربَّك على هذه الحال ؟
أخي – عفواً – لا تتهرب من نفسك ومحاسبتها ، فإن لم تحاسبها الآن فغداً في قبرك تندم ، وحينها لا ينفع الندم .
الميلاد الجديد
* اعلم أن التوبة ليست فقط مختصة بهذا الشهر ، بل فيه و في غيره من الشهور , ولكن ما يدريك فقد يكون ميلادك الجديد في شهر الخير والبركة , وقد يولد الإنسان مرتين : يوم يخرج من ظلمة رحم أمه إلى نور الدنيا , ويوم يخرج من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة , فكن هو أنت .
* وأوصيك – يا صاحبي – أن تلحق بالأخيار الذين ينفعونك حتى بعدم موتك – بإذن الله – بدعائهم لك .. الحَقْ بهم وصاحِبهم في ذهابهم وإيابهم ، اصبر معهم حتى تلاقي ربك ، فحينها يقال لك ولهم : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].
قصة وموقف
كان مع الصالحين ... ثم تركهم .. بدأ يقصِّر في أمور دينه ... وفي يوم من الأيام كان مسافراً للتنزه ... وفي الطريق انقلبت السيارة ... ثم كان الانعاش ... ثم ... مات .
جاء الخبر المحزن ... صلينا عليه ... حُمل إلى قبره ... وُضع في قبره ... فاللبنات ... فالتراب ... لن يرجع ... ذرفت الدموع ... حزنت القلوب ... حينها جلس أحد الصالحين – أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحد – صديقه الأول ... عند قبره مطأطأً رأسه يدعو له .
حينها عرفت مَنْ ينفع الإنسان من الأصدقاء بعد موته .
أخي .. احذر أن تكون ممن قال الله فيهم : وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)يَاوَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].
قبل أن يُغلق الباب
أخي الحبيب قبل أن يُغلق الباب حدِّد – الآن ولا تسوف – الطريق الذي تسير عليه ويكون منهجاً لك في الدنيا والآخرة .
ويا لها من سعادة ، ويا لها من فرحة يفرح القلب بها ويسعد حينما يرجع إلى ربِّه نادماً ويلحق بركب الصالحين .. ووالله إنها السعادة التي لم يذقها إلا من جربها .
أخي في الله ... إن كنت عزمت على التوبة والرجوع ... والإنابة والخضوع ... فاعلم أن لهذه التوبة شروطاً لا بد من وجودها هي :
1- الندم على ما فات .
2- الإقلاع عن الذنب .
3- العزم على عدم الرجوع ، فإن عدت إليه فكرر التوبة إلى الله ... ولكن ليكن عزمك صادقاً .
4- أن تكون التوبة قبل الغرغرة وقبل خروج الشمس من مغربها .
دعاء
اللهم لك الحمد كله أنت أوجدتني ورزقتني وجعلتني مسلماً.
اللهم سبحانك قد عصيتك بنعمتك ، سبحانك خالفتك مع عظمتك .
اللهم إن لم تغفر لي فمن يغفر لي ؟ وإن لم ترحمني فمن يرحمني ؟
اللهم لا رب لي سواك فأدعوه وأرجوه .
اللهم إني عائد إليك تائباً فبرحمتك ومغفرتك ولطفك لا تردني ، واقبلني يا من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
اللهم مهما عظمت ذنوبي فرحمتك أعظم ، ومهما كثرت خطاياي فأنت تغفر الذنوب جميعاً .
اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .
اللهم ردَّنا إليك رداً جميلاً ... برحمتك يا أرحم الراحمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
توثيق قصيدة بانت سعاد في المتن والإسناد
د. سعود بن عبد الله الفنيسان * 20/2/1426
30/03/2005
كان الموقع قد نشر في 13/2/1426هـ موضوعاً بعنوان: ("بانت سعاد" هل تُعَدّ وثيقة شرعيّة؟) تغطية لندوة أُقيمت تحت عنوان: (رائعة الشعر العربي: بانت سعاد) للأستاذ بدر بن علي المطوع، وتجاوباً مع ما قام بتغطيته الزميل/ محمد شلال الحناحنة في هذه الندوة، فقد قام فضيلة الشيخ الدكتور سعود بن عبدالله الفنيسان، بإمداد موقع (الإسلام اليوم) بمقالٍ له حول هذه القضية مقتبس من كتابه: (توثيق قصيدة بانت سعاد في المتن والإسناد).. فإلى قراءة ما استنبطه فضيلة الدكتور الفنيسان:
الأحكام الفقهية المستنبطة(1)
1- إذا شبّب الشاعر بامرأة بعينها –ليست مما يحلّ له وطؤها- رُدّت شهادته.
2- ومن شبّب ولم يعين أحدًا –كعادة الشعراء في مطلع قصائدهم- لم تُردّ شهادته.
3- ما جاء في النهي عن المدح في الوجه وحثو التراب في وجوه المداحين –محمول على ما إذا كان المدح كذبًا أو في غير محله. أو كان المدح صفة لا تكاد تفارق المادح. وما عداه فجائز.
4- يجوز سماع المدح من المادح إذا كان بحق. فقد سمع الرسول –صلى الله عليه وسلم- من كعب قصيدته وفيها المدح له، والثناء عليه، ولو كان لا يجوز لأنكره على كعب. وما زال أهل الفضل يُمدَحون في مجالسهم دون أن ينكروا على مادحيهم؛ لأنهم واثقون في أنفسهم ويرون ما يُقال فيهم هو حق أو واقع.
5- جواز إنشاد الشعر في المسجد. ووجه ذلك أنه أُنشد في مسجد الرسول وبحضرته، ففي غيره من المساجد، وعند غيره من باب أولى.
6- لا بأس باجتماع الناس في مجمع لسماع الشعر، ولو كان فيه غزل أو مدح وثناء للحاضر في المجلس.
7- يجوز أن يهدي الممدوح هدية عينية أو نقدية إلى المادح. إذا كان مدحه بحق والممدوح أهل لذلك.
8- إذا سب الشاعر الدين أو الرسول في شعره يهدر دمه ويحلّ قتله.
9- يجوز في الشعر من المبالغة ما لا يجوز في سائر الكلام المنثور.
10- من آداب الجلوس لطلب العلم –التحلق حول العالم حلقًا حلقًا.
11- يجوز للمعلم أو الشيخ –أثناء تعليمه أن يلتفت عن يمينه تارة وعن يساره تارة أخرى لإظهار اهتمامه بالسامعين، وشد انتباهم وإبلاغهم صوته للجميع.
12- مشروعية رواية الشعر العربي الأصيل مع حفظ القرآن ورواية الحديث النبوي، فالشعر ديوان العرب كما يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وهو عماد اللغة العربية التي يُفسر بها القرآن والسنة. ومأخذ هذا أن الحجاج بن ذيي الرقيبة –أحد رواة الحديث- أملى قصيدة (بانت سعاد) كاملة على المحدّث الثقة إبراهيم بن المنذر. ثم تناقلها الناس عنه بطرق متعددة.
13- جواز التبرك بآثار الرسول –صلى الله عليه وسلم- مما قد لا مس جسده الشريف في حياته، أما بعد وفاته فلا يجوز التبرك بشيء من آثاره، وإنما يجب الاهتداء بهديه بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
وقال الحافظ ابن حجر: (وقعت لنا –أي القصيدة- بعلوّ في إسناد بن ديزيل ففي جزئه).
وعليه أقول: إن قصيدة (بانت سعاد) صحيحة ثابتة –إن لم تكن بالإسناد الموصول كما عند بعض العلماء- فبالإسناد المرسل. والمرسل حجة عند جمهور العلماء، لاسيما إذا اعتضد بما يدل على صحته، كتعدد طرقه، وألفاظه، وتلقي العلماء له بالقبول، وعدم النكير.
قال أبو داود: (وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي، فإذا لم يوجد مسند يخالفها فيحتج بها وليست هي مثل المتصل بالقوة). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت من المواطأة كانت حجّة قطعًا. وخبر كعب وإنشاده القصيدة بين يدي النبي –صلى الله عليه وسلم- قد تعدّدت طرقه بين موصول وموقوف. جمعت لك في هذه الرسالة ثمانية طرق موصولة، وأكثر من اثني عشر طريقًا موقوفة على أكثر من واحد. ولم أجد كتابًا مزبورًا لأحد من السلف أو الخلف أنكر أو شكّك في هذا الخبر؛ فصار بمثابة المجمع عليه ا لمتواتر تواترًا معنويًا- والله أعلم.
تنبيه:
لا يجوز التبرك بآثار الصالحين من لباس وشراب وطهور. وإنما هو خاص بالرسول –صلى الله عليه وسلم- ولا يقاس عليه غيره لخصوصيته في هذا. كما أن الصحابة لم يفعلوه فيما بينهم مع تفاضلهم. ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. ومنع مثل هذا إنما هو سد لذريعة الشرك. حيث التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم ومن ثم عبادتهم وهي عين الشرك.
الخلاصة:(/1)
إن القصيدة رواها بإسناد موصول كل من: إبراهيم ابن ديزيل في جزءه، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، والإمام ثعلب في مجالسه، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني، والحاكم ففي مستدركة، والبيهقي في السنن الكبرى، وفي دلائل النبوة، وأبو بكر الإشبيلي في الفهرست. كما رويت بأكثر من طريق موقوفة على موسى بن عقبة، أو علي بن جدعان أو محمد بن إسحاق، وإسناده: الحجاج بن ذي الرقيبة وعبد الرحمن بن كعب لم أعثر لهما على ترجمة كافية. وقد صححه الحاكم في المستدرك وأشار إلى ذلك ابن عبد البر والحافظ بن حجر وعلي ابن المديني.
قال الحاكم: (وأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان) وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
وقال علي بن المديني شيخ البخاري على إسناد محمد بن فليح عن موسى بن عقبة (لم أسمع في خبر كعب بن زهير حديثًا قط أتم ولا أحسن من هذاولا أبالي ألا أسمع من خبره غيره) .......... 15/143.
وقال ابن عبد البر: (ولا أعلم في صحبة كعب وروايته غير هذا الخبر ) ............. 3/298.
________________________________________
(1) انظر: تفسير القرطبي 13/174. وأحكام القرآن لابن العربي 3/1434 وعارضة الأحوذي 2/119 . وأعلام الموقعين 2/370. ومدارج السالكين 1/396. وزاد المعاد 3/520 لابن القيم. وانظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 145. والآداب الشرعية لابن مفلح 3/459. وغذاء الألباب للسفاريني 1/177. وتكملة المجموع شرح المهذب 20/42 فما بعده والصفحات 77-79. والأحكام السلطانية للماوردي ص 172. والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 186. والاستيعاب لابن عبد البر 3/297 هؤلاء الفقهاء وغيرهم. منهم من أشار إلى حكم أو حكمين ومنهم من ساقها مساق التأييد فقط. والله أعلم.
* أستاذ في قسم القرآن وعلومه بجامعة الإمام (سابقاً)(/2)
توجيه المتشابه اللفظي وما صنف فيه
بقلم / طريق القرآن
توجيه المتشابه فنٌّ عزيز من فنون التفسير وقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، وأدرجه آخرون ضمن مصنفاتهم في علوم القرآن، واهتم به بعض المفسرين وأغفله آخرون، وقد صُنِّف فيه كتب مستقلة في موضوعه وكتب حوته وغيره من علوم القرآن.
أولاً: الكتب المستقلة:
1. "دُرَّةُ التنزيل وغُرَّةُ التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز". لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الإسكافي [توفي سنة:420 هجرياً]، وهو أول ما صُنِّف في توجيه المتشابه، وكتابه مبسوط طويل العبارة، مرتب السور، بالتعليل وقد قال في مقدمته " وإني مذ خصَّني الله بإكرامه وعنايته…… تدعوني دواعٍ قوية يتبعها نظر ورويِّة في الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة، وحروفها المتشابهة المنغلقة والمنحرفة، تطلُّبا لعلامات ترفع لَبْس إشكالها وتخصُّ الكلمة بآيتها دون أشكالها ". ثم قال: " فعزمت عليها بعد أن تأملت أكثر كلام المتقدمين والمتأخرين ، وفَّتشتُ على أسرارها معاني المتأولين المحققين المتبحرين فما وجدت أحد من أهلها بلغ غاية كنهها، وكيف ولم يقرع بابها ولم يُفْتَرَّ لهم عن نابها ولم يّسْفَر عن وجهها ……" . والإسكافي يصرح بأنه لم يقف على من عُني بتوجيه المتشابه قبله فيكون كتابه هذا أول ما صنف في بابه، [ وهو مطبوع في مجلد متوسط بمعرفة دار الآفاق في بيروت ].
2. "البرهان في توجيه متشابه القرآن"، تأليف تاج القرّاء محمود بن حمزة الكرماني [توفي سنة:505 هجرياً] وهو كتاب جامع وجيز استوعب أكثر متشابهات القرآن والألفاظ المكررة وبيان علة ذلك . وقد قال في مقدمته " هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافاً بين الآيتين أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان وأبين ما السبب في تكرارها والفائدة في أعادتها، وما الواجب للزيادة والنقصان والتقديم والتأخير والإبدال، وما الحكمة من تخصيص الآية في ذلك دون الآية الأخرى وهل كان يصلح ما في السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها من غير أن أشتغل بتفسيرها وتأويلها " [وقد طبع كتابه البرهان في توجيه متشابه القرآن ببيروت بتحقيق عبد القادر عطا].
3. "مِلاكُ التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل". لأحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي [توفي سنة:708 هجرياً] ذكر الزركشي أن أبسط ما صنف في توجيه المتشابه وأنه في مجلدين، وذكره السيوطي في الإتقان وقال: "لم أقف عليه" ، وهذا الكتاب أجل ما ألف في توجيه المتشابه، قال مؤلفه في خطبته: " وإن من مُغْفَلات مصنفي أئمتنا رضي الله عنهم في خدمة علومه، وتدبر منظومه الجليل ومفهومه توجيه ما تكرر من آياته لفظاً أو اختلف بتقديم وتأخير، وبعض زيادة في التعبير فعَسُر إلا على الماهر حفظاً…… "، [وقد طبع في مجلدين بتحقيق د/ محمود كامل أحمد ،بيروت 1985 وأيضاً طبع بتحقيق د/ سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي ]
4. "كشف المعاني في متشابه المثاني" للإمام بدر الدين بن جماعة [توفي سنة:733 هجرياً] وقد ذكره السيوطي ونقل عنه في الإتقان :2/132.
5. " التقرير في التكرير" للعلامة السيد محمد أبو الخير عابدين [توفي سنة:1344 هجرياً] وهو رسالة بحث فيها عن حكمة تكرير القصص الواردة في القرآن، كقصة موسى عليه السلام، وتطرق فيها إلى اللفظي وتكرار الألفاظ والمعاني، [وقد طبعت طبعة قديمة بلا تاريخ، وأعيد طبعها مؤخراً].
ثانياً: الكتب المشتركة:
وهي كتب في علوم القرآن وتفسيره تجمع أصنافاً مختلفة من علوم القرآن ؛ ومن أهمها:
1. " أُنموذج في بيان أسئلة وأجوبة في غرائب آي التنزيل" للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي اللغوي [توفي سنة:666 هجرياً] وفيه توجيه المتشابه قدر قليل، وأكثره في مسائل في مشاكل التفسير، [ وقد طبع على هامش إعراب القرآن للعكبري وطبع حديثاً بدار الفكر ، دمشق بتحقيق د/ رضوان الراية].
2. "بصائر ذوي التمييز في طائف الكتاب العزيز " لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي [توفي سنة:817 هجرياً]، وهو كتاب جليل حافل يحتوي على مباحث كثيرة تتعلق بالقرآن وعلومه، فيعرض في كل سورة لأنواع من علوم القرآن وفنونه كالناسخ والمنسوخ، والوقف والابتداء، وعدد الآيات وذكر المتشابه وتوجيهه، والتكرار وحكمته. [ وهو مطبوع مشهور].(/1)
3. "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن"، لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري [توفي سنة:926هجرياً] وهو مرتب على السور مع إيجاز العبارة واستيعاب المتشابه، وذكر ما يلتبس من جهة المعنى والتفسير، والكلام عن حكمة التكرار ، وفي فتاوى الشيخ زكريا المسماة بالإعلام والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام فصل في مسائل تتعلق بالقرآن، تكلم فيه على توجيه المتشابه. [ص: 402- 420] .
4. "قطف الأزهار في كشف الأسرار"، للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي [توفي سنة:911 هجرياً]، وقد جمع فيه السيوطي مباحث أربعة عشر علماً من علوم القرآن وأفانينه ، الرابع عشر منها: بيان وجه تفاوت الآيات بالتقديم والتأخير وإبدال لفظ بأخر .
5. " إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابه وتجويد القرآن " للشيخ عطية الله بن عطية الأجهوري [توفي سنة:1190هجرياً] . وهو مرتب على السور، وجعل الكلام في كل سورة على ثلاثة فصول: الأول في أسباب نزولها، والثاني في الناسخ والمنسوخ، والثالث في المتشابه وفي آخره خاتمة التجويد.
ثالثاً: كتب التفسير:
لم يعن المتقدمين من المفسرين بتوجيه المتشابه اللفظي في القرآن وبيان علة اختلاف الألفاظ وذلك لعدم الحاجة إلى مثل هذا النوع من مباحث التفسير في زمانها لأنه لم ينضج إلا عندما صُنِّفت الكتب في الرد على الطاعنين في القرآن وتآلف نظمه ولأن هذا الضرب من التفسير لم يرد فيما أُثر من الأحاديث والآثار وغيرها من كلام السلف في التفسير، فقلَّت عنايتهم به لذلك، وكانت كتب التفسير بالمأثور خالية من هذا النوع.
ثم اتجه فريق من المفسرين إلى العناية به، وهم في ذلك بين مُقلٍّ ومُكْثِرٍ، ومُنْصِفٍ ومُتَكَلِّف، ومن أهم التفاسير التي تعرضت لبيان المتشابه وتوجيهه:
1. "الكشّافُ عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" ، للإمام محمود بن عمر الزمخشري [توفي سنة: 528 هجرياً] وهو من المقلين المقتصدين في التعليل وقد استمد منه كثير من المفسرين كالبيضاوي والنسفي وأبي السعود .
2. " مفاتيح الغيب " للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي [توفي سنة:606 هجرياً] ويُعَدُّ من أوسع التفاسير التي تعرضت لتعليل أوجه المتشابه اللفظي، وربما أطال في بعض المواضع وأتى بوجوه مُتَكَلَّفَةٍ، وقد أخذ فريق من المفسرين بعده نص كلامه في ذلك
وضمَّنوه في تفاسيرهم.
3. "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" لناصر الدين البيضاوي [توفي سنة:691 هجرياً].
4. " مدارك التنزيل وحقائق التأويل" للإمام عبد الله بن أحمد النسفي [توفي سنة:701 هجرياً] .
5. "البحر المحيط" للإمام أبي عبد الله بن حيان الأندلسي [توفي سنة:745 هجرياً].
6. "السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير" وهو المعروف بتفسير الخطيب. للإمام محمد بن محمد الخطيب الشربيني [توفي سنة:977 هجرياً] ، وفيه نقلٌ كثير من تفسير الرازي.
7. "نظم الدُّرر في تناسب الآيات والسُّور، للإمام المفسِّر برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي [توفي سنة:885 هجرياً].
8. " إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" المشهور بتفسير أبي السعود ، لمحمد بن محمد أبي السعود العِمادي [توفي سنة:982 هجرياً].
9. " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" ، لشهاب الدين الألوسي [توفي سنة:1270 هجرياً] وهو من أغزر التفاسير مادة في توجيه المتشابه، وربما نقل في بعض المواضع كلام الرازي في توجيه بعض الآيات على طوله، ثم يتعقبه وجهاً وجهاً، كما فعل في الكلام على تشابه قصة بني إسرائيل في سورتي البقرة والأعراف.
10. "تفسير المنار" للشيخ محمود رشيد رضا ، [توفي سنة:1354 هجرياً] .
11. " تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد " للعلامة الشيخ محمد بن عاشور التونسي. ويعرف تفسيره بالتحرير والتنوير، وهو من أنفس تفاسير المتأخرين التي تُعنى بالدقائق اللفظية والمباحث اللغوية والنحوية والبلاغية، وفيه ما لا يوجد في غيره من التفاسير على كثرتها.
وهكذا طوَّفنا في هذا الفن العزيز فنِّ متشابه القرآن اللفظي وتوجيهه ويبقى أن نغوص في هذه البحار لنستخرج اللآلئ والدرر التي إن دَلَّت فإنما تدل على عظمة هذا الكتب، وصدق الله إذ قال : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} …… (سورة صّ: الآية 29)(/2)
توجيهات دعوية ...
الدعوة مقام عظيم، قد يشعر الإنسان بمنزلتها وقد لا يشعر، أما من لم يشعر فليس له حظ من هذه التوجيهات التي سنوردها، إنما هي حظ من اهتم لأمته وأحس بعظمة الدعوة وجلالتها، هذا هو العظيم حقا..العظيم هو الذي يهتم للأمور العظام، وهو الذي يتعب نفسه في تحصيل المراتب الكبيرة، كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
وإذا كان الإنسان يعلو عند الناس لكفاحه وجده في أسباب الحياة، فإن الذي يعلو عند الله - تعالى -هو الذي يكافح من أجل أن يقيم صرح الدين في الأرض، ويعلم الناس الخير، ويحذرهم من سبل الشر، قال - تعالى -: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}...
قال الحسن: " هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله". (تفسير ابن كثير7/169) .
الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، وأرسل الرسل لأجل ذلك، والداعي إلى الله - تعالى -يحقق مراد الله من الخلق، ويتبع الأنبياء ويقتدي بهم، ومن هنا شرف وكان أحب الخلق إلى الله - تعالى -..
لكن الدعاة هم أكثر الخلق عناء وتعبا، وأكثرهم ألما وحزنا، لا نقول هذا تنفيرا من طريقهم، فإن كل إنسان يناله في الدنيا من التعب والحزن القدر المكتوب، لكن الذي يتميز به الدعاة بالرغم من كونهم أكثر الناس تعبا وحزنا، أنهم كذلك أكثر الناس تلذذا بالذكر والطاعة، تمر بهم لحظات من حلاوة الإيمان تنسيهم كل تلك الآلام، وهذا ما لا يجده غيرهم إلا في النادر.
إن مصدر آلام الدعاة أنهم يرون انتفاش الباطل وكثرة المعرضين، وهم يعلمون علم اليقين حقيقة الدنيا والآخرة، وهم في محاولة جادة لاستنقاذ الغارقين من غرقهم، لكن محاولاتهم تبوء بالفشل في بعض المرات أمام إصرار الغارقين على الغرق، وأمام ترصد الظلمة وقعودهم بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها عوجا..
وأمام هذه المعوقات يجد الدعاة أنفسهم في عائق آخر لا يقل خطرا من المعوقات السابقة، وهو عائق نفسي، وعلمي، وعملي:
- فأما عائق النفس فمللها ويأسها..
- وأما العائق العلمي والعملي فهو الحيرة التي ترد عليهم إزاء أزمات دعوية تمر بهم فلا يهتدون إلى حلها، فتضيق بهم السبل، مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية..
لأجل كل هذه الأمور كتبت هذه التوجيهات الدعوية، لعلي أساهم في حل شيء من تلك المعوقات، فأقول:
هذه توجيهات وزاد يتزود بها الدعاة:
أولا: (الإخلاص في طلب العلم وتعليمه).
ـ لابد للداعية من أن يتعلم العلم الشرعي، ولابد له من الإخلاص في طلبه وتعليمه:
ـ فالإخلاص هو سبب القبول عند الله - تعالى -، وهو كذلك سبب الإتقان، فما أخلص إنسان في شيء إلا وأتقنه.
ـ والإخلاص يتطلب اتهام النفس بالتقصير دائما، والخشية من عدم الإحسان، وذلك يدفع إلى التطور الدائم إلى الأحسن، فإن الذي يتهم نفسه بالتقصير يعمل على الدوام على الارتقاء إلى الأفضل كي يسلم من ذلك.
ـ الإخلاص يكون قبل العمل وأثناءه وبعده، قبله باستحضار النية لله - تعالى -، وأثناءه باستصحابها، وبعده بسؤال الله القبول، وتذكر سلبيات وإيجابيات العمل، لإصلاح ما يكون من خلل.
ـ الإخلاص يبعث على الصبر والأمل الدائم، لأن المخلص عمله لله فهو يرجو ثوابه، وثوابه مكتوب سواء قبل الناس دعوته أم ردوها، لذا فإنه إذا جعل الإخلاص نصب عينيه لم يبال بقبولهم أو إعراضهم، لعلمه أن الله يكتب ثوابه في كلا الحالتين، بخلاف الذي لا يخلص فإنه يجعل همه الأول قبول الناس، فإذا لم يقبلوا مل وترك دعوتهم.
ـ وينصح في هذا المقام النظر في منزلة الإخلاص في مدارج السالكين لابن القيم.
ثانيا: (كثرة التضرع إلى المولى - جل وعلا - أن يلهم بالحق ويوفق للعمل به).
ـ كثرة الدعاء والإلحاح في السؤال سمة راسخة من سمات الدعاة لا ينفكون عنها لحظة، وهذا سر نجاحهم، ومن لم يلح في دعائه فليس على السبيل والسنة.
ـ كثرة الدعاء في كل وقت وآن، يرزق النفس الثبات وحسن التصرف والتدبير، لأن المتضرع إلى ربه متبرء من حوله وقوته، متوكل على الله مفوض أمره إليه، وإذا تولاه الله رزقه حسن التصرف، وفي ذلك نجاح دعوته.
ـ كثرة الدعاء يفتح على الداعي لذيذ مناجاة الله - تعالى -وحلاوة الإيمان، ويسليه في المحن، ويخفف عنه المشاق.
ـ للوقوف على الأدعية النبوية ينظر في كتب الدعوات من الصحاح والسنن، كالبخاري ومسلم.
ثالثا: (ملازمة قراءة القرآن الكريم الذي هو زاد الدعاة الأول).
ـ القرآن يشرح الصدور، ويبدد الغموم، ويزيد في الإيمان: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}.(/1)
ـ الدعاة من أخشع الناس في قراءة القرآن، لأنه يقص عليهم حقيقة الصراع الذي هم فيه، بين الحق والباطل، فهو يبشرهم بالنصر القريب على أعدائهم، ويثبتهم في المحن، ويعدهم الخير والمثوبة:
{حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}..
فإذا قرءوه تمثلوه في أنفسهم وعاشوا آياته لحظة بلحظة، يجدون أنفسهم فيه، ويستشعرون معانيه، ويوجهون خطابه إلى أنفسهم.
ـ ينظر في كتاب الفوائد لابن القيم في الفصول المتعلقة بالقرآن.
رابعا: (الحرص على تدارس شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف).
ـ يجب الرجوع في تعلم أسلوب الدعوة إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الخطأ الاعتماد على كتب المحدَثين فحسب، فسيرته مكتوبة صحيحة بين أيدينا، فيها الهدى والنور، وأي دعوة لا تكون من خلالها فهي فاشلة.
ـ من المهم تدارس سير الصحابة والسلف والأئمة الأعلام كذلك، فذلك يوقف الدعاة على الطرق الصحيحة للدعوة الناجحة، فمن كان مقتديا فليقتد بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
ـ من المراجع المهمة في هذا الباب: شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - للترمذي وابن كثير، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء للذهبي.
خامسا: (لابد من زاد إيماني).
ـ قال - تعالى -: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، فلا بد للداعية من زاد إيماني من الصلاة والذكر.
ـ أعظم أوقات اليوم ثلاثة: بعد الفجر، وقبل الغروب، والثلث الآخر من الليل، فهذه الأوقات زاد الدعاة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) رواه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر..
فالغدوة أول النهار، والروحة آخرها.. والدلجة آخر الليل..
فاغتنام آخر الليل يكون بقيامه وقراءة القرآن فيه، فالليل موطن المناجاة ورفع الحوائج حين ينزل الله - تعالى -ليقول: (من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟) رواه مسلم في الصلاة، باب: الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل..
وقيامه شرف المؤمن، والفجر والعصر وقت الصلاة والذكر، هذه الأوقات هي أحسن أوقات السفر، وهي أحسن السفر إلى الآخرة بالذكر والمناجاة، فمن تعاهدها تزود من الإيمان والصبر.
سادسا: (ذكر الله عند الخروج من البيت، وسؤال الله التوفيق في العمل).
ـ لابد على الداعية أن يكثر من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فإنها تحمل عنه كأمثال الجبال، وليعلم أنه لا يعمل بقوته وحيلته، فلولا إعانة الله له لما حرك حجرا من مكانه، ولا خطا خطوة، ولا دعا إنسانا.
ـ حين الخروج يجب استحضار التوكل على الله وإخلاص النية لله - تعالى -وذكر الدعاء المأثور:
- (بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)..
- (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)، هما حديثان عن أم سلمة وعن أنس عند أبي داود في الأدب: باب ما جاء فيمن دخل بيته ما يقول، صحيح أبي داود 3/959
ـ يقول أنس: كنت أسمع رسول الله يكثر أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن ضلع الدين وقهر الرجال)، البخاري في الدعوات، باب: التعوذ من غلبة الرجال.
فهو ذكر الدعاة، لأن الداعي يحزنه إعراض الناس، ويهمه مستقبل الدعوة، ويشكو من العجز والكسل، ويخاف أن يجبن في موطن يجب أن يقول فيه، أو أن يبخل بشيء فيه نصرة الحق، ويخاف قهر الرجال، فالدعاء بهذه الكلمات تكفيه كل تلك الهموم.
سابعا: (الأمل وعدم اليأس).
ـ الداعية يدعو الناس إلى أمر قد لا يستجيبون له لأول مرة، لذا يجب عليه أن يوطن نفسه على هذا حتى لا ييأس.
ـ ينبغي على الداعية أن لا يعتقد بمقولة: "الطبع يغلب التطبع"، لأن دعوته قائمة على عكس ذلك تماما، إنها تقوم على الإيمان بالقدرة على قلب الطباع من الشر إلى الخير، كما صنع الأنبياء من قبل، فلم تكن مهمة الدعاة إلا قلب طباع الناس الشريرة، ولو أنهم أخذوا بتلك المقولة لما دعوا أحدا.
ـ كذلك يجب عليه أن لا يعتقد قول الشاعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فمهمة الداعية أن يبني ولو كان غيره يهدم، ومهمته أن يسبح ضد تيار الباطل ولو كان عظيما، وقد كان النبي يبعث وحده في بحر من الباطل، ثم لا يزال يدعو حتى ينشر الله على يديه الخير والنور، فيهدم الباطل ويبني الحق.
ثامنا: (الدعوة في كل وقت بالكلمة، بالإشارة، بالفعل).
ـ رب كلمة اهتدى بها إنسان والداعية لا يدري، فالكلمة كالبذرة، قد لا تنبت اليوم أو الغد، لكنها ستنبت يوما ما، لذا على الداعية أن يدعو إلى الحق بكل وسيلة، ولا يشترط أن يرى ثمرة عمله، فقد لا يراها أبدا، لكن ذلك لا يعني أنها لن تنمو.(/2)
ـ من أسس الدعوة البلاغ، فالمطلوب البلاغ، وأما الهداية فمن الله - تعالى -، فإذا استقر هذا في نفس الداعية استراح من الشكوى من إعراض الناس.
تاسعا: (هذه الأجيال أمانة في الأعناق).
ـ فيجب على الداعية أن يكون قدوة لهم في سلوكه وأفعاله، فإن الناس ينظرون إلى سلوك الداعية أكثر من نظرهم إلى كلامه، فمهمته كبيرة، لذا يجب عليه أن يحاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة، فما كان مباحا في حق الناس قد يكون مكروها في حقه لمنزلته.
ـ الأعداء يجتهدون في هدم الأجيال، والدعاة على اختلاف مراكزهم لابد وأن يستشعروا هذا الخطر، وأن يفهموا عظم الأمانة التي بين أيديهم، وليعلموا أنهم هم الحصن الحصين لهذه الأجيال من كيد الأعداء، فالله الله فيهم.
ـ ليعلم الداعية أن الحق هو الباقي، وأن ما يقذف به من كلمات تحمل الهدى هي الباقية، أما ما يدعو به أهل الباطل فإنه سيذهب جفاء في يوما ما وإن طال.
عاشرا: (عماد الداعية في دعوته الناس: رفقه وبشاشته، وحسن كلامه، ونجدته لكل ملهوف).
ـ ليس المطلوب أن يلقي الداعية كلماته ثم يمضي لا يشارك الناس أحزانهم وأفراحهم، إنما المطلوب أن يخالطهم وينفذ إلى قلوبهم بحسن الكلام والبشاشة والنجدة لكل ملهوف، فذلك يقبل بقلوبهم إليه، فيمكن تغيير أحوالهم.
ـ الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم..
ـ من خالط الناس ونزل منازلهم ثم ارتقى بهم إلى الإيمان والتقوى والعمل الصالح هو العظيم حقا.
ـ ينظر في أحاديث الخلطة وحسن الخلق في كتاب رياض الصالحين.
الحادي عشر: (التبصير بمكائد الأعداء).
ـ إن أكثر الناس لا يدرون ما يكاد لهم من قبل أعدائهم، ويخلطون بين الصديق والعدو، فلابد من إيقاف الناس على حقيقة الأعداء.
ـ ولابد للداعية أن يكون دائم الاطلاع على ما يدور في العالم من أحداث وما يكون في المجتمع من أخبار، هذا الاطلاع لابد منه لتقويم الأحداث وتحديد المفيد منها والتحذير من الضار.
ـ ينظر في هذا المقام كتاب الغارة على العالم الإسلامي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، قادة الغرب يقولون، المجلات الإسلامية.
الثاني عشر: (يجب على الداعية تعليق القلوب بالله تعالى).
ـ هذه أهم نقطة على الإطلاق، وهي النقطة التي انطلق منها الأنبياء، فقد كانوا يعلقون القلوب بربها.
ـ هذه أسهل وأنجع وسيلة للإقبال بقلوب الناس إلى طريق الهداية، فإن القلوب إذا أحبت ربها سهل عليها ترك العصيان، ولم يكن شيء أحب إليها من طاعته.
ـ تعليق القلوب يكون بأمرين: بذكر أوصافه وأسمائه، وبذكر آلائه ونعمه، والقرآن يدور حولهما كثيرا.
ـ كل دعوة لا تبدأ من هذه النقطة فهي فاشلة.
ـ ينظر للاستفادة في هذا الباب: الفتاوى لابن تيمية الجزء الأول 1ـ100، مدارج السالكين منزلة الرضا 2/240ـ247، شرح حديث ابن عباس لابن رجب.
الثالث عشر: (من الداعية؟.. )
ـ الداعية هو كل مؤمن وقر في قلبه محبة الله - تعالى -ومحبة دينه ورسوله وعباده المؤمنين وعنده حظ من العلم، بغض النظر عن مركزه، فلا يشترط أن تكون الدعوة وظيفته الرسمية، بل قد يكون عاملا، وقد يكون موظفا أو تاجرا، وقد يكون معلما أو معلمة، وقد يكون أبا أو أخا أو زوجا، وقد تكون أما أو أختا أو زوجا أو بنتا، وكذلك قد يكون مديرا أو رئيسا أو مسؤولا.
المصدر: المختار الإسلامي(/3)
توجيهات شرعية.. في سورة (العصر) المكية
... بقلم: عبد القادر السعيد *
كتاب الله (القرآن الكريم) هو المعجزة الخالدة التي بقيت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم ) شاهدة على رسالة توحيدية جاءت للإنسانية جمعاء، رسالة أساسها توحيد الله و الإقرار بربوبيته و ألوهيته، رسالة إلهية تخاطب البشر بأنهم إن تمسكوا بها نالوا الخير في الدارين، وإن ابتعدوا كانوا من الأشقياء في الدنيا قبل الآخرة .من هذا فقد كان القرآن الكريم وبما يحويه من سور وآيات بمثابة (الدستور ) الذي تُرك لهذه الأمة من أجل أن ينير لها الطريق الأصوب و الأصلح ويعطيها مفاتيح الخير، و ويجنبها كل ما في هذه الحياة من مساوئ و خطايا و أخطاء .
بعد هذا التوضيح البسيط جدا لأهمية القرآن الكريم في حياة البشر، أردت أن ألج الموضوع المعني بالدراسة وهو البحث و التنقيب في حنايا سورة قرآنية كريمة، حقيقة السورة من صغار السور القرآنية و التي حفظناها صغارا عن ظهر قلب، وللأسف أننا لم نكن نفهم ما تحمله من معاني ، غير أنه – ولله الحمد- أدركنا قيمتها في كبرنا وعرفنا مدى شاسعة معانيها وما تحمله من توجيهات ربانية ، في سورة عدد آياتها 3آيات فقط.
الدافع لكتابة هذا الإسهام
أريد أن أشير أولا إلى أنني لست بعالم متضلع في علوم القرآن والتفاسير و علوم الدين عموما، غير أنني من منطلق حديث سمعته من أحد الزملاء قال لي فيه أن لكل مسلم سورة في القرآن يحب قراءتها و يحب ترتيلاها وكأنه يرى أن تلك السورة نزلت لأجله - ولا أقصد أي شيء مخالف للدين - ، وكما أسلفت فإن هذه الفكرة دفعت بي إلى أن أبحث في ما تحمله السورة- التي سأعنى بعرضها- و هي ( سورة العصر) من معاني و إرشادات لأنها بكل صراحة هي من السور القريبة لنفسي و أشعر عند قراءتها بشيء جميل يساورني و بشكل دائم.
بسم الله الرحمن الرحيم : ( و العصر(1) إن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر (3)) (1) وسنبدأ البحث آية بآية أن شاء الله .
{و العصر}
بدأت السورة بقسم وهو و (العصر) و الكل يعلم أن سور عديدة و ردت في التنزيل الحكيم تفتح بقسم مثل: ( والتين والزيتون، و الشمس وضحاها، والفجر،..)و هذا اليمين الذي تفتتح به السورة يعود إلى حكمة ربانية في إختيار موجودات من دون غيرها في هذا القسم أو غيره ، و هناك من يقول أن السبب يعود إلى أن الله يشير إلى أن كل الموجودات الكونية هي موجودات مقدسة مهما تنوع أصلها.
أما (العصر ) فقد اختلف حول ما المقصود منه، غير أن أغلبها تُجمع على أنه الدهر، وهذا ما جاء في تفسير الطبري : ( ...اختلف أهل التأويل في تأويل قوله(والعصر) ...و الصواب من القول في ذلك: أن يقال: إن ربنا أقسم بالعصر (والعصر) اسم الدهر، وهو العَشي و اللَيل و النَهار، و لم يخصص مما شمله هذا الاسم معنىً دون معنىً، فكل ما يلزم هذا الاسم فداخل فيما أقسم به جل ثناؤه) انتهى قول الطبري(2).
وهناك من قال أن الله عزوجل أراد من (و العصر) الليل و النهار، وهناك من قال أنه قسم بصلاة العصر و هناك قول بأنه الفترة الأخير من النهار أي ما بين زوال الشمس و الغروب، غير أن التفسير الأقرب للصحة هو المذكور في الأول و الذي أجمع عليه العديد من المفسرين .
أما ما نستشفه من هذا القسم بالزمن فهو أن الإنسان في خسران دائم لأنه كل يوم يفقد يوما من عمره فربط آخر النهار و هو العصر بالإنسان له هذا معنى أن الإنسان وجب عليه تدارك أيامه و لياليه قبل أن تنقضي.
{ إن الإنسان لفي خسر }
و (الإنسان) هنا قد جاء بصورة عامة، لأن المراد به هو الجنس عامة، و(الـ ) هي دليل هذا القول، لاعتبار أنها حلت محل (كل) أي (كل إنسان في خسر)، و معنى هذه الآية الكريمة تُظهر أن اله قد اقسم على أن الإنسان في خسر أي في خسران و نقصان دائمين و هنا يقول أحد الإمام الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي: (3) ( إن الإنسان في منتهى غاية الخسران في حال أنه لا يشعر بشيء من ذلك الخسران بما زين له من سؤ عمله، وتحكم شهواته،حكمة من الله :"وكذلك زينا لكل أمة عملهم ")(4)،أما حرف الجر (في) فيعني أن الإنسان منغمس غارق في الخسران و أن هذا لأخير يحيط به من كل جانب . و حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم يثبت ذلك فنعن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له) و هذا ما يدلل على أن الإنسان يسعى في هذه الدنيا محاطا بكل ما يدفعه إلى البحث عن الدنيا و من خلال ذلك ينغمس في الخسران تاركا فضل الآخرة ، وفي هذه النقطة يقول الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي : ( أما وجه الخسران فقد يبعد أن يتصوره الإنسان، على ما هو عليه، إلا بعد مقارنته بحالته الحاضرة.) انتهى قول الشيخ.(/1)
{ إلا الذين ءامنوا و عملوا الصالحات }
بعد معرفتنا بأن الإنسان هو خسران دائم، فقد استثنى عظيم الشأن من هذه الحالة (الذين ءامنوا وعملوا) ومعنى ذلك أن الناجي و السالك من حالة الخسران هو من المؤمن إيمانا لا تردد ولا شك فيه، والإيمان كما يوضحه الحديث الشريف و الذي يروي قدوم جبريل عند النبي و الصحابة عنده فبدأ يسأله و الرسول (صلى الله عليه وسلم يجيبه ) ومن ضمن ما جاء في الحديث أن سأل جبريل (عليه السلام ) الرسول عن الإيمان فرد عليه : (... أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله و اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره..) في هذا إيجاز لمعنى الإيمان بكل وضوح. و العمل الصالح ، و الاستقامة، وترك النواهي، أن تبذل في سبيل الله، أن تفعل الخير و تساعد عليه وتساهم فيه، و الحياء شعبة من الإيمان ، وكل ما يمكن أن يقرب لله فهو من معاني العمل الصالح .كل ما ذكرنا عن الأعمال الصالحة و مناحيه فإنه لا يصلح إذا لكم يكن خالصا لوجه الواحد الديان فالإخلاص لعمري هو الأساس في كل الأعمال.
وهنا يقول الشيخ العلاوي: ( وقليل ما هم أعني من تتوفر فيهم تلك الخلصال الكريمة، و النعوت العظيمة التي تضمن لم السعادة غير المشوبة بأدنى شقاوة...)(5).
{ وتواصوا بالحق و تواصوا بالصبر}
من الاستثناء الذي وضعه رب العباد إلى الشطر الثاني المُحدِد لصلاح العباد، والذي حدده سبحانه عظم شأنه في ( التواصي بالحق و التواصي بالصبر) و نفصل الأمرين:
التواصي الحق: و التواصي اشتق من الوصية و التوصية، أي بما معناه على الناس وعلى المؤمنين على الفاعلين للخير أن يتواصوا فيما بينهم بالحق و الذي يعرف بأنه الشرع أي ما شرعه الله لهذه الأمة من أوامر ونواهي من هذا الباب فإن كل واحد من عباد الله المؤمنين يوصي أخاه إن رآه مفرطا في أمور دينه وينبهه لذلك لأن هذا الأمر هو من شواهد الإيمان (أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك)، هذا التوجيه الرباني يعطي لنا صورة على أن الإسلام يرى الفرد في مجتمعه مؤثرا متأثرا به ويجب عليه من خلال هذا أن يساهم و يحاول أن يصلح وأن يكون ذا شخصية (إيجابية) تعطي و تساهم ولا تلقي بالا للأقوال المثبطة للجهد.
أما التواصي بالصبر: و الصبر يعرف على انه ( حبس النفس عما لا ينبغي فعله)وقد قسمه أهل إلى العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على طاعة الله :أي أن يجاهد المسلم نفسه من أجل أن يأتي بفرائض الدين على أحسن وجه لأن النفس تدعوك دائما على التراخي و التكاسل .
القسم الثاني : صبر على محارم الله: أي أن يسعى المسلم جاهدا من أجل مجانبة كل ما حرم المولى العزيز.
القسم الثالث: صبر على أقدار الله: أي يرضى ويحتسب المسلم على كل ما يأتيه من عند خالق الأكوان من دون تضمر و لا بدون قنوط من رحمته.
من خلال هذا العرض لأنواع الصبر ندرك مدى عظم هذه الخصلة وما لها من تأثير على حياة المسلم ، ونريد أن نشير إلى نقطة حرجة في هذه السورة، فالصبر هنا ليس مقصورا على التواصي بالحق فقط بل هو متعلق بالإيمان و بالعمل الصالح و بالتواصي على الحق، فمن اجل أن تشد على إيمانك يليق لك الصبر و من أجل عمل ما هو صالح يجب لك الصبر و من أجل أن تتواصى مع إخوانك حول ما فيه صلاح للدين و للدنيا فتحتاج إلى الصبر .
ختاما سورة العصر
وأقصد من هذا العنوان أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا عند اجتماعهم أو تفرقهم من مجلس مع الرسول الأكرم( صلى الله عليه وسلم) أو من دونه كانوا يقرؤون هذه السورة ولهذا الموضع دليل على ما ذكرناه من اشتمالها على معاني ربح أو خسران بن آدم في حياته عامة.
و تذكيرا لما سبق عرضه وحتى نستجمع كل ما جاء في هذه السياحة القرآنية نُجمع القول في نقاط هي (6):
1. القسم بالعصر يدل على عناية الإسلام بالوقت أو الزمن.
2. أن الخسران نصيب الإنسان إلا من آمن وعمل صالحا.
3. تربط السورة بين العمل الصالح والإيمان .
4. التواصي بالحق و الصبر بيان على اثر الرفقة والصحبة الصالحة.
5. وتخصيص الصبر بالذكر له دليل على أننا عرضة للأذى و يجب علينا الصبر.
و ختاما فقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله- عن سورة العصر: ( لو لم تنزل على الناس إلا هذه السورة لوسعتهم ) و يقصد هنا في مناحي الوعظ و الدفع إلى فعل الخير .
جعلني الله و إياكم ممن آمنوا ويعملون الصالحات و يتواصون بالحق و يتواصون بالصبر – آمين.
________________________________________
الهوامش:
* للتواصل البريد الإلكتروني: said1482@caramail.com
1- سورة العصر سورة مكية وهي في الجزء الثلاثين .
2- تفسير الطبري لسورة العصر.
3- الشيخ أبو العباس أحمد بن مصطفى بن عليوة المعروف بالعلاوي، ولد بمستغانم سنة 1869وبها نشأ، وتوفي سنة 1934، مؤسس جريدة (لسان الدين) 1923و جريدة (البلاغ الجزائري) سنة 1926.
4-الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، مفتاح علوم السر في تفسير سورة (والعصر)، تونس
5- الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، المرجع ذاته(/2)
6-www.saaid.com (موقع صيد الفوائد)(/3)
توجيهات لمريد حفظ كتاب الله
خالد بن سليمان الغرير
الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد :
تمر الأيام تلو الأيام وتمضي الأعوام بعد الأعوام والعبد في مكانه ومكانته لم يزدد علما ولا عملا
والعاقل اللبيب الحصيف ينبغي عليه أن يستثمر أيامه فيما يرضي الله جل وعلى ويعتاد طاعة ربه - سبحانه -،
وإن من أنفس ما تقضى به الأوقات وتفنى فيه الأعمار هو مدارسة كتاب الله حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا وقد اشتكى نبينا لربه بقول الله وإخباره في سورة الفرقان (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)
وإنني هنا لألفت نظر المحبين والراغبين لحفظ كتاب الله بعض التوجيهات حول حفظ كتاب الله استخلصتها من تجارب مرت بي من خلال تحفيظ كتاب الله،
ولعلي أن ألخصها على شكل نقاط:
1- استحضر النية الخالصة عند نية البدء بحفظ القرآن وليكن مقصدك وجه الله - تعالى- وأنك مريد لثواب الله ورضوانه واستحضر حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة وذكر منهم الرجل تعلم القرآن ليقال قارئ) نسأل الله العافية والسلامة
2- احرص على أن تلتحق بحلقة تحفيظ فيد الله مع الجماعة وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد كما ذكر نبينا وإن الذئب ليأكل القاصية من الغنم، فلا تقل سأحفظ وحدي ولدي همة ونشاط فالهمة يعقبها الفتور والنشاط يعقبه الكسل والمؤمن قوي بإخوانه ضعيف بنفسه،
فإن لم تتيسر لك حلقة أو منعتك ظروفك من الارتباط بحلقة فلا أقل من أن ترتبط بشخص ما يعينك ويسائلك عن حفظك فإما يكون أخا لك في الله أو ثلاثة أو أربعة تتعاونون على حفظ كتاب الله ومدارسته أو إمام مسجد حيكم بالنسبة للرجال بحيث تتفق معه على أن يسمع لك بناءا على برنامج تضعه معه حسب فراغه ومشاغله
وبالنسبة للأخوات فيمكنها أن تتفق مع معلمتها في المدرسة أو رائدة النشاط أو القائمة على المصلى في وقت الفسحة أو زميلة من زميلاتها في المدرسة لتكون هي وإياها متعاونات على الحفظ،
لكن الخطير هو قول الإنسان سأحفظ لوحدي فهو أدعى للإخلاص فهذه خطوة شيطانية ليستفرد به الشيطان ثم ما يلبث الإنسان أن ينقطع، أقول ذلك عن تجربة وقليل جدًا جدًا من حفظ لوحده.
3 - اجعل حفظك على مصحف واحد وحبذا أن يكون غير موجه كمصحف الحرمين لأن المصحف الموجه أدعى للأخطاء وتداخل الصفحات (المصحف الموجه هو الذي تنتهي كل صفحة منه بآية)،
وإننا لنأمل من مجمع طباعة المصحف في المدينة إخراج طبعة الحرمين التي كتبت ودققت وفرغ منها ولم يبق سوى إذن الوزارة بالبدء في طباعتها وإخراجها فالمصحف الغير موجه ادعى وأقوى للضبط من الموجه.
4 - لا تبدأ الحفظ بهمتك الأولى فتكثر الحفظ بسبب نشاطك وهمتك ولكن احفظ القدر المعقول وبشرط الضبط،
لكن بداية يكون المحفوظ قليلا ثم يزاد شيئا فشيئا حتى تتمرن الذاكرة وتنشط،
والغالب أن يبدأ بحفظ نصف وجه لمدة معينة كأسبوع ثم يزاد لوجه ثم يزاد لوجه ونصف ثم يزاد لوجهين،
والذي أراه أن يستمر بعد ذلك على حفظ ثمن جزء أي ربع حزب ويثبت عليه ولا يزاد عليه كواجب يومي فيكون الحفظ مرتبط بالأرباع (من العلامة للعلامة) فيكون الحفظ محدد والأرباع والأجزاء كذلك تعرف والوقت النهائي للهدف الأسمى (مشروع الحفظ) واضح وبيّن.
4 - اجعل لك واجب يومي لا تتركه أبدا من حفظ ومراجعة وتلاوة ولا تتخلى عنه مهما كانت الظروف ولكن حسب استطاعتك وقدرتك وتفرغك بحيث يكون لك ورد يومي من هذه الثلاث.
5 - ضع في اعتبارك وفي جميع حواسك أنه سيمر بك وقت أو أوقات أثناء مسيرة حفظك تنغلق فيه الذاكرة ويتكدر الخاطر على انغلاق الحفظ أو قلة المراجعة وضعفها أو قلة التلاوة...
فضع ذلك في حسبانك أن هذا أمر طبيعي وأن نشاطك وهمتك وحماسك لن يستمرا على وضع النشاط والحماس الذي كنت تعهد بل قد يكون ذا أثر عكسي عليك وتبدأ تخشى من تفلت حفظك القديم وتبدأ تندب نفسك وتتحسر على وضعك الحالي وتعيش بأزمة نفسية حتى أن نفسك قد تحدثك بأنك لا تصلح لحفظ ولست أهلا لذلك فأقول وأكرر لك لا عليك فالأمر جد طبيعي فقد تجلس معك هذه الفترة وهذا الانغلاق شهر أو شهرين وقد يصل لأربعة أشهر فهي فترة لابد أن تمر ولا أظن أنها تتجاوز هذه الفترة بطولها والله أعلم فإن زاد عن ذلك فلا بد من مراجعة النفس والحسابات فالذنوب لها أثر
وأما ما قصدت بالأول فهو عن الفتور وانغلاق الذاكرة عن الحفظ وقلة المراجعة وعدم الضبط وقلة التلاوة أو عدمها،
وعند انغلاق الذهن إن تيسر لك أن تجمع بين الحفظ والمراجعة والتلاوة بحيث لا تعدم من وردك اليومي من هذه وطبعا سيكون بشكل أقل من السابق بسبب الفتور فالجمع بينها حسن فيكون لك منهج حفظ ومنهج آخر مراجعة ومنهج ثالث تلاوة بنفس اليوم فهذا نور على نور وزادك الله حرصا وإيمانا،(/1)
وإن لم تستطع الجمع بينها بسبب ما يمر بك من الفتور والضعف أو أحيانا ظروف ومشاغل منعتك من الإتيان بواجبك اليومي كما أنت محدد فلا أقل من أن تحفظ ولو شيئا قليلا وتراجع حسب استطاعتك
فإن فترت همتك أو منعتك ظروفك ومشاغلك حتى عن الجمع بين الحفظ والمراجعة وهذا أمر طبيعي كما ذكرت لك فحينها لا أقل من أن تحبس نفسك على المراجعة لوحدها قدر استطاعتك ولا تظن أنك ستراجع كما كنت تراجع سابقا فقد ينقص منهج مراجعتك إلى الربع فلا تتحطم ولا تيأس فهي أزمة ستمر فسدد وقارب ولكن لا تهجر كتاب الله،
وعلى العكس قد تمر بك أوقات تحلق فيه همتك بالثريا فحينها استغل هذا الإقبال وهذا النشاط بالحفظ الثابت وإتقان وضبط محفوظك الكلي السابق.
6 - ابدأ حفظك بمنهجية معينة جربتها على طلابي فأثمرت ولله الحمد أن كانت ميسرة لهم لإتمام الحفظ بوقت جيد ومستوى الضبط كذلك وتراعي كذلك تنشيط الحافظة، والمنهجية هي كالتالي:
البدء بالحفظ يكون أولا
# من جزء عم فيبدأ بسورة النبأ نزولا إلى سورة الناس ثم
# من سورة تبارك نزولا إلى سورة المرسلات ثم
# من سورة الحجرات نزولا إلى سورة التحريم ثم
# من سورة فصلت نزولا إلى سورة الفتح ثم
# من سورة لقمان نزولا إلى سورة غافر ثم
# من سورة الكهف نزولا إلى سورة الروم ثم
# من سورة يوسف نزولا إلى سورة الإسراء ثم
# من سورة الأنفال نزولا إلى سورة هود ثم أخيرا
من سورة البقرة إلى سورة الأعراف وهنا تكون قد أكملت حفظ كتاب الله - تعالى -
7 - (تنبيه خطير ومهم)....
لا تبدأ بحفظ سورة جديدة لم تضبط حفظ السورة التي قبلها ألبته فمثلا لا تبدأ بسورة عبس وأنت لم تضبط سورة النازعات
ولا تبدأ كذلك بحفظ سورة جديدة وأنت تشعر أن مستوى حفظك الكلي السابق من كتاب الله لا يصل لمستوى الجيد جدا، فمثلا أتممت حفظ جزء عم (النبأ) فقط فنوصيك حينها بأن لا تبدأ بسورة الملك وأنت لم تضبط جزء عم كله بمستوى ضبط تكون أنت وشيخك راضين عنه
8 - إذا أنهيت حفظ سورة من السور فراجعها كلها بأكملها من أولها لآخرها عدة مرات فمثلا لو أتممت حفظ سورة مريم فلا تبدأ بحفظ سورة طه حتى تراجع سورة مريم وترضى عن مستوى ضبطك لها،
ولو اضطررت للبقاء أياما في ضبط سورة مريم.
9 - عندما تريد تسميع المحفوظ الجديد فلا تبدأ من أول آية جديدة حفظتها بل ارجع آيتين أو ثلاث من محفوظ الأمس وابدأ منها، فمثلا لو أنت وقفت بالأمس على آية 25من سورة البقرة فلا تسمع من آية 26 بل ابدأ تسميعك من آية 23مثلا حتى نهاية الواجب لديك وهكذا.
10 - عود نفسك على أن تقرأ في صلواتك خصوصا النوافل سواء السنن الرواتب أو صلاة الليل أو سنة الضحى أو تحية المسجد أن تقرأ من محفوظك الجديد أو منهج المراجعة الذي تسير فيه.
11 - استثمر مواسم الطاعات والأزمان الفاضلة كرمضان وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة في الإكثار من المراجعة وتثبيت الحفظ
12 - اجعل لك صاحب يحمل نفس الهم الذي تحمل من حب إتمام الحفظ والضبط وحبذا أن يكون قريب من حفظك ويكون كذلك قريب من قدرتك الذهنية وتجعلا لكما خلال كل يوم أو يوم بعد آخر تلتقون فيه أو يوم الجمعة قبل الصلاة بحيث تبكران وتراجعان، وميزة القرين المشابه أن يحصل بينكما تنافس في الحفظ وتسابق بشرط أن يكون هذا التنافس والتسابق مربوط بالضبط والإتقان.
13- احرص على أن لا تحفظ أي مقطع إلا بعد قراءة تفسيره من كتب التفسير المعروفة كابن كثير أو ابن سعدي أو البغوي فتجمع بين معرفة أسباب النزول ومعاني الكلمات التي لم تفهمها بالإضافة إلى انه ييسر لك الحفظ وفهم الآيات.
14- احفظ واجبك اليومي في الوقت الذي يريحك فلو ناسبك العصر فاحفظ فيه ولو ناسبك الظهر فاحفظ فيه
فمتى ما رأيت أن الذهن منفتح ومستعد فاستغله ولا تسوف وتؤجل،
وأما قول البعض أن وقت الفجر أنسب فنقول نعم وقت الفجر على الأعم أنسب لصفاء الذهن وهدوء الناس ونقاء الجو والأهم في ذلك أنه وقت مبارك لحديث (بورك لأمتي في بكورها)،
لكن قد يكون وقت غير الفجر أنسب عند شريحة معينة من الناس فالضابط في ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) فمتى ما وجدت الوقت مناسب والذهن مستعد فبادر للحفظ والمراجعة.
15 - البعض يسأل عن الطريقة المناسبة للحفظ فأقول كل إنسان له طريقته الخاصة فهناك من يكرر المقطع كله تلاوة بعدد معين من التكرار للمقطع ثم يبدأ بتثبيته آية آية
وهناك من يبدأ بالتثبيت مباشرة فيأخذ واجبه آية آية حفظا وتثبيتا يكررها عدة مرات ثم ينتقل لما بعدها،
وهناك من يحفظ بعينيه فقط ويجعل جل فكره في حفظ الآيات التي أمامه ولا يلتفت يمينا ولا يسارا ولا يعلم عن من حوله وتجده صامت ولكن عينيه في المصحف أمامه،
وهناك من لا يحفظ حتى يرفع صوته ويسمع نفسه فيجمع بين السمع والبصر،
وهناك من لا يحفظ إلا إذا صار يمشي،(/2)
وهناك من لا يحفظ إلا إذا انعزل لوحده ولا يريد أي تأثيرات خارجية تشوش عليه، فكل يعمل على شاكلته
http://www.saaid.net المصدر:(/3)
توجيهات لمضاربي المساهمات
د. عصام بن عبد المحسن الحميدان(*) 9/7/1425
25/08/2004
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الإنسان يعجب عندما يسمع عن بعض الناس الذين أصيبوا بسكتة قلبية، أو بمرض، أو باعوا بيوتهم، أو غير ذلك نتيجة لمضاربات الأسهم!
إن ذلك دليل على أحد شيئين: إما قلة الإيمان، أو قلة الحرص والاحتياط والخبرة.
ولذا فإني سأوجِّه بعض النصائح والتوجيهات لهؤلاء الناس وغيرهم، ممن يريد أن يقدم على المساهمة، أو هو أحد المساهمين.
قبل التجارة:
أولاً: عدم الإفتاء بغير علم، وتحريم ما لم يحرمه الله، فبعض الناس يسأل فيسارع إلى التحريم من باب الاحتياط، وهذا لا يجوز شرعاً، لأن التحريم والتحليل لله تعالى، قال سبحانه "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذِب هذا حلالٌ وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" ]النحل 116[ وهو جزء من التشريع للأمة، فهل هذا يرضى أن يكون مشرِّعاً مع الله تعالى ؟! وقد كان السلف رحمهم الله من الصحابة والتابعين يخافون أن يتحدث أحدهم في الدين فيكون مخطئاً.
ثم إن الأصل في المعاملات الإباحة، كما قال العلماء، والأصل في العبادات الحظر والتوقيف .
والنبي صلى الله عليه وسلّم أبقى على التجارات الموجودة في زمنه، إلا استثناءات يسيرة .
وقال صلى الله عليه وسلّم " أعظم الناس جُرماً من سأل عن شيء لم يحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته " متفق عليه عن سعد رضي الله عنه .
والورع شيء والتحريم شيء آخر، قد أتورَّع أنا أو يوجه أحد العلماء بالتورع عن شيء، ولكن ذلك لا يعني التحريم، وأبو ذرّ رضي الله عنه من ورعه اعتزل الناس في الربَذة، لأنه يرى أن الناس قد توسعوا في الدنيا، ولكن بقي عثمان رضي الله عنه وكبار الصحابة في المدينة، وبقاؤهم هو الأصح، لأن يد الله على الجماعة .
ومما يجب قبل التجارة: الرجوع للمختصَّين من العلماء الخبيرين بالأمور المالية شرعاً وواقعاً ؛ لأن المعاملات تعددت وتنوَّعت وتفرَّعت، وأصبح من الصعب على الفقيه أن يستوعب كل أنواع المعاملات .
وأما الحكم في حال اختلاف الفقهاء، فهو باعتماد المجامع الفقهية واللجان الشرعية، فإنها أقرب إلى الصواب من غيرها .
وإذا وُجِد قولٌ لغيرهم من الفقهاء، فهو رحمةٌ من الله تعالى، لأن في اختلافهم سعةٌ على الأمة.وقد جاء للإمام أحمد رحمه الله رجلٌ يستشيره في تأليف كتابٍ في الاختلاف، فقال له: سمِّه كتاب السعة .
وقال ابن العربي رحمه الله (إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تختلف العلماء فيه، فيحرم عالم، ويحلل آخر، ويوجب مجتهد، ويسقط آخر، واختلاف العلماء رحمةٌ للخلق، وفسحةٌ في الحق، وطريقٌ مهيع –بيِّن- إلى الرفق) (أحكام القرآن: 2 / 699).
ثانياً: الاستفادة من أهل العلم والخبرة:
فإن المال أمانة بيد الإنسان، حتى المال الذي تنسبه لنفسك هو حقيقة لله تعالى، قال الله سبحانه "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" ]الحديد:7[ ومصادر الزراعة والتجارة والرعي، وكل الكون لله تعالى " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى" ] طه: 6 [ وهذه هي نظرة الإسلام للمال، وهي تختلف عن النظرة الرأسمالية التي تهدف إلى الربح المادي الذاتي – دون مراعاة لدور الدين فيه -، وينتج عنها تكوين الطبقية في المجتمع – دون مراعاة للتكافل الاجتماعي - .
فإذا كان المال لله تعالى، فلا يحل تبذيره بغير حق، قال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً" ]النساء:5[.
فيتقي الإنسان الله تعالى في ماله، فلا يضيع نفسه وأبناءه، والنبي صلى الله عليه وسلّم وجَّه إلى الاستفادة من أهل الخبرة والتخصص، فقال " هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال "، واستجاب لإشارة سلمان رضي الله عنه في حفر الخندق، وقال في الزراعة " أنتم أعلم بأمر دنياكم " رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه .
لذا ينبغي عدم التسرع في المساهمات، واستشارة الثقات، والسؤال عن الشركات، ومعاملاتها، ومعرفة واقعها من الناحية الشرعية، والمالية، لئلا يضطر إلى سحب ماله بعد ذلك .
ثم يسأل عن كيفية التجارة، والمرابحة، والمساهمة، وغيرها، لئلا يغبَن .
ثالثاً: عدم استعمال المال الضروري في الأسهم، وادّخار ما يحتاجه المرء، لأن في التجارة مخاطرة، فربما ذهب ماله بإذن الله تعالى ابتلاءً له، فمن الحزم أن يكون مستعداً ليوم الكريهة .
ثم يلتمس البركة في المال ولو في غير التجارة، كالزراعة، والصناعة وغيرهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنكم لا تدرون في أيّ طعامكم البركة " رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه .
عند التجارة :
أولاً: الصبر وعدم تعجُّل الربح، فكلما زاد الصبر قلَّت الخسارة:(/1)
والزمن جزء من العلاج، والربح السريع خطأ ؛ لأنه يؤدي إلى عدم مراعاة الضوابط الشرعية بشكل كامل، ويؤدي إلى السرعة في اتخاذ القرار دون التثبت في مدى نجاح المساهمة، ويؤدي إلى الغفلة عن بعض الثغرات التي لا تتضح إلا بالتأمل وذلك تحت تأثير الإغراء بالربح .
ثانياً: عدم التساهل في الأمور الربوية :
فقد قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله" ]البقرة: 278، 279[، وقال صلى الله عليه وسلّم " درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ست وثلاثين زنية " رواه أحمد ورجال رجال الصحيح عن عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه .
وقال عليه السلام " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " رواه الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه .
وإذا كانت البنوك قد فتحت أبوابها للمساهمين والمضاربين، فليس معنى ذلك جواز التعامل بأسهم البنوك، فإن رؤوس أموالها ربوية، وهناك فرق بين شراء أسهم البنوك، والشركات الربوية، واستخدام غرف وشاشات البنوك في التعامل، فإن هذه الغرف والشاشات وسائل للتداول لا علاقة لها بنوع المال أو التجارة .
ولكن على المؤمن الابتعاد عن الشبهات خصوصاً في حال شيوع الحرام، قال صلى الله عليه وسلّم " من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه، فمثله مثل الذي يأكل ولا يشبع " رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه .
وعلى المسلم مراعاة الضوابط الشرعية للمعاملات والمساهمات التي تصدرها المجامع الفقهية، واللجان الشرعية في البنوك.
ولما جاء الإسلام أغلق بعض أبواب التجارة لما فيها من الحرام، وإن كان فيها نفعٌ وأرباح، فقال سبحانه في الخمر والميسر "فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" [البقرة:219] وقال في تشغيل النساء في الفتنة أول الإسلام "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرَض الحياة الدنيا" [النور: 33]
فأغلق بعض الأبواب الضارة بالدين، وإن كانت نافعة في الدنيا .
ثالثاً: عواقب أكل الحرام :
في الدنيا: الاكتئاب، والقلق، والضيق، والأمراض النفسية، والاجتماعية .
وفي الآخرة، قال صلى الله عليه وسلّم " لا يدخل الجنة لحم ولا دم نبت من سحت، النار أولى به " رواه الطبراني ورجاله ثقات عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، ورواه أحمد عن جابر رضي الله عنه ورجاله رجال الصحيح .
فعلى المؤمن أن يتقي الله تعالى، ولا يعرض نفسه وأهله لأكل الحرام والشبهة، فإن الدعاء مقرون بأكل الحلال، قال صلى الله عليه وسلّم يا سعد، أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة رواه الطبراني بإسناد فيه نظر .
رابعاً: الرزق من الله تعالى لا من الناس :
لذا فإن المؤمن يسأل الله تعالى لا الناس "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"
]الذاريات: 58[
ويدعو الله تعالى بالسعة في الرزق، وكان صلى الله عليه وسلّم يقول "اللهم ارزقني واهدني"، وكان يقول "اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع عمري" رواه الطبراني في الأوسط عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بسند جيد .
ومن أفضل الأدعية في كسب الرزق المداومة على الدعاء بقول "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك "
وبالتالي لا يجزع إذا أصيب في ماله، لأنه من الله تعالى، ولا يبطر إذا وسِّع عليه، قال سبحانه في قصة قارون "لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" [القصص: 76] وقال سبحانه "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" [الحديد: 23].
خامساً: يجب أن لا تشغل التجارة عن ذكر الله تعالى، قال سبحانه "رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" ]النور:37[
ولذا قال سبحانه:”يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" ] الجمعة: 9 [ وفي غير يوم الجمعة كذلك .
ونحن نعلم أن الحفاظ على المال من الضرورات الخمس، ولكنه بعد الحفاظ على الدين، والنفس، فهو وسيلة لإقامة الدين، لا غاية لذاته، لذا فقد يكون نقمةً في بعض الأحيان، كالمال غير المزكَّى، وهو الكنز .
فيا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِهِ ... ...
سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ جَامِع
وَكم قد رأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ ... ...
لهم، بينَ أطباقِ التّرابِ مَضاجع
إذا ضَنّ مَنْ تَرْجو عَلَيكَ بنَفْعِهِ، ... ...
فذَرْهُ، فإنّ الرّزْقَ، في الأرْضِ، واسعُ
وَمَنْ كانَتِ الدّنْيا هَواهُ وهَمَّهُ، ... ...
سبَتْهُ المُنَى واستعبدَتْهُ المَطَامِعُ
وَمَنْ عَقَلَ استَحيا، وَأكرَمَ نَفسَه، ... ...
ومَنْ قَنِعَ استغْنَى فَهَلْ أنْتَ قَانِعُ
لِكلِّ امرِىء ٍ رأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفّهُ ... ...
عنِ الشّيءِ، أحياناً، وَرَأيٌ يُنازِعُ
سادساً: الصدقة تطهر المال من الشبهات :(/2)
قال سبحانه "خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها" ]التوبة:103[
وقال عز وجل يقصّ قصة أصحاب البستان "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون* فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم" ]القلم:17–20[ وذلك بسبب أنهم تعهدوا ألا يدخلنها عليهم مسكين، فمنعوا الصدقة، فاحترقت المزرعة .
وقال صلى الله عليه وسلّم " ما نقص مال من صدقة " رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلّم " يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشُوبوه بالصدقة " رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه .
وكان عثمان رضي الله عنه يتصدق كثيراً، مع تورُّعه في تجارته، وجاءت تجارة له يوماً، فقال: من يساومني عليها، فأعطي 100% فلم يرضَ، فزيد، فلم يرضَ، حتى قال: إني أعطيت فيها 1000 % ربحاً، فتعجبوا، وقالوا: نحن تجار المدينة، ولم يسبقنا أحدٌ إليك.فمن أعطاك ؟ فقال: الله أعطاني.فتصدق بها لوجه الله تعالى .
فالبركة تلتمس بالصدقة، وأكل الحلال.وهذا أمر مجرَّب بحمد الله .
سابعاً: تحريم الإشاعات والأكاذيب ونشرها :
فإن إضرار المسلمين حرام، قال صلى الله عليه وسلّم " لا ضرر ولا ضرار "، وقال " لا تحاسدوا "
والكلمة أمانة، قال سبحانه "إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً" ]الإسراء:36[
فلا يجوز الكذب في نقل أسعار الأسهم، والافتراء على الأشخاص، وربما حلف بعضهم كاذباً في مواقع الانترنت، ومنتديات الأسهم، وهذا يمينٌ غموس يغمس صاحبه في النار – عياذاً بالله -، قال صلى الله عليه وسلّم " من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد، لقي الله وهو عليه غضبان " رواه أحمد والنسائي عن عدي بن عميرة رضي الله عنه.وهو في الصحيحين بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه .
وربما عدّ بعضهم ذلك شطارة , وذكاء، وهو لا يعلم أنه يوقع إخوانه المسلمين في الحرج، والخسارة، وربما قال: لم أجبر أحداً على الشراء والبيع، ولكن أليس هو من أراد الناس أن يثقوا به، فكان عند سوء ظنهم، وأصبح غير محل ثقة .
ثامناً: الغيب لا يعلمه إلا الله، قال سبحانه: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله"] النمل:65[ .
فلا يجوز الحكم بالغيب في الأسعار، وما يسمى بالتنبؤات، أو الاعتماد على الرؤى، أو الاعتماد على الطالع والحظّ، ونشر الإشاعات على ضوئها .
تاسعاً: الأمانة في المال، والنصيحة للمسلمين:
تبيين عيب الأسهم وحالها الصحيح، فلا يبيع على أحد شيئاً يعلم أنه خاسر، ويوهمه أنه رابح، فإن هذا غش، وقد قال صلى الله عليه وسلّم " الدين النصيحة " وقال " من غشّ فليس منا " رواهما مسلم في صحيحه .
وقال صلى الله عليه وسلم " لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيَّنه " رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلّم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " متفق عليه عن حكيم بن حزام رضي الله عنه .
ونهى صلى الله عليه وسلّم عن تلقي الركبان.متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
لأنه يؤدي إلى غبن البائع، فإن كان لا بدّ فالسكوت .
عاشراً: اتقاء الله تعالى في أموال الناس من قبل الوكلاء والوسطاء:
وحفظ حقوق الناس، وعدم طلب الربح الفاحش بالسمسرة .
الحادي عشر: أمانة مجالس الإدارة في البعد عن الحرام والربا، والتماس منفعة الناس .
فإن لمجالس الإدارة دور كبير في توعية المساهمين بأنواع المساهمات، والصحيح منها، والرابح، والخاسر، والسعر الحقيقي، وغير ذلك .
