ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلف ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة)(10).
وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها، وما بينها من مراتب بحاجة إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين، وفي فقه النوازل، الذي هو أساس فقه التدين، وبحاجة أيضاً إلى الحكمة البالغة، وإخلاص النصح في تحقيق ما اشتبه، وتحرير ما اشتجر، وذلك جهد بالغ لا يقوم به إلا صفوة أهل العلم.
يقول ابن تيمية: (إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإذا كان المعروف أكثر، أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر، الزائد عليه، أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان، لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن هذا الباب: إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبيّ وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره ينوع من عقابه، مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل حاميه) (11) فتلك حكمة النبوة التي يجب أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه- بعد أن استبان له نور الحكمة النبوية في هذا: (قد والله علمت لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم بركة من أمري) (12) .
وذلك عندما قال عبد الله بن أبي (أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك القول فقام عمر فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" (13) .
ومن ثم فإن تغيير المنكر، المترتب على تغييره آثار فردية وجماعية، لا يستقيم القيام به إلا من بعد مراجعة ملابساته، والموازنة بينه وبين آثاره وهذا يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة .
ولهذا لا ينبغي أن يتهم العامة والدهماء علماء الأمة حين يوصون بالصبر على ذلك المنكر، حتى يتهيأ له الظروف ومناخات وملابسات أفضل، يؤتي التغيير فيها ثمراً أطيب وأعظم، وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني من قوله تعالى:? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ? [النحل: 125].
وفي قوله تعالى: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? [يوسف: 108].
فالحكمة والبصيرة دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر، قياماً يرضي الله عز وجل ويحقق الغاية من التكليف به .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.
تأليف عادل أحمد محسن البعداني
(1) صحيح مسلم: 1/69/49.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم: 1/215.
(3) الفتح الرباني: 5/125/رقم الحديث:1660.
(4) فقه تغيير المنكر/ص : 95.
(5) صحيح البخاري:1/304/853.
(6) جامع العلوم والحكم: 2/ص 248-249.
(7) إحياء علوم الدين : 2/314.
(8) راجع في الكفر الذي لا يخرج من الإسلام ، صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، شروحه للنووي.
(9) صحيح مسلم 3/1469 / 1709 .
(10) إعلام الموقعين، لابن القيم 3/4-5 .
(11) الحسبة، لابن تيمية ص38-39 .
(12) البداية والنهاية ، لابن كثير 4/185 .
(13) البخاري ، ج4/1861/4622 ومسلم 4/1998 /2589 .(/5)
تغيير تراب القبر ونصائبه
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 14/08/1425هـ
السؤال
هل لولي الميت تغيير البطحاء الموجودة على القبر، أو النصائب الموجودة بغيرها، أو تجديد بطحاء القبر؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إذا خشي ولي الميت من اندثار القبر، وانطماسه متطؤه الأقدام، والحيوانات، أو أن تحفره الكلاب والهوام جاز له حينئذ تجديده، بوضع حصباء أو نصائب تميزه عن غيره مما حوله من أرض، أو قبور أخرى، وهذا كله إذا لم تقم برعاية المقابر، وصيانتها جهة معينة؛ كالبلدية أو غيرها، أما إذا وجدت جهة مختصة تعنى بذلك فلا يجوز حينئذ لولي الميت القيام بشيء مما ذكر، بل يعتبر ذلك منه تعديًا، وافتئاتًا على صاحب الولاية الشرعية في هذا.(/1)
تغيِّر الفتوى بين سوء الفهم وسوء القصد !
06-4-2006
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"...وإنَّك لتعجب ممن ينتسب للثقافة ! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء الأمانة التي تحمّلها ليسأل صاحب الفتوى : لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس ؟..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..
فإنَّ من الموضوعات السهلة الممتنعة أن تجيب على سؤال ظاهره الوجاهة وباطنه قلّة المعرفة .. ومن ذلك أن يسألك مثقّف ! لماذا تختلف فتوى العالم الفلاني في المسألة ذاتها إذا كان اجتهاده لم يتغيّر ؟ فتجيبه :
هناك صور كثيرة لهذه المسألة ، تكلّم عنها العلماء في القديم والحديث ، فحدِّد سؤالك ؟
عندئذ يجيبك بطرح أمثلة مُدْرَكَة ؛ وحينها تتنفّس الصَّعداء ، لأنَّ المسألة صارت أهون بكثير من أن تشرح له أسس فنَّ الفتوى وأصول الاستدلال ، ولا سيما أنّ كثيراً من موضوعات أصول الفقه تستعصي على بعض طلبة العلم ؛ بلْه مدَّعي الثقافة ، ومعظِّمِي الروم ، ممن لا يعرفون مراتب الدِّين ، ولا يحسنون وصف الوضوء لغير المسلمين ، ولا يخجلون من خدمة أطروحات العدو المتربِّص ، حتى لكأنَّك أمام مقطع حيّ ، لمشهد بعنوان : حشفاً وسوء كيلة رغم أنف الوطنية !
ولأهمية هذا الموضوع ، واستشكال بعض العامة له ، وتشويش بعض الكتَّاب به ، وغضب بعض الشباب منه ، فقد اجتهدت في محاولة كشفه بأسلوب تطبيقي ، يوضِّح المراد - بعون الله تعالى - وذلك بياناً لفضل العلم على أهله ، وفضل أهله على الأمة ؛ وتوضيحاً لسببٍ من أسباب سوء الفهم لدى بعض الخيِّرين من طلبة العلم ، فضلاً عن غيرهم ، وتظهر أهمية ذلك بجلاء ، حين يفرز هذا الاستشكال ، فرقةً بين بقية الأمة ، وخلخلة لثقة جيل الشباب بجيل الشيوخ ؛ كما آمل أن يكشف هذا المقال شيئاً من فقد الموضوعية - قصداً أو تغريراً - لدى عدد من الكتاب ، ممن جعلوا همهم الأول نقد العلم وأهله .
من الأمور المقرّرة في الشريعة أنَّ الحكم الشرعي ذاته ثابت لا يتغيّر متى اتفقت الصور المسائل واتحد مناطها ؛ وإنَّما قد يتغير مناط الحكم تبعاً لتغير الصور أو دخول العوارض المعتبرة في الشرع ، ومن ثمَّ تتغيّر الفتاوى والأحكام عند تنزيلها على المسائل والوقائع ، تبعاً لذلك . وهذا أمر معقول ، ومعمول به حتى عند أهل القانون - الذين يستشهد به بعض الكتّاب - فتجد القاضي البريطاني مثلا - وهو يعتمد السوابق القضائية وفق المدرسة الأنجلوسكسونية - يحكم في قضية بحكم ، بينما يحكم هو أو قاضٍ آخر في صورة مماثلة بحكم مختلف ، لسبب يرى أهمية مراعاته في الصورة الجديدة عند تطبيق المبدأ القضائي الذي يستند إليه في حكمه ! وحينئذ فعدم تغيّر الحكم مع تغير صور المسائل و مناطاتها - عند التأمّل - هو الأمر المُشكِل الذي يحتاج إلى جواب .
ولكي تتضح المسألة أكثر ، أبيِّنها بالتعريج على شيءٍ مما يضربه بعض الناس - مثلاً - في المجال العام والتنبيه على سببٍ للتفريق بين الفتوى في أمرٍ ، وما يظنّ خلافاً لها فيه ، مثل : تعليم المرأة ، والموقف من دمج تعليم البنين والبنات إداريا ، وفتح بنوك إسلامية ، ومنع أطباق البث الفضائي ، ومنع الاستكتاب في شركة ما ثم إجازته ، ونحو ذلك مما يفتي فيه علماء معروفون بالعلم والفقه واليقظة وحسن الدِّيانة ، مهما اختلف معه غيرهم ممن لا يُعرف بما يعرفون به .
أ) فتعليم المرأة في المملكة العربية السعودية ،لم يحرمه أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها ، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله ، فلمّا رأى النّاس ذلك اطمئنوا إلى التعليم الحكومي وسلامته من الاختلاط وتوابعه ، فألحق كثير منهم بناته بتلك المدارس ، وانتشرت في البلاد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن ولله الحمد والمنة ؛ فكان المنع في حينه مستنداً إلى سبب وجيه لا يتعلق بالتعليم ذاته ، بل إلى آليته ، وسلامته من المحظور ، وكان الإذن به وتنفيذه مستنداً إلى ضمان خلوه من المحظور ؛ فلكلٍ علّته وحكمه ؛ ومن يرجع إلى فتاوى الشيخ رحمه الله يجد ذلك واضحا غاية الوضوح ، فقد صرح بالعلة — كعادته - تصريحا لا لبس فيه .
فتأمّل أخي - المبارك - كيف يحاول بعض المستغربين خطف شرف رفع شأن المرأة في بلادنا ، بمثل هذه الأساليب التي يفضحها التاريخ .(/1)
ب) وأمَّا دمج تعليم البنات مع تعليم البنين فشغّب به بعض الكتّاب ؛ والحق أنَّه لم يستنكره من استنكره من العلماء والدعاة المخلصين الغيورين لمجرد كونه دمجاً إدارياً ، ومن الظلم أنَّ نظنَّ بأنَّهم بهذا المستوى من النظر ، ولا سيما أنَّ كثيراً ممن نعرف حالهم من أولئك ليسوا أهل طيش ، ولا دعاة خروج على أولي الأمر ولله الحمد . بل أجزم أنَّ من أعرفه منهم لا ينفك في الأمور العامة عن رأي العلماء الكبار ... ثم إنَّ من أعضاء هيئة كبار العلماء من أفصح عن تخوفه من قرار الدَّمج ، وعلَّل ذلك بعدد من الأسباب والظروف المحيطة ، والزخم الإعلامي المريب الذي سبق الحدث وصاحبه ، وما تضمنه من مطالبات تغريبية تزيد الموضوع توتراً ، وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على من عاش الحدث وتابعه .
فالموقف المعروف حينها يمكن إيجازه في التخوف من الحال التي يخشى النَّاسُ أن يؤول إليها الأمر ، من مثل الاختلاط في المدارس بين البنين والبنات ، والمعلمين والمعلمات ، ولو تدرجا بالبدء من دمج الجنسين في الصفوف الدنيا .
وقد كان هذا التخوف ظاهراً وجلياً ، وواضحاً لدى ولاة الأمر ، فبادر ولي العهد حينها بالتعهد للأمة أنّ ما يخشونه من قرار الدمج لن يقع بإذن الله ؛ وعبّر عن ذلك بتعبيرات أوجدت ارتياحا عاما لدى النَّاس ، وهذا ما آل إليه الأمر بحمد الله تعالى وظهر جلياً في المدّة الأخيرة بعد أن اتخذت القرارات الضابطة لذلك ، نسأل الله عز وجل أن يديم علينا نعمته ، ويوفق ولاة الأمر لما فيه خير العباد والبلاد .
ج) وأمَّا ما يقال حول الفتوى بمشروعية فتح البنوك الإسلامية ، فيقال : يجب أن يُعلم أنَّ العلماء لم يُحرِّموا التعامل مع بعض البنوك لكونها بنوكاً ، وإنَّما لقيامها في الجملة على النسق الغربي الربوي ، فلمَّا وُجِد البديل الإسلامي ، وأمكن فتح بنوك ومصارف وبيوت تمويل تتحرّى التعامل الشرعي ، كان الدعم لها من أهل العلم ولاسيما ممن بذلوا جهداً عظيماً وسنين عديدة في إيجاد البديل الإسلامي ، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه من تقدّم في المصارف والبنوك ذات المعاملات الإسلامية ، وهي بحاجة إلى مزيد من الفطنة والورع ومراقبة تنفيذ قرارات اللجان الشرعية كما هي .
د) وهكذا الشأن في منع أطباق البث الفضائي ، فلم يمنعها من منعها من العلماء لمجرد كونها أطباقاً توضع على أسطح المنازل أو يُستجلب بها المفيد ! وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ ، وغلبته فيما بعد ؛ ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة ، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب ، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ، كقناة المجد مثلاً ، التي يكرر شكرها والحثّ على مشاهداتها قمة الهرم الشرعي الرسمي سماحة المفتي العام حفظه الله ، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة ، وتشجيع البَدَل المشروع ، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك .
هـ) ومن الفتاوى التي فهمت في غير إطارها فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود ، فقد نال منه بها قومٌ ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ ، مع أنَّ فتواه رحمه الله جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ( الهدنة ) ؛ وشغّب بها آخرون بإيعاز صهيوني ليسوِّغوا مالم يقصده الشيخ رحمه الله فأوهموا بعض النّاس أنَّ الشيخ يرى مشروعية وجود الكيان الصهيوني والاستسلام لشروطه ، وهو مالم يَدر بخلد الشيخ رحمه الله ، بل إنَّ فتاواه الصريحة بعكس ذلك في غاية القوّة والوضوح .
والشيخ رحمه الله قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود ، وأكَّده في الفتوى ذاتها ، وفي بيانه لمراده - رحمه الله - في فتاوى لاحقة ، ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم ، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية ، وفي القانون الدولي ، وبيانه :
أنَّ المراد بـ ( الصلح ) بالمعنى القانوني الدولي ، هو : عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة . بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي . وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم في العام الماضي .
وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ، ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية ، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة ، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح ( الهدنة ) مع هذا الكيان .(/2)
و) ويمكن تقريب مسألة تغيّر الفتوى لمن قد لا يستوعبها جيداً ، بالمثال السادس في مسألة فقهية لا ترتبط بالولاية ، ولكن يكثر الحديث عنها ، و يتردّد فيها ذات السؤال ، فتجد من يقول :
لماذا منع الشيخ فلان الاستكتاب في الشركة الفلانية ، ثم أباحه بعد ذلك ؟
فتجيبه : فلان منعها من أجل الربا ، فلما تخلصت من الربا - في نظره - أجازها . فمدار الحكم على وجود الربا ، من عدمه ، ففتواه لم تتغير ، بل تغير وضع الشركة ! ولذلك لو عادت الشركة إلى ما كانت عليه لعاد لما أفتى به فيها من قبل .. وهكذا .. وليس عسيرا على الباحث عن الحق بسؤال صاحب الفتوى : لم منعت الاستكتاب في الشركة ثم أجزته ؟ ليجد الجواب المنضبط في الحالين كما أسلفت .
وإنَّك لتعجب ممن ينتسب للثقافة ! ثم يسود صفحته وصحيفته بالنيل من أهل العلم دون أن يكلف نفسه عناء الأمانة التي تحمّلها ليسأل صاحب الفتوى : لم أفتيت بالمنع ثم بالجواز أو العكس ؟ ويُلحظ في هذه الصور وأمثالها أنَّ العالِم لم يتغير في منهجه أو يتراجع عن فتواه ؛ وغاية ما في الأمر أنَّ مناط الحكم قد تغيّر لتغيّر الحال ، فوجدت حال جديدة لها حكم مختلف ، وإن كانت الصورة مشابهة في الظاهر ، لكن الفتوى لا زالت ثابتة في الحال الممنوعة ؛ وهنا ظنّ من لا علم عنده بفنّ الفتوى وأصول الاستدلال : أنَّ الحكم تغيّر ، ومن ثمّ تساءل - لجهله أو تجاهله - : كيف يحرم العلماء كذا وكذا ، ثم يحللونه بعد ذلك مع مرور الزمن ؟!
والخلاصة : أنَّ العلماء هم الذين ردَّ الله المسلم إليهم عند عدم العلم ، فهم ضمان الشرعية في الطرح والنصح والتعامل ، فعلى المسلم الصالح ، أن يرتبط بأهل العلم والديانة ، وعلى رأسهم في بلادنا أعضاء هيئة كبار العلماء ، واللجنة الدائمة للإفتاء ، وغيرهم ممن عرفتهم الأمة وشهدت لهم بالعلم والفضل والتوسط ، من العلماء الناصحين والدعاة المخلصين في جميع البلاد .
ولو رجعنا إلى أهل العلم وكانت صلتنا بهم صلة قوية ، لدفعنا الكثير من الخلط الذي قد يفتن بعض النّاس عن الحق ، ويزهدهم في العلماء الربانيين ، ولما احتجنا في معرفة الحقيقة إلى التاريخ ، ليثبت لنا صحة نهج من أحالنا الله إليهم ، فكم ضاعت من أوقات ، ونيل من شخصيات ، في غير حقٍّ ، وربما تبيّن زلل طالب العلم في نقده لفتاوى الأكابر ، ولكن بعد عسر الرفع ، مهما حاول تداركه .
ومن هنا أجد أنَّ من النصح لنفسي ، ولشبابنا الكرام ، ولزملائنا الأفاضل من طلبة العلم بخاصة ، ولغيرهم من أهل الكتابة عامّة : التمهلَ في تقييم فتاوى العلماء المصلحين ، وعدم الاعتراض المتعجِّل على جهود الناصحين ، دون دراسة جادة متعمِّقة ندرك بها الدوافع ، ونعرف تفاصيل بنائها في أرض الواقع ، مع الحرص على التقاء من يُستَغرب قوله من أهل العلم والديانة أو الاتصال به ، ومناقشة صاحب الرأي على سنن أهل الأناة والحكمة ، حتى لا ننال من مجتهد قد بذل وسعه فنال - برحمة الله - أجراً إن أخطأ وأجرين إن أصاب ، أو نؤذي مؤمناً حكم الله على من آذاه بأنَّه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبينا ، في قوله سبحانه : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } .
هذا ما جال في الخاطر حول هذا المعنى في ظلّ نقدٍ عاطفي يصل إلى درجة التسفيه الممقوت ، ورأيت في تدوينه ونشره خيراً لمن أراد لنفسه النجاة ، وحفظها من شرِّ حظوظها ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله ".(/3)
تفسير سورة الأعلى الحلقة الثالثة
29 / 10 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فإنا نعود اليوم لنصل بحول الله وعونه ما انقطع من حبل الكلام حول سورة الأعلى ، مضت الجمعة الماضية في حديث عن الحج ، كان ضرورياً أن يقال . والتي قبلها لم يُقدر لنا أن نلتقي ، ولست أدري بالضبط ما الذي قلته من قبل ولم يتيسر لي أن أستمع إلى الشريط المسجل لآخر خطبة من سورة الأعلى ، من أجل ذلك أتوقع أن يكون في الأفكار بعض التكرار ، فإن حصل فلست أظن ذلك من غير فائدة .
يقول الله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم ، سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ) وفي ظني أننا وقفنا عند هذا القول ، ثم يقول الله تعالى ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) ويلاحظ قبل أي شيء أن المعنى العام والأولي لهاتين الآيتين وهو ما يراد له أن يستقرّ في عقل المؤمن وحسه هو الإشارة إلى فناء هذا الإنسان ، وإلى حتمية مرجعه إلى الله تبارك وتعالى . وأظنكم تذكرون جيداً أن هذا المعنى منذ بواكير التنزيل تكرر مراراً ، فما من مناسبة تعرض إلا وركّز القرآن أضواءه عليها ، ليقيم في عقل الإنسان ويقرّ في ضمير الإنسان حتمية المصير إلى الله . وهذا المعنى يُساق في هاتين الآيتين سياقةً غير مباشرة ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) يريد الله تعالى أن يلفت نظر الإنسان بعيداً عن المحاكمات العقلية ، وبعيداً عن الأقيسة المنطقية ، وبعيداً عن كل التجريدات التي يلجأ إليها الناس عادة لتقريب المذاهب والأفكار ليشده إلى ظواهر يراها رأي العين ويلمسها لمس اليد ، أي إنسان لا يرى من حوله ظاهرة النبات .. بذرة تلقى في الأرض ثم تنشق عنها الأرض نباتاً هشاً طرياً تكاد قطرات النسيم أن تقصفه وتقتلعه ، ثم إذا استجمع ريّاً واستوثق شدةً كان نباتاً يروق العيون ويريح النفوس ، ثم يأتيه من أمر الله ما يأتي على كل أحياء الدنيا وعلى كل أشياء الدنيا ، فإذا هو بعد الشدة إلى ضعف وبعد النماء إلى نقصان .