عند الربح :
تذكر فضل الله تعالى، قال سبحانه "وما بكم من نعمةٍ فمن الله" ]النحل:53[، ونتذكر حديث الأبرص والأقرع والأعمى الذين ابتلاهم الله تعالى بكثرة المال، فجحد الأبرص والأقرع نعمة الله، وأقرّ بها الأعمى، فقال له الملك: إنما هو ابتلاء، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
عند الخسارة:
عدم القنوط من رحمة الله، والإيمان بالقدر :
قال سبحانه "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" ]التوبة:51[
، وتذكر أن الخسارة المادية أهون من خسارة الدين، وتوقُّع الخسارة :
لا تحسب المجد تمراً أنت آكلهُ *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وتذكر آلام المسلمين وفجائعهم، وأن هذه أنواع من الابتلاء، فبعض الناس يبتلى بالفقر، وبعضهم يبتلى بالتهجير، وبعضهم يبتلى بالمرض، وبعضهم يبتلى بالزوجة والولَد، وبعضهم يبتلى بالغنى، قال سبحانه: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" [الأنبياء: 35] وقال "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين" [البقرة:155].
(*) الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهر(/3)
توجيهات وأفكار في تربية الصغار
يتناول الدرس قضية من أخطر القضايا وهي تربية الأولاد في وقت تخلى فيه كثير من الآباء والأمهات عن هذه المسئولية العظيمة، مرشدا إياهم في خطوات واقعية وعملية كيف يمكن توجيه الأطفال وترشيدهم وتأديبهم ومبينا نماذج من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في كيفية توجيه الأطفال وغرس الإيمان والسلوك الحسن فيهم .
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد،،، فأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الموضوع الآباء والأمهات في وقت تخلى كثير منهم عن هذه المسئولية العظيمة: تربية الأبناء، فالأب في وظيفته، أو تجارته، وربما الأم في وظيفتها وزياراتها، والضحية هم الأولاد. ألا تتق الله أيها الأب، واتق الله أيتها الأم؛ فإنكما مسئولان أمام الله عن هذه الأمانة، وتذكرا جيداً هذا الموقف عند السؤال والحساب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا...]رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وأحمد . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد .وقال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]{ “سورة التحريم” .
إذاً فاعلما أن مسئولية تربية الأولاد بينكما مشتركة تقتضي التعاون والتفاهم، واعلما أيضاً أن مرحلة الطفولة مهمة جداً في توجيه الولد وتأديبه، قال الإمام الماوردي مؤكداً على هذا المعنى:' فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب؛ ليأنس بها، وينشأ عليها، فيسهل عليه قبولها عند الكبر؛ لاستئناسه بمبادئها عند الصغر؛ لأن نشأة الصغير على شيء تجعله متطبعاً به، ومن أُغفِل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيراً' .
توجيهات و أفكار:
1- الحرص على تعويده على مراقبة الله: وغرس ذلك في نفسه كل لحظة، وتخويفه بالله سبحانه وتعالى لا بأبيه، ولا بالحرامي، ولا بالبعبع كما تفعل كثير من الأمهات، فإن الصغير يتعلق بالله، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله وهذا ما يسميه علماء التربية بالوازع الديني وهذا جانب مهم جداً يغفل عنه الآباء والأمهات، قال تعالى- حاكياً عن لقمان، وهو يؤصل هذا الجانب في نفس ولده- :} يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]{ “سورة لقمان” انظر للتربية العميقة: ملءُ نفس الولد بعظمة علم الله واطلاعه عليه، حتى وإن كانت هذه الحبة في حقارتها لا وزن لها ولا قيمة، ولو كانت هذه الحبة داخل صخرة صلبة، أو كانت هذه الحبة في السماوات؛ ذلك الكيان الهائل، الشاسع، الذي يبدو فيه النجم الكبير ذرة تائهة، أو حتى كانت هذه الحبة في الأرض ضائعة، فإن الله سبحانه وتعالى سيبديها ويظهرها؛ بلطيف علمه، فأين الآباء والأمهات من هذه التربية . فاملأ قلب صغيرك بخوف الله، وأخبره بأن الله يراه في كل مكان، وأنه مطلع عليه في كل حال، فإذا كذب قل له: إن الله يعلم ما تخفي، وأن الكاذب في النار. وإذا سرق قل له: إن الله يراك، وإن الله يغضب على السارق. و إذا عصاك، فقل له: إن الله يغضب عليك، وإذا أطاعك، فقل له:إن الله يحبك ... وهكذا في كل أفعاله ذكره بالله إذاً لنربي أبناءنا على هذا المنهج . ثم بعد ذلك أطلق له العنان، فكلما حدثته نفسه بأمر سوء؛ تذكر أن الله عز وجل معه يراه، ويعلم ما يصنع.(/1)
ويؤكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنهج، فنجده يوصي ابن عباس وهو صغير، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ] فَقُلْتُ: بَلَى فَقَالَ: [ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا] رواه أحمد والترمذي. هكذا كان يغرس هذه المعاني الجميلة في نفس ابن عباس وهو صغير. وعن حماد بن زيد قال: كنت أسير مع أبي، فمررنا بجدار فيه تبن، فأخذت عود تبن، فقال لي أبي:لم أخذت؟ ينهاني، فقلت: إنه عود تبن، فقال أبي: لو أن الناس كلهم مروا من هاهنا، فأخذوا عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن يا بني؟ هكذا كانوا يربونهم لا تمتد اليد على أحقر الأشياء، حتى إذا كبر لا تمتد يده إلى أي شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً .
وعن سهل التستري قال:' كنت مع خالي صغيراً، وكان يقول لي وأنا ابن ثلاث سنين يقول: لي ألا تذكر الله الذي خلقك قلت: كيف أذكره، فقال لي خالي محمد بن سوار: قل بقلبك من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي ثلاثًا، ثم سبعًا، ثم أحد عشر'. تأصيل رقابة الله عز وجل في نفس الصغير، حتى وإن كان ابن ثلاث سنين. فهذه بائعة اللبن تقول لأمها:' يا أماه إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فإن رب أمير المؤمنين يرانا'.
فعلّم الصغير من هو الله، وأنه هو الذي خلقه وأنعم عليه؛ ليمتلئ قلبه بحب الله، فيحرص بعد ذلك على أن لا يخالف الله بقول أو فعل . ذكر ابن سعد في' الطبقات': أن أم سُلَيْم كانت تلقن أنساً ولدها الشهادتين قبل أن يبلغ سنتين.
2- التأكيد على تعليمه للوضوء والصلاة: لماذا لا يجلس الأب أو الأم وقتاً يسيراً لتعليم صغارهم هذا الركن العظيم، وذلك بالتطبيق العلمي أمامه، ثم ليطبق الولد ما يراه، فإن أخطأ؛ وجِّهه بدون تعنيف، إن الصغار كثيراً ما يندفعون لتقليد آبائهم وأمهاتهم في الصلاة، فيقفون بجوارهم، ويفعلون كما يفعل آباؤهم ولذلك نوصي الأب بأن يحرص على صلاة النوافل والرواتب في البيت بل هذه هي السنة، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [... صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ] رواه البخاري ومسلم . وفي صلاة النافلة في البيوت فوائد كثيرة منها: تشجيع الزوجة والأهل على العبادة، وإحياء البيت، وطرد الشياطين، وكثرة مشاهدة الصغار والدهم وهو يصلي وهذا ما يسمى عند علماء التربية بأسلوب التربية بالعادة، وهو من أسهل الأساليب وأفضلها.
وكم نغفل عن هذا المنهج النبوي في أمر الصلاة، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ] رواه أبوداود وأحمد . إذاً في هذا الحديث يمر الصغير بثلاث مراحل: قبل السبع، وهذا أمر مندوب إليه أن يشجع الصغير بالتلميح للصلاة، وما بعد السبع وهنا يجب على الأب وعلى الأم أن تعلّم أو يعلّم صغيرهما على الصلاة وأركانها وما يقول فيها، ثم المرحلة الثالثة عند العشر وما بعدها، فإن لم يستجب الصغير؛ فكما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ...] ولا يستعمل الضرب إلا بعد فشل جميع الوسائل والعقوبات الأخرى: من وعظه وتعنيفه وهجره، أي: لا يكلمه ولا يمازحه ويحرمه بعض ما يحب.(/2)
وكم نقع في أخطاء تربوية جسيمة مع الصغار في أمر الصلاة بدون أن نشعر ومن هذا مثلاً: الحرص الشديد على إيقاظه للمدرسة، والاهتمام بألا يتأخر لحظات، وربما عقابه لو تأخر، أما صلاة الفجر: فتأخذ الأم الشفقة والرحمة بإيقاظ ولدها، فلا يصليها إلا عند ذهابه للمدرسة، مع أن الولد بلغ العاشرة، وتجب عليه الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين، ولا شك أن الأم آثمة في مثل هذا الفعل، وأن الشفقة والرحمة إنما هي في إيقاظه وصلاته مع المسلمين، ولذلك قال عز وجل:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا[6]{ “سورة التحريم” .
3- القدوة الصالحة: فإن الصغار يبدءون التقليد من السنة الثانية أو قبلها بقليل، وهم يتعلمون بالقدوة والمشاهدة أكثر مما نتصوره، فالطفل يحاكي أفعال والده، والطفلة تحاكي أفعال أمها، وهذا يؤكد أموراً منها:ألا نظهر أمامه إلا بصورة حسنة، فانتبهي أيتها الأم لأفعالك وأقوالك خاصة أمام صغارك.
ومنها: الابتعاد عن المتناقضات في الحياة، فإنها تهلك الطفل، وتمزق نفسيته، وخذ أمثلة على ذلك: المدرس يحذر الطفل من التدخين، وخطره، وأنه محرم، ثم إذا رجع الطفل إلى بيته وجد أباه يدخن، وأخاه، فما هو تأثير ذلك على هذه النفسية؟! فأي جريمة نرتكبها بحق هؤلاء الصغار ونحن لا نشعر؟
وقد تنبه السلف الصالح إلى هذا الأمر وأهميته، فهذا عمرو بن عتبة ينبه معلم ولده لهذا الأمر، فيقول: 'ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت'.
4- الدعاء : فإن للدعاء واللجوء إلى الله، أثراً عجيباً في صلاح الأولاد واستقامتهم، ولقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكثر الناس دعاء بإصلاح أولادهم، ومن الأمثلة على ذلك:
فهذا إبراهيم عليه السلام يقول- كما يخبر الله عنه- :} وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[35]{ “سورة إبراهيم” . ويقول:} رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ[40]{ “سورة إبراهيم” .
وهذا زكريا يقول:} رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ[38]{ “سورة آل عمران” .
ويخبر الله على لسان المؤمنين الصالحين:} رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74]{ “سورة الفرقان” . واحذروا من الدعاء على الأولاد، خاصة أنت أيتها الأم خاصة عند الغضب، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ...] رواه مسلم .وهذا نهي صريح في عدم الدعاء على الأولاد، فأكثروا أيها الآباء والأمهات من الدعاء لأولادكم، وألحوا عليه في ركوعكم وسجودكم، واستعينوا بالله في تربيتهم، فإنه خير معين، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله.
5- الحرص على تعويذ الأولاد وتعليمهم الأذكار: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: [ إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ] رواه البخاري والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
وعند البيهقي في 'الآداب' بلفظ:كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَيَقُولُ: [ أُعِيِذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ] ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ عَوِّذُوُا بِهَا أَوْلَادَكُمْ فَإِنّ إبْرَاهِيِمَ عَلْيهِ السَّلَامُ كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ولذلك ليحرص الوالدان على تشجيع صغارهم على تعلم الأذكار وحفظها، ومن أفضل الوسائل لذلك ما يلي:(/3)
القدوة: أن يرى الصغار حرص آبائهم وأمهاتهم على الذكر، ثم أيضاً: ليرفع الأب والأم أصواتهما؛ ليسمع الصغار، فإذا سمع الصغار كثرة الذكر بلسان الأب أو بلسان الأم؛ تجد أن الصغير يردد هذه الأذكار بدون أن يشعر . ثم أيضاً: الحرص على اختيار القصير من الأذكار وأيسرها لفظاً، فعند النوم- مثلاً- رددي أيتها الأم على الصغار قوله صلى الله عليه وسلم: [رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ] رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأحمد .
استغلال الأوقات وبعض المناسبات السارة: لتلقينهم بعض الأذكار كالخروج للنزهة في البر أو الحدائق، وتعليمهم دعاء نزول المكان: “ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ” .
وضع المسابقات والحوافز التشجيعية والهدايا: كلما حفظ الصغير شيئاً من هذه الأذكار، وسيرى الوالدان بعد فترة قصيرة أن الصغير يعتمد على نفسه بترديد هذه الأذكار، بل أقول ربما ذكّر هو أمه أو أباه بهذه الأذكار.
6- الحذر من جهاز التلفاز عامة ومن أفلام الكرتون أو الصور المتحركة خاصة: فأكثر أفلام الكرتون: خيالية تحمل عقائد وثنية، وهذا النوع من الخرافة يفسد عقلية الطفل وتفكيره، ويطبعه بطابع خيالي بعيد عن الواقع. وبعض أفلام الكرتون: تدور قصصها حول الحب والغرام كما هو الحال بالنسبة لمسلسلات الكبار، تعريض بالفاحشة، وتحريض على تكوين علاقات الحب والغرام . وبعض الأفلام: تظهر فيها علامات العنصرية وتشويه الصورة . والحديث عن التلفاز وأخطاره يطول،وقد تخلص أعداد كبيرة من الناس من هذه الأوهام والحيل الشيطانية، وعاشوا بدون التلفاز عيشة سعيدة، بل والله وجدوا راحة القلب والاستقرار النفسي لما جربوا هذا، وأصبح أولادهم من الأوائل والمتفوقين هذا من الناحية الاجتماعية. أما من الناحية الشرعية، فيكفيك لضيق الوقت هذا الحديث المفزع الذي قال فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ]رواه البخاري ومسلم وأحمد . فهل إدخال مثل هذه الوسائل للبيت وعكوف الصغار عليها ليل نهار هو نصح للرعية أم غش لها؟ نصح لأولادك أم غش لهم؟ اسأل نفسك قبل أن يسألك الله عن هذا الأمر. ومن المقترحات للبديل عن التلفاز: مثلا شراء الكمبيوتر، والحرص على اختيار الألعاب العقلية التي تنمي عقل الصغير وتفيده . ومن البدائل أيضاً: اجعل لأولادك الصغار مكتبة صغيرة خاصة بهم تحتوي على أشرطة خاصة للصغار من تلاوات للقرآن مناسبة لهم، وقصص ومواقف وأذكار وأناشيد .
7- اصطحابهم في بعض الأوقات في نزهة خارج المدينة: لممارسة بعض الألعاب، وما دمت تريد أن تخرج مثل هذه الوسائل من البيت، فلابد أن تحرص على أن تجالس الأولاد، وأن تقضي بعض أوقات الفراغ معهم .
8- الحرص على مشاركة الأطفال في لعبهم ولو في بعض الأحايين وتوجيه الأخطاء من خلال اللعب: وهذا أفضل وسائل التوجيه ومداعبة الصغار وملاطفتهم ويتوسط في هذا الأمر فلا إفراط ولا تفريط، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع في فمه قليلا من الماء البارد، ويمجه في وجه الحسن، فيضحك . وكان صلى الله عليه وسلم يمازح الحسن والحسين، ويجلس معهما، ويركبهما على ظهره . وكان صلى الله عليه وسلم يخرج لسانه للحسين، فإذا رآه أخذ يضحك . وكان صلى الله عليه وسلم يخطب مرة الجمعة، فإذا بالحسن يتخطى الناس، ويتعثر في ثوبه الطويل، فينزل صلى الله عليه وسلم من منبره، فيرفع الحسن معه . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: [ إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ] رواه البخاري وابن ماجه وأحمد . هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان منهجه مع الصغار .
9- الحرص على المظهر الخارجي للطفل من لباس وشعر ونحوه: فعود الطفل على المظهر الرجولي، والبعد عن ملابس الميوعة، والطفلة عودها على الستر في الصغر؛ تلتزمه في الكبر، وعلى الحجاب، وإياك واللباس القصير خاصة للفتيات، والابتعاد عن الملابس التي فيها صور؛ فإن الملائكة لاتوجد في المكان الذي فيه صورة، فهل ترضى أن تحيط الشياطين بطفلك؟ لأن المكان الذي فيه صورة تحل فيه الشياطين بلاشك .
10- تعويده على احترام الكبير وتقديره: وذلك بتقبيل رأسه، والسلام عليه، ومنه احترام الضيوف والسكون عندهم هذا بالنسبة للذكور . وعدم السماح للإناث بالدخول على الرجال في المجالس خاصة بعد سن الرابعة .
11- الحذر من تحطيم المعنويات العالية عند الطفل: بل ارفع من معنوياته، وأشعره بأنه مهم، وأنه يستطيع أن يفعل أفعالاً عظيمة، فإن هذا من الأسس لبناء شخصية قوية متميزة للصغير .(/4)
وإذا كان الطفل كثير الحركة وفيه شدة وشراسة فإن هذا دليل على فطنته وذكائه، لا كما يعتقده بعض الآباء . وعلى الوالدين توجيه الصغير لاستغلال نشاطه وحركته فيما يفيده . وإعطاؤه الفرصة للكلام والحديث، والإجابة على أسئلته، والاهتمام به .
12- عدم القسوة على الصغير بشدة: لماذا نلاحظ أن بعض الصغار مزعج لوالديه، معاند لهما؟ لاشك أن لذلك سبباً، والسبب هو القسوة على الصغير، وضربه بشدة من قبل أبويه، أو أحدهما، وعدم إظهار المحبة له، ولذلك، فإن الصغير يعاند قاصداً إزعاج والده والانتقام منه، وعلاج ذلك: أن يظهر الوالد لولده المحبة. وربما كان سبب المعاندة هو: شعوره بتفضيل إخوانه عليه، وقد اتفق الباحثون على أن أشد العوامل إثارة للحسد في نفوس الأطفال هو: تفضيل أخ على أخ أو أخت أو العكس .
13- تعويده على الآداب الاجتماعية والإسلامية: مثل آداب الطعام، والشراب، والاستئذان، والسلام، والدخول والخروج، وآداب العطاس، وغير ذلك .
14- لابد من مخالفة هواه أحياناً: فلا يعطى كل ما يطلبه: من أكل، أو لعب، أو غير ذلك، فإنه إن اعتاد على ذلك، ولم يسمع كلمة: لا أو غير موجود في منزله؛ فسيؤثر ذلك على سلوكه وتصرفاته، فلا يخطر بباله أن يقال له: لا، وإذا تعود على هذا السلوك؛ أصبح من الصعب مستقبلاً أن يتحمل عدم تحقق رغباته، فيصطدم بمشكلات الحياة المتنوعة، فيصيبه اليأس، وربما الانحراف.
15- تشجيع الصغير على الإقدام وإعطاؤه الثقة بنفسه: فمن الخطأ المبادرة بمساعدته، أو القيام بالعمل عنه، بل لابد أن يعتاد على مواجهة الصعوبات والتغلب عليها.
16- الحرص على تنمية مواهب الصغير، وهواياته النافعة، وتشجيعه: كالإلقاء مثلاً، والخطابة، أو الاهتمام بالأجهزة والمخترعات، فإننا نرى بعض الصغار لديهم بعض هذه الأمور، أو تنظيم البيت وتجميله عند بعض الفتيات الصغيرات، ولابد أن يتحمل الأبوان كثرة الأخطاء والمحاولات، بل وتشجيعه ومكافأته.
17- عدم إهمال أسئلة الصغار: فهي كثيرة جداً، وبعضها مهم، وبعضها تافه. ومن الخطأ إهمالها، وعدم الإجابة عليها؛ ظناً بأنه صغير لا يعقل، أو أن الأم أو الأب مشغولان عنه .
18- الحرص على تعليمه في سنواته الخمس الأولى: فإن العادات يمكن أن يكتسبها بسهولة كلما كان سنه أصغر، كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده، ويحاول أن يخرج منه عبارات الثناء والإعجاب، فمن البديهي أن يستغل الوالد هذه الفترة الهامة في تعليمه وتوجيهه الوجهة الحسنة .
19- التغافل عن الطفل وعدم فضحه إذا أخطأ وحاول هو ستر خطئه وإخفائه: فإن إظهار ذلك ربما جرأه على ارتكاب الخطأ مرة أخرى، وأصبح لا يبالي بظهور أخطائه .
20- تذكير الصغير بشكل مستمر بمواقف بطولية: لأبناء الصحابة والسلف الصالح؛ ليتأسى بهم وتمتلئ نفسه عزيمة وقوة؛ فإن الصغار يتعلقون بالقصص بل ويطلبونها من آبائهم بإلحاح .
21- الحرص على انتقاء المدرسة الجيدة بإدارتها ومدرسيها: فإن هناك من المدارس من تخلص في توجيه الصغار، وإفادتهم، وزرع الخير في نفوسهم .
22- أن يتحرى الآباء أكل الحلال: فإن لأكل الحلال أثراً كبيراً، وواضحاً على صلاح الأولاد، و لأكل الحرام أثر كبير على فسادهم، وسوء أخلاقهم، وهذا أمر محسوس مشاهد .
24- على الآباء والأمهات الاجتهاد في توزيع الحب على أولادهم بالتساوي: ولا يفرق بينهم حتى وإن كان بعضهم أفضل من بعض، ولا تعقد المقارنات بينهم، فإن هذا كله يولد فيهم الأحقاد والضغائن.
25- استغلال قدرة الصغار على الحفظ : يمتاز الصغار بقدرة عجيبة على الحفظ فعلى الوالدين استغلال هذه الفرصة، وعدم إهمالها، وأقصد بإهمالها: أن يترك الطفل يحفظ أي شيء .
26- من الخطأ أن يكون الصغار ضحية لمزاجية الأم أو الأب: فإذا حصل خصام، أو سوء فهم بينهما؛ صبت الأم غضبها على الصغار، أو الأب أيضًا. وهذا من الظلم الذي لا يرضاه الله، فعلى الأبوين ضبط النفس قدر الإمكان، وعدم الخصام بين الأولاد، وإن ظهر هذا؛ فمن الظلم العظيم أن ينتقل هذا الأمر إلى الأولاد بدون سبب.
27- ألا يُعَوَّدُ الطفل الوقوف على باب الدار، ولا الخروج إلى الشارع: أو الجلوس مع أولاد الحي في الشارع، فهي قاصمة الظهر، فمن الشارع يتعلم الألفاظ السيئة، وبذاءة اللسان، ومن الشارع يبدأ الضياع . ولحل مشكلة الشارع هذه وأخطائه: ننصح بوجود ملعب، أو استراحة في وسط الحي لأطفال وصغار الحي، ويتم تجهيزه، والإشراف عليه، ومتابعته من قبل أولياء الأمور . و كذلك المراكز الصيفية للصغار فهي فكرة جديدة جميلة نشكر القائمين عليها، ونتمنى أن نرى تطويراً لها واهتماماً ببرامجها لحفظ أولاد المسلمين.(/5)
28- احرص أيها الأب على أخذ أولادك معك لمجالس نافعة كالدروس والمحاضرات: واجعل عيونهم تكتحل برؤية الصالحين والمشائخ، فإنهم يفخرون بذلك أمام أقرانهم، ويتمنون الوصول لمكانتهم. وعوِّدهم على مجالس الرجال، والتأدب فيها، واحرص على إلحاقهم بمجالس تحفيظ القرآن في المساجد مع المتابعة والحرص .
29- عَوِّدْ الصغار على البذل والعطاء وحب الضعفاء والمساكين: وليخبر أن له إخواناً من المسلمين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون، وأعطه بعض المال وشجعه على التبرع والتصدق ببعضها؛ ليتعود البذل في الكبر ...أشركه في الإنفاق على بعض مشتريات البيت البسيطة، وليدفع هو من حصالته الخاصة ثمن شراء كيس خبز للبيت- مثلاً- ... قص عليه قصة ذلك الصغير الذي تبرع ببعض ألعابه لأولاد جيرانه المحتاجين، فإن هذه الوسائل تحرره من البخل، وحب جمع المال، وتعوده حب الفقراء والمساكين، والبذل، والعطاء.
30- لنحذر من كثرة خوف الصغير مما حوله من الأشياء والأشخاص: فإن كثرة مخاوفه تدل على جبنه وهلعه؛ وذلك بأن نجنبه قدر الإمكان ما يؤذيه ويخيفه كالتخويف بالحرامي مثلا أو البعبع كما أسلفت أو من تخويفه ببعض القصص المرعبة حول الشياطين والجن؛ فإن هذه الأمور تزرع في نفس الطفل الرعب والفزع، وينشأ خوّافًا كما نرى في بعض الصغار.
31- اعلم أيها الأب وأنت أيتها الأم أن الصغير لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر: أما قبل هذا، فإن خياله واسع، فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود ولامتعمد، وهو بحاجة للتوضيح والتوجيه في هذه المرحلة بدلًا من عقابه وزجره كما يفعل بعض الآباء ظناً منا أنه تعمد الكذب علينا. واعلما أيضًا: أن الكذب خلق يكتسبه الصغير من بيئته، فالوالد الذي لا يفي بوعوده لأولاده؛ يزرع الكذب فيهم بدون أن يشعر، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ] قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ] رواه أبوداود وأحمد .
فيأيها الوالدان: إن أجركما عند الله عظيم متى إن حرصتما على القيام بالواجب عليكما تجاه أولادكما، فلابد من الصبر، وعدم الملل في متابعة الصغار، وتربيتهم واحتساب الأجر والثواب من الله .
وعلينا أن نحرص، وأن نصبر على تربية أولادنا، ونحتسب الأجر عند الله، ولن يكون ذلك إلا بالتدريب والمتابعة .فأهدي هذه التوجيهات إلى الآباء والأمهات، معطرة بالحب، والتقدير، والدعاء بالتوفيق لكل أبوين حريصين على تربية أولادهما، وصلاحهم، وغفر الله لمن تجاوز عن الزلات، والتمس لي العذر في النقص والتقصير... سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
من محاضرة:' توجيهات وأفكار في تربية الصغار' للشيخ/ إبراهيم الدويش .(/6)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ـ أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذا هو الدرس الثامن والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني لمدينة <الرس> وفي هذا الجامع المبارك في ليلة الاثنين الموافق للتاسع عشر من شهر صفر للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف ومع هذا الموضوع الذي هو بعنوان توجيهات وأفكار في تربية الصغار وهذا الموضوع هو ضمن سلسلة سبق أن بدأنا بها وهي سلسلة وسائل وتوجيهات وقد كانت الحلقة الأولي بعنوان أربعون وسيلة لاستغلال رمضان ثم أربعون وسيلة لاستغلال موسم الحج ثم أربعون وسيلة لاستغلال الإجازة الصيفية ثم هذه هي الحلقة الرابعة وهي أيضا أربعون وسيلة وهذه التوجيهات وهذه الأفكار هي مجموعة توجيهات وأفكار ووسائل في تربية الصغار كنت قد جمعت شيئاً منها في درس قبل خمس سنوات تقريباً وكان يراودني تجديد هذا الدرس وإلحاق بعض الوسائل والتوجيهات وكان للتسويق والانشغال وقلة البضاعة دور في التأخير حتى وقع بين يدي بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير بعنوان مسئولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة ،والحق يقال فهو كتاب جامع فريد أنصح الآباء والأمهات بالقراءة فيه والنظر والاستفادة منه فقد جمع صاحبه الأستاذ/ عدنان حسن باحارث كثيراً من الفوائد والشوارد والتوجيهات والتجارب لعلماء التربية والمتخصصين في هذا الشأن جزى الله كاتبه خير الجزاء ونفع الله به ورعاه ولو كمل هذا الكتاب بتخريج الأحاديث والآثار فيه والحكم عليها من متخصص في هذا الفن لزاد العقد بهاء وجمالاً وقد استفدت منه كثيراً في هذا الموضوع الذي أسأل الله ـ عز وجل ـ أن ينفع به الآباء والأمهات في وقت تخلى كثير منهم عن هذه المسئولية العظيمة تربية الأبناء فالأب في وظيفته وتجارته وربما الأم في وظيفتها وزياراتها والضحية هم الأولاد وربما تُركوا للأعاجم والجهال من السائقين والخادمات ألا تتق الله أيها الأب واتق الله أيتها الأم فإنكما مسئولان أمام الله عن هذه الأمانة وتذكرا جيداً هذا الموقف عند السؤال والحساب قال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ في الحديث المشهور "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها" إلي آخر الحديث والحديث متفق عليه وقال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة" والحديث أيضاً متفق عليه وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) إذاً فاعلما أن مسئولية تربية الأولاد بينكما مشتركة تقتضي التعاون والتفاهم واعلما أيضاً أن مرحلة الطفولة مرحلة مهمة جداً في توجيه الولد وتأديبه قال ]الإمام الماوردي[ مؤكداً على هذا المعنى فأما التأديب اللازم للأب فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها وينشأ عليها فيسهل عليه قبولها عند الكبر لاستئناسه بمبادئها عند الصغر لأن نشأة الصغير على شيء تجعله متطبعاً به ومن أُغفِل في الصغر كان تأديبه في الكبر عسيراً وإليك مقطوعة [لأحمد شوقي] تلخص هذا المعنى وتعرضه في أبهى صورة يقول:
بين الحديقة والنهر وجمال ألوان الزهر
سارت مها مسرورة مع والد حان أبر
فرأت هنالك نخلة معوجة بين الشجر
فتناولت حبلاً وقالت يا أبي هيا انتظر
حتى نقوم عودها لتكون أجمل في النظر
فأجاب والدها لقد كبرت وطال بها العمر
ومن العسير صلاحها فات الأوان ولا نفر
قد ينفع الإصلاح والتهذيب في عهد الصغر
والنشء إن أهملته طفلاً تعثر في الكبر(/1)
وأول هذه التوجيهات الحرص على تعويده على مراقبة الله وغرس ذلك في نفسه كل لحظة وتخويفه بالله سبحانه وتعالى لا بأبيه ولا بالحرامي ولا بالبعبع كما تفعل كثير من الأمهات فإن الصغير يتعلق بالله فلا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله وهذا ما يسميه علماء التربية بالوازع الديني وهذا جانب مهم جداً يغفل عنه الآباء والأمهات واسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ حاكياً عن [لقمان] وهو يؤصل هذا الجانب في نفس ولده يقول سبحانه وتعالى على لسان لقمان (يا بنى إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) انظر للتربية العميقة ملءُ نفس الولد بعظمة الله بعظمة علم الله واطلاعه عليه حتى وإن كانت هذه الحبة في حقارتها لا وزن لها ولا قيمة ولو كانت هذه الحبة داخل صخرة صلبة محشورة أو كانت هذه الحبة في السماوات؛ ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذرة تائهة فكيف بهذه الحبة الحقيرة أو حتى كانت هذه الحبة في الأرض ضائعة فإن الله سبحانه وتعالى سيبديها ويظهرها بلطيف علمه فأين الآباء والأمهات عن هذه التربية أقول عن هذه التربية املأ قلب صغيرك بخوف الله وأخبره بأن الله يراه في كل مكان وأنه مطلع عليه في كل حال فإذا كذب قل له إن الله يعلم ما تخفى وأن الكاذب في النار وإذا سرق قل له إن الله يراك وأن الله يغضب على السارق وإذا عصاك فقل له إن الله يغضب عليك وإذا أطاعك فقل له إن الله يحبك وإذا…... هكذا في كل أفعاله ذكره بالله سبحانه وتعالى إذاً لنربي أبناءنا على هذا المنهج ثم بعد ذلك أطلق له العنان فكلما حدثته نفسه بأمر سوء تذكر أن الله ـ عز وجل ـ معه يراه ويعلم ما يصنع.
ويؤكد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على هذا المنهج فنجده يوصي [ابن عباس] وهو صغير فيقول له ـ صلى الله عليه وآله وسلم "يا غلام ـ وفي رواية يا غليم ـ إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الأقلام وجفت الصحف" هكذا كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يغرس هذه المعاني الجميلة في نفس ابن عباس وهو صغير. [حماد بن زيد] يقول كنت أسير مع أبي فمررنا بجدار فيه تبن فأخذت عود تبن فقال لي أبي لم أخذت؟ ينهوني.. فقلت إنه عود تبن فقال أبي: لو أن الناس كلهم مروا من هاهنا فأخذوا عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن يا بنى هل كان يبقى في الجدار تبن؟ هكذا كانوا يربونهم على أحقر الأشياء لا تمتد اليد على أحقر الأشياء حتى إذا كبر لا تمتد يده على أصغر الأشياء أو على أي شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً [سهل الدستوري] يقول كنت مع خالي صغيراً وكان يقول لي وأنا ابن ثلاث سنين يقول لي انظر ألا تذكر الله الذي خلقك قال كيف أذكره قال لي خالي [محمد بن سوار] قل بقلبك من غير أن تحرك به لسانك الله معي الله ناظر إلي الله شاهدي ثلاثا ثم سبعا ثم أحد عشر.
تأصيل رقابة الله ـ عز وجل ـ في نفس الصغير حتى وإن كان ابن ثلاث سنين ، بائعة اللبن تقول لأمها يا أماه إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا..
فعلم الصغير من هو الله وأنه هو الذي خلقه وأنعم عليه ليمتلئ قلبه بحب الله فيحرص بعد ذلك أن لا يغلب الله بقول أو فعل ذكر [ابن سعد] في الطبقات أن [أم سُلَيْم] كانت تلقن [أنسا] ولدها الشهادتين قبل أن يبلغ سنتين.
التوجيه الآخر التأكيد على تعليمه للوضوء والصلاة وأن أخطر شيء نلحظه اليوم على صغارنا هو إهمال هذا الجانب فتجد غالب الأولاد يبلغ العاشرة من عمره لا يعرف كيف يصلي فهذا أمر مشاهد محسوس فانظر إليهم في المساجد عند ركوعهم وسجودهم ولعبهم وضربهم لبعض فلماذا لا يجلس الأب أو الأم وقتاً يسيراً لتعليم صغارهم هذا الركن العظيم وذلك بالتطبيق العلمي أمامه ثم ليطبق الولد ما يراه فإن أخطأ وَجّهَهُ أو وجِّهه بدون تعنيف ؛ إن أولادنا الصغار كثيراً ما يندفعون لتقليد آباءهم وأمهاتهم في الصلاة فيقفون بجوارهم ويفعلون كما يفعل آباؤهم ولذلك نوصي الأب بأن يحرص على صلاة النوافل والرواتب في البيت بل هذه هي السنة فقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة" والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه من حديث [زيد بن ثابت] وفي هذا فوائد كثيرة في صلاة النافلة في البيوت فوائد كثيرة منها تشجيع الزوجة والأهل على العبادة وإحياء البيت وطرد الشياطين وكثرة مشاهدة الصغار والدهم وهو يصلى وهذا ما يسمى عند علماء التربية بأسلوب التربية بالعادة وهو من أسهل الأساليب وأفضلها.(/2)
وكم نغفل عن هذا المنهج النبوي في أمر الصلاة فقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" إذاً في هذا الحديث يمر الصغير بثلاث مراحل قبل السبع وهذا أمر مندوب إليه أن يشجع الصغير بالتلميح والتعرض للصلاة وما بعد السبع وهنا يجب على الأب وعلى الأم أن تعلم أو يعلم صغيرهما على الصلاة وأركانها وما يقول فيها ثم المرحلة الثالثة عند العشر وما بعدها فإن لم يستجب الصغير فكما قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "فاضربوهم عليها لعشر" ولا يستعمل العقاب البدني ـ أي الضرب ـ إلا بعد فشل جميع الوسائل والعقوبات الأخرى من وعظه وتعنيفه وهجره أي لا يكلمه ولا يمازحه ويحرمه بعض ما يحب.
وكم نقع في أخطاء تربوية جسيمة مع الصغار في أمر الصلاة بدون أن نشعر ومن هذا الحرص مثلا الحرص الشديد على إيقاظه للمدرسة والاهتمام بذلك ألا يتأخر لحظات وربما عقابه لو تأخر أما صلاة الفجر فتأخذ الأم الشفقة والرحمة بإيقاظ ولدها لها أي لصلاة الفجر فلا يصليها إلا عند ذهابه للمدرسة مع أن الولد بلغ العاشرة وتجب عليه الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين ولا شك أن الأم آثمة في مثل هذا الفعل وأن الشفقة والرحمة في إيقاظه وصلاته مع المسلمين ولذلك قال الحق ـ عز وجل ـ (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) فإذا أردنا الشفقة ووقاية أولادنا لا شك أن ذلك بحرصهم أو بتعليمهم وبتأكيد أهمية صلاة الفجر مع المسلمين في وقتها.
وكما يروى في سيرة [الإمام أحمد] أن أمه كانت توقظه في ثلث الليل الأخير فتسخن له الماء ليصلي ما شاء الله أن يصلي ثم إذا أذن لصلاة الفجر أخذت بيده وسارت معه حتى أدخلته المسجد ثم قبعت عند عتبة المسجد تنتظر صغيرها حتى ينتهي من الصلاة فإذا انتهى أخذت بيده وأرجعته إلي بيتها هكذا كانت الأم رضوان الله تعالى عليهن في الحرص على تربية الصغير والاهتمام به ولذلك كان خلف [الإمام أحمد] من خلفه من أم صالحة تحرص على تربية هذا الصغير تربية ربانية.
ثالثاً من توجيهات القدوة الصالحة:
فإن الصغار يبدءون التقليد من السنة الثانية أو قبلها بقليل وهم يتعلمون بالقدوة والمشاهدة أكثر مما نتصوره فالطفل يحاكى أفعال والده والطفلة تحاكى أفعال أمها وهذا يؤكد أموراً عدة منها ألا نظهر أمامه إلا بصورة حسنة
وليس النبت ينبت في جنان
كمثل النبت في الفلاة
وهل يرجى لأطفال كمال
إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
فانتبهي أيتها الأم لأفعالك وأقوالك خاصة أمام صغارك ثم أيضاً الابتعاد عن المتناقضات في الحياة فإنها تهلك الطفل وتمزق نفسيته وخذ أمثلة على ذلك المدرس يحذر الطفل من الدخان ومن التدخين مثلاً وخطره وأنه محرم يغضب الله ـ عز وجل ـ ثم إذا رجع الطفل إلي بيته وجد أباه يدخن وأخاه أيضاً فما رأيكم وما هو تأثير ذلك على هذه النفسية وأيضاً الطفل يسمع عن الصلاة وأهميتها وأن تركها جريمة وكفر ثم يرى والده أو أخاه لا يصلون أولا يحرصون عليها هذا في أمور العبادة وخذ أمثلة في الأمور الاجتماعية عند إعطائه علاجا مراً مثلاً ماذا تفعل الأم تؤكد لصغيرها أن هذا العلاج حلو؛ فإذا شربه الصغير وإذا به مراً علقماً وانظر لتأثير ذلك في نفسية الصغير ،أو لو أن الطبيب مثلاً كتب حقنة أو إبرة لذلك الصغير فربما أن أباه قال للصغير إنها لا تؤلم أو مَثَّلَ ذلك له بشيء ما فإذا بالصغير عندما تضرب هذه الحقنة يجد ألمها في نفسه ولك أن تتصور كيف تكون نفسية هذا الصغير أو ربما أيضاً عند غيابه عن المدرسة بسبب نومه ونوم أيضاً والده فغاب هذا الصغير هذا اليوم عن المدرسة فإذا بأبيه غداً يأخذ بيد الصغير فيدخل على مدير المدرسة فيقول له مثلاً إن الصغير أو إن فلاناً كان مريضاً ويسمع الصغير هذه الكلمات فماذا ستحدث هذه الكلمات في نفس هذا الصغير وهو يعلم أنه لم يكن مريضاً ؟
هذه أمثلة فأي جريمة نرتكبها بحق هؤلاء الصغار ونحن لا نشعر إنك مهما وعظت ومهما سمعوا من المدرسين فإنهم لن يحملوا في داخل نفوسهم سوى الصور التي يرونها أمامهم إن خيراً فخير وإن كان شراً فشر .
وقد تنبه السالف الصالح رضوان الله تعالى عليهم إلي هذا الأمر وأهميته فهذا [عمرو بن عتبة] ينبه معلم ولده لهذا الأمر فيقول ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت. إذاً فليسمع الآباء ولتسمع الأمهات وليسمع المدرسون ولتسمع المدرسات إنكم مهما قلتم فأولادكم وطلابكم يفعلون ما فعلتم فالله الله في القدوة وأن الأزمة التي يعيشها التعليم اليوم بل الأمة أجمع هي أزمة قدوات.(/3)
توجيه آخر: الدعاء ، للدعاء واللجوء إلي الله ـ عز وجل ـ أثر عجيب في صلاح الأولاد واستقامتهم ولقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكثر الناس دعاء له بإصلاح أولادهم فهذا إبراهيم عليه السلام يقول كما يخبر الله عنه (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) وهذا زكريا يقول كما يخبر الله عنه أيضاً (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) ويقول الله ـ عز وجل ـ على لسان إبراهيم عليه السلام (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء) ويخبر الله سبحانه وتعالى على لسان المؤمنين الصالحين (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) واحذر واحذري أيتها الأم من الدعاء على الأولاد خاصة أنت أيتها الأم خاصة عند الغضب فربما أطلقت الأم للسانها العنان في السب واللعن فعن [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الوالد لولده ودعوة المسافر ودعوة المظلوم" والحديث أخرجه [أبو داود] و[الترمذي] و[ابن ماجة] وقال الترمذي هذا حديث حسن وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ" لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم" والحديث أخرجه [ابن حبان] في صحيحه وصححه [الألباني] في صحيح الجامع وهذا نهي صريح في عدم الدعاء على الأولاد فأكثروا أيها الآباء والأمهات من الدعاء لأولادكم وألحوا عليه في ركوعكم وسجودكم واستعينوا بالله في تربيتهم فإنه خير معين وإذا استعنت فاستعن بالله.
توجيه آخر وهو الخامس الحرص على تعويذ الأولاد وتعليمهم الأذكار فعن [ابن عباس] ـ رضي الله عنهما ـ قال كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُعَوِّذَ [الحسن] و[الحسين] ويقول "إن أباكما كان يعوذ بها [إسماعيل] و[إسحاق] أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" والحديث أخرجه [البخاري] في صحيحه في كتاب الأنبياء وعند [البيهقي] في الآداب بلفظ كان صلى الله عليه وسلم يعوذ [حسنا] و[حسينا] فيقول "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ويقول صلى الله عليه وسلم عوذوا بها أولادكم فإن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام "ولذلك ليحرص الوالدان على تشجيع صغارهم على تعلم الأذكار وحفظها ومن أفضل الوسائل لذلك ما يلي:
القدوة: أن يري الصغار حرص آبائهم وأمهاتهم على الذكر، ثم أيضاً أن يرفع الأب والأم أصواتهما ليسمع الصغار فإذا سمع الصغار كثرة الذكر بلسان الأب أو بلسان الأم تجد أن الصغير يردد هذه الأذكار بدون أن يشعر ثم أيضاً الحرص على اختيار القصير من الأذكار وأيسرها لفظاً فعند النوم مثلاً رددي أيتها الأم على الصغير أو على الصغار قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" ربي قني عذابك يوم تبعث عبادك" أو رددي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "باسمك اللهم وضعت جنبي وباسمك اللهم أرفعه."
أيضاً استغلال الأوقات وبعض المناسبات السارة لتلقينهم بعض الأذكار كالخروج للنزهة في البر أو الحدائق وتعليمهم دعاء نزول المكان أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثم أيضاً وضع المسابقات والحوافز التشجيعية والهدايا كلما حفظ الصغير شيئا من هذه الأذكار وسيرى الوالدان بعد فترة قصيرة أن الصغير يعتمد على نفسه بترديد هذه الأذكار بل أقول ربما ذكّر هو أمه أو أباه بهذه الأذكار.(/4)
ومن التوجيهات أيضاً الحذر من جهاز التلفاز عامة ومن أفلام الكرتون أو الصور المتحركة خاصة وهذا موضوع يطول ولكن اسمع لهذه التوجيهات أكثر أفلام الكرتون خيالية تحمل عقائد وثنية وهذا النوع من الخرافة يفسد عقلية الطفل وتفكيره ويطبعه بطابع خيالي بعيد عن الواقع أيضاً بعض أفلام الكرتون تدور قصصها حول الحب والغرام كما هو الحال بالنسبة لمسلسلات الكبار ولك أن تتصور أثر ذلك على الطفل فهو يرى كل يوم ولعدة ساعات تلك الغراميات والقبلات سواء كانت ذلك بين ذكر وأنثى من البشر أو من الحيوانات أو الحشرات تعريض بالفاحشة وتحريض على تكوين علاقات الحب والغرام وأيضاً بعض الأفلام تظهر أي بالصور المتحركة تظهر أو تظهر فيها علامات العنصرية وتشويه الصورة مثال ذلك أذكر قصة واحدة مثال ذلك قصة بوباى وهي تحكي البحار الأبيض الموحي شكله ولونه بالرجل الغربي صاحب الغليون وصراعه المستمر مع خصمه الأسمر الشرير ذي الشعر الأسود واللحية السوداء الموحي شكله ولونه بالرجل العربي ثم في النهاية الانتصار المؤزر في نهاية الصراع للأبيض صاحب الحق على الأسمر صاحب الباطل إلي آخر القصة وأقل أثر تحدثه هذه الصور المتحركة في الولد فساد التفكير والإثارة والعنف هذا فضلاً عن الإعلانات التجارية وإقبال الصغار عليها وضياع شخصية الطفل وذوبانها مع هذه الإعلانات فلم يعد لنا حتى الكبار فكيف بالصغار لم يعد لنا اختيار واستغلال للرأي أمام المؤثرات الجذابة ذات الألوان والموسيقى والكلمات القصيرة وأيضاً كم يسأل جهاز التلفاز من رسم قدوات فاسدة وبطولات زائفة لأولادنا من الفنانين والرياضيين وقد أجريت دراسة في كلية التربية بجامعة [الملك سعود] بـ>الرياض< حول المثل الأعلى والقدوة عند الطلاب فأسفرت النتائج أن أكثر قدوات الشباب من عينة الدراسة تركزت في المجال الرياضي بالدرجة الأولي ثم في مجال الأسرة بالدرجة الثانية ثم في المجال الديني مما يدل على سوء التوجيه الأسري وضعف المفاهيم المتعلقة بحسن اختيار القدوة وضعف حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس بعض الشباب وعدم استحضار شخصه الكريم على الأقل عند إجابة الاستبيان وهذا ما حدث أو أقول هذا ما حدث بالنسبة للكبار ذوي العقول المُمَيِّزَة المتعلمة فكيف بالصغار وأثر الإعلام عليهم، والحديث عن التلفاز وأخطاره كما أسلفت يطول والعجيب أن الناس على الرغم من قناعاتهم بأخطاره لا يمكن أن يتصوروا كيف يعيشون بدونه وقد تخلص أعداد كبيرة من الناس من هذه الأوهام والحيل الشيطانية وعاشوا بدون تلفاز عيشة هنية سعيدة بل والله وجدوا راحة القلب والاستقرار النفسي لما جربوا هذا وأصبح أولادهم من الأوائل والمتفوقين هذا من الناحية الاجتماعية أما من الناحية الشرعية فيكفيك لضيق الوقت هذا الحديث المفزع الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ" ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يجد رائحة الجنة " فأسألك بالله أيها الأب وأسألك بالله أيتها الأم هل إدخال مثل هذه الوسائل للبيت وعكوف الصغار عليها ليل نهار هل إدخال مثل هذه الأمور للبيت هو نصح للرعية أم غش لها هذا نصح لأولادك أم غش لهم اسأل نفسك قبل أن يسألك الله ـ عز وجل ـ عن هذا الأمر. ومن المقترحات للبديل عن التلفاز لأنني أعلم أن كثيراً من الآباء والأمهات سيقول طيب ما هو البديل إذاً للتلفاز أقول قبل أن أذكر المقترحات المسلم لا يطلب دائما البديل فإن المسلم إذا علم أن هذا الأمر محرم فإنما عليه أن يقول سمعت وأطعت سمعنا وأطعنا هذا هو الأصل في المسلم فلماذا كل ما ذكرنا محرماً طالبنا كثير من الناس بقولهم ما هو البديل ؟ هو أصل يجب أن يتربى المسلمون عليه ولا بأس أن أذكر بعض البدائل للتلفاز مثلا شراء الحاسبة الآلي أو الكمبيوتر والحرص على اختيار الألعاب العقلية التي تنمي عقل الصغير وتفيده ومن البدائل أيضاً اجعل لأولادك الصغار مكتبة صغيرة خاصة بهم تحتوى على أشرطة خاصة للصغار من تلاوات للقرآن مناسبة لهم وقصص ومواقف وأذكار وأناشيد وتحتوى أيضاً على بعض الكتيبات والقصص والمجلات الإسلامية الخاصة بالأطفال ولتكن بشكل جذاب جميل ذي ألوان مميزة ليحرص عليها الصغار وتشد انتباههم ولو تم أيضاً وضعها في غرفة مستقلة لوحدها ولا تفتح لهم إلا في أوقات خاصة وساعات معينة لكانت الفائدة أكبر فإن كل ممنوع مرغوب كما يقال ، وعودهم على تنظيمها والمحافظة عليها ولا بأس من مشاركتهم والجلوس معهم في بعض الأحيان بل والقراءة لبعض القصص وروايتها لهم بأسلوب مناسب جذاب فإن لهذا أثرا كبيرا على سلوكيات وعقلية الصغار وجرب فالتجربة خير برهان لماذا لا يجلس الأب أو الأم في بعض الأحايين مع صغارهم لرواية بعض القصص المناسبة لهم ومن المقترحات كبديل اللعب ، واللعب في حياة الصغار أصل في خلقتهم وتكوينهم فلا يجزع الوالدان من كثرة حركة أولادهما ولعبهم فهو ضرورة لنموهم ومن ذلك تخصيص وقت للعب وربطه(/5)
بالتفاهم مع الصغار خصص وقت معين للعب الصغار وليكن ذلك باستشارتهم وأخذ آرائهم فإن لذلك آثراً كبيرا على نفسياتهم أيضاً محاولة توفير مكان خاص بالمنزل للعب الأولاد وألعابهم أيضاً الحرص على شراء الألعاب التي تنمي قدرات ومواهب الصغار بدلاً من إضاعة المال بأشياء لا معنى لها سرعان ما تتلف وذلك كما أسلفت كالحاسب الآلي أو كألعاب الفك والتركيب وهذه كلها تكون معينة للصغير في نمو عقله واحرص عند شراء أفلام للحاسب الآلي أو الكمبيوتر لأنه بدأت تغزو الأسواق أفلام للحاسب الآلي مليئة بالفساد الأخلاقي والعقدي بل ربما تبادل بعض الصغار هذه الأفلام خفية بينهم فليتنبه الوالدان لذلك ثم أيضاً في التوجيهات في اللعب الابتعاد قدر المستطاع عن الألعاب المجسمة والصور محاولة تعريف الصغير أن هذا النوع من الألعاب تغضب الله ـ عز وجل ـ وأذكر هنا بالحديث المتفق عليه الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "إن البيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة" وسيأتي مزيد من التفصيل إن شاء الله ،في مثل هذا الحديث أيضاً إعطاء الصغير حق اختيار اللعبة مع التوجيه والإرشاد للأنفع أعط الصغير حق الاختيار للعبة فإن أيضاً لمثل هذا العطاء سيكون أثرا كبيرا في نفسية الصغير .أيضا من التوجيهات اصطحابهم في بعض الأوقات في نزهة خارج المدينة لممارسة بعض الألعاب وقد ينشغل بعض الآباء بالجلسات والدوريات عن أولادهم والجلوس معهم وأقول ما دمت تريد أن تخرج مثل هذه الوسائل عن البيت لابد أن تحرص على أن تجالس الأولاد وأن تقضي بعض أوقات الفراغ معهم وهذا كان أيضا من عهد السلف رضوان الله تعالى عليهم فقد أخرج [الحاكم] في المستدرك من حديث [فاطمة] ـ رضي الله تعالى عنها ـ" أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاها يوما فقال أين ابناي ؟ فقالت: ذهب بهما [علي] ـ يقصد [الحسن] و[الحسين] ـ فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مشربة والمشربة هي المكان الذي يشرب فيه وهي أرض لينة دائمة النبات وبين أيديها فضل من تمر فقال يا علي ألا تطلب ابني قبل الحر" والشاهد أن عليا ـ رضي الله تعالى عنه ـ أخرج الحسن والحسين للنزهة.
ومن المقترحات أيضاً والتوجيهات الحرص على مشاركة الأطفال في لعبهم ولو في بعض الأحايين وتوجيه الأخطاء من خلال اللعب وهذا أفضل وسائل التوجيه ومداعبة الصغار وملاطفتهم ويتوسط في هذا الأمر فلا إفراط ولا تفريط فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضع في فمه قليلا من الماء البارد ويمجه في وجه الحسن فيضحك وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمازح الحسن والحسين ويجلس معهما ويركبهما على ظهره وكان صلى الله عليه وسلم يخرج لسانه للحسين فإذا رآه أخذ يضحك وكان صلى الله عليه وسلم يخطب مرة الجمعة فإذا بالحسن يتخطى الناس ويتعثر في ثوبه الطويل فينزل ـ صلى الله عليه وسلم ـ من منبره فيرفع الحسن معه وكانت الجارية تأتيه فتأخذ بيده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شوارع المدينة حتى تعيده لمكانه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هكذا كان بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا كان منهجه مع الصغار فلماذا يتكبر بعض الآباء أو بعض الأمهات من تخصيص وقت للجلوس مع الصغار واللعب معهم وقد كان [عمر] يمشي على يديه ورجليه وأولاده على ظهره يلعبون وهو يسير بهم كالحصان فيراه بعض الناس فيقولون له تفعل ذلك وأنت أمير المؤمنين فيقول نعم ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي أي في الأنس والسهولة هكذا نكون معهم في البيت فإذا كان في القوم كان رجلاً وعندما تخلى الآباء والأمهات عن أطفالهم وملاعبتهم نشأ بعضهم معقداً وبعضهم منطوياً وكان أكثر عرضة للانحراف والضياع كما نرى على كثير من الصغار.(/6)
ومن العجيب في هذا ما أخرجه [البخاري] من حديث [عائشة] قالت كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤتى بالصبيان فيدعو لهم فأتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله هذا في [البخاري] وأخرج أو ذكر [الهيثمي] في المجمع عن [أبي ليلى] قال "كنت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى صدره أو بطنه الحسن أو الحسين عليهما السلام فبال فرأيت بوله أساريع يعنى طرائق يمشي فقال دعوا ابني لا تفزعوه حتى يقضى بوله ثم أتبعه الماء وفي رواية لا تستعجلوه" وقال [الهيثمي] ورجال الحديث ثقات وهذا أنموذج تربوي فريد منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الوسيلة والتوجيه الخامس عشر الحرص على المظهر الخارجي للطفل من لباس وشعر ونحوه فالطفل عوده على المظهر الرجولي كلبس الثياب أو الشمام حتى والبعد عن ملابس الميوعة، والطفلة عودها على الستر في الصغر تلتزمه في الكبر وعلى الحجاب وإياك واللباس القصير خاصة للفتيات وهذا مما ابتلي به المسلمون وللأسف فربما نجد أن كثيرًا من المعارض أو أصحاب المعارض يبيعون الملابس القصيرة وإذا سألناهم أو وجهنا ذلك قالوا لنا الناس يطلبون ذلك من هؤلاء الناس؟ هم المسلمون ولذلك علينا أن نحرص فإنه كما يقال العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، الصغير يتربى وتترسخ مثل هذه المفاهيم في نفسه لا تشعر أيضا التمييز بين لباس الذكور والإناث حتى رأينا بعض الأطفال لا نميز بينهم هل هم ذكور أم إناث لمجرد لباسهم ، الابتعاد أيضا عن الملابس التي فيها صور فكما أسلفنا أن الملائكة لا توجد في المكان الذي فيه صورة فهل ترضى أن يحيط الشياطين بطفلك لأن المكان الذي فيه صورة ما الذي يحل فيه الشياطين بلا شك ولذلك لعل هذا يفسر لنا قضية هيجان بعض الأطفال وصراخهم وتعكر نفسياتهم لماذا تجد ربما أن لباسه فيه صورة لماذا الشياطين تحيط به من كل جانب فلننتبه لمثل هذا الأمر فكما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة .أيضاً من التوجيهات تعويده على احترام الكبير وتقديره وذلك بتقبيل رأسه والسلام عليه ومنه احترام الضيوف والسكون عندهم هذا بالنسبة للذكور وعدم السماح للإناث بالدخول على الرجال في المجالس خاصة بعد سن الرابعة .أيضاً من التوجيهات الحذر من تحطيم المعنويات العالية عند الطفل بل العكس ارفع من معنوياته وأشعره بأنه مهم وأنه يستطيع أن يفعل أفعالاً عظيمة فإن هذا من الأسس لبناء شخصية قوية متميزة للصغير وإذا كان الطفل كثير الحركة وفيه شدة وشراسة فإن هذا دليل على فطنته وذكائه لا كما يعتقده بعض الآباء أنه دليل على فساده فقد أكد البحث الحديث الذي قام به بعض علماء النفس أنه هناك رابطة لا تنفصل بين الحركة والعقل فعلى الوالدين توجيه الصغير لاستغلال نشاطه وحركته فيما يفيده وينفعه وتشجيعه على هذا وربما لاحظ الأبوان بعض التصرفات والكلمات العجيبة من الصغير التي تدل على ذكائه وتفوقه ، إذاً فمن الخطأ هنا كثرة التعليق والصراخ والكبت لهذا الصغير وإنما الأسلم هو التوجيه بل لابد من تنمية ذكائه ومن ذلك تكليفه ببعض المهام المناسبة وإعطاؤه الفرصة للكلام والحديث والإجابة على أسئلته والاهتمام به .وأيضاً من التوجيهات لماذا نلاحظ بعض الصغار مزعجا لوالديه معانداً لهما لا شك أن لذلك سببا والسبب هو القسوة على الصغير وضربه بشدة من قبل أبويه أو أحدهما وعدم إظهار المحبة والمودة له ولذلك فإن الصغير يعاند قاصدا إزعاج والده والانتقام منه وعلاج ذلك أن يظهر الوالد لولده أنه يحبه ويعزه وربما كان سبب المعاندة هو شعوره بتفضيل إخوانه عليه وقد اتفق الباحثون على أن أشد العوامل إثارة للحسد في نفوس الأطفال هو تفضيل أخ على أخ أو أخت أو العكس والموازنة بين الواحد والآخر أمام عينيه أو على مسمع منه ومع ذلك لابد أن يعود الصغير على الطاعة إذا أمره أحد أبويه أو من هو أكبر منه وأن يعالج فيه العناد برده إلى الحق طوعا إن أمكن وإلا فلا شك أن الإكراه على الحق خير من بقاء الصغير على العناد والمكابرة ولئلا ينشأ على ذلك فيذيق أهله الأمرين ولا بأس بالضرب الغير مبرح إذا دعت الحاجة لذلك ومن التوجيهات أيضاً تعويده على الآداب الاجتماعية والإسلامية مثل آداب الطعام والشراب والاستئذان والسلام والدخول والخروج وآداب العطاس وغير ذلك وأيضاً تعويده على التنظيم لغرفته وملابسه وكتبه وألعابه وغيرها وتعويده على النوم المبكر خاصة إذا كان يذهب إلي المدرسة وللسهر على الأطفال خاصة أولئك الذين يذهبون إلي المدرسة أثار سيئة في استيعابه وسلوكه وصحته فيجب إذن تعويده على هذه الآداب كلها وتشجيعه عليها وتكراره عليه خاصة من قبل أمه لكثرة التصاقه بها والذي يلحظ على كثير من أبناء المسلمين وللأسف أنهم ربما لا يتقنون حتى السلام أو حتى تشميت العاطس وغيرها من الآداب أيضاً من التوجيهات الحذر من رشوة الصغار مثل أن يقال له خذ هذه الحلوى وافعل كذا أو(/7)
خذ هذه النقود وكف عن العبث أو الصراخ فيعتاد على هذا فلا يعمل شيئا إلا بمقابل وهذا لا يخالف مبدأ المكافأة والتشجيع فعند الفعل الحسن لا بأس من المكافأة أو التشجيع للصغير ومن التوجيهات أيضا لابد من مخالفة هواه أحياناً فلا يعطى على ذلك كل ما يطلبه من أكل أو لعب أو غير ذلك فإنه إن اعتاد على ذلك ولم يسمع كلمة لا أو غير موجود في منزله فسيؤثر ذلك على سلوكه وتصرفاته فلا يخطر بباله أن يقال له لا وإذا تعود على هذا السلوك أصبح من الصعب مستقبلا أن يتحمل عدم تحقق رغباته فيصطدم بمشكلات الحياة المتنوعة فيصيبه اليأس وربما الانحراف ومن التوجيهات أيضاً تشجيع الصغير على الإقدام وإعطاؤه الثقة بنفسه فإذا وقع في مشكلة كمحاولته الأكل بالملعقة مثلاً أو لبسا عليه أو خلع ملابسه فلابد من إعطائه الفرصة لمحاولة بل وتشجيعه بشرط أن يكون تحت عيني أحد أبويه فمن الخطأ إذاً المبادرة بمساعدته أو القيام بالعمل عنه بل لابد أن يعتاد على مواجهة الصعوبات والتغلب عليها.
ومثل ذلك أيضا في تدريبه على تحمل المسئولية فإذا أفسد تركيب لعبة جديدة له مثلا وأتى إليك لإصلاحها فاجعله يتحمل خطأه ويحاول هو إصلاحها ولا بأس لو سكب شيئا مثلا على السجاد فطالبه بتنظيفه وإن لم يستطع وشجعه إن رأيت منه إقبالا وحسن عمل في مثل التنظيف مثلاً ليزداد ثقة بنفسه ولهذا أثر كبير في مستقبله.
ومن التوجيهات أيضا الحرص على تنمية مواهب الصغير وهواياته النافعة وتشجيعه كالإلقاء مثلا والخطابة أو الاهتمام بالأجهزة والمخترعات فإننا نرى بعض الصغار لديهم بعض هذه الأمور أو تنظيم البيت وتجميله عند بعض الفتيات الصغيرات ولابد أن يتحمل الأبوان كثرة الأخطاء والمحاولات بل وتشجيعه ومكافأته.
وأيضا من التوجيهات :أسئلة الصغار كثيرة جدا وبعضها مهم وبعضها تافه ومن الخطأ إهمالها وعدم الإجابة عليها ظنا بأنه صغير لا يعقل أو أن الأم أو الأب مشغولان عنه بل إن بعض الآباء والأمهات ينهر الصغير ويغضب عليه إذا كثرت أسئلته وهذا من أكبر الأخطاء التربوية وكسر نفس الطفل وربما كان له أثر عكسي على الصغير بل إن أفضل وقت لتوجيه الصغار ـ انتبه ـ عندما يكون متطلعا لأجوبة والده أو والدته مقبلا على سماعها بل ربما سأل الصغير أسئلة غريبة لا يملك الكبير لها إجابة إلا التهرب والتوبيخ وهذا خطأ بل عليه أن يحرص على توجيه الصغير بحسب عقله وإدراكه وربما بعض الآباء يقول لا أجد إجابة على أسئلة الصغير نقول وجهه بأنه صغير وإذا كبر سيعرف الإجابة لأن الصغير إن لم يجد الإجابة عندك فربما أجابه أحد آخر فأعطاه إجابة منحرفة والطفل كثير الأسئلة دليل على سعة إدراكه وسعة عقله.
ومن التوجيهات أيضا الحرص على تعليمه في سنواته الخمس الأولى وانتبه أيها الأب وانتبهي أيتها الأم الحرص على تعليمه في سنواته الخمس الأولى يتعلم الطفل في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصور الآباء فإن العادات يمكن أن يكتسبها بسهولة كلما كان سنه أصغر فإن تسعين بالمائة من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده ويحاول أن يخرج منه عبارات الثناء والإعجاب فمن البديهي أن يستغل الوالد هذه الفترة الهامة في تعليمه وتوجيهه الوجهة الحسنة يقول [ابن الجوزي] ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا المجال: أقوم التقويم ما كان في الصغر فأما إذا ترك الولد وطبعه فنشأ عليه ومُرْدِنَ كان رده صعبا قال الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت
ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل
وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب
أيضا التغافل عن الطفل وعدم فضحه إذا أخطأ وحاول هو ستر خطئه وإخفائه فإن إظهار ذلك ربما عوده وجرأه على ارتكاب الخطأ مرة أخرى وأصبح لا يبالي بظهور أخطائه ولذلك نقول للأب أو الأم إذا أخطأ الطفل خطأ غير مقصود أو حرص الطفل على إخفاء ذلك الخطأ لا تفضح الطفل وإنما حاول التغافل عنه وعدم انتباهك لمثل هذا الأمر لأنه إذا تعود كثرة المعاتبة خاصة والصغير كثير الأخطاء الغير مقصودة فإنه إذا عاد للخطأ مرة أخرى وتعود على كثرة المعاتبة تعود على الرجوع لهذه الأعمال أيضا مرات ومرات وإن عاد للخطأ مرة أخرى الذي أخفاه ثانية فأقول ينبغي أن يعاقب سرا وليس كل خطأ أو ذلة توجب العقاب والزجر.
ومن التوجيهات أيضا تذكير الصغير بشكل مستمر بمواقف بطولية لأبناء الصحابة والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم ليتأسى بهم وتمتلئ نفسه عزيمة وقوة فإن الصغار يتعلقون بالقصص بل ويطلبونها من آبائهم بإلحاح فلماذا لا يروي الأب قصة من هذه القصص لأولاده قبل النوم ويبسطها لهم بأسلوب يناسبهم وسيلحظ الأبوان عند الاستمرار على هذا الأمر سعة ثقافة الصغار ونمو عقولهم بسرعة عجيبة بعكس رواية القصص الخيالية كما يفعل بعض الآباء.(/8)
ومن التوجيهات أيضا الحرص على انتقاء المدرسة الجيدة بإدارتها ومدرسيها فإن هناك من المدارس من تحرص وتخلص في توجيه الصغار وإفادتهم وزرع الخير في نفوسهم ولا أنسى ذلك الطفل الذي يردد ويحفظ كثيرا من الأدعية والأذكار فلما سألته من علمك هذا ؟ قال الأستاذ فلان وجزى الله المخلصين كل خير وبر وسيرون أثر ذلك على أولادهم وصدق الله عز وجل قال: (وكان أبوهما صالحا) وليحذر أولاء المدرسون الذين لا هم لهم سوى ضياع الحصص وانتظار آخر الشهر وهذا يقودنا إلى توجيه آخر وهو أقول: اعلم أيها الأب أن لأكل الحلال أثرا كبيرا وواضحا على صلاح الأولاد وأن لأكل الحرام أثرا كبيرا على فسادهم وسوء أخلاقهم وهذا أمر محسوس مشاهد واللبيب بالإشارة يفهم فاحفظ الله في أبناء المسلمين وأموالهم يحفظك الله في مالك وأولادك والجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
الوسيلة الثلاثون على الآباء والأمهات الاجتهاد في توزيع الحب والعواطف على جميع أولادهم بالتساوى وقبولهم جميعا على علاتهم ولا يفرق بينهم حتى وإن كان بعضهم أفضل من بعض ولا تعقد المقارنات بينهم فإن هذا كله يولد فيهم الأحقاد والضغائن ومثال هذا بغض الولد الكبير لأخيه الصغير عندما يجد أن الاهتمام من الوالدين قد اتجه نحو أخيه الصغير فيلجأ إلى الانطواء على النفس أو البكاء أو التبول اللاإرادي أو ربما ادعى المرض والألم ليجذب نظر والديه إليه فهذه الأحوال لا ينبغي أن يساق الولد إليها بل ينبغي أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث هذا فيذكر له أثناء الحمل محاسن الطفل الجديد وأنه قادم ليلعب معه إذا كبر وأنه يحبه إلى آخر ذلك مما يشعر الكبير بحب الصغير له.
ومن التوجيهات أيضا يمتاز الصغار بقدرة عجيبة على الحفظ فعلى الوالدين استغلال هذه الفرصة وعدم إهمالها وأقصد بإهمالها أن يترك الطفل يحفظ أي شيء ولذلك نرى بعض الصغار يحفظ عبارات الدعاية والإعلان أو يحفظ بعض القصص والأغاني التي يسمعونها من التلفاز أو من زملائهم ولذلك على الآباء استغلال هذه الفرصة والحرص على وجود المُرَبِّي الخاص إن استطعت وهذا اقتراح وفكرة الحرص على وجود مرب خاص لأولادك إن استطعت ذلك أو مؤدب أو مدرس للقرآن سمه بما شئت ويبدأ بتلقين الصغار القرآن منذ الصغر وإني أعجب من بعض الآباء فإن لديه عددا كبيرا من العمالة في مؤسسته أو متجره ويعجز أو يغفل عن إحضار واحد لتربية أولاده والاهتمام بهم خاصة إذا كان الأب مشغولا بعمله وتجارته وقد كان هذا هو منهج السلف رضوان الله تعالى عليهم فقد كانوا يدفعون بأولادهم لِمُرَبٍّ خاص يؤدبهم ويقرئهم القرآن فقد ذكر [ابن خلدون] في مقدمته أن [هارون الرشيد ] لما دفع ولده [الأمين] إلى المؤدب قال له يا [أحمر] إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له في حيث وضعك أمير المؤمنين وأقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا بأوقاته ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقَوِّمْهُ ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة إلى آخر كلامه..
إذاً فاحرص على الإتيان بمرب خاص لصغارك ولا يكلفك ذلك شيئا كم ؟ ألف ريال ؟ ليس بشيء أمام صلاح أولادك وحفظهم للقرآن وإني أؤكد على هذا الاقتراح وأتمنى أن يجد طريقه لقلوب الآباء ولا بأس أن يشترك ثلاثة أو أربعة من الآباء بإحضار مرب واحد لأولادهم جميعا المهم أن يكون ثقة عدلا حافظا للقرآن أو ربما مجيدا له ، أيضا مجيدا لفن التعامل مع الصغار ولابد من تقديره أي تقدير هذا المربي أو المدرس أو سمه بما شئت واحترامه خاصة أمام الأولاد ليتقبلوا منه ويسمعوا منه.
ومن الاقتراحات أيضا الحرص على بعض الأشرطة المفيدة الخاصة بالأطفال والتسجيلات بحمد لله تتوفر أو مليئة بأعداد من هذه الأشرطة فيها برامج تعليمية بأسلوب مميز جميل يساعد الصغير على التركيز والانتباه وسرعة التعلم والحفظ ففي أشرطة القرآن هناك القراءة البطيئة المركزة تردد الآيات مرات كثيرة وفي بعضها ترديد من الصغار خلف القارئ وكان لهذا نتائج طيبة على كثير من الصغار وهي ما تسمى بطريقة التلقين وهناك أشرطة قصصية جميلة مثل شريط أم سلمة أو أسرة الشهداء أو حديقة الحيوان أو الأصابع الخمسة أو غيرها مما تمتلئ به التسجيلات الإسلامية وهناك أشرطة أناشيد خاصة بالصغار جميلة بكلماتها التي تزيد الصغير إيمانا وحبا لله ليست أية أناشيد وإنما تلك الأناشيد التي تزيد الصغير إيمانا وحبا بالله واسمع لكلمات مثل هذا النشيد:
عندما يسمع الصغير ويحفظ مثل هذه الكلمات إن لذلك أثرا كبيرا على نفسه
هذه الأزهار الحمراء
من أين سيأتيها الماء
من يسقيها وينميها
ويزينها بالألوان
الله رب الأكوان
هذا نمل ما أصغره
يمشى هونا ما أصبره(/9)
من علمه هذا الصبر
من أسكنه هذا الوكر
الله تعالى علمه
الله تعالى ألهمه
هذا نحل من علمه
من زهرات قد أطعمه
من ألهمه من يعطينا
عسلا فيه شفاء للناس
الله تعالى الرحمن
هذا جمل ما أكبره
لا يعصينا إذ نأمره
طفل مثلى يمشي معه ... ...
كي يركبه في الصحراء
الله تعالى ألهمه
أن يبرك حتى نركبه
هذا طفل دون الفهم ...
من علمه ثدي الأم
من عوده أن يرضعه ... ...
أن يأخذه عند الجوع
الله تعالى الرحمن
هذا بصر من واهبه
من بالإنسان يركبه
من يملك هذا الإنسان
وله قد أعطى الآذان
أقول أي أثر ستبقيه مثل هذه الكلمات في نفس الطفل.
ومن هذا أيضا من التوجيهات من الخطأ أن يكون الصغار ضحية لمزاجية الأم أو الأب فإذا حصل خصام أو سوء فهم بينهما صبت الأم جام غضبها على الصغار أو الأب أيضا وهذا من الظلم الذي لا يرضاه الله وما ذنب هؤلاء حتى نغضب عليهم أيضا وهذا أمر مشاهد فإن طلبات وأسئلة الصغار بعد خصام بين الأبوين مرفوضة مهانة ولا يسلم الصغار في الغالب من الزجر وربما الضرب في مثل هذه الظروف وعلى الأبوين ضبط النفس قدر الإمكان وعدم الخصام بين الأولاد وإن ظهر هذا فأقول من الظلم العظيم أن ينتقل هذا الأمر إلى الأولاد بدون سبب.
ومن التوجيهات أيضا ألا يُعَوَّدُ الطفل الوقوف على باب الدار ولا الخروج إلى الشارع أو الجلوس مع أولاد الحي في الشارع فهي قاصمة الظهر فمنه أي من الشارع يتعلم الألفاظ السيئة وبذاءة اللسان ومنه أي الشارع أيضاً يبدأ الضياع فالتدخين فاللواط فالمخدرات إلى آخر سلسلة الضياع التي يعيشها بعض شباب المسلمين اليوم وللأسف ..
ومع ذلك ما زلنا نرى الصغار يملئون شوارع الأحياء فمتى يتنبه الآباء والأمهات إلى خطر خروج الصغار إلى الشارع ؟ فإن ما يُبْنَى في سنوات يهدمه الشارع في أيام إننا نريد وقفة جادة منك أيها الأب تجاه هذا الموضوع.
توجيه آخر أيضاً وسيلة أخرى وهي حل لآثار الشارع وأخطائه: وجود ملعب أو استراحة في وسط الحي لأطفال وصغار الحي ويتم تجهيزه والإشراف عليه ومتابعته من قبل أولياء الأمور ولا أظن أن المسئولين في البلديات مثلاً إلا ويشجعون ويمدون يد العون قدر المستطاع لإيجاد مثل هذه الطرح ، المهم هو الجدية في تبني مثل هذه الفكرة من الآباء والتحمس لها بدل التخبط والضياع الذي يعيشه صغارنا في الشوارع والأرصفة يتخطفهم تجار الرذيلة فأتمنى أن يجد هذا الطرح طريقه لقلوب الآباء. أيضاً وسيلة أخرى أو توجيه آخر فكرة المراكز الصيفية للصغار فكرة جديدة جميلة نشكر القائمين عليها ونتمنى أن نرى تطويرا لها واهتماما ببرامجها لحفظ أولاد المسلمين ولعلنا نستفيد مما يفعله النصارى ـ وللأسف ـ أقول لعلنا نستفيد وللأسف مما يفعله النصارى من تبني الصغار والتركيز عليهم والاهتمام بالنوابغ والمتفوقين منهم ولو أن مُدَرَاء المدارس والمدرسين حرصوا على متابعة المتفوقين والتركيز عليهم لنفع الله بهم في المستقبل نفعاً عظيماً.
ومن التوجيهات أيضاً وهى السابعة والثلاثون احرص أيها الأب على أخذ أولادك معك لمجالس نافعة كالدروس والمحاضرات واجعل عيونهم تكتحل برؤية الصالحين والمشائخ فإنهم يفخرون بذلك أمام أقرانهم ويتمنون الوصول لمكانتهم وعودهم على مجالس الرجال والتأدب فيها واحرص على إلحاقهم بمجالس تحفيظ القرآن في المساجد مع المتابعة والحرص وإذا أردت أيها الأب ويا أيتها الأم أن تريا مقدار الربح لهذه الحلقات فانظر لحفظ أبناء فلان وبنات فلانة فأعمارهم الآن في الثامنة والعاشرة ويحفظون من القرآن عشرين جزءا تزيد أو تقل وأبناؤك ما زالوا على أوضاعهم إنه أعظم كسب يفوز به الوالدان في الدنيا والآخرة ونحن نسمع ونقرأ في كتب السير والتراجم أن كثيرا من العلماء الأفذاذ حفظوا القرآن قبل العاشرة فـ[أحمد بن حنبل] و[البخاري] و[ابن تيميه] و[محمد بن عبد الوهاب] وغيرهم وذلك يعني شيئا ذلك يعني أن حفظ القرآن هو الركيزة والقاعدة التي انطلق منها هؤلاء العلماء وغيرهم فاحرصا أيها الأبوان فليس بعيدا إن شاء الله تعالى أن يكون ابنكما عالما من علماء هذه الأمة ولن يكون ذلك إلا بالصبر والمتابعة.
توجيه آخر عَوِّدْ الصغار على البذل والعطاء وحب الضعفاء والمساكين وأخبره وأخبريه أيتها الأم أن له إخوانا من المسلمين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون أعطه بعض الريالات وشجعه على التبرع والتصدق ببعضها ليتعود البذل في الكبر ويأخذ عليه أشركه في الإنفاق على بعض مشتريات البيت البسيطة وبعض حاجياته وليدفع هو من حصالته الخاصة على شراء كيس رغيف للبيت مثلا قص عليه قصة ذلك الصغير الذي تبرع ببعض ألعابه لأولاد جيرانه المحتاجين فإن هذه الوسائل تحرره من البخل وحب جمع المال ، وحب الفقراء والمساكين والبذل والعطاء.(/10)
أيضا توجيه آخر لنحذر من كثرة خوف الصغير مما حوله من الأشياء والأشخاص فإن كثرة مخاوفه تدل على جبنه وهلعه وذلك أن نجنبه قدر الإمكان ما يؤذيه ويخيفه كالتخويف بالحرامي مثلا أو البعبع كما أسلفت أو بخروج الدم من الجرح كما تفعل بعض الأمهات بقولها دم فلان خرج على سبيل التخويف للصغير أو من تخويفه ببعض القصص المرعبة حول الشياطين والجن فإن هذه الأمور تزرع في نفس الطفل الرعب والفزع وينشأ خوافا رعديدا كما نرى في بعض الصغار.
أيضا الوسيلة الأخيرة وهي الأربعون اعلم أيها الأب وأنت أيتها الأم أن الصغير لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر أما قبل هذا فإن خياله واسع فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود ولا متعمد وهو بحاجة للتوضيح والتوجيه في هذه المرحلة بدلا من عقابه وزجره كما يفعل بعض الآباء ظنا منا أنه تعمد الكذب علينا واعلما أيضا أن الكذب خلق يكتسبه الصغير من بيئته فالوالد الذي لا يفي بوعوده لأولاده يزرع الكذب فيهم بدون أن يشعر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم "من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة" كما في المسند عند [أحمد] والأب الذي يمثل أنه يضرب ولده لأنه ضرب أخاه الصغير وهو في الحقيقة لا يضربه يزرع الكذب في نفس ولديه الضارب والمضروب وهو لا يشعر إذا جاءك الصغير يشكي أخاه الأكبر فإذا بك تضرب ذلك الأخ الأكبر أو تمثل أنك تضربه وأنت حقيقة تزرع الكذب من حيث لا تشعر في قلب الضارب قبل أن تزرعه أيضا في قلب المضروب.
ومن الأسباب التي تدفع الصغير للكذب قد يكذب الطفل تقليدا لوالديه تقليدا لهما وقد يكذب الطفل حتى يتجنب العقاب الشديد وقد يكذب الطفل لنيل شيء يريده وغيرها من الأسباب التي يحرص الآباء على معرفتها لماذا لجأ الصغير إلى الكذب حاول دائما أن تبحث عن السبب لماذا لجأ الصغير إلى الكذب حتى يصل لعلاج مناسب وصحيح مع استخدام أسلوب الترغيب واللين والرفق والتشجيع حتى لا يتأصل عنده هذا الخلق الذميم.
هذه أربعون وسيلة وتوجيه لتربية الصغار ..
فأقول أيها الوالدان إن أجركما عند الله عظيم ؛متى ؟ إن حرصتما على القيام بالواجب عليكما تجاه أولادكما فلابد من الصبر وعدم الملل في متابعة الصغار وتربيتهم واحتساب الأجر والثواب من الله وثقا أن كل شيء بالتدريب والمتابعة والمجاهدة ممكن وهذا ما أكده [الغزالي] بقوله :
ولو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات
ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" حسنوا أخلاقكم"
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي ـ أي الصقر ـ من الاستيحاش إلى الأنس والكلب من شره الأكل إلى التأديب والإمساك والتقلية والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق فإذا كان هذا ممكنا في حق الحيوان الأعجم ففي حق الولد الذي هو أعقل وأقدر على الفهم من البهيمة أولى.
لذلك أقول علينا أن نحرص وأن نصبر على تربية أولادنا ونحتسب الأجر عند الله عز وجل ولن يكون ذلك إلا بالتدريب والمتابعة .
فأهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات إلى الآباء والأمهات معطرة بالحب والتقدير والدعاء بالتوفيق لكل أبوين حريصين على تربية أولادهما وصلاحهم وغفر الله لمن تجاوز عن الزلات والهنات والتمس لي العذر في النقص والتقصير..
اللهم أصلح أولاد المسلمين وبناتهم اللهم اجعلهم قرة أعين لآبائهم وأمهاتهم ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أصلح أبناء المسلمين والمسلمات اللهم نسألك الذرية الصالحة التي تكون عزا للإسلام والمسلمين اللهم أصلح أبناء المسلمين وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .(/11)
توجيهات ونصائح للمرأة الداعية
رئيسي :تربية :الأحد 16شوال 1425هـ - 28 نوفمبر 2004 م
أولاً: إن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس ولا تقريعهم، ولا تبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأن هذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعدالتهم، أو لمذاهبهم، أو لأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم.
ثانياً: طريق الدعوة مليء بالأشواك: قال تعالى:{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186]}[سورة آل عمران].
ثالثاً: ينبغي أن تكون الداعية دائمة القلق لحال الناس من غير يأس ولا قنوط، فتحمل هم الإسلام ولا تتجاهله كمن عنده صداع في رأسه لا يمكن أن يتناساه، أو يغفل عنه.
رابعاً: طريق الدعوة والإيمان يحفل بالمتراجعين، والمترددين، والناكصين، وما أجمل أن تصبر الداعية على هذا الضعف والتردد، فتطيل النفس معهم، ولا تحملهم ما لا تطيق نفوسهم وطباعهم وإمكاناتهم، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199]}[سورة الأعراف].
قال الطبري رحمه الله: 'خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم'. فلا ينبغي أن يغلب جهل المدعو حلم الداعية بحال من الأحوال.
خامساً: ينبغي للداعية أن تهتم بجانب تربية النفس، والارتقاء بقدراتها وعلمها وأخلاقها، وينبغي أن تعوّد نفسها على تحمل البرامج الجادة، واستثمار الوقت بكل وسيلة ممكنة على أحسن وجه.
سادساً: استبعاد الجانب الشخصي من الدعوة مهم، فهذه الدعوة ربانية لا تنحصر في أفراد، أو جماعات أو هيئات، فيجب أن نصحح الاعتقاد لدينا أن الدعوة تنحصر في هذا الفرد أو ذاك، والواجب تهيئة أكبر عدد ممكن من الداعيات والصالحات.
سابعاً: ليس الهدف من الدعوة هو تحطيم أشخاص معينين أو إسقاطهم، فلم يكن هم موسى عليه السلام القضاء على فرعون بل كان يرجو أن يخرج الناس من عبودية العباد إلى إخلاص العبادة لرب العباد. فلا بد من البعد عن السب والشتم، فهو ليس من طرق الدعوة ولا من وسائلها، فهي جاءت لإسقاط الباطل وبسقوطه يسقط من حمله.
ثامناً: الدعوة إلى الله، هي دعوة على بصيرة، بصيرة بكل شيء، من طريق الدعوة والسبيل الأقوم، وأخذ حظ من العلم المؤصل السليم، وبصيرة بحال المدعوين وظروفهم، وبأعداء الدعوة وأساليبهم، وبصيرة كذلك بنفسها لتعرف إرادتها ونيتها فلا يلتبس عليها الأمر، ولا تتداخل المقاصد.
من :'توجيهات ونصائح للمرأة الداعية' للداعية/ رقية المحارب(/1)
توحيد الحاكمية
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: توحيد الحاكمية.
1- أقسام التوحيد.
2- عبارة: "توحيد الحاكمية".
3- المقصود من توحيد الحاكمية.
4- علاقة توحيد الحاكمية بأقسام التوحيد.
أ- علاقته بتوحيد الألوهية.
ب- علاقته بتوحيد الربوبية.
ج- علاقته بتوحيد الأسماء والصفات.
د- علاقته بتوحيد المتابعة.
ثالثاً: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام.
رابعاً: وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
خامساً: مفاسد الإعراض عن حكم الله تعالى.
أولاً: تعريف وبيان:
الحاكميّة لغة على وزن فاعليّة، وهو من المصادر الصناعية.
والمصدر الصناعي يطلق على كل لفظ زيد في آخره ياء النسب المشدّدة ثم تاء التأنيث المربوطة، وتسمّى تاء النقل؛ لأن الاسم قبل اتصالها به كان له حكم المشتق من أجل ياء النسب، ثم لما اتصلت به نقلته إلى الاسمية المحضة، فصار يدل على معنى مجرد لم يكن يدل عليه قبل الزيادة. وهذا المعنى المجرّد الجديد هو مجموعة الصفات أو الأحكام أو القواعد الخاصة بذلك اللفظ. ويُعدّ هذا المصدر من المولَّد المقيس على كلام العرب، والحاجة إليه ماسّة في المصطلحات العلمية، ولذا ظهر استخدامه في وقت مبكّر فقالوا ـ مثلاً ـ عن مذهب أبي حنيفة، أي مجموع أصوله وقواعده وآرائه قالوا عنه: "الحنفية"، وهكذا "المالكية والشافعية والحنبليّة"، وقالوا عن مذهب نفي الصفات: "الجهميّة"، وعن مذهب نفي القدر: "القدريّة"، وعن مذهب نفي الكسب والاختيار: "الجبرية" وهكذا...
والمراد بالحاكمية في مبحثنا هذا قضية الحكم والتشريع، وما يتعلق بذلك من المسائل والأبحاث.
انظر: النحو الوافي (3/186-187) لعباس حسن.
ثانياً: توحيد الحاكمية:
قبل الخوض في الكلام عن توحيد الحاكمية لا بدّ من تقديم مقدمة في بيان أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة. وذلك فيما يلي:
1- أقسام التوحيد:
التوحيد عند أهل السنة والجماعة قسمان:
1) توحيد المعرفة والإثبات، ويضم توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العلمي، وبتوحيد الكلمات الكونيات، وبتوحيد أفعال الله تعالى وصفاته.
2) توحيد القصد والطلب، وهو توحيد الألوهية، ويسمّى أيضًا بالتوحيد العملي، وبتوحيد الكلمات الشرعيات، وبتوحيد أفعال العباد لله تعالى.
ويجب أن يعلم أن هذا التقسيم من الحقائق الشرعية التي دلّ عليها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أمرًا حادثًا، أو أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء، بل من استقرأ الآيات الواردة في التوحيد في كتاب الله تعالى وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع، ولا تقصُر عنها.
إذا عُلم أن أقسام التوحيد اثنان أو ثلاثة يجب أن يعلم بأنّه لا تعارض بين هذين التقسيمين؛ لأن من جعله اثنين اعتبر ما يجب على قوتي العبد: قوته الإدراكية العلمية، وقوّته الإرادية العملية، فهو بحسب ما يجب على العبد، ومن جعله ثلاثة لاحظ أن ما يجب على قوة العبد العلمية إما راجع إلى أفعال الله تعالى أو إلى صفاته، فصارت القسمة ثلاثية، فهو بحسب متعلَّق التوحيد.
ويرى بعض العلماء أن التوحيد أربعة أقسام، فزاد توحيد المتابعة وهو إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالطاعة والاتباع، وذلك إتمامًا للشهادتين، ولا مشاحاة في ذلك ما دَام المعنى المقصود صحيحًا.
وبعد هذه المقدّمة عن أقسام التوحيد نتطرّق إلى الكلام عن توحيد الحاكمية من خلال الأسئلة التالية:
2- عبارة "توحيد الحاكيمة":
إنّ التعبير بـ "توحيد الحاكمية" لا محذور فيه ما لم يتضمن معنى فاسدًا، فإذا تضمن ذلك كان اللفظ صحيحًا والقصد فاسدًا سيِّئا، ولذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج لما قالوا له: "لا حكم إلا الله" وكان قصدهم فاسدًا، قال لهم مقولته المشهورة: "كملة حق أريد بها باطل".
قال النووي رحمه الله: "معناه أن الكلمة أصلُها صِدق، قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه".
فإذا كان المعنى المقصود من هذه العبارة صحيحًا فلا محذور فيها، ولكن متى ما تضمّنت معنى فاسدًا كتكفير أصحاب المعاصي أو تكفير كل من خالف شرع الله في حكمٍ إمّا جهلاً وإما خطأ وإمّا مكرهًا وإما لشهوة وإمّا لشبهة، فهذه يقال فيها مثل ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كلمة حق أريد بها باطل" فلم يحمله المعنى الباطل المراد من تلك الكلمة على ردّها مطلقًا، وهذا من كمال علمه ودقّة فقهه وشدّة احترازه من أن يردّ باطلاً بباطل رضي الله عنه.
فإن قيل: إن عبارة "توحيد الحاكمية" مصطلح حادث لم يجر على ألسنة العلماء المعتبرين.(/1)
فالجواب: أن العبرة بالمعاني لا بالمباني، والأمور بمقاصدها، ولشيخ الإسلام كلام نفيس في الألفاظ التي اصطلح عليها المتكلمون ولم ترد في الكتاب والسنة، ولا جرت على ألسنة سلف الأمة. وهذا نصّه: "وهذا التقسيم ينبّه أيضًا على مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله، إذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدلّ على المقالات الباطلة. فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكمًا ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحاتهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة... فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرّد ما فيه من الاصطلاحات المولَّدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات... فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت بحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا في الوسائل والمسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم، وهذا من مثارات الشبه".
فإذا كان هذا في الاصطلاحات الموَلّدة التي كان الغرض من وضعها التسلل إلى نفي الصفات أو تأويلها، فكيف الأمر بالنسبة لعبارة صحيحة أساء فهمها أو استخدامها بعض الناس؟!
3- المقصود من توحيد الحاكمية:
المراد بتوحيد الحاكمية إفراد الله عز وجل بالحكم، وهو أن يعتقد العبد أن الحكم لله سبحانه وحده لا شريك له فيه، فله الحكم في الدنيا، وله الحكم في الآخرة، وله الحكم الكوني، وله الحكم الشرعي، فمن اعتقد أن أحدًا غير الله يحكم بين العباد يوم القيامة، أو اعتقد أن أحدًا غير الله يتحكم في الكون ويتصرف فيه، أو اعتقد أنه يجوز الخروج عن شريعة الله أو تشريع ما لم يأذن به الله، فهذا قد نقض هذه الشعبة العظيمة من شعب الإيمان, وخلع ربقة الإسلام من عنقه والعياذ بالله.
وقد جمع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذه المعاني لتوحيد الحاكمية فقال: "فإن الربّ والإله هو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى، بحيث تكون الطاعات كلها تبعًا لطاعته".
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين:8]: "وحكمُه يتضمن نصره لرسوله على من كذّبه وجحد ما جاء به، بالحجة والقدرة والظهور عليه، وحكمَه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحكمَه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه".
4- علاقة "توحيد الحاكمية" بأقسام التوحيد:
إن "توحيد الحاكمية" ليس قسيمًا لأقسام التوحيد المشهورة، ولكن له تعلّق بكلّ قسم منها ويندرج تحته باعتبار معيّن:
أ- علاقته بتوحيد الألوهية:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "فسّر العلماء رحمهم الله العبادة بمعانٍ متقاربة، من أجمعها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا يدل على أن العبادة تقتضي الانقياد التام لله تعالى، أمرًا ونهيًا واعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحلّ ما أحل الله، ويحرم ما حرّم الله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردًا من حظوظ نفسه ونوازع هواه... فلا يكون عابدًا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى... فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له... والعبودية لله وحده، والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه، من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فالله سبحانه هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فكما أنه الخالق وحده، فهو الآمر سبحانه، والواجب طاعة أمره... ومما تقدم يتبين لك أيها المسلم أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه ممّا أوجبه الله ورسوله وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم".
ومن الأدلة الواضحة الدالة على أن توحيد الحاكمية شعبة من شعب توحيد الألوهية وأن الإشراك فيه إشراك في العبادة قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].(/2)
فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرم الله فتحلونه؟!)) قال: قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)).
وعن أبي البختري قال: "انطلَقوا إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلَقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم، ولو قالوا: اعبدونا لم يفعلوا".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال".
وقال أيضاً: "هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))".
وقال ابن حزم رحمه الله: "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادةً، وهذا هو الشرك بلا خلاف".
ب- علاقته بتوحيد الربوبية:
بيّن كبار علماء العصر: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود اندراج هذا النوع تحت توحيد الربوبية، وذلك في إجابة لهم عن سؤال عن أنواع التوحيد وتعريف كل منها، فكان جوابهم:
"أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر التصريف والتدبير لملكوت السموات والأرض، وإفراده تعالى بالحكم والتشريع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54]، وتوحيد الألوهية:...".
فمن جعل التشريع حقًا لغير الله تعالى فقد وقع في شرك الربوبية، قال الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله متكلمًا عن شرك الربوبية: "هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله".
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من لوازم إفراد الله تعالى بالربوبية إفراده تعالى بالحكم. قال تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59].
قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم، سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم".
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "إن الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمّى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابًا لمتبعيهم فقال سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]، فسمّى الله المتبوعين أربابًا حيث جُعلوا مشرِّعين مع الله تعالى، وسمّى المتبعين عبادًا حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى...". ثم ذكر حديث عدي ابن حاتم المشهور.
فمن أعطى أهلية التشريع ووضع القوانين والأحكام لأمثاله من البشر فقد وقع في شرك الربوبية، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن هؤلاء المقننين والمشرعين: "وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية، سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه".
ج- علاقته بتوحيد الأسماء والصفات:
إن من أسماء الله عز وجل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم الحَكَم والحاكم والحكيم.(/3)
قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكمًا وهو الذي أنزل عليكم الكتاب مفصلاً} [الأنعام:114].
وقال تعالى: {فاصبر حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]، وقال تعالى عن قول نوح: {ربّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين} [هود: 45].
وقال تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18، 73] في آيات كثيرة جدًا.
ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنّه يحكُم وأنه سبحانه حكيم في أحكامه كلها.
قال تعالى: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} [الممتحنة:10].
وقال تعالى: {إن الله يحكم ما يريد} [المائدة: 1].
وقال تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} [الحج: 56].
وعن شريح عن أبيه هانئ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكَم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: ((فمن أكبرهم؟)) قلت: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح)).
فلا يتمّ الإيمان بهذه الصفة لله عز وجل إلا بإثباتها له سبحانه وإفراده تعالى بها، وذلك بالإيمان بأنّ له سبحانه وحده الحكم الشرعي والحكم القدري والحكم الجزائي، فمن أشرك مع الله أحدًا في التشريع، أو أشرك مع الله أحدًا في التقدير، أو أشرك مع الله أحدًا في الحساب والجزاء فقد اختل توحيده للأسماء والصفات.
د- علاقته بتوحيد المتابعة:
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتّبع المحكَّم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركًا وتحكيمًا عند النزاع".
وقد سبق نقل كلام الشيخ ابن باز رحمه الله في أن تحكيم شرع الله تعالى من مقتضى الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...} [النساء: 65]: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا".
وقال ابن القيم رحمه الله: "أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبلَه على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرّد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضًا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض".
وقال أيضًا في معرض بيان معنى الرضا بالنبي صلى الله عليه وسلم رسولاً: "وأما الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما حكم، ويسلموا تسليمًا" .
انظر: القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد. للأستاذ: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر. والتحذير من مختصرات الصابوني في التفسير (ص 30 حاشية 2) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
أخرجه مسلم (2/749) [1066] من طريق عبيد الله بن أبي رافع عنه.
شرح صحيح مسلم (7/173-174).
درء التعارض (1/43-45).
القول السديد (ص 102).
التبيان في أقسام القرآن (ص43).
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/77-84).
أخرجه الترمذي (5/259-260) [3095] وحسنه شيخ الإسلام كما في المجموع (3/67) [وهو في صحيح السنن [2471].
أخرجه الطبري في تفسيره (14 / 211-212) [16637].
مجموع الفتاوى (7/67).
كذا العبارة في المجموع وفيها قلب والصواب: بتحريم الحرام وتحليل الحلال.
مجموع الفتاوى (7/70).
الفصل (3/266).
فتاوى اللجنة الدائمة (1/55) الفتوى رقم [8943].
تفسير المنار (2/55).
أضواء البيان (7/163-168) باختصار.
المجموع الثمين (1/33).
أضواء البيان ( ).(/4)
أخرجه أبو داود (4955)، والنسائي (5387)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4145).
فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (12/251).
تفسير بن كثير (3/211).
التبيان في أقسام القرآن (ص 270).
مدارج السالكين (2/180).
مجموع الفتاوى (7/37-38).
ثالثاً: توحيد الحاكمية وحقيقة الإيمان والإسلام:
إن من مقتضى الإيمان بالله عز وجل الإيمان بحكمه سبحانه وقبوله والرضا به والتسليم له، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أقسم الله بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمّن الإشارة إلى صحة رسالته صلى الله عليه وسلم أقسم بها قسمًا مؤكدًا أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف".
وقال ابن حزم رحمه الله: "فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا، وأخبر تعالى أنه لا إيمان إلا ذاك، مع أنْ لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينًا أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد".
وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران:23].
وقال الله تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور:47-51].
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء: 60-62].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ذمّ المدَّعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيب المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله، في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضًا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم قالوا: إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات".
فإذا كان المتأوّل الذي رد أحكام الشرع بالظنون والشبهات له نصيب من هذا الوعيد فكيف بمن إذا دعي إلى تحكيم الشرع المنزّل قال: "السيادة للشعب وليست للدين" لا شك أن هذا منافٍ للإيمان ومناقض للإسلام.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "والآية ناطقة بأن من صدّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدًا ولاسيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقًا لا يعتدّ بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام".
وقال ابن القيم رحمه الله مبينًا التلازم بين الإيمان وبين رد الخصومات والنزاعات إلى شرع الله تعالى: "جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورةَ انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولاسيما التلازم بين هذين الأمرين، فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة".
وقال ابن كثير رحمه الله: "فدل على أن من لم يتحاكم في محلّ النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنًا بالله، ولا باليوم الآخر".(/5)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان، فدل ذلك على أن من لم يردّ إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون...} الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب في ذلك".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه".
وإن حقيقة الإسلام هي الاستسلام التام لله عز وجل ولا يتم ذلك إلا بقبول دينه والتسليم لشرعه والرضا بحكمه، قال ابن تيمية رحمه الله: "فالإسلام يتضمّن الاستسلام لله وحده، فمن أسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده".
وهذا هو معنى الرضا بالإسلام دينًا، قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الرضا بدينه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده وشيخه وطائفته" .
المجموع الثمين (1/35).
الدرة (ص 338).
مجموع الفتاوى (12/339-340).
تفسير المنار (5/227).
إعلام الموقعين (1/49-50).
تفسير ابن كثير (3/209).
تفسير السعدي (2/90).
تحكيم القوانين (ص 2).
مجموع الفتاوى (3/91).
مدارج السالكين (2/118).
رابعاً: وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه:
إن الآيات الدالة على وجوب تحكيم شرع الله والتحاكم إليه، والمحذرة من التحاكم إلى غيره كثيرة في كتاب الله تعالى، وكلام العلماء عليها معروف مشهور حتى أضحى ذلك علمًا ضروريًا عند المسلمين، قال العلامة ابن باز رحمه الله: "ومعنى هذا أن العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى وقول رسوله وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة".
ولكن توالت شبه الكفرة الملحدين وتواردت سمومهم على الأمة، وصادف ذلك ضعفًا من المسلمين وتناحرًا بينهم وبعدًا كبيرًا عن الدين الصحيح، وتلك الشبهات ضعيفة في أول سيرها وهزيلة في حقيقة أمرها، ولكنها وجدت من يغذيها في رحلتها حتى لا تنقطع بها السبيل وتصل إلى قلوب المسلمين، والمتنبهون لخطورة الأمر ما بين ساكت ومتكلّم لا يبلغ صوتُه إلا من رحم الله، ففعلت تلك الشبهات فعلتها الشنيعة، وشيّدت في قلوب المسلمين حصونها المنيعة، فصار من يدعو إلى تحكيم الشريعة، قد أتى جريمة فظيعة، والعجب أن يجد من يتهمه بذلك من إخوانه المسلمين قبل أعدائه الملحدين، فيا لغربة الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إلى الماء يسعى من يغصّ بلقمة إلى أين يسعى من يغصّ بماءٍ؟!
وقد انعقد الإجماع على أنه لا شرع إلا ما شرعه الله، ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، وأن تشريع الأحكام هو حقّ لله وحده، فمن أعطى غيره هذا الحق أو أعرض عن شرع الله وسَخِطَه ولم يرض به فهو كافر بإجماع المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه، كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا أنزل قوله على أحد القولين: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله".
وقال أيضًا: "إن الحاكم إذا كان ديِّنًا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين، فجعل الحق باطلاً، والباطل حقًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر، يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}".(/6)
وانظر قوله: "وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عامًا..." أي إذا شرع حكمًا مخالفًا لشرع الله تعالى وألزم به عامة المسلمين أو غيّر حكمًا من أحكام الله تعالى المعلوم من الدين بالضرورة فهذا داخل فيما ذكره وإن كان في باقي الأحكام جاريًا على شرع الله، فكيف الأمر بالنسبة لمن رفض شرع الله جملة وتفصيلاً ورأى عدم صلاحية الكتاب والسنة لاستنباط الأحكام منهما والتحاكم إليهما، وأعطى صلاحية التشريع لغير الله، فما أجازته الأغلبية فهو الجائز حتى لو كان في دين الله حرامًا، وما منعته الأغلبية فهو الممنوع حتى لو كان في دين الله مباحًا، لا شكّ أن هذا أعظم كفرًا ومحادة لله عز وجل.
وفيما يلي نسوق بعض الآيات الواردة في بيان وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى والتحاكم إليه وبيان التحذير من التحاكم إلى الطاغوت:
1. قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا} [النساء:58].
قال ابن تيمية رحمه الله: "على الحكام أن لا يحكموا إلا بالعدل، والعدل هو ما أنزل الله".
2. وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63]. وقال: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا} [الأحزاب:36].
قال ابن القيم رحمه الله: "فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان".
وقال الشافعي رحمه الله: "ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتيانهما".
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن ترك المسلم ـ عالمًا كان أو غير عالم ـ ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقًا للعذاب... ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديًا منصورًا بنصرة الله في الدنيا والآخرة".
3. وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء:105].
فبين أن الغاية من إنزال الكتاب هو الحكم بين الناس بالعدل، قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن الله سبحانه هو الحكم الذي يحكم بين عباده، والحكم له وحده، وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب".
4. وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
قال شيخ الإسلام: "أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين إنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله".
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير".
فقد ذمّ الله عز وجل في هذه الآية من يبتغي حكم الجاهلية ويريده، وهو كل حكم مخالف لشرع الله، فكيف بمن يشرّعون ما لم يأذن به الله، ولم ينزل به سلطانًا، ويجعلون تشريعهم ذلك عامّا لازمًا تجب طاعته، ويضفونه بالقداسة والحرمة ويصفونه بالفوقية, ويعتبرون من خالفه أو لم يرض به من أكابر المجرمين الذين تجب معاقبتهم بيد أنه لو خالف حكم الله المتفق عليه جهارًا نهارًا كأن يطوف بقبر أو يستغيث بميت أو يدعو إلى بدعة أو يسب الله ورسوله أو يشرب الخمر أو يبيعها أو يرمي المحصنات المؤمنات أو غير ذلك من المخالفة لشرع الله المنزل فإنهم لا يكترثون لذلك ألبتة فضلاً عن أن يكترثوا له كما يكترثون لمخالفة أحكامهم التي شرعوها من دون الله، وهذا في الحقيقة منتهى مضاهاة الله تعالى في التشريع، نسأل الله السلامة والعافية.
5. وقال تعالى: {ولا يُشركُ في حكمه أحدا} [الكهف: 26].(/7)
قرأ ابن عامر (ولا تُشركْ) بالتاء المثناة من فوق وبجزم الكاف على أن (لا) ناهية، وقرأ الباقون (ولا يُشركُ) بالياء المثناة من تحت وبالرفع على الخبرية.
قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما ألبتة، فالذي يتبع نظامًا غير نظام الله وتشريعًا غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما ألبتة بوجه من الوجوه، فهما واحد وكلاهما شرك بالله".
6. وقال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء:65].
قال شيخ الإسلام: "فعلى جميع الخلق أن يحكِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم".
وقال أيضًا: "وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره، وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه".
وقال: "ما جاء به الرسول هو الشرع الذي يجب على الخلق قبوله، وإلى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق".
7. وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} [الشورى:10]. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59].
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "الواجب على كل أحد أن لا يتخذ غير الله حكماً وأن يرد ما تنازع فيه الناس إلى الله ورسوله، وبذلك يكون دين العبد كله لله وتوحيده خالصاً لوجه الله. وكل من حاكم إلى غير حكم الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وإن زعم أنه مؤمن فهو كاذب. فالإيمان لا يصح ولا يتمّ إلا بتحكيم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق. فمن تحاكم إلى غير الله ورسوله فقد اتخذ ذلك رباً وقد حاكم إلى الطاغوت".
8. وقال سبحانه: {إن الحكم إلا لله يقصّ الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57]. وقال عز وجل عن قول يعقوب عليه السلام: {إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} [يوسف:67]. وقال تعالى عن قول يوسف عليه السلام: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40].
قال ابن تيمية رحمه الله: "فالحكم لله وحده، ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته، فإن ذلك هو حكم الله على خلقه. والرسول يبلغ عن الله قال تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله...}.
9. وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى:21].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن بدّل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا، فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ. والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه، واتباع ما شرعه من الدين، وهو ما أتى به من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة فهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة".
وقال أيضًا: "فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه، ويجب على ولاة الأمر نصرُه والجهاد عليه هو الكتاب والسنة".
وقال في معرض بيان عدم لزوم حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية: "فكيف يُعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا؟! لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده، والله لا يغفل عن مثل هذا، وليس الحق في هذا لأحد من الخلق".
فإذا كان هذا في المسائل الخلافية الاجتهادية، فكيف بمن يردّ شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويلزم الناس بشرع ما أنزل الله به من سلطان؟! لا شك أن هذا أعظم وأخطر وأضل.
10. وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف:3].
قال ابن القيم رحمه الله: "فأمر باتباع المنزّل منه خاصة، وأعلم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء".(/8)
قال ابن تيمية رحمه الله: "متى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة... ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقًا لعذاب الله، بل عليه أن يصبر، وإن أوذي في الله. فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم".
11. وقال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة:42، 48، 49].
وقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26].
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بالحق وهو الشرع المنزل من عنده تعالى، ونهاه عن اتباع الهوى المضل وذلك بترك الحكم بالحق الذي أنزله، وبين له وعيد من ضل عن سبيله، قال ابن القيم رحمه الله:"فقسّم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله، وإلى الهوى وهو ما خالفه".
فكل من لم يحكم شرع الله فهو متبع لهواه، متوعَّد بالعذاب الشديد. والعياذ بالله تعالى.
12. وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة:44، 45، 47].
قال ابن القيم رحمه الله: "قال ابن عباس: ليس بكفر ينقل عن الملة. بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. وكذلك قال طاوس. وقال عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ومنهم: من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له. وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم.
ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله. قال: ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام. وهذا تأويل عبد العزيز الكناني. وهو أيضاً بعيد. إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل. وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه.
ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص، تعمداً عن غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموماً.
ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب. وهو قول قتادة، والضحاك، وغيرهما. وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ. فلا يُصار إليه.
ومنهم: من جعله كفراً ينقل عن الملة.
والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له حكم المخطئين" .
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/82).
مجموع الفتاوى (3/267-268).
مجموع الفتاوى (35/388).
مجموع الفتاوى (35/361).
الرسالة التبوكية (ص44).
انظر: إعلام الموقعين (2/283).
مجموع الفتاوى (35/374).
مجموع الفتاوى (35/361).
مجموع الفتاوى (35/386).
تفسير ابن كثير (3/122-123).
وذلك بقولهم: "القانون فوق الجميع".
انظر: القراءات العشر المتواترة. إشراف ومراجعة وتدقيق الشيخ محمد كريم راجح.
أضواء البيان (7/172).
مجموع الفتاوى (35/363).
مجموع الفتاوى (35/372).
مجموع الفتاوى (35/383).
القول السديد (ص134).
مجموع الفتاوى (35/363).
مجموع الفتاوى (35/365).
مجموع الفتاوى (35/376).
مجموع الفتاوى (35/381).
إعلام الموقعين (1/82).
مجموع الفتاوى (35/372-373).
إعلام الموقعين (1/81).
مدارج السالكين (1/364-365).
خامساً: مفاسد الإعراض عن حكم الله تعالى:
إن من أعظم ما ابتلي به المسلمون في هذا القرن الأخير سقوط الخلافة الذي كان من نتائجه الوخيمة تنحية شرع الله تعالى وعدم التحاكم إليه في شئون الحياة، ثم ازداد الأمر سوءًا لما توالت شبهات الكفار والمستشرقين وأذنابهم من المنتسبين إلى الإسلام التي كان الغرض منها التشكيك في صلاحية أحكام الإسلام في هذا الزمان، وقد اتخذوا أوتارًا يدندنون عليها وسلكوا سبلاً يتسلّلون منها، من ذلك قضايا المرأة، وقضايا الرق، وقضايا الحدود كقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن، وقضايا الحرية الشخصية كقتل المرتد، إلى غير ذلك من القضايا التي أرادوا من خلالها أن يطعنوا في الإسلام.
وقد حققوا بعض مرادهم، وشككوا كثيراً من المسلمين في بعض أحكام دينهم، على حين غفلة من بعضهم وجهل من آخرين.(/9)
ونحن نرى اليوم العواقب الوخيمة للحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين، بعضها راجع إلى فساد في الدين، وبعضها راجع إلى فساد في الدنيا، ولأجل عظم هذه المفاسد وصف الله تعالى في موضع واحد من لم يحكم بكتابه بالكفر والظلم والفسوق، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق الآيات في ذلك [المائدة:44، 45، 47]: "فأكد هذا التأكيد، وكرر هذا التقرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله، وعموم مضرته، وبلية الأمة به"، وقال رحمه الله: "لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم وعمتهم هذه الأمور".
ومن تلك المفاسد أيضًا:
1) انتشار الشرك، وفشوّ البدع، وظهور الدعاة إليهما، وتمكّنهم من بثّ شبهاتهم، ونشر دعواتهم.
2) ظهور المعاصي والإعلان بها، بل والتبجح بها والتنافس عليها.
3) تعطيل كثير من الأحكام الشرعية كجباية الزكاة وإقامة الحدود والحسبة وغير ذلك.
4) الفرقة والاختلاف والشقاق والنزاع الذي أدّى إلى سفك الدماء وسلب الأموال وإضعاف الشوكة وتقوية طمع الأعداء.
5) زعزعة بعض المبادئ في قلوب المسلمين، كمبدأ الولاء والبراء، ومبدأ الأخوة على أساس الدين لا على أساس الجنس أو الوطن أو اللغة أو الثقافة الجاهلية.
6) وكان من مفاسده العظيمة أيضًا حصول الخلاف والنزاع بين الدعاة المصلحين؛ لأنهم بعد اتفاقهم على فساد الوضع وقناعتهم بضرورة الإصلاح اختلفوا في سبيل ذلك، واستفحل الخلاف بينهم حتى أدى بهم إلى التعصب المشين والحزبية المقيتة، وقد استغلّ أعداء الدين هذه الفرقة واستثمروها في التمكين لمبادئهم والترويج لشبهاتهم.
7) تمكُّن أرباب المبادئ الهدامة من مراكز النفوذ في بلاد المسلمين مما سهل لهم إنجاز مخططاتهم وتطبيق برامجهم ومقرّراتهم.
8) نزول عذاب الله عز وجل وحلول نقمه من الزلازل والأوبئة والقحط والأعاصير وغير ذلك من النذر الربانية.
9) ذلّ المسلمين وهوانهم وخضوعهم لقرارات الكفرة بل وفرح بعضهم بتبعيتهم لهم.
إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة التي نعدّ منها ولا نعدّدها، والتي كلّ فرد منها أيضًا يجرُّ مفاسد أخرى لا يعلم مدى خطورتها وضررها على الأمة إلا الله تعالى.
إعلام الموقعين (2/280).
الفوائد (ص 42).(/10)
توحيد الحاكمية
بسم الله الرحمن الرحيم
التوحيد في الحاكمية
السؤال :
سمعنا كثيراً في السنوات الأخيرة عن مصطلح ( توحيد الحاكمية ) فما حقيقة هذا التوحيد ؟ و ما حكم استعمال هذا المصطلح في الطرح الإسلامي المعاصر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لفظ ( الحاكميّة ) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة العربية ، و أول من استخدمها في خطابه السياسي و الديني هو العلامة الهندي الشهير أبو الأعلى المودودي ، ثم أخذها عنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة إليه و التركيز عليه .
هذا عن أصل استعمال ( الحاكمية ) كلفظٍ في لغة العرب ، و قد أصبحت مرادفة للحكم في اصطلاح كثير من المتأخرين ، و إذا وقف الأمر عند حد إطلاق هذا المصطلح على المراد الشرعي منه ، و هو إفراد الله بالتحكيم و التشريع فلا بأس في ذلك إذ لا مشاحّة فى الاصطلاح كما هو مقرر عند الأصوليين .
و ممّا لا خلاف فيه بين الموحدين قاطبةً وجوب توحيد الله تعالى في التحكيم و الرد إلى شريعته المحكمة المنزلة في كتابه المبين ، و سنة نبيّه خاتم المرسلين صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، قال تعالى : ( و لا يشرك في حكمه أحداً ) و في قراءة ابن عامر ، و هو من القراء السبعة : ( و لا تُشرك في حكمه أحداً ) ، و قال سبحانه : ( ألا له الخلق و الأمر ) ، و قال أيضاً : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
فمن أعطى حق التشريع أو الحكم فيما شجر بين الخلق لغير الخالق أو أقر بذلك أو دعا إليه أو انتصر له أو سلّم به دونما إكراهٍ فقد أشرك بالله شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام ، و العياذ بالله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في منهاج السنّة النبويّة : 5 / 130 ] : ( و لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار ) .
و قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله [ في أضواء البيان : 7 / 162 ] : ( الإشراك بالله في حكمه و الإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما ألبتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، و تشريعاً غير تشريع الله ، و من كان يعبد الصنم ، و يسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة ؛ فهما واحد ، و كلاهما مشرك بالله ) .
و قال رحمه الله أيضاً [ في أضواء البيان : 7 / 169 ] : ( لما كان التشريع و جميع الأحكام ؛ شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً ، و أشركه مع الله ) .
و خلاصة ما بينه رحمه الله تعقيباً على الآيات البينات التي سقناها آنفاً يوجزه قوله : ( إن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركون بالله ) .
و ليس بعيداً عنه قول مفتى الديار السعودية في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : ( أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهذا كفر و إن قالوا أخطأنا و حكم الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
و للمشائخ المعاصرين حفظ الله حيهم و نفع به و رحم ميتهم و أجزل مثوبته من الكلام في وجوب توحيد الله في الحكم و التشريع ، و تسمية العدول عنه شركاً ، و الحكم على صاحبه بالكفر الأكبر الناقل عن الملة الشيء الكثير مما لا يسمح المقام بتتبعه و سرده مطولاً ، و من أراد التوسع فعليه بفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله و رسائله ، و بخاصة رسالة نقد القومية العربية .
قلت : و إذا تقرر وجوب إفراد الله بالتحكيم و أن من الكفر الأكبر أن يُشرَكَ في حكمه أحدٌ من خلقه سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو سلطاناً أو زعيماً أو مجلساً تشريعياً أو سلطةً مدنية أو عسكرية أو فرداً من العامة أو الخاصة أو غير ذلك ، و أن ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، و لا يسوغ لأحد أن يخالف أو يجادل فيه ، فلن يكون للخلاف حول إطلاق مصطلح ( توحيد الحاكمية ) أو عدمه أثر في الواقع ، و لا داعي للانشغال بتقرير هذا التوحيد كقسمٍ رابع من أقسام التوحيد المعروفة ، أو رده إلى الأقسام الأخرى ، و خاصة توحيد الربوبية و توحيد الألوهية .
بل يجب أن يبقى الأمر في دائرة المصطلحات السائغة التي لا مشاحة فيها لأحد ، مع التسليم بجدوى التقسيم إذا كان فيه مصلحة معتبرة لطالب العلم كتسهيل دراسته و تحصيله ، أو لضرورة تنبيه الناس إلى ما غاب عنهم أو انشغلوا عنه بغيره من أبواب العلم و العمل .(/1)
فإن أبى من جمد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام إلا أن يبدّع من خالفه في هذا التقسيم و يغمز قناته بإطلاق لسانه بثلبه أو نبذه بالتحزب و الخروج و نحو ذلك ؛ قلنا له : من أين لك أن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة مرده إلى الكتاب أو السنة أو هدي سلف الأمة ؟
أما إن اعتُرض على توحيد الحاكمية كاصطلاح و ليس على مجرد التقسيم إلى قسمين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر أو أقل ، فيقال للمعترض : إن الدعوة إلى إفراد الله و رسوله بالحكم ليس مما ابتدعه المعاصرون بل هو من القدم بمكان .
قال ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح الطحاويّة ، ص : 200 ] في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم : ( فنوحّده بالتحكيم و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا نرضى بحُكم غيره ) .
فإن شغب علينا من يقول : إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر توحيد الرسول بالتحكيم و لم يكن حديثه عن توحيد الله .
قلنا : الأبعَدُ ثكلته أمه !! و هل ثمة فرق بين تحكيم الله و تحكيم رسوله الذي لا ينطق عن الهوى ؟
و إن قيل : إن الكلام عن الطاعة و التسليم و الانقياد و ليس عن التحكيم بمعناه المستخدم عند المعاصرين و هو التحكيم في التشريع !
قلنا : أوليس ردّ التشريع إلى الله تعالى من صميم التسليم و الانقياد و الإذعان للشارع الحكيم سبحانه ؟!
بل هو من أدق مسائل التوحيد في الربوبية التي تثبت لله دون سواه الحق في التشريع ، و في الربوبية التي توجب صرف هذا الحق لله تعالى على الإفراد و التوحيد ؛ كما هو مقرر في كتب أصول الدين ، و الموفق من وفقه الله لفهم كلام السلف ، و نهج نهجهم ، و سلوك سبيلهم ، على كان عليه ، لا على ما قد يتوهمه بعض الخلف ، و ينسبونه إلى السلف ظناً منهم أو زعماً أنه منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/2)
توحيد الحاكمية2
س11: هل من الممكن أن توضحوا لي معنى توحيد الحاكمية .. يبدو لي كأنها نصف التوأم الآخر لتوحيد الألوهية ؟!
كما أنني قد سمعت أن الشيخ محمد بن إبراهيم شيخ ابن باز هو ممن علم الناس توحيد الحاكمية .. ومن ثم نُبذت هذه الكلمة من كثير من السلفيين السعوديين، واعتبروها بدعة، فهل هذا صحيح ؟!
ثم هل من الممكن أن ترشدوني إلى الكتب التي تناولت هذا الجانب من التوحيد .. ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. توحيد الحاكمية يعني إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع، فالله تعالى هو الحكَم العدل، له الحكم والأمر، لا شريك له في حكمه وتشريعه .. فكما أن الله تعالى لا شريك له في الملك وفي تدبير شؤون الخلق كذلك لا شريك له في الحكم والتشريع، كما قال تعالى: { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . وقال تعالى: { والله يحكم لا معقب لحكمه } . وقال تعالى: { إن الله يحكم ما يريد } . وقال تعالى: { ولا يُشرك في حكمه أحداً } . وقال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } . { وما اختلفتم من شيء فحكمه إلى الله } . وقال تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ، وغيرها كثير من الآيات البينات المحكمات التي أشارت إلى هذا النوع من التوحيد، والذي لا يصح إيمان المرء إلا به ..
وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الله هو الحَكَمُ، وإليه الحكمُ " .
لكن هل هذا النوع من التوحيد هو غير توحيد الألوهية، أو هو النصف الآخر منه ..؟!
أقول: ليس هو قسم آخر غير توحيد الألوهية، بل هو داخل في توحيد الألوهية، ومنه ما يدخل في توحيد الربوبية، ومنه ما يدخل في توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته .. ولكن لما كثر الشرك في الأمة من جهة حكمها بغير بما أنزل الله، ومن جهة تحاكمها إلى شرائع الكفر والطاغوت .. تعينت الإشارة إلى هذا النوع من التوحيد الهام وإفراده بالذكر للفت نظر الناس إلى أهميته، وأنهم من دونه لا يكونون قد أتوا بتوحيد الألوهية كما ينبغي ويجب .
مثل ذلك أن تجد قوماً قد أشركوا من جهة الطاعة فتقول لهم: يجب أن تأتوا بتوحيد الطاعة،
ولا تطيعوا أحداً لذاته إلا الله .. فقولك هذا صحيح لا يجوز الإنكار عليك أو يُقال لك أنك قد أتيت بتوحيد جديد سميته توحيد الطاعة، أو بتوحيد غير توحيد الألوهية ..!
وكذلك عندما تجد قوماً قد أشركوا مع الله أنداداً أخرى من جهة المحبة والولاء والبراء .. فتجد نفسك مضطراً إلى أن تشير إلى توحيد المحبة، وأن المحبوب لذاته هو الله وحده .. ولكن هذا التوحيد ليس توحيداً جديداً غير توحيد الألوهية، كما أن قولك بتوحيد المحبة ليس من الإحداث ولا البدعة في شيء .
وكذلك لو رأيت من يشرك بالله تعالى من جهة الدعاء والاستغاثة .. فتقول له يجب عليك أن توحد الله في الدعاء والطلب .. وهذا ليس قسماً آخر غير توحيد الألوهية، وإنما الحاجة والضرورة أحياناً تستلزم أن تفرده بالذكر عندما تجد الناس يقعون بالشرك من جهته .
لا يوجد أحد من المتقدمين ولا المتأخرين من قال أن توحيد الحاكمية هو توحيد أو قسم رابع من أقسام التوحيد، ولكن الجميع يدرجونه على أنه من توحيد الإلهية، ومنه ما يدخل في بقية أقسام التوحيد الأخرى كما تقدم، ويفردونه بالذكر للأهمية ولفت الانتباه إلى هذا النوع من التوحيد الذي تكاد أن تندرس معالمه !
فإذا عرفت ذلك .. عرفت أن هذه الحملة التي يثيرها المخالفون على هذا النوع من التوحيد لا مبرر لها سوى أنهم يريدون التقليل من أهمية هذا النوع من التوحيد، ولكي يبرروا ما يصدر من تقصير متعمد من طواغيت الحكم من جحود وإنكار لهذا الجانب الهام من التوحيد ..!
أما عن سؤالك عن الكتب التي تناولت هذا الجانب من التوحيد .. فهي كثيرة جداً، أهمها وأعلاها وأجلها القرآن الكريم، ثم كتب السنة النبوية، ثم كتب العقائد ككتب ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب وأحفاده، ومن المعاصرين كتب سيد قطب رحمه الله تعالى وبخاصة منها كتابه العظيم الظلال، والمعالم، وخصائص التصور، ومقومات التصور الإسلامي .. وكذلك كتب أخيه محمد قطب، ومن الكتب المتخصصة في هذا الجانب كذلك كتاب توحيد الحاكمية لأخينا الشيخ أبي إيثار، وكذلك كتب ورسائل أخينا الشيخ أبي محمد المقدسي .. ولو اطلعتم كذلك على كتبنا وأبحاثنا فلن تعدموا مزيد فائدة في هذا الجانب إن شاء الله .. الكتب كثيرة ولكن أين القراء والعاملون ؟؟!(/1)
موقف سيد قطب في موضوع الحاكمية
تاريخ الفتوى : 11 شوال 1421 السؤال
الإمامة عند أهل السنة من الفروع لا الأصول.
وقد قرأت لأحدهم مرة كلاما فيه انتقاد لسيد قطب رحمه الله وعد لزلاته ومنها أنه جعل توحيد الحاكمية من أنواع التوحيد وبالتالي جعل الإمامة الكبرى من الأصول وبذلك شابه الرافضة.
ما تعليقكم على هذا الكلام الذي حيرني
بارك الله فيكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالحاكمية مصدر صناعي يؤدي المعنى الذي يؤديه المصدر القياسي (الحكم)، ومعنى توحيد الحاكمية: أي إفراد الله سبحانه بالحكم والتشريع ، وأنه سبحانه هو الحكم والمشرع ، وأنه لا يشرك في حكمه أحداً.
ولا شك أن الحاكمية بهذا المفهوم من أصول الدين ومقتضيات "لا إله إلا الله" ومن توحيد الألوهية الذي نزلت به الكتب، وأرسلت لأجله الرسل، وهي قضية ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان عند قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) [الشورى: 10] " ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده لا إلى غيره، جاء موضحاً في آيات كثيرة، فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: (ولا يشرك في حكمه أحدا) [الكهف: 26]. وفي قراءة ابن عامر من السبعة ( ولا تشرك في حكمه أحدا) ، وقال في الإشراك به في عبادته ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله، وبذلك تعلم أن الحلال ما أحله الله، وأن الحرام ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله، أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) [الأنعام: 57] وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] وقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) [القصص: 88] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) [النحل: 100] وقوله تعالى: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [الأنعام: 121] وقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان) [يس: 60] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً ". انتهى .
فمن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، كما حكم الله بذلك. فإن كان معتقداً صواب ما حكم أو جوازه فقد كفر كفراً مخرجاً من الملة، وإن حكم بغير حكم الله لشهوة أو هوى فكافر كفراً أصغر، وهو معصية وإثم كبير.
وأما التشريع الوضعي وسن القوانين وإخضاع الناس لذلك فهذا كفر مخرج من الملة، وإن قال صاحبه إن شرع الله أعدل وأحسن.
فلابد أن تكون شريعة الله هي التي تحكم الأرض، وإليها رجوع الناس في شؤونهم وأحوالهم وتقاضيهم، ولهذا ركز سيد قطب رحمه الله على هذه القضية، وجعلها من أخص خصائص الألوهية، لأن الرضا بالتحاكم إلى غير الله ورسوله خروج من الإيمان، ومنافاة لتوحيد الألوهية.
ومن ينتقده في جعله ذلك من توحيد الألوهية، أو في غيره من أنواع التوحيد، أو أنه أضاف نوعا جديداً في التوحيد لم يعرفه السلف، فما أصاب في انتقاده، لأن تقسيم التوحيد إلى الأنواع المعروفة تقسيم علمي غير توقيفي، والخلاف فيه خلاف في طرق البيان لافي المضمون والمقتضى ، فمن آمن بالله رباً، وجب أن يؤمن به سيدا وحكماً، لأن هذا من معاني اسم الرب سبحانه، ومن آمن بالله إلهاً لا إله غيره، وجب عليه أن يعتقد أنه سبحانه له الأمر وحده، كما له الخلق وحده، ومن آمن بأسماء الله وصفاته، وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الحكم، وأنه له الحكم، وأنه كما لا شريك له في ملكه، فلا شريك له في حكمه. فإدخال توحيد الحكم في الربوبية حق، وإدخاله في الألوهية حق، وجعله من معاني الإيمان بأسماء الله وصفاته حق، وإفراده بتعريف وبيان وجعله باباً من أبواب التوحيد حق، فالتوحيد كله مندرج تحت الإيمان بالله، والإيمان بالله تندرج تحته مسائل وفصول كثيرة.
والإمامة الكبرى وإن كانت عند أهل السنة والجماعة ليست من أصول الدين التي لا يسع المكلف الجهل بها كما قرره جمع من أهل العلم كالماوردي والغزالي وابن خلدون، إلا أنها واجبة بالإجماع، وهي خلافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية الأمة، قال الماوردي في تعريفها : أنها ( موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع، وإن شذّ عنهم الأصَمُّّ).(/1)
أما الإمامة عند الرافضة فهي أصل تدور عليه أحاديثهم، وترجع إليه عقائدهم، فهي عندهم منصب إلهي كالنبوة، وركن من أركان الدين، وحصروها في عدد من الأئمة المعينين المعصومين، وغيرها من الأحكام الباطلة.
ولا نعلم أن سيد قطب جعلها مثلهم ، ولا اعتقد فيها اعتقادهم، وإنما هو أطنب في بيان موضوع الحاكمية، ولا شك أن الإمامة لها ارتباط وثيق بها، ولكن حكم الله دائرته أوسع من ذلك، وحصره في الإمامة وأحكامها غير صحيح، فما من مسلم إلا وله في كل حال وفي كل طور حكم من أحكام الله.
وسيد قطب ركز على هذه القضية كثيراً ، لما رأى الجرأة الفاجرة على إلغاء تحكيم شرع لله ، وإحلال القوانين الوضعية بدلاً عنها، ولا شك أن هذه جرأة عظيمة، ما عهدتها الأمة من قبل ، وهي كانت تحتاج مثل هذا التركيز وأكثر.
وسيد قطب ليس بدعاً من العلماء والدعاة الذين لا يسلمون من الخطأ فعنده رحمه الله أخطاء لا تنكر، لكن هذا لا يؤدي إلى الطعن في دعوته ومنهجه، وإلى إسقاط فضله، فخطؤه في بحر فضله مغمور، فله رحمه الله من المواقف والأقوال والكتابات التي تنبئ أنها صدرت عن قلب مليء بحب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب هذا الدين والتضحية في سبيله، وقد أفضى إلى ما قدم رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الشهداء. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه(/2)
توحيد الربوبية ...
...
06-03-2004
يقصد بتوحيد الربوبية إفراد الله عز وجل بأفعاله ، وبعبارة أخرى أن يعتقد المسلم تفرد الله عز وجل بالخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، والملك ، والتدبير ، وسائر ما يختص به من أفعال ، وقد كان هذا النوع من التوحيد واضحا بيِّنا حتى لدى المشركين والكفار ، لوضوح دلائله ، وجلاء آياته .
وقد قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم قصة طاغيين ادعيا بعض خصائص الربوبية ، فعاقبهما الله عز وجل ، بجنس ما ادعياه .
فهذا طاغية يسمى النمرود بن كنعان ادعى أنه قادر على إحياء الموتى مضاهيا بذلك رب العزة والجلال ، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن طلب منه فعلا آخر من أفعال الرب - جل جلاله - وهو تسيير الشمس من المشرق إلى المغرب ، فعجز ، وبهت ، ولم يستطع إلى ذلك سبيلا ، قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (البقرة:258) ، وقد ذكر أهل التفسير : أن الله عز وجل ابتلى النمرود بذبابة دخلت رأسه وجعلت تطن ، وهو يحاول إخراجها ، لكن دون جدوى ، فما كان منه إلا أن أمر عبيده أن يضربوا رأسه بالنعال ، إلى أن مات ، فهذا الذي ادعى إحياء الموتى قد عجز أن يميت ذبابة على صغر حجمها ، وقربها منه ، وإيذائها له ، فكيف تصح دعواه بعد ذلك ؟! .
وأما الطاغية الثاني : فهو فرعون عليه لعنة الله ، الذي ادعى الربوبية ، وذكر الله تعالى قوله في ذلك : ( أنا ربكم الأعلى ) ( النازعات : 24 ) ، ومع ادعائه الربوبية ، لم يستطع أن ينجي نفسه من الغرق ، فأي رب هذا الذي يغرق ، ثم لا يستطيع أن ينجي نفسه .
فهذه الآيات تدلنا على تفرده سبحانه بالربوبية ، وأن الأمر إليه أولاً ، وآخراً ، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ والأمر تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمين } ( الأعراف:54) .
وقد كان المشركون معترفين بهذه الحقيقة ، اعترافا نطقت به ألسنتهم ، فاحتج سبحانه بهذه الاعتراف على ضلال مسلكهم في عبادتهم غيره ، وتوجههم إلى سواه ، قال تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ () قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (يونس:34- 35 )
وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } (العنكبوت:63) .
ذلك أن المنطق العقلي يقتضي أن تصرف العبادة إلى الخالق الرازق ، الذي بيده مقاليد الأمور ، أما صرفها إلى من لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره - ضرا ، ولا نفعاً ، فهذا مما لا تقر به العقول السليمة ، ولا تؤيده الفطر المستقيمة .
وعلى ضوء ما سبق ، يبدو جليا تضافر أدلة الكتاب مع أدلة العقل على إثبات وحدانية الله عز وجل في ربوبيته ، ويتبين أيضاً مدى ضلال المشركين في عبادتهم غير الله عز وجل من الشجر ، والحجر ، وغيرها من المعبودات التي لا تملك لهم ضراً ، ولا نفعاً ، وقد جاءهم من الحجج ، والبراهين ما لا يستطيعون دفعه،ولا يملكون رفعه ، نسأل الله عز وجل أن يمن علينا بالإيمان الصادق ، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والحمد لله رب العالمين .
...(/1)
توحيد الكلمة على كلمة التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) ، حمداً لا ينقطع ولا ينفد، وأصلي وأسلم على القائل: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) والقائل: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)) .صلاةً باقية إلى الأبد .. وبعد ..
فإن أشد البلاء أن يمس الإسلام ولا حِراك لمن أخذ الله عليهم الميثاق، أن يبلغوا ويقوموا بأمر الله حقّ قيام، حتى دُعي لتبديل الشرع، وجُعلت أصوله تقبل الأخذ والرد، في وسائل الإعلام وحوارات العلماء والمفكرين، في صمت عميم من العلماء وأهل العقل، فأصبح العالِم أحوج إلى النصيحة من الجاهل .
حتى بلغ الأمر إلى تبديل كلام الله والدعوة إلى خلافه، ومن ذلك الدعوة إلى تغيير كلمة الكافر إلى (الآخر)، ونسوا أن الإسلام إسلام والكفر كفر، فأصبح الموحّد يتوجّس غربة، ولو كان الأمر مساومة على دنيا وسلب حظ من حظوظها، لنطق من نطق من أربابها، وصاح من صاح من طلابها، وقد أصبح في عصرنا كثير من أهل العلم ألصق بالدينا من العوام، وما أجمل ما قاله سفيان الثوري: "ما أزداد الرجل علماً فأزداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً" فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا ما أخذ الله على أهل العلم أن لا يقارُّوا على كِظَّةِ ظالم مارق، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفظة عنز، ومن نصر الله نصره، وأعزه ومكن له، والواجب على العلماء النهوض والقيام بالحق، ونصرة الملة، لكن المرجو في عصرنا من كثير ممن ينتسب إلى العلم السكوت عن قول الباطل لا قول الحق، فقد أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، ولكن العلماء استسلامهم في هذا الباب ذلة وعار، ونكوصهم عن بيان التوحيد والتلبيس فيه معقد الشبه بينهم وبين علماء بني إسرائيل، فالمصلحة في نقض كل ما يقف في وجهة التوحيد، فالتوحيد أعظم مصلحة ترجى، والشرك أعظم مفسدة تُدرأ، ومن نكص عن نصرة التوحيد، هَيبةً أو رغبة في مصلحة أعظم بزعمه، فما والله عرف العزم والحزم، ولا متى يكون الإقدام والإحجام، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، وقد كاد المصلح يُصبح بلا ناصر ولا معين إلا من الله، وسط أناس اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم وظهور هؤلاء المبدلين والمغيرين للشرع ليس بالأمر الجديد، فالملحدون والمنافقون والمشركون لا يعرفون وقتاً أو زمناً، والموحدون قاعدون لهم كل مرصد، وخروج البعض ممن ينتسب للإسلام ليقول بشيء لم يقله مسلم قبله ليُرضي الكافر، هو هزيمة نفسية شر هزيمة، حتى ظهر ذلك ممن ينتسب للعلم، وهذا ربما يكون من آثار هزيمة النفس التي أورثها الحادي عشر من سبتمبر، فأصبح كثير من الكتاب يتحدث وينتقي ما يظهر محاسن الإسلام بزعمه ويُحسّن صورته، ويتوارى من تقرير الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان وجهاد أعداء الله تعالى، حتى وصل ذلك لنقض الإسلام وتحاشي تسمية الكافر باسمه، و وُصِف من يدافع عن عرضه وأرضه ودمه بأنه ملقي بنفسه إلى التهلكة، بل وشرّع بعض المنهزمين ولاية النصارى على المسلمين، فما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس فحين اغتصاب الفرنسيين للجزائر بلغت الهزيمة بالمسلمين أن قدر الفرنسيون على إعداد فتوى تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، وضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر .(/1)
وإن لم يعتبر المنهزمون بالوحي أن تبديل الحكم الشرعي طلباً لرضا كافرٍ أو منافق ظلم للنفس وللأمة موبقٌ، فها هم الكثير من بني جلدتنا قد بحّت حناجرهم، وكلّت أجسادهم، وتجرحت أقدامهم، وضيّعوا أموالهم في السعي نحو الغرب من أجل المناشدة بالسلام العالمي، والتآلف والتعايش، فما زاد الغرب إلا عتوًا واستكباراً ونفورًا عن الإسلام، فيجب علينا أن نأخذ دين الإسلام بفخر وقوة واعتزاز، ومن ذلك أن نقيم شعيرة الولاء والبراء ونحكّم شرع الله ونضعه حيث وضعه، ونبغض أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين ونتبرأ منهم والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى والإسلام دين العدل والحق والشمول، فحين العمل يجب أن نأخذ بكل نصوصه، لا نظهر جانباً ونغيّب آخر لمطمع ومصلحة تُزعم، فالإسلام دعى إلى اللين والرفق في موضعه ودعى إلى الجهاد والغلظة في موضعها، وهذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه نبي الرحمة والعفو، فهو نبي الملحمة، فلا نأخذ أمراً وندع الآخر، بل إن المتعين والواجب أن نشتغل باتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والبغض، والولاء والبراء، وأن نراعي حين التعامل مع العدو أحوال المسلمين من قوة وضعف، ففي القوة يُبادر بجهاد أعداء الله، وفي حال الضعف والوهن يؤخذ بآيات الصبر والصفح، مع العمل على إعداد العدة لتتقوى الأمة، فلا تبقى صابرة صافحة ذليلة، وحين الأخذ بهذا الجانب الشرعي لا يلغى الآخر، بل يكون حاضراً لا يُغيّر ولا يُبدل ولا يغيب، ومن انحرف عن نهج الإسلام وكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم انحط إلى أدنى الدركات، وجعل نفسه مع البهائم بل هو أضل سبيلاً، وقد فهم كفار قريش التوحيد أفضل مما فهمه بعض المنتسبين للإسلام في عصرنا من دعاة التقريب بين الأديان، وحوار الحضارات، فحينما قال لهم محمد صلى الله عليه وسلم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) قالوا كما حكى الله عنهم: (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (ص:5) ، فعلموا أن كلمة التوحيد تنفي كل إله غير الله، بل قد فهم بعض ملحدي عصرنا التوحيد أفضل منهم، فحينما تكلم الرئيس الروسي "بوتين" عن الحرية الدينية في بلادة قال: نحن نأذن بتعليم ونشر سائر الكتب الدينية لسائر الديانات إلا "التوحيد" لأنه يلغي غيره، ولا يقبل المشاركة وظهور ما يسمى بـ (حوار الحضارات) أو (حوار – تقارب - الأديان) كان في عقد التسعينيات ردًا على أطروحة "صامويل هنتنجتون" (صدام الحضارات) فبدأ جملة من كُتاب الغرب ومن خلفهم من أبواق مصطنعة من أبناء المسلمين يروجون لفكرة (حوار الحضارات) و( التقريب بينها) و (المساواة بين الأديان) وأن أهل الكتاب مؤمنون بالخالق كالمسلمين وليسوا كفاراً، وتولد عنها انعقاد المؤتمرات والندوات لتُعنى بذلك، وبثوا سموهم الزعاف في مدح الإسلام والمسلمين تارة ووصفهم بالإرهاب تارة أخرى، وتلوّنوا في ذلك كالحرباء بحسب مصالحهم، وأننا شركاء معهم في الإنسانية وعِمارة الأرض، وغرسوا في نفوس الكثير فكرة احترام الرأي الآخر مهما كان، وبثوا المفاهيم والأفكار والمصطلحات الغربية بين المسلمين لتصبح مطالب ومقاييس!
وقد وقع بعض أبناء المسلمين من علماء وأفراد ومؤسسات في شِراكهم، ففتقوا ما يسمى بـ (المصلحة) حتى دخل منها الكفر والزندقة، وفكرة الإخوة بين المسلمين وغيرهم من الكفار، وساروا بفكرة الأولويات النابعة من واقع المصلحة العامة، التي تجعل للعقل مدخلاً في منازعة الله في حقّه في التشريع وإصدار الأحكام، ولجؤوا إلى العموميات دون التفصيل لتمييع أصول وأحكام وأنظمة الإسلام.
وقد جاء الإسلام بمفاهيم ومناهج وسلوك لتحديد هوية المسلم لتميزه عن غيره، وتحدد له الطريق القويم والمحجة الواضحة للوصول إلى النجاة، قال تعالى (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف:108)، ويلزم من هذا عدم التخلي عن أي أمر متعلق بأخلاق وحياة الأمة المسلمة، فحياتنا على نهج معيّن خاص، مبني على عقيدة التسليم لله والعبودية له، والانقياد له بالطاعة، فالإسلام ليس كغيره فقد جاء بحفظ الدين والدنيا فهو سياسة واجتماع واقتصاد وسلوك وتربية، غير أن قوّة الكفار وضعف المسلمين وفرضهم الأنظمةَ الكافرة والقوانين المضادة لحُكم الله، قد جرأ عدداً من أبناء المسلمين أن يطلبوا مجتمعاً غير مسلم، قال تعالى (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (المائدة:50) ، فتمكنت الهزيمة في قلوبهم، حتى لو ترك الغرب ( اليهود والنصارى ) ما هم عليه من قوانين وأنظمة إلى قوانين أخرى لإدراكهم بخطأ ما كانوا عليه لتركوا ذلك معهم، ولو عادوا لما كانوا عليه من قبل لعادوا معهم مرة أخرى...(/2)
وقد حكم الله ولا مبدل لحكمه أن من لم يكن على الإسلام فهو من ملة الكفر، مستحق للنار والخلود فيها إلى أبد الآبدين، وهذا أصل التوحيد، وعليه بُعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، وشرع الجهاد، ونصب الميزان، ووضع الحساب والعقاب، أصل مستقر لا خلاف فيه عند المسلمين عالمهم وجاهلهم، ومن شككّ فيه، فضلاً عن مخالفته، فليس هو من المسلمين، بل من أدخل المشككّ فيه والمخالف في دائرة الإسلام كافر خارج عن الملة باتفاق المسلمين، ومن العجب أن مثل هذا الأصل يبيّن، فهو من الواضحات، والأصول البينات. وقد جاء القرآن والسنة مفرقاً بين المسلمين والكفار، ومبيناً أن هذين الاسمين اصطلاحان شرعيان لا يجوز النزاع فيهما، وجعل ذلك أصلاًَ من الأصول، إذ لا تكاد تخلو سورة من بيانه، فبيّن الفرق بين مدلول كلمتي (المسلم ) و(الكافر)، فكان المسلم كل من يدين بدين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، وكان الكافر كل من يدين بغير الإسلام (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)). وهذا الفهم بيّن واضح وصريح وجلي كالشمس، في أن غير المسلم يكون كافراً مهما كان دينه وشريعته، وإذا مات دخل النار، وأن المسلم إذ مات مآله الجنة، فالأصل أن يسمى كل باسمه، فالكافر لا يصح أن نسميه (غير المسلم) فحسب بل هو كافر أيضاً، فبهذه المصطلحات الشرعية وبهذه المسميات التي أنزلها الله في كتابه وفي سنة نبيه يتم التميز بين البشرية في الأرض، وفي دائرة كل مسمى تتفرع المسميات فالكافر يكون يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً أو هندوسياً مهما كان دينه، ومهما كان فكره فيكون شيوعياً أو ماسونياً أو علمانياً أو ليبرالياً ونحو ذلك.
فهذا التميز بين المسلمين وغيرهم أصل في عقيدة الإسلام وأحكامه بل هو أساسه، فلا حلول وسط ولا التقاء مع الكفار في الأسماء ولا في الأحكام ولذا قرر تعالى هذا الأصل بقوله: (( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) (الكافرون:6) فلا توافق بيننا وبين الكفار، إلا بصور معينة بينها الشارع.
فلا يمكن أن يتضح المسلم وحقيقته إلا بتبيين حقيقة الكافر، إذ أن الشيء يتضح ببيانه وبيان ضده.
فعند الحكم على الناس عامة يقال مسلمون وكفار، لا وجود لشيء آخر غير ذلك، حُكْم لا مناص منه، ولا حيدة عنه، إذا هو الإسلام والإسلام هو، لا فريق ثالث في الدنيا غير ذلك، قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )) (التغابن: آية2). حتى من وقع في الكفر وتلبّس به من الأمم والشعوب التي لم تقم عليها الحجة في الظاهر فهي كافرة اسماً، لمشابهتها لفعل الكفّار في الظاهر، لكنها ليست بكافرة حُكماً، فلا تُقاتل، ولا تُسلب المال، ولا تُستباح سائر حُرماتها، حتى تقوم البينة، بخلاف الكفّار الخلّص الذين قامت عليهم البينة والحجة، فهم كفار حُكماً واسماً، ولذلك سمى الله من وقع وتلبّس بفعل الكفر ( كافراً ) وإن لم تبلغه الحجة، فقال تعالى: (( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)) (التوبة:6) فسماه ( مشركاً ) قبل أن يسمع كلام الله، لكنه ليس بكافرٍ حُكماً حتى يسمع كلام الله.