هذه الظاهرة التي يراها كل إنسان مَثلٌ مشهود على هذا الإنسان وعلى جملة ما في الحياة ، كلها إلى زوال . وأنت أيها الإنسان مثلك كمثل هذا النبات ، تخرج إلى الدنيا جنيناً صغيراً ، ثم تنمو وتنمو وتنمو حتى تكون شاباً فرجلاً فكهلاً ثم شيخاً تُحني السنون ظهرك وتأخذ الأيام من منّتك وقوتك ثم يأتيك من قدر الله جلّ وعلا ما لا مردّ له ولا محيص عنه ، فتذهب حيث ذهب الذين مضوا من قبلك .(/1)
الله جلّ وعلا يلفت نظر الإنسان إلى هذه الظاهرة ليستقيم في حسه هذا الشيء ، ولكن لنا أن نتساءل : أي إنسان في هذه الدنيا في القديم وفي الحديث وطالما وُجد الناس على الأرض لا يعرف هذا الأمر البدهي ، من قال : إن الإنسان خُلق للبقاء والخلود ؟ وهل جرى ذلك على لسان أحد ؟ نقول : لا . ويقال لنا : الكلام عبث . إذا كان كل إنسان يعرف حتمية الموت ، فلماذا هذا المثل ؟ أليس من فارغ القول ؟ وذلك صحيح بالنسبة إلى الذين لا يعقلون والذين لا يعرفون مواقع الأمثال التي يضربها الله تعالى ، وصدق الله ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) وصدق الله ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) فكّروا بالمثل أكثر ، إن وضع الصورة أمام الإنسان بهذا الشكل ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) وفكّروا مع وضع الصورة بهذا الشكل في قوانين كلام العرب ، فستجدون أن العرب حينما تقول : (والذي أخرج المرعى وجعله غثاءً أحوى) . فقد يكون هذا المصير متراخياً ضارباً في الآماد والآباد ، ولكنها حينما تغير الواو بالفاء ، بدل وجعله يقول : فجعله . فإنما تريد بذلك ما يُعرف بالتعقيب ، أي أن الأمر الثاني حصل عقيب الأمر الأول ، تقول : جاء زيد وعمرو ، فيكون المعنى جاء عمرو بعد زيد ، ولكن متى ؟ قد يكون جاء بعد ساعة وقد يكون جاء بعد مئة سنة ، وكلا الأمرين يصدق عليه صياغة الكلام ، لكن حينما تقول : جاء زيد فعمرو ، فهذه الفاء أحالت المعنى إلى صورة أخرى ، وجعلت مجيء الثاني يلي مباشرة مجيئ الأول ، ما لذي نريده من هذا ؟ نريد أن يُعلم أنه حينما نسمع الله جلّ وعلا يقول ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) يريد أن يشير إلى قصر المدة بين استجماع القوة والنشاط وحلول الفناء والدمار ، كأنه لا فاصل يفصل بين الأمرين ، وما فائدة هذا ؟ فائدة هذا أن يوقظ الإنسان الذي اعتاد بتراخي الأيام ومرور الشهور والسنين أن ينسى هذا المصير ، فالإنسان لا يذكر الموت والفناء باستمرار ، ولو أن صورة الفناء تركزت أمام ناظري الإنسان بصورة مستمرة لم تغب عنه أبداً لكان إنساناً على غير ما هو عليه ، بل ربما حلّ الكسل والخمول وعدم إرادة النشاط محل هذا الذي نراه من الإنسان ، ولكن بين الذكر للموت بصورة مستمرة ، وبين النسيان المطلق لهذه العاقبة الحقة حالة وسط أرادها الإنسان ، أراد له أن يسعى وأن يضطرب في جنبات الأرض وأن يبتغي عند الله الرزق ، وأن يحمل على عاتقيه مهمته ووظيفته في إقرار هذا الدين في الأرض ، وحمله إلى الناس ، وأراد له في كل ذلك أن لا يغفل عن الله ، وأن لا ينسى حتمية المصير . فمن العادة أن الإنسان ينسى ، بل يحاول إرادياً أن يطرد من ذهنه صورة الموت والفناء ، بل يحاول في بعض الأحيان أن يغمس نفسه في المسكرات والمخدرات لينسى هذه الواقعة ولكي يتهرب من ضغطها عليه . أراد الله تعالى بهذه الصورة أن يشعر الإنسان أن الموت رصد قائم عليه ، قد يأتيه وهو في أوج الشباب ، وقد يأتيه وهو في ذروة القوة ، وقد يمهله حتى يصوّح كما يصوح النبات .
فهذه فائدة المثل من جهة ، وللمثل فائدة أخرى ، انظر إلى هذا النبات ... أنت تمشي فترى نبتة في الأرض ، راقبها جيداً ، هذه النبتة بعد شهور تكون كأن تكن ، تعال في مثلها في العام القادم ، تجد أن نبتةً من ذات الجنس نبتت في ذلك المكان أو قريباً من ذلك المكان ، أتظن أن هذه النبتة نبتت من غير سبب ؟ الرائي الذي لا يراقب يظن أنها وُجدت هكذا ، ولكن عالم النبات يعرف أن بذرة مهما تبلغ من الدقة ومهما تبلغ من الصغر فلا بد أن تكون تساقطت من النبتة الأولى فولدت النبتة الثانية . هذا الإنسان الذي يموت هل انتهى أمره ؟ لو أن أمره انتهى وأسدل الموت عليه ستاره الأخير ، لكانت المسألة على خلاف ذلك . الله تعالى حين يضرب لك هذا المثل يقول لك : إن هذا الفناء الذي تراه فناءً ، تضع الميت في قبره وتغلق عليه لحده وتتركه لعوامل التحلل والفساد ، فإذا جئته بعد عدد من السنين وأردت أن تتعرّف على هذا الميت الذي وضعته في هذا اللحد كان في يدك قبضة من تراب ، وأما الميت فكأنه ما وضع في هذا المكان . أتلك عاقبة الحياة ؟ أهذا كل شيء ؟ لا . إن الميت الذي مات انتقل إلى دار أخرى ليعيش نمطاً آخر من الحياة ، تلك الدار هي دار البقاء ، وكما أنك تمر بالنبات لذي تعصف به رياح السموم فتجعله كأن لم يكن فتقول : قد انتهى ، ثم إذا بك تفاجأ به ينمو من جديد ، فكذلك هذا الإنسان لا بد أن يكون بين يدي ديان جبار متكبر وهو الله تبارك وتعالى .(/2)
ففائدة المثل الذي يضربه الله من واقع الحياة من المشهود من الحسوس الذي لا يغيب عن بصر أحد ، هي هذا الذي ذكرنا جانباً منه وبعضاً صغيراً جداً من بعض موحياته . بقي أن ننظر في صياغة القضية ، لأن الناس يقرأون القرآن وينبغي أن يفهم القرآن وأن يدركوا معنى ما يقرأون . الله تعالى يقول ( والذي أخرح المرعى ) والمرعى هو كل ما ترعاه الدواب أو يأكله الإنسان ( فجعله غثاءً أحوى ) الغثاء هو الشيء الذي لا يؤبه له ، الشيء الذي لا قيمة له ، أرأيت حينما ينزل السيل من الأعالي فيجرف أمامه صخوراً وأحجاراً وتراباً وأخشاباً ومما يلقي الناس وتلقي الدواب ؟ أرأيت هذا الشيء الهش الذي يطفو على وجه السيل ويستقر على وجه المياه ؟ ذلك هو الغثاء ، ذلك هو الشيء الذي لا قيمة له ، أرأيت حينما تهب العواصف فتسوق أمامها قطعاً صغيرة من الحشائش ؟ تلك هي غثاء من الغثاء ، فالغثاء هو كل ما لا قيمة له ، وكل ما فقد الفائدة وإمكانية الانتفاع به ، هذا النبات الذي ينبت يقول الله تعالى إن عاقبته أن يكون غثاءً ، وبالفعل حينما يدركه الجفاف واليبس يصبح شيئاً بلا فائدة ، لا شيء يمتع العين ولا شيء يروق النفس ، ولا شيء ينتفع به الناس ، ولا تنتفع به الدواب .
( فجعله غثاءً أحوى ) والأحوى هم الأسمر الضارب إلى السواد ، ومن هنا سميت حواء حواء ، لأنها فيما يظهر كانت سمراء اللون شديدة الأدمة أي شديدة السمرة ، ولعلماء التفسير هنا كلام ، فكأنهم على معهود العرب في تخاطباتها وأخذاً من قوله ( أحوى ) والأحوى هو شديد السمرة حين يضرب إلى السواد ، رأوا أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، لماذا ؟ تسمعون أن العرب كانت تسمي المناطق الزراعية في العراق تسميها السواد ، ومن عادة العرب أنها تسمي الشيء الأخضر شديد الخضرة أسود ، فكانت تسمي السواد بالسواد لكثرة المزروعات ولكثرة النباتات الشديدة الخضرة ، لأن الأخضر حينما يستجمع اخضراراً يضرب إلى السواد ، فكأنهم رأوا أن النبات يكون أحوى حينما يكون غايةً في النماء ، يكون في تلك الساعة وفي تلك الأحايين أحوى ، وبناءً على ذلك قالوا : إن الكلام حقه أن يكون : والذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاءً ، يعني أخرج المرعى أخضر شديد الخضرة ثم جعله غثاءً لا ينتفع به .
ويرحم الله الإمام الطبري رحمه الله فقد كان إنساناً من بين المفسرين ذواقة للغة عليماً بدقائق البيان في أساليب العرب في الخطاب ، حينما استعرض هذا القول الذي قالوه وزعموا أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، قال هذا خطأ ، خطأ لأن العرب لا تستخدم التأخير والتقديم إلا لنكتة في الكلام مقصودة ، أما حينما تكون هنالك فائدة من التقديم أو التأخير فالتقديم والتأخير عجز وعي وعبث في الكلام ، وهذا صحيح ، نحن نقرأ ـ وهذا مثل نضربه لكل إنسان لأن كل إنسان يعرفه ـ نحن نقرأ في الفاتحة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فها هنا تقديم ، تقديم الضمير الذي هو (إياك) وحق الكلام في الترتيب الطبيعي أن يكون : نعبدك يا الله . لكي يكون الفعل متقدماً ثم يليه الفاعل ثم يليه المفعول الذي يقع عليه الفعل ، ولكن هنا نجد أن المفعول تقدم على الفاعل والفعل جميعاً ، حينما نقول : نعبدك يا الله . فهذا يرتب معنى العبادة منا لله فقط ، ولكن هل ينفي أننا نعبد مع الله شيئاً آخر ؟ نحن نعبد الله وقد نعبد مع الله شيئاً آخر، فقول القائل : نعبدك يا الله ، لا ينفي اختصاص الله بالعبادة الذي هو نكتة الكلام والغاية المقصودة منه .
فحينما نستخدم التقديم ونقول : إياك نعبد ، فذلك يعني انصباب الفعل على الضمير المقدم ، أي أننا نخصك يا الله فقط بالعبادة ، لهذه الغايات ولأمثالها تستخدم العرب مسألة التقديم والتأخير ، وأما حينما يكون للتقديم والتأخير أي غرض فهو عبث بلا شك . فلهذا فملاحظة الإمام الطبري رحمه الله تعالى ملاحظة وجيهة للغاية والكلام لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولكن ربنا أخرج المرعى ثم جعله غثاءً أحوى ، أي أسمر ضارباً إلى السواد ككل النباتات حينما يدركها اليبس تكون سمراء ضاربة إلى السواد . هذا ما يتعلق بهاتين الآيتين ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) .(/3)
لآن نواجه مسألة أخرى من المسائل الهامة في قضايا الدعوة الإسلامية ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) الكلام هنا طبعاً موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن نخوض في المسألة نحاول أن نقول في الأسلوب ، قلنا إن الكلام موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشعراً إياه بأن الله سيقرئه هذا القرآن ، وأنه سوف لا ينساه ، هنا نفي وليس نهياً ، لكن هنا استثناء (ما شاء الله) فهل هذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سينسى شيئاً من القرآن الذي تُلي عليه وأُقرئ إياه ؟ بعض القائلين في القرآن قالوا : إن الكلام هنا خرج مخرج ما هو متعارف عليه بين العرب في تخاطباتها فيما بينها ، فهو يقول لك : سأعطيك كل ما لدي إلا ما أشاء ، ولكنه لا يشاء أن يحجب عنك شيئاً ، وهذا من هذا ، فالله يقول ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله ) ولكن الله شاء أن لا ينسى رسوله شيئاًً ، فهم يرون أن الكلام خرج هذا المخرج .
وفي رأينا والله أعلم أن هذا القول مؤسس على غفلة عن جملة معطيات القضية كما وردت في القرآن الكريم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نسي أشياء فعلاً ، وإن القرآن الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفعت منه أشياء فعلاً ، وما لنا نحاول أن ندلل على ذلك بالمقايسات ؟ لنرجع إلى القرآن ، في سورة البقرة يقول الله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ، ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ) وإذاً فالنص القرآني قاطع الدلالة على أن الله تعالى شاء أن يُنسي رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما أوحى إليه ، وذلك باب من أبواب النسخ الذي خالفت فيه الشريعة الإسلامية سائر الشرائع الأخرى ، فاليهود قالوا : إن النسخ محال . والمسلمون قالوا : النسخ جائز لأن الله يثبت من شرعه ما يشاء ويرفع ما يشاء ويحكم لا معقب لحكمه وهو العليم الخبير . وجاء النص على النسخ في القرآن الكريم ، وحينما نضع الآيتين ـ آية البقرة وآية الأعلى ـ إلى جوار بعضهما فسوف نجد أن هذا الكلام لم يأتِ على المعهود من كلام العرب ، بأنه إلا ما شاء الله لكن الله ما يشاء ، فذلك تكلف لا ضرورة له ، وإنما ما يشير إليه الله جلّ وعلا معلقاً إياه على المشيئة أمر واقع ومعروف من سورة أخرى هي سورة البقرة ، وفي الآية الدالة على النسخ .
( سنقرئك فلا تنسى ) أي سنقرئك هذا القرآن حتى لا تنسى شيئاً منه إلا ما يشاء ربنا أن ينسيك إياه . وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن سورة الأحزاب كانت تقابل سورة البقرة في الطول ، فما زال الله جلّ وعلا يرفع منها الشيء بعد الشيء حتى استقرت على ما هي عليه .
هذا من حيث المعنى العام الذي اختلف فيه بعض المفسرين عن بعض . بقي أن نواجه هذه القضية ونواجهها مواجهة صحيحة . الله تعالى يقول لنبيه ( سنقرئك فلا تنسى ) ولاحظوا أن الكلام بناؤه على المجهول ، أي أن القارئ ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما الله هو المقرئ ، هذه واحدة ، احفظوها . الشيء الثاني ارجعوا إلى معنى الفعل ( قرأ ) في كلام العرب ، هذه المادة المؤلفة من القاف والراء والهمزة معناها في لغة العرب الجمع والحفاظ ، لاحظوا .. نحن معتادون أن نصرف لفظ القراءة إلى هذا الشيء الذي نفعله ، قرأت الكتاب ، أي أنني مررت على ما فيه ، لكن القراءة في لفظ العرب تدل على الجمع والملء ، فحينما نسمع الله جلّ وعلا يقول لنبيه صلوات الله عليه ( سنقرئك ) فمعنى ذلك أننا سنجمع لك وفيك هذا القرآن ، ونملؤك بهذا القرآن . تقول : قرأت بمعنى جمعت ، ونقول : قرأتْ المرأة أي حاضت المرأة ، أي اجتمع في رحمها الدم فقذفه ، فهذا هو معنى القرء ، فالقُرء والقَرء وقَرَأ وما يشتق منها تدل على هذا المعنى . ما الذي نريد تقريره من هذا الكلام ؟ نريد أن نقرر أن الكلام الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنزل على المعهود من كلام العرب ، وأن كلام العرب له مدلولاته الخاصة التي فهمها رسول الله وفهمها الأصحاب ، وأنه من الضلال المبين أن نحمل معاني القرآن على التصورات الباهتة التي بقيت في أذهاننا في هذه الأيام لكلام العرب الذي نزل به القرآن ، لا ، ليس كل من هذى قرأ ، لا ، ليس كل من مرت عيناه على الكلام قرأ الكلام ، أبداً ، إن القراءة بمعنى الجمع ومعنى الملء لا تسمى في كلام العرب ولا في استعمالات القرآن قراءة مالم تخالط النفس والعقل والقلب ومالم تخالط اللحم والعظم والعصب ، أي أن الإنسان القارئ يسمى قارئاً حينما يُتمثل فعلاً بهذا الشيء الذي يقرأه .(/4)
ولهذا فنحن حينما نقرأ أدبيات الإسلام نجد وصفاً للطائفة من الناس يسمونهم القرّاء ، ليسوا عبد الباسط عبد الصمد ولا محمد رفعت ولا أمثالهم من القرّاء الذين يتعيشون بالقرآن ويتكسبون منه ، القرّاء في أدبيات الإسلام ذروة الأمة ، خلاصتها ، هم الذين يفهمون مرادات الخالق جلّ وعلا من كلامه ، وهم الذين تتمثل في أقوالهم ونياتهم وفي مسالكهم وأفعالهم حقائق هذا القرآن ، القرّاء هم الذين أصبحوا أنبياء إلا أنه لا يوحى إليهم . ومن هنا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في وصف هؤلاء الناس : من أوتي القرآن فقد أوتي النبوة ، أو فكأنما أوتي النبوة إلا أنه لا يوحى إليه . فالقراءة إذاً التي جاءت هنا والتي وعد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي شحن النبي صلى الله عليه وسلم بحقائق القرآن حتى لا ينساه لفظاً وحتى لا يضيعه سلوكاً . ولهذا فنحن نجد أن عائشة رضي الله عنها حينما سألها سائل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تساءلت : ألستَ تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن . اقرأ القرآن تكتشف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن رسول الله بالفعل كان قرآناً يتحرك على ظهر هذه الأرض ، هذه واحدة أردت أن أبينها بهذا الاختصار والإيجاز ، مع أنها قضية تطوي وراءها أموراً كثيرة لأخلص بسرعة وقبل أن يفوت الوقت إلى تقرير قضية أخرى تتعلق في المسألة .
نحن باستعراض الآيات المتواردة على هذا المعنى ، وبالرجوع إلى الآثار نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجئ بهذا القرآن ، وحُق له أن يفاجأ ، هذا النمط من الكلام شيء غريب على الأسماع ، هذا الاتصال بين العالم المشهود وعالم الغيب شيء غريب على الطباع ، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان في حراء قبل المبعث كان يتصور كل شيء كل شيء إلا أن يأتيه الوحي من الله جلّ وعلا مباشرة ، فهذا ما كان يخطر له ببال ، صلوات الله عليه . من هنا كانت مفاجأته تامة وكانت دهشته عظيمة حينما فاجأه الوحي ، وقال له : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ، ثم غطّه وكان ما كان مما ذكرناه لكم قبل اليوم ، جاءه هذا الكلام مع توجيه بأنه سيكون لله رسولاً ، وبأن الله اختاره ليحمل إلى الناس هذا الكلام نبراساً ومشكاةً يهدي به الله جلّ وعلا من يشاء من عباده . وإذاً فالمسألة خطيرة ، المسألة تتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يضيع من القرآن شيئاً ، تتطلب منه ألا يسقط من هذا القرآن حرفاً ، لذلك كان رسول الله صلوات الله عليه وآله حينما يأتيه جبريل فيتلو عليه القرآن يردد القرآن معه ويحرك به شفتيه كي يزيد في استحفاظه حرصاً على ألا يسقط منه شيئاً . واستمرت تلك عادته صلوات الله عليه حتى جاءه قول الله جلّ وعلا ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ) خطاب جازم وحاسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما يأتيك الوحي كن رابط الجأش هادئ الأعصاب لا تحرك لسانك أبداً بالتمتمة بهذا القرآن خشية أن تنسى شيئاً ، فإن علينا جمعه وقرآنه ، أي أن الله جلّ وعلا تكفّل بأن يجمعه لك في صدرك وبأن يقدر على أن تقرأه للناس من بعد .(/5)
وبعد هذا الوعد القاطع كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاولة الاستحفاظ ، لأن هذه المسألة تكفّل الله تبارك وتعالى بها . لو رجعتم إلى تاريخ النبوات الأولى لوجدتم ظاهرة أخرى غير هذه الظاهرة ، في الإسلام الحرص شديد على أن يبقى النص القرآني كما أُنزل بلا زيادة وبلا نقصان ، بلا تحريف وبلا تغيير ، ولهذا جاءت الأخبار المتواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه الآيات وسُرّي عنه أي خرج إلى الحالة الطبيعية من حالة الوحي دعا بعض من كان يكتب له الوحي فقال : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا . فبقي النص القرآني محفوظاً بحفظ الله جلّ وعلا وبإقدار الأمة على العناية به كل هذه المدة . وعلماء الإسلام والعلماء من غير المسلمين وأصدقاء الإسلام وخصوم الإسلام جميعاً يتفقون على أن النص الوحيد في الدنيا الذي يُقرأ الآن على النحو الذي جاء عليه هو القرآن فقط ، وأما سائر النصوص الأخرى دينية أو علمية أو فلسفية أو أدبية فقد طرأ عليها التغيير والتبديل بالزيادة والنقص والتحريف . هل المسألة مسألة وعد قُطع لهذه الأمة فقط ولم يقطع للأمم الأخرى ؟ أم المسألة تتعلق بصميم الرسالات ؟ نسارع فنقول : أن المسألة تتعلق بصميم الرسالات ، فالتوراة الذي أنزلها الله على موسى عليه السلام لم تكن نصاً معجزاً بذاتها ، وإنما كانت معجزات موسى عليه السلام شيئاً خارجاً عن التوراة ، ضم يديه إلى جناحه فأخرجها بيضاء من غير سوء ، ضرب الحجر فانفجرت منها اثنتا عشرة عيناً قد علم كل إناس مشربهم ، ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم حتى مشى موسى ومن معه من بني إسرائيل في طريق يبس لا يخافون فيه دركاً ولا يخشون فيه شيئاً ، تلك معجزات لا تتعلق بصميم الرسالة ولا بالنص الموحى به . وكذلك قل في الإنجيل ، نص الإنجيل الذي أنزله الله من السماء ما كان معجزاً يصياغته ، وإنما كانت معجزات عيسى صلوات الله عليه من نوع معجزات موسى معجزات خارجة عن نص الرسالة ، يبرئ الأكمه وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وإلى آخر هذه المعجزات ، أما بالنسبة للإسلام فالأمر مختلف ، تلك ديانات جاءت في سياقها من الزمان والمكان ، ليست لها صفة العموم ، لم يشأ الله لها أن تخاطب الناس أبد الدهر ، انتظاراً لهذا النبي الخاتم ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) هذا شيء ادّخر في الأزل لمحمد صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة .
المعجزات الحسية من كونية وما أشبه ذلك قد تكون نافعة في زمانها وفي مكانها فقط ، بل إن المعجزات الحسية حتى الذين يشاهدونها قد يمارون فيها ، وكثير ما جوبه النبيون حينما يفعلون معجزات حسية بأنهم سحرة وبأنهم سحروا أعين الناس وبأنهم وبأنهم ، فالمعجزة الحسية شيء لا يعطيك دليلاً على صحة الرسالة مقطوعاً به إلا عند فئة قليلة من الناس رأت هذه المعجزة أو سمعت بها في زمنها . ولكن مع تراخي الزمان لو جاءنا إنسان وأخبرنا أن القمر انشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن القمر ينشق . نقول له : ما أتيت بشيء . إن الإسلام لن يتقدم ولن يتأخر إن أقررتَ بانشقاق القمر أو أنكرتَ انشقاق القمر ، ولكن َمن الذي يستطيع أن يغفل أن معجزة الإسلام أساسية هي القرآن ؟ من الذي يستطيع ذلك ؟ إن معجزة الإسلام في صميم الرسالة ، ومعجزة الرسالات السابقة من خارج الرسالات ، ولهذا كان النص الإسلامي محفوظاً من التغيير والتبديل ، وكانت نصوص الرسالات القديمة غير محفوظة وغير مضمون لها البقاء على ما أُنزلت عليه .
من هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الفارق الأساسي بين القرآن وبين التوراة والإنجيل وسائر الصحف التي نزلت على الأنبياء السابقين فيقول : ما من نبي من الأنبياء أرسله الله تعالى قبلي إلا وأوتي ما مثله آمن عليه الناس ، وكان الذي أوتيته وحياً من الله ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . هذا القرآن معجزة الإسلام فيه ، قد يماري الناس في كل شيء ولكن أحداً منذ أن نزل القرآن إلى اليوم لم يستطع برغم التحدي الذي جوبهت به فطاحل العرب وفرسان البلاغة أن يأتي بسورة من مثله ولا أن يأتي بآية واحدة من مثله ، وسيبقى هذا القرآن آية الإسلام الكبرى ، يختلف الناس ما يختلفون ، ولكن أحداً لم يختلف على أن هذا النص أكبر من قدرة الإنسان . وإذاً فهذا النص منزل من قوة أكبر من الإنسان ، وإذاً فهذا النص منزل من قبل الله تبارك وتعالى .(/6)
لهذا السبب نجد عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناية الأصحاب وعناية خيار المسلمين سلفاً وخلفاً منصبة على تعاهد هذا القرآن ، يقرأونه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وفرادى وجماعات لا يُخلون أنفسهم منه آناء الليل وأطراف النهار ، بل حتى في أشد الظروف حراجة ، في القتال فأنت حين تقرأ أوصاف المسلمين حينما كانت جيوشهم تخرج للقتال والناس مشغولون بالطعان والقتال ، والأبطال تقابل الأبطال ، والرؤوس تطيح ، والعقول تطيش ، والأطراف تتقطع ، يوصف جيش المسلمين بأن لهم في القرآن دوياً كدوي النحل ، لماذا ؟ لأن دوام هذه الأمة بالقرآن ، ليس بأن تضع أصبعك في أذنك فتقرأ قرآناً تتغنّى به كما تتغنى المطربات ، أبداً ، وإنما تقرأ القرآن لكي يرقّ له قلبك ، وليخشع له قلبك ، وليلين له جلدك ، ولتذلّ له أطرافك ، فإذا أمرك كنتَ حيث أمر ، وإذا نهاك كنتَ بعيداً عما نهاك عنه ، هذا القرآن عُني به ليكون كذلك .
كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليالي بهذا القرآن ، وهو الذي وعده الله تعالى بأن يُقرئه هذا القرآن ، بأن يشحن به نفسه ، ومع ذلك كان يقرأ القرآن كثيراً ، يقوم به الليل حتى تتورم قدماه ، وأين أنتم من حديث عبد الله قال : جئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، قلت أصلي مع رسول الله ، فصليت ، فافتتح البقرة ، قلت يركع على رأس المائة ، أي يقرأ مائة آية ويركع ، قال فقرأها ومضى ، قلت يقرأها ثم يركع ، قال ختم البقرة وافتتح آل عمران ، قلت يختمها ويركع ، قال فختم آل عمران وافتتح النساء ، ثم ختمها وركع . ثلاث من أطول سور القرآن ، حين تجلس وتقرأها بسرعة فأنت محتاج على الأقل إلى ساعتين لتفرغ من قراءة هذه السور الثلاثة ، يقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هؤلاء السور ، إذا مرّ بموطن دعاء دعا ، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ بالله تعالى ، وإذا مرّ باستغفار استغفر ، ويقرأها مترسلاً ، لو شئتَ أن تعدّ كلماته عداً لعددتها وهو غارق ومستغرق بجلال الله جل وعلا سارح مع هذه المعاني التي تنساب كالسلسبيل العذب تحي النفوس والقلوب ، وتنعش الضمائر .
ومن هنا كان المسلمون الذين ثٌففوا بالقرآن وعُلّموا هذا القرآن سادة الأمة وكانوا خيارها ، ومن هنا استحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف الذين هم القرّاء ، ومن هنا رأينا الله جل وعلا حقق على أيديهم الأعاجيب ، حينما كان يشغر مكان الولاية في قطر ، القطر في الماضي يا إخوة ليس محافظة من المحافظات ، القطر مكان ذاهب في الطول والعرض ، العراق كلها قطر ، مصر كلها قطر ، الشام ابتداءً من مشارف الجزيرة العربية الشمالية وإلى كيليكيا كلها قطر ، يرسل واحد فقط من هؤلاء القرّاء ليكون والياً على هذا القطر ، ومع ذلك فإن الأمور تستقيم والأوضاع تستقر بلا حاجة إلى شرطة وبلا حاجة إلى أحراس وبلا حاجة إلى جواسيس ، لأن الناس تساس بقرآن لا يخرج من الشفاه وحسب ، وإنما يتفجر من أعمق حنايا القلوب ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً إلى اليمن ، فظل سنتين هناك ثم عاد ، قال : أكراهةً للإمارة ؟ قال : لا ، ولكن ابن الخطاب جلس سنتين لم يتقاضا إليه اثنان ، لماذا ؟ لأن الناس تأدبوا بهذا القرآن وعرفت ربها بهذا القرآن وعرفت حدود الله بهذا القرآن وعلمت أنه حينما تخترق الحدود وحينما تنتهك المحرمات فقد تنجو من العقوبة هنا ، ولكنها سوف لا تنجو منها هناك ، وأنه من الخير أن يتعرض الناس للعقوبة هنا ، ففضوح الدنيا خير وأهون من فضوح الآخرة . ومع ذلك فلقد عرفت الأمة شيئاً آخر ، عرفت أن مجرد الإخلال بأمر من الأوامر التي نزل بها القرآن شرّ مستطير لا يعود بالضرر على الفاعل وحسب ، وإنما يتناول المجتمع في الزمن الحاضر وفي الأزمنة المقبلة أيضاً ، إن هذا القرآن مظهر لسنة الله تبارك وتعالى ، ومظهر لمراد الله من هذا الكون ، وعلى المسلمين أن يحفظوه وأن يعوه وأن لا يُخلّوا فيه . وحين يبدأ الإخلال في القرآن فكأنما أخذ الإخلال يصيب السنة الكونية برمتها ، ولو أنكم نظرتم متفحصين وبصدق لوجدتم أن هذه الأمة التي سيست بالقرآن وربيت على مبادئ القرآن ، كانت في أوقات مجدها وفي أوقات عزها وسيادتها لا خيراً وبركةً على نفسها وحسب ، وإنما هي خير وبركة على الإنسانية بعامة .(/7)
فلقد كان الظلم في الناس فاشياً قبل نزول الرسالة المحمدية ، وحين جاءت هذه الرسالة واستقرت أصبح الظالمون جميعاً في بقاع الدنيا كلها يحسبون لها ألف حساب ، ولقد قال المؤرخون : إن أكبر نكبة أصيبت بها البشرية تلك التي حلت بالبشرية يوم تراجعت جيوش المسلمين في أوروبا بعد ما أصابها من اندحار . فالواقع أن هذه الأمة التي تُربى على أسس القرآن خير وبركة ، لا لنفسها وحسب ، وإنما للإنسانية عامة . وانظروا إلى خريطة العالم اليوم ـ اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية أو اعتقادية ـ فستجدون أن الخبال والضلال قد تغلغل في كل ناحية من نواحي الناس ، لماذا ؟ ليس عند المسلمين وحسب وإنما عند الناس عامة ، لماذا ؟ لأن هداية القرآن غابت من الوجود ، ولأن القرآن استحال عند الذين يحرصون عليه ويستحفظونه إلى تراتيل تُقرأ إما على قبور الموتى وإما في الموالد والأعياد وإما من وراء المذياع ، لكي يعيش بها ويتكسب منها أصحاب الأصوات المطلة . أما أن يؤخذ هداية فذلك شيء بعيد .
وقفت في الحقيقة عند هذه النقطة لأقرر أمرين ، لأقرر أولاً ضرورة الحرص على القرآن بنصه المنزل وبلفظه العالي وببلاغته الراقية استنهاضاً لهمم الشباب أن يتعلموا من لغة العرب ما يستطيعون معه أن يتذوقوا معاني هذا الكتاب ، هذا واحد . والشيء الثاني ، لأقول : إن معجزة الإسلام مرتبطة بالقرآن الكريم ، فمعجزة الإسلام معجزة داخلية وليست خارجية ، داخلية أي أنها مرتبطة بصميم النص المنزل من قبل الله جل وعلا ، هذا اثنان . الشيء الثالث ، أن هذا القرآن على ما هو عليه وسيلة فعالة بل هو شد الوسائل فاعلية في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، وأن الدعوة إلى الله لن تستقيم ولا تستقيم بتة حتى يتعلم الدعاة كتاب الله جل علا علماً وعملاً ، وهذا مؤدى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان الذي أوتيته وحياً من الله فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . في الحقيقة البوذية والبرهمية والكونفوشوسية واليهودية والنصرانية وكل الملل تصلّبت وتجمدت ، وإذا كانت النصرانية تستطيع أن تجد من يعتنقها ويذهب إليها في مجاهل إفريقيا بالترغيب أو بالترهيب وبواسطة المبشرين الذين تسير أمامهم جيوش جرارة من جيوش الاستعمار تفتك وتسلب وتنهب ، إذا كانت الصليبية تجد لها مكاناً تنمو من خلاله في تلك البقاع فإن الناس المستنيرين أصبحوا يرفضون النصرانية ، وإن الناس المستنيرين أصبحوا لا يرضون باليهودية ، وإن عقائد الهند وأديانها الكبرى أصبحت غير مقبولة ، ولكن الدعاية النشيطة فقط هي لهذا القرآن . تجد الإنسان في الهند وفي الصين وفي أوروبا وفي أمريكا وفي إفريقيا وفي أي قطر من الأقطار ، والإسلام ـ للأسف ليست له دولة تحميه ، وليست لدعاته جمعيات تمدهم بالمال أو تدافع عنهم في المحافل ، وإنما هم أناس يذهبون متطوعين ، يعيشون على قروشهم القليلة ، ويتقحمون المخاطر ويلقون أنفسهم بين المهالك ، يعرضون على الناس هذا القرآن ، فإذا أنت تجد اليوم أن في ألمانيا وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا وإنكلترة وأمم كثيرة لم تتعرف على دعوة الإسلام لا من أحد إلا من هؤلاء الدعاة ، فالإسلام يمشي بين الناس بالآيات التي يتلوها طالب صغير ذهب من بيتك أيها المسلم فقرأ القرآن في بلد من بلاد الغربة فسمعه الناس فرأوا ما فيه من هدى وتعرفوا على ما فيه من نور وتلمسوا ما فيه من حق وعدل فآمنوا بالإسلام ..
جاليات الإسلام تنتشر في الدنيا انتشار النار في الهشيم ، صوروا لأنفسكم بالله عليكم لو أن وسائل الإعلام ولو أن أجهزة الدعاوى التي تعمل اليوم في جنبات بلاد الإسلام جميعاً تعرض الميوعة وتعرض الخنوثة والانحلال والفساد .. صوروا لأنفسكم لو أن هذه الوسائل سُخّرت لخدمة مبادئ الإسلام ولخدمة قضايا القرآن .. ماذا يكون حال الناس ؟ أقول هذا لكي ألفت النظر إلى أننا مجرمون لا بحق أنفسنا وحسب ولكن بحق الإنسانية برمتها ، بحق المصير البشري كله ، لأننا سكتنا عن هداية القرآن ، ولأننا أصبحنا نصدر اللهو الرخيص ، نقتل به شمائل الرجولة في نفوس الناس وندمر به معاني الفضيلة في واقع المجتمعات الواقعة .(/8)
إن القرآن نزل من السماء على رسول الله صلوات الله عليه وحفظه الله تعالى بكفالةٍ منه ، لا ككفالة البنوك يتقرض منها ما يتقرض لكي يكون وسيلة هداية للناس عامة ، وسيكون كذلك . هو مشعل يعشو إلى نوره من أراد الله به الخير والفلاح ، فيا إخوتي إن أردتم كرامة الدنيا وكرامة الآخرة فإلى القرآن .. يا إخوتي إن أردتم العيش في بلادكم آمنين مطمئنين فإلى القرآن..يا إخوتاه إذ حرصتم على المصير البشري وعلى سعادة الإنسانية فإلى القرآن .. اعلموا أن هذه الأمة لن تستقيم في شئونها إلا إذا أصبح القرآن ديدنها الذي لا تغفل عنه ، اقرأوه واعرفوا حدوده وأوامره ونواهيه ، وقفوا حيث يقفكم القرآن،واذهبوا حيث يأمركم القرآن ، وانتهوا إلى حيث يأمركم القرآن ، تفلحوا وتسعدوا وتكونوا أدوات نافعة لهذه الإنسانية المكدودة المتعبة التي أرهقتها وأذلتها دعوات الناس ومبادئ الناس والفساد المستعرض المتطاول الذي لا يؤذن بانتهاء. فالله جلّ وعلا أسأل أن يجعلكم تبعاً لذلك الرعيل الذي سمع القرآن يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقفه قرآناً يستقر في العقول وحقائق تمس شغاف القلوب ومنهاجاً يسير عليه الناس .. وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/9)
تفسير سورة الأعلى الحلقة الرابعة
5 / 11 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
استعرضنا معكم في الجمعة الماضية جانباً من سورة الأعلى ونأمل اليوم إذا يسر الله تعالى أن نفرغ من الحديث عن هذه السورة إن استيسر ذلك . انتهينا من البحث في قول الله جلّ اسمه ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) وعرضنا لبعض التفصيل لما يعنيه هذا الكلام ، وعلى وجه الخصوص لما يُفهم من الإقراء ، وعُنينا بصورة خاصة بالتفرقة بين أمرين ، ما أحوج الناس في هذه الأيام إلى أن يفرقوا بينهما ، عُنينا بالتفرقة بين مفهوم القراءة العامي المبتذل ، وهو ما يكون من الناس غالباً ، وبين مفهوم القراءة وفاقاً لحقائق اللغة ومعطيات اللسان وقوانين الشريعة ، فرأينا أن القراءة تساوي أن يمتلئ الإنسان بهذا الذي يقرأ ، وأن يخالط منه اللحم والعظم والعصب ، وأن يكون بالتالي محركاً ومؤثراً بارزاً في السلوك ، وبغير هذا فإن القراءة لا تكون أكثر من حركة لسان لا مردود لها ولا قيمة ، ولعمري إنه يكفي للإنسان المسلم أن يلتفت إلى تاريخه .. إلى تلك الفترة المنيرة المضيئة من حياة الإنسانية ، ويتعرف على ما كان يفعله أصحاب رسول الله صلوات الله عليه حينما يتلو عليهم رسول الله عليه السلام آيات الله ، فإن تاريخ تلك الفترة مليئ بالشواهد والوقائع التي تكشف عن الحرص البالغ الذي كان مستولياً على أصحاب رسول الله عليه السلام ، من أجل أن يتعرفوا على هذا الكلام الذي يتنزل من عند الله جلّ وعلا .
لكم أن تتصوروا في أذهانكم صورة الرجل الذي آمن بالله واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم وعاش في شوق شديد إلى سماع المزيد من آيات الله جلّ وعلا ، على كثرة الشواغل وضيق ذات اليد وصعوبة طرائق المعاش في ذلك الزمان ، وحيثما قلبتم من التاريخ صفحات فأنتم واجدون صورة هذا الرجل الذين يُنيب عنه أحد إخوانه ليحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يذهب هو ليضرب في الأرض لكي يعيش ، وعهدنا بالناس أنهم إذا انتهى النهار وفرغوا من العمل حلّ عليهم التعب ، فهم يلتمسون الراحة ويبتغون إليها الوسائل ويطلبون الترويح والتسلية عن النفس ، ولكن هذا الرجل الذي أمضى سحابة النهار في تلك الظروف الصعبة يضرب في الأرض بمحراثه أو بفأسه أو يحمل على كتفه أو يضطرب في سوقه لا يُحس آلام العمل ومتاعبه ، وإنما يحس معتلج الشوق إلى أن يلقى هذا الأخ الذي أوكل إليه أن يحفظ عنه كلام رسول الله صلى الله علبيه وسلم في هذه المدة التي غابها عن المجلس الكريم ، فهو يأخذ في آخر النهار من حقائق التنزيل ما فاته أن يسمعه في سحابة النهار.
إن هذا الحرص وحده دليل على إدراك جيد لمعنى القراءة ، وأنها عمل يتسم بالمسوؤلية ، وليس كما يفعل الناس اليوم .. صفحات تقلب وسطور يمر عليها النظر ، قد تتصل بالعقل أو النفس وقد لا تتصل ، وإذا اتصلت فيا سوأتاه .. إن هذا المجتمع المسلم منذ انشطر واقعه الإنساني انشطر أيضاً واقعه العقلي ، منذ أن أصبح الناس يعيشون في رؤوسهم بشيء وفي سلوكهم بشيء آخر انشطر أيضاً جانبهم العقلي ، فأصبحت القناعة شيئاً لا يتصل بالسلوك ولا يؤثر على سير الإنسان ، ولا يُطلب منه أن يكون سكاناً يُعدّل لهم دفة الحياة . للأسف ذلك هو الذي كان ، وهذا هو المغزى الذي أطلتُ الوقوف عنده في الأسبوع الماضي كي ألفت انتباه الإخوة إلى شناعة التقصير الذي وقع المسلمون فيه ، نتيجة لعدم الاهتمام ، وعدم تناول الأمور بالجدية اللازمة . ما لنا ؟ هذا حديث في الواقع يمزق القلب وهو تتمثل فيه مأساة المسلمين ، لنمضي مع الآيات .