وبين الله وحكم وهو خير الفاصلين لأجل معرفة العدو من الصديق والحق من الباطل، قال تعالى: (( يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) (الأنعام:57). أي هو خير من بيّنَ وميّزَ بين الحق والباطل، والسبب من تمييز ذلك في قوله: (( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)) (الأنعام:55) .وسفور الكفر والإجرام واستبانة سبيله وأهله مهم لوضوح الإيمان والخير واستبانة سبيله وأهله، وحينما يختلط سبيل بآخر، ينعكس ذلك على أهله وسالكيه .وقد حكم الله بذلك كله، ولا مبدل لحكمه، (( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)) (يوسف:40) لا تزعزع ذلك ذلِة زمرة، ومهانةُ ثُلة، وهزيمة شِرذمة.(/3)
سمى الله كل من لا يدين بالإسلام وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم كافراً . وقال تعالى: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:1). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) (البينة:6) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )) (محمد:34) وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) (محمد:32) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) (آل عمران:91). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)) (غافر:10). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (البقرة:161)
بل بيّن أن الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم لا يُحبون الخير لهذه الأمة بقوله تعالى: (( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ )) (البقرة:105) والمراد:
أولاً : أن مما أجمع عليه المسلمون، وهو أصل الاعتقاد في الإسلام المعلوم من الدين بالضرورة :
أنه لم يبق على وجه الأرض دين حق يتعبد الله به سوى دين الإسلام، وأنه الله ختم به الأديان والملل والشرائع (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) * وأن القرآن الكريم آخر كتب الله نزولاً، وهو ناسخ لكلِّ كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها ومهيمن عليها، وكلها دخلها التحريف، وقد خص الله القرآن بحفظه، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سواه، قال الله تعالى : (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) (المائدة:48) وقال عن حصوصية القرآن: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) (الحجر:9) ، وبين تحريف ما عداه كالتوراة والإنجيل، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، فقال الله تعالى : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ )) (المائدة:13) ، وقال: (( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) (البقرة:79) ، وقوله سبحانه : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) (آل عمران:78) وما كان فيها من صحة فهو منسوخ بالإسلام، ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو غَضِب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آت بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) ، فلا يسوغ لأحد من أهل الكتاب أو غيرهم الخروج عن شريعة الإسلام، ومن خرج كفر واستحق العذاب الخالد، فقد ثبت في صحيح مسلم: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، فإذا كان هذا في حق أهل الكتاب وهم أمة كتابية، فغيرهم من باب أولى.(/4)
وأن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى : (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ )) (الأحزاب:40) ، وقد أخذ الميثاق على سائر الأنبياء أن بعثة محمد ناسخة لشرائعم، ولو بُعث في عصرهم لتبعوه جميعاً، ولا يستحق الاتباع أحد غيره بعده، قال الله تعالى : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)) (آل عمران:81). فموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام يجب عليهما الحكم بشريعة محمد واتباعه، وهما أنبياء الله ففي الحديث السابق: (( لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) وعيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكماً بشريعته، قال الله تعالى : (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)) (الأعراف:157)
وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) (سبأ:28) ، وقال : (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) (الأعراف:158)
ومن الأصول العظام في الإسلام أنَّه يجب اعتقاد كفر كلِّ من لم يدخل فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو ( الإسلام ) من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم وتسميته كافراً، وأنَّه عدوٌّ لله ورسوله والمؤمنين، وأنه شر الخلق، وأنه من أهل النار خالداً فيها، قال تعالى : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) (البينة:1) ، وقال : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )) (البينة:1) وقد روى مسلم في "صحيحه" قال صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار )) ولهذا فمن لم يكفر اليهود والنصارى وكل من خرج عن شريعة محمد فهو كافر لتكذيبه ما جاء وتواتر في الكتابة والسنة، ولنقضه أصول الإسلام التي لا يستقر إلا بها.
ثانياً: أن ما تقدم هي أصول الإسلام وكلياته الاعتقادية، إذا عُلم ذلك فإن الدعوة إلى يُسمى بـ ( وحدة الأديان ) أو ( التقارب بينها ) أو ( الخلط بينها ) دعوة كفرية خبيثة، تهدم الإسلام وتقوض دعائمه وتجرُّ أهله إلى ردَّة شاملة، وأصلها ومنبتها أهل الكتاب، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه : (( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة:217) (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)) (النساء:89) وحينما يئس الغرب من السيطرة وإحكام القبضة على العالم الإسلامي، ووجدوا أن الحائل دون ذلك كله هو الإسلام وصلابة عقيدته، وقوّة أهله فيه، بخلاف سائر شعوب الأرض التي دانت لهم، ورأوا أن نزع الإسلام من القلوب أمر متعذر، سعوا لهذه الدعوى، لتذوب صلابة القلوب وقوّة الأمة وتنصهر فيما يريدون، فإذا تم إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر والحق والباطل والمعروف والمنكر، والعدل والظلم، وكُسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء إذاً ولا براء ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله، وهذا ما يريدونه من المسلمين، فروّجوا لهذه الدعوى، خوفاً مما تقرر في الشرع من عقيدة الولاء والبراء والقتال، قال تعالى: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) وقال: (( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (التوبة:36) ودعوة وحدة الأديان أو التقريب بينها، ردَّة صريحة عن دين الإسلام، إن صدرت من مسلم، لأنها تعارض أصول الاعتقاد، وتكذّب القرآن إذ أنه ناسخ لجميع ما قبله من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وترضى بالكفر والشرك بالله شبه وبينات.(/5)
يثير بعض دعاة التقريب بين الأديان، أو بعض الملحدين الذين يزعمون تسامحاً، وهم في الحقيقة في عِداد الملاحدة المكذبين للكتاب والسنة، يثيرون شيئاً من الشبه التي لا تنطلي على مؤمن، لكن رأينا إزالتها إذا قد تنفذ لبعض العقول التي لا تحسن فهم الكتاب والسنة:
أولها: أن الله قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) والإسلام هو الاستسلام لله على أي ملةٍ كانت، وكتب كثير منهم عن معنى كلمة "الإسلام" في هذه الآية الكريمة بوجه لم يقله مسلم قط،فقالوا أن الإسلام هو دين الله ودين من أسلم وجهه وذاته وإرادته للخالق, والكلمة هنا (الإسلام) ولو أنها تشمل المسلمين أتباع الرسالة التي أتى بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام, إلا أنها لا تقتصر عليهم, كما نرى في الآيتين التين سبقتاها (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسرِينَ)) (آل عمران:83-85) وقالوا: الآيات التي تبين أن لفظة الإسلام والمسلمين لا تقتصر على أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عديدة كقوله: (( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) (البقرة:131-133) وقوله: (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين)) (آل عمران:67) وقوله: (( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:52) ، وقوله: (( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون)) (المائدة:111).َ
قالوا: فالتسمية بـ"المسلمين" شملت أقواماً سبقت مجيء الرسول بقرون عديدة
وبيان ذلك:
أن اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام هؤلاء مسلمون، ولا وجود لهم اليوم، ووجودهم متعذر، وذلك أنهم حرفوا كلام الله وبدلوا تشريعه، وأشركوا به، فمن أراد أن يتدين بما جاء به موسى وعيسى من تشريع في الإنجيل والتوراة لا يمكنه ذلك، لأنها محرّفة بنص الكتاب والسنة، وهذا أمر محسوم من شكك فيه كفر، فاليهود القائلون بأن عزيرًا ابن الله، وكذا النصارى القائلون بالتثليث فهؤلاء كفار اتفاقًا، كما حكاه ابن حزم كما في "مراتب الإجماع" ( ص 119): ( اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا واختلفوا في تسميتهم مشركين) .
فمن قال ببقاء أمة منهم (مسلمة) باقية على ما لم يحرّف وأن التحريف في بعضهم، مكذِّب في نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها، وأن لا إسلام إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قال أن اليهود والنصارى الآن على ما دعى إليه موسى وعيسى، مكذب بعموم الرسالة ونسخها ونصوص القرآن والسنة في إثبات التحريف فيهم، وكلٌّ ذلك كفر بالإجماع (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:72-73)(/6)
(( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (التوبة:30) ومن كفرهم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، قال تعالى: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)
والإسلام يُطلق على كل منيب لله موحد له منذ بعثة نوح إلى محمد، وبمحمد نُسخت الشرائع كلها، فمن خالفه فليس بمسلم، إذ أنه مكذب لعموم رسالته ولختام نبوته، وعموم الرسالة وختامها ووجوب المتابعة أصل من أصول الإسلام لا إسلام بدونه (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)). والإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان، ودليل ذلك أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قطع على كل من لم يؤمن به ويتبعه أنه من أهل النار سواءً كان كتابياً أم غير ذلك، فقد روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))
فهذا قاطع بكقر كل من لم يتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وأن عاقبته النار، وأول من يدخل في ذلك اليهود والنصارى..
وقد أمر الله بسلوك سبيل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )) (الأنعام:153) ومن خالفه متوّعد بالنار ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))
فالإسلام الآن لا يفسر إلا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بذلك فسره الشرع، وقيده به، فقوله تعالى: (( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)) (آل عمران:20) المراد بالإسلام هنا وفي غيرها من الآيات هو ما عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لا ينصرف الاسم لأحد في عصره ومن جاء بعده إلا من تبعه، وتفسير الإسلام على هذا كما جاء في الحديث في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
فشريعة محمد اختصت بالعموم للناس كافة، وناسخة لغيرها ممن قبلها، وتواترت نصوص القرآن والسنة ببيان تحريف التوراة والإنجيل، والمكذب بذلك كافر بالاتفاق، ومن أدخل في حقيقة الإسلام أحداً غير من كان على ملة محمد، أو أخرج من الكفر من خرج منها، مكذب لذلك كله.
فيجب الاستغناء بشريعة محمد عن سائر التشريعات، لأنها ناسخة وخاتمة لسائر الشرائع، جاءت لتوحيد عقيدة البشرية كلها، فقد روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: (( أمُتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً واتبعتموه وتركتموني ضللتم)) وفي رواية: (( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) فقال عمر: رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً.ً.
فلم يبق دين صحيح أنزله الله، يُحق به الحق ويُبطل به الباطل وتسمو به الإنسانية، وتسعد به البشرية، وتعمر به الأرض العمارة المرضية، سوى الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من ربه وختم بها ما قبله، فقد سلمت من التحريف والتزييف، لكونها محفوظة من عند الله حفظاً أبدياً، من الله بدأ القرآن وإليه يعود(/7)
قال الله تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) وما في هذا القرآن أصل كل حق جائت به الشرائع السماوية السابقة، مهيمن على جميع الكتب، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) وشريعة محمد عامة للناس كافة، يجب على كل من سمع بها اتباعها، ومن لم يتبعها فليس من الإسلام في شيء قال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) ، فمن سمع بمحمد ودينه ثم لم يؤمن به فهو كافر لما روى مسلم (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، والمراد بالسماع هنا، هو أن يبلغه ذكر محمد ودينه وأنه نبي موحى إليه، وهذا كافٍ في قيام الحجة، وظهور المحجة.
فبالإسلام ختم الله سائر الشرائع، فلا مكان لاتباع شيء منها، ولا التدين بشيء مما كان عليه السابقون من أهل الكتاب وغيرهم قال تعالى: (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) ، فجعل الله الدين المتقبل عنده دين محمد الإسلام، لا يقبل من أحدٍ غيره قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران:19) فمن تعبد بغير الإسلام كفر، وكان من الخاسرين قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) وجعل الله نبيه شهيداً على الناس هو وأمته يوم القيامة بما عملوا: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) (البقرة:143)، وقال: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً)) (النساء:41) يعني على سائر من جاء بعدك.
ثانيها : قالوا : الأديان كلها من عند الله وترجع إلى حقيقة واحدة، وكل منا يحمل جانباً من الحقيقة، وأرض الله تسعنا جميعاً مسلمين ومسيحيين ويهوداً وكذلك جنته، مصداقاً لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (البقرة:62) . وقريب منها قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (المائدة:69) وبيان ذلك:
أن المقصود بهذه الآيات من مات على ملته قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل التشريعات السماوية فقط، كاليهودية والنصرانية، فمن مات على ذلك مؤمناً عاملاً للصالحات، لم يكن على تحريف أو تبديل، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا لا إشكال فيه بإجماع المسلمين، وهذا التأويل مروي عن أئمة التفسير كمجاهد والسدي، وعلى ذلك حمله سائر المفسرين وحمل الآية على غير ذلك يتضمن ضرب الكتاب ببعضه وإبطال لأحكامه، ونقض لكثير من نصوصه، وما في هذه الآيات نظير صلاة بعض الصحابة إلى بيت المقدس فحينما ماتوا والقبلة كما هي في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وغُيرت القبلة إلى البيت الحرام وجِل بعض الصحابة، هل يتقبل الله منهم أم لا وهل يضيع عملهم أم لا؟ فأنزل الله قوله تعالى : (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )) (البقرة:143) يعني صلاتكم فقد روى البخاري من حديث زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) ورواه مسلم من وجه آخر.
فالعمل والاقتداء بالحكم الشرعي المنسوخ قبل نسخه امتثال وقربه، والعمل به بعد نسخه مخالفة وبُعد.(/8)
فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ )) الآية. قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: (( لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: "نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك)).
وثمة معنى آخر في التفسير للآية وهو أن الباب في الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعاً للإيمان بدعوة محمد، حتى لو لم يكونوا من العرب، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلاً، فمعروف أن أنبياء بنى إسرائيل كلهم لم يُبْعَثوا لأحد من خارج أمتهم، فكانت الآية مُزيلة للإشكال واللبس عند أهل الكتاب، أن الشريعة المحمدية للناس كافة، بل مُلزمة لهم.
ولهذا يجد المتأمل أن الله في كتابه قد علَّق نجاة اليهود والصابئين والنصارى على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات فقط دون اعتبار آخر (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))
ثم إن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن المرء بجميع الأنبياء والرسل، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك واضح جلي من الآيات التالية: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا)) (النساء:150-151) وقوله (( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) (الأنعام:92) " وقطع أن الرحمة لا تكون إلا لمن آمن بمحمد واتبعه (( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )) (الأعراف:156-157) (( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (الأعراف:157) وهذه الآيات التي تمسك بها بعض أهل الكتاب في أن الله زكاهم وبين نجاتهم وأمنهم، من جملة ما أخبر الله عن سابقيهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وما آمنوا به حرفوه عن معناه ومقصده، وما من مرة أثنى القرآن أو السنة على أحدٍ من اليهود والنصارى إلا كان ذلك بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء والعقول المعكوسة يَبْغُون منا أن نقرأ القرآن ونفهمه بعقولهم المريضة وأفهامهم المنكوسة.
وعلى هذا فليس فى القرآن أي تناقض، ولا وجود له إلا في قلوبهم وأفهامهم، وهل من أنزل تلك الآية يقول (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) ويأمر المُصلي في كل ركعة أن يقول: (( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) والمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى، وهل من أُنزلت عليه تلك الآية وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ويقول: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ((
والصابئون المذكورون ليسوا بأصحاب كتاب سماوي ولا نبي، فلمَ قرنهم الله باليهود والنصارى، وكيف يكونون (( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) على ذلك المعنى الباطل.
فيجب أن نقرأ ونفهم كلام الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين.(/9)
فتأمل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أي المسلمين، وهم المذكورون فى أول الآية، إذ هم مؤمنون، فلا يلحقهم وصف الإيمان أصلاً إلا بذلك، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا..
ولو كان النصارى والصابئون واليهود من أهل هذا الوعد (( أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )) لكانوا والمسلمين سواء، ولما وجب دعوتهم إلى الإسلام فهم لهم الأجر مع الأمن التام يوم القيامة، والآيات في دعوتهم أكثر من أن تُحصى، وقد بعث النبي معاذاً إلى اليمن يدعوهم إلى النجاة.
ثم إن هذا الفهم فيه اتهام للقرآن بالتناقض، فمن هم الذين قال الله فيهم: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:71-72) ولماذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر والمقوقس وغيرهما يدعوهم إلى الإسلام مخبراً لهم بحصول الإثم إن أعرضا عن دعوته، فالنصارى لا يؤمنون بالإله الحق، بل يؤلهون عيسى، ويجعلونه رباً من دون الله، فهم في الحقيقة مشركون يعبدون غير الله كما يعبد البوذيون، والبراهمة، وأتباع كونفوشيوس في الصين،ولا يؤمنون باليوم الآخر الصحيح الذي جاء به الإسلام، وإنما يؤمنون بيوم يجلس فيه المسيح ليحاسب الناس، بل لا يؤمنون بمتع الجنة الحسية التي يتحدث عنها القرآن، والله قد أخبر أن اعتقادهم ذلك كفر لا ينفعهم، فقد وصفهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما في قوله (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))، وهذه الآية بالإجماع في اليهود والنصارى عند المفسرين، فكيف يصفهم الله هنا بعدم الإيمان بالله واليوم والآخر وهناك يصفهم به!
ثم أن الله قال مبيناً بعدهم عن الإيمان (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ)) (المائدة:65) وليُعلم أن أصحاب الأهواء والنصارى خاصة حريصون أشد الحرص على إشاعة اللبس في هذه الآيات وإيهام الجهلة من المسلمين بأن القرآن يُخبر بنجاتهم ويمدح حالهم، وينص على إيمانهم، لكن هيهات هيهات والمسلم يقرأ في كل ركعة: (( وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)) وهم المقصودون في آخر سورة الفاتحة، قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": (ولا أعلم في هذا بين المفسرين اختلافاً) وعلى ذلك:
فإن الدعوة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف على أمر غير الإسلام وتوحيد الله مع تنحية نصوص القرآن والسنة كفر وردة عن الدين، بل من رضي بذلك ورغب فيه، واستحسنه مرتد قطعاً بجميع أدلة التشريع من قرآن وسنة وإجماع.(/10)
فلا يجوز الدعوة إلى ذلك، ولا الرضى به، بل يجب إنكاره والتحذير منه .ولا يجوز بالإجماع لمسلم أن يبني كنيسة، أو يعتني بها، أو يطبع التوراة والإنجيل لنشره .ويجب دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار إلى الإسلام باللين والحسنى، قال تعالى: (( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46) ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وإقامة الحجة عليهم ليحي من حي عن بينه ويهلك من هلك عن بينة قال الله تعالى : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:64) أما حوارهم لأجل النزول عند رغبتهم، وإرضائهم، وتحقيق أهدافهم، فمنكر عظيم وشر مستطير، وفتنة كبيرة تفتن الأمة عن دينها، قال تعالى : (( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ)) (المائدة:49) ولا بد من وضوح الأحكام في بيان العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وغياب ذلك والبعد عن الفهم الشرعي في طريقة التعامل مع الإحداث، ووجود القصور والخلل في ذلك أدى إلى الشعور بالهزيمة والتبعية والانقياد والتسليم للغرب قولاً وعملاً عند كثير من المسلمين، وسيجلب ذلك جيلاً مهزوماً من أبناء المسلمين، فلا بد من الفقه في الشرع، وأن يتخذ المسلمون طريقاً واضحاً للتغيير والتعامل مع الكفار بعد النظر في الواقع وفهمه، ثم إنزال الأحكام عليه.
وليُعلم أن الالتقاء مع الكفار والحوار معهم يكون كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث برسالة إلى هرقل بقوله تعالى (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) وفي ساحة المعركة قال صلى الله عليه وسلم (( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، واخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين لا يجري عليهم حكم الله الذي جرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله عليهم وقاتلهم)) هذا هو الالتقاء والحوار الذي حدده الشرع مع الكفار وليس غيره، وقد يقع بين المسلمين والكفار عهد وميثاق مؤقت، فتحرم بذلك دماؤهم وأموالهم، وقتل المعاهد من أعظم الظلم ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))
فلا العقيدة ولا التشريع ولا الوحدة الوطنية ولا القومية ولا الآلام ولا الآمال تربط بيننا وتوحدنا معهم، فلا مجال للتقارب إما إيمان وإما كفر، فالصراع دائم والمدافعة مستمرة، وهو صراع ومدافعة بين الحق والباطل بدأ منذ آدم عليه السلام ومنذ عصيان إبليس لرب العالمين، صراع مستمر بين إبليس وأتباعه وذريته وبين الأمة الإسلامية؛ هذه هي حقيقة الصراع وإن اختلفت المصطلحات والمسميات، وهذه هي طريقة الإسلام في الحياة وتلك طريق الكفر.(/11)
توحيد الله أوَّلاً
( خطبتا الجمعة في مسجد دَبلِن بإيرلندا يوم الثامن و العشرين من جمادى الثانية 1423 هـ
الموافق للسادس من سبتمبر ـ أَيْلول ـ 2002 م )
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم - و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد فيا أمّة الإسلام :
فإنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً ، و لم يتركهم هَملاً ، بل خلقهم ليوحّدوه ، و أرشدهم ليَعبُدوه ، و جعل التوحيد لما سواه أصلاً ، فمن وحَّدَه بما أخبر ، و عبده كما أمر ، كان لنيل رضاه ، و الفوز و النجاة في أخراه ، أهلاً .
و قد توافقت فِطَر البشر على أنّ صلاح الفرع من صلاح الأصل ، و فسادَه من فساده ، فإذا استقامَ الأصل و استوى على سوقه ، تشعَّبت فروعه طريّةً ندِيّة ، صالحةً متينةً قويّة .
و لذلك قدّم الله تعالى أصول الدين على فروعه بالذكر و الأمر ، كما في قوله عزّ و جلّ : { فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] .
و الدعوة إلى توحيد ربّ العبيد ، دعوة رسل الله قاطبةً من لدن أبيهم آدم عليه السلام ، و حتى خاتمهم محمّد .
قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياء : 25 ] .
فإذا أردنا سعادة الدارين ، و خيرَ الخَيرَين ، فلنحقّق التوحيد أوّلاً ، لأنّه أصل الأصول ، و غاية المأمول .
ما لم يكُ التوحيد أصلاً راسخاً *** للعابدين فكلّ فرعٍ فاسدُ
أرأيت بنياناً تطاول أهله *** في رفعه و الأسُّ هارٍ هامِدُ
و لأهميّة التوحيد علّق الله عليه مغفرة الذنوب و تكفير السيّّئات ، علاوة على رفع الدرجات في غرف الجنّات .
قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً }[ النساء : 116 ] .
و قال جل و علا : { و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار }[ المائدة : 72 ] .
و في صحيح مسلم و سنن الترمذي الدارمي و مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله جل و علا : عبدي إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا - يعني بملء الأرض خطايا - ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ) .
عباد الله !
لقد حاوَل أهل العلم تقريب مسائل التوحيد في التعليم و التدريس ، فقسّمه بعضهم إلى قسمين ، و بعضهم إلى أكثر من ذلك ، و أوسط التقسيمات و أبلغها في الدلالة على المطلوب هو تقسيم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله التوحيدَ إلى :
- توحيد المعرفة و الإثبات .
- و تعريف القصد و الطَلَب .
و تحت القسم الأوّل تندرج معرفة الله تعالى بأسمائه و صفاته و أفعاله في ضوء ما أخبر به عن نفسه ، و أخبر عنه نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم إيماناً و تصديقاً و تسليماً .
أما القسم الثاني الذي يشمل القصد و الطلب فتندرج تحته عبوديّة العبد لربّه ، و تأليهه إياه بفعل ما أمر ، و اجتناب ما نهى عنه و زَجَر ، مع توحيده في ذلك كلّه بالإخلاص له ، و عدم إشراك أحدٍ في عبادته .
فلا يكمل إيمان أحدٍ ، و لا يخلُص توحيده لربّه ، حتى لا يشرك في عبادته أحداً ، و لا يصرف شيئاً منها لغيره ، و يقيم فيصلاً بين حقوق الخالق و حقوق المخلوقين .
و من حقوق الله تعالى على عباده أن لا يُشركوا في حكمه أحداً ، إذ إنّ لله الخلقَ و الأمر ، و ليس ذلك لأحدٍ غيرِه ، و لذلك خصّ بعض أهل العلم في القديم إفراد الله بالحكم - و في اصطلاح بعض المعاصرين بالحاكميّة - من بين مسائل التوحيد بالذِكرَ لخطورة ما يترتّب على تحكيم غير شرع الله على عقائد العباد ، و ما يُفضي إليه من خروج من الملّة .
قال ابن أبي العزّ الحنفي في شرح الطحاويّة ( ص : 200 ) في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها : ( فنوحّده بالتحكيم و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا نرضى بحُكم غيره ) .
عباد الله !(/1)
لا يتحقق توحيد العبد بمجرّد قول لا إله إلا الله ، ما لم يأت بشروطها ، و يحذَر نواقِضَها و موانِعَ تحقيقها ، فمن جاء بها بشروطها استحقّ البشارة بدخول الجنّة .
و شروطها سبعةٌ جمعها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في قوله :
العلم و اليقين و القبول *** و الانقياد فادرِ ما أقولُ
و الصدق و الإخلاص و المحبّة *** وفّقَك الله لما أحَبَّه
فأوّل شروط الكلمة الطيّبة ( لا إله إلا الله ) هو العلم بمعناها و ما فيه من النفي ( نفي الألوهيّة عن غير الله ) و الإثبات ( إثبات الألوهيّة لله تعالى وحده ) ، لأن المراد هو الاعتقاد و لا اعتقاد بدون علم . قال الله عز و جل : { فاعلم أنه لا إله إلا الله }[ محمد : 19 ] .
و في صحيح مسلم و غيره عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من مات و هو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
قال القاضي عياض ( كما في شرح صحيح مسلم ، للنووي ) : ( مذهب أهل السنّة أن المعرفة مرتبطةٌ بالشهادتين لا تنفع إحداهما و لا تنجي من النار دون الأخرى ) .
ثانياً : اليقين الجازم بكلمة التوحيد ، معناها ، و مقتضاها ، و اليقين هو أعلى درَجات العلم ، بل هو العلم الجازم الذي لا شك فيه و لا ارتياب ، فلا تجزئ معرفة معنى هذه الكلمة الطيبة ، ما لم يرافق العلم بها اعتقادٌ صادق راسخ .
قال الله عز و جل : {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [ الحجرات : 15 ] .
و قال رسول الله لأبي هريرة كما في صحيح مسلم : ( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشّرة بالجنة ) .
و في صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( أشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله لا يلقى الله عبدٌ بهما غير شاكٍ فيهما إلا حرمه الله على النار ) .
ثالثًا: الرضا بالتوحيد و قبول ما يَلزَمُ العبدَ من تكاليف جرّاء ذلك ، فلا قيمة لإيمان مقلّدٍ يقول : { إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 21- 25 ] .
بل لابدّ من الخضوع و الانقياد قلباً و قالَباً .
رابعاً : الصدق في الإيمان و الإخلاص في التوحيد .. و هو نقيض النفاق و الزندقة ، و لولا هذا الشرط لاستوى الموحّد و المنافق في استحقاق البشارة بالجنّة . و لا يكاد يظهر صدق الصادق ، و خداع المخادع إلى في مواطن التمحيص و الامتحان .
قال تعالى: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين } [ العنكبوت : 2-3 ] .
و في صحيح البخاري من حديث عِتْبَان بن مالك عن النبي أنه قال : ( إن الله حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدًا عبده و رسوله صدقًا من قلبه ) ، و في رواية ( إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) .
خامساً : الإخلاص لله تعالى ، و هو تجريد التوحيد لله العزيز الحميد ، حيث إنّ الله تعالى لا يقبل من العمَل إلا ما كان خالصاً ، و من تقرّبَ إليه بعمل أشرك فيه معه غيره تركه و شِركَه .
قال الله عز و جل : { ألا لله الدين الخالص } [ الزمر : 3 ] .
و قال سبحانه : { و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء }[ البينة : 5 ] .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه ) .
سادساً : الانقياد لله و لرسوله ، إذ إنّ الإيمان ليس قولاً أجوَف مجرّداً من العمل .. بل هو قولٌ و عملٌ بالقلب و اللسان و الجوارح .
و الإسلام هو الاستسلام لله ، و الانقياد له بالطاعة ، و هل الطاعة إلا بلزوم الأمر و النهي .
قال تعالى : { وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا } [ الأحزاب : 36 ] .
و قال سبحانه : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ النور : 51 ] .
سابعاً : محبة الله و رسوله ، و محبّة التوحيد و أهله ، و محبّة ما دلت عليه كلمته الطيّبة ( لا إله إلا الله ) ، و محبة أهلها العاملين بها .
و لا يكون الحبّ صادقاً ما لم تبدُ أماراته ، فعلامة محبته الله تعالى التزام شريعته ، و نصرة أوليائه ، و مجاهدة أعدائه ، و علامة حبّ نبيّه أن يكون هوى محبّه تبعًا لما جاء به المحبوب .(/2)
روى الشيخان و غيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، و أن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) .
و ثبت أيضاً أنّ رسول الله قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ) .
تعصي الإله و أنت تزعم حبَّه *** هذي لعمري في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته *** إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ
و نقيض المحبّة – يا عباد الله - هو البغض و الكره ، فمن كرِهَ شيئاً ممّا أوجبت ( لا إله إلا الله ) حُبَّه فقد كفر ، و على من أراد السلامة أن يلزم الحَذَر .
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك و حبّ عملٍ يقرّبنا إلى حبّك .
عباد الله !
هذه شروط ( لا إله إلا الله ) فلا يفوتنكم تحصيلها ، و الله الله في تحقيق التوحيد في نفوسكم ، و تطهير جنانكم و أعمالكم مما يضادّه أو يناقضه .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل
أقول قولي هذا و استغفر الله الجليل العظيم لي و لكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
الخطبة الثانية
أمّةَ الإسلام !
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله ، و خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، و شر الأمور محدثاتها ، و كل محدثة بدعة ، و عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ، و من شذ شذ في النار .
و اعلَموا – رحمني الله و لإيّاكم – أنّ الإخلال بالتوحيد ، سببٌ للتنكب عن صراط العزيز الحميد ، مع ما يترتّب عليه من فساد الدنيا ، و فوات الآخرة .
ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب الإيمان بالأسماء و الصفات ، كيف بات مجسّماً يعبُد صنماً ، أو جاحداً يعبد عَدَماً .
ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب القصد و الطلب ، فطاف بالقبور ، أو تعلّق بالمقبور ، كيف هان على الله أمره ، فأفنى عمره بالتذلل إلى عباد مثله .
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الأعراف : 194 ] .
ألا ترون إلى من أخلّ بالتوحيد في باب الولاء و البراء ، و ظاهر الأعداء الكفرة ، على الأولياء المجاهدين البررة ، كيف تسلّط عليه من تولاهم و ظاهرهم فزادوه رهَقاً ، و اتخذوه تبعاً مسلوب الإرادة و الكرامة ، فسُحقاً سُحقاً .
و هكذا دواليك ، ما أخلتَّ البشريّة بتوحيد ربّ البريّة في جانب ، إلا تنكّبت عن الطريق السويّة ، و تخبّطت في دهاليز الضلالة الرزيّة .
و لا يفوتني و الحديث عن التوحيد أن أشير إلى حاجة المسلمين المنهجيّة إلى توحيد الرؤى و الجهود في أُطُر العمل الإسلامي المعاصر ، إذ إن يد الله على الجماعة .
إنّ أولى الورى بتوحيد شملٍ *** أمّةٌ كان دينها التوحيدا
و إن لم يكن إلى التوحّد سبيل متاحة ، فلا أقل من الاهتمام بشؤون المسلمين ، و الالتفات إلى أحوالهم و السعي على تحسينها بقدر الطاقة و السعة ، و ذلك من صُلب ديننا ، و إنْ قال من قال : ( دعوا السياسة و انصرفوا إلى العلم و العمل ) .
إن العلم بالسياسة الشرعيّة ، و التبصر في أمور المسلمين ، و ما يحاك لهم أو يراد بهم ، من صُلب ديننا الذي ارتضاه الله لنا شِرعةً و مِنهاجاً .
بل ديننا عقيدة و عبادة و سياسة ، و بين ذلك كلّه علاقة تكامليّة ، أرشد إليها من أنار الله بصيرته من أبناء هذه الأمّة ، و صرَف عنها من صرَفَه لحكمةٍ أرادَها .
قال ابن أبي العزّ في شرح الطحاويّة ( ص : 74 ) : ( و إنّما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه – إي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم – في كثير من الأمور الكلاميّة الاعتقاديّة ، و لا في كثير من الأحوال العباديّة ، و لا في كثير من الإمارة السياسيّة أو نسبوا إلى شريعة الرسول بظنّهم و تقليدهم ما ليس منها ، و أخرجوا عنها كثيراً ممّا هو منها ) .
و انطلاقاً من اهتمامنا بأمور المسلمين نشير هنا إلى درسٍ مستفاد من التجربة السودانيّة في التقارب أو المصالحة أو حتى الحوار مع الصليبيين و الوثنيين في الجنوب فنقول لمن التبست عليهم الأمور ( و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملّتهم ) فادّكروا يا أولي الألباب ، و انظروا كيف يُطعن المسلمون في الظهر بسهام من جنحوا إلى مسالمتهم قبل أيّام قلائل .
ألا فهل يتّعظ من يرددون عباراتٍ من قبيل ( إخواننا النصارى ) و أصدقائنا و حلفاؤنا الغربيّون !!
ألا و صلّوا و سلّّموا على نبيكم الأمين ، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم ، فقال ربّ العالمين : ( إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ) و على آله و صحبه أجمعين .
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com(/3)
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb(/4)
توزيع ماء الشرب في المقابر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/الأطعمة والأشربة والصيد والذكاة
التاريخ ... 17/09/1425هـ
السؤال
حكم توزيع الماء البارد في المقابر على مشيعي الجنازة من أجل الإبراد عليهم وإذهاب العطش عنهم، وهل هو داخل في النهي عن صنع الطعام عند موت الميت؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الماء ليس طعامًا في اللغة، ولا في اصطلاح الشرع، فالطعام اسم لما يطعم، والشراب اسم لما يشرب، والنهي إنما هو لصنع الطعام من أهل الميت للمعزين أو المشيعين، وليس العكس، بل إن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء زمزم بأنه "طَعَامُ طُعْمٍ"- أخرجه مسلم (2473)- يدل على أن غير ماء زمزم ليس بطعام، وعلى هذا فإن منع تقديم الماء وشربه للمشيعين للجنازة قياسًا على صنع أهل الميت الطعام للمعزين قياس مع الفارق، كما أن منعه استنادًا لقاعدة (سد الذريعة)، لو قيل بذلك، غير صحيح؛ لأن الذريعة لا تُمنع أو تُسد إلا إذا أفضت إلى حرام أو مكروه، وليس الأمر كذلك، فإن (الأصل في الأشياء الإباحة) حتى يرد دليل المنع أو الحظر، ولا يوجد دليل على ذلك، فتقديم الماء للناس في المقبرة عند حاجتهم إليه يعظم الله به الأجر، كما في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه- في مسند أحمد (11101): "أَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا شَرْبَةَ ماءٍ عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللهُ يومَ القِيامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ..".
ومنعه أو تحريمه أخشى أن يكون من القول على الله بغير علم، ومن التشدد المنهي عنه في الدين ، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)[النحل:116].(/1)
توطئة حول العولمة
6/9/1424
فضيلة أ. د ناصر بن سليمان العمر
التوطئة
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد، فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى، وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق أو الإثنيات كما يقولون (1).
فمهما تعدّدت السياقات التي ترد فيها (العولمة)، فإن المفهوم الذي يعبّر عنه الجميع في اللغات الحيّة كافة، هو: الاِتجاه نحو السيطرة على العالم وجعله في نسق واحد، ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً.
وكل هذا لا يخرج عن اعتبار العولمة -في دلالتها اللغوية أولاً- هي جعل الشيء عالمياً، بما يعني ذلك من جعل العالم كلِّه وكأنه في منظومة واحدة متكاملة، وهذا هو المعنى الذي حدّده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة Globalization في الإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلح Mondialisation، ووضعت كلمة (العولمة) في اللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة على هذا المفهوم الجديد (2).
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟ ثم كيف يلزم تاجر صغير كان يعيش في أرضه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، بمزاحمة غيره من العمالقة له في أرضه؟ وإذا كان هذا محتملاً لكون العصفور يرزق مع النسر، وتلك الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً؟ فبأي مبرر تلغى عادات الناس وأنماطهم الاجتماعية؟ ومن الذي يضع الصبغة الجديدة للوحدة الاجتماعية؟ وكيف ألزم بلايين البشر بغسل أدمغتهم، وتنظيفها من فكرهم الأصيل لآخر دخيل؟
ولهذه الإشكالات وغيرها كان من الطبيعي أن يكون في المجتمعات الإسلامية والعربية شبه إجماع بين أطراف الرأي العام السياسي فيها، ماركسيهم وقوميهم وإسلاميهم يقول بأن العولمة، بالموجهات الرئيسة التي تحركها، لا تتضمن أي جديد، بل هي شكل من الاستعمار لا تختلف في أهدافها عن أهداف الموجات الاستعمارية السابقة، فلا يمكن لرأس المال المهيمن، وللشركات العملاقة المتعددة الجنسيات أن تنزع نحو أهداف أخرى غير السيطرة على الأسواق وغزو موارد الكوكب واستغلال العمل المأجور والرخيص أنّى وجد. والفرق بين المشروعين الاستعماريين، القديم والجديد، هو أن المشروع الجديد يحتاج إلى التأقلم مع الظروف العالمية التاريخية المتغيرة، أي صعود هيمنة الولايات المتحدة الأحادية على العالم، وتحويل حلف شمال الأطلسي إلى التحالف العسكري السياسي الوحيد في العالم، وفي خدمة مجموعة صغيرة من الدول الصناعية، كما أن الاستعمار الجديد يستخدم خطاباً للمشروعية يشدد على قيم نشر الديمقراطية واحترام حقوق الشعوب بدل الخطاب الذي حرك قوى الاستعمار الأسبق الذي ركز بشكل رئيس على قيم تمدين الشعوب الهمجية، أعني كل الشعوب غير الأوربية، وتحضيرها أو إدخالها في الحضارة الفعلية، ولئن كانت للاستعمار الأول أشكال تدخله العسكرية، فإن الاستعمار الجديد يعمد إلى أساليب جديدة، لا تقل فعالية عن السابقة على الرغم من أنها اتسمت بقسط أكبر من الغطاءات القانونية· فالتدخل العسكري الانفرادي والمكشوف للدول الاستعمارية قد ترك مكانه (3) حتى الحادي عشر من سبتمر عام ألفين وواحد.
يقول توماس فريدمان مقرراً أن العولمة الحالية نوع من الهيمنة الأمريكية: "خلال التسعينات أصبحت أميركا وبشكل جلي الأكثر قوة -اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً- من أية دولة أخرى في العالم، إذا لم يكن في تاريخ البشرية، وقد حدث ذلك إلى حد كبير بسبب انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتحول العالم إلى البديل الرأسمالي المتمثل في اقتصاد السوق الحر، وما صاحب ذلك من ثورة تقنية الإنترنت في أميركا، كل ذلك أدى إلى هيمنة شديدة لقوة الولايات المتحدة وأفكارها الثقافية والاقتصادية المتعلقة بكيفية تنظيم أمور المجتمع، هيمنة ظهرت بجلاء من خلال العولمة، إلى درجة أن أميركا بدأت بالتأثير على حياة البشر في أنحاء المعمورة، بطريقة فاقت حتى تأثير الحكومات على شعوبها، كما قال لي دبلوماسي باكستاني ذات يوم.
أجل لقد بدأنا بالتأثير على حياة الشعوب -بشكل مباشر أو غير مباشر- وبدرجة تفوق تأثير حكومات تلك الشعوب" (4).
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
--------------------------------------------------------------------------------(/1)
1 (العولمة والعالم الإسلامي: حقائق وأرقام) لعبد سعيد إسماعيل، وقد عرض لتعاريف مختلفة للعولمة.
2 (العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي) للدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري.
3 (رهانات العولمة) وهي مقالة للدكتور برهان غليون.
4 عن مقال لتوماس فريدمان بعنوان: "نظرية حول كل شيء".(/2)
تيسير أحكام الحج والعمرة
بقلم
حامد بن عبدالله العلي
الطبعة الاولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض حج بيته المعظم على العباد ، أشهد أن لا إله إلا هو إليه المبدأ والمعاد ، وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، عبده ورسوله ، المبعوث بالهدى والسداد .
وبعد ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
فإن حج بيت الله الحرام ، ركن من أركان الإسلام ، من جحده كفر ، ومن تركه عمدا متهاونا فهو ـ إن لم يتداركه الله برحمته ـ لاشك هالك ، ومن أخّره بغير عذر ـ إذ هو واجب على الفور في أصح قولي العلماء ـ فقد اقتحكم المهالك .
وقد عظم النبي صلى الله عليه سلم شأنه ، فجعله من الجهاد في سبيل الله تعالى , وذلك ذروة سنام الإسلام ، وبشر الحاج أن يرجعه الله نقيا من الذنوب ، وهو إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام ، قال الحق سبحانه : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ... الآية ) .
وهذا مختصر في تيسر أحكام الحج ، يصحبك أيها الحاج من انطلاق نيتك الصالحة لحج بيت الله العتيق ، إلى أن ترجع ــ إن اتقيت ربك ــ كيوم ولدتك أمك ، فأنت من نار جهنم إن شاء الله عتيق .
وهو مقسم إلى مسائل ، مدعم بالدلائل ، موضح مفصل ، وعسى الله أن يتقبل ، وصلى الله على نبينا محمد النبي المبجل ، وعلى آله وصحبه القرن المكمل ، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وارزقنا بفضلك إدامة الحج والعمرة ، وثبتنا على صراطك المستقيم آمين .
حامد بن عبد الله العلي
الكويت ذو القعدة 1422هـ
ابدأ بالإخلاص
وانما الأعمال بالنيات
يبدأ الحاج أولا بإخلاص النية لله تعالى ، امتثالا لأمره سبحانه بأداء الحج ، قال تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، إذ هو من أركان الإسلام ، وطمعا في ثوابه العظيم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) متفق عليه .
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( العمرة إلى العمرة ، كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) . متفق عليه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ، فقال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور ) رواه البخاري .
وعنها رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ) رواه مسلم .
فتوجه إلى بيت الله الحرام ، تعظيما لشعائر الله تعالى ، امتثالا لطاعة الله تعالى ، رغبة في ثوابه ، خوفا من عقابه ، واجتنب الرياء والسمعة ، واحذر من طلب المكانة والمنزلة في قلوب المخلوقين ، قال تعالى ( وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) وقال ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) .
النفقة الحلال
ثم أنفق على رحلة الحج من طيب المال، والكسب الحلال ، ذلك أن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، ومن حج من مال حرام لم يقبل الله تعالى حجه .
اشتراط المحرم للمرأة
وعلى المرأة أن تجد لها محرما يرافقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ) متفق عليه ، ويجب أن يكون بالغا عاقلا ، والمحرم الزوج أو من يحرم على المرأة على التأبيد ، بنسب أو رضاع أو مصاهرة وهم أربعة بالمصاهرة : أبو زوجها ، وابنه ، وزوج أمها ، وزوج ابنتها .
في الميقات
عند الوصول إلى الميقات ، تغتسل و تتطيب في جسدك دون ثياب الإحرام ، وتزيل عنك الأظفار والشعر الذي ترغب بإزالته وكل ذلك مستحب غير واجب ، ثم تحرم قبل تجاوز تجاوز الميقات ، ومعنى الإحرام هو نية الدخول في النسك ، وليس المقصود به هو التجرد من المخيط ( والمخيط كل ثوب مفصل على قدر أعضاء الجسد مثل القميص والفانيلة والبنطلون ونحو ذلك مما فصل على قدر الأعضاء ، وليس المقصود بالمخيط ما فيه خيط ) ، بل لبس المخيط من محظورات الإحرام ، ولهذا يجب على الحاج أن لاينوي الإحرام ـ الدخول في النسك ـ إلا بعد أن يتجرد من الثياب ، ولو نوى الحاج الدخول في النسك ناسيا أن يتجرد من كل الثياب ، ( مثلا نسي سروايله ولم ينزعها ) ولبس الازاء والرداء ، ثم نوى الدخول في النسك ، فإنه يصح دخوله في النسك ، ثم عليه أن ينزع عنه ما نسي أن يزيله ، ولاشيء عليه إن كان ناسيا ، والمقصود أنه يجب التفريق بين الإحرام وهو نية الدخول في النسك ، والتجرد من المخيط .
أنواع الانساك
ثم تقول عند نية النسك ، لبيك اللهم بعمرة ، أو بحج ، أو بعمرة وحج ، وفق النسك الذي تختاره ، وهي ثلاثة أنواع :(/1)
أحدها : التمتع وهو أفضلها ، وهو الذي تقول فيه لبيك اللهم بعمرة ، وصفته أنك تأتي بعمرة كاملة وتتحلل منها ، تماما كما لو ذهبت إلى عمرة في غير أشهر الحج ، ثم تبقى غير محرم ، حتى إذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة ، تحرم بالحج وتذهب إلى منى ، وعلى المتمتع ـ إن كان من غير حاضري المسجد الحرام أي من غير ساكني مكة أو حدود الحرم ـ أن يذبح هديا كم سيأتي بيانه .
والثاني : الإفراد ، وهو الذي تقول فيه لبيك اللهم بحج ، وهو أن تنوي الحج مفردا ليس معه عمرة ، وفي هذه الحالة تبقى على إحرامك حتى تتحلل يوم النحر كما سيأتي بيانه .
والثالث القران : وهو الذي تقول فيه لبيك اللهم بعمرة وحج، ولافرق بين الإفراد والقران في أعمال الحج ، وإنما يفترقان في أمرين :
أحدهما: النية ، فالقارن ينوى الحج مع العمرة ، إن طاف نوى أن يكون طوافه طواف حج وفي نفس الوقت هو طواف عمرة ، وإن سعى نوى بسعيه سعي حج وهو في نفس الوقت سعي عمرة ، كما ينوي داخل المسجد تحيته وركعتي الفجر في نفس الوقت على سبيل المثال .
الثاني : أن القارن عليه هدي ، والمفرد لاهدي عليه .
فإن اخترت أحد هذه الانساك ، ولبيت به ، فإن كنت مريضا أو تخشى من حدوث طارئ يمنعك من إتمام الحج ، فاشترط قائلا ( لبيك اللهم بعمرة ــ أو حج أو عمرة وحج ــ ومحلي حيث حبستني ) لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير( حجي واشترطي وقولي : اللهم إن محلي حيث حبستني ) متفق عليه .
وفائدة هذا الشرط أنك إذا حال بينك وبين إتمام الحج عذر شرعي ، خارج عن إرادتك ، مثل مرض أقعدك عن إتمام العج ، أو حادث سيارة على سبيل المثال ، أو منعك مانع من إتمامه بعدما دخلت في الإحرام ، فإنك تتحلل من إحرامك وتلبس ثيابك ولاشيء عليك ، وترجع إلى بلدك ، حتى يتيسر لك الحج مرة أخرى .
والدليل على أن الحاج مخير بين الانساك الثلاثة قول عائشة رضي الله عنها ( فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ومنا من أهل بهما ) متفق عليه .
والدليل على أفضلية التمتع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه بذلك ، وقوله (لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل ما آمركم به ) متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنهما .
وكان صلى الله عليه وسلم قارنا ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أتاني آت من ربي ، فقال صل في هذا الوادي المبارك ، وقل عمرة في حجة ) رواه احمد والبخاري وغيرهما .
وذلك أنه كان قد ساق الهدي معه ــ أي جاء به معه من خارج الحرم والهدي هي الأنعام التي تجلب للحرم ، سميت بذلك لأنها تهدى إلى الحرم لفقرائه ــ فمنعه ذلك من أن يكون متمتعا ، وكذلك يستحب لمن جاء بهديه من خارج الحرم أن يكون قارنا .
والأفضل لمن حج مفردا أو قارنا أن يتحلل بعد طواف القدوم والسعي وينوي أن ما فعله عمرة ، ويتحول إلى التمتع لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك متفق عليه .
هل للإحرام صلاة مخصوصة :
ولم يرد دليل على استحباب ركعتين للإحرام بخصوصه ، إلا أن يصلى المحرم نافلة أخرى وافقته بعد إحرامه أو قبله ، أو يحرم بعد صلاة الفريضة إن أدركته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فذلك حسن .
محظورات الإحرام
وعليك أن تتجنب محظورات الإحرام ، حتى تتحلل من إحرامك .
وهي تسعة محظورات يجب على المحرم بحج أو عمرة أن يتجنبها :
أولا : تعمد لبس المخيط بالنسبة للرجل ــ وقلنا إن المخيط هو كل ما فصل على قدر أعضاء الجسد من الثياب ، وليس هو ما فيه خيط ــ لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ، ولا البرنس ولا السروايل ولاثوبا مسه ورس ولازعفران ) متفق عليه , ويدخل في المخيط ، لبس الخفين أو الجوربين فلا يجوز ذلك للمحرم ، إلا إن لايجد نعلين ، فيجوز له أن يلبس الخفين ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات : (من لم يجد إزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين ) متفق عليه .
ولابأس أن يلبس المحرم النظارة والساعة والحزام الذي يشد به إزاره ويحفظ فيه نفقته ولو كان فيه خيوط ، ولابأس أن يلبس نعلين فيهما خيوط ، أو يكون طرف ردائه أو إزاره مخيط ، كل ذلك جائز .
ثانيا : تغطية الرأس من الرجل ، ولاباس أن يستظل بخيمة أو مظلة ( شمسية ) أو سقف السيارة ونحو ذلك ، لحديث أم الحصين قالت :( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة ) رواه أحمد ومسلم .(/2)
و تغطية الوجه للأنثى ، ولكن تسدل على وجهها لحاجة لقوله صلى الله عليه وسلم ( لاتنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ) متفق عليه ، وعن عائشة رضي الله عنها ( كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه ) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة .
ثالثا : قصد شم الطيب ومسه واستعماله في أكل وشرب بحيث يظهر ريحه ، ولابأس أن يتطيب قبل الإحرام في بدنه دون ثيابه ، حتى لو استمر هذا الطيب إلى بعد الإحرام ، فذلك جائز ، لانه وضع الطيب قبل الإحرام لا بعده ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام وهو محرم ) متفق عليه .
رابعا : إزالة الشعر من البدن عمدا ، ولابأس إن سقط شيء من الشعر بغير قصد بسبب الامتشاط أو الاستحمام ونحو ذلك ، ويجوز للمحرم أن يستحم بالماء والصابون الذي لا يكون فيه عطر ، فقد روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رأسه وهو محرم وحرك رأسه بيديه فاقبل بهما وأدبر متفق عليه ، ويجوز له أن يبدل ثياب الإحرام التي احرم فيها أولا ، بأخرى نظيفة ليس فيها طيب ، كل ذلك جائز .
ويجوز للمحرم أن يحلق رأسه لعذر ، أو يلبس ثوبا لعذر ، مرض أو نحوه ، وعليه أن يفدي في هذه الحالة ، وذلك بأن يذبح شاة لفقراء الحرم ، أو يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره ، أو يصوم ثلاثة أيام ولا يشترط أن يكون الصيام في الحرم .
خامسا : تقليم الأظافر ، فإن انكسر الظفر فلابأس بإزالته .
سادسا : صيد البر الوحشي المأكول ، ومعنى الوحشي أي غير الأليف ، والأليف مثل الدجاج والمعز والضان والبقر والإبل ، والوحشي مثل الغزال وحمار الوحش والأرنب ، ويجوز صيد البحر .
سابعا : عقد النكاح ولا يصح ، وكذلك الخطبة فلاتجوز في أثناء الإحرام .
ثامنا :الوط ء في الفرج .
تاسعا : دواعي الجماع ، والمباشرة دون الفرج والاستمناء .
فإن وقع المحرم بشيء من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا فلاشيء عليه ، وإن فعل شيئا من ذلك عامدا ، ففيه الفدية وهي التخيير بين إطعام ستة مساكين من مساكين الحرم ، لكل مسكين مد من البر ( القمح ) أو نصف صاع من غير البر ، أو ذبح شاة لمساكين الحرم ، أو صيام ثلاثة أيام في أي مكان .
ويستنثى من ذلك ثلاثة أشياء :
أحدها : الصيد ففيه جزاء الصيد ، سواء تعمد صيده أم لا .
والثاني : الجماع في الفرج ففيه تفصيل سيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى .
والثالث : عقد النكاح أو الخطبة فليس فيهما فدية مع أنهما من محظورات الإحرام.
التلبية
ثم تنطلق إلى المسجد الحرام ، ملبيا من أول دخولك الإحرام و أثناء الطريق قائلا ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك ) كذا روى التلبية عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الصحيحين .
يرفع الرجل صوته ، لحديث السائب بن خلاد قال صلى الله عليه وسلم : ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ) رواه الخمسة .
وتخفض المرأة صوتها ، واحرص أن تردد هذه التلبية على قدر استطاعتك وجهدك ، فذلك من أفضل أعمال الحج ، قال صلى الله عليه وسلم ( أفضل الحج العج والثج ) رواه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، والعج أي رفع الصوت بالتلبية .
دخول المسجد الحرام
فإذا وصلت البيت أي الكعبة ، فيستحب لك أن يكون أول شيء تفعله عند دخول المسجد الحرام ، أن تقول دعاء دخول المسجد ( اللهم صل على محمد ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ) ، ثم تتجه إلى الحجر الأسود للطواف .
ولم تصح الأحاديث التي فيها رفع اليدين عند رؤية البيت ، وكذا لم يصح في ذلك دعاء مخصوص ، غير دعاء دخول المسجد .
الطواف
أولا : ويشترط أن تكون حال الطواف ساترا للعورة ، طاهر الثياب والبدن ، ويشترط له الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ، وذلك كله عند جمهور العلماء .
واحتجوا بحديث ( إن الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ) رواه الترمذي وغيره ، وبحديث عائشة رضي الله عنها ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) متفق عليه .
ثانيا : وإن كنت متمتعا ، فإنك تنوي بطوافك أنه طواف عمرة .
وإن كنت قارنا نويت أنه طواف القدوم ، على أن تطوف طواف العمرة والحج ، بعدما تأتي من مزدلفة يوم النحر , ويجوز لك أن تسعى بعد طواف القدوم هذا ، وتنوي به أنه سعي عمرتك وسعي حجك في نفس الوقت ، وتكون في هذه الحالة قد قدمت سعي العمرة والحج على طوافهما الذي ستفعله يوم النحر ، ويجوز لك أن تؤجل السعي إلى يوم النحر عندما تطوف طواف عمرتك الذي تنوي به أيضا أنه طواف حجك ، فتسعى بعد ذلك سعي عمرتك الذي هو سعي حج ، وبذلك تقرن أفعال العمرة بالحج .(/3)
وأما إن كنت مفردا فإنك تنوي أنه طواف القدوم فقط ، ويجوز لك أيضا أن تقدم سعي الحج فتسعى بعد طواف القدوم ، ولا يكون عليك سعي أخر إذا طفت طواف الحج يوم النحر ، كما سيأتي بيان ذلك .
فإن طفت و لم تنو شيئا نسيانا أو جهلا ، فلاشيء عليك وطوافك صحيح .
ثالثا : و معنى الطواف ببيت الله تعالى ، إظهار عظيم حبك له إذ تعلق قلبك بمحبته حتى قادتك تلك المحبة العظيمة إلى التطواف حول بيته مرارا في صورة الإلحاح عليه ، من أجل أن يقبلك في حضرته ، ويقربك من محبته ، ويتجاوز عن تقصيرك في حقه ، وكلما استحضرت هذا المعنى الجليل ، كان ثوابك أعظم عند الله تعالى .
رابعا : وتكون مضطبعا في هذا الطواف استحبابا ، ومعنى الاضطباع أي تجعل وسط ردائك تحت عاتقك الأيمن ، وطرفيه على عاتقك الأيسر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس كل طواف فيه اضطباع ، وإنما طواف العمرة وطواف القدوم للحج ، وأما طواف الإفاضة فحتى لو طافه الحاج وهو محرم ، لا يكون فيه اضطباع ، ويستمر الاضطباع إلى آخر الطواف .
عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى ) رواه أبو داود وغيره .
خامسا : ويستحب هنا أن يرمل الطائف أول ثلاثة أشواط ، والرمل هو الإسراع مع مقاربة الخطى ، ويكون الرمل في كل طواف فيه اضطباع ، ولا يكون في طواف ليس فيه اضطباع ، وقد قال جابر رضي الله عنها في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ) رواه مسلم .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا ) متفق عليه ، والطواف الأول هو القدوم ، وخب أي رمل .
سادسا : ويجب أن تطوف سبعة أشواط كاملة لاتسقط منها خطوة ، تبدأ من الحجر الأسود وتنتهي بالحجر الأسود .
وتجعل البيت على يسارك ، واحذر أن تطوف وأنت مستقبل البيت أو جاعله عن يمينك ترجع القهقرى ، وحتى لو كنت محمولا يجب أن تجعل البيت عن يسارك .
سابعا : فإن شككت في عدد الأشواط ، تعمل بغالب الظن ولاشيء عليك ، فإن لم يكن لديك ظن غالب ، واستوى الطرفان ، فاجعل العدد هو الأقل ، لانه المتيقن ، مثلا شككت هل طفت ثلاثة أشواط أو أربعة ، فاجعلها ثلاثة ، فإن جاءك الشك بعد انتهاء الطواف ، فلا تلتفت إليه لان الشك بعد العبادة لا يلتفت إليه مادام مجرد شك.
ثامنا : وعندما تبدأ من الحجر الأسود تحاذيه ببدنك ، ثم تستلمه و تقبله إن استطعت ، أو تستلمه و تقبل يدك ، فإن لم تستطع لشدة الزحام ، تشير إليه بيدك ولاتقبل يدك في حالة الإشارة ، وتكون الإشارة باليد اليمنى ، تستقبل الحجر وتشير بيدك اليمنى قائلا الله أكبر ، وتفعل ذلك كله وفق هذا الترتيب كلما حاذيت الحجر الأسود في أثناء طوافك ، وذلك إن تيسر لك ، ولاتزاحم الناس فتؤذيهم .
تاسعا : ويستحب استلام الركن اليماني باليد ، فإن لم تستطع فلا تشير إليه من بعيد ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيئا عند استلامه ، ويستحب أن تقول بين الركن اليماني والحجر الأسود ( ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وأن تكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار والدعاء في أثناء الطواف .
عاشرا : واحذر أن تطوف من داخل الحجر ، وهو الجزء الذي حوله حاجز رخامي يشبه شكل الهلال خلف أحد جدران الكعبة ، بل يجب أن تكمل طوافك من وراءه ، لانك لو أكملت الطواف من داخله ، فكأنك دخلت الكعبة في جزء من طوافك ، ولم تطف حولها ، ويجب على من فعل ذلك إعادة الطواف .
حادي عشر : وإذا أقيمت الصلاة وأنت تطوف ، أو حضرت جنازة ، أو أردت شرب الماء ، ونحو ذلك فإنك تتم الطواف بعد ذلك من حيث وقفت ، إلا إذا أطلت الفصل بين الأشواط ، فإن فعلت فابدأ من جديد ، لان الموالاة بين أشواط الطواف شرط في صحته ، وكذا إذا انتقض وضوءك في أثناء الطواف فيجب عليك أن تعيده من جديد ، إذا قلنا بأن الوضوء شرط لصحة الطواف ، وهو الاحوط .
ثاني عشر : وبعد انتهاء الطواف ، ينتهي الاضطباع ، كما ينتهي الرمل بنهاية الشوط الثالث من الطواف ، و يستحب للطائف بعد نهاية الشوط السابع ، أن يتوجه إلى مقام إبراهيم عليه السلام ويقول ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ثم يصلي ركعتين ، ويستحب أن يقرأ فيهما سورة الكافرون ( قل يا أيها الكافرون ) في الركعة الأولى ، وسورة الإخلاص ( قل هو الله أحد ) في الركعة الثانية ، والأفضل أن يصليهما خلف مقام إبراهيم عليه السلام ، فإن لم يتيسر ذلك لشدة الزحام ، ففي أي موضع من المسجد الحرام .
ثالث عشر : ويستحب للطائف الوقوف بالملتزم وهو ما بين الحجر والباب ، فيجعل خده وصدره على حائط الكعبة في ذلك الموضع الشريف ، ويدعو الله تعالى.(/4)
رابع عشر : ويستحب إذا أردت أن تسعى بعد ذلك أن تعود إلى الحجر فتستلمه إن استطعت قبل أن تنطلق إلى المسعى .
خامس عشر : وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعدما أنهى طوافه في حجته ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه ثم رجع إلى الركن فاستلمه رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
شرب ماء زمزم
والدعاء عند شرب زمزم مستحب ومستجاب قال صلى الله عليه وسلم ( ماء زمزم لما شرب له ) رواه أحمد وابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه .
السعي بين الصفا و المروة
تتوجه بعد ذلك إلى الصفا ، لتسعي بين الصفا والمروة .
ويجوز لك إن كنت قارنا أو مفردا أن تعجل السعي بعد طوافك طواف القدوم ، فإذا كنت قارنا سيكون هذا السعي المعجل هو سعي حجك وعمرتك اللتين ستطوف طوافهما يوم النحر ، وإن كنت مفردا يكون سعي حجك الذي ستطوف طوافه يوم النحر أيضا ، وهذا أيسر عليك لانك ربما تكون مرهقا يوم النحر بعد وقوفك بعرفة وبياتك بمزدلفة ، فتكتفي بالطواف في هذه الحالة لانك قدمت السعي عند قدومك ، ويجوز لك أيضا أن تؤجل السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة يوم النحر ، فتسعى بعده سعي حجك وعمرتك إن كنت قارنا ، وسعي حجك إن كنت مفردا .
مسائل السعي :
أولا : إن كنت متمتعا ، أي تريد أن تعتمر ثم تحج بعد التحلل من عمرتك ، فهذا السعي هو سعي عمرتك ، وإن كنت قارنا أو مفردا ، فهذا السعي تنوي به أنه سعي حجك وعمرتك إن كنت قارنا ، وسعي حجك إن كنت مفردا ، هذا إذا أردت أن تقدم السعي ، ويجوز لك تأخيره كما أسلفنا .
ثانيا : تبدأ من الصفا ، فإذا دنوت من الصفا يستحب لك أن تتلو قوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلاجناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ) وتقول أبدأ بما بدأ الله به ، وترقى الصفا حتى ترى الكعبة إن استطعت ، فإن لم تستطع ذلك ، فالواجب أن تضع قدمك عند أول الارتفاع إلى الصفا ، لتكون بدايتك من أول الصفا ، لان قطع كل المسافة بين الصفا والمروة واجب لا يصح السعي إلا به .
ثالثا : فإذا رقيت على الصفا فاستقبل الكعبة ، وارفع يديك للدعاء ، وابدأ قائلا الله أكبر ثلاث مرات ، ثم تقول لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم ادع الله بما شئت من خير الدنيا والآخرة ، ثم أعد هذا كله ثلاث مرات ، ويستحب أن تطيل في الدعاء ، فإنه موضع أطال فيه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء .
رابعا : فإذا فرغت من الدعاء ، انزل ماشيا ، إلى أن تصل إلى العلم الأول ، وقد وضع لذلك إشارة خضراء ، فإن بلغته ، فيستحب لك أن تسعى سعيا شديدا ، حتى تصل إلى العلم الثاني ، وقد وضع لذلك أيضا إشارة خضراء ، ثم تمشي بعد ذلك ، حتى ترقى على المروة ، فتفعل على المروة مثل ما فعلت على الصفا ، فإن لم تستطع ذلك ، فالواجب أن تنتهي عند أول ارتفاع من الأرض على المروة ، من أجل أن تكون قد قطعت كل المسافة بين الصفا والمروة .
وتستطيع أن تستدل على مقدار المسافة التي يجب قطعها بين الصفا والمروة ، بممر العربات ، فعند انتهاءه تنتهي المسافة الواجب قطعها ، ولكن يستحب أن ترقى على الصفا والمروة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
خامسا : ويجب أن تسعى سبعة أشواط ، و تكون البداية من الصفا والنهاية عند المروة ، فالمسافة بينهما شوط واحد ، حتى إذا انتهيت من آخر شوط على المروة ، فقد أتممت السعي .
سادسا : ويستحب لك أن تكون في أثناء السعي ، ذاكرا لله تعالى بأنواع الذكر من قراءة القرآن والاستغفار والتسبيح والتهليل ، كما يستحب الوضوء ولا يجب ، فإن كنت غير متوضأ جاز لك أن تسعى من غير وضوء .
سابعا : ولا تجب الموالاة بين أشواط السعي ، فيجوز لك أن شعرت بتعب ، أن تستريح ثم تعود فتكمل على ما سبق ، حتى لو طال الفصل ، فلا بأس بذلك .
ثامنا : كما لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي ، فيجوز لك بعد الطواف أن تستريح إن احتجت إلى ذلك ، ثم تعود إلى السعي بعد ذلك .
الحلق والتقصير
بعد ذلك يجب عليك إن كان حجك ، حج تمتع ، أن تقصر من شعرك ، وذلك بأن تقص من جميع الشعر ، لا من أطرافه كما يفعل الجهال ، والحلق أفضل ، ولكن لانك سوف تحلق رأسك عند التحلل من حجك ، فالأفضل هنا أن تقصر فقط إلا إن كنت قدمت مبكرا في شهر شوال مثلا فالحلق أفضل ، لان شعر رأسك ، سيتوفر إلى العاشر من ذي الحجة .
أما إن كنت قارنا أو مفردا للحج ، فلا تقصر ولا تحلق ، لانه يجب عليك أن تبقى على إحرامك حتى تتحلل من الحج في يوم النحر .
والمرأة تقص من طرف شعرها قدر أنملة .
قطع التلبية للمعتمر والحاج
وإن كنت متمتعا فإنك تقطع التلبية إذا شرعت في الطواف ، وأما إن كنت قارنا أو مفردا فإنك التلبية لا تنقطع إلا برمي جمرة العقبة يوم النحر .
التوجه إلى منى يوم التروية(/5)
إذا جاء يوم الثامن من ذي الحج ، وهو يوم التروية ، سمى بذلك لان الناس كانوا يتروون الماء في ذلك اليوم ، لحاجتهم إلى الماء في منى والمشاعر ، إذا جاء هذا اليوم ، تحرم قبل الزوال بالحج من أي مكان من الحرم أنت نازل فيه .
وأما إن كنت قارنا أو مفردا ، فإنك لم تزل على إحرامك ، ثم تتوجه إلى منى فتصلي فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، تقصر الصلاة الرباعية ــ إن كنت ممن يقصر الصلاة ــ والأفضل أن تصلي كل فرض لوقته بلا جمع ، وتبيت بمنى ليلة عرفة ، وهذا المبيت سنة ليس بواجب ، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
من أين يحرم الحاج والمعتمر في مكة
والحاج يحرم بالحج من أي مكان من مكة ، فقد أحرم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من منزلهم الذي نزلوه في مكة وهو الابطح ، متفق عليه ، وأما المعتمر فيحرم من أدنى الحل ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة رضي الله عنها إلى أدنى الحل لتحرم بالعمرة متفق عليه ، وسواء كان الحاج والمعتمر من أهل مكة أو جاء إليها من خارجها .
إلى عرفة
ثم الأفضل أن تصلي الفجر في منى بعد البيات فيها ، وتبقى حتى تطلع الشمس ، ، ثم تسير من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس ، ويسن لك أن تنزل بنمرة وهو موضع بجانب عرفة ، حتى إذا زالت الشمس ، تدخل إلى عرفة ، وتسمع خطبة الإمام ، وتصلي الظهر والعصر قصرا وجمع تقديم ، وتبقى في عرفة إلى الغروب ، يستحب لك في أثناء ذلك أن تكثر من الدعاء والتلبية وذكر الله تعالى .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) رواه أحمد والترمذي .
والوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم ، من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج قال صلى الله عليه وسلم ( الحج عرفة من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم .
القدر الواجب من الوقوف بعرفة
ويجب على كل حاج أن يقف بعرفة أي وقت من النهار أو الليل من أول طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر ، فمن فاته دخول عرفة في أثناء ذلك ولو للحظة فقد فاته الحج ، ومن وقف بها ولو مرورا ، فقد أدرك الحج ، ولكن من دخلها من النهار يجب عليه أن يجمع مع ذلك جزءا من الليل ولو لحظة ، فيخرج عند غروب الشمس لا قبلها ، فإن خرج من عرفة قبل الغروب يجب عليه أن يعود فيبقى إلى الغروب ، فإن لم يفعل صح حجه ولكن عليه دم شاة يذبحها بمكة في حدود الحرم لفقرائه ، وذلك لتركه الواجب ، وإن لم يتيسر له الوقوف إلا ليلا أجزأه ذلك ولا شيء عليه .
عن عروة بن مضرس قال ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيء ، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه ) رواه الخمسة .
ويجب أن يكون مسلما عاقلا محرما ولو كان نائما أو جاهلا أنها عرفة .
وفي أي مكان وقفت من عرفة أجزأك ، والوقوف عند جبل الرحمة ليس واجبا ، كما يظنه الجهال ، ويتزاحمون عليه ، يظنون أن في ركوبه أجر ، فيشقون على أنفسهم بغير طائل ، بل في أي مكان وقفت من عرفة فقد أجزأ ، قال صلى الله عليه وسلم وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
إلى مزدلفة
فإذا غربت الشمس ، ادفع إلى مزدلفة وعليك بالسكينة ، فإذا وصلتها اجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير فإن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء فعله في مزدلفة جمع صلاتي المغرب والعشاء ، ثم عليك أن تبيت بها وتصلي فيها الفجر ، حتى لو تأخرت فلم تصل إليها إلا فجرا بسبب زحمة الطريق ، فعليك أن تصلي فيها الفجر ، ولاشيء عليك في هذه الحالة ، لانك معذور ، فإذا صليت الفجر ، استحب لك أن تذهب إلى المشعر الحرام ــ مرتفع صغير في مزدلفة ـ وأن تبقى ذاكرا لله تعالى حتى يسفر الوقت جدا، هكذا فعل صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه ، فإن لم يتيسر لك الذهاب إلى المشعر الحرام ، فاذكر الله تعالى وادعوه في مكانك الذي أنت فيه من مزدلفة ، ويستحب أن تذكر الله حتى يسفر جدا ، وتدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس ، عن عمر رضي الله عنه ( كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس ) رواه الجماعة إلا مسلما .
ثم تخرج من مزدلفة إلى منى .(/6)
ويجوز لك أن تدفع من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل إن كنت من الضعفاء ، كالمرضى الصغار وكبار السن والنساء وأهل الأعذار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى ) متفق عليه .
وعن عائشة قالت ( كانت سوده امرأة ضخمة ثبطة ( بطيئة الحركة ) فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل فإذن لها ) متفق عليه
إلى منى لرمي جمرة العقبة
ثم تدفع من مزدلفة إلى منى ، متوجها إلى جمرة العقبة ، فإن كان طريقك من وادي محسر ، وهو واد بين مزدلفة ومنى استحب لك أن تسرع السير ، غير أن هذا لا يتيسر الآن بسبب زحمة السيارات ، فإذا وصلت إلى جمرة العقبة ، فارمها بسبع حصيات ، يجب عليك أن تسقط كل حصاة في الحوض رميا ـ لاوضعا باليد ـ ، ولا يجب أن تصيب الشاخص ، كما يظن ذلك الجهال ، يرمون الشاخص حتى تضربه الحصاة ، فترتد بعيدا عن الحوض ، ومثل هذا لا يصح ولا يجزيء ، لان الشاخص إنما وضع لتستدل به على الحوض فقط ، وليس ليكون هدفا للرمي .
ويجب أن تنتبه إلى أن حوض جمرة العقبة إنما هو من جهة واحدة فقط ، فاحذر أن يكون رميك الحصى من الجهة الأخرى التي وضع لها حائط إسمنتي كبير ، بل من الجهة التي فيها الحوض فقط ، فترمي الحصى حتى تسقط في الحوض .
ويستحب أن تكبر مع كل رمية .
وجميع الحاج يوقف التلبية عندما يرمي جمرة العقبة .
عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم من جمع إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ) رواه الجماعة .
ولك أن تلتقط الحصى من أي مكان ، حتى من منى ، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا في تحديد مكان دون غيره يستحب أن يلقط فيه الحصى .
وتكون الحصى بين الحمص والبندق ، قال جابر رضي الله عنه ( مثل حصى الخذف ) رواه مسلم ، ولايجزيء غير الحصى كالحديد وغيره .
وأفضل وقت الرمي بعد طلوع الشمس ضحى ، ويجوز بعد الفجر ، ولا يجوز قبله ، إلا للضعفاء وأهل الأعذار الذين دفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل ، ومن يقوم على أمرهم له حكمهم ، فيجوز لهم أن يرموا عند وصولهم ولو قبل الفجر ، لحديث عائشة قالت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم أفاضت ، رواه أبو داود وغيره .