بعد أن يقول الله جلّ وعلا ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يتصل الخطاب إلى رسول الله عليه السلام قائلاً ( ونيسرك لليسرى ، فذكّر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ، قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ، بل تأثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ) نحن حقاً محتاجون الآن إلى شيء من العناية في القول وفي الاستماع ، إن هذا القرآن كما كررنا مراراً جسم واحد ، وكل سورة لها شخصيتها الخاصة ، ومن أشنع الخطأ أن تفهم آيات الكتاب الكريم تفاريق وأجزاء . حاولوا أن تلتقطوا الخيط الذي يربط هؤلاء الآيات ، ولنساعدكم على ذلك .(/1)
أما قوله جلّ وعلا ( ونيسرك لليسرى ) فهو مرتبط بالذي قبله ، لاحظوا أولاً تعهد من الله جلّ وعلا بأنه سيتولى إقراء رسوله الكريم صلوات الله عليه هذا القرآن وعلى النحو الذي شرحنا جوانب منه ، إقراءً تمتلئ به النفس ويعمر به القلب ويعطر على السلوك آثاراً مادية واضحة بينة ، ثم ليس يكفي أن نقتنع بالشيء وأن يتصل الشيء ذاته بواقع الحياة ، فأنت قد تصطدم بظروف لا قبل لك بها ، صعبة للغاية ، ولقد كان من قبل في تاريخ النبوات بالذات عوامل من هذا القبيل ، حينما عتت أمم على ربها وتمردت على شرائع أنبيائه وعصت رسل الله جلّ وعلا ، عاقبها الله تبارك وتعالى بأن شدد عليها الوجائب والتكاليف ، فحينما أُقرئت كتب الله جلّ وعلا اصطدمت بالواقع الذي لا قبل لها به . فاليسرى جاءت هنا وصفاً لمجمل الشريعة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس ، واليسرى ليس كما يفهم قصار النظر أنها هي الشريعة المبنية على التخفيف والتسهيل ، طبعاً هذا فهم قاصر ، فالحقيقة أن السهولة والصعوبة والتخفيف والشدة أمور نسبية ، فما هو صعب على شخص قد يكون سهلاً على آخر ، وما هو سهل يسير على زيد قد يكون عسيراً على عمرو ، فالأمر هنا نسبي ، انتبهوا إلى ما أقرره لكم الآن ، لكن المسألة كلها تُرد إلى حقيقة ، إن الشرائع تكاليف وأعباء وواجبات ، وحين كنا نتحدث في بدايات أحاديثنا منذ سنة وأكثر من نصف السنة كنا نستعرض واقع العمل النبوي ، فرأينا من خلال النصوص التي استعرضناها أن النبوة تكاليف وأثقال وشدائد ومؤونة لا يستقل بها ولا يقوم بها إلا أولو العزم من الرجال بعون من الله تعالى وتوفيقه . المسألة لا أحب أن يقع ما يتردد في كتبه الفقه وكتب أصول الفقه من أن شريعة الإسلام مبنية على المياسرة وعلى المسامحة وعلى السهولة وعلى الخفة ، هذا كلام يقال لبيان وصف فقهي وأصولي ، وأما الحقيقة فغير ذلك ، كلام الفقهاء ينصب على واقع حصل فيه تغيير يتساوق مع حقائق الشرع ، وأما حين تختل الأمور فالمسألة تختلف ، لأقرّب الأمر .. خذ مثلاً أي جهاز ميكانيكي وخالف بين تراكيبه وخالف بين دقائق الجهاز الذي يتركب منه ، إنك ستحصل على واحدة من نتيجتين : إما أنّ الجهاز يتعطل ويتوقف إذا كانت المخالفة فظيعة وكبيرة ، وإما أن الجهاز يدور ويعمل لكن بمشقة وبعسر ، واحد من أمرين لا ثالث لهما ، نفس الإنسان كذلك ، جهاز مجموعة من الحوافز ، مجموعة من الدوافع ، مجموعة من القابليات ، وظيفة الشريعة ماذا ؟ أن تضع كل حافز وكل دافع وكل قابلية في مكان الذي تؤدي فيه أداءً كاملاً غير مصطدم وغير مضطرب ، حينما تتناسق النفس الإنسانية بهذا الشكل يكون العمل الإسلامي يسيراً غير عسير ، لأنه يستخدم كامل الفاعلية في الجهاز الذي هو الشخصية الإنسانية ويستخدمها على وجوهها الصحيحة المضبوطة ، ليس يعني هذا نفي التكليف ولكن يعني أن تكون للتكاليف تلك اللذة التي يجدها الإنسان حينما يؤدي عملاً ما أداءً صحيحاً ومضبوطاً .
إن الإنسان حينما يؤدي أي عمل على نحو نموذجي يشعر بهذه الراحة ويشعر بهذه اللذة ، تصور أنه أوكلت لك مهمة فأديتها على أحسن ما يرام وعلى أكمل ما يرام وتحملت متاعب ، إنك في هذه الحالة تنسى متاعبك جميعاً ، بل إن الإنسان حينما يستغرقه هذا العمل يجد اللذة والسهولة واليسر والراحة في هذا العمل بالذات ، في غمرة العمل وفي ذروته . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادلهمت عليه الخطوب وإذا اشتدت عليه متاعب الحياة وإذا عبس الناس في وجهه يفزع إلى الصلاة وينادي بلالاً قائلاً : أرحنا بها يا بلال . كلام يبدو للناس للذين لا يتأقلمون مع هذه الأجواء كلاماً مضطرباً ومتناقضاً ، إنك في غمرة التعب وتقوم إلى تعب وتصلي صلاة تقف فيها حتى تتورم قدماك ، أهذه راحة ؟ نعم راحة ، راحة عند الإنسان الذي ينسجم مع العمل ، فوصف الشريعة بأنها يسرى ، ووصف هذا بأن الله ييسر الإنسان له يحمل هذا المعنى ، ولا ينبغي أن يُفهم بصورة باتة عند الناس الجادين أن المراد بتكاليف الشريعة هذه الأعمال الصغيرة ، ركعتان أو أربع ينقرهما الإنسان نقر الديك ثم يمضي ، ولا ينبغي أن يُفهم أنها صيام يصومه الإنسان على أمل أن يلقى مع المغرب مائدة متعددة الألوان وما أشبه ذلك ، كلا ، تكاليف الشريعة أكبر من هذا وأعمق من هذا ، ولكن تيسيرها يتجلى في عبقرية الإسلام حين يضع كل حاسة من حواس الإنسان وكل حافز من حوافز الإنسان وكل قابلية من قابلية الإنسان في المكان الملائم له الذي يؤدي فيه أداءه بصورة حرة وبصورة متناسقة مع سائر أجزاء هذا الجهاز ، فتكون السهولة ويكون اليسر حاصلاً من هذا الباب لا غير .(/2)
نقول هذا كي لا ينزلق أحد مع هذا الفهم العامي المغلوط ليسر الشريعة ، في الواقع الإسلام لم يأتِ ليوفر للإنسان راحةً ينعم معها بالسرير الوفير وبالبال المستريح أبداً ، الإسلام نداء نزل من السماء إلى هذا الإنسان الذي استخلفه الله تعالى في الأرض ليمسك بزمام الحياة فيلوي عنانها ليّاً عنيفاً حتى يخرجها عن المحور الغلط الذي تسير فيه الإنسانية ، عمل من هذا النوع لا يمكن أبداً أن يكون مبناه على السهولة والتفلّت وعلى عدم الاهتمام ورفض الجدية . يسر الشريعة يجب أن يفهم بهذا الشكل ، ولهذا أُسند التيسير إلى الله ما لم يكن في المسألة عون من الله جلّ وعلا فلا أصعب ولا أشق من مواجهة هذه المهمة .
ومن هنا تكتشفون فعلاً معنى هذه الصيغة ( ونيسرك لليسرى ) لم يقل أنك ستواجه اليسرى ، ولم يقل أنك تُيّسر نفسك اليسرى ، وإنما قال : نحن ـ أي الله ـ سوف نيسرك لليسرى ، ما لم يتدارك الله بعنايته الإنسان فيضعه على قاعدة الإيمان فإن أي عمل من أعمال الشرع ، حتى الوضوء الذي هو نظافة وطهارة وعمل خيري يجده الإنسان ثقيلاً كالجبل ، فالتيسير من الله ( ونيسرك لليسرى ) لكن متى جاء هذا ؟ بعد تعهد الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بالإقراء .
إذاً أول خطوة في هذا المنهج الذي تخطه السورة هو عماية الإقراء التي تساوي عملية الفهم والتثقيف ، أنت أيها المسلم مطلوب منك أن تؤدي عملك ، لكن قبل أن ترفع قدمك لتخطو الخطوة الأولى عليك أن تعرف ماذا تريد ؟ ماذا تريد مسطور في هذا القرآن ، قبل أن تتحرك اعرف القرآن كله ، والآن تكتشفون أن من أكبر من الخطل أن يتطفل على القرآن ناس يقتطعون منه آيات ليحاولوا فهمها على طرائقهم الخاصة وبأسلوبهم المزاجي المائع الخطر ، الآن تكتشفون .
بعد أن يقول الله ( ونيسرك لليسرى ) ماذا يقول ؟ يقول ( فذكر ) والخطاب ما زال مستمراً باتجاهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فذكر إن نفعت الذكرى ، سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) حينما تعودون إلى كتب التفسير وتطالعون فيها ما قاله المفسرون عن هذه الآية ، فأنتم تجدون للمفسرين رأيين بارزين ، المشكلة ليست تتجلى في كلمة ( فذكّر ) ولكن تتمثل في كلمة ( إن نفعت الذكرى ) هذا شرط ، الذين يعرفون اللغة العربية يعرفون معنى الشرط ، كأنما ظاهر الآية يقول لرسول الله عليه السلام : ذكّرْ طالما وجدتَ أن الذكرى نافعة ، وأما إذا كانت الذكرى غير نافعة فلا عليك ألا تُذكّر ، هذا ظاهر الكلام ، وللأسف بعض المفسرين سقطوا في هذا الفهم القاصر ، بعضهم الآخر حمل المسألة على اتجاه غير هذا ، قالوا : مراد الله جلّ وعلا في ذلك أنه ( فذكر إن نفعت الذكرى ) بالنسبة للناس الذين يؤمنون ، وأما بالنسبة للناس الذين أعلمناك أنهم لن يؤمنوا كالوليد بن المغيرة وأضرابه فلا تذكّرهم ، وعجيب أن تفهم آيات الله على هذا النحو ، وهذا هو خطر التجزئة في فهم القرآن الكريم ، إن أي معنى وأية فكرة تريد أنت أن تفهمها بالضبط فعليك أن تستجمع كل الصيغ الواردة في هذا المعنى وتضعها أمامك ، وعليك أن تنسق وترتب وأن تصل إلى الفهم من خلال هذه الصيغ جميعاً ، أما من صيغة واحدة فالأمر خطر ، قلنا للمفسرين رأيان أحدهما هذا الأخير والثاني الذي قلناه لكم أولاً ، وقالوا : إنه جاء على سبيل التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا ؟ قالوا : إن رسول الله حين جاءته الرسالة من الله تبارك وتعالى وأُمر بالبلاغ صدع بأمر ربه وأبلغ الناس وكانت مواقف الناس منه متباينة ، منهم من قبل ومنهم من أعرض ومنهم بين بين ومنهم من تمادى في العنفوان ، ومن تمادى في الصد ومن تمادى في العداوة ، والرسول عليه الصلاة والسلام بشر يتألم كما يتألم البشر ، وينزعج لهذه الظواهر ، ويضيق صدره ، ويحزن ، والله جلّ وعلا أبان ذلك في الكتاب ( قد نعلم أنه يحزنك الذين يقولون ) وأبان عن جانب مقابل وهو أن هذا النبي المكلف كان يتحرّق شوقاً أن يتقبل الناس كلهم هذه الرسالة ( فلعلك باخع نفسك ) أي مهلكها وقاتلها ( على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) كانت رغبة الرسول عليه الصلاة والسلام من الشدة في الحد الذي استوجبت أن ينزل الله عليه آيات تعزيه وتسليه وتهون عليه من شأن هذا الإعراض كي لا تتأثر صحة الرسول عليه الصلاة والسلام ، قالوا هذا من ذلك الباب ، فحينما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقابَل في الإعراض أنزل الله عليه هذا الكلام ليعزيه ( فذكّر ) طالما رأيت أن الأمور ماشية في طريقها ، وأن التذكير نافع ، وأما في غير هذه الحالات فخذ راحتك ، لا تذكر أحداً .(/3)
عجيب هذا الكلام .. انظروا حينما نأخذ الأمر في إطاره الصحيح ، نحن نقرأ في الكتاب قول الله جلّ وعلا ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) وهذا نفي لإيمان طوائف من الناس حق عليهم أن يموتوا على الكفر ويدخلوا النار ، ونحن نقرأ في فواتح البقرة ( إن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) فإن قمت بالإنذار والبلاغ وإن قعدت فهؤلاء لن يؤمنوا ، إذاً فهنالك صنف من الناس لن تجدي فيهم الموعظة ، ولن يبلغ فيهم التذكير أي مبلغٍ ، ما الموقف من هؤلاء الناس ؟ هل نحجب عنهم التذكرة والبلاغ ؟ هنا لب المشكلة ، نسأل لتحلّ المشكلة معنا تماماً ، إننا نعرف قطعاً أن الله جلّ وعلا قضى على بعض الناس أن لا يؤمنوا مهما جئتهم بأية آية ، لو جئتهم بكل آية ما قبلوا منك شيئاً ، والله جلّ وعلا تكلم عن طوائف من أهل الكتاب فقال ( ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من الله من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) إذاً فهناك طائفة من الناس لا سبيل إلى أن تهتم بهم ، والمشكلة تكون صحيحة حينما نعلم أعيان هؤلاء الناس ، نعرف أن فلاناً وفلاناً وفلاناً محكوم عليهم بعدم الإيمان ، في هذه الحالة فقط يكون توجيه البلاغ إليهم عبثاً ، لأنه بمثابة صب الماء على الصفا والصخر الأصم لكي تستنبت منه الزرع والثمار ، شيء في غير محله .
لكن الواقع خلاف هذا ، الواقع أن الله جلّ وعلا أبهم هذا الأمر ، قضى أن أناساً لن يؤمنوا ، ولكن لم يكشف لنا عن أسمائهم ولا أشخاصهم ولا أعيانهم ، ولو كشف لنا ذلك لتعطلت حكمة الخلق كلها ، الله جلّ وعلا أراد أن يعوم البلاغ ، فلهذا أبهم ، وإبهامات الشرع واضحة ، أنتم الآن في يوم جمعة والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن في يوم الجمعة ساعة هي ساعة الإجابة ، لا يوافقها عبد مسلم فيدعُ الله تعالى بشيء من أمر الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه الله إياه ما لم يدعُ بإثم أو بقطيعة ، لكن متى ؟ لا أحد يعلم ، الساعة هل هي مع الفجر أم بعد الفجر بعد الشمس وقت الصلاة قبل المغرب مع المغرب ؟ لا أعلم ، حينما أبهمها الله جلّ وعلا أراد أن يكون هذا الإبهام محرضاً ومحركاً للمسلم كي يرغب إلى الله تعالى في يوم الجمعة بكامله ، هذه حكمة الإبهام .
حكمة الإبهام فيما يتعلق بأعيان الأشخاص الذين لم يؤمنوا تتجلى في عموم البلاغ ، إذاً فمراد الله جلّ وعلا ( فذكر إن نفعت الذكرى ) يجب أن نعيد الشرط إلى الله جلّ وعلا الذي أبهم علينا هذه الأشياء ، الذكرى لا تنفع الناس الذين يعلم الله عنهم أنهم لن يؤمنوا ، وأما نحن المأمورين بالإبلاغ والتذكير فواجب علينا أن نعمّ بالبلاغ جميع الناس ، إن رأينا إعراضاً من الناس ذكّرنا ، وإن رأينا إقبالاً من الناس ذكّرنا ، وفي الليل نذكر وفي النهار نذكّر ، وفي كل آناتنا وفي كل حالاتنا نوالي التذكير ونوالي البلاغ .
وأما أمر القلوب وانقيادها إلى هذا التذكير فليس إلينا ، وإنما إلى الله جلّ وعلا الذي بيده وبين أصبعيه قلوب العباد جميعاً ، إن شاء أن يقيمها أقامها وإن شاء أن يزيغها أزاغها . هنا ينحل معنا معنى الآية ( فذكر إن نفعت الذكرى ) ويزيد ذلك وضوحاً ما يأتي بعد ذلك ( سيذكر من يخشى ، ويتجنبها ) أي يتجنب الذكرى ويبتعد عنها ( الأشقى ، الذي يصلى النار الكبرى ، ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) الآيات إذاً يحلها ما بعدها ، ها هنا في الآيات التي جاءت بعد ذلك يعرض الله لنا نموذجين من الناس ، بقطع النظر عن الأسماء وعن الأشخاص عن الأزمان وعن الأوصاف ، هنا عندنا مَن يخشى وعندنا الأشقى ، مَن يخشى الله جلّ وعلا ، والخشية ليست فقط مجرد هذه القشعريرة التي تعتري الإنسان حينما يسيطر عليه عامل الخوف من شيء ما ، هذا مظهر ساذج وأولي ، الخشية هي حصيلة لنظر متراحب يقوم به الإنسان ، حينما ينظر الإنسان بصدق وأمانة وبتجرد إلى ذاته يشعر بأن هذه الذات لم ُتخلق من ذات نفسها ، وإنما وُجدت بموجِد ، ومهما سلسنا الموجدات فنحن واصلون قطعاً بقضية العقل إلى الموجد الأولي وإلى السبب الأولي وهو الله تبارك وتعالى ، وحينما ننظر في نفوسنا فنجد وكما مرّ معنى في نفس السورة أن الله جلّ وعلا خلقنا فقدر وهدى ، أي وضع كل شيء في مكانه اللائق ، ونعرف من ذواتنا ومن نفوسنا ومن أشخاصنا قيمة هذا الإبداع وهذا التنسيق الذي عليه القرآن سواء في الحواس الظاهرة أو الحواس الباطنة ، سواء في القوى العضلية والبدنية أم في القوى الروحية والعقلية ، حينما ننظر إلى هذا الإبداع نحكم بأن عقلاً مدبراً على غاية ما يكون من القوة والاقتدار هو الذي أوجد هذا الإنسان .(/4)
حينما نصل إلى قناعات من هذا النوع بمجرد النظر المخلص نحكم بأن هذا العقل المبدع ، هذه الذات الخالقة ، لا يمكن أن تخلق الإنسان عبثاً ، حينما نظر في الآفاق نتعرف على مكاننا من الوجود ونتعرف على الغاية التي خلقنا من أجلها . وهنا يأتي قول الله جلّ وعلا ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) مصداق لهذا الكلام ، وهنا يأتي أيضاً جلّ اسمه ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين له أنه الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد ) حينما ننظر هذا النظر نشعر بأننا خُلقنا ننظر لغاية ، وغاية عظيمة ، رشحتنا لها تلك القوة التي أوجدتنا ، فنعلم أننا مطالبون بها ، وأننا لم نترك في هذه الدنيا بلا سؤال وبلا حساب ، حينئذٍ نستشعر الخشية .
هل الخشية أن يخرج عليك سبع فتدفعك غريزة البقاء وحب الحياة إلى أن تشعر بهذا الاضطراب وهذه القشعريرة ؟ هل الخشية أن تسمع القرآن يتلى بنغم رائع يلامس أوتار القلوب ويثيرك كلامه ويحرك حس الجمال فتشعر أن جلدك يتقصّف ؟ لا ، المسألة أبعد من ذلك ، المسألة تتصل بصميم الرسالة ومكان الإنسان من الوجود وغاية الإنسان في هذا الوجود ، هذا الصنف من الناس الذي يوجد لديه استعداد لأن يتعرف على خالقه ويتعرف على مكانه من الوجود ويتعرف على الغاية التي وُجد من أجلها هو الذي تُجدي معه الذكرى ، لكن هل تستطيع أن تقول لي إنني أستطيع وأقدر أن أتبين هؤلاء الناس بلون اللباس أو بلون الوجه أو بطريقة الكلام ؟ لا ، المسألة قلبية صرفة ، وهذه مغيبة لا أحد يعرفها على الإطلاق .
كذلك الصنف الآخر ( الأشقى ) الذي تحجر فكره وتصلب قلبه وأعرض عن النظر في كل آية ، هل تستطيع أن تعطيني صورة له ؟ هل تستطيع أن تمنحني علامة فارقة له ؟ لا ، إذاً فالله جلّ وعلا لكي يحل الإشكال الذي توهمه بعض الناظرين في القرآن في قوله جلّ وعلا ( فذكر إن نفعت الذكرى ) يحل الإشكال كليةً بالآيات التالية ( سيذكر من يخشى ، ويتجنبها الأشقى ) لاحظوا كلمة ( يتجنبها ) يتجنب ماذا ؟ يتجنب الذكرى ، إذاً فهنا تذكير وهنا إنسان متجنب ، لو كان المعنى : أن عليك يا محمد أن تذكر الناس طالما نفعتهم الذكرى وأن تكف عنهم ولا تذكرهم إذا لم تنفع الذكرى . لما كان لكلمة ( يتجنبها ) أي معنى ، لأن الانطباع الذي يخرج به السامع من قول الله ( يتجنبها ) انطباع عن صورة ، صورة المذكِر وصورة المذكَر الذي يُعرض ويصد . وإذاً فواقع الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكّر الناس جميعاً .
هذا من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية ومن الناحية السلوكية لا بد من النظر ، لأن المسألة لها اتصالها المباشر بعمل الدعوة ، وأنا أحب لكل الشباب الذين يهتمون بالإسلام أن يعرفوا هذا الكلام ، لو أننا فسحنا المجال للناس أن يقوموا بالتذكير والتبليغ طالما أحسوا من الناس إقبالاً ، وأن يكفوا عن الدعوة حينما يجدون من الناس إعراضاً لأدّى الأمر إلى فساد عريض ، التقدير الشخصي يختلف ، أنا ربما تكلمت معك كلاماً فيما يتعلق بالإسلام فأجد منك صدوداً قليلاً ، ربما أكون كسولاً ربما أكون متعاجزاً ربما أكون غير صادق الإيمان ، فأنا أضخم هذا الإعراض ، حينما تكون درجته واحداً أرفعه بهذه العوامل اللاشعورية لتكون درجته مائة ، وإذاً أحكم عليك سلفاً بأنك من الصنف الذي لا يؤمن . فمن الناحية السلوكية لا يمكن بصورة باتة أن يفتح الله جلّ وعلا هذا الباب الواسع نحو القعود والتخلف عن الدعوة ، إن على الإنسان الداعي إلى الله جلّ وعلا أن يذكّر ، لا عليه ما تكون عليه حال الناس ، قد يستجيبون وقد لا يستجيبون ، ذلك ليس إليك وأنت لن تحاسب على هذا الأساس ، أنت تحاسب فقط على أداء الواجب ، واجبك ينحصر فقط بالتذكير ، فإن تقبّل الناس منك فبها ونعمت ، وإلا فقد أديت الذي عليك ولكن اذكُر أن عليك أن تسير الطريق منذ أن تعقل ما ينبغي وما لا ينبغي وإلى أن تموت . أما أن تقعد عن الدعوة إلى الله تحت أي ظرف من الظروف ، تحت أي عامل من العوامل ، فهذا هو الخطأ الذي سد الله جلّ وعلا الباب بينك وبينه .