والأولى أن لا يرموا إلا بعد طلوع الشمس أيضا فعن ابن عباس رضي الله عنه قال ( قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات ، فجعل يلطخ أفخاذنا ، ويقول : أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) رواه أبو داود والنسائي .
أعمال يوم النحر، يوم الحج الاكبر
ثم بعد ذلك تنحر هديك إن كان عليك هدي بأن كنت متمتعا أو قارنا ، أما المفرد فلا هدي عليه ، ووقت النحر يمتد إلى آخر أيام التشريق ، ويجب أن يكون في حدود الحرم ، فلا يجوز نحر الهدي في عرفة مثلا أو أي مكان من الحل ، ويجوز ليلا أو نهارا من أيام التشريق ، وليس له اثر في تحلل الحاج .
ومن لا يقدر على شراء الهدي ، يصوم ثلاثة أيام في الحج ، قبل يوم النحر أو في أيام التشريق ، ولا يجوز لاحد أن يصوم أيام التشريق إلا من لم يجد الهدي من الحجاج ، ويصوم سبعة إذا رجع إلى أهله .
ولايجزيء في الهدي إلا الجذع من الضأن وهو ماله ستة شهور فأكثر ، والثني من المعز والبقر والإبل ، وهو من المعز ماله سنة فأكثر ، ومن البقر وهو ماله سنتان فأكثر ، ومن الإبل وهو ماله خمس سنوات فأكثر ، وتجزيء البقرة والبدنة عن سبعة .
ثم تحلق أو تقصر من شعرك والحلق أفضل ، والمرأة تقص من طرف شعرها قدر أنملة ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين قائلا رحم الله المحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة متفق عليه .
والأفضل أن يبدأ المحلق من جانب الرأس الأيمن ثم الأيسر رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه .
ثم تنطلق إلى البيت لتطوف طواف الإفاضة ، وهو طواف الحج ، ويسمى أيضا طواف الزيارة ، وليس في هذا الطواف اضطباع ولا رمل .
وبعد الطواف تسعى بين الصفا والمروة إن كنت متمتعا ، أو كنت قارنا أو مفردا ولم تسع بعد طواف القدوم ، فيجب عليك أن تسعى هنا .
فالمتمتع يسعى سعين ، سعي لعمرته وسعي لحجه ، وأما القارن والمفرد فيسعيان سعيا واحدا ، لحديث عائشة رضي الله عنها ( وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فقد طافوا طوافا واحدا ) تعني الطواف بين الصفا والمروة وهو السعي ، متفق عليه .
ويجوز لاهل الأعذار أن يطوفوا بعدما يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل .
ويجوز لك أن تأخر طواف الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة إن شئت ، ولكنك في هذه الحالة لاتكون قد تحللت الحل كله ، بل يجب عليك أن تعتزل النساء حتى تطوف طواف الإفاضة .
ويجوز لك أن تقدم أو تأخر بين هذه الانساك ، إذ لايجب فيه الترتيب كما ذكر آنفا ، بل الترتيب مستحب .(/7)
عن ابن عباس رضي الله عنها قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير ، فقال لاحرج متفق عليه .
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فرمى أولا جمرة العقبة بعد طلوع الشمس ضحى ، ثم نحر هديه ، ثم حلق رأسه ، ثم طاف بالبيت وصلى الظهر بمكة ، ثم رجع منى فصلى بها الظهر مرة أخرى أيضا نافلة .
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) متفق عليه ، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر رواه مسلم ، وجمع بينهما الإمام النووي رحمه الله أنه صلى بمكة الظهر ، ثم رجع فصلى الظهر إماما لأصحابه في منى أيضا .
التحلل الأكبر والأصغر
وإذا فعلت اثنين من هذه الثلاثة وهي رمي جمرة العقبة ، والحلق أو التقصير ، وطواف الإفاضة ، فقد حل لك كل شيء إلا النساء ، ويسمى التحلل الأصغر.
فإن فعلت ما بقي مع السعي إن لم تكن قد سعيت من قبل ، فقد حل لك كل شيء حتى النساء ، ويسمى التحلل الثاني أو الأكبر .
ويتوجه القول بأن الحاج إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء ، وهوأصح قولي الفقهاء ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي حين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت رواه أحمد وغيره ، وهو رواية في مذهب أحمد ، واختيار الإمام ابن قدامة رحمه الله ، وسمعت العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه يفتي بذلك .
إذا جامع المحرم
ومن جامع قبل التحلل الأول فعليه أربعة أمور :
الأول : فساد النسك .
الثاني : المضي في فاسده ، فيكمل حجه كأنه غير فاسد .
الثالث : وجوب القضاء ثاني عام .
الرابع : عليه أن يذبح بدنه ويوزع لحمها على فقراء الحرم .
عن عمر وعلي وأبي هريرة أنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج ، فقالوا :(ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ، ثم عليهما حج قابل والهدي ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما انه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنه ) رواهما مالك في الموطأ .
ومن جامع بعد التحلل الاول وقبل الثاني :
فهو مخير بين ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد من البر أو صاع مما سواه ، وعليه إن يخرج إلى أقرب الحل ، فيحرم منه لطواف الإفاضة ، إلا إن كان قد طاف طواف الإفاضة ورمى ولكنه جامع قبل الحلق أو التقصير فلا حاجة ليجدد إحرامه .
ومن جامع قبل تمام العمرة فعليه شاة .
المبيت بمنى ليالي التشريق
ثم تعود إلى منى لتبيت بها ثلاث ليالي ، أو ليلتين إن تعجلت ، والواجب أن تبيت معظم الليل ـ أكثر من نصفه ـ في منى ، ليلة الحادي عشر من ذي الحجة ، وليلة الثاني عشر من ذي الحجة ، ذلك إن تعجلت في يومين ، وليلة الثالث عشر من ذي الحجة إن تأخرت ، وهذه الأيام الثلاثة تسمى أيام التشريق ، وهي التي قال الله عنها ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ) .
والدليل على وجوب المبيت بمنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له ) متفق عليه ويدل إذنه للعباس رضي الله عنه ، على أنه واجب على غير أهل الأعذار .
رمي الجمار أيام التشريق
ويجب عليك أن ترمى الجمار في أيام التشريق ، ووقت رميها في هذه الأيام ، من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، قال جابر رضي الله عنه ( ورمى بعد يوم النحر في سائر أيام التشريق إذا زالت الشمس ) رواه مسلم .
فتبدأ بالجمرة الصغرى فترميها بسبع حصيات ، تكبر مع كل حصاة ، حتى تقع الحصاة في الحوض ، وتحاول أن تستقبل القبلة مع استقبال الجمرة حال الرمي ، فإن لم تستطع فاستقبل الجمرة وهذا يكفي ، ثم اجعلها عن يسارك وتأخر للدعاء ، وأطل فيه ، لان النبي صلى الله عليه وسلم أطال الدعاء في هذا الموضع ، ثم انطلق إلى الجمرة الوسطى ، فافعل مثل ما فعلت عند الصغرى ، ولكن اجعلها عن يمينك وابتعد قليلا عن الزحام وأطل في الدعاء ، ثم انطلق إلى الجمرة الكبرى ، فارمها بسبع حصيات من جهة الحوض ليقع الحصى فيه ، ولاتقف عندها للدعاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك .
ويجب أن يكون الرمي على هذا الترتيب ، الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى ، فإن أخللت بالترتيب ، أعد الرمي .(/8)
فإن شق عليك أن ترمي كل يوم ، بسبب كبر السن أو المرض أو الإعياء أو شدة الزحام أو طبيعة عملك في الحج ونحو ذلك ، جاز لك أن تجمع رمي يومين في يوم ، فترمي في اليوم الثاني ، أولا رمي اليوم الأول ، حتى تنتهي من الصغرى فالوسطى فالكبرى ، ثم تعود فترمي رمي اليوم الثاني الصغرى فالوسطى فالكبرى ، أو تجمعها كلها في اليوم الثالث ، إن لم تتعجل في يومين ، فترمي في هذه الحالة بالترتيب وفق النية ، تبدأ برمي اليوم الأول حتى تنتهي منه ، ثم تعود إلى الصغرى فترمي بينة اليوم الثاني ، ثم الثالث هكذا .
التعجل والتأخر
ويجوز لك أن تتعجل في يومين ، فإذا رميت الجمار ثاني أيام التشريق ، تطوف طواف الوداع قبل أن تغادر مكة ، والأفضل أن تتأخر ، فتبيت بمنى ليلة الثالث عشر من ذي الحجة وهو آخر أيام التشريق ، وترمي الجمرات بعد الزوال يوم الثالث عشر من ذي الحجة ، ثم تطوف طواف الوداع قبل أن تغادر .
ويشترط لمن عزم على التعجل في يومين أن يرمي الجمرات في اليوم الثاني قبل غروب الشمس ثم يخرج من منى ، فإن بات بها ، أو أدركه الليل وهو فيها ، وجب عليه أن يأتي برمي اليوم الثالث بعد الزوال فيتأخر ، ولابأس إن حبس بسبب الزحام حتى أدركه الغروب وهو في منى بغير اختياره ، فليرم وينفر إن شاء التعجل لانه معذور .
طواف الوداع
ولا يجب عليك طواف الوداع إلا إذا عزمت الخروج من مكة ، فإن أردت البقاء فيها ، فإنك تؤخره إلى أن تعزم على مغادرتها .
ولا يجوز لك أن تنشغل بشيء بعد طواف الوداع ، بل تبادر إلى مغادرة مكة ، إلا أن تنتظر صحبة تلحق بك ، أو تشتري حاجاتك في طريقك ونحو ذلك .
والحائض يسقط عنها طواف الوداع ، فإذا انهت رمي الجمار ، فلها أن تسافر ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال ( أمر الناس أن يكون أخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) متفق عليه .
ويجوز لمن أخر طواف الإفاضة أن يطوفه وينوي به طواف الإفاضة والوداع ، طوافا واحد ، ويغادر ، حتى لو كان عليه سعي بعد الطواف ، لان ذلك لا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق فالسعي متعلق بالبيت أيضا .
فوات الحج
ومن أدركه من الحجاج طلوع فجر يوم النحر ، ولم يقف بعرفة ولو للحظة ، فقد فاته الحج ، وانقلب إحرامه عمرة ، فيطوف ويسعى ويتحلل ، ويقضى من العام القادم ، ويذبح هديا في قضاءه ، إلا إذا كان قد اشترط فلاهدي عليه ولاقضاء .
الاحصار
ومن منع مانع عن إتمام حجه قبل أن يحرم بالنسك رجع ولاشيء عليه .
وإن كان بعد إحرامه وقد اشترط قائلا عند إحرامه ( ومحلي حيث حبستني ) حل من إحرامه ولبس ثيابه ولاشيء عليه .
وإن لم يكن قد اشترط ، فإن حبس عن الحج كله ولا يستطيع أن يصل إلى البيت ، ذبح هديا في المكان الذي حصر فيه ، أو بعث به إلى الحرم ، ثم حلق أو قصر وصار حلالا .
وهذا هو الإحصار ، وأصح قولي العلماء أن الحاج يصير محصرا يجوز له تحلل المحصر سواء احصر بعدو وغيره كالمرض وذهاب النفقة .
فإن لم يجد هديا في موضعه الذي أحصر فيه ، أناب من يذبح عنه الهدي في الحرم ثم حل ، فإن كان فقيرا لا يقدر على ذبح الهدي ، صام عشرة أيام ثم حل في قول الجمهور ، والصحيح لاشيء عليه ، فيحلق أو يقصر وقد حل .
ومن حبس عن عرفة فقط ، ذهب إلى البيت وتحلل بعمرة ولاشيء عليه ، إن كان قبل الفوات ، وإن كان تحلله بعمرة بعد الفوات ، فعليه القضاء .
وإن وقف بعرفة وحصر عن إتمام بقية الحج ، يذبح هديا بنية التحلل ويحلق أو يقصر، ويكون بذلك قد حل من إحرامه كمن احصر عن الحج كله .
صيد مكة
ويحرم صيد مكة على الحاج وغيره ، فكل ما يحرم صيده حال الإحرام ، يحرم صيده في حدود الحرم المكي ، وكذلك الحرم المدني .
ولا يجوز قطع شجر الحرم وحشيشه ، اللذين لم يزرعهما الآدمي .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ( إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولايختلى خلاه ولا ينفر صيده وتلتقط لقطته إلا لمعرف ) متفق عليه ، ومعنى لا يعضد شوكه أي لا يقطع الشجر الذي فيه شوك ، والمقصود لا يقطع كل الشجر حتى الذي فيه شوك ، ومعنى يختلى خلاه أي لا يقطع الحشيش الرطب منه ، دون اليابس فيجوز ، وكذلك رعي الأنعام يجوز مطلقا لان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكمموا أفواه ما معهم من النعم في الحرم .
ومعنى لا تلتقط لقطته إلا لمعرف ، أن من وجد في الحرم لقطة وجب عليه أن يعرفها أبدا ، وأما في غير الحرم فيعرفها سنة ثم يأخذها إن لم يأت صاحبها ، فإن جاء يوما من الدهر ، دفعها إليه أو دفع ثمنها إن طلبها صاحبها .
زيارة المدينة المنورة(/9)
ويستحب للحاج أن يغتنم فرصة وجوده بمكة ، فيكثر من الطواف في البيت ، ويزداد من الصلاة في المسجد الحرام ، فعن جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ) رواه أحمد وابن ماجة .
ويستحب له أن يصلي داخل الكعبة إن استطاع ، أو في الحجر فإنه من الكعبة.
وأن يحمل معه من ماء زمزم .
وزيارة المسجد النبوي سنة مستحبة ، ولكن لاتعلق لها بمناسك الحج ، وكل ما ورد من أن الحج لا يقبل بغير زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أن ذلك جفاء له صلى الله عليه وسلم ، مثل ما يروى ( من حج فلم يزرني فقد جفاني ) ، كل ذلك لا يصح و لاتقوم به حجة .
ولا يجوز أن ينوي المسافر إلى المدينة شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
ولكن ينوي زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وله أن يزور القبر الشريف مصليا ومسلما على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلما على صاحبيه رضي الله عنهما ، وله أن يدعو الله تعالى عند الزيارة مع استقبال القبلة ، ولا يستقبل الحجرة التي فيها القبر حال الدعاء ، ولا يجوز لاحد أن يدعو عبدا من دون الله تعالى ، لاملكا مقربا ، ولانبيا مرسلا ، قال تعالى ( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا ) .
ولا يجوز سؤال الشفاعة إلا من الله تعالى ، قال تعالى ( قل لله الشفاعة جميعا ) ، فيقول الزائر ( اللهم ارزقني شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم ) ونحو ذلك .
ولا يجوز التبرك بجدران الحجرة التي فيها القبر الشريف ، ولا بشيء من قبور الصالحين وآثارهم ، فذلك بدعة ضلالة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) رواه الترمذي وأبو داود من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه .
ويستحب لزائر المدينة المنورة ، الصلاة في مسجد قباء ، قال صلى الله عليه وسلم ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة) رواه احمد والترمذي وابن ماجة .
كما يستحب له زيارة البقيع وقبور شهداء أحد ، ويدعو لهم ، وأما سائر المواضع التي لم يرد في زيارتها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل المساجد السبعة ومسجد القبلتين ، فتخصيصها بالزيارة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
وكل خير في اتباع من سلف **** وكل شر في ابتداع من خلف
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تمت رسالة تيسير أحكام الحج والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات(/10)
تيسير بعض أحكام البيوع والمعاملات المالية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل البيع وحرم الربا ، والصلاة والسلام على النبي القائل ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ) و( من عصاني فقد أبى ) وبعد :
فقد ألقيت مجموعة محاضرات في دورة عن أحكام البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ، نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مشكورة ، وحضرها مجموعة من طلبة العلم ، تخرج منهم خمسون طالبا ، ووزعت الجمعية التعاونية جزى الله القائمين عليها كل خير ، جوائز على المتفوقين فيها ، وقد ألحوا علي أن أراجعها وأطبعها وأنشرها ليعم النفع ، فتعذرت بكثرة الأشغال ، فما زادهم ذلك إلا إلحاحا وإصرارا ، فاستجبت لهم ، وراجعتها ، وأعددتها للطباعة ، وها هي تودع في الموقع أولا ، ريثما تنتهي من المطبعة بتوفيق الله تعالى .
وقد تضمنت المحاضرات :
أولا : مقدمة عن خصائص الاقتصاد الإسلامي ، ثانيا : أسباب تحريم البيوع في الشريعة ، ثالثا : شروط البيع ، رابعا : الشروط في البيع ، خامسا : الخيار ، سادسا : الربا ، سابعا : الشركات ، ثامنا : البنوك الإسلامية ، تاسعا : أحكام بعض العقود والبيوع المعاصرة .
كل ذلك بأسلوب سهل ميسر ، مقرب إلى الفهم ، ولهذا أسميت هذه الرسالة الصغيرة ، تيسير بعض أحكام البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ، والله تعالى أسأل أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، لينفعني يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم آمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
حامد بن عبد الله العلي ،السادس من ربيع الأول 1423هـ
@@@أولا : أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
***أولا – الانطلاق من العقيدة .
ـــــــــــــــــ
وهذه أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي ، ولو نزعت منه هذه الخاصية لم ينجح ، وننوه هنا إلى أن الإيمان هو الاسم الوارد في الكتاب و السنة ، بدل كلمة العقيدة ، وذلك لدلالته على الهدف الأسمى من الإيمان وهو الأمن ، فلفظ الإيمان يطوي تحته هذا المعنى العظيم ، كما قال تعالى :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )، ولهذا فاستعمال هذا اللفظ بدل العقيدة ، أولى وأفضل ، فالإيمان كلمة خفيفة على النفس وحروفها سهلة ، وتشعر النفس بانجذاب نحوها ، كما أنها تدل أيضا على الانقياد ، بمعنى أن الله تعالى يريد بالإيمان التصديق الذي يتبعه انقياد ، وكلمة الإيمان تدل على هذا المعنى ، ذلك أن معناها ليس التصديق ، وإنما تصديق مع انقياد .
&&& ومما يدل على ارتباط الاقتصاد بالإيمان : قوله تعالى :(( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ) .
ففي هذه الآية الكريمة ، بيان أن الإيمان والتقوى أهم أسباب الازدهار في الاقتصاد الإسلامي ، وهما سبب للبركات والرفاه ، كما يقول الاقتصاديون ، أن هدف الاقتصاد هو تحقيق مجتمع الرفاهية .
فالله تعالى يقول في هذه الآية ، إذا أردتم اقتصادا سليما ، يحقق الرفاهية ، فعليكم بتقوى الله عز وجل والإيمان .
&&&كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :(( لا يزيد في العمر إلا البر ولا يرد القدر إلا الدعاء وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه ابن ماجه ، وفي هذا تأكيد للعلاقة بين الإيمان والاقتصاد الإسلامي .
&&& ومن الأمثلة على ذلك أيضا ، أعني تأثير تقوى الله تعالى في الاقتصاد ، قله صلى الله عليه وسلم :( من باع دارا ، ثم لم يجعل ثمنها في مثلها ، لم يبارك له فيها ) رواه الضياء المقدسي والطيالسي والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه .
فهذا ـ كما هو واضح ـ لا علاقة له بالأمور المادية ، ولكن علاقته بالأمور الإيمانية ، ومن أمثلة ذلك ما نسمعه عن الذين دخلوا البورصة بأثمان بيعهم لبيوتهم ، ثم خسروا وانكسروا ، فهذا البعد ، بعد إيماني غيبي لم ينبه عليه إلا في الاقتصاد الإسلامي ، ولايعترف به الاقتصاد الملحد الذي لايبني الاقتصاد على الإيمان بالله تعالى ، الممحوق البركة ، الذي ملأ العالم جشعا وفسادا .
&&&ومن الأمثلة أيضا : قوله صلى الله عليه وسم ((ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )) رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، فهذا المعيار خاص في الاقتصاد الإسلامي ، وفيه يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الزيادة والنقصان للمال ، تؤثر فيهما الصدقة على الفقراء ابتغاء وجه الله تعالى ، ولذلك من جهتين :
أحدهما :
ـــ
أن الله تعالى يدفع عن المسلم من البلاء والمصائب ، بسبب الصدقة ، بما لو لم يتصدق لاجتاحت ماله وهو لا يدري .
الثانية :
ــــ
أن الله تعالى يجعل في المال القليل نفعا أكثر من المال الكثير .
*** ثانيا :
ـــــ(/1)
أن الاقتصاد الإسلامي ، اقتصاد مستقل قائم على الوحي ، فليس هو حصيلة أفكار مرقعة شرقية وغربية ، ولا مصدره من بشر قد يبدلون ، ويغيرون أفكارهم فهم معرضون للصواب والخطأ .
وهذه أهم خصائص الإسلام بشكل عام ، فإنه لا يعتمد إلا على الوحي ، فهو نظام مستقل قائم بذاته مصدره الوحي الإلهي .
وفي الإسلام ، كل النظريات الأخرى في الاقتصاد وغيره ، إنما تقاس على الوحي ، فما عارض الوحي منها ردّ ، فالمعيار المطلق هو موافقة الوحي فحسب ، والواقع هو موضع الحكم ، وليس مصدر الحكم .
بينما في الاقتصاد الرأسمالي مثلا ، المعيار هو النفعية ، كما أن الواقع هو موضع الحكم وليس مصدره .
ذلك أن العلمانية هي وعاء الاقتصاد الرأسمالي ، وهي مبينة على أساس أن الواقع القائم على الفائدة النفعية هو مصدر الحكم .
وأسس العلمانية الثلاث التي تقوم عليها هي :
المادة والنفعية واللذة ، يقابلها عندنا الإيمان بالله تعالى والرسول والسعادة الأخروية .
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه :" الأصول الثلاثة التي اتفق عليها الرسل هي الإيمان بالله والرسل والمعاد " .
ومن هنا فنحن ننبه إلى أن بعض البنوك الإسلامية بدأت تتأثر بالرأسمالية ، من حيث لا تشعر ، وذلك من جهة الحرص على المنفعة وجعلها مصدر الحكم أحيانا ، تحت غطاء من حيل .
&&& ومن الأمثلة أن الفكرة في أرباح البنك الإسلامي مبنية على المضاربة ،
حيث يدخل السوق ويوفر فرص العمل وينوع السلع وينافس بالأسعار ويحرك الاقتصاد ويضخ إلى السوق النقد والبضائع ، ويحرك الدورة الاقتصادية ، فيأخذ أموال الجماعة ويوظفها في مصلحة الجماعة ، وهذا يحتاج إلى إيمان وصبر ، وبه يتحقق الخير العام للمجتمع .
ولكن للأسف ، فقد استبطأت بعض البنوك الإسلامية هذه العملية ، ولهذا لجأت إلى حيل توفر عليها الجهد ، وتعجل الفائدة ، مثل توسيع الأمر في نظام المرابحة ، وقد وسعت ببعض البنوك الإسلامية أرباحها من هذا المصدر ، لأنها وجدته أسهل وأسرع في تحصيل الربح المضمون ، ذلك أنها جعلت نظام البيع بالمرابحة ، ما هو إلا جعل البنك الإسلامي نفسه وسيطا بين البائع أو التاجر والعميل ، فهو لا يحتاج إلا إلى أوراق وطاولة وموظف ، يعرف الزبون أن يوقع على الوعد بالشراء ، ثم يتصل البنك الإسلامي بالشركة التي تبيع السلعة ، وبالهاتف يقول للبائع هناك اشترينا منك السلعة الفلانية ، قل : بعت ، فيقول البائع هناك بعت ، ثم يوقع الزبون عند البنك الإسلامي ، على عقد البيع ، ويعطي البنك الإسلامي ثمن السلعة نقدا ، ويقاسط الزبون بالفوائد ، هكذا دون أي عناء ، سوى توقيع واتصال هاتفي فقط ، ويسمون هذا بيعا شريعا ، ومضاربة شرعيا للأسف .
وأنت إذا تأملت في هذه العملية وجدت أن البنك الإسلامي ، لم ينفع أحدا إلا نفسه ، ولم يزد شيئا في السوق ، ولم يقم بأي دور في الاقتصاد العام للمجتمع ، وإنما حمل الزبون دينا مع زيادة الفوائد ، وهي نفس فكرة المرابي الذي يقول : أنا لا أريد أن أعمل ، إنما أجلس وأعطي نقودا ، وآخذ نقودا زيادة ، فلا أدخل السوق ولا أوفر فرصا للعمل ، وهو أسلوب سهل لكسب المال دون تعب ، ولكنه يؤدي إلى تكديس الأموال بيد المرابي ، وتكديس الديون على الناس .
والمرابحة بالطريقة توسعوا فيها ، قد ظهرت صورتها النهائية ، نفس صورة العملية الربوية ، ونتائجها هي نفس نتائجها ، وهي جعل المجتمع مدينا ، وجعل البنك هو الدائن العام لأفراد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله .
***ثالثا :
ـــــ
الاقتصاد الإسلامي ، يعتمد على القاعدة الفقهية التي تقول : إن الأصل في المعاملات الإباحة ، انطلاقا من القاعدة الشرعية ( أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج ) فكل ما لم يرد نصح في تحريمه فهو مباح ، يقول تعالى (( ما جعل عليكم في الدين من حرج )) .
***رابعا : كما أن الاقتصاد الإسلامي ، لا يحرم ولا يبيح إلا درءا لمفسدة أو جلبا لمصلحة عامة أو خاصة .
ــــــــــ
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
ــــــــــ
@@@ثانيا : أسباب تحريم البيوع في الاقتصاد الإسلامي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمع العلماء أسباب تحريم عقود البيوع في الاقتصاد الإسلامي ، فأرجعوها إلى ما يلي :
***السبب الأول :
ــــــــــ(/2)
كون المعقود عليه محرما أو نجسا ، و القاعدة العامة هنا أن كل أمر حرمه الله تعالى ، فقد حرم ثمنه ، ومن الأمثلة على ذلك تحريم بيع الكلب والدم والأصنام ومهر البغي وحلوان الكاهن ، وعن جابر رضي الله عنه : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرايت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ) رواه الجماعة .
وعن أبي جحيفة قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب ، وكسب البغي ، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ولعن المصورين ) متفق عليه .
و يدخل في هذا أيضا تحريم بيع ( المعزة الشامية ) وهي عادة انتشرت عندنا مؤخرا في الخليج ، يفعلها أهل الترف والتبذير والإسراف ، وهي نوع من ولع النفس بالباطل ، مثل اللعب في الحمام ، وقد يصل أحيانا سعر التيس إلى مليون ريال ، فمثل هذا سفه وإسراف محرم ، والرجل إذا كان يشتري بهيمة بمثل هذا المبلغ الكبير لمجرد التباهي والتفاخر فهو سفيه يجب الحجر عليه .
***السبب الثاني :
ــــــــــ
أن يكون العقد ذريعة للوقوع في الحرام ، مثل البيع وقت صلاة الجمعة ، وبيع السلاح زمن الفتنة ، وبيع الخمر لمن يتخذه خمرا ، ... إلى آخره .
***السبب الثالث :
ـــــــــــ
أن يكون العقد يشتمل على غرر مثل القمار والميسر .
&&& ومن الأمثلة المعاصرة عقد التأمين ، ومن هذا بيع مالا يقدر البائع على تسليمه مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء .
&&&ويدخل في هذا بيع الملامسة ، الذي ورد النهي عنه ، وهو أن يتبايعان الثوب باللمس من الظاهر دون نشره ومعرفة ما فيه .
&&&وبيع المنابذة الذي ورد النهي عنه أيضا ، وهو أن يقول ألق إلي ما معك وألقي إليك مع معي ويكون بيعا .
&&&وبيع المحا قلة هو بيع الطعام في سنبله .
&&&وبيع حبل الحبلة وهو أن يبيع لحم الجزور بثمن مؤجل إلى أن يلد ولد الناقة.
&&&وبيع المخاضرة ، وهو أن يبيع الثمار وهي مخضرة لم تبين صلاحها بعد.
&&&وبيع المعاومة بيع الشجر أعواما كثيرة .
وقد حرمت هذه الأنواع ، وورد النهي عنها كلها ، لما فيها من الغرر والجهالة ، فعاقبتها مجهولة ، ومن أجل ذلك حرمتها الشريعة .
&&&ومن الأمثلة المعاصرة أيضا لدينا ، بيع اللؤلؤ في المحار ، وصورته أن يشتري الرجل كيسا كبيرا مليئا بالمحار ، راجيا أن يصيب اللؤلؤ فيه ، فإن لم يجد شيئا خسر ماله ، وقد يجد محارة فيها لؤلؤة ، قيمتها أضعاف عشرة أكياس.
*** السبب الرابع :
ــــــــــ
أن يكون العقد مشتملا على الضرر ، ومن الأمثلة الاحتكار ، الغش ، بيع المسلم على بيع أخيه ، النجش ، بيع حاضر لباد ، تلقي الركبان ... إلى آخره .
ومعنى النجش ان يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليخدع من يريد ، ويكون ذلك في بيع المزاد .
وأما بيع حاضر لباد فقد ورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ) رواه البخاري ومسلم
ومعناه أن يأتي من يسكن البادية إلى المدينة يريد أن يبيع السلعة بسعر الوقت ، فيقول له الحاضر ، دعها عندي وأبيعها لك على التدريج بأغلى ، فيكون في ذلك ضرر على الناس .
وأما تلقي الركبان ، وورد أيضا ( تلقي الجلب ) أو ( تلقي البيوع ) فقد ورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لاتلقوا الركبان ) متفق عليه .
ومعناه النهي عن تلقي من يجلب البضائع إلى البلد من خارجها ، بل يترك حتى يهبط السوق ، ويعرف الأسعار فينتفع هو ، وينفع الناس ، ولا يجوز أن يتدخل بعض التجار ، فيتلقون الجالبين للسلع ، خارج البلدة ، ثم يشترون منهم ، فيضرونهم من جهة أن الجالبين لا يعرفون سعر السوق ، ويضرون الناس من جهة أنهم يتدخلون في السعر ، فيرفعونه لصالحهم .
***السبب الخامس :
ـــــــــــ
أن يشتمل العقد على ما يجب بذله ولا يجوز للمسلم المعاوضة عليه ، مثل بيع الماء حيث يشترك الناس فيه ، والكلأ ، والنار كذلك ، وعسب الفحل أي إعارة الفحل للتلقيح مقابل عرض ، وكل ما ورد النهي عن بيعه لانه يجب بذله ، فلا يجوز أن يعقد عليه عقد البيع .
ومن الأمثلة على هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سئل عن قوم ينقلون النحل من بلد إلى بلد ، فهل يحل لاهل البلد أن يأخذوا منهم أجرة ما جنته النحل عندهم ؟؟(/3)
فأجاب : (( الحمد لله ، لاحق على أهل النحل لاهل الأرض التي يجنى منها ، فإن ذلك لا ينقص من ملكهم شيئا ، ولكن العسل من الطلول التي هي من المباحان ... وهذه الطلول هي أحق بالذل من الكلأ ، فإن هذه الطلول لايمكن أن يجمعها إلا النحل ، ولكن إذا كان لصاحب الأرض فنحله أحق بالحناء في أرضه ، فإذا كان جنى تلك النحل تضربه ، فله المنع من ذلك ، والله أعلم ) مجموع الفتاوى 29/220
***السبب السادس :
ـــــــــــ
أن يشتمل البيع على مالا يملكه الإنسان ، مثل بيع سلعة عند غيره ، وبيع الأعضاء البشرية ، ونحو ذلك ، ولكن يجوز التبرع بالأعضاء البشرية بشرط أن يكون المتبرع له مضطرا تتوقف حياته على زرع العضو ، وأن لا يعرض المتبرع حياته للخطر بسبب التبرع فإن الله تعالى قال ( ولاتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، فإن كان المأخوذ منه العضو ميتا ، يشترط أن تتوقف حياة المريض على أخذ العضو من الميت .
***السبب السابع :
ـــــــــــ
أن يشتمل البيع على الربا وهذا سنفصله لاحقا .
***السبب الثامن :
ـــــــــــ
أن يشتمل البيع على حيلة على الربا ، أو ذرائع إلى الربا ، مثل بيع العينة ، وهي أن يبيع السلعة إلى أجل ثم يعود فيشتريها بسعر أقل حاضرا ممن باعه .
***السبب التاسع :
ــــــــــ
وزاد بعض العلماء أن يشتمل البيع على مالا نفع فيه ، ومثلوا له ببيع السنور ( القط ) لأنه صح النهي عن بيعه في صحيح مسلم ، وقيل إن هذا القسم يمكن أن يدخل فيما يجب بذله .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@ثالثا : شروط البيع في الاقتصاد الإسلامي :
ــــــــــــــــــــــــــ
***1 – شرط الرضى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا يصح البيع إلا عن تراض بين الطرفين ، قال تعالى :((إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )) ، ولكن ، كيف يتحقق شرط التراضي بين المتعاقدين هنا ؟؟
*** وللعلماء ثلاثة أقوال في تحقيق شرط الرضى في البيع ، وهذه المسألة مهمة ، لأنه قد جدت كثير من النوازل في هذا الزمان التي تتعلق بهذه المسألة ، فأنت مثلا تضع النقود في آلات بيع المرطبات فتخرج لك ما تريد ، فهل حصل هنا تراض بين البائع والمشتري ؟ وأيضا أنت تشتري عن طريق بطاقة الفيزا في الإنترنت ، فهل حصل هنا تراض ؟
***للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
*** أ : أن التراضي لا يحصل إلا بالقول ، أي بالإيجاب والقبول ، وهذه مشكلة في زماننا ، لأن بعض المعاملات المالية الضخمة تجري في البورصة مثلا بلا إيجاب ولا قبول لفظي ، بل عن طريق الحاسوب في شبكة عالمية دولية ، بوسائل لها قوة الإيجاب والقبول اللفظي بل أقوى منه وأوثق .
*** ب : أن التراضي يكون بالقول في الأصل ، ويجوز بالفعل في الأمور التي يكثر عليها التعاقد ، وهذا تسامح من بعض الفقهاء من أصحاب القول الأول ، ومثال ذلك أن تعطي الخباز النقود فيعطيك الخبز وكلاكما صامت ، وأن تركب سيارة أجرة والتعرفة معلومة فتدفع وأنت صامت ، وكذا ما سبق عن آلات بيع المرطبات ، فمثل هذا يسميه الفقهاء المعاطاة ، ويقولون هؤلاء إن ما كثر التعاقد عليه من الأمور الحياتية اليومية يصح البيع فيها بالمعاطاة ، ولا يشترط الإيجاب والقبول اللفظي .
***ج : أن التراضي يكون بكل ما يدل عليه من قول أو فعل ، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميه ، وكان شيخ الإسلام ذا شخصية عبقرية ، وقد كان دائما يسبق الأحداث ، فكأنه كان يعيش خارج عصره .
&&&ومن الأمثلة على ذلك ، التعاملات عن طريق البورصة كما سبق ، حيث تقع في لحظات بل ثوان ، بنظام متفق عليه بين الشركات والمتعاقدين يدل على الرضى ، فهي كلها صحيحة لا إشكال فيها ، وقد دخل في هذا الحكم ـ أعني صحة البيع بالمعاطاة في كل ما يدل على الرضى من قول أو فعل ـ كل ما يأتي الزمان به مستقبلا من صور قد نجهلها الآن .
ولكن يجب أن يسبق هذا اتفاق بين الشركات وبين البائع والمشتري على نظام محدد يعبر عن الرضى ، كرقم الفيزا على الإنترنت الذي يعبر عن صاحبه ، ولو لم يكن راضيا لم يضع رقمه عند شراء السلعة ، وفي بعض المعاملات قد تعطي هذا الرقم على الهاتف معبرا عن الرضى ، وهكذا ، فالمهم أن يكون ثمة وسيلة ما تحقق هذا الشرط بين المتعاقدين ، ولا يشترط الإيجاب والقبول اللفظي .
***2 – شرط الرشد :
ــــــــــــ
والعلماء يستثنون من اشتراط الرشد ، بيع المميز في الأمور التي جرى العرف عليها ، مثال ذلك : لو قال ولد مميز لأبيه : أنا بعت بيتنا لفلان ، فهذا لا يصح ، ولكن إذا باع الحلويات في بقالة أبيه فهذا حسب العرف يصح .
والسفيه ليس براشد فلا يصح بيعه ، والسفيه هو الذي يتصرف في ماله بطريقة تدل على أنه غير راشد فيحجر عليه ، والحاصل أنه يجب أن يكون التعامل بين طرفين راشدين ، فإن قيل فكيف بالتعامل مع الآلة ، وكيف يتحقق شرط الرشد فيها ، والجواب أن التعامل هنا في الأساس مع الشركة التي وضعت الآلة ، وليست الآلة سوى وسيلة للقبض فقط .(/4)
***3 – الشرط الثالث أن يكون المبيع مالا :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمال هو كل ما شرع الإسلام بأنه مال مباح يجوز تملكه ، فكل محرم في الإسلام هو غير محترم ، وليس بمال ، ولا يجوز التعاقد عليه وحتى لو كسرته أو أرقته لا تضمنه شرعا ، لأنه لا قيمة له كالآلات الطرب ، واشتراط أن يكون المبيع مالا ، قضية مهمة جدا في المعاملات المعاصرة .
ومن أمثلة ذلك :
ـــــــــ
&&& بيع الأعضاء البشرية ، وهو الآن سوق رائجة ، وله شركات عالمية تبيع وتشتري في الدول الفقيرة ولكل سلعة سعر ، فهل يصح هذا ؟؟ والصحيح أنه لا يصح لأن الأعضاء ليست مالا بل هبة من الله لك .
ولكن هنا مسألة مهمة , هي أنه قد عرض على هيئة كبار العلماء في السعودية قضية شراء الجثث للتعلم في الطب ، وهي ضرورة ملحة ، وهذه المسألة من النوازل ، ولهذا فلا بد من وجود علماء في المسلمين ، يكون لديهم إحاطة بأمرين مهمين :
***الأول : القواعد الشرعية العامة التي أطر الشريعة الإسلامية .
***الثاني : النصوص .
ذلك أنه فهم النص في سياق القواعد الشرعية ، يختلف عن فهمه مقطوعا عن ذلك ، فالأول يثمر الفهم الصائب ، والثاني يثمر فهما خاطئا .
فكانت الإجابة من كبار العلماء بأنه لا يجوز شراء جثة المسلم ولا استعمالها في التعليم لحرمة المسلم ، بينما يجوز استعمال جثة الكافر للتعليم من باب ارتكاب أخف الضررين ، وهذه فتوى صحيحة ، فالكافر ليس له حرمة المسلم .
&&&ومن الأمثلة على ذلك أنه لا يجوز بيع الدم لأنه نجس فهو ليس بمال ، ولا الكلب لأنه محرم والمحرم ليس بمال ، وقيل يجوز ، إن جاز استعماله
4– الشرط الرابع أن يكون المبيع ملكا للمشتري :
ـــــــــــــــــــــــــــ
وهنا مسألة قد عمت بها البلوى ، لها علاقة بهذا الشرط ، وهي أن لدينا كثير بل أكثر الناس سياراتهم ، بل بيوتهم ، وغيرها ، قد اشتروها عن طريق المرابحة في بعض البنوك الإسلامية.
والمقصود هنا ، أن بيع المرابحة ، أعترض عليه بأنه قد تخلف فيه شرط ملك البائع لما يبيعه ـ وهو البنك الإسلامي ـ وأنه لا يجوز له بيع ما لا يملكه .
ومثال ذلك : لو جاءك شخص وقال أرغب بشراء سيارة صديقك ، فقلت له بعتك ، ناويا أنك تشتريها من صديقك ثم تبيعها عليه ، وقال اشتريت ، فهذا عقد باطل ، لانه قد يأتي صاحب السيارة فيرفض بيعها لك ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع قائلا (( لاتبع ما ليس عندك )) رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه .
فهل بعض البنوك الإسلامية ، عندما تبيع سيارات أو سلع الشركات الأخرى ، هل هو يبيع ما يملك ، وما ليس عنده .
ومن المعلوم أن العميل عندما يأتي إلى البنك الإسلامي ليشتري سيارة مثلا ، يقول له البنك الإسلامي : أنا أبيعك ، ويقصد بذلك أنا أبيعك ما تختاره من السيارات الموجودة في الشركات التي في السوق ، ولكن من أين يأتي بها ؟ وهل هو يبيع ما يملك ؟
وقد حاول بعض الفقهاء أن يخرجوا البنك الإسلامي من هذا الإشكال بما يلي :
***أولا : أن يعد العميل البنك الإسلامي بالشراء ، والبنك يعد العميل بالبيع ، ويوقع الطرفان على (الوعد). ومعنى هذه الورقة الموقعة بين الطرفين بالوعد : أي : البيع لم يتم بعد ، لكن وعدناك بالبيع بعدما نشتري السلعة ، وأنت وعدتنا بالشراء منا .
***ثانيا : يجعل البنك هذه الورقة ملزمة ؟ فأنت عندما تأتي البنك الإسلامي ، وتوقع على الوعد بالشراء ، فأنت ملزم بإتمام العملية ، ويقولون هي ليست ببيع ، حتى لا نقع في إشكال بيع مالا يملك البائع ، وإنما هي وعد ، والمسلم مسؤول عن وعده ، ملزم بالوفاء به .
*** ثالثا : بعدها يعطي البنك الإسلامي للشركة ، قيمة البضاعة نقدا ، ويحولها إلى المشتري بالأقساط بربح معلوم ، فيضمن بذلك عدم تراجع المشتري عن الصفقة ، ويضمن أيضا ربحه فيها .
وقد ألف الشيخ محمد الأشقر رسالة بين فيها بطلان هذه المعاملة ، وأن إلزام العميل بالبيع عند الوعد بالشراء لا يجوز ، لانه يجعل البنك كأنه قد باع مالا يملك وحرر هناك أن الوعد لا يلزم ، وفصل القول فيه : هل يلزم الوعد بالشراء قضاء أم ديانة ؟
ومعنى ذلك أنني إذا وعدتك ، ولم اشتر ، فاشتكيت للقضاء فهل يلزمني القاضي بذلك ؟ ومعنى ديانة ، أن القضاء إذا لم يلزمني ، هل عليه إثم لو أخلفت وعدي ، وعلي التوبة .
وبين أن الوعد بالشراء هنا غير ملزم ، وأن الواجب أن يشتري البنك الإسلامي السلعة من الشركة ويملكها بعقد رسمي يكون بمثابة حيازتها ، ثم يبيعها للعميل مقسطة ويربح فيها ، وليس للبنك الإسلامي أن يلزم العميل بمجرد الوعد بإتمام الصفقة ، لان ذلك في حقيقته بيع ، وإن كانت صورته صورة وعد.(/5)
لكن المتحايلون أتوا بطريقة أخرى : وهي أن لا يقوم البنك الإسلامي بشراء السلعة ، بعقد رسمي من الشركة التي يطلب العميل سلعة منها ، ويكون العق بمثابة الحيازة ، بل يكفي الإيجاب والقبول عن طريق الهاتف ، ثم يوقع مع العميل عقد البيع ، ويبيع السلعة بالأقساط ، ثم بعد ذلك يتم البنك الإسلامي العملية مع الشركة .
ولكن هذه العلمية أيضا غير شرعية ، وإنما هو تحايل ، أرادوا به أن يفارقوا في الصورة فقط ، بين ما تجريه شركات التسهيلات الربوية ، ومعاملة البنك الإسلامي ، وقد صح في الحديث أن صلى الله عليه وسلم ((نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم )) رواه أبو داود من حديث زيد بن ثابت .
وهذا يعني أن التاجر يجب عليه بعد التملك أن يحوز السلعة إذا أراد إعادة بيعها ، وحيازة كل شيء بحسبه ، وليس معناها بالضرورة نقل السلعة إلى مكان البائع في كل الأحوال ، فقد تكون السلعة طائرات أو سفنا أو سيارات كثيرة لايمكن البائع أن ينقلها ، ولكن يجب أن تكون السلعة ، انتقلت إليه وصارت في حوزته ، مثل أن يكون ثمة أوراق رسمية لها قوة القانون تثبت أن السلعة هي في حوزة البنك ومسجلة باسمه ، بحيث لو فرض أن تراجع المشتري ، فالسلعة قد دخلت في ذمة البنك الإسلامي دخولا تاما .
وننبه هنا إلى أن من صور بيع السلع قبل حيازتها ، ما يحصل أحيانا في بيع التورق ، فعلى سبيل المثال ، نجد من هو بحاجة إلى نقود ، يذهب ليشتري كمية من الإسمنت مثلا بالأقساط ، ويوقع على الشراء ، ثم يبيعه مباشرة لمقاول بسعر أقل نقدا ، وذلك قبل الحيازة ، بل إنه لا يعرف أين بضاعته ، وهذا بيع منهي عنه ، وهو بيع التاجر السلعة قبل حيازتها ، أما إذا فصلت البضاعة ، وأخليت للمشتري ، ثم باعها المشتري للمقاول ، فهذه هي مسألة التورق التي فيها الخلاف المشهور ، ، ومن أهل العلم من يحرمها مطلقا ومنهم من يبيحها بشرط الحيازة مطلقا ، ومنهم من يبيحها بعد الحيازة للحاجة فقط .
وكلنا يتذكر أن أزمة سوق المناخ ، إنما حدثت بسبب مخالفة هذا الشر ط ، أعني شرط ملك السلعة قبل بيعها ، فقد كانت تباع أسهم شركات وهمية بالأجل ، طامعا من يشتريها أن يعيد بيعها ويحصل على الأرباح ، ريثما يحين الأجل فيقدر على تسديد الدين الذي عليه ، ولكن الذي حدث أن السوق الوهمي انهار وبقيت الديون على أصحابها ، وتحملت الدولة أزمة كبيرة جدا بقيت إلى سنوات.
*** 5 – الشرط الخامس القدرة على التسليم :
ـــــــــــــــــــــــــ
وهذا شرط أساسي ، لأنه إن لم يمكن التسليم فلن يتحقق مقصود البيع ، ومثال ذلك تحريم بيع السمك في الماء والطير في الهواء ، وبيع سلعة هي في بلاد حرب على سبيل المثال ، فلا يمكن تسليمها ، فهذا كله لا يصح .
***6 – الشرط السادس معرفة الثمن
ــــــــــــــــــــ
ويحدد ثمن السلعة بالمشاهدة أو الوصف .
***7 - معرفة المثمن ، أي السلعة :
ـــــــــــــــــــ
بالمشاهدة أو الوصف كذلك ، مثاله : إن قال بعتك سيارة وقال الآخر اشتريت لم يصح ، فلم تعرف السيارة ولا ثمنها ، ولو قال بعتك سيارة بخمسة آلاف لم يصح لعدم معرفة العملة ، فيجب تحديد الثمن ، إلا إن كانت العرف يحددها ولكن على شبكة الإنترنت مثلا يجب تحديد العملة .
والمشاهدة ، يمكن أن تكون عن طريق الوسائل التي تنقل الصوت والصورة ، ويكفي ذلك في مشاهدة السلع في البيوع ، إن كانت موثوقة ، ويبقى المشتري على الخيار إن وجد الواقع مختلفا .
ولكن هل يصح أن فيتزوج رجل في السعودية بامرأة في إندونيسيا والشهود في الكويت في مجلس واحد هو غرفة في الإنترنت ! فهل يصح العقد ؟ هذه المسألة تحتاج إلى بحث ؟
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@@رابعا : الشروط في البيع
ـــــــــــــــــــ
الفرق بين شروط البيع والشروط في البيع ، أن الشروط في البيع يقصد بها ، تلك الشروط التي يتفق عليها الطرفان البائع والمشتري ، أثناء عقد البيع ، مثال ذلك : وضع شرط جزائي على المقاول إذا لم ينه البناء خلال شهر مثلا
أو أن أبيعك سيارة وأقول لك : بشرط أن لا تبيعها حتى تنهي أقساطها ، أو يشترط الخيار في البيع لمدة ثلاثة أيام ، أو الرهن ، ونحو ذلك .
والعقود هذه الأيام ، مليئة بالشروط بسبب تعقد الحياة ، فما هي أهم أحكام الشروط في البيع .
*** قال كثير من العلماء : الشروط نوعان ، صحيح وفاسد
*** والشرط الصحيح على ثلاثة أنواع :
ـــــــــــــــــــــ
***1 – شرط من مقتضى العقد ، وهو كما يقال ( تحصيل حاصل ) ، كأن تعطيني البضاعة وأعطيك الثمن ( تسليم الثمن والمثمن ) .
***2– شرط من مصلحة العقد ( الرهن ، الشهود ، الخيار ) .
***3 – شرط البائع أو المشتري نفعا معلوما ، مثل أن يشترط البائع سكنى الدار شهرا قبل تسليمها إلى المشتري ، أو يشترط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره ونحو ذلك .(/6)
والحنابلة هنا لا يجيزون أكثر من شرط من النوع الثالث ، ويقولون إن شرط أكثر من شرط ، بطل البيع ، ولكن الصحيح أنه لا يبطل ، وله أن يشترط أكثر من شرط من النوع الثالث ، وهم قد استدلوا بحديث (( لا يحل سلف وبيع و شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولابيع ما ليس عندك)) رواه الخمسة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، إلا ابن ماجة فله منه ( ربح مالم يضمن وبيع ما ليس عندك ) وسنبين معناه قريبا إن شاء الله تعالى .
*** وننبه هنا إلى أمر مهم جدا : وهو أن كثيرا من العلماء يعتبرون الشروط في الأصل باطلة ، وهذا يسبب إشكاليات كثيرة في هذا العصر ، فالمعاملات الحالية مليئة بالشروط ، وتتم صفقات بين دول بشروط وبنود كثيرة ودقيقة للغاية ، فإذا جعلنا الأصل في الشروط أنها محرمة فهذا سيكون سببا في حرج شديد ، وسنأتي بعد قليل على هذه النقطة بمزيد إيضاح .
*** أما الشروط الفاسدة فقسمت إلى :
ـــــــــــــــــــــ
***1 – شرط يبطل العقد من أصله ، كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا أخر ، كسلف أي سلم ، وقرض ، وبيع وإجارة ونحو ذلك .
***2 – فاسد يبطل الشرط ويصح العقد ، أي يصح معه البيع ، كأن يشترط أن لا خسارة عليه ، أو متى نفق وإلا رده ، أو لا يبيع السلعة ، أو لا يهبها ، أو أن يبيعها على فلان ، أو يهبها لفلان ، فهنا عند جمهور العلماء ، يبطل الشرط وحده ، ويصح العقد ، وسيأتينا أن الصحيح صحة هذه الشروط .
***3 – ما لا ينعقد معه العقد ، كقوله بعتك إن رضي فلان ،أو إن جئتني بكذا.
*** هذا هو التقسيم المشهور ، غير أن ثمة نزاع في كثير من أنواع القسم الثاني ـ قسم الشرط الفاسد ـ ، وجمهور العلماء يجعلون الأصل في الشروط التحريم ، فلا يباح منها إلا بدليل ، ولهذا فقد جعلوا كثيرا من الشروط التي فيها مصلحة للمتعاقدين أو أحدهما ، فاسدة ، وبعضهم أجاز الشرط الواحد ومنع أكثر منه ، وكل ذلك فيه نظر .
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا يصح القول بأن الأصل في الشروط التحريم ، وقال : إن الصحيح أن الأصل في الشروط في البيع الإباحة ما لم يرد نص بالتحريم .
&&& ومثال على ذلك : لو باعك بائع السلعة وشرط أن لا تبيعها لغيرك ، إلا بعد أن تعرضها عليه ، أو اشتريت سلعة بشرط إن نفقت وإلا رددتها على البائع ، فالأصل إباحة هذه الشروط وتلزم بالعقد ، وكذلك إذا شرط المشتري على البائع أكثر من شرط ولكنها مباحة في الأصل ، كل ذلك جائز وصحيح ولازم ، لانه لم يرد نص في تحريمها .
وقد أورد العلماء القائلون بأن الأصل في الشروط التحريم عدة أدلة :
*** 1– منها حديث (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط))
*** 2– حديث (نهى عن بيع وشرط ) .
***3 – حديث (( نهى عن بيع وسلف وعن شرطين في بيع)).
ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيميه بما يلي :
*** قال رحمه الله ( القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط : الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا مادل الشرع على تحريمه وبطلانه ، نصا أو قياسا ، عند من يقول به ، وأصول أحمد المنصوصة عنه : أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه ،ولكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط ، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه .... هذا القول هو الصحيح : بدلالة الكتاب والسنة ، والإجماع ، والاعتبار مع الاستصحاب ، وعدم الدليل المنافي .
أما الكتاب فقد قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) والعقود هي العهود ، وقال تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولوكان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ) وقال تعالى ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) فقد أمر الله بالوفاء بالعقود ، وهذا عام ، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد ، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه ، بدليل قوله تعالى ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه ، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد ، كالنذر والبيع ، إنما أمر بالوفاء به ، وهذا قرنه الصدق في قوله ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ) ...وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به ن علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لامعنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره ، وحصل به مقصوده ، ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهد ، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة )(/7)
وأجاب على الاحتجاج بحديث ( ليس في كتاب الله ) بقوله : ( وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ) فالشرط يراد به المصدر تارة ، والمفعول أخرى ، وكذلك الوعد والخلف ، ومنه قولهم درهم ضرب الأمير ، والمراد به هنا ـ والله أعلم ـ المشروط ، لانفس المتكلم ، ولهذا قال : ( وإن كان مائة شرط ) أي : وإن كان مائة مشروط ، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط ، وإنما المراد تعديد المشروط ، والدليل على ذلك قوله : ( كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ، أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط ، وشرط الله أوثق منه ، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى ، وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله تعالى ، فلم يخالف كتاب الله وشرطه ...... فمضمون الحديث : ان المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة ، أو يقال : ليس في كتاب الله : أي ليس في كتاب الله نفيه ، كما قال ( سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ) أي : بما تعرفون خلافه ، وإلا فما لا يعرف كثير ) مجموع الفتاوى 29/ 132ـ161
ومعنى كلامه أن مقصود حديث ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) أي كل مشروط حرمته الشريعة ، فهو باطل ، وليس مقصوده أن كل شرط زائد على العقد محرم إلا ما كان منصوصا عليه .
*** أما الحديث الثاني : وهو حديث ( نهى عن بيع وشرط ) فهو حديث لا أصل له فلا يحتج به .
*** أما الحديث الثالث : وهو حديث ( نهى عن شرطين في بيع ) قال ابن القيم : إن الصحيح أن الشرطين في البيع هما البيعتان في البيعة ، وهو بيع العينة ، وهو أن يحتاج الشخص للنقد ، فيأتي شخصا آخر ، ويقول له : أبيعك سيارتي بثلاثة آلاف نقدا وأشتريها منك بخمسة مقسطة .(/8)
*** قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على معالم السنن بعد ذكر الأقوال في تفسير حديث ( نهى عن شرطين في بيع ) : ((فإذا تبين هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض . فنفسر كلامه بكلامه . فنقول : نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة , وعن بيعتين في بيعة . فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة " . وفي السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من باع بيعتين في بيعه فله أوكسهما , أو الربا " . وقد فسرت البيعتان في البيعة بأن يقول " أبيعك بعشرة نقدا , أو بعشرين ونسيئة " هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين . أحدهما : أنه لا يدخل الربا في هذا العقد . الثاني : أن هذا ليس بصفقتين , إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين . وقد ردده بين الأوليين أو الربا . ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا . فليس هذا معنى الحديث . وفسر بأن يقول " خذ هذه السلعة بعشرة نقدا وآخذها منك بعشرين نسيئة وهي مسألة العينة بعينها . وهذا هو المعنى المطابق للحديث . فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله , وهو أوكس الثمنين فإن أخذه أخذ أوكسهما , وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا . فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا . ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى وهذا هو بعينه الشرطان في بيع . فإن الشرط يطلق على العقد نفسه . لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط , والشرط يطلق على المشروط كثيرا , كالضرب يطلق على المضروب , والحلق على المحلوق والنسخ على المنسوخ . فالشرطان كالصفقتين سواء . فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة : وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة , وعن سلف وبيع . رواه أحمد . ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع وعن سلف في بيع فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع , ومع البيعتين في البيعة . وسر ذلك : أن كلا الأمرين يئول إلى الربا , وهو ذريعة إليه . أما البيعتان في بيعة : فظاهر , فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرطه له , كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة . ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة . وأما السلف والبيع : فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة , ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة : فقد جعل ذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل , ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك . فظهر سر قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل سلف وبيع , ولا شرطان في بيع " وقول ابن عمر " نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع " واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سلما إلى الربا . ومن نظر في الواقع وأحاط به علما فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه , ونزله عليه . وعلم أنه كلام من جمعت له الحكمة , وأوتي جوامع الكلم , فصلوات الله وسلامه عليه , وجزاه أفضل ما جزى نبيا عن أمته )) انتهى.
&&& واليوم يحدث هذا البيع ـ أعني شرطين في بيع أو بيعتين في بيعة ـ بطريق الحيلة ، فيذهب اثنان إلى البنك الإسلامي ، يقول أحدهما أريد أن أبيع سيارتي على فلان تظاهرا فقط ، ثم ترد السيارة على صاحبها بعد انتهاء المعاملة ، الهدف أن يأخذ من البنك الإسلام المال نقدا ، والبنك يقسط عليه السعر الجديد ، وهذه تسمى العينة الثلاثية ، لأنهما ادخلا طرفا ثالثا هو البنك الإسلامي ، وهذا البيع هو المقصود بالنهي عن شرطين في بيع ، أي بيع العينة ، أو بيعتين في بيعة كلها بمعنى واحد .
*** والخلاصة : أن حديث المؤمنون على شروطهم ، عام يدل على إباحة الشروط ما لم يرد نص على تحريم شرط بعينه ، وأن كل شرط غير محرم فهو ملزم والله اعلم ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح ، وإن كان فيه منع من غيره)) مجموع الفتاوى 29/169
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@خامسا : الخيار:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من حكمة الشريعة أنها جعلت للمتعاقدين الخيار بعد العقد ، حتى يكون لهما فرصة لمراجعة هذا العقد ، فقد يطرأ سبب لتغير رأي أحد المتبايعين ، أو يجد أحدهم في الصفقة ، غير ما اتفقا عليه في العقد ، فلهذا أوجدت الشريعة الحكيمة فرصة للنظر ، وذلك من خلال باب الخيار ، وقد عد العلماء أنواعه فبلغت سبعة أنواع:
***1 - خيار المجلس :
ـــــــــــــ
ومعنى خيار المجلس ، أنه إذا بيعت سلعة ، فإن للبائع والمشتري حق فسخ العقد ماداما في المجلس ، حتى يفترقا ، فكأن العقد مفتوح ، حتى يخرج أحدهما من المجلس ويتفرقا بالأجساد عن بعضهما ، مثال ذلك : اشتريت سيارة ، وأنت والبائع في مجلس واحد ، فإنه يجوز لك التراجع مادمتما في المجلس لم تتفرقا بأبدانكما .(/9)
*** فإن أراد المتبايعان أن يمضيا العقد على الفور ، فهناك طريقتان لإنهاء خيار المجلس :
الأولى : أن يفترقا بالأجساد عن بعضهما فيخرج أحدهما من المجلس .
والثانية : إسقاط شرط الخيار في العقد ، فيقول أحدهما تبايعنا ولا خيار ، فإن رضي الآخر سقط الخيار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ، مالم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) متفق عليه ، وهذا يعني أنهما إن اتفقا على إسقاط خيار المجلس سقط .
وهل يجوز للبائع تعمد مفارقة المجلس لإسقاط الخيار دون اتفاق مع الآخر ؟ الجواب : لا يحل له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم :" ... ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله " روه الخمسة إلا ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وترك المجلس ينضبط بالعرف ، فإن كانا في طائرة أو سفينة فينتهي الخيار بترك المكان الذي عقدا فيه العقد ، وإن كانا على شبكة الإنترنت فينتهي الخيار بترك المجلس على الشبكة ، فيخرج أحدهما من الغرفة في برنامج البال توك مثلا أو غيره ، وعلى أية حال فهذه المسألة بحاجة إلى بحث وهو من النوازل ، فالشبكة ـ الإنترنت ـ تجمع الناس رغم التباعد في مجلس واحد ، فهل يعد هذا مجلسا أم لا ، تحتاج هذه المسألة إلى بحث .
***2 – خيار الشرط :
ــــــــــــ
هو أن يقول أحدهما : أريد خيارا ثلاثة أيام مثلا لإتمام الصفقة لهذه السلعة ، فإن غيرت رأيي انحل العقد ، وقد يطلب هذا الشرط البائع ، وقد يطلبه المشتري ، أو كلاهما ، وهو خيار مشروع غير محدد ، فيكون بحسب اتفاقهما شهرا أو أسبوعا أو غير ذلك ، ويجب أن يكون اشتراط هذا الشرط ، في صلب العقد ، أو في مدة خيار المجلس ، ولا يصح بعد لزوم العقد ، كما يشترط أن يكون إلى أجل معلوم محدد ، كشهر مثلا .
***3 – خيار الغبن
ـــــــــــ
وهو يتعلق بالسعر ، فلو اكتشف البائع أو المشتري أنهما غبنا ، بأن يشتري المشتري بأعلى من سعر السوق ، أو البائع بأدنى منه ، فوق العادة ، فلكل واحد منهما الخيار ، فيأتي بالبينة على أنه غبن ، ويفسخ العقد أو يمسك إن شاء ، والضابط هو سعر السوق .
***4 – خيار التدليس
ــــــــــــ
فإن اكتشف المشتري أو البائع وضع شيء في السلعة يزيدها جمالا ، كعمل تلميع للسيارة مثلا ، فتظهر بمظهر غير مظهرها الحقيقي ، فيزيد ذلك في سعرها بما لا تستحقه ، ويثبت هذا الخيار بما يزيد به الثمن ، أما مالايتاثر به الثمن فلا يثبت به هذا الخيار ، مثل التغيير المتعارف عليه ، كأن يغسل السيارة لتبدو جميلة وجديدة .
فإن ثبت خيار التدليس فله خيار الفسخ ، وقد ورد في السنة ما يسمى التصرية ، وهو ترك الناقة فلا تحلب أياما ، ثم تباع وضرعها مملوء على أنها حلوب ، وعندما يحلبها المشتري أول مرة ثم الثانية يفاجأ بأنها كانت مصراة ، فهذا تدليس وغش يفسخ به العقد ، قال صلى الله عليه وسلم : (( لاتصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر )) متفق عليه .
***5 – خيار العيب :
ــــــــــــ
إن ظهر في السلعة عيب ينقص قيمة المبيع ـ وليس كل عيب ـ أخفاه البائع بعلم أو بدون علم ، ولكن تم العقد على عدم وجود هذا العيب ، فله الحق في خيار العيب بفسخ العقد أو أخذ التعويض وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب.
&&& وهنا شيء نسمعه كثيرا في حراج السيارات بقول البائع : أبيعك حديد سكراب ! فهل تبرأ الذمة هنا ؟
في ذلك تفصيل : فالواجب أن يعرّف البائع المشتري عن العيوب فلا يسقط خيار العيب إن علمها ، أما إن لم يعلم فالمؤمنون على شروطهم ، فله أن يقول أبيع حديدا ( سكراب ) : " ... فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما " .
وبعض الناس يسأل : هل يجب علي أن أذكر كل عيوب السلعة ؟ فضابط ذلك أن تجعل نفسك في مكان المشتري ، فما أحببت أن تعرفه عن السلعة فأخبر أخاك عنه كما صح في الحديث : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه ، وقد يشق ذلك على النفس لأنك تريد أعلى سعر ، فتذكر حينئذ الحديث " ... فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما " فلا تغش أخاك المسلم ، وتذكر بركة الصدق وأن الغش لن ينفعك في الحقيقية ، وإن كان نفعا عاجلا فهو ممحقة للبركة.
***6 – خيار الخلف بقدر الثمن .
ــــــــــــــــــ
فإن اختلفا بقدر الثمن فقال الأول : بعتك بمائة ، وقال الآخر : بل بتسعين ، ولا بينة أو شهود أو دليل ، فلهما الفسخ ، بعد أن يحلف البائع أولا ، ثم المشتري ، ثم لكل واحد منهما الفسخ إن لم يرض أحدهما بقول الآخر .
***7 – خيار الخلف في الصفة
ـــــــــــــــــ(/10)
على سبيل المثال ، بقول المشتري : اشتريت هذا الأثاث ، وقول البائع : بل غيره ، أو وجد السلعة قد تغيرت عما وصف له ، أو عما رآه ، وكان الفارق بين الرؤية والتسليم وقت قصير ، أو مثل قول مشتر : اشتريت سيارة كاملة المواصفات ، وقول بائع ليست كذلك ، ولا بينة بينهما ، تحالفا ثم الفسخ .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@@سادسا : الربا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*** وهو مبحث مهم للغاية ، ذلك أن الله تعالى قد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) رواه مسلم ، فتناول اللعن كل من له صلة أو علاقة بالربا ، و قال تعالى :" فأذنوا بحرب من الله ورسوله " وقال " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " ، فهذا يدل على أن الربا خطره عظيم ، وضرره جسيم .
*** هذا وينقسم الربا إلى قسمين : ربا الديون وربا البيوع .
@@@ ربا الديون :
ـــــــــــ
وهو الذي تمارسه البنوك الربوية ، وهو القرض الذي يجر منفعة ، وتقوم عليه البنوك الكبرى ، والقاعدة العامة في الشريعة " كل قرض جر نفعا فهو ربا " ، والقرض يجب أن لا يكون معه أي نفع بل بذل مجاني ، ومحض إحسان ، حتى لو كان النفع بعقد ثان مقرون بعقد القرض ، فإنه ربا ، ومثاله :
&&& نبيعك الأرض بالدين بشرط أن نكون نحن الذين نبنيها لك ، وهذا لا يجوز لأنه جر نفعا .
&&& ومن الأمثلة المعاصرة المثيرة للجدل ، بطاقة الائتمان التي فيها سحب على المكشوف بمعنى أنه لا يكون ثمة رصيد عندك ، فهم يدينونك من مال البنك ، إذا سحبت في حال لم يكن رصيدك فيه شيء ـ أو يكون لديك رصيد ولكن السحب لا يكون من رصيدك فورا وإنما من شركة الفيزا بالتعاون مع البنك ـ ثم إذا نزل راتبك ، أو لاحقا ، سحبوا منه ما أقرضوك ، وأخذوا زيادة وقالوا هذه عمولة .
ثم هم فوق ذلك ينتفعون أيضا من جهة أخرى ، حيث تبقى أموالك عندهم يستثمرونها فلو لم تكن أموالك عندهم لم يعطوك هذا الدين ، فهم إذن إنما أعطوك مقابل نفع لهم ، وهناك نوع آخر من النفع ، وهو الاشتراك السنوي لهذه الفيزا ، فلو فرضنا أن مائة ألف شخص ، دفعوا ستين دينارا ، فالمجموع هو ستة ملايين دينارا سنويا !
وهو مبلغ كبير انتفع به البنك وأعطاك بطاقة يمكن أن تستدين بها ، فهل هذا كله ، من باب النفع الذي يأتي به الدين ، وبالتالي تكون بطاقة الائتمان التي تمكن العميل من السحب على المكشوف محرمة أم هي عمولة مقابل تسهيل الوصول إلى المال في هذا العالم المعقد ، هذه مسألة نازلة اختلف فيها العلماء ، وهي بحاجة إلى بحث .
*** وعلى أية حال ، هذا هو ربا الديون ، والبنوك الربوية إنما تقوم على ربا الديون ، يودع الزبائن الأموال في صورة دين ويأخذون عليه فائدة سنوية ، وإذا أرادوا قرضا يعطيهم البنك ويأخذ فوائد فاحشة .
ومن الناس من يقول نحن نضع أموالنا عندهم ، وبعد سنة يعطوننا زيادة على أموالنا خمسة بالمائة مثلا ، فلا يوجد استغلال كما يوجد في الربا ، وإنما هي الفائدة والمصلحة ، فلماذا تحرمون التعامل مع البنك الربوي ؟؟
** والجواب أن البنك الربوي له وجهان :
وجه قبيح شيطاني .
ـــــــــ
وآخر جميل في الصورة الظاهرة فقط
ـــــــــــــــــــ
ولكل وجه نافذة يستقبل بها العملاء ، فالوجه الحسن يستقبل به من يضعون أموالهم يبتغون بذلك الفائدة ، وفي النافذة الأخرى الوجه القبيح الذي يدين به المحتاجين إلى القروض .
فمن يريد سيارة فاخرة ـ مثلا ـ أو بيتا واسعا أو يختا ، على سبيل المثال يعطيه البنك قرضا ، ويأخذ منهم فوائد عالية تصل إلى ثمانين بالمائة ! ثم يعيد يزيد الفوائد كلما تأخر السداد ، ثم يعيد الجدولة إن طلب العميل ذلك ، ويضاعف الفوائد أضعافا مضاعفة ، ولو تخلف في الدفع ذهب إلى السجن !
بينما يعطي البنك المودعين خمسة بالمائة كل سنة فقط ، فيعتقد هؤلاء أن البنك لا يصنع إلا المعروف .
وواقع الحال أن البنك الربوي إنما يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، من جهة ، ويعطي النزر اليسير منه من جهة أخرى .
ثم هو أيضا يضع أموال المودعين ، في بنوك ربوية عالمية ويأخذ عليها ، فوائد بمقدار خمسة عشر بالمائة مثلا ، ثم يعطي المودعين خمسة ويأخذ عشرة ، فالبنك الربي كالشخص الجشع ، الذي يمتص دماء الناس ، ويكون ثروة بالديون بفائدة فقط ، دون أن يسهم في توفير فرص عمل أو مشاريع .
وبتتبع التاريخ علم أن الذين أتوا بفكرة البنك الربوي ، هم اليهود وهم أهل الربا ، قال تعالى :" وأكلهم الربا وقد نهوا عنه " ، وقال : " سماعون للكذب أكالون للسحت " ، فغذاء عقولهم الكذب وغذاء قلوبهم السحت .(/11)
ويقال أن الفكرة بدأت في ألمانيا ، حين فكر اليهود هناك ، بأن التجار والمزارعين لديهم أموال يضعونها في البيوت ، فلو جمعناها في مكان واحد عندنا ( المصرف ) وحفظناها لهم ونعطيهم عليها فوائد قليلة آخر السنة ، واستفدنا من بقاءها لدينا بأن ندين المحتاجين بفائدة أعلى ونأخذ الفرق لنا .
ثم أعلنوا للناس أن لدينا أموالا للقروض ، فمن أراد أن يفتح مشروعا ويستدين فليأتنا ونضع عليه فائدة ، ثم جاء الناس يأخذون الديون ، ويرهنون البيوت وكلما تأخروا زادوا عليهم بجشع اليهود ، فإذا جاء آخر العام جاء من وضع أمواله لديهم من التجار ، فقالوا له إن مالك قد زاد زيادة خمسة بالمائة ، فيفرح بذلك ، ويبقى ماله لديهم ، وهم إنما استفادوا من ماله ، بإقراض المحتاجين بفائدة ، وجعلوها لهم ، وهكذا أصبحوا أثرياء بطريق الربا ، ثم انتشرت هذه الفكرة حتى صار الربا جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي وجعلوه مبنيا على الربا .
وهتلر في كتابه كفاحي ذكر هذه الحقيقة ، فقال أن اليهود دمروا ألمانيا بالربا والدعارة .
****وربا الديون قد يمارس بشكل واضح ، وقد يمارس بالحيل .
وثمة حيل عديدة على الربا :
ــــــــــــــــ
&&& أـ فمثلا رجل عنده شيك مؤجل بسبعين ألفا ، فتأتي شركة وتعمل كوسيط ، وتقول نحن نعطيك ستين ألفا وحول علينا الشيك الذي هو مستحق لك على الغير ، ولا تنتظر مدة التأجيل ، وهي حيلة على الربا ، فكأنهم يعطونه ستين ألفا ، ويستردوها سبعين ألفا ، وهذا هو الذي يسمى خصم الأوراق التجارية ، وهو ربا ، ولذلك لا تفعله البنوك الإسلامية .
&&& وكذلك المداينة وهي تشبه العينة – والعينة أن يبيع شخص لآخر بأجل ثم يشتري السلعة منه حالا بسعر أقل – ففي المداينة يدخل طرف ثالث ، فيشتري الأول من الثاني مؤجلا ، ثم يبيعه لثالث حالا بثمن أقل .
&&& ومن ذلك العينة الثلاثية ، وهي منتشرة بين الناس ، مثل أن يذهب اثنان للبنك فيتظاهرا بأن أحدهما باع الآخر سيارة ، ثم ترد لصاحبها ، ويأخذ قيمة الشيك ممن تظاهر أنه باع السيارة على البنك الإسلامي ، ويبقى على المشتري الأقساط التي هي أكثر من النقد الذي استلمه .
&&& وثمة حيل أخرى منها أن يبيعك شيئا مع الدين ، فيداينك مبلغا ، ويبيعك مع الدين قلما بمائة دينار والثمن مؤجل ، والقلم لا يساوي دينارا ! ويقول هذا دين وبيع وهو في الحقيقة حيلة على الربا .