( الذي يصلى النار الكبرى ) ووصف النار بالكبرى وهو مبالغة لتضخيم هذا العذاب الذي يلقاه ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) وهذا أيضاً تضخيم ، إن الموت راحة ، في الواقع في بعض الأحيان حتى بالنسبة إلى الأحياء يكون الموت راحة ، ولكن أن لا يموت الإنسان فيستريح ، وأن لا يحيا فيشعر بلذة الحياة ذلك هو العذاب المهين ، فالعاقبة التي خبّأها الله تعالى لهؤلاء الذين يُعرضون عن الله بعد استفراغ المجهود في الدعوة إلى الله ، تلك هي عاقبتهم ، نار تلظى لا يموتون فيها فيستريحون من حس العذاب وألم العذاب ولا يعيشون عيشة الأبرار في جنة عرضها السماوات والأرض .(/5)
بعد كل هذا وبعد كل المراحل ، الإقراء أولاً والفهم والمعرفة والوعي والتيسير من الله جل وعلا إلى الطريقة المثلى أن يعرف الإنسان أن عليه ـ لكي تكون الأمور يسيرة بالنسبة إليه ـ أن يضع نفسه على المحاور التي خطها الله جل وعلا ، والتذكير بعد ذلك للناس بعد امتلاء النفس بالقرآن وبعد معرفة الإنسان بالشريعة وأسرارها ، تذكير الناس ودعوتهم إلى الله ، يأتينا درس من أبلغ الدروس ولعله أن يكون الفارق الحاسم بين هذا الإسلام وبين كل دعوة عرفتها الدنيا منذ أن بدأت الدنيا وإلى أن تقوم الساعة .
يقول الله جلّ وعلا ( قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ، بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ، إن هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ) يعني هذه الطريقة هذا الكلام مسطور في الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ، يعني أن هذا نهج الأنبياء ونهج النبوات وصميم الرسالات كلها ، ما خلت رسالة لله جل وعلا من الضرب على هذا الوتر ، ما هو هذا الوتر ؟ ( قد أفلح من تزكى ) نحن نسمع يا إخوة ولا سيما في هذا العصر أن الإنسان تؤثر فيه الظروف والعوامل الخارجية ، وهذا صحيح ولا مجال للنقاش من حوله ، ولكنه نصف الحقيقة ، ونصفها غير المهم ، نحن نعرف أن الظروف تؤثر على الإنسان ، تعال إلى إنسان تقي و ضَعْه بين أشرار ، زناة ، شربة خمور ، وما أشبه ذلك ، فستجده مع الزمن يتأقلم مع الجو وينسى قواعد التقوى ، ورُبّما انزلق فذهب بعيداً في طريق المعصية ، إن الظروف لا شك تؤثر على الإنسان .
أيضاً أنت حينما تطالب الإنسان بأن يكون سليم الطوية بريء الصدر من الحقد ومن الغي ومن الحسد ، أنت مطالب بأن تضع هذا الإنسان في وسط من الشروط المادية تجعله لا يقابل المهيجات التي تدفع إلى هذه الخلائق الذميمة ، هذا كله صحيح . لكن لو جئت إلى إنسان فقير وحكمت عليه بأن يعيش بين أصحاب القصور والمترفين والمنعمين وهو على فقره وخصاصته ورثاثة حاله فإنه بمطالعة النعيم الذي يُحرَم منه سيشعر بألم الحرمان وستنمو في داخل نفسه دوافع الحسد ، وحينئذٍ يتخرب صدره ويتوسخ قلبه ، إننا لا ننكر أهمية الشروط أبداً ، لكنا نسأل هذه الشروط أهي قدر المقدور ؟ أهي شيء مفروض على الإنسان لا حيلة له تجاهها ؟ لا ، إن الشروط قائمة ومؤثرة ، ولكن الإنسان هو الذي يغير الشروط ، ومتى يغير الشروط ؟ حينما تتحصل لديه قناعتان ، انتبه ، أول القناعتين أن يعلم أن هذه الشروط القائمة فاسدة ، وثانية هاتين القناعتين وأهمهما أن يعلم أن تغيير هذه الشروط يساوي حياته أو يزيد على حياته . أي حينما يشعر أن هذه الشروط القاسية سوف تدمر حياته ، وأنه إن أراد حقاً فعليه أن يغير هذا الشروط ولو أدى ذلك إلى إهلاك حياته ، حينئذٍ فهذا الإنسان هو الذي سيغير الشروط . نحن لا نقول إن الشروط المادية والشروط المجتمعية لا قيمة لها ، ولكنا نقول إن هذا نصف الحقيقة فقط ونصفها غير مهم ، والنصف الثاني والمهم جداً أن يقوم الإنسان ببذل مجهود خاص ذاتي نابع من ذاته بهدف تغيير هذه الشرائط ، هذا هو المعبر عنه بالتزكية .
إن الإنسان حينما يتصور أننا سوف نرقيه إلى مرتبة الملائكة حينما نهيّئ له النظام السياسي الديمقراطي ، وسوف نرقيه إلى رتبة الملائكة حينما نهيئ له النظام الاشتراكي الذي يضمن له القوت يكون واهماً ويكون مخطئاً خطأ مفظعاً جداً لماذا ؟ إن الديمقراطية السياسية وهي أرقى أشكال الحكم جميعاً ما منعت الظلم وما منعت الإرهاب وثمة حد محدود تنفجر عنده الديمقراطية ، حينما تهدد أرباب المصالح ، وفي النظام الاشتراكي الذي وفّر القوت بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي أخذه من المجتمع الإنساني على حساب الحرية وعلى حساب الكرامة وعلى حساب المعنى الآدمي ، مع ذلك فالنظام الاشتراكي لم يلغِ من نفس الإنسان هذا الشره الذي يدفع إلى السرقة ويدفع إلى الرشوة ويدفع إلى الطمع ، ولعل الروائح كريهة جداً في وسط الأنظمة الاشتراكية التي تعيش اليوم .(/6)
المسألة ليست في القشور ، ما ترونه من واقع بشري فهو ظاهر يمور تحته المعنى الإنساني ، إن هدف الإنسان المسلم ينصب على هذه العوامل التي تغير في الشرط الإنسان لا في الشرط المجتمعي ، إن الشرط الإنساني حين يتغير فلا بد أن يتغير الشرط المجتمعي تبعاً لذلك وحكماً كما تقول : واحد زائد واحد يساوي اثنين ، كذلك حينما يتغير الشرط الإنساني يتغير شرط المجتمع . أما أن نكف عن بذل أي مجهود كما يفعل دعاة الحركات والمذاهب المحدثة يريدون من الإنسان تأييده وانتظامه في الحزب وانتسابه إلى الجماعة ، ولا عليهم أن يكون هذا الإنسان طاهر القلب نقي السريرة زاكي الأخلاق ، هؤلاء يغامرون بالمصير البشري كله ، إن البناء يبدأ من داخل النفس ، وهنا تتركز مسؤولية كل إنسان تجاه نفسه ، إن مرقاة الصلاح البشري تبدأ من صلاح النفس الإنسانية بالذات . ولهذا يقول الله جلّ وعلا تتويجاً لكل هذا المنهج الذي رسمته هذه السورة ( قد أفلح من تزكى ) قد أفلح وفاز ونجح ، نجح في الامتحان الرهيب من تزكى وبذل مجهوداً خاصاً من أجل أن يعيد بناء نفسه على قاعدة تساعد على إصلاح هذه الحياة .
( وذكر اسم ربه فصلى ) بقي متعلقاً في ذلك الخالق الذي خلقه لغاية ، والذي سيأخذه بالحساب العسير حين يفرط بهذه الغاية التي خلقه من أجلها ، ولكن انظروا.. إعجاز القرآن يا إخوة إن القرآن لا يتركك أمام تقرير هذه الواقعة الصميمية فحسب ، وإنما يكشف أمامك الغطاء عن وجه العلة ، لماذا يشد النفس ؟ لماذا بعد أن تتضح لهم الدلائل وتقوم الحجة عليهم لماذا يعرضون ؟ يقول لك الله جلّ علا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ) ها هنا نظران ، نظر ينغمس مع واقع الحياة بأطماعها بشهواتها بأشيائها بمالها بنسائها بكل شيء فيها مما يربط الإنسان إلى الأرض ويشده نحوها شداً عنيفاً ، ونظر يتجاوز هذا ، بل يستخدم هذا كله من أجل أن يستقيم الناس على الجادة الصحيحة الموصلة إلى بر السلامة بالنسبة إلى الإنسان والموصلة إلى رضوان الله جلّ وعلا . إن شرط التزكي هو تخفيف التعلق بأشياء الدنيا ، إنك حينما تكون مستعبداً لأشياء الدنيا تنافي غاية الإسلام ، هذا الإسلام جاءك أيها الإنسان فوجدك عبداً لهذه الدنيا ، عبداً للأعراف عبداً للتقاليد عبداً للعادات الاجتماعية عبداً للطواغيت عبداً للأموال ، فأراد الله جلّ وعلا أن يحررك من كل هذه العلائق ، وأن يجعل هذه العلائق كلها عبيداً لك ، فمن هنا كشف الله جلّ وعلا لنا عن العلة التي تشكل الدافع الذي يدفع الإنسان عن الطريق السوي ، هي التعلق بالدنيا ، أتريدون أمثلة ؟ سأضرب لكم بعض الأمثلة ، سأضرب لكم أمثلة من التاريخ وسأضرب لكم أمثلة من الواقع .
أما أمثلة التاريخ فنحن نعرف بدون حاجة إلى تفاصيل أن المسلمين ملكوا الدنيا ، وأن كلمة واحدة تخرج من بين شفتي الحاكم أو الأمير أو الخليفة كافية لتدمير مجتمعات بكاملها ، ومع ذلك فهذه القوة الهائلة التي وُضعت بين يدي المسلمين لم تدفع المسلمين أبداً إلى أن يتزحزحوا عن قسطاس العدل والاستقامة الذي فرضه الله والذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم . لكن القوة في المجتمعات المعاصرة تجعل من الحاكم إلهاً في الأرض من دون الله يُعبد ، وحسبك أن توجه إلى الحاكم أي نقد لتعيش السنين تأكلك رطوبة الأبقية بعد أن تكون السياط قد جلدتك حتى الموت ، هذا فارق هائل ، إن المسلمين ملكوا الدنيا وفاضت الأموال بين أيديهم كأنهار ، ومع ذلك فكنتَ تجد الواحد منهم يملك عشرات الألوف يهبها ولا يبالي ماذا سيكون حاله في الغد ، كانت عائشة رضي الله عنها صائمة فجاءها عطاؤها ، وعطاء أمهات المؤمنين اثنا عشر ألف درهم في السنة تساوي بعملة اليوم مئات الألوف من حيث القوى الشرائية ، فلما جاءها قالت لجاريتها : يا فلانة ضعي فوق هذا المال ثوباً فغطت المال كي لا تؤذي نفسها من منظر المال ، وأصبحت تدخل يدها من تحت الغطاء فتقبض وتقول للجارية اذهبي بهذا إلى بيت فلان ، اذهبي بهذا إلى أيتام فلان ، حتى إذا كُشف الغطاء لم يبقَ أي شيء ، قالت لها الجارية : يا أم المؤمنين لو أبقيت لنا درهماً نشتري لك به لحماً تفطرين عليه ؟ قالت يا بنيتي لو ذكرتني لفعلت . نسيت نفسها . الناس الذين يُستعبدون لأشياء الدنيا ناس فقراء من حيث التربية الإسلامية والتربية الإيمانية ، لكن الناس المؤمنين يستعبدون أشياء الدنيا ليسخروها نحو الغاية المثلى .(/7)
أتريدون أمثلة من الواقع ؟ سأقول لكم ، إن الدنيا اليوم تزخر بالدعوات وكلها تسير في اتجاه مضاد لهذا الإسلام ، في اتجاه معاد لدعوة الله جلّ وعلا ، وهذه الدعوات الفاسدة المفسدة الضالة المضلة المخربة سرت بين المسلمين ، بل لعلها اليوم أغلب ما يكون بين المسلمين ، مع ذلك فأنت تجد من رواد الأحزاب وأحلاس هذه الحركات أناساً مسلمين ، تعال معهم وقل : يا أخانا أعندك شك في الله ؟ يقول لك : معاذ الله . أتشك في صلاحية الإسلام ؟ يقول لك : معاذ الله . إذاً ما شأنك مع هؤلاء الناس وهم كيت وكيت وكيت ، حاضرهم مستقبلهم أخلاقهم أوصافهم ، أينسجم ذلك كله مع الإسلام ؟ يقول لك : مصلحة . يريد أن يتوظف ، يريد أن يحفظ رزقه ، يريد ألا تتأثر تجارته ، يريد أن يبقى محافظاً على زراعته . إذاً فهي شهوات وإذاً فصدقاً وحقاً ما قال الله جلّ وعلا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) السبب الذي يدفعكم بعيداً عن الله ليس سبباً عقلياً ولا سبباً إنسانياً ولا سبباً قلبياً ووجدانياً ، ولكنه سبب مصلحي رخيص جداً هو الذي يجعله تُكثّرون ثواب الكافرين وتكونون جنوداً للظالمين .
يا إخوة الإسلام الأمر صعب والمسؤولية خطيرة ، وحري بكل أخ من إخواننا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن هذا الإسلام حق وصدق من الله جلّ وعلا ، وأن فيه سلامة الإنسانية كلها ، حق على هذا الإنسان أن يقف ويطيل الوقوف ، وأن يتساءل وأن يشدد على نفسه في المسألة ، وأن يقطع صلاته بالدنيا كلها إلا بالله ، وأن يطهر حياته من كل صلة بأي شيء إلا الصلة بهذا الإسلام . أرأيتم حينما ننظر إلى الآيات نظراً غير مجزوء ؟ وحينما ننظر إلى القرآن بسياقه وبتسلسله المنطقي معملين عقولنا ومفكرينا أكثر ومتعبين أنفسنا أكثر كيف تتوضح أمام أعيننا معالم القضية وقضايا الإسلام ؟
أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون عيشكم مع القرآن دائماً ومتصلاً ، وأسأل الله جلّ وعلا أن يفتح قلوبنا وقلوبكم وقلوب المسلمين لفهم حقائق هذا الكتاب فإنه هو حبل النجاة المتين الذي أوله عندك وآخره عند الله في الجنة ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/8)
تفسير آية الكرسي ... ... ...
(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: 255)
التفسير:
هذه الآية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبيّ بن كعب، وقال: «أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي؛ فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر»(1)؛ ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جداً.
قوله - تعالى -: {الله لا إله إلا هو}: الاسم الكريم مبتدأ؛ وجملة: {لا إله إلا هو} خبر؛ وما بعده: إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و{إله} بمعنى مألوه؛ و«المألوه» بمعنى المعبود حباً، وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله - سبحانه وتعالى-؛ والآلهة المعبودة في الأرض، أو المعبودة وهي في السماء - كالملائكة - كلها لا تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها لا تستحق ذلك؛ الذي يستحقه رب العالمين، كما قال - تعالى -: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21]، وقال - تعالى -: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62].
و{إله} اسم لا؛ و{لا} هنا نافية للجنس؛ ولا النافية للجنس تدل على النفي المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ{لا إله} نفي عام محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله - تعالى -: {إلا هو} بدل من خبر {لا} المحذوف؛ لأن التقدير: لا إله حق إلا هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود بالحكم، كما قال ابن مالك:
التابع المقصود بالحكم بلا *** واسطة هو المسمى بدلاً
وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي الألوهية الحق نفياً عاماً قاطعاً إلا لله - تعالى - وحده.
وقوله - تعالى -: {الحي القيوم} هذان اسمان من أسمائه - تعالى -؛ وهما جامعان لكمال الأوصاف، والأفعال؛ فكمال الأوصاف في {الحي}؛ وكمال الأفعال في {القيوم}؛ لأن معنى {الحي} ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك «أل» المفيدة للاستغراق؛ وكمال حياته - تعالى -: من حيث الوجود، والعدم؛ ومن حيث الكمال، والنقص؛ فحياته من حيث الوجود، والعدم؛ أزلية أبدية - لم يزل، ولا يزال حياً؛ ومن حيث الكمال، والنقص: كاملة من جميع أوصاف الكمال - فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه، وبصره، وسائر صفاته كاملة؛ و{القيوم}: أصلها من القيام؛ ووزن «قيوم» فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
قوله - تعالى -: {لا تأخذه سنة ولا نوم} أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم؛ فالنوم معروف؛ والنعاس مقدمته.
قوله - تعالى - في الجملة الثالثة: {له ما في السموات وما في الأرض} أي له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و{السموات} جمعت؛ و{الأرض} أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لأن المراد بها الجنس.
قوله - تعالى - في الجملة الرابعة: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}؛ {من} اسم استفهام مبتدأ؛ و{ذا} ملغاة إعراباً؛ ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين اللفظ؛ و{الذي} اسم موصول خبر {من}؛ والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده، حيث قال - تعالى -: {إلا بإذنه}.
و«الشفاعة» في اللغة: جعل الوتر شفعاً؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما لا يطيقون(2): شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(3): شفاعة في جلب منفعة.
وقوله - تعالى -: {إلا بإذنه} أي الكوني؛ يعني: إلا إذا أذن في هذه الشفاعة - حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه - جل وعلا -، وهيبته؛ وكلما كمل السلطان صار أهيب للملِك، وأعظم؛ حتى إن الناس لا يتكلمون في مجلسه إلا إذا تكلم؛ وانظر وصف رسولِ قريشٍ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم.(/1)
قوله - تعالى -: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}؛ هذه هي الجملة السادسة؛ و«العلم» عند الأصوليين: إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً؛ فعدم الإدراك: جهل؛ والإدراك على وجه لا جزم فيه: شك؛ والإدراك على وجه جازم غير مطابق: جهل مركب؛ فلو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «لا أدري» فهذا جهل؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «إما في الثانية؛ أو في الثالثة» فهذا شك؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «في السنة الخامسة» فهذا جهل مركب؛ والله - عز وجل - يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً لها جملة، وتفصيلاً؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال - تعالى -: {يعلم ما بين أيديهم} أي المستقبل؛ {وما خلفهم} أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ لا يساعد عليه؛ و{ما} من صيغ العموم؛ فهي شاملة لكل شيء سواء كان دقيقاً أم جليلاً؛ وسواء كان من أفعال الله أم من أفعال العباد.
قوله - تعالى -: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} لها معنيان؛ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله - سبحانه وتعالى- من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ المعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السموات، والأرض - إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ وقوله - تعالى -: {إلا بما شاء} استثناء بدل من قوله - تعالى -: {شيء}؛ لكنه بإعادة العامل؛ وهي الباء؛ و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي: إلا بمشيئته؛ ويحتمل أن تكون موصولة؛ أي: إلا بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفاً؛ والتقدير: إلا بما شاءه.
قوله - تعالى -: {وسع كرسيه السماوات والأرض}؛ أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» هو موضع قدمي الله - عز وجل -؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً(1)، ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس - رضي الله عنهما - يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري(2) أنه كان ينهى عن الأخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السنّة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله - عز وجل -؛ وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم، وأئمة التحقيق؛ وقد قيل: إن «الكرسي» هو العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن «العرش» أعظم، وأوسع، وأبلغ إحاطة من الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن {كرسيه}: علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها لا تصح عن ابن عباس(3)؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولا في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جداً من أن يصح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»(4)؛ وهذا يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله - عز وجل -: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق~: 6]؛ ولم يقل: أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لأن ذلك ليس مرئياً لنا؛ ولولا أن الله أخبرنا به ما علمنا به.
قوله - تعالى -: {ولا يؤوده}؛ أي لا يثقله، ويشق عليه {حفظهما}؛ أي حفظ السموات، والأرض؛ وهذه الصفة صفة منفية.
قوله - تعالى -: {وهو العلي العظيم}: مثل هذه الجملة التي طرفاها معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء؛ و{العظيم} أي ذو العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات هذه الأسماء الخمسة؛ وهي {الله}؛ {الحي}؛ {القيوم}؛ {العلي}؛ {العظيم}؛ وما تضمنته من الصفات.
2 - ومنها: إثبات انفراد الله - تعالى - بالألوهية في قوله - تعالى -: {لا إله إلا هو}.
3 - ومنها: إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله، وجعلوا معه آلهة.
4 - ومنها: إثبات صفة الحياة لله - عز وجل -؛ وهي حياة كاملة: لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا توصف بنقص، كما قال - تعالى -: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3]، وقال - تعالى -: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]، وقال - تعالى -: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].(/2)
5 - ومنها: إثبات القيومية لله - عز وجل -؛ لقوله - تعالى -: {القيوم}؛ وهذا الوصف لا يكون لمخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى غيره: فنحن محتاجون إلى العمال، والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء، والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الأولاد، والأولاد يحتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى المال، والمال محتاج إلينا من جهة حفظه، وتنميته؛ والكل محتاج إلى الله - عز وجل -؛ لقوله - تعالى -: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15]؛ وما من أحد يكون قائماً على غيره في جميع الأحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله - تعالى -: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33]؛ يعني الله؛ فلا أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.