&&& ومن الحيل الأخرى شركة هبتكو ، وتدعي أنها تعمل بالألبان فتأخذ أموالك وتعمل فيها وتعطيك 8% من رأس مالك الذي أعطيتهم ، إن أردت استرجاع مالك بعد الشهر الأول ، و25% في الثاني و60% في الثالث و100% بعد ثمانية أشهر .
وهذا شيء غير معقول ، ولابد أن في الأمر سرا ما ، والذي أشكل على الناس أنهم يمنحونك نسبة ، فظنوا أن هذا جائز ، وهم إنما يمنحونك نسبة من رأس المال لا من الربح فهو كالدين بفائدة ، بالإضافة أنهم يجعلون أموالهم في بنوك أوروبية تمنحهم أرباحا عالية بعد أشهر ، ومن غرائب شأنهم ، أنهم يشترطون أن لا يكون التحاكم إلا في مصر أو الكويت حيث القانون يصير من بعض الوجوه في صالح من يعلن إفلاسه ، وقد قيل أن لهم نشاطا في غسيل الأموال أيضا ، والحقيقة أنها شركة ربوية ، وأما ادعاؤها أنها تستثمر أموال المشتركين في التجارة ، فهو غطاء فقط .
@@@ربا البيوع :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وينقسم إلى قسمين : ربا الفضل ، وربا النسيئة .
ولابد أن نقدم هذه المقدمة حتى نفهم ربا البيوع بقسميه .
ربا البيوع ، هو ربا يجري عند التبايع بين أصناف محددة من الأموال ، تسمى الأموال الربوية ، وليس معنى الأموال الربوية هنا ، أي المحرمة لأنها كسب ربوي ، بل المعنى أن ربا البيوع يجري فيها إن تم التبايع فيما بينها بطريقة غير شرعية ، وحتى نعرف الطرق الشرعية للتبايع بين هذه السلع التي هي الأموال الربوية ، أولا نقسم الأموال إلى قسمين :
***أحدهما :
ـــــــ
الأموال الربوية : وهي التي يجري فيها ربا البيوع .
***الثاني :
ـــــــ
الأموال غير الربوية : وهي التي لا يجري فيها ربا البيوع ، وهي كل ما عدا الأموال الربوية .
وتنقسم الأموال الربوية إلى مجموعتين .
فلنسم المجموعة الأولى مجموعة ( أ)
*** أ – وهي تضم ما يلي :
الذهب ، الفضة ، الأوراق النقدية ، والعلة التي جمعت بين هذه الأصناف هي الثمنية أي كونها أثمانا للسلع ، ولهذا فكل عملة هي صنف مستقل ، فهذه المجموعة كبيرة العدد.
والقاعدة التي يجب أن تتبع هنا هي :
**** أنه إذا كان البيع بين نفس الصنف ( ذهب بذهب ، فضة بفضة ) وجب أن يكون الطرفان ، متماثلين بالوزن ، ووجب أيضا التقابض يدا بيد أيضا .
*** فإن عدم شرط التماثل ، سمى البيع ربا الفضل .
*** وأما إذا كان البيع بين صنفين مختلفين لكنهما من داخل المجموعة ( ذهب بفضة ، دينار بجنيه ، ذهب بدينار ، فضة بجنيه ) وجب التقابض يدا بيد ، ولا يشترط التماثل(/12)
*** وإن عدم شرط التقابض سمي البيع ربا النسيئة .
*** ولنسم المجموعة الثانية مجموعة ( ب )
وهي تضم :
*** ب – الملح ، التمر ، البر ، الشعير ( والعلة هي مجموع الكيل أو الوزن مع الطعم ، فكل ما تنبته الأرض مما يكون فيه هذه العلة فهو داخل في هذه المجموعة )
وتجري هنا القاعدتان السابقتان في التبايع داخل هذه المجموعة أيضا .
**** أما عند التبايع بين أصناف المجموعتين ، أي صنف من المجموعة ( أ) وصنف من المجموعة ( ب ) فلا يشترط التماثل في الوزن ، ولا يشترط التقابض في المجلس .
&&&فإن قال قائل : إذا أردت أن تشتري تمرا من نوع (خلاص ) مثلا بتمر رديء ، فلابد أن يختلف الوزن أو الكيل في هذه الحالة ، فنقول : بع الأول بالأوراق النقدية ، ثم ابتاع الصنف الثاني بالثمن الذي قبضته من بيع الصنف الأول الجيد حتى تخرج من الربا .
&&& وقد يقول قائل عندي ذهب قديم وأريد جديدا ، فنقول لا يصح التبايع بين الذهب والذهب إلا بالتساوي ، أو تبيع القديم بنقد ثم تشتري بالنقد الجديد ، ولو شرط البائع أن لا تشتري إلا من عنده لم يصح أيضا .
&&& وهنا مسألة مشهورة : وهي هل يجوز شراء الذهب بالفيزا إذا كانت القيمة تخصم فورا من حساب المشتري ، فنقول : نعم إذا كان يخصم فورا ، فكأنه تقابض .
وكذلك ترد مسألة الحوالات للعملات بين الدول ، فمن يريد تحويل الدينار إلى جنيه في مصر ، وتصل إلى مصر بعد يومين أو أكثر ، فهل يصح ذلك مع أننا نعلم أنه يشترط التقابض في المجلس ؟ لأنهما مشتركان في علة الربا فكلاهما من نفس المجموعة التي علتها الثمنية ؟
قال بعض العلماء أن الحوالة لا تصح ، ولكن الحاجة ملحة ، وهي حاجة عامة ، فتنزل منزلة الضرورة .
ولا ريب أن هذا صحيح ، ذلك أن بعض الدول يقوم اقتصادها على تحويل العملة من الخارج .
وقال بعض العلماء أن هذه العملية وهي الحوالة ، تتضمن صرفا أي تبايعا بين عملتين ، وتوكيلا من أحد الطرفين للطرف الآخر ، أو استئجارا له ، بالقيام بإرسال العملة التي اشتراها ، إلى بلد أخر مقابل عمولة ، فهي عملية جائزة لا إشكال فيها ، من يأخذ منك الدينار ثم يحوله إلى جنيه فكأنك قبضت الجنيه ، ثم وكلته عنك في توصيل هذا المال إلى بلدك ، وهذا تخريج صحيح ويرفع الحرج خاصة في هذا الزمان ، إن شاء الله تعالى .
&&& ومثال آخر : لديك بطاقة ائتمان ( فيزا ) وسافرت وانقطع بك السبيل ، فيمكنك أن تسحب على بطاقتك على المكشوف من عملة ثانية ، فيعطونك بالدولار ثم يأخذون من رصيدك بالدينار مع فارق العملة ويعتبرونه بيعا ، فهل حصل التقابض هنا ، ومن أهل العلم من قال إن هذه العملية ، مركبة من أن المصرف يداينك الدنانير ثم يقوم بالصرف مع البنك الذي سحبت منه بالفيزا ، ويتوكل عنك في هذا البيع ، وتستلم أنت العملة الأخرى ، ثم يأتي فيما بعد ، ويقبض دينه ، ويأخذ أجر وكالته ، فأجازوه من هذا الباب .
&&& كما أثيرت هنا مسألة شراء الذهب بالشيك ، ولكن الشيك لا يفي بشرط التقابض ، فإنه لو كان بغير رصيد لا يستفيد منه ، وإنما يحب التقابض بالمال والشيك ليس مالا بل ورقة تأخذ بموجبها المال ، ولذا فشراء الذهب بالشيكات لا يجوز .
&&& لكن بعض الناس يقول : يمكن لصاحب محل الذهب أن يتصل بالبنك ، ويتأكد من وجود صيد للشيك ، ويحجز المبلغ من رصيد العميل لصالحه ، بالاتفاق مع البنك على طريقة يتم بها ذلك ، ففي هذه الحالة نقول يجوز ، ويكون بمثابة التقابض.
**** وأما التبايع بين الأموال الربوية وغير الربوية فلا يشترط أيضا التماثل في الوزن ولا الكيل ولا التقابض في المجلس ، مثلا تشتري سيارات بأوراق نقدية ، أو تشتري ثياب بذهب ، وأكثر التبايع إنما يكون في هذه الدائرة التي لايجري فيها ربا البيوع .
**** وكذلك داخل الأموال غير الربوية
وهي كل الأموال غير الأموال الربوية ، كالخام والطابوق والسيارات والفاكهة وغيرها ، كلها لا يشترط بينها ، التماثل ولا التقابض .
&&& ويرد سؤال : هل هناك أموال نضيفها على الأموال الربوية أم هي مقصورة على هذه الأصناف الستة ؟
هناك أقوال عدة لأهل العلم :
***1 – مذهب الظاهرية أنها الأصناف الستة فقط ( الذهب ، الفضة ، البر ، الشعير ، التمر ، الملح )
***2 – قال بعض العلماء كل ما يجري فيه الكيل يضاف إلى الأصناف الأربعة البر الشعير والتمر والملح ، وقال بعضهم ما يجري فيه الوزن ، وقال غيرهم كل مطعوم .
*** 3 – وبعضهم كالأحناف زاد فقال كل خارج من الأرض .
***4 – ومنهم من قال مجموع الكيل أو الوزن مع كونها مطعومة ، فيدخل هنا في المجموعة ب : الأرز والفول والعدس والذرة والسكر والعسل والحليب ، فهي مكيلة أو موزونة مطعومة .(/13)
أما علة جريان الربا في المجموعة ( أ ) فهي الثمنية ، فكون الذهب والفضة أثمانا للأشياء أجرى فيها الربا ، ولذا قيل إن الأوراق النقدية أيضا أثمان فيجري فيها الربا ، وهذا هو الصحيح ، وقد اتفق عامة فقهاء العصر على أن الأوراق النقدية ، تقاس على الذهب والفضة ، وتجري عليها أحكامها في الزكاة والربا ، وهذا هو الصحيح الذي لا يستقيم سواه .
*** وأحكام ربا البيوع ، مأخوذة من حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى " وفي رواية " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد "، رواه البخاري هذا مع اشتراكهم في علة الربا في نفس المجموعة والله أعلم .
**** وهنا قاعدة مهمة جدا في باب الربا وهي : أن الجهل بالتماثل بمنزلة العلم بالتفاضل .
وهذا يعني أن قوله صلى الله عليه وسلم :" ... مثلا بمثل سواء بسواء " في البيع بين أفراد الصنف الواحد ، أن جهلنا بكونهما متساويين ، هو كعلمنا بتفاضلهما .
ونذكر بعض الأمثلة :
&&& المثال الأول : بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه لا يجوز .
&&&المثال الثاني : بيع الرطب باليابس من جنسه ( المزابنة ) لا يجوز .
ومثاله بيع التمر بالرطب ، والزبيب بالعنب ، فلا يجوز حتى عند التماثل ، لأنهما في الحقيقة تماثل في الظاهر ، ولكنها غير متماثلين ، فأحدهما معه من غير جنسه عندما يكون رطبا ، فإن معه الماء .
&&&المثال الثالث : بيع اللحم باللحم بعظمه لا يجوز ، وقد ورد النهي عن بيع الحيوان باللحم لهذا السبب .
ذلك أن وجود العظم يؤدي إلى عدم العلم بالتماثل ، وكذا الرطب باليابس ، فلا يعلم تساويهما ، فهو كعلمنا بتفاضلهما ، وحتى لو قلنا نزيد العنب قليلا فلا سبيل لمعرفة التماثل بالضبط .
&& ولكن هنا استثناء مهم ، وهو استثناء بيع التمر بالرطب فقط ، حيث كان التمر هو القوت الأساسي في زمن النبوة ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( والله يا ابن أختى ! إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ؛ ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله نار .قلت :يا خالة ! فما كان يعيشكم ؟ قالت :الأسودان :التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله جيران من الأنصار ، وكانت لهم منايح ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقيناه ) متفق عليه ، وتأملوا يا أخواني أولئك الرجال الذين كان أكثر طعامهم التمر والماء ، كما ورد في الأثر : (كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق، فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا، قال حميد: فقال أبو هريرة: اذهب إلى أمي وقل لها: إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص من شعير وشيئاً من زيت وملح في صحفة، فوضعتها على رأسي، فحملتها إليهم، فلما وضعته بين أيديهم، كبر أبو هريرة وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودان؛ التمر والماء، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً! فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي! أحسن إلى غنمك ، وامسح الرغام عنها، واطلب مراحها، وصل في ناحيتها؟ فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان ، تكون الثلة من الغنم، أحب إلى صاحبها من دار مروان ) رواه البخاري في الأدب المفرد ، كيف أن أولئك الرجال الذين كان هذا طعامهم فتحوا الدنيا وملئوها نورا وعلما وهدى .
والمقصود أن الرطب أحسن من التمر ، ومن الناس من لديه التمر ويريد الرطب وليس لديه نقود ، فهنا حاجة ماسة للحصول على الرطب وهي حاجة عامة .
فرخصت الشريعة ببيع التمر بالرطب في ما يطلق عليه (العرايا ) ، وهي أن يشترى التمر بالرطب على النخل ، يخرص فيجعل مقابل وزنه تمرا ، بشرطين :
الأول : الحاجة فلا تباع لغني ولكن لم يحتاج إلى أكلها رطبا لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بها لاهل الحاجة ، الثاني : أن يكون أقل من خمسة أوسق ، ولا يجوز التفرق قبل القبض أيضا .
وفي ذلك ورد حديث سهل بن أبي حثمة قال ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا ) متفق عليه .
وعن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) متفق عليه
وهنا مسالة مشهورة عند الفقهاء ، وهي مسألة ( مد عجوة ودرهم ) ويطلق عليها الفقهاء ( بيع ربوي بجنسه ، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما )
ومثاله : يبع مد تمر مثلا ( والمد مقدار من كيل ) ودرهم ، مقابل درهمين
يقول العلماء : لم يتميز ما يقابل الدرهم من جميع الدرهمين ، ولا ما يقابل المد ، وإنما الجملة مقابل الجملة ، فلاتحصل المماثلة بين الجنسين ، بما يقابل كل جنس من جنسه .(/14)
وكذلك يجري هذا الإشكال في : بيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم ؟ أو كيلو من التمر ودينار ذهب بمثلهما ؟
قال أهل العلم يحرم هذا لانه يدخل في قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل ، وحسما لمادة الربا ، فهو يفتح باب التحايل .
وقد ورد في ذلك حديث فضالة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلاده فيها ذهب ، وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير ، أو سبعة ، فقال صلى الله عليه وسلم : لاحتى تميز بينهما ، قال : فرده حتى ميز بينهما ) رواه أبو داود ، ولمسلم ( أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع حده ، ثم قال : الذهب بالذهب وزنا بوزن ) .
ولكن يوجد رواية عن الإمام احمد ـ وقد اختارها شيخ الإسلام ـ أن المفرد إذا كان أكثر من الذي معه غيره ، فإن ذلك جائز ، وكذلك إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقد سئل شيخ الإسلام عن بيع الاكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية ، مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ، بل فضة هذه الدراهم أكثر ، هل يجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟
فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء ، والجواز فيه له مأخذان : بل ثلاثة :
أحدهما : إن هذه الفضة معها نحاس ، وتلك فضة خالصة ، والفضة المقرونة بالنحاس أقل ، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين ، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسالة ( مد عجوة ) كما مذهب أبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين .
ثم ذكر حديث القلادة الآنف الذكر و قال :
وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي ، بل يخرص خرصا ، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين ، وفيها خرز معلق بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لاتباع حتى تفصل ) فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل ، لان الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون ، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله ، وزيادة خرز ، وهذا لا يجوز .
وإذا علم المأخذ ، فإذا كان المقصود ببيع دراهم بدراهم مثلها ، وكان المفرد أكثر من المخلوط ، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء ، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ، ولا هو بما يحتمل أن يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت ) مجموع الفتاوى 29/454
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@سابعا : الشركات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعل من أهم مظاهر الاقتصاد العالمي المعاصر هو الشركات ، وللعولمة علاقة وطيدة بالشركات ، ذلك أن العولمة ـ كما يقال ـ ماهي إلا مائة شركة أمريكية وغربية عملاقة ، تريد أن توحد السوق العالمي ، وتدخل أسواق العالم ، بعد أن تحطم العوائق المحلية ، تحت قانون دولية يسمى منظمة التجارة الدولية ، ولهذا فإن العولمة ، ما هي إلا استيلاء الشركات الكبرى على أسواق العالم ، وضمان بقاء الشمال الغني ثريا ، وبقاء الجنوب الفقير فقيرا ، ولهذا تقوم المظاهرات الكثيرة ضد العولمة في العالم الغربي .
والذي يهمنا هنا ، هو الشركات في الاقتصاد الإسلامي ، وهي تنقسم إلى خمسة أقسام :
1 – العنان 2 – المضاربة 3 – الوجوه 4 – الأبدان 5 – المفاوضة
ومن الممكن أن تجتمع هذه الأنواع كلها في شركة واحدة ، كحال الشركات العملاقة .
***أولا : شركة العنان
ـــــــــــــ
حيث يضع كل من الطرفين مالهما والعمل يكون أيضا بينهما ، فهي شراكة كاملة ، مثل أن يضع أحد الشريكين ، ألف دينار ، والآخر مثله ، والعمل عليهما معا .
ولها شروط هي :
1 – أن يكون رأس المال عند الحنابلة من النقدين ، وفي قول لا يشترط هذا وهو الصحيح ، فإن كان لدي عين وغيري لديه مثلها صح أن نجعلها رأس مال ونشترك في العمل معا.
2 – أن يكون كل من المالين معلوما فلا تصح بمجهول .
3 – أن يكون حاضرا لا بالذمة أو الدين .
4 – أن يكون الربح بينهما بنسبة معلومة من الربح لا من رأس المال .
فلو قال أحدهما أريد 100 دينار شهريا مثلا لم يصح ، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على أنه لا يصح أن يشترط أحدهما دراهم معلومة .
***شركة المضاربة :
ـــــــــــ
ويعرفونها بأنها دفع نقد معلوم لمن يتجر به بجزء مشاع معلوم من ربحه ، وهذا يعني أن راس المال من طرف ، والعمل من طرف آخر ، ويكون الربح بينهم وفق ما يتفقان عليه .
***والفرق بين البنك الإسلامي والبنك الربوي أن البنك الإسلامي قائم على أساس شركة المضاربة ، بينما يقوم البنك الربوي على أساس ربا الديون .
***وشروط شركة المضاربة ( حيث المال من طرف والعمل من الآخر ) :
***1 – أن يكون رأس المال من النقدين ( والصحيح أنه لا يشترط ) .
***2ـ وأن يكون راس المال معلوما .
***3 – أن يكون الربح معلوما بينهما بالنسبة بحسب الاتفاق ، كأن يكون(/15)
20% من الربح للعامل ، و80% لصاحب رأس المال على سبيل المثال.
وما اتفقا عليه من النسبة من الربح ، يلزمهما .
***والبنك الإسلامي قائم على أن المساهمين في حساب التوفير شركاء معه في شركة المضاربة ، عليه العمل ، وعليهم المال ، ثم في نهاية العام ينقسم الربح بينهما ، وفق ما اتفقا ، وكل بحسب ما شارك به .
***فالبنك الإسلامي مضارب يعطي النسبة من الربح ، لا من رأس المال كالبنك الربوي ، فإن لم يربح ، فإنه لا يوزع شيئا على المساهمين .
**وهكذا التجارة لا تخلو من مخاطر ، فإن قيل : فكيف يتقي البنك الإسلامي خطر الخسائر ، وفقدان العملاء ، والجواب : أنه كما أنك إذا أردت أن تختار موظفا لديك ، تختاره نشيطا ذكيا لديه خبرة وعلم ، فكذلك تختار البنك الإسلامي ، الذي لديه مشاريع كثيرة فإن خسر في أحدها عوض من الآخر ، ولهذا فمن النادر جدا خسارة البنك صاحب الرأسمال الكبير ، إلا بحدوث كارثة عامة كالغزو الخارجي ، أو الزلزال ، وهنا يخسر الجميع سواء البنك الربوي أو الإسلامي .
&&& ولنضرب مثلا يفرق بين تقاسم الربح منسوبا إلى رأس المال كما تفعل البنوك الربوية ، وتقاسمه منسوبا إلى الأرباح ، فشركة هبتكو مثلا ، كتب في العقد أنهم يعطون نسبة من رأس المال ، وهذا حرام مجمع عليه ، ولكن قد خدع بعض الناس بكونهم يعطون نسبة ، وقالوا أن النسبة تجوز ، ولكن النسبة هنا إنما هي من رأس المال ، فهي مبالغ محددة .
&&&وقد يقول قائل إن المضارب قد يكذب علي في قدر الربح فينقص ربحي ، بينما إذا اتفقت معه على مبلغ معين من المال ضمنت حقي ، فنقول : أنت بنيت هذا الاحتمال على كسلك وخمولك ، فتريد مالا بدون عمل ، أما أحكام الشريعة ، فهي : إما أن تثق بالمضارب ، أو تتابعه وتتأكد من صحة ربحك .
أو تعطي العمال أجرة شهرية فهم في هذه الحالة أجراء عندك ، والأموال كلها لك ، أو تأخذ نسبة من أموال المضاربة ، وغير هذا لا يجوز .
&&&فإن قال قائل : فأنا أريد أن أؤجر المحل للعمال بأجرة فهذا على احتمالين :
***الأول : أن عقد الإجارة يقع على الرخصة وهذا لا يجوز ، لان الرخصة كفالة ، وتأجير الكفالة لا يجوز .
*** الثاني : أن تشتري لهم معدات وتؤجرها عليهم بسعر السوق ، ففي هذه الحالة ، لا توجد حيلة ، ولا يجوز أن يوضع في الاعتبار حين الاتفاق على عقد الإجارة ، وجود الرخصة التجارية ، وهذا هو المخرج الشرعي .
&&& مثال : أن أشتري حافلة (باص) ، وأقول للسائق : أؤاجرك هذا الباص بمائتي دينار ، واعمل عليه كما شئت ، فهنا أصبح الباص عينا مؤجرة ، والعقد عقد إجارة لا مضاربة ، بشرط ألا تكون ثمة حيلة ، فتكون أجرة الباص في السوق 50 دينارا مثلا ، وأنت أجرت عليه بمائة وخمسين ، وباقي المبلغ مقابل الكفالة أو الإقامة ، فهذا لا يجوز ، فالشرط أن تكون أجرته مماثلة لمثله في السوق ، فإما أن تجعل العمال أجراء عندك ، أو تجعلها شركة مضاربة إذا وثقت فيهم .
***شركة الوجوه :
ـــــــــــ
ويعرف العلماء هذا النوع بأن يشترك اثنان لامال لهما في ربح ما يشتريان من الناس بذممهما ، أي بجاههما وثقة التجار فيهما ، من غير أن يكون لهما رأس مال ، إذن هذه شركة لمن ليس لديهم مال حاضر ، ولكن لهم مكانة ووجاهة وثقة بين الناس ، فهم يستطيعون أن يشتروا بوجوههم بالأجل بثقة الناس بهم ، فيشترون بضاعة إلى أجل سويا ثم يبيعونها سويا ، ويردون الدين إلى أصحابه ، ويصبح الربح لهم .
***شركة الأبدان :
ــــــــــ
ويعرفها العلماء بأن يشتركا فيما يتملكان بأبدانها من المباح ، كالحشيش ، والاحتطاب ، والاصطياد ، وهذا النوع من الشركات ليس فيه رأس مال ، فكلاهما يعمل من كسب يده ، كصيادي سمك على سبيل المثال ، يذهبان سويا وما يصيدانه يضعانه سويا ، ثم يقسمانه فيما بينهما أو يبيعانه ويقتسمان الثمن.
***شركة المفاوضة :
ــــــــــــ
وهي أن يفوض كل من الشريكين الآخر بأن يبيع ويشتري ويتصرف في سائر المعاوضات في رأس المال ، وتقبل ما يرى من الأعمال ، وهي يمكن أن تسري أيضا في الشركات كلها .
فشركة العنان قد يكون فيها مفاوضة ، وكذلك سائر الشركات السابقة .
*** والأصل أن أنواع الشركات أربع ( مضاربة ، وجوه ، عنان ، أبدان ) وقد يكون بين الشريكين عدة أنواع من الشركات فلا إشكال في ذلك ، فقد يكون بينهما عنان ومضاربة ، بأن يضع أحدهم ألفي دينار ، ويضع الآخر ألفا وعليه العمل ، وقد أصبحا شريكين بالعنان والمضاربة ، وهذا جائز لا إشكال فيه .
** وقد تجتمع الأنواع الأربعة في شركة واحدة عملاقة ، ويمكن ضبط كل المعاملات بالحاسوب ، والمقصود أنها مهما اختلطت ومهما تداخلت ، فلا إشكال فيها ، فما لم تتضمن عقودا وشروطا تخالف الشرع فهي مباحة ، والأصل في المعاملات الإباحة .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@ ثامنا : البنوك الإسلامية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/16)
***الاقتصاد الإسلامي في عامته حديث عن البنوك الإسلامية ، عن أهدافها ومصادر الأموال فيها ، وعن الخدمات التي تقدمها والأحكام الشرعية المتعلقة بذلك .
***وأصل فكرة البنوك مستوردة من غير المسلمين ، ولا آتي بجديد إن قلت إنك لو فتحت المصادر الفقهية كالمغني وروضة الطالبين والهداية والمدونة ، فلن تجد حديثا عن المصارف أو البنوك.
***غير أن المسلمين حين رأوا غيرهم ، قد أسسوا مصارف وأنها تؤدي أعمالا وخدمات ضرورية للناس ، أدركوا أن وجود بديل إسلامي للمصارف ، ضرورة لابد منها ، وذلك بأن نأخذ هذه الفكرة التي أحدثها غير المسلمين ، ونجعل منها صورة إسلامية .
*** فإن قال قائل : ألا يكون هذا من قبيل التشبه بالكفار ، فالجواب أن اتخاذ وسائل التعامل وتنظيم الحياة ، إن لم يكن لها علاقة بالعقيدة ولا كانت شعارا للكفار يميزهم عن غيرهم ، بحيث من فعله ، يكون متشبها بهم ، بل كانت شأنا عام ينظم الحياة ، ويدير شؤون الناس ، عند الكفار وغيرهم ، فإن فعله ليس من قبيل التشبه بالكفار ، والنبي صلى الله عليه وأصحابه ، سلكوا وسائل كثيرة كانت تستعمل عند غير المسلمين ، سلكوها لتحقيق أهداف الإسلام ، فلاحرج في ذلك ، لانه ليس من قبيل التشبه بالكفار المحرم في شريعتنا .
*** ولنبدأ بالحديث عن أهداف البنوك الإسلامية :
ــــــــــــــــــــــــــ
***أهداف البنوك الإسلامية ليست تقديم الخدمات فقط ، بل أعمق من ذلك بكثير ، وبعضها مرتبط بالعقيدة ، وأهم أهدافها هدفان :
***أحدهما :
ـــــــ
التخلص من التبعية الاقتصادية لغير المسلمين .
وهذا الهدف هدف أسمى للاقتصاد الإسلامي ، ذلك أن المعاملات المصرفية ، ونظام النقد ، إذا صارت مقاليده بيد غير المسلمين ، أدى ذلك إلى استعباد الأمة .
ذلك أن الاقتصاد في هذا العصر قد يدمر الدول والمجتمعات ، ويهدد الأمن والاستقرار ، وقد يؤدي إلى سحب رؤوس الأموال من بنوك الدولة فتنهار ، وقد يؤدي بالدولة إلى أن تصبح مقاليدها السياسية ليست بيدها ، وتخضع تشريعاتها بل عقيدتها لمن يسيطر على اقتصادها ، من هنا لابد من إيجاد بنوك إسلامية عملاقة ، تدير الاقتصاد في بلاد المسلمين ، وتخلصنا من التبعية .
هذه هي الفكرة الأساسية لهذا الهدف ، ويتفرع منه ثلاثة فروع :
***أولا : في المعاملات المصرفية .
ــــــــــــــــــــ
من المهم إنشاء بنوك في الدول الإسلامية ، تقوم بالمعاملات المصرفية فيما بين المسلمين ، وتؤدي الخدمات التي تحتاجها الشعوب الإسلامية ، مثل إرسال أموال للخارج أو استقبال أموال ، أو فتح اعتمادات للتجار ، وأحيانا تكون صفقات كبيرة ، فإن لم يكن هناك بنوك إسلامية فسوف يضطر المسلمون إلى أن يفتح غير المسلمين فروعا عندهم ، وحينها يصبح النظام المصرفي كله مقيدا بمعاملات غير المسلمين المصرفية ، وهذا خطر يجب تجنبه .
***ثانيا : في شؤون النقد :
ــــــــــــــــ
لا يخفى أن كثيرا منا يتساءل كيف أصبح الدولار أقوى عملة في العالم ، والجواب : أن ذلك بسبب تبعيتنا نحن في نظام النقد العالمي ، وإلا فالواجب أن يسعى المسلمون لتكون ثمة عملة إسلامية عالمية أقوى من الدولار ، أو تنافسه على الأقل .
***ثالثا : رؤوس الأموال .
ــــــــــــــــ
من أهداف البنك الإسلامي توجيه رؤوس الأموال الإسلامية إلى داخل البلاد الإسلامية واستثمارها فيها ، وإدارتها بأيد إسلامية .
الثاني من أهداف البنوك الإسلامية : جمع و استثمار رؤوس الأموال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك من خلال هذه القنوات :
*** أ - الحث على الادخار ، فالبنك الإسلامي يدعو أصحاب الأموال ، للاستثمار في المشاريع طويلة الأجل ، لينتفع بها اقتصاد الدول الإسلامية .
*** ب – الحد من التضخم ، ويحدث التضخم عندما تضعف العملة ، أي أن العملة لا توازي القيمة الشرائية داخل البلد ، فالبنوك الإسلامية ، لا تلجأ إلى خلق نقود دون مقابل ، لأنها إنما تقوم على استثمار ما لديها من الودائع دون إثراء غير مشروع ، بينما تقوم البنوك التجارية بفتح اعتمادات يسحبون عليها ، ويستفيد البنك الربوي من أضعاف المبالغ المودعة لديه ، وهذا الإنفاق الذي لا يقابله إنتاج يزيد حجم المتداول من النقد دون مقابل من السلع أو الخدمات ، ونتيجة هذا هو إرتفاع الأسعار ، ويحصل التضخم النقدي ، فالبنوك الإسلامي من أهدافها القضاء على هذه المظاهر .
*** ج – تشجيع المعاملات التجارية المباشرة بين الدول الإسلامية ، وبذلك لا تتدخل فيها بنوك عالمية غير إسلامية ، وتتحرر التجارة ويسهل التبادل ، ونقول مع الأسف الشديد إن هذه الهدف قد بدأ في أوروبا والغرب ، لا في الدول الإسلامية .
*** د – التمويل الاستثماري ، يعني أن التاجر الذي يريد مالا يفتح به مشاريع استثمارية بطرق شرعية ، يوفر له البنك هذا المال كي لا يتوجه للبنوك الربوية ويقع في الربا .(/17)
*** هـ - جمع الزكاة وتوزيعها ، ويستفيد من الزكاة التي يجمعها فيستثمر ويستفيد في هذا الجزء المهم من الاقتصاد الإسلامي .
هذه هي مجمل أهداف البنوك الإسلامية ، وإذا لم تحقق هذه الأهداف تكون قد فشلت فشلا ذريعا وتحولت إلى ظاهرة شكلية تؤدي دورا ثانويا خاليا من المضمون .
مصادر الأموال الإسلامية في البنوك الإسلامية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنقسم مصادر الأموال في البنوك الإسلامي إلى قسمين :
***1 – مصادر داخلية .
ــــــــــــــ
وهي رأس مال البنك ، والفرق بين البنك الإسلامي ، أن أصحاب رأس المال شركاء وليسوا دائنين للبنك في حالة البنك الإسلامي ، بينما هم دائنون للبنك في حالة البنك الربوي .
والمصدر الداخلي الثاني هو : الأموال المحتجزة من الأرباح (الاحتياطات) .
وذلك أنه يحق للبنك أن يحجز الأرباح ليحمي رأس المال ، فلو كان ثمة أرباح وحصلت خسارة فيما بعد ، فإن الخسارة تغطى بالأرباح ، وهذا يكون باتفاق منذ البداية بين البنك والعميل ، ولدينا في الفقه الإسلامي في شركة المضاربة ، لا يأخذ المضارب الربح حتى يأذن رب المال لأنه قد يجعل الربح في ضمان رأس المال بسبب الخسارة التي قد تحدث .
***2 – مصادر خارجية :
ـــــــــــــــ
*** أولا ـ الودائع .
أكبر مصدر خارجي هو الودائع ، فالبنك الإسلامي ، عامة أمواله ودائع للناس ، وهناك أنواع منها :
أ – الوديعة الاستثمارية : وهي حساب التوفير .
ـــــــــــــــــــــــــ
ب – الوديعة تحت الطلب : وهي الحساب الجاري .
ـــــــــــــــــــــــــــ
ج – الوديعة الادخارية : وهي أن تضع أموالك عندهم لفترة زمنية طويلة ، فتدخرها وتأخذ عليها أرباحا .
ـــــــــــــــ
د – وديعة المستندات : تضع عندهم مستندات ويأخذون عليك أجرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و لعل أكثر أموال البنك من الودائع التي وضعها الناس عنده ويتاجر بها في السوق .
*** ثانيا ـ الهبات والتبرعات .
***الخدمات التي يقدمها البنك الإسلامي وأحكامها الشرعية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عامة المعاملات التي تؤديها البنوك الإسلامية ، تدور حول هذه العقود : الإجارة ، الشركة ، القرض ، الضمان ، الوكالة ، الوديعة ، والحوالة .
وبعض المعاملات تتركب من اثنتين أو ثلاث أو أربع من هذه العقود .
ووظيفة الهيئة الشرعية في البنك أن تخرج الخدمات والمعاملات التي يقدمها البنك الإسلامي تخريجا شرعيا ضمن هذه العقود السبعة ،وربما غيرها أيضا ، بشرط أن لا يكون فيها تحايل ، ولهذا أبدى بعض العلماء رأيا وجيها هو ضرورة أن تستقل الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية عن إدارة البنك حتى لا تلجأ إلى الحيل لإباحة ما هو محرم .
***وهذه أحكام بعض المعاملات التي تؤديها البنوك الإسلامية :
&&& 1 – حفظ الودائع ، فالبنك الإسلامي يحفظ أموال المشتركين كودائع ويعطيهم أرباحا عليها إن كانت ودائع استثمارية ، وله أن يأخذ أيضا أجرة على حفظ الأموال إن كان المقصود منها الإيداع لمجرد حفظها .
ولكن لا يجوز للبنك أن يعطي فوائد ثابتة على الوديعة ، ولكن يأخذ أجرة على ما يقوم به من خدمات مصرفية .
&&& 2 – المعاملات المصرفية ، ومن أهم ما يسأل عنها الناس هذه الأيام :
ــــــــــ
( بطاقة الائتمان )
ـــــــــ
وهي بطاقة تسديد المدفوعات ، ويوجد 200 بنك في العالم في أكثر من 163 دول تصدر بطاقة الائتمان .
والإشكال الذي في هذه البطاقة أن البنك يأخذ من التاجر حسما من الفاتورة عند شراء العميل من التاجر ، وهذا الحسم ظاهره أنه فائدة ربوية مقابل إقراض البنك العميل لحامل البطاقة ، وهذا الإقراض ربا ، والبنوك الربوية تأخذ فوق هذا رسوم تأخير فيما لو تأخر استرداد القرض من العميل مع الفوائد طبعا .
وهذا الإقراض معجل بمعنى أن البنك يأخذ الفائدة من التاجر فورا ، ثم يسترد دينه من العميل بعد ذلك .
ويقول بعض العلماء لسان حال البنك أنه يقول للتاجر ( لا تكن أيها التاجر شريكا في البيع على حاملي البطاقة إلا بشرط أن تدفع عنه فائدة القرض ، ولسان حال حاملها يقول للتاجر ، أنا أشتري منك وأحيلك بالثمن على البنك ، بشرط أن تدفع فائدة القرض للبنك ) .
والإشكال الثاني أنك عندما تسحب من حسابك نقدا من بنك آخر ، فإن يخصم عليك فائدة قدرها 4% وهي فائدة على القرض .
فإن قيل فكيف يصدر البنك الإسلامي هذه البطاقة ، وكيف يسمح باستعمالها ، فالجواب أنهم يقولون إننا لا نسمح له بالسحب من بنكنا نقدا ، وأما حسم التاجر فهو عمولة مقابل منفعة تسهيل المعاملات بواسطة هذه البطاقة .
فأما البنوك الربوية فبطاقة الائتمان محرمة لأنها ربا صريح ، وأما البنك الإسلامي فلا يخلو الأمر من شبهة والله اعلم .
&&& – بيع الأسهم والسندات .
ـــــــــــــــــ(/18)
ما هو الفرق بين الأسهم والسندات ؟
السهم هو حصة في رأس مال الشركة أي تشتري جزءا من الشركة ، فتملك منها على قدر ما تملك من الأسهم ، فإن كان مصنعا ملكت جزءا من المصنع .
أما السندات فهي دين لك على الشركة ، وهو صك يتضمن تعهدا من البنك لحامله بسداد مبلغ في تاريخ معين بفائدة غالبا .
ولتوضيح ذلك نذكر هذا المثال :
& قد تحتاج شركة إلى مبلغ من المال لتمويل مشاريعها ، ونظرا لأنها لا تملك رصيدا من المال فإنها تلجأ إلى حيلة ، فتصدر سندات بالمبلغ الذي تحتاج إليه ، وتعرض هذه السندات على الجمهور لشرائها ، ويكون لكل سند فائدة ، فإذا مضت المدة ردت إليه قيمة سنداته ، واستفادة الحصول على المال .
وبيع الأسهم جائز بثلاثة شروط :
أ – أن تكون الأسهم في شركة حقيقية لا وهمية ، ومعلومة .
ب – أن لا تشتمل معاملات الشركة على غرر أو تدليس أو غش أو جهالة .
ج – أن لا يكون نشاطها في تجارة محرمة كالبنوك الربوية أو معامل الخمر أو شركات السينما .
والبنوك الربوية تتعامل ببيع السندات لكن البنوك الإسلامية حظرت ذلك ، فإصدارها من أول الأمر عمل غير شرعي ، والتبايع فيها لا يجوز أيضا ، ولا يصح لحامل السند بيعه .
&&&4 – خطابات الضمان :
ــــــــــــــــ
وهو أن يتعهد البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد ( صاحب البضاعة الذي يريد أن يبيعها من بلد آخر مثلا ) نيابة عن طالب الضمان ( التاجر في البلد الذي يريد استيراد البضاعة ويطلب من البنك خطاب ضمان لكي يطمئن ذلك التاجر المصدر إلى التعامل معه ) ، وهو نوع من التأمين النقدي ، وضمان جدية كل طرف .
والسؤال هو : عندما يمنح البنك الإسلامي خطابا لتاجر على أن البنك يضمنه ، فهل يجوز للبنك أخذ مقابل لهذا ؟ من العلماء من قال يجوز لأنه يقدم خدمة للعميل فيأخذ عمولة عليها ، ولكن الحقيقة أن خطاب الضمان هو محض إحسان لا يجوز أخذ الأجرة عليه .
هذا إذا كان خطاب الضمان غير مغطى ، بمعنى أن طالب الضمان لم يضع في البنك رصيدا يغطي المبلغ الذي طلب الضمان عليه ، أما إذا وضع ذلك ، وأخذ البنك مبلغا مقابل خدماته فقط ، فهذا يجوز ، لان البنك لم يأخذ مقابل قرض أعطاه لطالب الضمان .
&&&5 – فتح الاعتمادات المستندية :
ـــــــــــــــــــــ
والاعتماد المستندي هو أن يقوم البنك بدفع مبالغ نقدية لمصدر البضاعة بناء على طلب العميل ، فهو إذن وسيلة لتنفيذ الوفاء بالثمن بين البائع والمشتري .
فإن كان البنك يدفع من ماله كأنه يقرض العميل ، ثم يأخذ منه بعد ذلك ويزيد فائدة فهذا هو الربا بعينه ، وإن كان يأخذ مقابل ما قام به من خدمات من الاتصال بين الطرفين وتسهيل وصول البضاعة ، فأخذ الأجرة على ذلك جائز ، ولكن الإشكال فيما لو كان المبلغ الذي يعطيه البنك للتاجر في الخارج ( مثلا ) نيابة عن العميل ، غير مغطى من العميل ، بمعنى أن العميل لم يضع عند البنك رصيدا ، ثم يقول البنك أنه أخذ عمولة أتعاب ، ولكنه في الحقيقة يجعل دفع العمولة حيلة على أخذ فائدة على الربا ، ونقول الضابط هنا هو : اعتبار ذلك بأجره المثل ، فإذا كانت تلك الأتعاب و الخدمات ، أجرة مثلها تلك العمولة التي يأخذها البنك كان بها وإلا فلا يجوز والله أعلم .
&&&6 – بيع العملات :
ـــــــــــــ
إذا تعامل البنك الإسلامي بالعملات ، يجب عليه أن يراعي شرط التقابض عند التبايع بين العملتين حتى لا يقع في ربا النسيئة .
&&&7 – التحويلات :
ــــــــــــ
ويجوز للبنك الإسلامي أن يأخذ عمولة على التحويلات وذلك مقابل الخدمات ، التي يقدمها ، ويستفيد كذلك ربح التجارة في العملة عند التحويل إلى الخارج بعملة مختلفة .
&&& 8 – الشيكات والكمبيالات والسند الإذني :
ــــــــــــــــــــــــــ
** الشيك ، هو أمر من العميل إلى المصرف ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري .
** أما الكمبيالة فهي مثل الشيك ولكن الكمبيالة قد لا يكون السحب من بنك ، بل من غيره ، كما أن الشيك أمر بالدفع في الحال ، أما الكمبيالة ففي وقت معين.
** أم السند الإذني فهو يكون بين اثنين يكتب فيه أن عليه دين لفلان ويتعهد بدفع مبلغ وقدره كذا في تاريخ معين ، فالسند الإذني هو بين اثنين ولا يوجد بنك هنا .
ويتفق السند الإذني مع الكمبيالة في أن السداد في تاريخ معين ، ولكن السند الإذني لا يوجد بنك ، والكمبيالة يوجد .
ويتفق الشيك والكمبيالة في وجود طرف ثالث يصرف ، ولكن في الكمبيالة قد يكون البنك وقد يكون غيره ، وفرق أخر أن الشيك يصرف فورا .
ومثاله أن يأتي البنك الربوي ويقول لمن عنده شيك ب 60 ألف مثلا ، خذ 50 ألفا معجلة ، وأنا أحصل الشيك ويكون الباقي لي ، وقد يقول البنك الإسلامي لماذا لا أمارس عملية خصم الأوراق التجارية كالكمبيالات والسندات الإذنية والشيكات ، وهذا لا يجوز للبنك الإسلامي التعامل فيه، لانه ليس سوى حيلة على أكل الربا .(/19)
ولكن لو فرضنا أن الشيك أو السندات التجارية على البنك الإسلامي نفسه ، فهل يجوز له أن يعجل السداد مقابل أن يسقط العميل بعض الدين ، والأصح أنها هذا جائز ، لأنه من الصلح عن المؤجل ببعضه حالا ، أو ( ضع وتعجل ) .
وأما إن كان على غير البنك ، فلا يجوز للبنك أن يمارس عملية خصم الأوراق التجارية ، لان ذلك من الربا .
ويجوز للبنك أن أخذ عمولة على تحصيل الأوراق التجارية ، بمعنى أن يقوم نيابة عن العملاء الذين يريدون تحصيل أموالهم ، بأتعاب المتابعة وإرسال الإخطارات والإشعارات بالسداد .. إلى آخره ، ويجب أن تكون هذه العمولة تناسب الجهد المبذول ، بمعنى أن تكون بأجرة المثل .
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
@@@تاسعا : أحكام بعض العقود والبيوع المعاصرة
***عقد التأمين :
ـــــــــــ
عقد التأمين التجاري ، من عقود الغرر ، وهو عقد محرم لاشتماله على غرر كثير ، وقد ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ) رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه ، لان العميل لا يدري هل سيقع له حادث ، فيأخذ اكثر مما أعطى الشركة ، أم يذهب عليه ماله سدى لأنه لم يقع عليه حادث ، وهذا غرر كبير يوجب تحريم العقد .
وقال بعض الناس إنه جائز واستدلوا بأن الأصل الإباحة ، والشركة هنا تأخذ مقابل الضمان ، مثل رجل يقول لآخر أسلك هذا الطريق ، فإن حدث لك مكروه فأنا أضمن لك ، فعليه الضمان ، وقيل إن هذا هو مذهب الحنفية :
والرد عليهم : إن هذا ليس مذهب الحنفية ، بل الحنفية يضمنون إذا كان السبب في هلاك ماله بأن غره حتى سلك الطريق المخوف .
وأن الضمان في الشريعة الإسلامية إنما يكون بهذه الأسباب :
1ـ العدوان
2ـ التسبب بالإتلاف ( حفر بئر في طريق الناس )
3ـ وضع اليد التي ليست مؤتمنة سواء عادية مثل يد الغاصب أو ليست عادية مثل يد البائع ، فالمبيع يبقى بيد البائع يضمنه ، والمقصود بـ "ليست مؤتمنة" هنا أي ليس لها حكم الأمانة ، وليس معناه أنها خائنة ، حيث الأمانة غير مضمونة بيد الأمين ما لم يفرط
4ـ الكفالة .
وفي التأمين تلتزم الشركة بالتعويض بغير هذه الطرق الأربعة ، وإنما بعقد الغرر الذي وقعته مع العميل ، فهذا لا يجوز .
وقد وضع العلماء له بديلا هو التأمين التعاوني .
*** فما هو التأمين التعاوني :
ـــــــــــــــــ
هو أن يجتمع عدة أشخاص معرضين لأخطار متشابهة ويدفع كل منهم اشتراكا معينا وتخصص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه الضرر .
وهنا أمر مهم وهو : أنه إذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استردادها ، وإذا نقصت طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز ، والهدف هو التعاون على تحمل المصيبة .
وهو جائز لأنه قائم على مبدأ التكافل وليس بيع الغرر .
***التسعير :
ـــــــ
قال ابن القيم ( التسعير منه ما هو محرم ، ومنه ما هو عدل جائز ، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بشيء لا يرضونه ، أو منعهم مما أباح الله لهم ، فهو حرام ، وإذا تضمن العدل بين الناس ، مثل إكراههم على المعاوضة ، بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من اخذ الزيادة على ثمن المثل فهو جائز بل واجب ) .
***بيع السفتجة :
ــــــــــ
السفتجة هي أن يعطي مالا لآخر بشرط القضاء في بلد آخر .
ولها ثلاث صور :
الصورة الأولى :
ــــــــ
أن يعطي الرجل مالا لشخص دينا ، لكي يسدد الدين إلى ثالث في بلد آخر ، ففي هذه الحالة المسافر أخذ الدين .
الصورة الثانية :
ـــــــــ
المسافر يعطي الدين ، ويأخذ بدله في بلد آخر من طرف ثالث ، لأنه يخاف من وجود المال معه بالطريق .
الصورة الثالثة :
ــــــــ
لا يوجد طرف ثالث وإنما يأخذ من نفس الذي أعطاه في بلد آخر .
وقد اختلف العلماء في حكمها ، فقيل إنها لا تجوز لأنها قرض جر نفعا ، الصحيح أنها جائزة لان النفع هنا ليس زيادة مال .
***بيع الدين :
ــــــــ
بيع الدين له صورتان :
الصورة الأولى:
ـــــــ
أن يكون على شخص دين قدره ألف دينار مثلا ، فيتفقان مع الدائن على أن يأخذ بدله سيارة مثلا حاضرا ، فهذا جائز لا إشكال فيه .
أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية واستدل بحديث ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدنانير ، وآخذ مكانها الدراهم ، وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير ، فقال عليه السلام : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكم شيء ) رواه أحمد وأبو داود .
الصورة الثانية :
ــــــــ
أن يكون على شخص دين قدره ألف دينار مثلا ، فيتفق على أن يأخذ بدله ألفي صاع من البر بعد سنة .
فقال الجمهور لا يجوز ، لحديث ( نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ) رواه الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وقالوا أجمع العلماء على تحريم بيع الدين بالدين .(/20)
وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى الجواز ، وقال ابن القيم رحمه الله : ليس في تحريم بيع الدين بالدين نص ولا إجماع ، وإما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ ، ومعناه بيع المؤخر بالمؤخر، كما لو أسلم شيئا في الذمة وكلاهما مؤجل .
***بيع الخلو :
ـــــــــ
وله صور أيضا
الصورة الأولى :
ـــــــ
أن يأخذ المالك بدل الخلو من المستأجر ، لأنه بحاجة إلى المال ليوسع العقار مثلا فهذا جائز لأنه بيع جزء من المنفقة مجردا .
الصورة الثانية :
ــــــــ
أن يأخذ المالك بدل الخلو من المستأجر بسبب أن القوانين تحد من حقه في إيجار عقاره بأجرة المثل ، وتلزمه بتسعيرة جبرية ، أو تحد من حقه في إخلاء الساكن عند نهاية المدة .
ويكون أحيانا أن أسعار الأجرة تغيرت بسبب التضخم النقدي للعملة الورقية .
فيلجأ المالك لأخذ الخلو ليعوض ، وهذا جائز أيضا لأنه إنما هو جعل لتمكين المستأجر من العقار ، أو هو جزء من المعاوضة على المنفعة ، لكنه جزء منفصل فقط .
الصورة الثالثة :
ـــــــ
العكس ، وهو أن يأخذ المستأجر بدل الخلو من المالك ، وذلك في حالتين :
أـ مقابل ترك المستأجر العقار ، لأنه بقي له مدة من العقد فهو يعاوض عليها .
ب ـ مقابل أن المستأجر أعطى لمالك سابق الخلو ، فيقول له المالك الجديد أخرج وأنا أعطيك مقابل ما دفعته وخروجك .
وهذه معاوضة مشروعة في الحالتين .
الصورة الرابعة :
ــــــــ
أن يأخذ المستأجر بدل الخلو من مستأجر لاحق ، وذلك في حالتين أيضا :
أـ أن يكون ثمة بقية في مدة العقد ، فيقول الجديد تنازل لي وأعطيك عوض فهذا جائز .
ب ـ أن تكون القوانين تجيز للمستأجر القديم أن يجبر المالك على تجديد العقد كلما انتهى ، فيقول المستأجر الجديد أن مستعد أن أتنازل عن هذا الحق أنني يمكنني إجبار المالك تجديد العقد لي ، وأدع لك العقار مقابل عوض ، مع فهذا لا يجوز ، لأنه عاوض على حق غير شرعي .
***استفادة البنوك الإسلامية من عقد السلم :
ـــــــــــــــــــــــــ
السلم هو بيع موصوف في الذمة كما بينا سابقا ، بمعنى أن المشتري يعطي الثمن مقدما ، على أن البائع يأتي بسلعة موصوفة بالذمة غير موجودة الآن ، في وقت يتفقان عليه ، ولابد من تحديد الوقت ، ولابد من تسليم الثمن في مجلس العقد كاملا من غير تأجيل شيء منه .
ويستفيد البائع الحصول على تمويل نقدي عاجل ، ويستفيد المشتري انه غالبا يشتري بأقل من السعر في وقت حصول السلعة ، مثلا لو اشترى 100 صاعا من التمر بعقد سلم ، فإنه يحصل عليه بأقل من سعره عندما ينزل السوق في وقته المعتاد .
ويشترط أن لا يكون عقد السلم على أمرين يجري بينهما ربا النسيئة ، فلا يجوز بين الذهب والفضة ، أو بين العملات وبعضها ، لأنه يؤدي إلى الربا .
والبنوك الإسلامية تجري عقد السلم في أمور ، فما هو حكمها :
الصورة الأولى :
ــــــــ
أن يشتري البنك الإسلامي سلعا بطريق السلم وتكون أرخص عليه ، فإذا أخذها في الوقت المتفق عليه ، وكل شركة تجارية أن تسوق له السلعة مقابل نسبة من الربح ، ويمكن للتجار أن يتولوا العملية من أولها ، فيدفعون الأثمان المقدمة ، ويقبضون السلعة في وقتها ، ويسوقونها ، مقابل النسبة .
وهذا جائز لأنه توكيل مقابل أجر ، وفيه إشكال واحد وهو مسألة ( قفيز الطحان ) .
وهي مسألة مشهورة ، وصورتها أنك تعطي الطحان )كيلو) شعير ليطحنه وتقول له أجرتك هي ربع كيلو منه ، وحرمها بعض العلماء وقالوا ورد حديث ( نهى عن قفيز الطحان ) رواه الدارقطني ولكنه حديث ضعيف ، وقالوا لأنه يحصل استحقاق طحن قدر الأجرة لكل واحد منهما على الآخر ، والصحيح جوازها لعدم الدليل على التحريم .
الصورة الثانية :
ــــــــ
أن يشتري البنك الإسلامي من تاجر بطريق السلم ، ويوكله في أن يقوم البائع بتسويق البضاعة بنفسه .
وهذه مسألة خطيرة لأنها تفتح باب الربا ، ويصير كأنه تمويل بقرض مقابل فائدة ، ويكون عقد السلم صوريا فقط .
الصورة الثالثة :
ــــــــ
أن البنك الإسلامي يبيع للبائع نفسه بعد تمام الأجل ، بمعنى أنه بعد حلول الوقت المتفق عليه لتسليم البضاعة ، يقول البنك للعميل الذي باعه السلعة ، أبيعها عليك مرة أخرى ، فهذا يجوز ـ مع أنه بيع قبل القبض ـ بشرط أن يكون السعر الجديد يوم التوفية ، بمثل القيمة السابقة أو أقل ، حتى لا يربح المشتري ما لم يضمن ، وهذا الرأي هو اختيار ابن تيميه وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد ، لأنه في هذه الحالة لا يكون متهما بقرض جر نفعا ، فإن قيل لا يستفيد البنك شيئا إن باع بنفس القيمة السابقة أو أقل ، قلنا : إذن لا يجوز له أن يفتح بابا إلى الربا بالتحايل .
الصورة الرابعة :
ـــــــــ
أن يبيع البنك الإسلامي البضاعة في السلم لطرف ثالث قبل قبضها ، وهذا لا يجوز لورود النهي عنه .
الصورة الخامسة :
ـــــــــ(/21)
السلم المتوازي ، وهو أن يقوم البنك الإسلامي ، ببيع طرف ثالث ، غير الذي عقد معه عقد السلم الأول ، يبيع مع هذا الجديد بنفس المسلم فيه في العقد الأول ونفس مواصفاته ، ولكن ليس عين البضاعة الأولى ، ويتسلم الثمن مقدما ، فإذن هو سلم الأول مبلغا ، واستلم من الثاني مبلغا ، ويكون الثاني أعلى حتى يستفيد ، فإذا جاء الأجل استلم البضاعة من الأول ، وأعطاها للثاني ، فهل هذا يجوز ؟؟
لا حرج في ذلك ، لانهما عقدان شرعيان لا يوجد فيهما محظور شرعي .
وهنا صورة مهمة ، وهي هل يجوز للبنك الإسلامي أن يحول الديون التي له على بعض العملاء ، ثمنا للسلم ، ويكون في هذه الحالة طبعا الثمن رخيص جدا ، فهذا لا يجوز لأنه بيع الكالئ بالكالئ .
***الاستصناع :
ـــــــــ
الاستصناع هو أن يطلب طرف من آخر شيئا لم يصنع بعد ، ليصنعه له طبقا لمواصفات محددة بمواد من عند الصانع ، مقابل عوض محدد .
والمهم لدينا هو ما يسمى :
الاستصناع المتوازي :
ــــــــــــ
وهو أن يأتي طرف إلى البنك الإسلامي ، ويعقد معه عقد استصناع ، ثم يذهب البنك إلى المختصين بالصناعة ، ويستصنع نفس الشيء عندهم .
فإذا تسلم البنك البضاعة المستصنعة ، سلمها لطالبيها ، فهل هذا يجوز ؟
نعم يجوز ذلك بشرط أن لا يتحول عمل البنك إلى عمل صوري ، بمعنى أن المشتري يقوم بالاستصناع الثاني أيضا ويشرف عليه ويقبض السلعة ، ويكون دور البنك فقط هو التوقيع على الأوراق ، فكأنه أقرض بفائدة بطريق الحيلة .
*** اشتراط الصيانة على المستأجر :
ــــــــــــــــــــ
ابطل عامة الفقهاء أن يشترط المؤجر على المستأجر أن تكون الصيانة على المستأجر ، واحتجبوا بأن لان جزء من الأجرة مجهول المقدار فلا يصح للجهالة .
ولكن قد ورد سؤال وهو : في هذا العصر ، الآلات والمعدات تحتاج إلى صيانة مستمرة ، وقيام البنك الإسلامي بذلك عسير جدا ، فهل هناك مانع من اشتراط البنك عند تأجيرها أن يقوم المستأجر بصيانتها .
وأجاب بعض العلماء بأن ذلك يجوز بشرط أن يتفق المؤجر والمستأجر أن يقوم المستأجر بالصيانة وكيلا عن المؤجر على أن يرجع على المؤجر بعد ذلك بالتكاليف ، أو يخصمها من الأجرة .
***الإجارة المنتهية بالتمليك :
ـــــــــــــــــ
صدر قرار هيئة كبار العلماء بتاريخ 6/11/1420هـ ، بأغلبية أعضائها ، أن عقد الإيجار المنتهي بالتمليك غير جائز شرعا ، وعدد أعضاء الهيئة 19عضوا ، وخالف ثلاثة منهم فقط .
والإشكال على هذا العقد أنه بيع في الحقيقة وليس إجارة ، وإنما جعل في صورة الإجارة حيلة بقصد استرداد البائع السلعة إن عجز المشتري عن دفع بقية الثمن ، فهما عقدان متضادان في عقد واحد ، لان العقد إن كان بيعا فالعين لا ترجع إلى البائع ، وإن كان إجارة رجعت إليه ، فالحكم متناقض .
ولان في هذا العقد يجمع البائع بين العوض والمعوض في حالة انفساخ العقد ، وهذا غير جائز ، لانه يجمع بينهما في حال يكون البائع أخذ أكثر من حقه .
وقد قيل إن عقد الإجارة المنتهية بالتمليك ، هو في الحقيقة بيع بالتقسيط ، غير أن هذا لو صح لكان العقد يتضمن شرطا يبطله ، لان معناه أنه بيع مع اشتراط احتفاظ البائع بملكية السلعة ، وهذا يناقض مقتضى العقد ، فهو باطل .
كما قيل إنه عقد إجارة مع شرط البيع في نهاية الإجارة ، والجواب على هذا أن نقول ليس هو بيعا حقيقيا بل حيلة لاحتفاظ البائع بالسلعة ، الأمر الذي ينافي مقتضى العقد ، وإنما جعل في صورة الإجارة بشرط البيع فقط ، ولهذا فالبيع لا يكون بسعر السلعة في السوق .
وكذا لو قيل إنه عقد إجارة مع شرط الهبة ، لان الهبة هنا لها مقابل في سعر السلعة ، وهذا يجعلها بيعا ، تجري عليها أحكام البيع .
والقول نفسه في تخريجها على أنها عقد إجارة مع الوعد بالبيع أو الهبة ،لان الوعد الملزم هنا ليس سوى حيلة والتفاف .
والخلاصة أن عقد الإجارة المنتهية بالتمليك في صورته المنتشرة غير صحيح .
ويجوز أن يبيع التاجر السلعة بسعر السوق عند نهاية عقد الإيجار ، أو يجعله عقد بيع ويرهن السلعة بالثمن ، أو يشترط البائع منع المشتري من التصرف فيها حتى ينهي أقساطها ، كما تفعل بعض البنوك الإسلامية ، فإنها تكتب على رخصة السيارة أنها مطلوبة بالأقساط ، فلا تسجل في نظام المرور بغير اسم مالكها حتى ينتهي من أقساطها ، ويعطيه البنك شهادة أنها أنهى أقساطها ، هذه حلول شرعية بديلة عن عقد الإجارة المنتهية بالتمليك والله اعلم .
***المزارعة والمساقاة :
ــــــــــــــ
المساقاة هي دفع شجر له ثمر مأكول إلى آخر ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره ، والمزارعة وهي دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه بجزء مشاع معلوم من الزرع ، كنصفه أو ثلثه .(/22)
وقد أجاز الحنابلة المساقاة و المزارعة بجزء معلوم من الثمر ، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها ، رواه الجماعة ، وردوا على دليل الجمهور بأنهما عقدان محرمان إن كانت أجرة العامل جزء من الثمر ، والدليل هو ( نهى عن المخابرة ) وفي رواية ( نهى عن المزارعة ) رواه مسلم من حديث الثابت بن ضحاك .
رد عليه الحنابلة : بأن المقصود هو النهي عن تحديد جزء من الأرض يكون ثمره للعامل ، فقد لا ينبت هذا الجزء المحدد ، وينبت غيره ، والدليل على هذا التفسير ، حديث رافع بن خديج قال : ( كنا أكثر الأنصار حقلا ، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ، ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ) متفق عليه
والله اعلم .(/23)
تيه بني إسرائيل طارق مصطفى حميدة*
يلاحظ من له أدنى اتصال بالقرآن الكريم كثرة القصص والأخبار التي تتحدث عن بني إسرائيل، ولا شك أن لذلك حكماً عظيمة، من أهمها حكمتان: الأولى: علم الله الأزلي بأنه سيكون بين هؤلاء القوم وبين اتباع محمد صلى الله عليه وسلم صراع طويل مرير ابتداء من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حيث يهود بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة… وحتى قبيل القيامة، من ضمن ذلك الصراع، الصراع على الأرض المقدسة وما بعده حيث يكون اليهود هم اتباع المسيح الدجال كما ورد في الحديث الشريف… وإذا كان الأمر كذلك فلا بد للمسلمين من معرفة نفسيات أعدائهم ومكائدهم ومؤامراتهم ليكونوا منها على حذر … وليعرفوا كيف يتعاملون معهم في جو الصراع هذا .
والثانية – أن المسلمين مثل بني إسرائيل من حيث أن لكل من الفريقين رسولاً، ولقد كان دأب وعادة بني إسرائيل تكذيب الرسل وعصيان الأوامر ومخالفة النواهي فحقت عليهم العقوبات الشديدة واللعنات العظيمة، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله … وغير ذلك من العقوبات … وذكر هذه القصص والأخبار في القرآن فيه تحذير للمسلمين أنهم إذا فعلوا مثل صنيع بني إسرائيل ، فسيحل عليهم مثل عقوباتهم… والقصة التي بين أيدينا تظهر الحكمتين معاً ، إضافة إلى عبر ومواعظ وفوائد أخرى .
قال سبحانه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ\" (المائدة21،22) .
لقد نجى الله تعالى موسى وقومه من فرعون وجنوده ..وسار بهم موسى حتى مشارف الأرض المقدسة .. وهناك ذكّرهم بنعم الله عليهم كي يشكروه ويطيعوا أوامره ، فإن شكر النعم مدعاة المزيد، وكفرها مدعاة للسلب والزوال : قال تعالى "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم:7) .
فلقد ذكّرهم موسى عليه السلام بنعم في غاية الأهمية والعظمة ، أولها : أن الله جعل فيهم أنبياء فجعل قادتهم من المعصومين عن الهوى والميل والمنزهين عن الأغراض والمطامع والتآمر على قومهم .. في حين ابتليت شعوب كثيرة بزعماء أشقياء فذاقت الويلات وجنت الهزائم.
ونعمة أخرى ذكّر بها موسى قومه هي أن الله تعالى جعلهم ملوكا فأصبحوا أحراراً يملكون أنفسهم وأموالهم وقرارهم بعد أن كانوا عبيدا، والمفروض أنه لا يعرف طعم الحرية إلا من ذاق العبودية والهوان.
والنعمة الثالثة هي أن ربكم قد آتاكم من فضله وعطائه ما لم يؤت أحداً منه العالمين في زمانكم.. كل هذه النعم تقتضي منكم يا بني إسرائيل شكراً خاصاً ولكن كيف تشكرون: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ " (المائدة:21). إنها الطاعة لأمر الله تعالى يكون بها شكر نعمه، وهذا الأمر وكل أوامر الله فيها المصلحة للمأمور أولا وأخيرا.. ادخلوا الأرض المقدسة ولتكن فيها السيادة الكاملة، طبقوا فيها شرع الله وأقيموا دولتكم عليها ولتذهب إلى الأبد حياة العبودية.. إن أولى الناس بالأرض المقدسة الأنبياء وأتباعهم، لإقامة شرع الله وعدله، دون اعتبار لنسب أو جنس أو لغة أو لون .
وقد كتب الله لكم أن تدخلوها ـ أي أمركم بدخولها ـوإياكم أن ترتدوا على أدباركم رجوعا عن التوحيد وجبناً عن مواجهة الأعداء فيكون هذا الانقلاب والجبن خسراناً لكل هذه النعم ومنها الأرض المقدسة " وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ" (المائدة:21) ، فماذا كان ردهم ؟
" قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" (المائدة:22).(/1)
لقد اعتادت نفوسهم الذل والمهانة والعبودية كالمريض الذي لا يحب العافية، وها هم يخفقون في أول امتحان يكشف عن الجبن المتأصل في نفوسهم.. والخور الذي أشربته قلوبهم، ويعلنون أنه لا قبل لهم ولا طاقة بقتال القوم الجبارين الذين يسكنون الأرض المقدسة ـ والجبار يطلق على الطويل القوي المتكبر القتّال بغير حق والعاتي المتمرد ـ إن كسب الحروب والمعارك لا يحسمه كثرة عدد ولا عدة ولا طول ولا عرض " كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة:249) . لكن الجبان يرى الأرنب أسداً، والشجاع يرى الأسود أمامه أرانب وفئرانا … ومن هنا فلا ضرورة لما أفاض فيه المفسرون من الحديث عن طول هؤلاء القوم الجبارين وشدتهم وجبروتهم وضخامتهم ، وكل ذلك لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة. إنها فلسفة الجبن ولا شيء غيرها .
وهم لا يكتفون بهذا، بل يعلنون أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها أهلها … وكأن سكان البلاد الأصليين سوف يقولون لهم تفضلوا واسكنوا أرضنا ونحن خارجون إلى غيرها، دون قتال ولا جهد … إنها فلسفة الشعوب الجبانة التي ترفض دفع ثمن العزة والحرية، فتدفعها أضعافاً مضاعفة مع الذل والعبودية والهوان … فإما أن تطلب الأمة الموت فتوهب لها الحياة، وإما أن تحرص على الحياة الدنيا، وتكره الموت وتفرّ منه … فيلقى في قلوبهم الوهن وتموت شر ميتة.
وهاهنا ملاحظة عن بني إسرائيل وهي الجبن الشديد الذي ظل ملازماً لهم حتى عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم - وما بعده بالطبع – واستمع إلى قوله تعالى "لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ" (الحشر13،14) .
ونعود إلى سياق الآيات الكريمة:
"قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (المائدة:23) . إن من نعم الله على الشعوب حتى في حال جبنها وخورها أنها لا تعدم وجود رجال أنعم الله عليهم بالطاعة والشجاعة. وهاهنا يقف رجلان أنعم الله عليهما بشيء من الشجاعة والإيمان خلافاً لقومهم الذين يخافون، ثم يطلبان من القوم الهجوم والمباغتة للسكان مما يرفع معنويات المهاجم ويضعف معنويات المدافعين فيكون النصر بإذن الله … فهو سبحانه ما دام قد أمر بدخول الأرض المقدسة فإنه بلا شك سييسر ويسهل أمر الدخول وما عليهم إلا الاستجابة، والنصر من عند الله. فإن تهجموا فإنكم غالبون ولتتوكلوا على الله إن كنتم مؤمنين، فإن معكم القوة العظمى التي لا يهزم من يعتمد ويتوكل على صاحبها ، على الله ذي القوة المتين … وإنكم إن تكونوا مؤمنين فإن الإيمان لا يجتمع مع الجبن والخور، وإنما المؤمن كله شجاعة وإباء لا يرضى بالضيم ولا يخنع للذل .
إن مقارنة بسيطة بين بني إسرائيل والمسلمين تؤكد تميُّز هذه الأمة بالخير الباقي فيها إلى يوم القيامة ، فبنوا إسرائيل وبرغم وجود رسولين معهم، لم يزد عدد الشجعان منهم الذين أنعم الله عليهم عن اثنين … أما المسلمون فبرغم خمسة عشر قرنا تفصلهم عن رسولهم فإن نعمة الله فيهم واضحة، فأنت ترى مقدار التضحية والفداء والشجاعة عند الشعوب الإسلامية خاصة الفلسطينيين الذين يواجهون بصدورهم العارية رصاص يهود … مما يبشر بقرب التحرير والنصر.
ولكن ، هل استجاب بنو إسرائيل لنصيحة الرجلين ؟(/2)
لقد تجاهلوا هذا النداء وصاحبيه وتوجهوا بالحديث إلى موسى عليه السلام متغافلين عن وجود الرجلين وطلبهما فَ " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" (المائدة:24) إن من أهم الصفات التي تتلازم مع الجبن والجبناء هي الوقاحة وسوء الأدب وسلاطة اللسان … استمع إليهم وهم يخاطبون نبيهم باسمه المجرد ولا يقولون : " يا نبي الله " أو" يا رسول الله" ولم يكن هذا خلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، واستمع إليهم وهم يطلبون من موسى أن يقاتل هو وربه الذي أمره بالقتال . وذاك منتهى سوء الأدب وقلة الدين … وانظر الفارق بينهم وبين أصحاب محمد عليهم الصلاة والسلام حين استشارهم في إحدى المعارك فقام قائلهم فقال: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"، وكأن بني إسرائيل بقولهم هذا يشككون في قدرة الله تعالى على هزيمة الكافرين وبالتالي فهم قاعدون في أمكنتهم ينتظرون ما تكون النتيجة بين " الجبارين" ورب العزة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
إن الوقاحة لا تكلف إلا سلاطة اللسان، وأما النهوض بالواجب فيكلف وخز السنان.
يا رب – يقول موسى عليه السلام – إني لا أملك أمر أحدٍ أحمله على طاعتك إلا نفسي وأخي، ولا أثق بغيره أن يطيعك، ولقد جربهم موسى زمناً طويلا حتى خرج بهذه النتيجة _ ولم يستثن الرجلين _ علماً بأن بعض المفسرين يميلون إلى أن الرجلين هما موسى وهارون عليهما السلام - إذ أن قومهما صاروا خصوما لهما، وكذلك الجبن إذا استحكم في شعب فإنهم يبغضون من يدعوهم إلى العزة … ويكمل موسى دعاءه " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، فإن تعاقبهم فلا تشملنا بعقوبتهم، إننا مطيعون لك يا رب … وهم فاسقون خارجون عن طاعتك … وهنا يتفتح سبب آخر من أسباب الجبن وهو الفسق والخروج عن طاعة الله ويشمل حب الدنيا وترك الفرائض وإتيان المحرمات… كل ذلك فسق… والفاسق يخشى الموت … لأنه لا يحب لقاء الله بصفحته السوداء، فيجبن عن القتال الذي هو مظنة القتل والموت.
وكذلك فإن الشعوب الغارقة في الشهوات والملاهي لا تصلح للجهاد، وهي تعرف ذلك من نفسها فتجبن عن القتال مؤثرة الدعة والراحة، وراضية بأي طرح من زعمائها أو أعدائها، حتى ولو كان فيه هلاكها. وعند هذا الحد يحق عليهم القول ويستحقون العذاب ويعلم الله تعالى موسى بالعقوبة التي ستحل بهم (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26) .. إن الجبناء لا يستحقون وطناً لأنهم حتى لو انسحب عدوهم من الأرض وسلمهم إياها فليسوا على قدر المسؤولية ولن يكونوا أهلاً لحمايتها بل سيضيعونها، ويصدق فيهم قول الشاعر :
ومن أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
ومن هنا تكون العقوبة حرمانهم من دخول الأرض المقدسة أربعين سنة حتى يفنى الجيل الجبان المتخاذل ويأتي جيل جديد يعشق الحرية ويقدم ثمن تحرير الأرض المقدسة. وهذا التيه والشتات في بلاد الله حيث لا استقرار ولا راحة ولا كرامة.. فلعلهم يشعرون بضرروة الجهاد.
وتأتي هذه النتيجة وكأنها سنة إلهية في الأمم والمجتمعات فأيما أمة تجبن عن مقاتلة عدوها وتحرير أوطانها ثم تطلب من هؤلاء الأعداء أن ينسحبوا دون قتال حتى يتسنى لها إقامة دولتها، أو تطلب من دول العالم الكبرى والصغرى والهيئات الدولية أن تعمل على إخراج العدو نيابة عنها وهي قاعدة تنظر وتنتظر.. مثل هذه الأمة سيكون جزاؤها التيه والشتات في أرجاء الأرض حتى تعود إلى رشدها وتستعد للتضحية والفداء.