6 - ومن فوائد الآية: أن الله - تعالى - غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر إليه - تعالى -؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين قوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7]، وقوله - تعالى -: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40]؛ فأثبت أنه يُنصر؟
فالجواب: أن المراد بنصره - تعالى - نصر دينه.
7 - ومنها: تضمن الآية لاسم الله الأعظم الثابت في قوله - تعالى -: {الحي القيوم}؛ وقد ذكر هذان الاسمان الكريمان في ثلاثة مواضع من القرآن: في «البقرة»؛ و«آل عمران»؛ و«طه»؛ في «البقرة»: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]؛ وفي «آل عمران»: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}؛ وفي «طه»: {وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111]؛ قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في {الحي}؛ وصفة الإحسان، والسلطان في {القيوم}.
8 - ومن فوائد الآية: امتناع السِّنَة والنوم لله - عز وجل -؛ وذلك لكمال حياته، وقيوميته، بحيث لا يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله - تعالى -: {لا تأخذه سنة ولا نوم}؛ وهذه من الصفات المنفية؛ والإيمان بالصفات المنفية يتضمن شيئين؛ أحدهما: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني: إثبات كمال ضدها؛ لأن الكمال قد يطلق باعتبار الأغلب الأكثر، وإن كان يرد عليه النقص من بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يرد عليه نقصٌ أبداً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك: إذا قيل: «فلان كريم» فقد يراد به أنه كريم في الأغلب الأكثر؛ فإذا قيل: «فلان كريم لا يبخل» عُلم أن المراد كمال كرمه، بحيث لا يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله - تعالى -: {لا تأخذه سنة ولا نوم}؛ فدل على كمال حياته، وقيوميته.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات الصفات المنفية؛ لقوله - تعالى -: {لا تأخذه سنة ولا نوم}، وقوله - تعالى -: {ولا يؤوده حفظهما}؛ و«الصفات المنفية» ما نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها.
10 - ومنها: عموم ملك الله؛ لقوله - تعالى -: {له ما في السموات وما في الأرض}.
ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه.
11 - ومنها: أن الحكم الشرعي بين الناس، والفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله؛ وأن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين، والقوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله - عز وجل -؛ لأن الملك لله - عز وجل -.
12 - ومنها: تسلية الإنسان على المصائب، ورضاه بقضاء الله - عز وجل -، وقدره؛ لأنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه، وسلّم؛ ولهذا كان في تعزية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابنته أنه قال: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى»(1).
13 - ومنها: عدم إعجاب الإنسان بما حصل بفعله؛ لأن هذا من الله؛ والملك له.
14 - ومنها: اختصاص الله - تعالى - بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر: {له ما في السموات}؛ لأن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصر.
15 - ومنها: إثبات أن السموات عدد؛ لقوله - تعالى -: {السموات}؛ وأما كونها سبعاً، أو أقل، أو أكثر، فمن دليل آخر.
16 - ومنها: كمال سلطان الله لقوله - تعالى -: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم الملك صار ذلك أكمل، وأعلى.
17 - ومنها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله - تعالى -: {إلا بإذنه}؛ وإلا لما صح الاستثناء.
18 - ومنها: إثبات الإذن - وهو الأمر -؛ لقوله - تعالى -: {إلا بإذنه}؛ وشروط إذن الله في الشفاعة: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله - تعالى -: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26]، وقوله - تعالى -: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28].
19 - ومنها: إثبات علم الله، وأنه عام في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لقوله - تعالى -: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}.(/3)
20 - ومنها: الرد على القدرية الغلاة؛ لقوله - تعالى -: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت.
21 - ومنها: الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لأن الخوارج، والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة.
22 - ومنها: أن الله - عز وجل - لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً، ولا بصراً؛ قال - تعالى -: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]، وقال - تعالى -: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110].
23 - ومنها: أننا لا نعلم شيئاً عن معلوماته إلا ما أعلمنا به؛ لقوله - تعالى -: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} على أحد الوجهين في تفسيرها.
24 - ومنها: تحريم تكييف صفات الله؛ لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا ادعينا علمه فقد قلنا على الله بلا علم.
25 - ومنها: الرد على الممثلة؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم؛ بل بما يعلم خلافه؛ لقوله - تعالى -: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
26 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله: {إلا بما شاء}.
27 - ومنها: عظم الكرسي؛ لقوله - تعالى -: {وسع كرسيه السموات والأرض}.
28 - ومنها: عظمة خالق الكرسي؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.
29 - ومنها: كفر من أنكر السموات، والأرض؛ لأنه يستلزم تكذيب خبر الله؛ أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها، وقالوا: ما فوقنا فضاء لا نهاية له، ولا حدود؛ وإنما هي سدوم، ونجوم، وما أشبه ذلك؛ وهذا لا شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده الإنسان بنفسه، ووهمه؛ أو صدَّق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب والسنّة.
30 - ومنها: إثبات قوة الله؛ لقوله - تعالى -: {ولا يؤوده حفظهما}.
31 - ومنها: أنه - سبحانه وتعالى- لا يثقل عليه حفظ السموات، والأرض؛ لقوله - تعالى -: {ولا يؤوده حفظهما}؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي كقوله - تعالى -: {وما مسنا من لغوب} [ق~: 38].
32 - ومنها: إثبات ما تتضمنه هذه الجملة: {ولا يؤوده حفظهما}؛ وهي العلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحكمة، والقوة.
33 - ومنها: أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله - تعالى -: {ولا يؤوده حفظهما}؛ ولولا حفظ الله لفسدتا؛ لقوله - تعالى -: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} [فاطر: 41].
34 - ومنها: إثبات علو الله - سبحانه وتعالى- أزلاً، وأبداً؛ لقوله - تعالى -: {وهو العلي}؛ و{العلي} صفة مشبهة تدل على الثبوت، والاستمرار؛ وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه - سبحانه - نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الأولى: من قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم؛ وقولهم باطل بالكتاب، والسنّة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلوّ، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يَؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إلا وهو فوق، أو تحت، أو عن يمين، أو شمال، أو متصل، أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛ ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.
35 - ومن فوائد الآية: الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال.
36 - ومنها: التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله - تعالى -: {وهو العلي العظيم}؛ ولهذا قال الله في سورة النساء: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} [النساء: 34]؛ فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله - عز وجل -؛ وإذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله؛ وإذا كنت كبيراً في نفسك فاذكر كبرياء الله.
37 - ومنها: إثبات العظمة لله؛ لقوله - تعالى -: {العظيم}.
38 - ومنها: إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العلوّ، والعظمة. ... ...(/4)
تفسير أول الغاشية
إحسان بن محمد العتيبي
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله {هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية} فيها قولان:
أحدهما: أن المعنى وجوه في الدنيا خاشعة عاملة ناصبة تصلى يوم القيامة ناراً حامية ويعنى بها عباد الكفار كالرهبان وعباد البدو وربما تؤولت في أهل البدع كالخوارج.
القول الثاني: أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع أي: تذل وتعمل وتنصب.
قلت: هذا هو الحق لوجوه:
أحدها: أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه أي وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية. وعلى الأول: لا يتعلق إلا بقوله {تصلى}. ويكون قوله {خاشعة} صفة للوجوه قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى متأخرة والتقدير وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا حامية. والتقديم والتأخير على خلاف الأصل. فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه.
ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة أما مع اللبس فلا يجوز لأنه يلتبس على المخاطب ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير بل القرينة تدل على خلاف ذلك فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان وأمر المخاطب بفهمه تكليف لما لا يطاق.
الوجه الثاني: أن الله قد ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة فقال بعد ذلك وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية. ومعلوم أنه إنما وصفها بالنعمة يوم القيامة لا في الدنيا إذ هذا ليس بمدح، فالواجب تشابه الكلام وتناظر القسمين لا اختلافهما وحينئذ فيكون الأشقياء وصفت وجوههم بحالها في الآخرة.
الثالث: أن نظير هذا التقسيم قوله {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} وقوله {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة}. وهذا كله وصف للوجوه لحالها في الآخرة لا في الدنيا.
الرابع: أن وصف الوجوه بالأعمال ليس في القرآن وإنما في القرآن ذكر العلامة كقوله {سيماهم في وجوههم} وقوله {و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} وقوله {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا}، وذلك لأن العمل والنصب ليس قائما بالوجوه فقط بخلاف السيما والعلامة.
الخامس: أن قوله "خاشعة" "عاملة" "ناصبة" لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم فإن هذا إلى المدح أقرب وغايته أنه وصف مشترك بين عباد المؤمنين وعباد الكفار والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص لقيل: خاشعة للأوثان مثلا عاملة لغير الله ناصبة في طاعة الشيطان وليس في الكلام ما يقتضي كون هذا الوصف مختصا بالكفار ولا كونه مذموما وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا ولا وعيد عليه، فحمْله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن.
السادس: أن هذا الوصف مختص ببعض الكفار ولا موجب للتخصيص فإن الذين لا يتعبدون من الكفار أكثر وعقوبة فساقهم في دينهم أشد في الدنيا والآخرة فإن من كف منهم عن المحرمات المتفق عليها وأدى الواجبات المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويزنون فإذا كان الكفر والعذاب على هذا التقدير في القسم المتروك أكثر وأكبر كان هذا التخصيص عكس الواجب.
السابع: أن هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنسك ابتداء ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة وليس في الخطاب تقييد كان هذا سعيا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه.
"مجموع الفتاوى" (16/217-220)
http://saaid.net المصدر:(/1)
تفسير ابن باديس 2)
في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
للإمام العلاّمة: عبد الحميد بن محمد ابن باديس الصنهاجي
الحلقة الثانية
إعداد وتقديم د.البشير صوالحي
قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء: 36).
العلم وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقاً: يستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه؛ لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه عن تفكيره ونظره. وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف فمنها ما هو قوي معبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الاعتبار.
فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو علم الاعتبار. ويليه الظن، وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتلة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك. وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازاً.
والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجح.
والشك، وهو إدراك الأمر على وجهين، أو وجوه متساوية في الاحتمال، وكلا هذين لا يعول عليه.
ولما كان الإنسان – بما فطر عليه من الضعف والاستعجال – كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه، وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال.. بيّن الله تعالى لعباده في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم، ولا يصح منهم البناء لأقوالهم وأعمالهم، واعتقاداتهم إلا على إدراك واحد وهو العلم، فقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم، فنهانا عن أن نعتقد إلا عن علم أو نفعل إلا عن علم، أو نقول إلا عن علم.
فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلا تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر. ولا كل ما نسمعه أو نراه نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح.
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر، فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان والمكان والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون – وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة –وإلا طرحناه. ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بينة من خيره وشره، ونفعه وضره. فما أمر تعالى إلا بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلا عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلا تركناه. فلا تكون عقائدنا –إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلا حقاً. ولا تكون أقوالنا إلا صدقاً. ولا تكون أفعالنا إلا سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، وإلا بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
المعنى:
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق، وأقوال الصدق، وأفعال السداد. فأما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه. وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك. وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل: إذ ليس كل قول صدق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته: لأنها غيبة محرمة، ولا يجابه بها في حضوره لأنها أداة؛ إلا إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ. وهكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها، أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
تفريع:
الفرع الأول:
من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور.. فهو آثم من جهتين:
1. اتباعه ما ليس له به علم.
2. واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور.
ومن اعتقد حقاً من غير علم، أو قال في الناس صدقاً عن غير علم، أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه –مع ذلك- آثم من جهة واحدة، وهي اتباعه ما ليس له به علم، ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني:(/1)
المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلاً، وإنما يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم، لتحصيل هذا الاستدلال له العلم.
والمقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها، يصدق عليه باعتبار الأدلة التي يجهلها أنه متبع ما ليس له به علم، ولكنه له علم من ناحية أخرى وهي علمه بأن التقليد هو حكم الله تعالى في حق مثله من العوام، بما أمر تعالى من سؤال أهل العلم، وما رفع عن العاجز من الإصر، وهو من العامة العاجزين عن درك أدلة الأحكام.
نصيحة على هذا الفرع:
أدلة العقائد مبسوطة في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير. وأدلة الأحكام أصولها مذكورة كلها فيه، وبيانها وتفاصيلها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
فحق على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامة لعقائد الدينية، وأدلة تلك العقائد من القرآن العظيم؛ إذ يجب على كل مكلف أ يكون في كل عقيدة من عقائده الدينية على علم. ولن يجد العامي الأدلة لعقائد سهلة قريبة إلا في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه. أما الإعراض عن أدلة القرآن والذهاب مع أدلة المكلفين الصعبة ذات العبارات اصطلاحية، فإنه من الهجر لكتاب الله وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشد الحاجة إليه. لقد كان من نتيجة ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه.
ومما ينبغي لأهل العلم أيضا –إذا أفتوا أو أرشدوا- أن يذكروا أدلة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم، ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائماً على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخ في القلوب، وأثر في النفوس. فإلى القرآن والسنة –أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون.
الفرع الثالث:
المجتهد إذا أفتى مستنداً إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد، أو الأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدلالة – هل هو متبع لغير العلم؟
الجواب لا؛ بل هو متبع العلم، وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أن كل دليل يكون ظنياً بمفرده –يصير يقيناً إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده، وشهدت له الصواب، وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية.
الوجه الثاني: أن المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الدالة على اعتبارها.
الوجه الثالث: أن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي، الذي يكون جزماً ويسمى –كما تقدم- علما، فما اتبع المجتهد إلا العلم.
الفرع الرابع:
لا تعتمد في إثبات العقائد والأحكام على ما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم من الحديث الضعيف؛ لأنه ليس لنا علم به. فإذا كان الحكم ثابتاً بالحديث الصحيح مثل قيام الليل، ثم وجدنا حديثاً في فضل قيام الليل يذكر ثواب عليه مما يرغب فيه –جاز عند الأكثر أن نذكره مع التنبيه على ضعفه الذي لم يكن شديداً على وجه الترغيب. ولو لم يكن الحكم قد ثبت لما جاز الالتفات إليه، وهذا هو معنى قولهم: (الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال)، أي في ذكر فضائلها المرغبة فيها لا في أصل ثبوتها. فما لم يثبت بالدليل الصحيح في نفسه، لا يثبت بما جاء من الحديث الضعيف في ذكر فضائله، باتفاق من أهل العلم أجمعين.
الفرع الخامس:
أحوال ما بعد الموت كلها من الغيب، فلا نقول فيها إلا ما كان لنا به علم: بما جاء في القرآن العظيم، أو ثبت في الحديث الصحيح. وقد كثرت في تفاصيلها الأخبار من الروايات مما ليس بثابت، فلا يجوز الالتفات إلى شيء من ذلك. ومثل هذا كل ما كان من عالم الغيب مثل الملائكة والجن والعرش، والكرسي، واللوح، والقلم، وأشراط الساعة، وما لم يصل إليه علم البشر.
سؤال الجوارح يوم الهول الأكبر:
{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}. من قال ما لم يسمع، سئل يوم القيامة سمعه فشهد عليه. ومن قال: رأيت ولم ير سئل بصره فشهد عليه. ومن قال: عرفت، ولم يعرف، أو اعتقد ما لم يعلم، سئل فؤاده فشهد عليه: لأنه في هذه الأحوال الثلاثة قد اتبع ما ليس به علم. وهذه الشهادة كما قال تعالى: {يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور: 2) هذه الثلاثة تسئل على وجوه منها ما تقدم، وهو الذي يرتبط به هذا الكلام بما تقدم من النهي.
ومنها سؤال السمع: لم سمع ما لا يحل؟ ولم لم يسمع ما يجب؟
وسؤال البصر: لم رأى ما لا يحل؟ وعن جميع أعمال البصر، من نظر البغض والاحتقار ونحو ذلك؟ وسؤال الفؤاد: عما اعتقد؟ وعما قصد؟ وجميع أعمال القلوب؟
فوائد ختام الآية:(/2)
فختام لطرق العلم، وتنبيه على لزوم حفظها واحدة واحدةً. وترهيب للإنسان من اتباع ما لم يعلم بما يؤول إليه أمره من فضيحة يوم القيامة، وخزي بشهادة جوارحه عليه. فالله نسأل أن يجعلنا متبعين للعلم في جميع ما نعمل، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(/3)
تفسير الأحلام
د. محمد بن عبد الله القناص 1/8/1425
15/09/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
فإن من الظواهر الملفتة للانتباه في واقعنا تعلق كثير من الناس بالرؤى والمنامات، واعتمادهم عليها، وتوسعهم فيها حيث أصبحت شغلهم الشاغل، عبر المجالس والمنتديات والمجامع، بل والقنوات الفضائية، وطغت على الفتاوى الشرعية، وأصبح السؤال عنها يفوق السؤال عما يحتاج إليه الإنسان من أمور دينه، من المعتقدات والعبادات والمعاملات وغيرها، وابتعدوا في تعاملهم مع الرؤى والمنامات عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأضاعوا أوقاتهم في ما لا يعود عليهم بالخير والنفع، ولو أن الناس وقفوا تجاه الرؤى وتعاملوا معها، وفق الهدي النبوي لاستراحوا وأراحوا، وحصل لهم التوفيق والسداد والطمأنينة، ولم يوجد هذا التهافت في السؤال عنها، والإفراط في البحث عن تأوليها، ولأجل أن نقف موقفاً صحيحاً سليماً معتدلاً تجاه هذه الرؤى المتكاثرة، فلابد من الرجوع إلى الآداب السامية، والتوجيهات النبوية التي فيها العصمة من الزلل والخطأ، والوقاية من الإفراط والتفريط ..
لقد دلت السنة المطهرة أن الرؤى تتنوع إلى ثلاثة أنواع، وأن هناك جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها الرائي، وإليك بيان ذلك :
أولاً: أنواع الرؤى :
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَالرُّؤْيَا مِنْ تَحْزِينِ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ ...... " [ أخرجه مسلم ح ( 2263 ) ، والترمذي ح ( 2196 ) ، وقال: حديث حسن صحيح ] الحديث عند البخاري أيضاً(7017).
ففي هذا الحديث بيان تنوع ما يراه النائم في منامه إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول : الرؤيا الصالحة أو الصادقة، وهي التي تكون مبشرة أو منذرة، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تعبير كما رأى إبراهيم أنه يذبح ابنه في المنام، وقد تكون خافية تحتاج إلى عابر يعبرها، كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف، ورؤيا ملك مصر، والنوع الثاني: رؤيا تحزين من الشيطان، وهي ما يدخل تحت أضغاث الأحلام، مثل أن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك .
فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ " [ أخرجه ابن ماجه ح ( 3897 ) ]
وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: " الرؤيا ثلاثة: حضور الشيطان, والرجل يحدث نفسه بالنهار فيراه بالليل, والرؤيا التي هي الرؤيا"[أخرجه ابن أبي شيبة(6/181)].
وأخرج مسلم من حديث جابر – رضي الله عنه- قال: جاء أَعْرَابِيٍّ إلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ " ، وفي رواية له: " إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ " [ أخرجه مسلم ح (2268)]
النوع الثالث: حديث النفس، وهو أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته .
وهذا التقسيم يدل على أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون رؤيا صادقة تحتاج إلى تعبير، بل منها حديث النفس، ومنها أضغاث أحلام، وهذان النوعان هما الغالب على حال الكثيرين، والله أعلم، ومن هنا ندرك خطأ من يسارع إلى طلب تعبير كل ما يراه في منامه، وخطأ أيضاً من يتصدر للتعبير، فيقدم على تعبير كل ما يسمعه، ولو أن الناس استحضروا ذلك لما حصل هذا التكالب على طلب تعبير الرؤى والمنامات، والحرص الشديد على تأويلها .
ثانياً: الآداب المشروعة إذا رأى الإنسان في منامه ما يكره:(/1)
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جملة من الآداب ينبغي أن يأخذ بها من رأى في منامه ما يكره، فعن أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّه،ِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا " [ أخرجه البخاري ح ( 5747)، ومسلم ح ( 2261 )].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ " [ أخرجه البخاري ح ( 6985 )].
وعَنْ جَابِرٍ – رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ . " [ أخرجه مسلم ح ( 2262 ) ]
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ " [ أخرجه مسلم ح ( 2263 ) ]
وحاصل ما ذكر في هذه الأحاديث من أدب الرؤيا المكروهة ما يأتي:
1- أن يتعوذ بالله من شرها، وذلك لما في الاستعاذة بالله من صدق اللجوء إليه، والاعتصام به في دفع شرها، وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: " إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليقل إذا استيقظ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي " [ أخرجه ابن أبي شيبة ( 5/51 ) ، وعبد الرزاق في مصنفه ( 11/214 ) ]، وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا، فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا " [ أخرجه عبد الرزاق ( 11/213 ) ، ورجاله ثقات ]
2- أن يتعوذ من شر الشيطان، لأن الشيطان يخيل بها للتحزين والتهويل، وقد جاء في بعض طرق الحديث أنها منه .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً، ليحصل بذلك طرد الشيطان، والاستعاذة منه، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها .
4- أن لا يذكرها لأحد .