وانه قد آن الأوان للفلسطينيين بعد هذا الشتات الطويل ألا ينتظروا انسحاب عدوهم من أرضهم تكرماً وتفضلاً أو بمؤتمرات ووساطات حتى لا يزدادوا تيهاً إلى تيههم وشتاتاً إلى شتاتهم وبالتالي لا يستحقون رثاء ولا أسىً لحالهم كما كان حال قوم موسى إذ نهاه ربه أن يأسى عليهم على ما أوقعوه بأنفسهم ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(المائدة: من الآية26).(/3)
تَبصّر تجدْ حزبَه حِزبَ مُفسدٍ
بني العُرْب هل من سامعٍ فأدلّه ** دلالة حرّ بالحقيقة عالمِ
أرى الشرّ يدنو من هويّة ديننا**ونحن جميعا في عمايةِ نائمِ
وليس الذي أخشى ذهابُ صغيرةٍ**ولكنْ ذهابُ المسنَداتِ الدعائمِ
أرى النّاس جهلاً يهدمون بناءَهم ** بتأييّد حزبٍ للضلالةِ لازمِ
أرى النّاس جهلاً يحتفُون بمُبطلٍ ** تلبّس حقّا في خَباثَةِ ظالمِ
يقوم ينادي للجهادِ ويدّعي **ويخفي سمُوما من بلاد الأعاجمِ
أراه يُعِدَّ المكرَ للدّين مبطناً ** بقلبٍ لهُ من شدّة الحقْدِ وارمِ
تأمّلت في الأعداءِ طراًّ فلمِ أَجدْ** عدوّا كأَهلِ الرّفضِ سُودِ العمائمِ
خؤونٌ إلى الأعداءِ يبقى ولاؤُه ** وتحتَ صليبِ الخُبثِ أخدمُ خادمِ
يخاصمُ في القرآنِ كُفراً وَجُرأةً ** وَيلعنُ جيلَ الصّحبِ أَهلَ المكارمِ
ويرمي على الفحشاءِ أمّا عفيفةً **ونزّل فيه اللُه آياتِ محكَمِ
يريدُ بأَخبثِ مكرٍ عرضَ محمّدٍ ** فَديتُ نَبيَّ اللهِ نفسِي وَمِنْ دَمِي
وكائنْ تَرى مِنْ صالحٍ مُتظاهرٍ ** سَعتْ أفعالُه بالسُّوء سَعْي الهوادمِ
وكائن ترى من مُظهرٍ إحسانَه ** وَمُخفٍ نوايابارتكابِ الجرائمِ
تَبصّر تجدْ حزبَه حِزبَ مُفسدٍ ** كثيرِ المخَازي عامراً بالمظالمِ
ولابُد أَنْ تُجتثّ يوما جذرُوه ** وتقلعُها إحدى السيوفِ الصوارمِ
حامد بن عبدالله العلي(/1)
تَحوُّلات في المجتمع المعاصر
بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة
تحوّلات في الإنسان المعاصر :
إذا قارنّا بين الماضي والحاضر وبين الجيل الذي انقرض وبين الجيل المعاصر، وجدنا بينهما فرقًا شاسعًا وبونًا بعيدًا، وجدنا أنَّ تحوّلات جذرية وعميقة طرأت على المجتمع المعاصر والإنسان الذي يعيش فيه، وهي تحوّلات شملت المجتمع بجميع نواحيه.
تحوّلات في نظرته إلى الحياة :
ومن أهم هذه التحوّلات وأبعدها أثرًا على الإنسان المعاصر أنّه تغيّرت نظرته إلى الحياة؛ فقد أصبحَ ينظر إلى الحياة نظرةً ماديةً بحتة ، ولا يبالي بالقيم الدينية والأخلاقية، ولا يُهِمُّه أمر الدين والآخرة. وأكبر همِّه أن يعيش هذه الحياة الدنيا عيشًا رغيدًا .
تحوّلات في أعماله ونشاطاته :
انطلاقًا من نظرته إلى الحياة أصبحت نشاطاته وأعماله كلها تدور حول المادّة، فإذا درسنا حياتَه وجدنا أنه يقضي نحو ثلث عمره في أخذ العلم والثقافة لينال حظاً وافرًا من المادة والمال . فعندما يتثقَّفَ ويصبح مؤهلاً يشغلَ منصبًا كموظف، ويبقي فيه أكثر من ثلث حياته، ثم يُحال للمعاش، ويقضي ما تبقى من أيام حياته فيما قضى معظمها.
إن الإنسان المعاصر الذي تخرَّج في النظام التعليمي المُتَّبَع في المجتمع سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو موظفًا أو تاجرًا لايتجاوز هَمُّه جمعَ المادة والمال .
تحوّلات في علاقاته بأسرته :
إنّ الإنسان يربطه بأفراد أسرته وأقاربه وشائج رحم وروابط قرابة ، وهي علاقات طبيعية تفوق كلَّ علاقة ، إلا أنها أصبحت اليوم تنصبغ بالصبغة المادية ، فلذا نرى أنّ هذه العلاقات صارت تتراخى بين أفراد الأسرة وتضعف ؛ فالولد يثور على أبيه وربما يقضي عليه ، والأب يجني على ولده ، والأخ يقتل أخاه . وكل ذلك بعوامل مادية .
وكذلك نرى أنه قلَّت فيه الغيرة على عرضه وحرمته ؛ فهو يريد أن تكون ابنته أو أخته أو زوجته موظفة أو كاتبة في شركة أو مكتب حصولاً على مبلغ من المال ، مهما ضحّى ذلك بعرضه في سبيل الوظيفة . وأما العفاف والغيرة فليس لهما معنى في قاموسه .
وقد بلغ الأمر في توظيف الفتيات وقلة الغيرة لدى أوليائهن أنّ هناك شركات، مثلاً شركات الطيران، لا توظف إلا الفتيات ذوات الجمال والصغيرات السن . كأنه لاقيمة لهنّ لدى الشركة إلا لجمالهن وسنِّهنَّ .
تحولات في لباسه :
ومن أهم التحولات في المجتمع أننا نرى أن الرجل أخذ يلبس ملابس النساء ويتشبّه بهن ، فهو يحلق اللحية ويطيل شعر رأسه ويمسكه بحلقة من المطاط ، ويلبس في أذنيه قرطاً كالنساء. وكذلك المرأة تتزيّأ بزيِّ الرجل فتلبس الشارت والبنطلون، وتقصر شعرها، وتحاول أن تصير كالرجل، وربما يختلط الحابل بالنابل على الرائي ويصعبَ عليه الفرق بين الرجل والمرأة .
تحولات في الآداب الاجتماعية :
إنَّ الآداب الاجتماعية في المجتمع تتحول سريعًا؛ فتذهب التقاليد الساذجة البسيطة ، وتحل محلها التقاليد الغربية الوافدة ؛ فأفراد المجتمع يعنون بالتقاليد والآداب التي لم يعهدوها من قبل . كالاحتفال بالميلاد، وتدشين المحل أو البرنامج والحفلات بقطع الشريط ، والإسراف والتبذير في حفلات الزواج والعناية فيها بفرق الموسيقى والإضاءة الزائدة . كما أنهم يتبعون التقاليد الوافدة في المأكل والمشرب والمسكن وأسلوب العيش وطريقة الحياة .
كنا نأخذ بالتقاليد الغربية – عن وعي ولا وعي – وربما نحن مدفوعون إلى ذلك ؛ ذات مرة كنت أنا وزميلي في رحلة إلى "ميروت" ، فنزلنا على مطعم بجانب الشارع ، فأفطرنا وشربنا الشأي، وقد عادت أيدينا تَتَلَوَّث بالدسم ، ففتشنا عن الماء لغسلها ، فقدّمت إلينا الأوراق لنمسحها بها ففعلنا، فقلنا لزميلي : "إننا نتسقّط الحياة الغربية ونعيشها شئنا أم أبينا" .
الفتن المعاصرة المتصاعدة في المجتمع :
قد اجتاح المجتمع موجة عارمة من الفتن ، فما كان منها ضئيلاً في الماضي أصبحَ اليوم شديدًا، ولذلك أمثلة كثيرة نشاهدها فيما حولنا :
منها أنَّ الناس كانوا في الماضي يشاهدون الرقص أوالمسرحية في مناسبة من مناسبات الأفراح أحيانًا ، أو بعض الشبان يقصدون دُوْر الخيّالة في المدن لمتابعة الأفلام السينمائية . أما الآن فقد تَغَيَّر الوضع وغزا التلفاز كل بيت في المدن ، وأما القرى فقد غزا معظم بيوتها ، وأصبح كل بيت دار خيالة أو مسرحًا ، وسدَّ الفراغ الباقي الشريط المصور المسجّل (V. C. R) فالذين لايملكون التلفاز ولا يستطيعون أن يقتنوه وهم قليلون جدًا ، يكترون الشريط لليلة واحدة أو لفترة معيّنة ، فيتابعون من الأفلام ما تملي عليهم أهواؤهم .
وقد رأيت بأم عيني أناسًا في بعض القرى والمدن يعيشون عيشًا ضنكاً ،ويكسبون لقمة العيش كادحين طول النهار، فلما أمسى المساء اكتروا الشريط وجلسوا أمامه خاشعين .
وكذلك انتشار الجوّالات وشبكات المعلومات العالمية قد جعل الملاهي والبرامج الفاسدة المدمرة للأخلاق في متناول أيدي المستهلكين .(/1)
ومنها إقبال الناس – مراهقين وشبانًا وشيوخًا – على شرب الخمر وتعاطي المخدرات ، فقد كان في الماضي قلَّة قليلة من الناس يشربون الخمر، وكانوا يعتبرون هذا جريمةً ، والناس كذلك كانوا ينظرون إليهم شزرًا .
وقد كان في الماضي حانات في المدن ، يقصدها شواذ من النّاس ، وأما الآن فقد تبدّل الوضع غير الوضع ، فقد أصبحت الحانات متوفرة في المدن والقرى وعلى مواقف السيارات ، وأصبحت الخمر بمتناول يد كل مدني وقروي ومقيم ومسافر .
وقد هزّ كياني لما سمعت أن المراهقين والفتيان المتراوحين ما بين 15 و 16 سنة يتعاطون الخمر دونما استحياء .
كما زادت الميول الإجرامية لدى المراهقين والشبان في المدن والقرى جميعًا ، فهؤلاء يقومون بالسرقة والاغتصاب والزنا والقتل دونما خوف ولاوجلٍ .
وقد كان الفتى والشباب فيما مضى من الأيام ساذجًا برئياً لايعرف من هذه الأعمال الإجرامية إلا ما يسمعه من أفواه النّاس ، بله القيام بها .
ومنها الاهتمام الزائد بالألعاب الرياضية والملاهي ، فقد أولِعَ الناس لاسيما الصبيان والفتيان والشبان منهم بالألعاب الرياضية من الكركيت وكرة المضرب وكرة القدم وكرة السلَّة وغيرها ، وأولعوا أشدَّ الولعِ بأبطالها ونجومها ؛ فحفظوا أسماءهم وما قاموا به من الألعاب وما نالوا من الجوائز، ومتى انتصروا ، وأين انهزموا .
وإذا قامت مباراة في الكركيت في بقعة من بقاع الأرض ترى المجتمع لاهيًا ساهيًا عن كل شيء، وترى أفراد المجتمع يتابعون المباراة ونتائجها عبر وسائل الإعلام نابذين كل شيء وراء ظهورهم كأنّ اللعب أكبرهمهم وأقصى غايتهم .
لقد تركت هذه الألعاب الرياضية والملاهي آثارًا سلبية على أذهان الناس لاسيما الناشئة منهم ، فقد شغلت أحداث الألعاب ومبارياتها ونجومها وأبطالها أذهانهم ؛ فهم يتغنون بأسمائهم وأعمالهم آناء الليل وأطراف النهار ، فإذا سألتَ واحدًا منهم عن اسم نبيه وسيرته وأسماء أصحابه المشهورين ، وعن أركان الإسلام ومعتقداته اللازمة ، والأدعية المأثورة ، لايكاد يجيبك عنها بشكل صحيح .
بين الجيلين الماضي والمعاصر :
وكذلك إذا قارنّا بين الجيل الذي قد انقرض وبين الجيل المعاصر وجدنا بينهما فرقًا كبيرًا ، وجدنا أنّ الأب كان رجلاً أمينًا ديّنًا يحافظ على الصلوات ويتلو القرآن ويلبس الزيّ الإسلامي ويتأدب بآداب الدين ، وقد خلفه ابن له ليس بأمين ولاديّن ، ولا يحافظ على الصلوات ولايلبس الزي الإسلامي ولا يعرف من آداب الدين شيئًا .
وللقارئ أن يقول إنه ليس من اللازم أن يكون الابن شبيهًا بأبيه مشابهة الليلة بالبارحة ، وقد تُوجَد أمثلة التباين بين الأبن وأبيه في كل عصر، فليس هذا تحوّلاً يدعو إلى الاستغراب . أقول: إذا قارنا بين الماضي والحاضر وجدنا أمثلة التباين في المجتمع المعاصر أكثر مما في الماضي ، وجدنا مثالاً في كل أسرة وفي خلف كل سلف .
أسوق هنا مثالاً شاهدته فيما حولي ، وهو أنّه توفي لي قريبٌ قبل سنوات ، كان قد تعلَّم القراءة والكتابة في كُتَّاب بلدته ، وجالس العلماء وتعلَّم منهم الدين ، فكان رجلاً ديّنًا أمينًا محافظاً على الصلوات ، وقائمًا بالليل ، ومستغفرًا بالأسحار ، وتلاءً للقرآن ، وقال لي ابنه : "إنه حافظ على أعماله الرتيبة هذه أكثر من عشرين سنةً" . وقد خَلَفه أبناء لايحافظون على الصلوات ، وأما الصفات الفاضلة الأخرى التي تحلى بها أبوهم فليس لهم منها نصيب . وأما أحفاده فهم أسوء حالاً من آبائهم .
أسباب التحوّلات :
وإذا درسنا أسباب هذه التحولات الواسعة في المجتمع المعاصر رجعناها إلى الأسباب التالية :
1- غياب الإيمان بالآخرة . هذا المجتمع الذي نعيش فيه لا يؤمن بالدين السماوي ولا بالآخرة ، ولا يُعِير أيَّ اهتمام القيمَ الدينيةَ والروحيّةَ ، وقد انبهر بزينة الحياة الدنيا وزخارفها ، وجرى وراءها لاهثاً تاركاً وراءها جميعَ المثل والقيم الدينية والروحية .
2- المادية المفرطة . هذا المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع مادِّي بحت ، تدور فيه رحى النشاط حول المادة والمال . وأفراده يتبنَّون قيمًا مادية ، فأقصى غاية حياتهم المادة والمال لاغير .
3- وسائل الاعلام . قد جعلت وسائل الإعلام هذا المجتمع لاهيًا ماجنًا متهتكا ، ومن أهمها التلفاز وشبكة المعلومات العالمية والجوّالات ، وهي تحمل للمجتمع سيلاً عارمًا من الفواحش والمنكرات . وهناك أعداء ألدّاء للإنسانية يستخدمون هذه الأجهزة استخدامًا سيئًا ، فيذيعون عن طريقها برامج مخرّبة للأخلاق وينشرون الإعلانات عن البضائع والمنتجات الجديدة متضمّنةً للصور الخليعة العارية ، فما ترى إعلانًا إلا وفيه صور للمرأة مغرية .(/2)
هذه الوسائل التي هدى الله الإنسان إلى اختراعها هي وسائل نافعة . كان ينبغي له أن يشكر الله عليها ويستخدمها في أعمال الخير والدعوة إلى المثل الأخلاقية ؛ لكنّه كفر بنعمه وأساء استخدامها: فاستخدمها في إشاعة الفواحش ، وتخريب الأخلاق، وترغيب المتابعين في الملاهي ، وإغرائهم بتقليد النماذج السيئة المقدّمة إليهم لهدم أخلاقهم ومجتمهم .
فهل هناك سدٌّ يقوم في وجه هذه التحوّلات في المجتمع ؟ وهل من أمل في أن تقف هذه التحولات إلى حدٍّ ؟ وهل فكّر قادة الإنسانية في هذه التحولات المدهشة للمجتمع المعاصر ؟
* * *(/3)
تَعرِيْف بالأستاذ أَنوَر الجُنْدِيّ بخط يده
( هذه الصفحات مأخوذة عن أوراق وجدت بخط الأستاذ أنور الجندي وعليها توقيعه )
كانت حياة هادئة ناعمة لولا أن واجهها التحدي فحولها إلى حياة ذات أغوار. أمران أساسيان هما اللذان شكلا هذه الحياة وأدخلا إليها الالتزام والخطر والعمل على تجاوز الأحداث.
أولهما:
ذلك الكتاب الذي أصدره خمسة من المستشرقين حول الإسلام والذي قص فيه رائدهم (هاملتون جب) تلك القضية الخطيرة؛ قضية ذلك العمل الذي مضى سنوات حتى وصل إلى المرحلة التي يمكن أن تستعلن فيه الخطة التي قام بها الاستشراق من أجل (احتواء الإسلام) ليكون دينًا عباديًّا منحصرًا في الصلاة والعقائد منفصلا تمامًا عن قضايا المجتمع والسياسة والاقتصاد وهو ما قدمه المستشرقون الخمسة للأقطار الإسلامية من المغرب إلى أندونيسيا، وما هو الحد الذي وصل إليه العمل، وما هي الخطة التي ستحقق إتمام هذه (المؤامرة/ الجريمة). (هذه الدراسة أطلق عليها بعد ترجمتها إلى العربية: وجهة الإسلام).
وذلك هو التحدي الذي أذهلني ودفعني إلى معرفة أبعاد هذا الخطر وما هي القضية كلها أساسًا وما هو الدور الذي يمكن لكتَّاب الإسلام أن يقوموا به في سبيل تحطيم هذه الخطة وتدمير وجهتها.
غير أن هذا العمل الذي شغلني قد سد علي كل منافذ حياتي وقد اعترتني غيرة محمومة لكي أعمل مع العاملين في اقتحام هذه المؤامرة، ولكن كيف أعمل وأنا لا أملك إلا ثقافة متواضعة يسيرة، فكان لابد أن أعرف كيف أعمل في مواجهة هذا التحدي.
هذه هي القضية التي شغلتني تمامًا حتى لم يعد لدي أي مجال لعمل آخر وأحسست بالأمانة والمسئولية والخطر الزاحف على أمة الإسلام، وبدأت أعيد النظر في كل مقومات الفكر الإسلامي وخططه وتاريخه وتاريخ هذه الأمة وما واجهته من حروب وتحديات، وأخذت أنطلق من نقطة البدء وهي القرآن الكريم والإسلام وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرته.
ثانيًا:
كان موضوعًا لكاتب مسلم أعرفه تحت عنوان: (كيف صححت إسلامي؟) فقد كشف لي عن أن الإسلام ليس دينًا عباديًّا؛ وإنما هو منهج حياة ونظام مجتمع كامل، والعقيدة والعبادة جزء منه ولكنها ليست هو كله.وقد تبين لي أن مفهوم الدين عند أغلب المسلمين هو هذا المفهوم القاصر الذي عمل النفوذ الغربي والاستشراق والتبشير على إذاعته ونشره في محاولة لقصر الإسلام على الصلاة والمسجد، وفصل كل قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية عنه، وهكذا عرفت الدعوة الإسلامية على حقيقتها وتكشفت لي الأطروحة الخطيرة التي عمل النفوذ الغربي على ترويجها والتي بدأت منذ نهاية الحروب الصليبية عندما دعا القديس لويس إلى ما يسمى (حرب الكلمة)؛ وذلك بتزييف مفهوم الإسلام وتحويله إلى دين لاهوتي مشابه لبعض الأديان المحرفة والبشرية.ومنذ ذلك اليوم الذي بدأ النفوذ السياسي الغربي يسيطر على بلاد الإسلام وقد تشكلت هذه (الخطة/ المؤامرة) التي حشد الاستشراق لها خمسة من كبار رجاله (هم هاملتون جب وزملائه) لدراسة ما أطلق عليه (Whather Islam وجهة الإسلام)، وذلك في سبيل تثبيت قواعد الاقتصاد خارج الإسلام والتربية والسياسة جميعًا، وكان لها إعلاء لمفهوم العلمانية والفلسفة المادية.
ومنذ ذلك اليوم الموافق لعام 1940 تقريبًا وقد أخذت أبحث عن هذه المخططات (الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي) والتغريب والدخول في قضية كبرى هي "تصحيح المفاهيم"، وأمضيت عشر سنوات كاملة بين أضابير دار الكتب ودورياته فقد كان ضروريًّا أن أعرف جذور العملية ممثلة في الصحافة التي كانت تُعايش ذلك العصر منذ الاحتلال البريطاني 1882 وإلى ذلك اليوم كانت أعمالي قائمة أساسًا على التعريف بعظمة الإسلام وتاريخه وتراثه وتقديم صورة الأمة الإسلامية في مجال عظمة تاريخها وأمجادها، وكان هذا مفهومي للدعوة الإسلامية.وهذا باب اقتضى مني البحث عن تلك الصور الرائعة التي تمثلت في كتاب :
(1)« الشرق في فجر النهضة »
(2) « الإسلام تاريخ وحضارة »
(3) « صور مضيئة من التراث »
(4) « نوابغ الإسلام »
(هذا الجزء يمثل أعلام الفكر الإسلامي منذ العصر الأول).
وامتد هذا العمل إلى الأعلام وتراجم الأعلام، وقد قطعت في إعدادها شوطًا طويلا ممثلا في دراسة شبه كاملة عن أعلام الإسلام في الأمة الإسلامية، كلها في العصر الحديث، تحت عنوان (أعلام القرن الرابع عشر الهجري) في أربعة مجلدات، هي :
(1) أعلام الدعوة والفكر.
(2) تراجم الأعلام المعاصرين .
(3) أعلام وأصحاب أقلام.
أما المجلد الرابع (أعيان البيان واللغة) فإنه جاهز ومُعَدّ من خلال بعض كتب التراجم الفرعية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل قد أعددت دراسات موسعة لبعض الأعلام:
(1) حسن البنا
(2) عبد العزيز جاويش
(3) عبد العزيز الثعالبي
(4) فريد وجدي
(5) أحمد زكي باشا شيخ العروبة.(/1)
ولم يتوقف العمل في التراجم عند هذا الحد فقد أصدرت في الأخير: (مصابيح التراث والعصر)، وما يزال في الجعبة الكثير مِمَّا نسأل الله –تبارك وتعالى- لنا القدرة على إنجازه.
وكان هذا العمل ضروريًّا في مواجهة الحملة الخطيرة على التراث الإسلام وأعلام الإسلام والتاريخ والثقافة الإسلامية ليعطي المسلم ثقة عميقة في سلامة المنهج وعظمة العطاء الإسلامي الأصيل.ولكن لم يكن ميدان التراجم وحده هو الذي يحتاج إلى خدمة واسعة؛ بل كان الإسلام نفسه بوصفه (أغرودة الحياة ونور الوجود) كله والعطاء الرباني الكبير الذي انتشر سناه في الأرض كلها وعطر الأرجاء وتلك كانت مهمة خطيرة ما نزال نعمل لها مع إخوتنا الصادقين ولم نصل بعد إلى مرحلة ترضى عنها قلوب المؤمنين.
والحقيقة أني توجهت إلى هذه المسئولية المنوعة الواسعة الممتدة في أعماق تاريخ الإسلام إلى يوم أن ظهرت فرق الباطنية والتصوف الفلسفي والحلول والاتحاد، وما تزال تتجدد على أيدي المستشرقين والمبشرين ودعاة العلمانية والتنوير والتغريب، توجت إليها بصدر رحب وإيمان صادق وعزيمة قوية ومازلت أسأل الله –تبارك وتعالى— أن يجعل لي من عافية سلاحًا لإتمام المشروع، وقد جعلت عملي كله حسبة لله –تبارك وتعالى- وبيعة له ، ووددت لو أنني توضأت دائمًا قبل أن أكتب وأعيش على طهارة الصلاة لا مطمع لي ولا غاية إلا تبليغ رسالة ربي.
* * *
ولقد كانت أخطر التحديات في هذا المجال هو: تصحيح المفاهيم والكشف عن الشبهات التي قد وضعت بخداع ومكر بين النصوص، والتعرف على مخططات التبشير والاستشراق والتغريب. وهذا هو العمل الذي بذلت فيه كل ما أمكن من أجل الكشف عنه. وكان من الضروري لذلك دراسة الحروب الصليبية وحملات الفرنجة على المشرق والمغرب ودعوة لويس مما سماه (حرب الكلمة).
وكان لابد أولا من جمع المعارك الأدبية والمُساجلات التي دارت بين العلمانيين خصوم الإسلام وبين رجال الإسلامي، وتقصي السموم المدفونة في مجالات الفكر الإسلامي الزاخرة والتي بدأت في العصر الحديث من خلال إحياء تراث علم الأصنام الذي أشاعة المشاءون الذين احتضنوا الفكر اليوناني والفكر الغنوصي وخاصة تلك الجماعة التي هاجرة إلى المشرق: إلى فارس ، والتي احتضنها المأمون وجماعة المعتزلة ودعاة خلق القرآن وهم المسيحيون الذين كان يقودهم ( حنين بن إسحاق ) ويعمل في مكر خطير لإدخال مفاهيم المسيحية الغربية على الفلسفة اليونانية ويكتب رقاعه على ورق غليظ لأنه كان يحصل على مكافئته بوزن هذا الورق بالذهب.
لقد كانت تجربة الفلسفة اليونانية في اقتحام الفكر الإسلامي خطيرة واحتوت الكثيرين وأثارت جوًّا مظلمًا من الشبهات حتى تصدى لها أعلام الإسلام: الأئمة أحمد بن حنبل، والغزالي وابن تيمية وعشرات غيرهم.
حتى سقطت فكرة التصوف الفلسفي وغيرها وسقطت الفلسفة اليونانية، وكان الغزالي هو الذي حطم هذا التيار وما يزال دعاة التغريب والغزو الثقافي من أمثال (عاطف العراقي ) يحملون عليه وينقمون منه، وكانت مرافعة الإمام ابن تيمية وإنشاء كتابه (عن المنطق) خاتمة عاد الفكر الإسلام بعدها إلى الحق. فلما جاء الغزو الأجنبي يحمل لواء (حرب الكلمة) بدأت المعركة من منطلق إحياء تراث الفلسفة اليونانية المادية وفرضها على الجامعات هي واللغة اليونانية على يد الدكتور طه حسين الذي أحيا تراث شعر الغلمة والإباحة وأدخله كلية الآداب.
وهكذا بدأت معركة التغريب من قلب معركة الفكر اليوناني القديم، وكان على رأسها طه حسين ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق وسلامة موسى ولويس عوض في محاولة لتدمير الفكر الإسلامي وتزييف منهج الإسلام وتاريخه، ومن هنا كانت الخطة المركزة في الكشف عن:
(1) زيف المعارك الأدبية وكيف حطمها مفكرو الإسلام.
(2) الكشف عن جيل العمالقة والقمم الشوامخ.
(3) الكشف عن الصحافة والأقلام السمومة.
وكيف استطاع جيل المغربين العلمانيين من السيطرة على الساحة، وقد كان في مقدمه من يحتاج الأمر إلى تحليل واسع: عميد التغريب كله طه حسين؛ فقد صدر عنه كتابان (طه حسين في ميزان الإسلام) و(محاكمة فكر طه حسين)، شاملا على جميع القضايا التي أثارها والرد عليها، كما تناولت الكتب (جيل العمالقة + إعادة النظر في كتابات التغريبيين) مختلف القضايا التغريبية المثارة.
وكان من الضروري بعد ذلك إعداد دراسة عامة لمختلفة الشبهات والأخطاء الشائعة في موسوعة شاملة لشبهات الأدب والثقافة والتاريخ والسياسة والاجتماع وتراجم الأعلام والمؤلفات تضم أكثر من مائتي مصطلح، ثم جاءت موسوعة معالم الأدب العربي المعاصر حيث تضم: أعلام الشعر- النثر، القصة، الترجمة، أدب المرأة فضلا عن (خصائص الأدب العربي).
وفي مجال الاستشراق والتغريب والغزو الفكري صدر: الإسلام والدعوات الهدامة، أخطاء المنهج العربي الوافد، الإسلام والفلسفات القديمة، التبشير والاستشراق، الإسلام والغرب.(/2)
ثم صدرت (موسوعة مقدمات العلوم والمناهج) في عشرة مجلدات: الفكر الإسلامي، تاريخ الإسلام، العالم الإسلامي، اللغة والأدب والثقافة، التبشير والاستشراق، المجتمع الإسلامي، العلوم والحضارة، الإسلام وموقفه من الفلسفات والأديان ، المنهج الغربي وأخطائه وشبهاته، حركة اليقظة الإسلامية.
ثم صدرت (مَعْلَمَة الإسلام) عن مائة مصطلح عصري في ضوء الإسلام.
هذا بالإضافة إلى الرسائل الصغيرة (رسائل الجيب):
(1) دائرة الضوء: 50 حلقة.
(2) على طريق الأصالة: 50 حلقة.
هذا بالإضافة إلى رسائل كثيرة متفرقة في مجال الصحافة الإسلامية : المنار والفتح.
وقد كان من الضروري أن يمثله عمل الباحث الإسلامي إلى ميدان الصحافة الإسلامية، وقد كتبت في عدد من الصحف:
(1) في مقدمتها مجلة الاعتصام
(2) مجلة منار الإسلام (أبو ظبي) من 1975 – 1995.
(3) مجلة منبر الإسلام (القاهرة) 1962 – 1972.
(4) الملحق الديني لجريدة الجمهورية.
(5) دعوة الحق في الرباط (المغرب).
(6) حضارة الإسلام – دمشق.
(7) رابطة العالم الإسلامي 1972 -
(8) لواء الإسلام.
كذلك فقد حضرت واشتركت وقدمت أبحاثًا لعدد من المؤتمرات الإسلامية الجامعة:
1- الجزائر.
2- الرباط (المغرب).
3- مكة المكرمة.
4- الخرطوم.
5- عمان (الأردن).
6- جاكارتا (إندونيسيا).
7- جامعة (العين) أبو ظبي.
8- الرياض (جامعة الإمام محمد بن سعود).
* * *
كانت الخطة طوال هذه السنوات قائمة على قاعدة الرد على الشبهات وتكثيف خطط المقاومة وتزييف الشبهات المُثارة حتى جاء الوقت الذي تكشفت فيه الأحداث عن نكسة 1967 التي كانت الهزيمة الكبرى التي سقطت فيها (القدس) بين يدي الصهيونية العالمية وأجزاء من مصر وسوريا والأردن ولبنان وتبين للمسلمين الهزيمة الفكرية الكبرى التي كانت تتمثل في أن الغرب هو المثل الأعلى وأن امتلاك المسلمين لإرادتهم يمكن أن يتم وفق المفاهيم الغربية.
ولكن هذه الأزمة كشفت الحقيقة وتبين أنه ليس من سبيل أمام المسلمين لتحقيق منهجهم أو تأكيد وجودهم أو امتلاك إرادتهم إلا عن طريق واحد: هو طريق الإسلام بكل قيمه ومقاييسه ومفاهيمه، ومن هنا بدأت تدخل الأمة الإسلامية في خط جديد لعله وصله إلى منطلقه الحقيقي في أول القرن الخامس عشر الهجري؛ حيث أخذت الصحوة الإسلامية طريقها الصحيح، وكان عام 1401 الموافق 1980 علامة فارقة على هذا التحول من خطة الرد على الشبهات إلى إنشاء المناهج الحديثة التي أطلق عليها (البدائل الإسلامية)، متمثلة في أسلمة المناهج والعلوم والمصطلحات وصولا إلى تحقيق "التأصيل الإسلامي".
وكان هذا الأمر هو الأساس الجديد للصحوة، وقد لقي كثيرًا من الحملات من التغريبيين الذين أحسوا بأن المسلمين يعودون إلى المنابع وإلى الأصالة ويلتمسون مفاهيم القرآن والسنة في علومهم، وقد أضيف إلى ذلك أمر آخر هو "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم " وما أحدثه من ضجة شديدة ودخل عدد كبير من أعلام علماء التجريب إلى الإسلام.
لقد كان التأصيل الإسلامي هو لب لباب الصحوة الإسلامية. ولذلك فقد كان علينا أن نكشف هذه الحقائق وأن نسجلها وان نركز على أسلمة العلوم والمناهج، وقد حفلت هذه السنوات الخمسة عشر الأولى من القرن الخامس عشر الهجري بجهد كبير في هذا المنطلق:
فصدر :
(من سقوط الخلافة إلى مولد الصحوة).
وصدر (تيارات وافدة ونظريات هدامة ومعاصرة).
وصدر (كسر طوق الحصار حول الإسلام).
وكلها تدور حول أسلمة العلوم والمنهاج والمصطلحات.
ومن خلال هذه الدراسات يتبين كيف مرت المراحل الثلاث:
(1) مرحلة التغريب التي كانت أول القضايا التي تناولتها عام 1945، ثم جاءت:
(2) مرحلة الغزو الفكري.
(3) فمرحلة المذاهب الماركسية والعلمانية والملحدة.
وهذه المرحلة الجديدة: مرحلة التأصيل الإسلامي وتحرير الفكر الإسلامي من التبعية والحصار.
وتظل قضية الصهيونية والغزو الماسوني وبروتوكولات صهيون في مقدمة القضايا التي تواجه الفكر الإسلامي وتتطلب العمل للمقاومة.
ونسأل الله - تبارك وتعالى- أن يمكننا من متابعة هذه التطورات والقضايا حتى تنكشف الحقائق للشباب المسلم، والله ولي التوفيق.
غرة ربيع الأول 1416.
أنور الجندي
حاشية
بقي أن نتحدث عن الدعوة الإسلامية، وهي القاسم المشترك الأعظم على كل هذه الأعمال، وكانت قضية الشريعة الإسلامية هي أكبر هذه القضايا وما يتصل بها من شأن القانون الوضعي ودراسة العقبات التي تقف أمام تطبيق الشريعة في العالم الإسلامي بعد أن دخلت بعض الأقطار العربية والإسلامية في مجال المنهج الإسلامي، أمثال السودان والأردن والكويت وباكستان وإيران. هذا وبالله التوفيق.
ترجمة حياة (أنور لجندي)(/3)
من مواليد عام 1917 بمدينة ديروط، حيث كانت تقيم أسرته، ومنها اتجه إلى العمل الحكومي خلال عشر سنين، ثم انتقل بعد ذلك إلى الصحافة، وفي خلال هذه الفترة كان قد درس في مجال التعليم التجاري والصحافي واتصل بعدد من الجامعات المصرية والأجنبية غير أنه كان حريصًا على أن يعمل في الصحافة الإسلامبة، وقد تحقق ذلك منذ عام 1946 حيث كتب فصولا عن الدعوة الإسلامية والتاريخ الإسلامي في مختلف المجلات الإسلامية، كما اشترك في عديد من المؤتمرات الإسلامية التي عقدت في:
الرياص – الجزائر – المغرب – جاكارتا – مكة المكرمة – الأردن – الخرطوم.
وقد دعي إلى الزيارة والمُحاضرة في جامعات الإمام محمد بن سعود وجامعة العين بالإمارات والمجمع اللغوي بالأردن.
ومنذ بدأ عمله في مجال الصحافة فقد رسم مخططًا يرمي إلى تقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي، ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في مجال أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل، وهي ما يواصل عمله اليوم بها. هذا وبالله التوفيق.
كتب هذا عام 1417 – 1997.
( انتهى ما كتبه الأستاذ بخط يده )
شخصيات شهيرة التقى بها
~~~
- أحمد الشرباصي
- أحمد حسن الزيات
- أحمد حسين
- أحمد زكي أبو شادي
- البشير الإبراهيمي
- الشيخ أبو العيون
- الشيخ دراز
- الشيخ محمد رفعت
- توفيق الحكيم
- حسن البنا
- د. أحمد الحوفي
- زكي مبارك
- ساطع الحصري
- سعيد العريان
- سيد إبراهيم
- صلاح عبد الصبور
- طه حسين
- عباس محمود العقاد
- عبد الرحمن الرافعي
- عبد الرحمن صدقي
- عبد القادر القط
- عبد القادر المغربي .
- عبد الكريم جرمانوس
- عبد الله كنون
- عبد الوهاب عزام
- عزيز خانكي
- علي أدهم
- علي الغاياتي
- عمر فروخ
- كامل كيلاني
- مالك بن نبي
- محب الدين الخطيب
- محمد حسين هيكل
- محمود تيمور
- محمود عزمي
- منصور فهمي
أبرز الدوريات التي نشرت إنتاجه الفكري
~~~~~
- جريدة الأخبار ( القاهرة )- جريدة الأماني القومية ( عام 1940 )
- جريدة الإنذار ( بين عامي 1933 – 1934 )
- جريدة الجمهورية ( القاهرة )
- جريدة الزمان ( القاهرة )
- جريدة الشعب ( عام 1956)
- جريدة القاهرة ( 1940 – 1942 )
- جريدة النور ( القاهرة )
- مجلة أسيوط ( عام 1933 )
- مجلة الأديب ( بيروت )
- مجلة الأفكار ( بين عامي 1941 – 1942 )
- مجلة الإيمان ( الرباط )
- مجلة الاعتصام ( القاهرة )
- مجلة البيان ( الكويت )
- مجلة الثقافة المغربية ( الرباط )
- مجلة الحج ( مكة المكرمة )
- مجلة الخفجي
- مجلة الدعوة ( القاهرة )
- مجلة الرواد ( طرابلس )
- مجلة العالم الإسلامي ( مكة المكرمة )
- مجلة العرب ( بيروت )
- مجلة العربي ( الكويت )
- مجلة العرفان
- مجلة العلم
- مجلة الفرقان ( صيدا )
- مجلة الفكر الإسلامي ( بيروت )
- مجلة الكويت ( الكويت )
- مجلة المجتمع العربي ( القاهرة )
- مجلة المختار الإسلامي ( القاهرة )
- مجلة المنهل ( مكة المكرمة )
- مجلة الهدى الإسلامي ( طرابلس )
- مجلة الوادي ( بين عامي 1935-1936)
- مجلة الوعي الإسلامي ( الكويت )
- مجلة دعوة الحق ( الرباط )
- مجلة عطارد ( القاهرة )
- مجلة منبر الإسلام ( القاهرة )(/4)
ثغرات في بيوت الدعاة
إنه لابد لمن أراد أن يدعو الناس إلى أمر أن يكون أولهم امتثالاً، وإذا كان الله تعالى قد أمر الناس بالالتزام بشرعه ما أمكن، فذلك بالدعاة أخص، وإلا فلمَ يقولون ما لا يفعلون؟ ومع أنه لن يشادَّ هذا الدين امرؤ إلا غلبه، إلا أن هناك تساهلاً كبيراً، وثغرات فظيعة نتيجة التساهل؛ في البيت.. في الأخلاق.. وغير ذلك، وقد تحدث الشيخ عن ذلك في هذه المحاضرة، وبينه أحسن بيان.
بيت الداعية لابد أن يكون أكمل من غيره في التدين(/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة: إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الرسل، وهي مهمة شريفة، وخطيرة أيضاً، ولها شأن عظيم وخطرٌ كبير، ذلك أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يبذل جهده ووقته لله رب العالمين وهو يسير في دعوته، وينبغي عليه أن يسير كما أمر الله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ولا شك أن الداعية إلى الله عز وجل تصلي عليه الملائكة والحيتان في البحر، لأنه ممن يعلمون الناس الخير. والداعية إلى الله عز وجل لا بد أن يكون متميزاً عن غيره، فهو ليس مسلماً عادياً كما يقول بعض الناس، وإنما هو فوق ذلك، بل إنه ليس شخصاً ملتزماً بالدين فحسب، بل هو فوق ذلك، إنه رجلٌ أو امرأة عرف الله وعرف الطريق، فقام يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيل هذا الدين ورفعته، ومن هنا فإن ما يتعلق بهذا الداعية ينبغي أن يكون غير عادي أيضاً بالنسبة إلى غيره من الناس، كما أن وظيفته غير عادية بالنسبة إلى غيره من العوام، وبعض الناس حين يسمع كلمة الدعاة وخصوصاً من المقصرين يظن أن الكلام لا يعنيه، وهذا خطأ كبير؛ فإنه يجب علينا جميعاً أن نكون دعاةً إلى الله سبحانه وتعالى، لأننا مأمورون بذلك: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] والخطاب للجميع، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (بلغوا عني ولو آية) والتبليغ هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. فلا تظنن أيها المسلم -مهما كان مستواك أو كانت منزلتك في العلم أو الالتزام بالدين- أنك خارج عن دائرة هذا الموضوع، وذلك لأن الدعوة إلى الله واجب علينا جميعاً، وهذه المحاضرة بعنوان: ( ثغراتٌ في بيوت الدعاة ) والمقصود المعالجة والكلام عن بعض الظواهر السلبية الموجودة في بعض البيوت، وإذا كانت موجودة في بيوت بعض الدعاة فلأن تكون موجودة في بيت غيرهم من باب أولى وأكثر منها، ولكن لعلنا نخص الكلام عن الدعاة إلى الله عز وجل نظراً لخطورة هذا الموضوع. فكما أن الداعية شخص غير عادي، فكذلك يجب أن يكون البيت الذي يسكن فيه أيضاً بيتاً غير عادي؛ والمقصود أن يكون الالتزام فيه بالإسلام أكثر ما يمكن، فإنه لا يمكن أن يتصور أن يدعو إنسان إلى الله في الشارع وبين الناس، ثم بعد ذلك إذا انقلب إلى بيته وجده بيتاً يعج بالمنكرات، أو بعيد عن شرع الله، أو لا توجد فيه الإيمانيات المطلوبة الموجودة في هذا الدين. ليست المسألة فقط مسألة أن يكون البيت على مستوى الدعوة، ولكن القضية مسئولية عند الله عز وجل قال تعالى:: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] ثم إن الله سيسأله يوم القيامة عما استرعاه؛ أحفظ ذلك أم ضيع؟ ومن حساسية هذا الموضوع أن بعض الدعاة إلى الله عز وجل يجتهد في دعوة الآخرين ثم يقصر هو في دعوة أهل بيته؛ إنه يساهم في تطهير بيوت الآخرين من المنكرات، لكنه غير مهتمٍ بتطهير بيته، إنه يساعد في إعطاء المناهج والعلم للآخرين في بيوتهم، وحثهم على إصلاح زوجاتهم وتربية أولادهم؛ لكنه قد يكون مصاباً هو في قعر بيته، ولا شك أنه سيسأل عما استرعاه الله سبحانه وتعالى أحفظ ذلك أم ضيعه. فلا يليق به مطلقاً أن يكون جيداً في الصعيد الخارجي ومقصراً في الصعيد الداخلي، بل من الطبيعي أن ينطلق الإنسان من الأقرب الأقرب فالأقرب، هذا هو الأمر السليم، وكذلك فإن بيت الداعية إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان بيتاً سليماً نظيفاً طاهراً نقياً؛ فإنه يكون من الأشياء التي تحمس للانطلاق في الدعوة وتعينه في ذلك، أما إذا أصيب الرجل في بيته الخاص به، والذي يسكن فيه ويأوي إليه؛ فإنه يكون قد أصيب في مقتل، فإن هذا البيت الذي قد أصيب يعطله عن الدعوة ويجعل بينه وبينها عوائق، بل أقل ما يمكن أن يقال: إنه يشغله عن متابعة سيره في الدعوة إلى الله عز وجل. إن بيت الداعية من الاختلافات التي يختلف بها عن بيوت بقية الناس، أنه بيتٌ يغشى للخير، يغشى للتعلم، يغشى للتدريس، يغشى للانتفاع، يغشى للإكرام أيضاً. روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة : أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة ، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير -يعني: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء -يعني: الأرض- من الجوع، وإن كنت لأستقرض الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس -هذا هو الشاهد- وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب(/2)
-ولذلك كان يلقب بأبي المساكين - وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها. فرضي الله عنه؛ يخرج العكة وليس فيها شيء إلا البقايا على جدرانها وأطرافها، فيشقها ليلعق ضيوفه ما فيها، فالداعية إلى الله كريم، بل ينبغي أن يكون بيته مفتوحاً للمساكين والفقراء، وأن يتخذ الإكرام وسيلة للدعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجعل من إكرامه للناس وسيلة لاستمالة قلوبهم، كان يجيز الضيف ويعطيه، وإذا فتح الله عليه بشيء وزعه على الناس .. يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى كان ذلك سبباً في إزالة الشحناء من قلوب كثير من أعدائه، ودخول الألداء من خصومه في دين الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن بيتاً بهذه المهمات ينبغي أن يكون ذا مواصفاتٍ عالية، لأنه بيت ينطلق منه الخير، ويشع بالعلم، ويستقبل الناس الراغبين في الهداية والتعلم، بل ربما يستقبل بعض المصابين بالأمراض والذين فيهم ضلال، فيكرمون في هذا البيت، فيكون ذلك سبباً في هدايتهم وانقيادهم للحق وإلى طريق الله المستقيم، ولذلك كان الاهتمام ببيت الداعية من الأمور المهمة جداً.......
ثغرات في بيوت الدعاة مع الزوجات
......
قلة العبادة(/3)
من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس : فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة). إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته). فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس : فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة). إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته). فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.
أعلى الصفحة
فساد الزوجة(/4)
ومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟. - أسباب عدم تدين الزوجة:- أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها. ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم. كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء. أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟ كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟ نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق. إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها. - علاج المشكلة:- لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟ ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه. انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما. روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله(/5)
عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة). وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة : أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم. بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك : كان قرامٌ لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي). وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل. كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا. - أهمية صلاح الزوجة:- ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه. والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت. ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه. أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية: روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة : (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى اللهومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته(/6)
في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟. - أسباب عدم تدين الزوجة:- أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها. ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم. كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء. أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟ كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟ نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق. إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها. - علاج المشكلة:- لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟ ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه. انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما. روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه(/7)
النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة). وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة : أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم. بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك : كان قرامٌ لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي). وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل. كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا. - أهمية صلاح الزوجة:- ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه. والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت. ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه. أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية: روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة : (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله
أعلى الصفحة
الخلافات الزوجية(/8)
ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيراً على دعوتهم: قضية الخلافات الزوجية؛ والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيراً لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتماتٌ وسبابٌ وهجرٌ وقطيعةٌ ومخاصمة بينه وبين زوجته؟ لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحاً بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأ أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهموماً بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذاً سيكون عطائه؟ وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكمٌ ليس فيه حكمة، قد يكون مقصراً في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غياباً طويلاً جدا،ً ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة، بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب. وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لابد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلاً أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر! وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف، بشيءٍ فوق المستوى المعقول، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيراً، فإذاً الخلافات الزوجية قد يكون سببها الداعية!. وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلاً في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقاً في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة! إذاً هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر؛ لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية. إذاً لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضررٌ ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلاً، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة. وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام، وإكرام أهل الزوجة أيضاً، وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيراً في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها، بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درساً، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء) لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلاً. ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو؛ فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين). فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات .. الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعاباً، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرماً بين له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، (قال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشاً ولا فجوراً، وإنما هو شيءٌ تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: (يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) والترفية عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمرٌ مطلوب. لقد(/9)
كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملاً كبيراً من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح). وبالرغم مما سبق كله فهل يقال: إن من المطلوب ألا توجد الخلافات أبداً؟ نقول: هذا محال، فلا بد أن توجد خلافات زوجية، لكن لا بد أن تكون الأوبة سريعة، والخلاف يزول بسرعة، وتتدخل الأطراف التي عندها حكمة في حل الإشكالات. هل وجد خلافات زوجية على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا شك في ذلك، وهذا مثال: عن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيءٌ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي -أي: ما نام عندي القيلولة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسانٍ: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط ردائه عن شقه وأصابه التراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب .. قم أبا تراب) فالخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد، والزوجة تفتح الباب وتمشي وتجلس عند أهلها الأسابيع والشهور وتقول: لا بد أن يأتي لي بربوة، وهو يقف أيضاً عند كبريائه، وهي تقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وتتسع المسألة وتتشعب، لا يمكن لإنسان في مثل هذه الحالة أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات. إذاً لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك -إن شاء الله- إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين.ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيراً على دعوتهم: قضية الخلافات الزوجية؛ والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيراً لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتماتٌ وسبابٌ وهجرٌ وقطيعةٌ ومخاصمة بينه وبين زوجته؟ لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحاً بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأ أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهموماً بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذاً سيكون عطائه؟ وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكمٌ ليس فيه حكمة، قد يكون مقصراً في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غياباً طويلاً جدا،ً ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة، بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب. وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لابد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلاً أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر! وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف، بشيءٍ فوق المستوى المعقول، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيراً، فإذاً الخلافات الزوجية قد يكون سببها الداعية!. وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلاً في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقاً في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة! إذاً هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر؛ لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية. إذاً لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضررٌ ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلاً، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة. وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام،(/10)
وإكرام أهل الزوجة أيضاً، وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيراً في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها، بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درساً، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء) لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلاً. ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو؛ فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين). فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات .. الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعاباً، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرماً بين له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، (قال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشاً ولا فجوراً، وإنما هو شيءٌ تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: (يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) والترفية عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمرٌ مطلوب. لقد كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملاً كبيراً من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح). وبالرغم مما سبق كله فهل يقال: إن من المطلوب ألا توجد الخلافات أبداً؟ نقول: هذا محال، فلا بد أن توجد خلافات زوجية، لكن لا بد أن تكون الأوبة سريعة، والخلاف يزول بسرعة، وتتدخل الأطراف التي عندها حكمة في حل الإشكالات. هل وجد خلافات زوجية على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا شك في ذلك، وهذا مثال: عن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيءٌ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي -أي: ما نام عندي القيلولة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسانٍ: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط ردائه عن شقه وأصابه التراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب .. قم أبا تراب) فالخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد، والزوجة تفتح الباب وتمشي وتجلس عند أهلها الأسابيع والشهور وتقول: لا بد أن يأتي لي بربوة، وهو يقف أيضاً عند كبريائه، وهي تقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وتتسع المسألة وتتشعب، لا يمكن لإنسان في مثل هذه الحالة أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات. إذاً لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك -إن شاء الله- إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين.
أعلى الصفحة
عدم الاهتمام بتربية الأولاد(/11)
من الثغرات الموجودة: عدم الاهتمام بتربية الأولاد؛ فبعض الدعاة إلى الله يهتمون بأولاد الناس وأولادهم يهيمون في الشوارع، بعض الدعاة إلى الله يعلمون الناس الكلام الحسن وأولادهم يتعلمون الكلام القذر من أولاد الشوارع، بعض الدعاة إلى الله عز وجل يحاربون الفحشاء والمنكر وأولادهم ربما وقعوا في الفواحش، نعم .. هذا حاصل موجود، ونسأل الله السلامة. أليس من العيب إذاً أن يهتم الإنسان بأولاد غيره وهو يهمل أولاده؟ وما هو الانطباع الذي يحصل عند الناس عندما يرون أولاد هذا الداعية يعيشون في هذا الجو من المعاصي؟ الداعية ملتح وابنه حليق، الداعية يصلي الفجر وابنه في البيت نائم، الداعية في سيارته أشرطة القرآن والذكر وولده عنده سيارة يفحط بها وهي مملوءة بأشرطة الأغاني، لا شك أن المسألة فيها جانب كبير من التفريط، نعم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] لكن هل بَذلَ الأسباب؟ هنا السؤال، على الأقل أشرك أولادك مع الآخرين، اجعل لهم رحلةً يخرجون فيها عن البلد يعيشون فيها برنامجاً إسلامياً أو شيئاً طيباً، كما أنك تحرص على ذلك مع أولاد الناس. إذاً المسألة أيها الإخوة فيها تفريط، وهو الذي يؤدي إلى هذه النتائج، ثم إن الخلافات الزوجية التي أشرنا إليها قبل قليل لها أثر سيئ على الأولاد، وعندما يكون الداعية في طرف وزوجته في طرف يكون هناك معسكران في البيت، لا شك أن هذا الأمر السيئ يلقي بظلاله الثقيل على نفوس الأطفال مما يسبب لهم العقد النفسية، وربما كره الولد طريقة أبيه عموماً بما فيها من الخير؛ نتيجة لبعض السلوكيات من هذا النوع.من الثغرات الموجودة: عدم الاهتمام بتربية الأولاد؛ فبعض الدعاة إلى الله يهتمون بأولاد الناس وأولادهم يهيمون في الشوارع، بعض الدعاة إلى الله يعلمون الناس الكلام الحسن وأولادهم يتعلمون الكلام القذر من أولاد الشوارع، بعض الدعاة إلى الله عز وجل يحاربون الفحشاء والمنكر وأولادهم ربما وقعوا في الفواحش، نعم .. هذا حاصل موجود، ونسأل الله السلامة. أليس من العيب إذاً أن يهتم الإنسان بأولاد غيره وهو يهمل أولاده؟ وما هو الانطباع الذي يحصل عند الناس عندما يرون أولاد هذا الداعية يعيشون في هذا الجو من المعاصي؟ الداعية ملتح وابنه حليق، الداعية يصلي الفجر وابنه في البيت نائم، الداعية في سيارته أشرطة القرآن والذكر وولده عنده سيارة يفحط بها وهي مملوءة بأشرطة الأغاني، لا شك أن المسألة فيها جانب كبير من التفريط، نعم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] لكن هل بَذلَ الأسباب؟ هنا السؤال، على الأقل أشرك أولادك مع الآخرين، اجعل لهم رحلةً يخرجون فيها عن البلد يعيشون فيها برنامجاً إسلامياً أو شيئاً طيباً، كما أنك تحرص على ذلك مع أولاد الناس. إذاً المسألة أيها الإخوة فيها تفريط، وهو الذي يؤدي إلى هذه النتائج، ثم إن الخلافات الزوجية التي أشرنا إليها قبل قليل لها أثر سيئ على الأولاد، وعندما يكون الداعية في طرف وزوجته في طرف يكون هناك معسكران في البيت، لا شك أن هذا الأمر السيئ يلقي بظلاله الثقيل على نفوس الأطفال مما يسبب لهم العقد النفسية، وربما كره الولد طريقة أبيه عموماً بما فيها من الخير؛ نتيجة لبعض السلوكيات من هذا النوع.
أعلى الصفحة
الإقدام على تعدد الزوجات قبل الدراسة للوضع(/12)
وقبل أن نغادر الجانب الاجتماعي في الحياة الزوجية لعلنا نشير إلى مسألة وهي قضية المشكلات التي يواجهها الداعية إذا كان متزوجاً أكثر من زوجة، فالموضوع ليس هذا محل التوسع فيه والبسط، ولعله سيأتي إن شاء الله، لكن هناك تلميحات سريعة. بعض الدعاة إلى الله لا يقدر الموقف حق قدره قبل أن يقدم على الزواج بالزوجة الثانية أو الثالثة؛ لو أنه ينطلق من عفته لنفسه لسكتنا، بل وهنأناه، ولا يمكن أن نقول له إلا الخير؛ ولو أنه يحرص على أن يكثر النسل ويربي هذا النسل، لقلنا له كلاماً حسنا موافقين له ومغتبطين بما فعل، لو ضم أرملةً أو ضم إليه ضعيفةً للإحسان إليها لكان مأجوراً عند الله، ولا شك أن من هذه الشريعة تعدد الزوجات، ولا يجادل في ذلك إنسان، لكن المقصود من هذا الكلام الذي نقوله الآن: دراسة الداعية لموقفه قبل أن يقدم على تعديد الزوجات: هل يطيق ذلك من جميع الجهات مادياً وجسدياً؟ وهل عنده قدرة على العدل أو لا؟ هذه مسألة شرعية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. هل عنده استعداد للإنفاق أم أنه سيجور في النفقة؟ هل عنده استعداد لتربية الأولاد ومتابعة بيتين معاً أم لا؟ هذه من الأشياء المهمة. ولا يمكن أن يتصور أنه لن تحدث هناك مشكلات البتة، إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعاني من بعض الأشياء التي تحدث بين زوجاته، وقد جاء عن عائشة : أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين؛ فحزبٌ فيه عائشة و حفصة و صفية و سودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فكلم أم سلمة حزبها فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهد إليه حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته، فلم يقل لها شيئاً، جاءوا إلى فاطمة طلبوا منها أن تكلمه فكلمته: (إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى). كون الناس يهدون إليه في بيت عائشة ليس هو مسئولاً عن هذا، هذا ليس من الإنفاق الذي يفعله هو من فعله، وليس من اللائق أن يقول للناس: لا تجعلوا هداياكم هنا واجعلوها هنا، هذا من شأن الناس؛ من أراد أن يهدي فليهد في الوقت الذي يريد وفي البيت الذي يريد. فأرسلن زينب بنت جحش حين لم تحصل فائدة من جهة فاطمة ، فأتته فأغلظت وقالت: إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة ، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة ؛ هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر ، إذاً من شابه أباه فما ظلم. فهل كانت تحدث مشاكل؟ نعم.. ألم تكسر عائشة إناءً لإحدى أمهات المؤمنين حين أتت بطعامٍ فيه إلى بيتها، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ إناء التي كسرت السليم وأعطاها إناء بدل الإناء الذي كسر. إذن كان هناك مشكلات ناتجة عن وجود أكثر من زوجة، فينبغي أن توجد الضوابط الشرعية؛ قيام العدل، النفقة، العدل في المبيت، وغير ذلك. لكن نعود فنقول: هل هذا الرجل الذي أقدم على التعدد درس المسألة من جهة إمكاناته أم أنه فعل ذلك تقليداًَ للآخرين وقال: ما أحد أحسن مني؟ ولماذا فلان يتزوج أنا سأتزوج أيضاً. إذاً نحن الآن نقول: الإنسان لا بد أن يقدر المسألة حق قدرها شرعاً وواقعاً، ثم يقدم على الخطوة إذا وجد ذلك لمصلحته، وأنه مستطيع؛ لكن إذا وجد أنه لا يستطيع، وأنه ليس بحاجة من جهة العفة مثلاً، وإنما يفعل ذلك تقليداً للآخرين، وهو غير مستطيع للعدل فلا يقدم على ذلك، ولا شك أن بعض الذين أقدموا على ذلك قد عانوا جداً في مجال الدعوة إلى الله، وصارت أمورهم في حيص بيص، نتيجة لعدم الدراسة المسبقة والتقدير السليم للموقف. ثم نقول أيها الأخوة: إن عدم الاعتناء بهذه الثغرة؛ وهي ثغرة الزوجة لا شك أنه يسبب فشلاً كبيراً وعقوبةً عند الله سبحانه وتعالى وربما يكون سبباً في فشل الداعية في دعوته. وإن من العجب العجاب أن نجد بعض الذين يزعمون الاشتغال بالدعوة؛ يمشي بجانب زوجته التي وضعت نقاباً متسعاً فظهر الحاجب الذي عليه الكحل، وظهر أجزاء من الخد والوجه ونحوه، ولا شك أن هذا عملٌ محرم، أو أن يذهب بها في أماكن الاختلاط والأماكن المشبوهة، وأماكن النزهة المحرمة، فلا شك أن هذا عيبٌ كبير يرتكبه.وقبل أن نغادر الجانب الاجتماعي في الحياة الزوجية لعلنا نشير إلى مسألة وهي قضية المشكلات التي يواجهها الداعية إذا كان متزوجاً أكثر من زوجة،(/13)
فالموضوع ليس هذا محل التوسع فيه والبسط، ولعله سيأتي إن شاء الله، لكن هناك تلميحات سريعة. بعض الدعاة إلى الله لا يقدر الموقف حق قدره قبل أن يقدم على الزواج بالزوجة الثانية أو الثالثة؛ لو أنه ينطلق من عفته لنفسه لسكتنا، بل وهنأناه، ولا يمكن أن نقول له إلا الخير؛ ولو أنه يحرص على أن يكثر النسل ويربي هذا النسل، لقلنا له كلاماً حسنا موافقين له ومغتبطين بما فعل، لو ضم أرملةً أو ضم إليه ضعيفةً للإحسان إليها لكان مأجوراً عند الله، ولا شك أن من هذه الشريعة تعدد الزوجات، ولا يجادل في ذلك إنسان، لكن المقصود من هذا الكلام الذي نقوله الآن: دراسة الداعية لموقفه قبل أن يقدم على تعديد الزوجات: هل يطيق ذلك من جميع الجهات مادياً وجسدياً؟ وهل عنده قدرة على العدل أو لا؟ هذه مسألة شرعية: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. هل عنده استعداد للإنفاق أم أنه سيجور في النفقة؟ هل عنده استعداد لتربية الأولاد ومتابعة بيتين معاً أم لا؟ هذه من الأشياء المهمة. ولا يمكن أن يتصور أنه لن تحدث هناك مشكلات البتة، إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعاني من بعض الأشياء التي تحدث بين زوجاته، وقد جاء عن عائشة : أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين؛ فحزبٌ فيه عائشة و حفصة و صفية و سودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فكلم أم سلمة حزبها فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهد إليه حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته، فلم يقل لها شيئاً، جاءوا إلى فاطمة طلبوا منها أن تكلمه فكلمته: (إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى). كون الناس يهدون إليه في بيت عائشة ليس هو مسئولاً عن هذا، هذا ليس من الإنفاق الذي يفعله هو من فعله، وليس من اللائق أن يقول للناس: لا تجعلوا هداياكم هنا واجعلوها هنا، هذا من شأن الناس؛ من أراد أن يهدي فليهد في الوقت الذي يريد وفي البيت الذي يريد. فأرسلن زينب بنت جحش حين لم تحصل فائدة من جهة فاطمة ، فأتته فأغلظت وقالت: إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة ، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة ؛ هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر ، إذاً من شابه أباه فما ظلم. فهل كانت تحدث مشاكل؟ نعم.. ألم تكسر عائشة إناءً لإحدى أمهات المؤمنين حين أتت بطعامٍ فيه إلى بيتها، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ إناء التي كسرت السليم وأعطاها إناء بدل الإناء الذي كسر. إذن كان هناك مشكلات ناتجة عن وجود أكثر من زوجة، فينبغي أن توجد الضوابط الشرعية؛ قيام العدل، النفقة، العدل في المبيت، وغير ذلك. لكن نعود فنقول: هل هذا الرجل الذي أقدم على التعدد درس المسألة من جهة إمكاناته أم أنه فعل ذلك تقليداًَ للآخرين وقال: ما أحد أحسن مني؟ ولماذا فلان يتزوج أنا سأتزوج أيضاً. إذاً نحن الآن نقول: الإنسان لا بد أن يقدر المسألة حق قدرها شرعاً وواقعاً، ثم يقدم على الخطوة إذا وجد ذلك لمصلحته، وأنه مستطيع؛ لكن إذا وجد أنه لا يستطيع، وأنه ليس بحاجة من جهة العفة مثلاً، وإنما يفعل ذلك تقليداً للآخرين، وهو غير مستطيع للعدل فلا يقدم على ذلك، ولا شك أن بعض الذين أقدموا على ذلك قد عانوا جداً في مجال الدعوة إلى الله، وصارت أمورهم في حيص بيص، نتيجة لعدم الدراسة المسبقة والتقدير السليم للموقف. ثم نقول أيها الأخوة: إن عدم الاعتناء بهذه الثغرة؛ وهي ثغرة الزوجة لا شك أنه يسبب فشلاً كبيراً وعقوبةً عند الله سبحانه وتعالى وربما يكون سبباً في فشل الداعية في دعوته. وإن من العجب العجاب أن نجد بعض الذين يزعمون الاشتغال بالدعوة؛ يمشي بجانب زوجته التي وضعت نقاباً متسعاً فظهر الحاجب الذي عليه الكحل، وظهر أجزاء من الخد والوجه ونحوه، ولا شك أن هذا عملٌ محرم، أو أن يذهب بها في أماكن الاختلاط والأماكن المشبوهة، وأماكن النزهة المحرمة، فلا شك أن هذا عيبٌ كبير يرتكبه.
أعلى الصفحة
عمل الزوجة من غير داع لذلك(/14)
ومن الثغرات كذلك عمل الزوجة من غير داعٍ، فلا شك أن عملها وما يتطلبه من مشقة، وما يترتب عليه من انشغال عن البيت والأولاد والزوج؛ لا شك أنه ثغرة في البيت، نعم قد يكون هناك حاجة، أو شرط عليه في العقد؛ فينبغي الوفاء به إذا لم يكن ذلك مصادماً للشرع، فعند ذلك تعمل، لكن عندما لا تكون الحاجة؛ فلماذا تذهب للعمل مع أن عملها الأساسي للبيت، وقد أثبتت التجارب وكلام العقلاء حتى الكفار قالوا: إن خروج المرأة من البيت للعمل مفسدة، وتضييع للبيوت، وتشتيت للأسر، وتشريد للأطفال، وسبب في زيادة الجرائم، وغير ذلك من الأشياء، ولا شك أننا نقول أيضاً: وعلى رأس ذلك فإنه سببٌ للفساد.ومن الثغرات كذلك عمل الزوجة من غير داعٍ، فلا شك أن عملها وما يتطلبه من مشقة، وما يترتب عليه من انشغال عن البيت والأولاد والزوج؛ لا شك أنه ثغرة في البيت، نعم قد يكون هناك حاجة، أو شرط عليه في العقد؛ فينبغي الوفاء به إذا لم يكن ذلك مصادماً للشرع، فعند ذلك تعمل، لكن عندما لا تكون الحاجة؛ فلماذا تذهب للعمل مع أن عملها الأساسي للبيت، وقد أثبتت التجارب وكلام العقلاء حتى الكفار قالوا: إن خروج المرأة من البيت للعمل مفسدة، وتضييع للبيوت، وتشتيت للأسر، وتشريد للأطفال، وسبب في زيادة الجرائم، وغير ذلك من الأشياء، ولا شك أننا نقول أيضاً: وعلى رأس ذلك فإنه سببٌ للفساد.
أعلى الصفحة
ثغرات في جوانب أخرى في بيوت الدعاة
......
التقصير في إصلاح مَنْ في البيت(/15)
وننبه أيضاً هنا على مسائل وهي: بالنسبة للشباب الذين يدعون إلى الله عز وجل من غير المتزوجين، ماذا لهم في هذا الموضوع؟ فهو ليس صاحب زوجة ولا أولاد، وليس صاحب بيت مستقل، نقول: إنه ليس بمعفو من المسئولية، فإن الله قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] ولا شك أن أباه وأمه، وإخوته وأخواته من أهله، فإذاً ماذا فعل من أجلهم؟ كم تكلف في إصلاح بيته الذي يسكن فيه؟ نعم، قد لا يملك في البيت السلطة الكاملة، فيكون في موقفه ضعف، وقد يكون مبتلى بأخٍ أكبر منه هو الذي يسيطر، أو أب فاسق، أو أم سيئة، أو أخوات عاصيات، نعم. هذا موجود! وهو يحتاج من وقتٍ لآخر أن يزوره إخوانه في بيته، فإذا زاروه في بيته وجد الحرج والضيق، البيت فيه ملاهٍ محرمة، البيت يخرج منه ويدخل فيه نساء متبرجات، البيت يسمع فيه صوت الموسيقى، كيف سيدخل إخوانه إلى بيته، إذاً يعسر عليه أن يستضيف أخاً له أو يدعوه إلى طعامٍ ونحو ذلك، لا شك أنه سيتعرض لمشقةٍ كبيرة، لكن يبقى السؤال باستمرار: ماذا قدم الشاب لأهله؟ ماذا قدم لبيته؟ هل هو من النوع الذي يذهب مع أصدقائه وأصحابه ويهمل أمر بيته تماماً ويقول: هذا شيءٌ ميئوسٌ منه،! أبي ميئوسٌ منه، أمي ميئوسٌ منها، إخواني ميئوسٌ منهم، أخواتي ميئوسٌ منهن، ولا يقدم شيئاً؟ إذا كان كذلك فليعلم أن هذا خطأٌ كبير، ونقول: هل جربت؟ هل أصررت؟ هل كنت حكيماً؟ هل اتبعت الوسائل الناجحة؟ لا شك أن كثيراً من الشباب مقصرون في بيوتهم، ولا شك أن ذلك ينعكس عليه في حياته الدعوية، لأنه يشعر أحياناً أنه كالمطرود من بيته، خاصة الذي يعيش حالة شتات وخصومة بينه وبين والديه وإخوانه، صحيح أنه يجد في إخوانه في الدين ملاذاً ومهرباً من مشكلاته البيتية، لكن ليس الحل الصحيح أن يهرب من أهله إلى إخوانه، لا بد أن يواجه الواقع، لو حاول ولم يكتب الله له النجاح لقلنا: قد فعل ما عليه وترك ذلك المكان الذي يعج بالمعاصي إلى وسط إخوانه المعمور بالطاعات، هذا أمرٌ حسن، لكن العتب على الذين لم يقدموا شيئاً؛ حتى أنه لا يستطيع أن يستغل بيته في خدمة الدعوة إلى الله.وننبه أيضاً هنا على مسائل وهي: بالنسبة للشباب الذين يدعون إلى الله عز وجل من غير المتزوجين، ماذا لهم في هذا الموضوع؟ فهو ليس صاحب زوجة ولا أولاد، وليس صاحب بيت مستقل، نقول: إنه ليس بمعفو من المسئولية، فإن الله قال: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] ولا شك أن أباه وأمه، وإخوته وأخواته من أهله، فإذاً ماذا فعل من أجلهم؟ كم تكلف في إصلاح بيته الذي يسكن فيه؟ نعم، قد لا يملك في البيت السلطة الكاملة، فيكون في موقفه ضعف، وقد يكون مبتلى بأخٍ أكبر منه هو الذي يسيطر، أو أب فاسق، أو أم سيئة، أو أخوات عاصيات، نعم. هذا موجود! وهو يحتاج من وقتٍ لآخر أن يزوره إخوانه في بيته، فإذا زاروه في بيته وجد الحرج والضيق، البيت فيه ملاهٍ محرمة، البيت يخرج منه ويدخل فيه نساء متبرجات، البيت يسمع فيه صوت الموسيقى، كيف سيدخل إخوانه إلى بيته، إذاً يعسر عليه أن يستضيف أخاً له أو يدعوه إلى طعامٍ ونحو ذلك، لا شك أنه سيتعرض لمشقةٍ كبيرة، لكن يبقى السؤال باستمرار: ماذا قدم الشاب لأهله؟ ماذا قدم لبيته؟ هل هو من النوع الذي يذهب مع أصدقائه وأصحابه ويهمل أمر بيته تماماً ويقول: هذا شيءٌ ميئوسٌ منه،! أبي ميئوسٌ منه، أمي ميئوسٌ منها، إخواني ميئوسٌ منهم، أخواتي ميئوسٌ منهن، ولا يقدم شيئاً؟ إذا كان كذلك فليعلم أن هذا خطأٌ كبير، ونقول: هل جربت؟ هل أصررت؟ هل كنت حكيماً؟ هل اتبعت الوسائل الناجحة؟ لا شك أن كثيراً من الشباب مقصرون في بيوتهم، ولا شك أن ذلك ينعكس عليه في حياته الدعوية، لأنه يشعر أحياناً أنه كالمطرود من بيته، خاصة الذي يعيش حالة شتات وخصومة بينه وبين والديه وإخوانه، صحيح أنه يجد في إخوانه في الدين ملاذاً ومهرباً من مشكلاته البيتية، لكن ليس الحل الصحيح أن يهرب من أهله إلى إخوانه، لا بد أن يواجه الواقع، لو حاول ولم يكتب الله له النجاح لقلنا: قد فعل ما عليه وترك ذلك المكان الذي يعج بالمعاصي إلى وسط إخوانه المعمور بالطاعات، هذا أمرٌ حسن، لكن العتب على الذين لم يقدموا شيئاً؛ حتى أنه لا يستطيع أن يستغل بيته في خدمة الدعوة إلى الله.
أعلى الصفحة
غياب الأخلاق(/16)
ومن الثغرات أيضاً: ثغرة الأخلاق، وغياب الرأفة والرحمة والمودة في البيت؛ إذا دخل البيت سكت الجميع؛ خافوا وهابوا؛ قام الجالس واستيقظ النائم، ربما يكون له أولاد لا يقبلهم، كما قال ذلك رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: تقبلون صبيانكم! إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم، قال: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الصبيان ويضاحكهم ويمازحهم، ويحملهم في الصلاة، ويطيل السجود حتى يأخذ الولد حظه من الركوب، إذاً مسألة الأخلاق من الثغرات التي تجعل البيت غير مريح، الجلوس فيه غير مريح، المعيشة فيه غير مريحة، إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق، وهذا بيتٌ لا رفق فيه؛ البيت كله زعيقٌ وصياح، البيت كله شقاق وخلاف، فلا شك أن هذا سينعكس بالتأكيد على نفسيته وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.ومن الثغرات أيضاً: ثغرة الأخلاق، وغياب الرأفة والرحمة والمودة في البيت؛ إذا دخل البيت سكت الجميع؛ خافوا وهابوا؛ قام الجالس واستيقظ النائم، ربما يكون له أولاد لا يقبلهم، كما قال ذلك رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: تقبلون صبيانكم! إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم، قال: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الصبيان ويضاحكهم ويمازحهم، ويحملهم في الصلاة، ويطيل السجود حتى يأخذ الولد حظه من الركوب، إذاً مسألة الأخلاق من الثغرات التي تجعل البيت غير مريح، الجلوس فيه غير مريح، المعيشة فيه غير مريحة، إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق، وهذا بيتٌ لا رفق فيه؛ البيت كله زعيقٌ وصياح، البيت كله شقاق وخلاف، فلا شك أن هذا سينعكس بالتأكيد على نفسيته وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
أعلى الصفحة
مشكلة الخدم والسائقين
من الثغرات الموجودة أيها الأخوة: مسألة الخدم والسائقين؛ هذه القضية كنا نتكلم عنها في بعض المرات، ويشعر الإنسان أنه يوجه كلامه إلى العامة الذين يأتون بالخادمة بغير محرم، أو جاء بخادمة كافرة أو سائق ليس في مكانٍ منفصلٍ عن البيت، لكن الإنسان يفاجأ بأناسٍ يظن فيهم الفضل والخير يدخلون بيوتهم هذه الخادمة بفتنتها، وليس بالضوابط الشرعية؛ فالخلوة موجودة، الكشف موجود، وإذا ذهبت زوجته للعلم نام هو في البيت ويقول: ماذا أفعل .. أأنام خارج البيت؟ جاء قبل أن تأتي زوجته من الدوام فجلس في البيت، إذاً هناك عدم تقوى لله في هذه المسائل، وكأنه يظن أن الذهاب إلى مجالس الطيبين، والقيام ببعض الأنشطة الخيرية، وحضور بعض الدروس هو المهم وهو لب الموضوع، وأما بقاؤه في البيت مع الخادمة بمفردهما ليس شيئاً ذا أهمية فلا يعيره اهتمامه. وأقول: لا بد أن يوازن الإنسان في قضية دخول هؤلاء الخدم، هل هي بالضوابط الشرعية فعلاً أم لا؟ وحتى لو كانت بالضوابط أحياناً يكون تقييداً شديداً له لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يتنقل، لأنه لا بد أن يتأكد أنها متحجبة، وأنها غير موجودة في الطريق ونحو ذلك، ولذلك يعيش حياةً فيها صعوبة من هذه الجهة. فإذاً نعود لمسألة التأكيد على قضية الضوابط الشرعية.من الثغرات الموجودة أيها الأخوة: مسألة الخدم والسائقين؛ هذه القضية كنا نتكلم عنها في بعض المرات، ويشعر الإنسان أنه يوجه كلامه إلى العامة الذين يأتون بالخادمة بغير محرم، أو جاء بخادمة كافرة أو سائق ليس في مكانٍ منفصلٍ عن البيت، لكن الإنسان يفاجأ بأناسٍ يظن فيهم الفضل والخير يدخلون بيوتهم هذه الخادمة بفتنتها، وليس بالضوابط الشرعية؛ فالخلوة موجودة، الكشف موجود، وإذا ذهبت زوجته للعلم نام هو في البيت ويقول: ماذا أفعل .. أأنام خارج البيت؟ جاء قبل أن تأتي زوجته من الدوام فجلس في البيت، إذاً هناك عدم تقوى لله في هذه المسائل، وكأنه يظن أن الذهاب إلى مجالس الطيبين، والقيام ببعض الأنشطة الخيرية، وحضور بعض الدروس هو المهم وهو لب الموضوع، وأما بقاؤه في البيت مع الخادمة بمفردهما ليس شيئاً ذا أهمية فلا يعيره اهتمامه. وأقول: لا بد أن يوازن الإنسان في قضية دخول هؤلاء الخدم، هل هي بالضوابط الشرعية فعلاً أم لا؟ وحتى لو كانت بالضوابط أحياناً يكون تقييداً شديداً له لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يتنقل، لأنه لا بد أن يتأكد أنها متحجبة، وأنها غير موجودة في الطريق ونحو ذلك، ولذلك يعيش حياةً فيها صعوبة من هذه الجهة. فإذاً نعود لمسألة التأكيد على قضية الضوابط الشرعية.
أعلى الصفحة
ضعف الداعية أمام العادات المخالفة(/17)
ومن الثغرات الموجودة في البيوت أيضاً: الضعف أمام العادات الاجتماعية المخالفة للشريعة، وأول ما يبدأ بأشياء فيها تشبُّه بالكفار، ويرضى أن يكون في حفلة زواج فيها منكرات كالدبلة، وغير ذلك من علب الفضة؛ إلى وجود الفرقة الغنائية عند النساء؛ إلى آخره من أنواع المنكرات، وحتى يشترك في الزفة، وهذا محسوب على الدعاة الملتزمين، يشترك الشخص في الزفة ويدخل يصافح الحريم، وتؤخذ له الصورة .. فأين الدعوة التي يزعم أنه يمارسها.ومن الثغرات الموجودة في البيوت أيضاً: الضعف أمام العادات الاجتماعية المخالفة للشريعة، وأول ما يبدأ بأشياء فيها تشبُّه بالكفار، ويرضى أن يكون في حفلة زواج فيها منكرات كالدبلة، وغير ذلك من علب الفضة؛ إلى وجود الفرقة الغنائية عند النساء؛ إلى آخره من أنواع المنكرات، وحتى يشترك في الزفة، وهذا محسوب على الدعاة الملتزمين، يشترك الشخص في الزفة ويدخل يصافح الحريم، وتؤخذ له الصورة .. فأين الدعوة التي يزعم أنه يمارسها.
أعلى الصفحة
وجود بعض المحرمات في البيوت كالملاهي(/18)
من الثغرات الموجودة أيضاً في بيوتنا أو بيوت الدعاة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بيوتنا جميعاً منها: مسألة الملاهي المحرمة، والوسائل المرئية أو المقروءة أو المسموعة المشتملة على الحرام، ولا شك في حرمتها وفسادها، وإفسادها واضحٌ جداً، فمناظر الاختلاط في هذه الوسائل موجودة، الحرب على الدين موجود، الاستهزاء بالمتدينين موجود؛ تعرض التمثيليات من أجل ذلك، والإعلانات التجارية وما فيها من المنكرات، وما يتفرج عليه الأولاد من أفلام؛ حتى أفلام الكرتون ما سلمت من الشرور والمفاسد، التي فيها إضرارٌ بالعقيدة ونحو ذلك! الصور المحرمة، الأدوات الموسيقية، الألعاب؛ حتى ألعاب الأطفال يهمل البعض في إدخالها إلى البيت وقد تكون فيها صلبان، أو فيها نرد وهو محرم، أو فيها بطاقات ألعاب فيها سحب من البنوك واقتراض بفوائد، أو الأصنام ذات الرءوس، وألعاب الكمبيوتر المحرمة، وربما يوجد فيها مناظر للنساء متعريات، ولدٌ يقبل بنتاً في ألعاب الكمبيوتر، وصور الكنائس، وربما أدخل الكمبيوتر على شاشة التلفزيون فيؤدي إلى رؤية أولاده لهذا في غيابه، وحتى عدم مراعاة الأضرار الصحية، حتى اضطرت شركات ألعاب الكمبيوتر الكتابة على الأجهزة؛ مثل شركة ناين تيندو وغيرها من الشركات تقول: إن الإدمان أو الإكثار من اللعب بهذه الألعاب هو من أسباب مرض الصرع عند الأطفال، وهذا واضح، ولذلك تجد عدداً من أطفال هؤلاء الدعاة ربما انهمكوا فيها، فتجد الولد عصبي المزاج من كثرة إدمانه على هذه الألعاب. فأقول: حتى بعض الأشياء التي ليس فيها منكرات قد يكون في الإدمان عليها أضرار صحية يحولها إلى منكرات، ولذلك يجب أن يكون اللعب بقدر محدود في مثل هذه الأشياء، لماذا لا يأتي لهم بألعاب التصويب والتهديف، أو الفك والتركيب، أو الألعاب العضلية، ويلعب بها هو معهم؛ كلعبة الكراسي ولعب الكرة، أو يأتي لهم بآلاتٍ متحركة، أو ببعض البرامج المفيدة: تربية الحيوانات، الدراجة، الأرجوحة؟ والمقصود أن هناك بدائل شرعية عن هذه الألعاب المحرمة الموجودة في السوق، وأشرطة الأناشيد التي ليس فيها محظورات من الميوعة في الألحان، ومطابقة ألحان الأغاني، وحتى الدمى هذه التي يعلب بها البنات ينبغي أن تكون مطابقة للشريعة، فإن بعض العلماء يحذر من هذه الدمى البلاستيكية متقنة الصنع، التي ربما تتكلم وتمشي وتتحدث، وتفتح عينيها وتغمضها، بل سمعنا من الطامات الآن أنه يوجد بعض المحلات الخاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، هذا محل يبيع ملابس باربي، هذا محل يبيع ملابس شنطة، الشنطة بكذا، والحزام بكذا، والملابس بكذا، محلات خاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، وتنفق فيها الأموال، وتهدر هذه الأموال التي ينبغي أن تذهب لمنفعة المسلمين. ثم ينبغي على الداعية أيضاً أن ينتبه لمسألة البديل، قد لا يوجد بديل في بعض الأشياء، فلا يلزم أن يوجد بديل لكل شيء، قد يكون الشيء محرماً بالكيلة لا يوجد له بديل فيلغى، يعني: إذا وجدت موسيقى هل هناك موسيقى إسلامية، وإذا وجد رقص فلا يوجد رقص إسلامي، فمثل هذه الأشياء التي توجد عند بعض الناس الذين لديهم أشياء من الجرأة والعقلانيات، لا شك أن هذا من منهج المنحرفين في مثل هذه الموضوعات.من الثغرات الموجودة أيضاً في بيوتنا أو بيوت الدعاة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بيوتنا جميعاً منها: مسألة الملاهي المحرمة، والوسائل المرئية أو المقروءة أو المسموعة المشتملة على الحرام، ولا شك في حرمتها وفسادها، وإفسادها واضحٌ جداً، فمناظر الاختلاط في هذه الوسائل موجودة، الحرب على الدين موجود، الاستهزاء بالمتدينين موجود؛ تعرض التمثيليات من أجل ذلك، والإعلانات التجارية وما فيها من المنكرات، وما يتفرج عليه الأولاد من أفلام؛ حتى أفلام الكرتون ما سلمت من الشرور والمفاسد، التي فيها إضرارٌ بالعقيدة ونحو ذلك! الصور المحرمة، الأدوات الموسيقية، الألعاب؛ حتى ألعاب الأطفال يهمل البعض في إدخالها إلى البيت وقد تكون فيها صلبان، أو فيها نرد وهو محرم، أو فيها بطاقات ألعاب فيها سحب من البنوك واقتراض بفوائد، أو الأصنام ذات الرءوس، وألعاب الكمبيوتر المحرمة، وربما يوجد فيها مناظر للنساء متعريات، ولدٌ يقبل بنتاً في ألعاب الكمبيوتر، وصور الكنائس، وربما أدخل الكمبيوتر على شاشة التلفزيون فيؤدي إلى رؤية أولاده لهذا في غيابه، وحتى عدم مراعاة الأضرار الصحية، حتى اضطرت شركات ألعاب الكمبيوتر الكتابة على الأجهزة؛ مثل شركة ناين تيندو وغيرها من الشركات تقول: إن الإدمان أو الإكثار من اللعب بهذه الألعاب هو من أسباب مرض الصرع عند الأطفال، وهذا واضح، ولذلك تجد عدداً من أطفال هؤلاء الدعاة ربما انهمكوا فيها، فتجد الولد عصبي المزاج من كثرة إدمانه على هذه الألعاب. فأقول: حتى بعض الأشياء التي ليس فيها منكرات قد يكون في الإدمان عليها أضرار صحية يحولها إلى منكرات، ولذلك يجب أن يكون اللعب بقدر محدود في(/19)
مثل هذه الأشياء، لماذا لا يأتي لهم بألعاب التصويب والتهديف، أو الفك والتركيب، أو الألعاب العضلية، ويلعب بها هو معهم؛ كلعبة الكراسي ولعب الكرة، أو يأتي لهم بآلاتٍ متحركة، أو ببعض البرامج المفيدة: تربية الحيوانات، الدراجة، الأرجوحة؟ والمقصود أن هناك بدائل شرعية عن هذه الألعاب المحرمة الموجودة في السوق، وأشرطة الأناشيد التي ليس فيها محظورات من الميوعة في الألحان، ومطابقة ألحان الأغاني، وحتى الدمى هذه التي يعلب بها البنات ينبغي أن تكون مطابقة للشريعة، فإن بعض العلماء يحذر من هذه الدمى البلاستيكية متقنة الصنع، التي ربما تتكلم وتمشي وتتحدث، وتفتح عينيها وتغمضها، بل سمعنا من الطامات الآن أنه يوجد بعض المحلات الخاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، هذا محل يبيع ملابس باربي، هذا محل يبيع ملابس شنطة، الشنطة بكذا، والحزام بكذا، والملابس بكذا، محلات خاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، وتنفق فيها الأموال، وتهدر هذه الأموال التي ينبغي أن تذهب لمنفعة المسلمين. ثم ينبغي على الداعية أيضاً أن ينتبه لمسألة البديل، قد لا يوجد بديل في بعض الأشياء، فلا يلزم أن يوجد بديل لكل شيء، قد يكون الشيء محرماً بالكيلة لا يوجد له بديل فيلغى، يعني: إذا وجدت موسيقى هل هناك موسيقى إسلامية، وإذا وجد رقص فلا يوجد رقص إسلامي، فمثل هذه الأشياء التي توجد عند بعض الناس الذين لديهم أشياء من الجرأة والعقلانيات، لا شك أن هذا من منهج المنحرفين في مثل هذه الموضوعات.
أعلى الصفحة
مجاراة الناس والوقوع في الشبهات(/20)
ثم من الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة إلى الله عز وجل وقوعهم في المجاراة لغيرهم من الناس، فإذا أتى جاره بشيء أتى بمثله ولو محرماً، إذا طلبت منه زوجته أشياء محرمة أتى بها تحت الضغط، وكذلك إذا ألح عليه أولاده، وبعض الدعاة إلى الله يقعون في الشبهات، والشيطان ينفذ من باب الشبهات لإيقاعهم في المحرمات؛ وربما قال: آتي لهم بشاشة في البداية على غير محرم، ثم يحدث التوسع بعد ذلك في قضايا أخرى، لأنه غير قادر على الضبط، ويعتمد البعض على بعض الخلافات الفقهية ويقول: يوجد مشايخ أفتوا بالإباحة مثلاً؛ مع أن قوله مرجوح، والمفروض أن يكون هذا طالب علم يعلم بالراجح ويعمل بالدليل، ولا يتتبع الرخص، لكن مع الأسف ربما يُعلِّم غيره أشياء ويقع هو فيها. ثم هناك التنازلات التي تحدث في العلاقات الاجتماعية، وهو ربما لو طلب منه أبوه أن يصافح زوجة أخيه أقدم على ذلك، ويتساهل في كشف زوجته على إخوانه، وكشف الإخوان على زوجته، وكشف زوجات إخوانه عليه، ونحو ذلك، وهذا يقع في البيوت التي يسكن فيها مجموعة من العوائل في بيت واحد. وكذلك أيضاً لا بد أن ينتبه الداعية مما يدخل إلى بيته من المقالات أو المجلات أو الكتب، قد يكون بعضها فيه فوائد؛ لكن أيضاً فيه محرمات، وربما زوجتة تطلع عليها وتقرأ فيها، كتب بعض الدارسين للطب مثلاً يوجد فيها صور مشينة، فينبغي الحذر من ذلك، بعضهم قد يأتي بمقالات لمجلات أجنبية في موضوعات متخصصة قد يحتاج إليها أحياناً، لكن فيها أشياء سيئة لا يهتم بطمسها ولا بإزالتها، أو على الأقل بإبعادها عن متناول أيدي الزوجة والأطفال، وبعضهم يأتي بالمجلات والجرائد إلى البيت وقد يزعم أنه يريد أن يتتبع الأخبار، ثم يفاجأ بزوجته وأولاده يقرءون هذه الأشياء وفيها من السموم ما فيها.ثم من الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة إلى الله عز وجل وقوعهم في المجاراة لغيرهم من الناس، فإذا أتى جاره بشيء أتى بمثله ولو محرماً، إذا طلبت منه زوجته أشياء محرمة أتى بها تحت الضغط، وكذلك إذا ألح عليه أولاده، وبعض الدعاة إلى الله يقعون في الشبهات، والشيطان ينفذ من باب الشبهات لإيقاعهم في المحرمات؛ وربما قال: آتي لهم بشاشة في البداية على غير محرم، ثم يحدث التوسع بعد ذلك في قضايا أخرى، لأنه غير قادر على الضبط، ويعتمد البعض على بعض الخلافات الفقهية ويقول: يوجد مشايخ أفتوا بالإباحة مثلاً؛ مع أن قوله مرجوح، والمفروض أن يكون هذا طالب علم يعلم بالراجح ويعمل بالدليل، ولا يتتبع الرخص، لكن مع الأسف ربما يُعلِّم غيره أشياء ويقع هو فيها. ثم هناك التنازلات التي تحدث في العلاقات الاجتماعية، وهو ربما لو طلب منه أبوه أن يصافح زوجة أخيه أقدم على ذلك، ويتساهل في كشف زوجته على إخوانه، وكشف الإخوان على زوجته، وكشف زوجات إخوانه عليه، ونحو ذلك، وهذا يقع في البيوت التي يسكن فيها مجموعة من العوائل في بيت واحد. وكذلك أيضاً لا بد أن ينتبه الداعية مما يدخل إلى بيته من المقالات أو المجلات أو الكتب، قد يكون بعضها فيه فوائد؛ لكن أيضاً فيه محرمات، وربما زوجتة تطلع عليها وتقرأ فيها، كتب بعض الدارسين للطب مثلاً يوجد فيها صور مشينة، فينبغي الحذر من ذلك، بعضهم قد يأتي بمقالات لمجلات أجنبية في موضوعات متخصصة قد يحتاج إليها أحياناً، لكن فيها أشياء سيئة لا يهتم بطمسها ولا بإزالتها، أو على الأقل بإبعادها عن متناول أيدي الزوجة والأطفال، وبعضهم يأتي بالمجلات والجرائد إلى البيت وقد يزعم أنه يريد أن يتتبع الأخبار، ثم يفاجأ بزوجته وأولاده يقرءون هذه الأشياء وفيها من السموم ما فيها.
أعلى الصفحة
التوسع في المباحات(/21)
ثم من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة إلى الله عز وجل: التوسع في المباحات توسعاً ملهياً، بل هو من مداخل الشيطان، فإن الشيطان يشغل الإنسان بالمباح عن الطاعة والعبادة؛ تجديد الأثاث، التزويق في البيت، الصف في الأسواق فترات طويلة ليشتري هذه وهذه، هذا يزعم أنه داعية إلى الله وأنه طالب علم و..، أو ربما تكون زوجته كذلك، ثم يكون اللف والدوران في الأسواق على النجف والمزهريات والسجاد العجمي، فأين التقشف وأين ما ينبغي أن يكون عليه من الزهد في بيته؟ تجد فيه الزخارف بأنواعها، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من البيت المزوق، وبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رجع من البيت الذي كسي جداره من أجل ما فيه؛ فإنه قد جاء عن سهل بن عبد الله بن عمر : أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بنجادٍ أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله : تسترون الجدر، فقال أبي واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب فقال: من خشيت أن تغلبه النساء يعني: ما أتوقع أن يغلبنك، فرجع ولم يدخل. فإذن يوجد هناك توسع في المباحات وكثير منه يكون بسبب مجاراة الآخرين، يدخل بيوت الناس يرى فيها تزويقاً فيريد أن يجعل ذلك في بيته، وعند فلان مزخرفات يريد أن يجعل ذلك في بيته، وزوجته تدخل بيوت نساء وتجد عندهن نجفاً وتحفاً فتطلب مثل ذلك في بيتها وهو يستجيب، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحارب ذلك حتى في بيوته، وفي بيت فاطمة بنته؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يدخل عليها، وجاء عليٌ فذكرت له ذلك، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لماذا لم تدخل إلى بيتنا يا رسول الله؟ قال: (إني رأيت على بابها ستراً موشياً؛ ثم قال: مالي وللدنيا! فأتاها عليٌ فذكر لها ذلك، فقالت: يأمرني فيه بما شاء قال: ترسل به إلى فلان أهل بيتٍ بهم حاجة) فقد لا يكون محرماً ولو كان محرماً لما جاز أن تعطيه إلى غيرها، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرضى بهذه الأشياء لأهله، وكان بيته صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما قال عمر رضي الله عنه: رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهب ثلاثة، الإهاب: هو الجلد قبل الدبغ فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فقال: (أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب ! أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) فقلت: يا رسول الله! استغفر لي..... الحديث، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على سرير مرمل يضطجع عليه حتى يؤثر في جنبه.ثم من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة إلى الله عز وجل: التوسع في المباحات توسعاً ملهياً، بل هو من مداخل الشيطان، فإن الشيطان يشغل الإنسان بالمباح عن الطاعة والعبادة؛ تجديد الأثاث، التزويق في البيت، الصف في الأسواق فترات طويلة ليشتري هذه وهذه، هذا يزعم أنه داعية إلى الله وأنه طالب علم و..، أو ربما تكون زوجته كذلك، ثم يكون اللف والدوران في الأسواق على النجف والمزهريات والسجاد العجمي، فأين التقشف وأين ما ينبغي أن يكون عليه من الزهد في بيته؟ تجد فيه الزخارف بأنواعها، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من البيت المزوق، وبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رجع من البيت الذي كسي جداره من أجل ما فيه؛ فإنه قد جاء عن سهل بن عبد الله بن عمر : أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بنجادٍ أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله : تسترون الجدر، فقال أبي واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب فقال: من خشيت أن تغلبه النساء يعني: ما أتوقع أن يغلبنك، فرجع ولم يدخل. فإذن يوجد هناك توسع في المباحات وكثير منه يكون بسبب مجاراة الآخرين، يدخل بيوت الناس يرى فيها تزويقاً فيريد أن يجعل ذلك في بيته، وعند فلان مزخرفات يريد أن يجعل ذلك في بيته، وزوجته تدخل بيوت نساء وتجد عندهن نجفاً وتحفاً فتطلب مثل ذلك في بيتها وهو يستجيب، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحارب ذلك حتى في بيوته، وفي بيت فاطمة بنته؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يدخل عليها، وجاء عليٌ فذكرت له ذلك، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لماذا لم تدخل إلى بيتنا يا رسول الله؟ قال: (إني رأيت على بابها ستراً موشياً؛ ثم قال: مالي وللدنيا! فأتاها عليٌ فذكر لها ذلك، فقالت: يأمرني فيه بما شاء قال: ترسل به إلى فلان أهل بيتٍ بهم حاجة) فقد لا يكون محرماً ولو كان محرماً لما جاز أن تعطيه إلى غيرها، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرضى بهذه الأشياء لأهله، وكان بيته صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما قال عمر رضي الله عنه: رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهب ثلاثة، الإهاب: هو الجلد قبل الدبغ فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا(/22)
الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فقال: (أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب ! أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) فقلت: يا رسول الله! استغفر لي..... الحديث، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على سرير مرمل يضطجع عليه حتى يؤثر في جنبه.
أعلى الصفحة
البخل وسوء معاملة الجيران
ومن الثغرات في بيوت الدعاة: البخل وعدم الإنفاق، وسوء التعامل مع الجيران، وكثيراً ما يكون لهذا آثار سلبية في نظر الآخرين للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون في أنفسهم: هذا الذي يزعم ويزعم ويظهر، ثم هو بهذا البخل ولم يحسن إلينا مرةً واحدة، وربما كان يؤذي في إلقاء القمامة أو موقف السيارة ونحو ذلك، ولا شك أن لهذه الأشياء التي قد تبدو أحياناً بسيطة في أنظار البعض آثار سلبية في نفوس الآخرين، والمساعدة والمعاونة لأهل البيت قد تكون من الأشياء المفقودة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -كما روت عائشة - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.ومن الثغرات في بيوت الدعاة: البخل وعدم الإنفاق، وسوء التعامل مع الجيران، وكثيراً ما يكون لهذا آثار سلبية في نظر الآخرين للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون في أنفسهم: هذا الذي يزعم ويزعم ويظهر، ثم هو بهذا البخل ولم يحسن إلينا مرةً واحدة، وربما كان يؤذي في إلقاء القمامة أو موقف السيارة ونحو ذلك، ولا شك أن لهذه الأشياء التي قد تبدو أحياناً بسيطة في أنظار البعض آثار سلبية في نفوس الآخرين، والمساعدة والمعاونة لأهل البيت قد تكون من الأشياء المفقودة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -كما روت عائشة - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
أعلى الصفحة
ثغرات أخرى
ومن الثغرات الموجودة في البيت: جعل البيت فوضى مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء، فليس له وقت نوم معين، ولا وقت أكل معين، ولا التفات لأهله أيضاً في وقت معين، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ضيوف فأثقلوا عليه بطول الجلوس، فنزلت آية الاستئذان بسبب ذلك، وأنه لا يجوز للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا طعموا فلينصرفوا، وعليه فلا يصح أن يكون البيت كالمقهى يُدخل إليه في أي وقت وفي أي حين. كذلك من الثغرات تضييع الأوقات بالكلام في الهاتف كلاماً طويلاً ليس من ورائه كبير فائدة، سواءً كان من الداعية أو من زوجته، فوجود مضيعات الأوقات في البيت من الثغرات. ثم لنختم بهذه النقطة وهي إهمال الكتب التي اشتريت من المعارض والمكتبات، فلقد شريت المجلدات وصففت على الرفوف، وأتي بها على اختلاف أحجامها وأنواعها ومواضيعها، وفصلت لأجلها هذه المكتبات الخشبية، ثم بعد ذلك تركت مركونةً مهملةً لا يُقرأ فيها؛ قد علاها الغبار وربما تأكلها الأرضة، أليست هذه ثغرة أيضاً يجب الالتفات إليها، ولا يليق بالداعية إلى الله عز وجل أن يهمل كتب العلم عنده في بيته، ولا يستفيد منها ولا غيره، والكلام في هذا الموضوع طويل، ونكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها، ولعل في بعض الأسئلة ما يضيف أشياء أخرى إلى الموضوع، فنتوقف للصلاة ونعود إلى الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيوتنا من المنكرات، وأن يعمرها بالطاعات، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.ومن الثغرات الموجودة في البيت: جعل البيت فوضى مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء، فليس له وقت نوم معين، ولا وقت أكل معين، ولا التفات لأهله أيضاً في وقت معين، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ضيوف فأثقلوا عليه بطول الجلوس، فنزلت آية الاستئذان بسبب ذلك، وأنه لا يجوز للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا طعموا فلينصرفوا، وعليه فلا يصح أن يكون البيت كالمقهى يُدخل إليه في أي وقت وفي أي حين. كذلك من الثغرات تضييع الأوقات بالكلام في الهاتف كلاماً طويلاً ليس من ورائه كبير فائدة، سواءً كان من الداعية أو من زوجته، فوجود مضيعات الأوقات في البيت من الثغرات. ثم لنختم بهذه النقطة وهي إهمال الكتب التي اشتريت من المعارض والمكتبات، فلقد شريت المجلدات وصففت على الرفوف، وأتي بها على اختلاف أحجامها وأنواعها ومواضيعها، وفصلت لأجلها هذه المكتبات الخشبية، ثم بعد ذلك تركت مركونةً مهملةً لا يُقرأ فيها؛ قد علاها الغبار وربما تأكلها الأرضة، أليست هذه ثغرة أيضاً يجب الالتفات إليها، ولا يليق بالداعية إلى الله عز وجل أن يهمل كتب العلم عنده في بيته، ولا يستفيد منها ولا غيره، والكلام في هذا الموضوع طويل، ونكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها، ولعل في بعض الأسئلة ما يضيف أشياء أخرى إلى الموضوع، فنتوقف للصلاة ونعود إلى الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيوتنا من المنكرات، وأن يعمرها بالطاعات، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أعلى الصفحة
الأسئلة
......
التقصير من الداعية عيب(/23)
السؤال: يقول: أرى بعض التقصير عند بعض من يؤم الناس في المساجد، أو ينظر إليهم على أنهم من أهل الصلاح والتقوى، ومن أوجه هذا التقصير: خروج بعض نساء أهل بيته بشيءٍ من التبرج، أو تلفظهم بألفاظ من اللعن وغيره؟ الجواب: طبعاً كون الإنسان يصبح إماماً لمسجد هذا لا يعني أنه قد كمل، بل إنه يحتاج إلى تكميل نفسه كثيراً، لأن إمام المسجد قدوة، ولذلك ينبغي أن يركز على الاعتناء بنفسه أكثر من أي شخصٍ آخر يمارس دوراً أقل منه، ولذلك فإن من العيب الكبير أن ينصح المرء الناس بالصدقة ثم يبخل، وينصح الناس بالاقتصاد ثم هو يبذر ويسرف، وينصح الناس بأن تتحجب نساؤهم ثم أهل بيته يعيشون في تقصير سيئ.السؤال: يقول: أرى بعض التقصير عند بعض من يؤم الناس في المساجد، أو ينظر إليهم على أنهم من أهل الصلاح والتقوى، ومن أوجه هذا التقصير: خروج بعض نساء أهل بيته بشيءٍ من التبرج، أو تلفظهم بألفاظ من اللعن وغيره؟ الجواب: طبعاً كون الإنسان يصبح إماماً لمسجد هذا لا يعني أنه قد كمل، بل إنه يحتاج إلى تكميل نفسه كثيراً، لأن إمام المسجد قدوة، ولذلك ينبغي أن يركز على الاعتناء بنفسه أكثر من أي شخصٍ آخر يمارس دوراً أقل منه، ولذلك فإن من العيب الكبير أن ينصح المرء الناس بالصدقة ثم يبخل، وينصح الناس بالاقتصاد ثم هو يبذر ويسرف، وينصح الناس بأن تتحجب نساؤهم ثم أهل بيته يعيشون في تقصير سيئ.
أعلى الصفحة
تساهل بعض الدعاة بآلات اللهو في البيت
السؤال: هناك بعض الشباب يجعلون في بيوتهم أجهزة اللهو، يتركونها لزوجاتهم وأولادهم يتفرجون عليها، وإذا نصحناهم بإبعادها قالوا: إنهم يتفرجون على الأخبار وأفلام الكرتون، وإذا دخل زوجاتنا في بيوتهم وجدوا أن أهل ذلك الشخص يسمعون الأغاني، ويرون المسلسلات العربية والغربية، ويقولون: هذه مسلسلات اجتماعية؟ الجواب: لا شك أن هذا من الانحراف، وأن الذي يرضى بالمحرم في بيته يرضى بالسوء في بيته، فلا شك أن فيه دياثة، وهذا الذي يقر الخبث في أهله ويرضى أن يتفرجوا على هذه الأشياء المنكرة ليس عنده غيرة؛ لو كان عنده غيرة لمنع الفساد في البيت، لذلك يجب على هؤلاء إخراج أدوات اللهو المحرم من بيوتهم.السؤال: هناك بعض الشباب يجعلون في بيوتهم أجهزة اللهو، يتركونها لزوجاتهم وأولادهم يتفرجون عليها، وإذا نصحناهم بإبعادها قالوا: إنهم يتفرجون على الأخبار وأفلام الكرتون، وإذا دخل زوجاتنا في بيوتهم وجدوا أن أهل ذلك الشخص يسمعون الأغاني، ويرون المسلسلات العربية والغربية، ويقولون: هذه مسلسلات اجتماعية؟ الجواب: لا شك أن هذا من الانحراف، وأن الذي يرضى بالمحرم في بيته يرضى بالسوء في بيته، فلا شك أن فيه دياثة، وهذا الذي يقر الخبث في أهله ويرضى أن يتفرجوا على هذه الأشياء المنكرة ليس عنده غيرة؛ لو كان عنده غيرة لمنع الفساد في البيت، لذلك يجب على هؤلاء إخراج أدوات اللهو المحرم من بيوتهم.
التصرف السليم لمن في بيته خادمة
السؤال: من أكبر الثغرات وجود الخدم في البيت؛ خاصة عندما تكون خادمة وتتجول في البيت؛ فأينما ذهب الشخص وجدها أمامه تقريباً، فما الحل؟ الجواب: إذا أراد أن ينتقل في الطريق فليتنحنح، ويطلب أن يكون الطريق خالياً، وهذا أمر ممكن لمن أراد أن يصون دينه، وأن تكون ملتزمة بالحجاب ما دام في البيت أو يتنقل فيه، ثم إن عليه أن يغض البصر، والله أعلم.السؤال: من أكبر الثغرات وجود الخدم في البيت؛ خاصة عندما تكون خادمة وتتجول في البيت؛ فأينما ذهب الشخص وجدها أمامه تقريباً، فما الحل؟ الجواب: إذا أراد أن ينتقل في الطريق فليتنحنح، ويطلب أن يكون الطريق خالياً، وهذا أمر ممكن لمن أراد أن يصون دينه، وأن تكون ملتزمة بالحجاب ما دام في البيت أو يتنقل فيه، ثم إن عليه أن يغض البصر، والله أعلم.(/24)
ثقافة الألوان
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
كثرت كتب المختارات وبعضها أعتبر صدروه سفهاً يوجب الحجر، لأن المؤلف الذي زين الغلاف الملون باسمه ليس له من الكتاب إلا العنوان والمقدمة والفهرس إن كان هو الذي أعده !، أما ما بين الدفتين فهو نقول كاملة ليس بينها رابط، ولا يجمعها منهج، ولا يحيلها إحالة عليه إلى مصادرها الأصلية بل يكتفي بأن يكتب " البداية والنهاية لابن كثير" دون ذكر الطبعة أو الجزء والصفحة، والأدهى من ذلك أن يكون في مختارات الكتاب ما يعارض عنوانه وهدفه، وهذا العمل لا يعدو كونه قصاً ولصقاً يجمع بين دفتين فيخرج لك هذا الكتاب .
تطورت آلات الطباعة فالحروف مختلفة الأنواع والأحجام، والآيات تُطبع برسم المصحف، والعناوين تُحلّى بإطارات جميلة، وربما جعلت بلون مختلف، أما الأغلفة فحدث ولا حرج عن ورقها الصقيل أو تجليدها البديع، مع الألوان الزاهية، والتصاميم والخطوط المتناسقة، وهذا كله لا بأس به إذا كان المضمون جيداً، وكانت العناية به أضعاف أضعاف العناية بالشكل، ومن هنا أنتقل إلى وصف ظاهرة أحسب أنها جديرة بالرصد والنقد، وهي كثرة الكتيبات والمؤلفات في الساحة الإسلامية التي ليس لها من التأليف الحق إلا حسن الاختيار في العنوان والألوان، وهذا خطر كبير وأخطر منه أن تخطى هذه الإصدارات بالقبول وتروج بين فئام من شباب الصحوة ويعدونها مصادر الثقافة ومعالم الإبداع، وقطعاً لا ينطبق هذا الوصف على جميع الإصدارات إلا أنه يصدق على عدد غير قليل منها، وإليك نماذج وصفية للتوضيح :
1- التكرار:
ينتابني شعور بالآسي وأنا أرى كتباً عديدة تتناول موضوعاً واحداً ولا تكاد تجد بين مضامينها أي اختلاف باستثناء التقديم والتأخير واختلاف العنوان والألوان!
خذ مثلاً [ التوبة ] .. وانظر الكم الهائل من الرسائل والكتيبات حوله وأظهر من ذلك موضوع [ الأذكار ] الذي لا بد فيه من التكرار، لأن الأذكار مأثورة لا مجال فيها للابتكار، ومثل ذلك الموضوعات المتعلقة بالمرأة من حجاب واختلاط، وأعجب من ذلك التكرار في تحقيق بعض كتب التراث ويكفيك أن تلقي نظرة على الرسائل الصغيرة لابن أبي الدنيا والسيوطي لتجد أن الرسالة الواحدة حققت ثلاث أو أربع مرات ربما أغنى بعضها عن سائرها.
2- الاختيار:
كثرت كتب المختارات وبعضها أعتبر صدروه سفهاً يوجب الحجر، لأن المؤلف الذي زين الغلاف الملون باسمه ليس له من الكتاب إلا العنوان والمقدمة والفهرس إن كان هو الذي أعده !، أما ما بين الدفتين فهو نقول كاملة ليس بينها رابط، ولا يجمعها منهج، ولا يحيلها إحالة عليه إلى مصادرها الأصلية بل يكتفي بأن يكتب " البداية والنهاية لابن كثير" دون ذكر الطبعة أو الجزء والصفحة، والأدهى من ذلك أن يكون في مختارات الكتاب ما يعارض عنوانه وهدفه، وهذا العمل لا يعدو كونه قصاً ولصقاً يجمع بين دفتين فيخرج لك كتاب عظيم الحجم زاهي الألوان، فالله المستعان.
ولست بصدد حصر أنماط الظاهرة فهي متعددة فهناك - مع ما سبق- ضعف المادة حيث تجد بعض الكتيبات لا تتجاوز مادته خمس صفحات من مقاس الفولوسكاب!
وبعضها تغلب عليه السطحية والأسلوب الإنشائي، وكثير منها لا تجد فيه جهداً مبذولاً فالعزو للكتب الحديثة مع وجود الأصل الذي نقلت عنه، وبالجملة فكثير منها يفتقر إلى مواصفات التأليف التي أسلفتها فلا غزارة في العلم، ولا عمق في الفكر، ولا تجديد في الموضوعات أو طرحها. وأنا أعلم أن بعض الكتيبات مفيد للعامة لترغيبهم في القراءة وتبسيط الموضوعات لهم، وتعد أيضاً نافعة للشباب المبتدئين حيث تقدم لهم خلاصات مختصره بأساليب ميسرة، لكنها مرحلة عابرة لها ما بعدها، ولا ينبغي أن يكون المنبع الأساسي للثقافة بالنسبة لشباب الصحوة، ولا يحسن أن يستندوا في ذلك مع العامة والمبتدئين، ويظلوا بهذه الكتيبات مرتبطين؛ وبالتالي يبتعدون أو يحجبون عن أمهات الكتب، والبحوث العلمية الجادة، والدراسات الرصينة التي تستلهم التراث وتستقرئ الواقع وتقدم حلولاً للمشكلات المعاصرة، ورؤىً جديدة، وتعد بحق مؤلفات اجتهد فيها مؤلفوها ببذل الوقت وطول البحث مضامينها مع عناوينها بغض النظر عن كثرة وجمال الألوان(/1)
ثقافة الاعتذار
أحمد حمدان*
يظل الاعتراف بالذنب خلقاً نادراً في مجتمعاتنا الصغيرة (الأسر)؛ وبالتالي في مجتمعنا الكبير!؛ فلا يزال الاعتراف بالذنب صعباً؛ ومستبعداً؛ لاعتبارات تربوية، وتقاليد نمطية متوارثة؛ لم تتنور بما شاع من علم ودين، أو بما بدأ ينتشر من وعي في مجتمعنا.
فما زال المخطئ يخطئ، ثم يخطئ، ولا يزال - أباً كان أو أماً أو أخاً كبيراً - متحفظاً بتلك الصفات (الاجتماعية) التي تعطي (المخطئ) حصانة اجتماعية ضد النقد، فضلاً عن أن يعترف هو بخطئه!.
وأسوأ من الحصانة الاجتماعية الحصانة الدينية التي تؤدي الدور نفسه وأعظم؛ فبالإضافة إلى ضربها سوراً عظيماً حول المخطئ فإنها تعطي انطباعاً سيئاً عن التدين.
فبعض من المتدينين يعامل من يراهم غير متدينين بغلظة، وجفاء، وبكثير من اللوم، والعتاب، والتوبيخ؛ بموجب تدينه!؛ خاصة عندما يكون في بداية الطريق، ثم يتبين له من بعد أنه أغلظَ، وانتهرَ، وعاتب في غير مكان غلظة أو عتاب.. ثم يصر مستكبراً؛ دون قصد، أو دون وعي لا أدري!!.. إن الاعتراف بالخطأ يظل خلقاً نادراً؛ لسبب أراه أساسياً؛ وهو عدم تربية النشء عليه في أسرنا السودانية؛ فكثيراً ما نجد أن موقف الطفل أسلم، وأفضل في بعض المواقف إلا أن الأم، أو الأخت الكبرى تصر على موقفها؛ فيُكَوِّن هذا الوضع تناقضاً داخلياً لدى الطفل؛ مما يؤثر في ثقافته الاجتماعية مستقبلاً.
وقد يتخذ الشاب موقفاً معيناً في الأسرة قد يكون في شأن دراسي أو علمي؛ فتثور عليه ثائرة القوم، ثم يتبين للجميع أن موقف الشاب الصغير كان صحيحاً (ميه ميه).. فيتغاضى الجميع عن الأمر!!؛ فيصير الشاب إلى نارين.. نار الرفض، ثم نار التجاهل.. وأعظم بهما من نارين!!.
بعد مدة قرأت ملاحظاتي التي كنت كتبتها مسبقاً حول الاعتذار؛ فوجدتني محاطاً بعبارة أكررها دائماً في المجالس: (الكلام دا من ناحية عملية بِتْعمل (بيتعمل) كيف؟).. فآليت على نفسي نشر ثقافة الاعتذار، وترويجها في مجتمعي الصغير (مجتمع التدريس)؛ فأخذت أكررها للطلبة، بل لتلاميذ الأساس.. وذات مرة أخطأَتْ طفلةٌ رائعة اسمها (فاطمة الزهراء)، ولما رأت الغضب بادياً على وجهي قالت بذكاء: يا أستاذ ثقافة الاعتذار!.. وكانت تقصد أنها تريد الاعتذار عن الخطأ؛ فأعجبت بذكاء الطفلة، وبفكرة (ثقافة الاعتذار)؛ ثم حاولت نشر هذه الفكرة بين طلبة المدارس الإنجليزية؛ فوجدت تجاوباً ما كنت أتوقعه؛ حتى إن بعض الأطفال كان يقول لي: يا أستاذ شوف دا ما قال ليك I'm sorry.
ثم تأملت في التجاوب مع الفكرة من قِبَل الأطفال؛ فقلت في نفسي: لماذا لم نربَّ على مثل هذه القيم؛ حتى إن أحدنا الآن لا يستطيع الاعتذار لأستاذه في الجامعة، أو لصديقه في العمل، فضلاً عن أن يعتذر (للكمساري)، أو (لماسح الأحذية)، أو غيرهما؛ ممن يقدمون لنا خدمات جليلة!!.. ثم حاولت التفكير في أسباب هذا (الاستكبار المتوارث)؛ فوجدتها سبباً واحداً برأيي؛ وهو عدم التفكير في الفعل قبل الإقدام عليه، وعدم الاكتراث به بعد ذلك!!..
وهذا الإقدام اللامدروس، واللامبالاة المدروسة وجدتها أساس الداء في هذا (الاستكبار المتوارث) الذي نتعامل به.
إلى هنا انتهى ما عندي.. ثم استمعت إلى نشرة أخبار المساء؛ فإذا بتصريح مقتضب للرئيس الأمريكي بوش: كان ذهابنا إلى العراق نتيجة معلومات استخبارية خاطئة، وأنا بصفتي رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية أعلن مسؤوليتي عما حدث، وكذلك مسؤولية تصحيح ما جرى!!.. فقلت في نفسي كعادة الشرقيين: (نحن أصحاب الحضارة الرفيعة، ونحن الذين علمناهم هذه الشفافية - وإن كان كاذباً فيها -، ونحن الذين قلنا قديماً: إن الاعتراف بالذنب فضيلة، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل)!!.. ثم نمت على هذه (النغمة الساذجة).(/1)
ثقافة التحوّل رؤية عالميّة
عبد الرحمن بن خلف العبود 28/1/1426
09/03/2005
يلحظ المراقبون تسارع إيقاع الأحداث حولنا سواء كانت على مستوى المجتمع المحلي أو الدولي، بمختلف نواحيه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا التسارع يفرض على المجتمعات الصغيرة الذوبان في فلك القوى الكبرى نتيجة عدم القدرة على مجارات الأحداث بمختلف أنماطها. مع الإشارة إلى أنه في زمن مضى كان فرض الوصاية على المجتمعات الأخرى بالاستعمار العسكري فقط. الذي نتج عنه المقاومة الشرسة للمحتلّ الأجنبي.
أما في الآونة الأخيرة فإن هناك نوعاً آخر من فرض الوصاية بمختلف مجالاتها – الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية- ودون الاكتفاء بالاستعمار العسكري، بل يصل الحد إلى فرض نموذج معين لتطبيقه على تلك المجتمعات، قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم).
هذه التحوّلات العالمية المتسارعة، التي تهدف غالباً إلى خلخلة الفكر وزعزعة البنية الثقافية والقيم الإسلامية، وجعلها تتأرجح في فضاء الحيرة والشك للوصول إلى إضعاف الهوية الإسلامية ومسخها. مما يترتب عليه قبول أي مشروع جديد بالنمط الغربي دون أيّ مقاومة، بل ربما بالترحيب من أبناء المجتمعات الإسلامية.
إن الاغتصاب الفكري نوع من فرض الوصاية الثقافية على المجتمعات الإسلامية. لذا لا غرابة أن ترى من أبناء المسلمين من يساهم في تقديم النظريات والأطروحات المخالفة للشريعة، علماً أن المنتج الفكري يحمل القبّعة الغربيّة!!
إن ثقافة التحوّل تتطلّب منّا إدراك أهداف ومفاهيم التحوّلات المتسارعة، وأثرها على واقعنا المعاصر. ودراستها الدراسة المتأنّية لتقديم رؤية واضحة لأبناء المسلمين للتعامل مع تلك التحولات وإفرازاتها، ورصد تلك الظاهرة وإيجاد الأفكار العملية لمواجهتها.
إن من أعظم المشاريع لمواجهة تلك التحوّلات المتسارعة إبراز القيم والمفاهيم الإسلامية النبيلة، وتعزيز الانتماء إلى الهوية الإسلامية وتقديمها على أنها النموذج الأمثل للحياة. وعلى قادة الفكر الإسلامي والدّعاة إلى الله نشر تلك القيم الإسلامية السامية ذات المنهج الوسط. والفصل بين تلك القيم العالية والأخطاء التي تقع من بعض المسلمين، وإيضاح أن الممارسة الخاطئة في الحياة من بعض الأفراد لا تمثّل القيم الشرعية بل تمثل الإنسان نفسه.
إن الانهماك في المشاريع الدعويّة بمختلف مجالاتها، مع التنوّع في الأساليب والطرق ومواكبة المستجدات العالمية والاستفادة من التقنية الحديثة وتطويعها لخدمة هذا الدين- نوع من الحفاظ على أبناء المسلمين والهوية الإسلامية الخالدة. إضافة إلى تقديم الدعوة بصورة سليمة مؤثّرة، مع البعد عن المشاحنات التي تعرقل المسيرة الدعويّة، وتزيد الشقاق بين أفراد المجتمع، يقول الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ويقول سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/1)
ثقافة الحوار
إبراهيم الديب (*
أهم أدوات التعايش الإيجابي والنهضة الإنسانية
لما كانت حياتنا اليومية مجموعة من الحوارات المتتالية والمتنوعة؛ تبدأ بالحوار بين أفراد الأسرة الواحدة، ثم المجتمع، ثم زملاء العمل، ثم بين المجتمع والمجتمعات الأخرى، والدولة والدول الأخرى، والثقافة والثقافات الأخرى، خاصة في عالم أصبح في ظل ثورة الاتصالات والفضائيات أشبه بالقرية الصغيرة.
وفي ظل ثقافة العولمة التي يحاول بها القوي أن يفرض سلطته وسطوته ومن ثَمَّ ثقافته على الشعوب الأخرى.
ولما كان للحوار أهمية خاصة في أدوات القادة والمديرين وصناع القرار في الحياة العامة، وكذلك استخدمه المصلحون والمجددون في وسائلهم عبر صفحات التاريخ الإنساني المتجدد.
لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن يكون لامتهان واحتراف الحوار أهمية خاصة، ونحن في سبيلنا لإعداد أنفسنا ومجتمعاتنا، وهي في سبيلها للنهوض بالإنسانية جمعاء من خلال مشروعنا الحضاري الإسلامي، حتى تعم وتسود ثقافة الحوار بصيغته الحضارية التي بيَّنها القرآن الكريم، واستخدمها رسول الله {، وأن تكون ثقافة الحوار أحد الأهداف في مناهجنا التربوية على كافة المستويات والمراحل السنية المختلفة؛ حتى ينشأ جيل من المحترفين للحوار فيما بينهم وبين أنفسهم، ومع غيرهم من المجتمعات والثقافات والحضارات، ونحن بذلك ننشد إعداد أنفسنا لنكون مؤهلين للتمازج الحضاري مع الحضارات الأخرى لخدمة الإنسانية جمعاء: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)(الأنبياء).
التمازج الذي يحقق البناء الروحي والأخلاقي مع البناء المادي، دونما إفراط أو تفريط في أي منهما، فتستقيم الحياة كما أراد الله تعالى لها.
وينبني الحوار على منظومة من القيم الثقافية المهمة التي لابد للمجتمع أن يتربى ويتدرب عليها:
قيمة إعزاز وتقدير الذات.
قيمة احترام الآخر.
قيمة حسن الاستماع.
قيمة الاستعداد للاعتراف بالخطأ والتحول للرأي الأصوب.
قيمة قدسية الحقوق والممتلكات والأفكار والآراء.
قيمة المرونة.
قيمة الاتصال والتواصل مع الآخرين
قيمة الجماعية والتعاون
قيمة البحث عن الحقيقة وإعلائها.
قيمة الإيمان بضعف الذات ومحدوديتها واستحالة العيش بفكر ورأي الذات منفردة.
ويمكن إيجاز الأهداف السلوكية (الثمرات المنشودة) من امتلاك أسس ومهارات الحوار الإنساني الاحترافي كثقافة مجتمع وأمة في الآتي:
1 تكوين اتجاه وميل عقلي ووجداني إلى أهمية الحوار وضرورته في حياتنا وممارساتنا اليومية بمختلف تعاملاتنا (مع أفراد العائلة في المدرسة والجامعة وفي العمل والشارع والهاتف).
2 الاهتمام بالرأي الآخر وحسن الاستماع له واحترامه، والقابلية والاستعداد لتغيير وتطوير الأفكار والآراء.
3 الالتزام بالآداب الأساسية للتحاور مع الآخرين، بغض النظر عن سنه أو مكانته أو قدراته.
4 نشر ودعم ثقافة التحاور بين الأفراد، والارتقاء في ممارسته من خلال اكتساب الآداب والمبادئ الأساسية له، والتدريب على المهارات الحوارية المختلفة.
5 توفير الكثير من الوقت والجهد والتكلفة من خلال اعتماد منهاج الحوار كوسيلة أساسية للتواصل بين الأفراد، وحل المشكلات والنزاعات والصراعات بين الأفراد.
6 اعتماد وتوثيق منهاج الحوار كأداة ووسيلة أساسية للتربية والتأهيل والإصلاح والدعوة والتواصل والانفتاح على الآخر في ظل ثقافة العولمة.(/1)
ثقافة الخلود : الهوانم في صالونات الفرفشة
بقلم: محمد حسن يوسف
اتفقت شيرين وباكينام وريم على الاجتماع في منزل إحداهن مرة كل شهر للتدارس في الأمور التي تحدث حولهن. وقد قررن أن يكون الاجتماع الأول في منزل ريم. كان أفراد عائلة ريم في عمل متواصل. فقد أخذوا في الإعداد لهذه الزيارة المرتقبة.
كانت ريم تفاضل بين فساتين السهرة، إلى أن استقر رأيها على فستان " سواريه " أسود يكشف عن نصف الصدر. وهنا تدخل هيثم ابنها قائلا لها:
- ولماذا هذا الفستان يا مامي؟! إنه لا يكشف إلا عن نصف الصدر فقط! ألا تتذكري صاحبتك باكينام التي كانت ترتدي فستانا يكشف عن ثلثي صدرها؟!!
وهنا ابتسمت الأم ابتسامة عريضة، وانفرجت أساريرها من ملاحظة ابنها الذكية!! لقد كادت أن تقع في مأزق، حيث كانت ستسرق باكينام الأضواء منها لولا أن انتبهت لذلك في اللحظة الأخيرة!!
وهنا أبدى تامر – زوج ريم - امتعاضه الشديد. وظنت ريم في بادئ الأمر أن مرجع هذا الامتعاض هو ذلك الفستان الذي لا يترك شيئا في جسدها إلا ويكشفه. ولكن تامر كان يمتعض لسبب آخر!! قال تامر موجها حديثه لريم:
- إنني في غاية الدهشة! كل الأزياء تركز على كشف أجسادكن!! في حين لا يهتمون بنا على الإطلاق!! كم كنت أتمنى لو كانت الموضة في هذا العام للرجال الشورت القصير أو الفانلة " الحمالات "!!!
وتدخل هيثم في الحديث مقاطعا:
- دعونا من هذا الآن! إننا نريد أن نستعرض الاستعدادات لهذا الحفل!! نريد أن يكون هذا الحفل لا مثيل له حتى تأتي جميع الاجتماعات الشهرية التي تليه على غراره!!
ونظرت الأم إلى ابنها نظرة حانية. فللمرة الثانية يتدخل ليضع الأمور في نصابها. هكذا يكون النشء!!! وبدأت الأسرة في استعراض برنامج الاجتماع. قال هيثم:
- هل نبدأ بالعشاء أم بفيلم مثير؟!!
قال تامر بصوت تملؤه الخبرة:
- الأفضل أن يكون الفيلم مع العشاء، حتى تكون الإثارة أكبر!!!
وقاطعت ريم مجرى الحديث قائلة:
- أرى أن يكون العشاء عبارة عن قطع من " البيتزا " الإيطالية، ودجاج على الطريقة الأمريكية، و " شوربة " على الطريقة البريطانية "!!
قال هيثم:
- وفي البداية نستمع للأغاني الشبابية الجديدة! عندي كوكتيل فظيع!!!
*****
إن ما سبق ليس إلا صورة لما تريده مجلة مشبوهة تبدو للأسف وكأنها تخصصت لنقد الملتزمين من المسلمين!! فقد تبنت المجلة في أعدادها الأخيرة حملة عن اجتماعات النساء العفيفات في بيوتهن لمناقشة أمور دينهن والتفقه فيه. وأنكرت عليهن أن يقمن بذلك. وأطلقت على هذا الملف اسم " ثقافة الموت "، كما أطلقت على حملتها على هؤلاء النساء: " الهوانم في صالونات الاكتئاب ". وكأن ما تريده هذه المجلة من النساء أن يكون اجتماعهن على غرار الاجتماع المذكور أعلاه: اختلاط وعُريّ وأفلام داعرة وموسيقى صاخبة وأنماط غربية في طريقة الأكل والشرب والتفكير ... إلى آخر هذه الموبقات.
فكرت في البداية ألا اكتب أي تعليق على هذه المقالات، عملا بقول الشاعر (1) :
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقال بدينار
لكني بعد أن استخرت الله، وجدت أن من الأفضل التعليق عليها، حتى لا يظن من يقرأ هذه المقالات أنها على الحق، أو أن ما تفعله هؤلاء النسوة العفيفات أمرا لا يجانبه الصواب. لذلك وجدت من الأصوب توضيح حقيقة هذه المقالات، ذلك أنها – كما عودتنا هذه المجلة المشبوهة – تستهدف الدين!!
فحين تقرأ المقال ( المنشور في العدد الصادر في 19 – 25 يونيو 2004 ) تجده يمتلئ بالحكايات " التافهة " التي لا أدري مم جمعتها كاتبة المقال؟! كما أنه مليء بالأخطاء العقدية والقرآنية والحديثية. وسوف أتطرق فقط لعدة أمثلة، لأنني لو استعرضت المقال برمته لطلبت منها أن تلقيه في سلة المهملات!! ذلك أن من العيب على كاتبة أن تخوض غمار شيء تجهل حقيقته!!!
وبداية لا يعجب كاتبة المقال أن يكتب " المسلم " وصيته وفقا للشرع الحنيف، رغم أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " (2) . وانظر ماذا قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعد سماعه هذا الحديث. لقد قال: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. وليست هناك صيغة محددة لهذه الوصية، ولكن كلما كانت هذه الوصية مطابقة للشرع كلما كان ذلك أفضل بطبيعة الحال. وتوجد صيغ كثيرة للوصية الشرعية في المكتبات، فيمكن أخذ أي صيغة منها والاسترشاد بها في كتابة وصيتك.(/1)
إذا أردنا أن نعرف لماذا تحقق لجيل الصحابة والأجيال التي تلته العزة والنصر، ولماذا مُنيت أجيالنا بالفشل والهزيمة، فلندرس جيدا سلوك الصحابة وهذه الأجيال مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفنا نحن منها، سواء تمثل ذلك في تشكيك أو استهزاء بها أو إظهار صعوبة العمل بها والمداومة عليها. لقد تعامل الصحابة مع أمر واحد من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الانصياع، حينما أمر الرماة على جبل أُحد بعدم النزول من على قمته مهما كان الأمر. وبعد أن تحقق النصر في بادئ الأمر، بدأ الرماة في مخالفة هذا الأمر النبوي، فكان العقاب الإلهي بإنزال الهزيمة بالمسلمين، لكي يتعلموا عدم مخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم مهما كان هذا الأمر. وها نحن نواجه سنن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية، فهل عرفنا لماذا وصلنا إلى هذا المستوى الذي انحدرنا إليه؟!!
وتتكلم كاتبة المقال عن داعية بدأت بتعليم النساء كيفية نطق الكلمات الصعبة في آيات القرآن الكريم، ثم قامت بشرح بعض الآيات المختارة، مثل " سورة نوح "، وأنها تحدثت عن الأصنام التي ورد ذكرها في الآية: " اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ". وتقول التي تجهل قرآنها: وهي آلهة كان قوم نوح يعبدونها ويسلمون لها بالأمر وينقادون إليها فأصابتهم التهلكة!! هكذا قالت.
وبالطبع فسورة نوح ليس فيها هذا الكلام على الإطلاق! فعن أي قرآن تتحدث كاتبة المقال؟!! إن القرآن الذي بين أيدينا ليس به ما تقول! فهل عندها قرآن آخر تتحدث عنه!!! أليس من العيب أنها لا تحفظ حتى سور القرآن القصيرة، أي على الأقل آخر جزئين من المصحف؟!! وإذا كانت لا تحفظ القرآن، فألم يكن من الأصوب لها أن تعود إلى مصحفها؟!! أم أنها أيضا لا تحمل مصحفا معها؟!!
فسورة نوح تتحدث عن الآلهة: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا .(3) فهذه هي الآلهة التي كان يتعبدها قوم نوح. أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى التي تتحدث عنها كاتبة المقال، فقد ورد ذكرها في سورة النجم (4) . وهذه هي الآلهة التي كان يتعبدها قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
ويمتلئ المقال بالأخطاء في الآيات القرآنية!!! وكان يجب على المجلة أن تراجع الآيات القرآنية بعد كتابتها، ولا تترك الأمر بيد محرريها الذين يجهلون القرآن الذي يتكلمون عنه. فالآية ( 16 ) من سورة الكهف تقول: ? وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ? ] الكهف: 16 [ ، ولكن المجلة تكتبها ( وإن اعتزلتموهم ). وفي الآية ( 15 ) من نفس السورة: ? هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ? ] الكهف: 15 [ ، والمجلة تكتبها ( هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة ).
وفي التعقيب على هذا المقال ( والمنشور في العدد الصادر بتاريخ 26 يونيه 2004 – 2 يوليو 2004 )، تقول كاتبة المقال أنه: ( انهالت الاتصالات والخطابات على المجلة بعد نشر موضوع " الهوانم في صالونات الاكتئاب " ما بين مؤيد ومعارض ). ولكن للأسف حين استعرضت آراء من اتصل بها، لم تستعرض إلا آراء تعارض هذا الموضوع وتصوره على أنه رحلة للعذاب والمعاناة!! ولا أدري؟ فإذا كان الأمر كذلك، ومن يتصل بها هو " رجل " فعلا، فكيف لم يستطع منع هذا " العذاب " – على حد قوله - من بيته؟!!
وتتحدث كاتبة المقال عن آراء اثنين فقط من الرجال، رغم انهيال الاتصالات عليها كما ادّعت!! أحد هذين الرجلين طبيب في إحدى المؤسسات العلاجية، هكذا تقول كاتبة المقال. وتحكي على لسانه أنه يضطر لمغادرة المنزل أثناء اجتماع السيدات في منزله. فهل يضن ببضعة ساعات من أجل تفقه زوجته في دينها، وتكون تلك الساعات في ميزان حسناته يوم القيامة إن شاء الله؟!! أليس هذا أفضل من أن يترك زوجته لجلسات النميمة والغيبة التي تمتلئ بها حياتنا!! أما الزوج الثاني، فقد رفض ذكر أي شيء عن هويته، وهو ما يعني أن كلامه هو مجرد تلفيق!!!
يا أصحاب الأقلام! اتقوا الله فيما تكتبونه!! لمصلحة من التشكيك في كل ما يمت بصلة للإسلام؟!! إن هذا لن يخدم إلا مصلحة أعدائنا المتربصين بنا. لا أدري ما الذي تريدونه؟! يكفينا في هذه الأوقات العصيبة التي نمر بها أن نفكر جميعا في كيفية مواجهة العدو الخارجي المتربص بنا يريد أن يستأصل شأفتنا. وهو في سبيل تحقيق أغراضه لن يردعه أي مانع!! فإذا تحقق له ما يريد، فلن يرحم أي منا!!
إن من سنن الدنيا أن حياة الإنسان تعقبها الوفاة. فليس بمقدور أحد الخلود في الدنيا!! ولذلك فإن الإسلام يهتم بدراسة أمور ما بعد الوفاة. فهو يُولي أهمية خاصة للاهتمام بآخرة الإنسان، مع عدم إغفال الحياة الدنيا. ولذا فإن من الأهمية بمكان أن يتدارس المسلمون أمور آخرتهم لكي يفوزوا فيها بالجنة. فليس من الغريب أن نهتم بهذه الأمور، كما أن تدارس الناس لهذه الأمور فيما بينهم هو أمر لا يدعو للسخرية على الإطلاق!!(/2)
كان من الأولى بهذه المجلة أن تكرس جهودها للصالونات التي تقام للنيل من الإسلام!! تلك التي تسير على خطى الغرب وتدعو المجتمع للتغريب والتفرنج!!! ولماذا تثير المجلة كل هذه الزوبعة لمجرد أن بعض النساء يتكلمن في أمور الدين، بينما لم تحرك ساكنا حينما يكون الهجوم على الدين؟!! ولماذا لم يتحرك علماء الدين الذين استشارتهم المجلة حينما قرءوا إعلان لأحد الأفلام مؤخرا تقول بطلته الناشئة في أولى أفلامها: " أنا كل يوم قبل ما أنام بأتخيل نفسي بغني في استاد كبير والناس كلها بتغني وترقص معايا "!!! لماذا يكون التحرك سريعا تجاه أي عودة للدين، بينما تسود عدم المبالاة حينما يعادي أحد الدين أو يدعو للخروج على نصوصه؟!!
وماذا فعلت المجلة لمواجهة حملة " مليون ضد محمد " التي تبنتها منظمة تسمى " رابطة الرهبان لتنصير الشعوب "؟ لقد حشدت هذه المنظمة - والتي يتبعها أكثر من 85 ألف قسيس، و450 ألف جمعية دينية – جهودها للحد من انتشار الإسلام، وتشويه صورة النبي صلوات ربي وسلامه عليه، فدشنت العمل بتلك الحملة بهدف الحد من انتشار الإسلام في العالم!!! فماذا فعلت تلك المجلة في مواجهة ذلك؟ أم أنها ترى عدم غضاضة ذلك، وأن الأهمية القصوى لديها هي توجيه الجهود للنيل ممن يلتزمون بدينهم!!!
قال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? [ النور: 19 ] . وقال عز وجل: ? إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? [ النور: 23 ] .
---------------------
[1] هو الشاعر: علي الغراب الصفاقسي.
[2] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: صحيح البخاري ( 2738 )، وصحيح مسلم ( 1627 ).
[3] ? وَقَالُوا َلا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ? [ نوح: 23 ] .
[4] ? أَفَرَأَيْتُمْ الَّلاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ اْلأُخْرَى ? [ النجم: 19-20 ] .(/3)
ثقافة الطفل والمؤثرات من حوله
التحرير*
مدخل
مرحلة الطفولة لها تأثيرها العميق على شخصية الفرد واتجاهاته وقيمه , وما يقدم لأطفالنا يحدد شكل سلوكهم وقيمهم في المستقبل ، خاصة وأن لمرحلة الطفولة تأثيرها العميق على شخصية الفرد واتجهاته وقيمه ، ومن هنا تبرز أهمية الحاجة إلى تنقية مصادر ثقافة الطفل ، ويزيد من هذه الأهمية ما تتعرض له دول العالم الثالث من حصار ثقافي يهدف إلى مسخ الهوية الثقافية و جعلها تدور في فلك الثقافة الغربية .
إن القوى الثقافية الغربية تركز جهودها للهيمنة الفكرية و الثقافية على أطفال المسلمين في العالم الثالث ، ويظهر ذلك في صور مختلفة منها إغراق مكتبات الأطفال وبرامجهم في الإذاعة والتلفاز وفي مجلاتهم بالأدب المترجم والمقتبس عن الغرب والذي يحمل مضامين تخالف عقيدة الإسلام وقيمه .
إن دعاة التغريب يلهثون وراء كل ما هو غربي بحجة تقدم هذه المجتمعات ، ويرون أن الاقتباس من الغرب خطوة على طريق التقدم والرقي ، غير أنهم ينسون أن التقدم لا يعني أن يعيش الإنسان بعيداً عن دينه ، إذ أن الأقدمين من سلفنا الصالح قد بلغوا درجات رفيعة من التقدم العلمي والرقي وسادت ثقافتهم وعلومهم العالم ولم يبتعدوا عن عقيدتهم ولا مبادئهم .
مآخذ على الثقافة الغربية :
إن الثقافة الغربية للطفل - بالرغم مما أبدعته في ميدان الخبرات الكونية وما تفرع عنها من علوم وتطبيقات في مجال التكنولوجيا والاتصالات ونحوه – تضم النقائص التالية :
• أنها مفلسة في مجال الأخلاق والقيم .
• أنها تؤسس للعلمانية بمعنى أنها بعيدة عن ربط العلم والثقافة بقضية الأيمان
• أنها فردية النظرة أو قل إقليمية النظرة في أحسن الأحوال ، وليس لها البعد الإنساني الذي يضع نفع الإنسان – مطلق الإنسان – في حسبانه .
• أنها مادية النزعة .
• أنها تجنح للعنف ولا تدعو للحوار والتعايش .
منطلقات لتصحيح العملية التثقيفية للطفل :
• مراجعة ما يقدم للأطفال من طرائق وأساليب تربوية وتثقيفية وفقاً لمعيار الربانية و الأصالة .
• ترسيخ القيم الإسلامية في عملية الصياغة الثقافية للناشئة .
• تحصين الناشئة ضد التشوهات الثقافية الناتجة عن ما يقدمه أنصار التغريب عبر الفضائيات و وسائل الأعلام الأخرى .
• إذاعة المضمون التربوي والثقافي المنضبط بمبادئ الإسلام عبر وسائل مشوقة للأطفال كالأدب والتمثيلية وبرنامج الكومبيوتر ونحوه .
• التركيز على التوازن بين الدين والدنيا ، والروح والجسد ، والغيب والشهادة في عملية الصياغة الثقافية للأطفال .
• الاستفادة من التراث الضخم الذي خلفه السلف الصالح وتاريخ الخلفاء و إنتاج الأدباء والكتاب والرحالة المسلمون في عملية الصياغة التربوية .(/1)
ثقافة الهزيمة إلى مزبلة التاريخ
د. فيصل القاسم
لا أعتقد أن هناك أمة عانت من ثقافة الهزيمة أكثر من الأمة العربية، فقد عمل أعداؤنا على مدى عقود على تكريس الشعور بالهزيمة لدينا، وقد ساعدهم في ذلك رهط من أبناء جلدتنا الذين ما فتئوا ينشرون اليأس والعجز والإحباط بين ظهرانينا بدعوى الواقعية وضرورة أن نعرف قدر أنفسنا، على اعتبار أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان.
ولا بد من الاعتراف بأن أولئك الأشرار قد نجحوا إلى حد كبير في حربهم النفسية الخطيرة ضد الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، خاصة وأن الأخطر من الهزائم العسكرية التي مُنينا بها هو القبول بها والعيش معها كأمر واقع، فقد وصل الأمر بالكثير منا إلى حد الخوف حتى من استخدام كلمة مقاومة أو جهاد أو تصدٍ في الآونة الأخيرة، خشية أن نُتهم بالإرهاب بحيث أصبحنا نخشى من الكلام فما بالك القتال.
لقد انحدرت بنا ثقافة الهزيمة إلى ذلك الدرك الأسفل من الهوان والاستكانة. ويؤكد هذه الحقيقة كتاب شهير بعنوان "ثقافة الهزيمة" The Culture of Defeat، إذ يرى مؤلفه وولفغانغ شيفلبوش أن أهم شيء في فنون الحرب الحديثة ليس الانتصار على عدو ما، بل إبقاء ذلك العدو أسيراً لعار السقوط ولحظة الهزيمة والوقوع على الأرض لا يخرج منها أبداً ولا يخرج من عاره أو من هزيمته.
بعبارة أخرى، فإن النصر الأعظم الذي تستطيع قوة من القوى أن تلحقه بأعدائها هو أن تظل تضغط عليها نفسياً باستمرار، وأن تذكرها طوال الوقت بهزيمتها وأن تستبقيها إلى الأبد أسيرة لثقافة الهزيمة. وقد درس المؤلف تجارب ألمانيا واليابان وبولندا وفرنسا، وأخذ حالة هذه البلدان وكيف واجهت الوضع الصعب، مع العلم أن ألمانيا استسلمت بلا قيد أو شرط وفتحت أبوابها للمنتصرين ليدخلوا ويفعلوا ما يشاؤون، وأن اليابان ركعت على ركبتيها أمام القنبلة النووية الأمريكية واستسلمت بالكامل.
ولا ننسى أن فرنسا بجلالة قدرها هُزمت واحتلت من قبل هتلر في سنة 1940وظل نصفها تحت حكم الألمان والنصف الآخر بقيت فيه حكومة عميلة. لكن الشعوب الأوروبية لم تسمح للهزيمة بأن تتحول إلى ثقافة عامة، كما فعل العرب. لقد فهم الألمان واليابانيون والفرنسيون تلك الحقيقة جيداً، كما يقول محمد حسنين هيكل، وواجهوها واجتثوها من جذورها. وقد لعب المثقفون الوطنيون وقتها دوراً كبيراً في إزالة آثار الهزيمة وتشجيع المقاومة وإعادة استنهاض الروح المعنوية للشعوب الفرنسية والألمانية واليابانية، بمعنى أن المثقف الحقيقي هو أول من يجب أن يتنبه إلى أن استبقاء شعبه أو أمته أسيرة لثقافة الهزيمة أمر في غاية الخطورة، فلا ديمقراطية ولا حرية ولا تنمية ولا شرعية ولا هوية ولا كرامة، طالما أن الأمة أسيرة لثقافة الهزيمة. فلا يمكن أن تصنع مستقبلاً وأنت أسير لحظة الانكسار.
لكن بينما تصدى المثقفون والإعلاميون الغربيون لثقافة الهزيمة ووأدوها في مهدها، راح بعض مثقفينا يكرس الهزيمة ويجعلها ثقافة عامة مستدامة. وقد عاد ذلك الرهط الوضيع ليطل برأسه بقوة أثناء المواجهة الأخيرة بين رجال المقاومة الوطنية اللبنانية والدولة العبرية ليمارس لعبته القديمة، متعامياً عن النصر المؤزر الذي حققته المقاومة الوطنية اللبنانية، فامتلأت بعض المواقع الالكترونية والصحف العربية الصفراء والخضراء بالمقالات والتحليلات التحبيطية التي وجدت طريقها بسهولة فيما بعد إلى موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية الالكتروني.
وكم كان التناغم واضحاً بين بعض المواقع والصحف العربية وبين المواقع الإسرائيلية الرسمية،على اعتبار أن بعض الصحف الإسرائيلية غير الرسمية كانت أكثر توازناً في تقييمها للمعركة وأكثر اعترافاً ببسالة المقاومين اللبنانيين من الطابور الإعلامي العربي الخامس. كيف لا وقد اعترف قائد لواء (جولاني) الذي يُعتبر صفوة الجيش الإسرائيلي بأنه كم تمنى لو كان المقاومون الذين واجههم في بنت جبيل وعيتا الشعب من لوائه لشدة بأسهم وعبقريتهم القتالية وصمودهم الرائع. لكن ذلك الاعتراف الإسرائيلي المر لا يعني من استمرأوا الهوان والذل وراهنوا على الهزيمة المستدامة من إعلاميينا ومثقفينا المزعومين.
وعلى ما يبدو أن خبراء التحبيط والتيئيس العرب ما زالوا أسرى أدواتهم ونظرياتهم القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، فليس لديهم من أسطوانة يلعبونها كلما أرادوا النيل من حركات المقاومة وداعميها سوى أسطوانة أحمد سعيد المذيع الشهير في إذاعة (صوت العرب) أيام النكسة، على اعتبار أن العرب، برأيهم، ليسوا أكثر من ظاهرة صوتية تتغنى بالانتصارات الفارغة وتطلق العنتريات على الهواء وتُمنى بالهزائم على الأرض.(/1)