5- أن يصلي ما كتب له، وذلك لما في الصلاة من التوجه إلى الله واللجوء إليه والاستعانة به على دفع المكروه
6- التحول عن جنبه الذي كان عليه، لما في ذلك من التفاؤل بالتحول من تلك الحال التي كان عليها، فهذه ستة آداب، وزاد بعض العلماء: قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستنداً، فإن كان أخذه من عموم قوله – صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: " وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ " [ أخرجه البخاري ح ( 3275 ) ، ومسلم ح ( 505 ) ]، فيتجه، والله أعلم .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل هذه الآداب " فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ "، قال أهل العلم معناه أن من فعل ما أمر به مصدقاً متكلاً على الله جلت قدرته في دفع المكروه عنه ، فإنه يذهب الخوف والوجل ويندفع عنه المكروه بإذن الله ، ويمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه ، ويكون ذلك من الأسباب كما تكون الصدقة تدفع البلاء، والدعاء يمنع القضاء، وصلة الرحم تزيد في العمر والرزق .
قال النووي: (وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث ...) [شرح النووي لصحيح مسلم ( 15/ 18)] ، ويغلب على أحوال كثيرٍ من الناس اليوم إهمال هذه الآداب، والتفريط في الأخذ بها، فتجد الواحد منهم عندما يرى في منامه ما يكره، يصيبه الخوف والهلع والقلق، فيسارع إلى البحث عن عابر لها يعبرها، وعن مفسر يفسرها، حتى يظهر له أشر هي أم خير، ولو وقف الإنسان مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لما حصلت له هذه المعاناة والتعلق الشديد الذي أثر في نفسيات كثير من الناس وسلوكياتهم، واستثمرته بعض المجامع والمنتديات، وجعلته وسيلة لجلب الناس واستقطابهم. ثالثاً: آداب العابر(/2)
وأما عن المعبرين فلا يخفى ما للرؤيا الصادقة من مكانة ومنزلة، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها جزء من النبوة، وأنه لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصادقة، وعلى المعبر أن يستشعر المسئولية العظيمة تجاه تعبير الرؤى، سئل مالك - رحمه الله تعالى - أيفسر الرؤيا كل أحد ؟ قال: (أبالنبوة يلعب!) قيل له: أيفسرها على الخير, وهي عنده على الشر لقول من يقول: الرؤيا على ما أولت فقال: (الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أفيتلاعب بأمر النبوة). [ التمهيد لابن عبد البر ( 1/288 )].
وهناك صفات وشروط لابد من توفرها لمن يقوم بتعبير الرؤى، أشير إلى بعضها:
1- أن يكون عالماً بهذا العلم الجليل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ " [ أخرجه الترمذي ح ( 2280 ) ، وقال: حديث حسن صحيح ]
قال القاضي عياض: (لا يعبر الرؤيا كل أحد، ولا يعبرها إلا العالم بها) [ إكمال المعلم ( 7/228 ) ]، وقال القرافي : (ولا يعبر الرؤيا إلا من يعلمها ويحسنها, وإلا فليترك)
وتعبير الرؤى من الأمور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة، وقوة نفس لدى المعبر، ونوع من الإلهام والفراسة، ولا يحصل التمكن في التعبير بمجرد التعلم والقراءة، وحفظ ما يوجد في الكتب، ولهذا لم يتأهل لتعبير الرؤى حتى امتداد القرون إلا النوادر من الناس، بخلاف العلوم والمعارف الأخرى التي تدرك بالتعلم والأخذ من الكتب .
قال القرافي: (اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت تخصيصاته، وتنوعت تعريفاته، بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات، لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير القرآن العظيم، والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم، فإن ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر).
وقال: (وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على الفراسة، والاطلاع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب، أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما: إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، إشارة إلى قوة أودعه الله إياها، فرأى بما أودعه الله - تعالى - في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة، فمن الناس من هو كذلك، وقد يكون ذلك عاما في جميع الأنواع، وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط ....).
وقال: (فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير, ولا ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفس فلا تجد ذلك أبدا , ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبط، فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من الناس).[ينظر: الفروق للإمام القرافي(4/ 249-250)]
وذكر الأئمة أصولاً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات، وهي موجودة في مظانها من كتب أهل العلم، ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الاستعداد والموهبة لتعبير الرؤى، والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه من لا يحسنه، وخاض فيه من لا علم عنده، حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من لا مهنة له مع بالغ الأسف .
2- على العابر التثبت والتريث فيما يرد عليه، وعدم التسرع، والبعد عن الجزم بما يعبر
قال ابن قتيبة – رحمه الله - : (يجب على العابر التثبت فيما يرد عليه وترك التعسف ولا يأنف من أن يقول لما يشكل عليه لا أعرفه, وقد كان محمد بن سيرين إمام الناس في هذا الفن وكان ما يمسك عنه أكثر مما يفسر).
وحدث الأصمعي عن أبي المقدام أو قرة بن خالد قال: كنت أحضر ابن سيرين يُسأل عن الرؤيا فكنت أحزره يعبر من كل أربعين واحدة .
وقال هشام بن حسان : (كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا، فلا يجيب فيها بشيء إلا أن يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة، فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك، ويقول إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب).[ينظر: الآداب الشرعية ( 3/451 )].
وإذا كان هذا موقف إمام المعبرين في زمانه، فما الظن بمن جاء بعده ، لقد توسع كثير من المعبرين في تعبير الرؤى فتجده لا يرد شيئاً مما يرد عليه، فلا تسمعه يقول: هذا من أضغاث الأحلام، أو من حديث النفس، أو لا أدري .....(/3)
قال ابن قتيبة: (وتفهم كلام صاحب الرؤيا وتبينه، ثم اعرضه على الأصول، فإن رأيته كلاما صحيحاًَ يدل على معاني مستقيمة، يشبه بعضها بعضاً، عبرت الرؤيا بعد مسألتك الله تعالى أن يوفقك للصواب, وإن وجدت الرؤيا تحتمل معنيين متضادين نظرت أيهما أولى بألفاظها وأقرب من أصولها فحملتها عليه, وإن رأيت الأصول صحيحة، وفي خلالها أمور لا تنتظم ألقيت حشوها، وقصدت الصحيح منها, وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأعرض عنها, وإن اشتبه عليك الأمر سألت الله تعالى كشفه).
وإذا تأملنا ما سبق من كلام أهل العلم تبين ما يحتاج إليه تعبير الرؤى من التثبت والتريث، وحسن التدبر، وهذا لا يتوفر عند كثير ممن يخوض في هذا الميدان، ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها أن الرؤى لا يعتمد عليها في إثبات شيء من الأحكام الشرعية، ولا يعول عليها فيما يتعلق بحقوق الناس وحرماتهم، أو الحكم على عدالتهم ونواياهم
قال في الآداب الشرعية: (قال أبو زكريا النواوي: نُقل الاتفاق على أنه لا يُغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع …. ولا يجوز إثبات حكم شرعي به ....) [ الآداب الشرعية ( 3/447 ) ]
وقال العلّامة المُعلِّمي - رحمه الله - : (... اتفق أهل العلم على أنّ الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حُجّة شرعية صحيحة) [ التنكيل (2/242) ]
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله في كتابه "الاعتصام" - أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي، فقال له شريك: ولِم ذلك يا أمير المؤمنين، ودمي حرام عليك؟! قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمُك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى من يعبِّر فسألته عنها، فقال: هذا رجل يطأ بساطَك وهو يُسِرّ خلافَك، فقال شريك: يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تسفَك بالأحلام. فنكَّس المهدي رأسه، وأشار إليه بيده أن اخرُج، فانصرف.
وذكر ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن بعضهم رأى في المنام الشافعيَّ - رحمه الله - فقال له: كذبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث، ما هذا من حديثي ولا حدثتُ به. فقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله معلقاً على هذا الكلام- : (يونس بن عبد الأعلى من الثقات، لا يُطعن فيه بمجرد منام). وقد نقل الذهبي - رحمه الله- عن المروزي قال: ( أدخلتُ إبراهيمَ الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناما هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه) . [ ينظر: تاريخ مدينة دمشق ( 47/ 519 )، سير أعلام النبلاء (11/227) ]
وإن من الخطأ في المنهج التعويل على الرؤى والمنامات والاغترار بها، والمسارعة في تنزيلها على الواقع وتفسير المستقبل من خلالها في قضايا الأمة وشئونها، وإغفال السنن الربانية الثابتة، وترك النظر في الأسباب، وقد تسامع الناس في هذه الأيام برؤيا عُبرت بنصر من الله وفتح قريب يقع في فلسطين محدد باليوم والشهر في مدة قريبة جداً !!
3- على المعبر أن يراعي جانب المصالح والمفاسد في تعبيره، فلا يلقي بالتعبير على عواهنه ، فربما أوقع تعبيره في فتنة أو مفسدة أو ضرر وهو لا يشعر، أخرج البخاري في صحيحه قول علي رضي الله عنه: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟! " [ أخرجه البخاري ح ( 127 ) ] ، وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ". [ صحيح مسلم ( 1/11 ) ]
يقول ابن القيم - رحمه الله- : (المفتي والمعبِّر والطبيب يطَّلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره).
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/4)
تفسير الصحابة
الشيخ سعد بن عبد الله السعدان
التفسير علمٌ عظيم الشأن، جليل القدر، لا يستطيعه إلا من فتح الله قلبه وأنار بصيرته، ورزقه العلم والفهم، والتفسير مأخوذٌ من الفَسْر وهو: الكشف والإظهار(1)، وفي الاصطلاح: علم يفهم به كتاب الله - تعالى -المنزّل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمه(2).
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أصحابه كان هو المرجع في تبيين الكتاب العزيز، فما أشكل عليهم أو احتاجوا لبيان وتفسير آيات من القرآن هرعوا إليه وسألوه؟ فبيّن وفسّر لهم ما سألوا عنه بكلام وتفسير شاف. وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - واتساع البلاد ودخول الناس في الإسلام، ودخول العُجمة، احتاج المسلمون لشرح ما لم يكن الصحابة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحاجة إلى شرحه من الكتاب والسنة، فتوجهوا إلى الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لسؤالهم والاستيضاح منهم.
أهمية تفسير الصحابة:
تظهر لنا أهمية تفسير الصحابة للقرآن إذا علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك، قال - تعالى -: "لتبين للناس ما نزل إليهم" {النحل: 44}، وقال: "هذا بيان للناس" {آل عمران: 138}، وقال - تعالى -: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" {إبراهيم: 4}، وقال - تعالى -: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" {الدخان: 58}، وقال - تعالى -: "كتاب فصلت آياته" {فصلت: 3}، أي: بينت، وأزيل عنها الإجمال فلو كانت آياته مجملة، لم تكن قد فصلت، وقال - تعالى -: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" {العنكبوت: 18}.
وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي - أحد أكابر التابعين، الذين أخذوا القرآن ومعانيه، عن مثل: عبد الله بن مسعود، وعثمان ابن عفان، وتلك الطبقة: "حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا القرآن والعمل(3).
فالصحابة أخذوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من عنايتهم بالألفاظ، يأخذون المعاني أولاً، ثم يأخذون الألفاظ، ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم(4).
وكذا إذا علمنا أن الصحابة قد سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الكثيرة، ورأوا منه من الأحوال المشاهدة، وعلموا بلقوبهم من مقاصده، ودعوته، ما يوجب فهم ما أراد بكلامه، ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه، فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم، كمن كان غائباً، لم ير، ولم يسمع، وعلم بواسطة، أو وسائط كثيرة.
وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعيناً قطعاً.
ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو: ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كما شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، في قوله: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"(5).
خصائص الصحابة:
اختص الصحابة عن غيرهم بأمور منها:
1- ظفرهم بشريف الصحبة، والخيرية المطلقة، وفي الحديث "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم"، وهذه خيرية مثمرة، وليست خيرية شرف فقط.
2- مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون مالا يدركه غيرهم، بسبب ذلك، والشاهد يرى، مالا يرى الغائب(6).
3- عاصروا وشهدوا ما قبل الوحي، أي الجاهلية، والقرآن جاء ليهدم الجاهلية "إنما النسيء زيادة في الكفر" {التوبة: 37}.
4- مصاحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وملازمتهم له، والتتلمذ على يديه، والتعلم منه مباشرة، وسؤاله لكل ما يدور بينهم.
5- أنهم عرب خلص، وهي كافية عن غيرها، والقرآن نزل بلغتهم. حتى إن اليهود كانوا يجيدون العربية، ويقولون الشعر أيضاً.
وهناك صفات اشترك فيها الصحابة مع غيرهم، كالصدق في القول، والتثبت في نقل الأخبار، والحرص على نشر العلم، والخروج في سبيل الله. وهي تدخل في الخيرية.
موقع تفسير الصحابة:
تفسير الصحابة مقدم على تفسير غيرهم لما تقدم من الأمور الخمسة ويكفي أحدها. ولاشك أننا إذا لم نجد تفسيراً في الكتاب والسنة نتجه لتفسير الصحابة.
- ولابد من إخراج ما كان خارج دائرة الاجتهاد، فنخرج:
1- ما كان في حكم المرفوع.
2- أسباب النزول.
وهو مما لا مجال للاجتهاد فيه.
ويلحظ أن تفسير الصحابة أصابه ما أصاب غيره من التفسير المرفوع، وذلك من الوضع في الحديث وخلافه.
أسباب قلة اختلاف الصحابة في التفسير:(/1)
وقع بين الصحابة بعض الاختلافات في التفسير، وهو قليل جداً، وأسباب قلة الاختلاف بين الصحابة في التفسير ما يلي:
1- وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فقد كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم، فيزيل ما لديهم من تساؤل ونحوه.
2- وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينهاهم عن الخلاف في القرآن.
3- سعة علم الصحابة في العلم الشرعي، ومعرفتهم باللغة وأساليبها، ومعانيها(7).
4- تأثير العصر عليهم، قال شيخ الإسلام: "كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف، والعلم، والبيان فيه أكثر"(8).
ومع قلة الاختلاف بين الصحابة في تفسير القرآن فإن أغلبه يرجع إلى اختلاف التنوع، لا إلى اختلاف التضاد، وهو أيسر أنواع الاختلاف.
أنواع اختلاف التنوع:
يرجع اختلاف السلف في التفسير إلى أنواع معدودة، منها:
أولاً: أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، ومثال ذلك في التفسير: "الصراط المستقيم" قيل: العبودية. وقيل: الطاعة.
فهذه الأقوال كلها تدل على ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها(9).
الثاني: أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود، في عمومه وخصوصه.
ومثال ذلك: ما نقل في قوله: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" {فاطر: 32}.
فمن المفسرين من قال: السابق: الذي يصلي في أول الوقت. والمقتصد: الذي يصلي في أثنائه.
والظالم لنفسه: الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
- ومنهم من قال:
السابق والمقتصد والظالم، قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع.
- ومنهم من قال: السابق، المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا، أو مانع الزكاة، والمقتصد: الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل(10).
فكل قول من هذه الأقوال، إنما يذكر نوعاً مما يتناوله نص الآية لتعريف المستمع، وتنبيهه على نظائره، ولا يضاد ما ذكره غيره.
الثالث: ما يكون في اللفظ محتملاً للأمرين.
ومثاله: لفظ: "قسورة" فإنه يراد بها: الرامي، ويراد بها: الأسد.
ولفظ: "عسعس" يراد به: إقبال الليل وإدباره.
ولفظ: "القرء" يراد به الحيض والطهر(11).
الرابع: أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة.
ومثاله: أن يفسر أحدهم قوله - تعالى -: أن تبسل تحبس. ويقول الآخر: ترتهن، ونحو ذلك(12).
قال الزركشي:
يكثر في معنى الآية أقوالهم، واختلافهم، ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ، ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلاف، فيحكيه أقوالاً، وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل، أو لكونه أليق بحال السائل، وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه، ونظيره والآخر: بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالباً، والمراد الجميع، وليتفطن لذلك، ولا يفهم من اختلاف العبارات اختلاف المرادات(13).
مميزات تفسيرهم:
1- يلاحظ في تفسيرهم أنه موجز، وأكثره يعتمد على اللغة.
2- لا يتكلفون التفسير، ولا يتعمقون فيه تعمقاً مذموماً، فقد كانوا يكتفون في بعض الآيات بالمعنى العام، ولا يلتزمون بالتفصيل فيما لا فائدة فيه، فيكتفون مثلاً بمعرفة أن المراد بقوله - تعالى -: وفاكهة وأبا 31 - صلى الله عليه وسلم -عبس: 31} أنه: تعداد لنعم الله - تعالى -على عباده(14).
3- قلة الأخذ بالإسرائيليات، وتناولها في التفسير، لحرصه - صلى الله عليه وسلم - على اقتصار أصحابه على نبع الإسلام الصافي الذي لم تكدره الأهواء، ولم تشُبه الاختلافات، والافتراءات يدل على هذا المقصد: "غضبه - صلى الله عليه وسلم - حين رأى عمر - رضي الله عنه -، وفي يده صحيفة من التوراة"(15).
4- لم يكن تفسيرهم يشمل القرآن كله، إذ أن بعض الآيات من الوضوح لديهم، بحيث لا يحتاج إلى خوض في تفسيرها، لتضلعهم في اللغة، ومعرفتهم بأحوال المجتمع آنذاك وغير ذلك(16).
5- قلة تدوينهم للتفسير، وأن أغلب ما روي عنهم كان بالرواية، والتلقين، وليس بالتدوين، وإن كان بعض الصحابة يعتني بالتدوين، مثل: عبد الله بن عمرو ابن العاص فقد دوّن صحيفته التي تسمى "الصادقة" ولكن هذا التدوين كان نادراً(17).
6- التوفيق للصواب، لما خصهم الله - تعالى -بعدة خصائص من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب، وكثرة المعاون وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية(18).(/2)
7- قلة الإجماع، بمعنى: أن كل صحابي إذا سئل يجيب بما يفهمه، ولولا الفهم لما تميز من الصحابة مفسرون.
8- خلو تفسير الصحابة من الشوائب العقدية، وهذا ما حصل فيه الإجماع، وكذلك كان عند التابعين.
حجية أقوال الصحابة في التفسير:
أولاً: تحرير محل النزاع:
قال الشاطبي: أما بيان الصحابة، فإن أجمعوا على ما بينوه فلا إشكال في صحته، كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين، المبين لقوله - تعالى -: "وإن كنتم جنبا فاطهروا" {المائدة: 6}(19).
وكذا إن كان ما يفسره الصحابي مما لا مجال فيه للاجتهاد ولا منقولاً عن لسان العرب فحكمه الرفع، كالإخبار عن الأمور الماضية، من بدء الخلق، وقصص الأنبياء، وعن الأمور الآتية: كالملاحم، والفتن، والبعث، وصفة الجنة والنار، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص، أو عقاب مخصوص فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع(20).
وكذا إن كان ما فسره الصحابي في تفسير يتعلق بسبب نزول آية محكمة الرفع أيضاً(21).
ثانياً: الخلاف في المسألة:
المذهب الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى: أن تفسيرهم في حكم المرفوع.
قال أبو عبدالله الحاكم في مستدركه: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع.
ومراده: أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج(22).
- قال الحافظ ابن حجر: أطلق الحاكم النقل عن البخاري ومسلم أن تفسير الصحابي - رضي الله عنه - الذي شهد الوحي، والتنزيل، حديث مسند(23).
- وقال ابن القيم: نص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن، إذا لم يخالفه غيره منهم.
ثم من أصحابه من يقول هذا قول واحد، وإن كان في الرجوع في الفتيا، والأحكام، إليه، روايتان، ومنهم من يقول الخلاف في الموضعين واحد(24).
- وقال الإمام أحمد، في معرض رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني، في مسألة الإيمان: وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة، تدل على معناها، أو معنى ما أراد الله - عز وجل -، أو أثر عن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويعرف ذلك: بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه، فهم شاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهدوا تنزيله، وما قصه له القرآن، وما عني به، وما أراد به، وخاص هو أو عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من أصحابه، فهذا تأويل أهل البدع...(25).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرآن، والأحوال، التي اختصوا بها... لاسيما علماؤهم، وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، والأئمة المهديين، مثل: عبدالله بن مسعود... (26).
-وقال كذلك في موطن آخر: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن والحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة، والتابعين، فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه(27).
- وقال أيضاً في موضع آخر: ولهذا جعل (أي الإمام أحمد) الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه طريق أهل البدع(28).
وقد رجح هذا المذهب الدكتور: محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون(29).
المذهب الثاني: قال أبو عمرو الداني: إذا فسر (الصحابي) آية تتعلق بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن القواعد، فلا يجزم برفعه، وكذا إذا فسر مفرداً، فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه، وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة، كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي، وابن عبدالبر في آخرين(30).
________________________
*الهوامش:
1- تهذيب اللغة للأزهري (407/12).
2- البرهان للزركشي (13/1) والإتقان للسيوطي (174/2).
3- أخرجه ابن أبي شيبة (29920) وأحمد (410/5) والفريابي في فضائل القرآن (169) بإسناد صحيح.
4- مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (510-511) بتصرف، ط دار الحديث، ت سيد إبراهيم.
5- المصدر السابق ص: (516).
6- الموافقات للشاطبي (251/3) ت عبدالله دراز.
7- بحوث في أصول التفسير ومناهجه د. فهد الرومي (41).
8- مجموع الفتاوى (332/13).
9- المصدر السابق (336/13).
10 المصدر السابق (337/13).
11- المصدر السابق (340/13).
12- المصدر السابق (343/13).
13- البرهان للزركشي (159/2-160).
14- بحوث في أصول التفسير للرومي (21).
15- المصدر السابق (21)، والحديث أخرجه أحمد في المسند (387/3).
16- المصدر السابق (21).
17- المصدر السابق (21-22).
18- إعلام الموقعين لابن القيم (149/4-150).
19- الموافقات (251/3).
20- النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر (531/2) ط دار الراية.
21- تدريب الراوي للسيوطي (215/1) ط مكتبة الكوثر.
22- إعلام الموقعين (153/4).
23- النكت على كتاب ابن الصلاح (531/2).(/3)
24- مختصر الصواعق (516).
25- السنة للخلال (23/4) ت عطية الزهراني، ط دار الراية.
26- مجموع الفتاوى (364/13).
27- رسالة في علم الباطن والظاهر لابن تيمية، (مجموعة الرسائل المنيريه) (236/1).
28- الإيمان لابن تيمية (375) ت الألباني. ط المكتب الإسلامي.
29- التفسير والمفسرون (96/1).
30- النكت لابن حجر (532/2).
http://jmuslim.naseej.com المصدر:(/4)
تفسير حديث بدأ الإسلام غريبا...
الكاتب : أبن باز رحمه الله
س - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال الحبيب صلى الله عليه وسلم :
" بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" نرجو تفسير هذا الحديث وبيان مدى صحته؟
الجواب: هذا الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
زاد جماعة من أئمة الحديث في رواية أخرى: قيل يا رسول الله من الغرباء؟ قال الذين يصلحون إذا فسد الناس
وفي لفظ آخر: الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي وفي لفظ آخر: هم النزاع من القبائل وفي لفظ آخر: هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير
فالمقصود أن الغرباء هم أهل الاستقامة، وأن الجنة والسعادة للغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس إذا تغيرت الأحوال والتبست الأمور وقل أهل الخير ثبتوا هم على الحق واستقاموا على دين الله ووحدوا الله وأخلصوا له العبادة واستقاموا على الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر أمور الدين، هؤلاء هم الغرباء، وهم الذين قال الله فيهم وفي أشباههم: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30-32] . ما تدعون: أي ما تطلبون. فالإسلام بدأ قليلا غريبا في مكة لم يؤمن به إلا القليل، وأكثر الخلق عادوه وعاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وآذوه، وآذوا أصحابه الذين أسلموا، ثم انتقل إلى المدينة مهاجرا وانتقل معه من قدر من أصحابه، وكان غريبا أيضا حتى كثر أهله في المدينة وفي بقية الأمصار، ثم دخل الناس في دين الله أفواجا بعد أن فتح الله على نبيه مكة عليه الصلاة والسلام، فأوله كان غريبا بين الناس وأكثر الخلق على الكفر بالله والشرك بالله وعبادة الأصنام والأنبياء والصالحين والأشجار والأحجار ونحو ذلك.
ثم هدى الله من هدى على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى يد أصحابه فدخلوا في دين الله وأخلصوا العبادة لله وتركوا عباده الأصنام والأوثان والأنبياء والصالحين وأخلصوا لله العبادة فصاروا لا يعبدون إلا الله وحده؟ لا يصلون إلا له؟ ولا يسجدون إلا له؛ ولا يتوجهون بالدعاء والاستعانة وطلب الشفاء إلا له سبحانه وتعالى، لا يسألون أصحاب القبور، ولا يطلبون منهم المدد، ولا يستغيثون بهم، ولا يستغيثون بالأصنام والأشجار والأحجار ولا بالكواكب والجن والملائكة، بل لا يعبدون إلا الله وحده سبحانه وتعالى، هؤلاء هم الغرباء.
وهكذا في آخر الزمان هم الذين يستقيمون على دين الله عندما يتأخر الناس عن دين الله، وعندما يكفر الناس، وعندما تكثر معاصيهم وشرورهم يستقيم هؤلاء الغرباء على طاعة الله ودينه، فلهم الجنة والسعادة ولهم العاقبة الحميدة في الدنيا وفي الآخرة.
* الشيخ : عبدالعزيز أبن باز رحمه الله - فتاوى نور على الدرب(/1)
تفسير سورة العصر
الجمعة 3 محرم 1397 / 24 كانون الأول 1976
الحلقة ( 2 ـ 2 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فقد كان حديثنا في الجمعة الماضية عن سورة العصر كمقدمة لها ، قال الله تعالى ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتوصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) والعلماء يختلفون في المراد في معنى كلمة ( العصر ) بعد اتفاقهم على أنها قسم ، أقسم الله تعالى به ، فمن قائل أن المراد بالعصر هو هذا الوقت الذي تؤدى فيه صلاة العصر ويستندون بكلامهم لما جاء عن فضيلة صلاة العصر أن كثيراً من العلماء رحمة الله تعالى عليهم يذهبون إلى أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي جاء ذكرها في قول الله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) فكثير من العلماء ذهب إلى أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر ، والصلاة الوسطى لها فضائل يعرفها من ينظر في كتب الحديث . ويذهب غيرهم إلى أن المراد بالعصر هو الزمان ، والزمان هو هذا الظرف الذي تقع في أعمال الناس خيراً وشراً وحسناً وسوءاً ، والذي نذهب إليه هو هذا المعنى الأخير لما ثبت من قراءة علي كرم الله تعالى وجهه بهذه السورة فقد كان يقرأها هكذا ( والعصر ـ ونوائب الدهر ـ إن الإنسان لفي خسر ـ وإنه فيه إلى آخر العمر ـ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وأياً ما كان المراد فذلك لا يؤثر على جوهر المعاني التي وردت في السورة ، وليس في نيتي أن أطيل الحديث في هذه النقطة لعدم جدواها في ما نحن بصدده .
أما الشيء الذي ألفت إليه أنظاركم فهو هذه الصياغة الموحية للآية ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) لاحظوا ، الخسر معروف عندكم ، خسران الشيء هو فقدانه ، ولكن المشكلة ليست في اللفظة المفردة بل في الصياغة المعجزة ، فقول الله تعالى ( إن الإنسان لفي خسر ) المراد منه هو الحكم على الإنسان بالخسران ، أي على جنس الإنسان أي شمل كل إنسان ، إلا الذين آمنوا إلى آخر السورة ، هذا المعنى يتبادر إلى الذهن أولاً ، لكن انظروا إلى الصياغة ، نحن نقول مثلاً : اشترى فلان الحاجة الفلانية وباعها فخسر فيها ، فقد يكون هذا الخسران غير وارد في مرة مقبلة ، قد تشتري شيئاً فتخسر ، لكن هذا لا يعني أنه كلما اشتريت شيئاً خسرت ، ربما تربح في عملية قادمة ، تقول : جرّب فلان العملية الفلانية فخسر فيها وهذا يعني أن هذه المرة التي جرت عليها التجربة كانت العاقبة الخسران ، ولكن قد لا يخسر في المرة القادمة ، فنحن حين نصف الإنسان بالخسر علينا أن نربط الخسر بالإنسان ، يعني أننا حين نريد أن نصف الإنسان بالخسر لا بد أن يكون صياغة الآية كالآتي ( والعصر إن الإنسان لخاسر ) في هذا الحالة وفي هذه الصياغة فالخسران لاصق بالإنسان لأن الإنسان وصف بالخسران ، لكن الصياغة المعجزة جاءت ( إن الإنسان لفي خسر ) خذ أولاً كلمة ( في ) هذا الحرف الذي هو ظرف ، تقول : هذا الرجل في المسجد ، أي أنه ضمن المسجد ، فحينما نسمع الله يقول ( إن الإنسان لفي خسر ) فذلك أن الإنسان واقع في خسر ، أي متضمن لهذا الخسر ، فالخسر هل وصف به الإنسان ؟ الخسر وصف عارض للإنسان ينفك عن صاحبه ، لكن الآية تنصب على أمر بالغ الخطورة وهو أن الخسر في الطريق ذاته في نفس الطريق ، أي في الحالة التي يكون فيها الإنسان ، فإذا مشيت مع الآيات وجدت قول الله تعالى ( إلا الذين آمنوا ) هذه واحدة ( وعملوا الصالحات ) هذه الثانية ( وتواصوا بالحق ) هذه الثالثة ( وتواصوا بالصبر ) هذه الرابعة ، هذه الأوصاف الأربعة إذا تحققت في الإنسان فهو ليس في خسر ، وبالتالي فهو غير خاسر . ماذا يريد الله أن يقرّ في الأذهان ؟ يريد أن يضع أمام الإنسان صورة عامة للإنسانية ، هذه الصورة العامة ذات طريقين ، الطريق الأول : هو الإنسان من حيث هو إنسان ، غير مستند إلى وحي ، ولا تابع إلى نبوة ، فهو في النهاية خاسر إذا لم يأخذ بشريعة السماء . الطريق الثاني : الذي تشير إليه السورة وهو طريق النبوات ، أي الذي يتحقق فيه الإيمان بالله ويتبعه العمل الصالح والتواصي بالحق والصبر .(/1)
ومسألة إلقاء كلام من هذا النوع في ذلك العصر ـ عصر الرسالة ـ أن يردّ على اللغط الذي أثارته قريش وكذلك أثارته جميع من بلغته الدعوة ، وللأسف هذا اللغط يتردد على مرّ العصور ، فحيثما لم يفطن الناس لكتاب الله تعالى ، وحيثما ناديت الناس إلى أن يأخذوا بطريق الله .. كثر اللغط مرة أخرى بل ومرات كثيرة . قريش في ذلك الزمن البعيد كانت تقارن بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الزعامات ، بل إن المقارنة امتدت إلى الماضين الذين ماتوا ، فقالوا له : أأنت خير من غالب أو من فلان أو فلان .. من أجداده ؟ وسألوه : هل دينك خير من اليهودية أو خير من النصرانية ؟ هل دينك خير من الإبراهيمية الحنيفية التي آمنت بها العرب ؟ مثل هذا الكلام كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك تردد مثله عبر العصور ، وهو اليوم يردده بعض المتنطعين في المحافل وعلى صفحات الجرايد والمجلات وبطون الكتب . الله عز وجل يأتي بالقسم في السورة ليؤكد أن أي طريق أو أي سبيل يأخذه الإنسان ويلتزم به فنتيجته الخسران وعقيدته دمار . وأن سلامة الإنسان في هذه الحياة مشروطة بما ذكره الله في السورة : الإيمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر . فلا اليهودية ولا النصرانية المحرفتان تستطيعان أن تقدم الهدوء والسلامة وعزة النفس في الدنيا والآخرة للإنسان .
فالله جل وعلا ذكر هذا الكلام ليبين للناس من بداية الطريق ، طريق الإسلام عن غيره من الطرائق ، إن كل جهود الإنسانية ذاهبة إلى دمار وخسارة ، وإن الشيء الوحيد الذي يبقى لا يعتوره خراب ولا يلحق به دمار ، وهو الذي جمع هذه الشرائط الأربعة التي ذكرناها في السورة ، ما هي ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين تواصوا بالحق والذين تواصوا بالصبر . فيجب أن نتعرف على الخصائص الاجتماعية الموجودة في هذه الأسس الأربعة ، إن الإنسان قد يقبل بضرورة الإيمان وهو فرد ولكن حينما يتحول الأمر لكي يكون عملاً صالحاً وتواصياً بالحق وتواصياً بالصبر فهو عمل فريق ، عمل مجموع ، فكلمة ( الذين آمنوا ) جاءت هنا لتشير إلى الفرق الأساسي بين طريق الإسلام وغيره من الطرق ، لأنه من الواجب على هذه الإنسانية أن تضع مقادتها بين يدي الله تعالى وأن توفر على نفسها هذه الجهود الطويلة وهذه المتاعب التي لا نهاية لها .
في عصرنا الحاضر ، كانت الإنسانية مرت بتجارب مرة وتضحيات بلا حصر ، استطاعت أن تصل إلى درجة من السلم الحضاري ، ظن الناس قبل الحرب العالمية الأولى أنها يمكن أن تساعد على تطوير الجنس البشري وعلى منح المجتمع الإنساني هذه الاستقرار الذي تنشده ، وقبل فواتح هذا القرن العشرين ظهر في التفكير الإنساني أفكار جديدة كالحريات العامة والدعوة إلى الأخذ بالمناهج الديمقراطية التي تمنح المواطن حق المواطنة ثم وضعت الأمور موضع التطبيق بين الناس ، ولكن ما أكثر غرور الإنسان ، فقد أوصلته هذه الحريات المزعومة والأفكار المضللة المنقطعة عن الله إلى حربين عالميتين طاحنتين كادتا أن تبيدا الجنس البشري برمته ، والسبب هو أن الإنسان الغربي لم يربط هذه الحريات بأخلاق الأديان السماوية التي تفرض على الإنسان أن يعامل أخاه الإنسان بأفضل ما يعامل به نفسه . فكان هناك شرخ عميق بين أهل الأرض وشريعة السماء ، سواء كان ذلك في أوروبا وأمريكا أو في روسيا الشيوعية الكافرة .
فإذاً نحن مع الجهد البشري نسير في طريق أوله جهل وآخره خراب ، ومن الخطأ ومن المغامرة التي لا تؤمن نتائجها أن نستمر في هذا الطريق ، ومن شاء دليلاً على ذلك فلينظر إلى رقعة العالم ، فسواء قلنا كالديمقراطيات الغربية توفر للإنسان حرية التعليم وغير ذلك ، وسواء قلنا إن الديمقراطية الشرقية المتمثلة بالشيوعية التي تحرر العامل والفلاح من سلطة المعمل ومن سلطة الإقطاع ، فنحن نريد منكم أن تلتفتوا إلى الحالة التي فيها الأمة العربية ، الاستعمار الغربي استعمر بلادنا ثم خرج وما تزال أصابعه موجود بيننا تنهب خيراتنا ، وبرغم هذه الدعاوي العريضة أننا ملكنا التحرر ، ولكن أتساءل عن الديمقراطيات الشعبية وماذا فعلت بنا ؟ كم من معارك خضناها على تطمينات وعلى وعود ومواثيق ؟ وحين جرت المعارك تبين أن يد الصديق في يد العدو ضدنا . وكم من مرة غررنا بزهرة شبابنا هؤلاء الذين تعبنا عليهم وأنفقنا عليهم ودفعنا الملايين لكي يكون الطيار طياراً ، وسائق الدبابة لكي يكون قادراً على قيادة دبابته ، فاكتشفنا ـ مع الأسف وبعد فوات الأوان ـ أن الموازنة الدقيقة في السلاح كانت تقوم بين المعسكرين المتصارعين ، والنتيجة أن تقع على رؤوسنا .
فالله جل وعلا حين يصف الإنسان والجنس الإنساني أنه في خسر ، أي أن الطريق الذي يرسمه الإنسان لنفسه دون أن يأخذ بوحي السماء سيكون في خسر ، ويضعنا في طريقه طريق الإيمان . وتبين لنا ذلك من خلال المجتمع الذي كوّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة.(/2)
الله جل وعلا يربط بين الإيمان والعمل ، الإيمان شعور بالقلب ، ولا قيمة للإيمان إن لم يفض على الجوارح بالعمل الصالح . لهذا جاء الكلام بعد ذلك ( إلا الذين آمنوا ) وعطف عليه ( وعملوا الصالحات ) فلا بد أن يكون إيمانك منتجاً وحيوياً وفاعلاً ، أما التصورات والخواطر التي تجول في الرؤوس دون أن ينتج شيئاً فهذا لا شأن لنا به . إننا كبشر نعيش في مجتمعنا ، وحين نتعامل مع بعضنا لا بد أن تكون علامات الإيمان ظاهرة بيننا تسير حياتنا كي نعيش في سلام وطمأنينة . وهذا يكون في سائر مناحي الحياة : التعامل بين الناس في بيعهم وشرائهم ، في أخلاقهم ...
ثم الله جل وعلا يدعو المؤمنين بالتواصي بالحق ، لأن الإنسان حين يعيش حالته الاجتماعية أمامه نماذج من الناس ، فقد يخيب أمله في زيد من الناس ، كل هذه الأمور تترك في نفسه انطباعات قد تكون في البداية سهلة ، لكنها مع الترسبات والتراكمات تكثر حتى يجد الإنسان نفسه في لحظة من اللحظات متضايقاً جداً من هذه النماذج الموجودة أمامه ، ولكن حين يتواصى هذا الإنسان مع إخوانه بمعاني الحق والفضيلة عن طريق التناصح يذهب كثير مما في النفس من الشحناء والبغضاء تجاه الآخرين .
( وتواصوا بالحق ) ما هو هذا الحق ؟ حين نعود إلى كتب التفاسير القديمة نجد أن كلام السلف رضوان الله عليهم ينصب على محورين ، أن هذا الحق هو القرآن أو الدين ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) والله جل وعلا سمى نفسه الحق ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ) ، فمسألة الحق ليست هينة ، الحق هو الذي قالت به السماوات والأرض . ولهذا كانت الوصايا في القرآن الكريم مترادفة ومشددة بالوقوف مع الحق ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ) يعني الحق ( شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك كلمة الحق والعدل في الرضى والغضب . وصفة المسلم الذي هو لبنة ثمينة وصالحة في المجتمع الإنساني أنه مع الحق دائماً . ولهذا حينما سئل علي كرم الله وجهه عن بعض الأمور أجاب هذا الجواب المحكم : لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله . بعض الناس يحسن الظن ببعض الناس فيرى أن كل كلام يقوله حق ، ويرى أن كل تصرف يصدر عنه أنه حق ، وهذا خطأ لأن الحق قيمة ، وهذه القيمة محددة تحديداً قاطعاً بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم . فمن أخذ بهذا كان على الحق ، ومن لم يأخذ بهذا فهو ليس على الحق كائناً من كان . ولهذا فواجب المجتمع أن يتواصى بالحق ، ولاحظوا كلمة ( وتواصوا بالحق ) أي التواصي هنا مشترك بين مجموعة ، أي أن الجميع يشترك بالتواصي . فكل واحد أوصى الآخر ، فحينما نسمع ربنا يصف المجتمع المسلم بأن أعضاءه هم الذين تواصوا بالحق معنى ذلك أن كل واحد منهم يعتبر نفسه حارساً لهذا الحق . ومن الضروري أن يقوم الكل بالتواصي بين الجميع . فالصيغة في الآية لا تختص بفرد وإنما بالكل الذين هم قوام المجتمع .
يا إخوة .. إن قول الحق شديد وله تكاليف ، جرّب نفسك في أي موقف صغير أو كبير ، وجرّب نفسك أن تقف مع الصواب ومع الحق متجرداً من النوازع والأهواء والشهوات والرغبات ، ومتجرداً من القرابة والصداقة والمصلحة ومن أي شيء ، ما أثقل هذا وما أشد هذا ؟ فهذا الدين أثقل شيء عرفته الإنسانية ، إن هذا الدين كما وصف الله ( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) فالحق أمانة في أعناق المسلمين يؤدونها كما يؤدون هذه التكاليف ، إذا لم يصبروا على مواقف الحق ويتحملوا كل التكاليف التي تنتج عن الوقوف مع الحق فإن العواقب ستكون وخيمة في الدنيا قبل الآخرة . إن كثيرين منكم ومن هذه الأمة أعفوا أنفسهم منذ زمن بعيد من الوقوف مواقف الرجال ومن التحلي بشجاعة الرجال ، لكن الذين جرّبوا هذا الطريق وعرفوا ما فيه من المشقّات لم يثنهم الوقوف مع الحق . إن الله تعالى حين ينزل عليكم هذه السورة ليس من أجل أن تقرأون ألفاظها وتترنمون بإيقاعاتها ، ولكن من أجل أن تعيشون بمعانيها وتتمثلونها في حياتكم .
من بين حروف السورة تستطيع أن تستشف صورة المسلم المتجرد لله وواقفاً مع الحق ، وتستطيع أيضاً أن تستشف صورة المجتمع المسلم، ذلك المجتمع القوّام على الحق ، الحارس لمعاني العدالة على هذه الأرض .
من بين السطور تستطيع أن ترى كم هي التكاليف الباهظة التي يتحمل هذا المجتمع المسلم الذي ولد حول محمد صلى الله عليه وسلم وتحرك بحركته . كم من الدماء سالت من أجل الحق ؟ لا لمغنم ولا لمطمع ، ولكن من أجل أن تسود كلمة الله ، ولكي يعيش الناس على الأرض بسلام .
غالب الأمة أعفت نفسها من الوقوف مع الحق ولكن الله لن يضيع هذه الأمة ، وسيهيئ لها من يقف موقف الرجال الذين لا يهابون الموت في سبيل هذا الحق .(/3)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/4)
تفسير سورة الفجر )
الجمعة 26 ذي القعدة 1396 ـ 19 تشرين الثاني 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
نمر بعاشرة السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاقاً لسياق التنزيل على الرأي الأشهر والأرجح ، وهذه السورة هي سورة الفجر ، ولَكََم يطيب للإنسان أن يتملى معالمها ، وأن يطيل الوقوف عند سماتها ، ولو أننا عند الرأي الثابت الذي أعلناه لكم من قبل من ضرورة الإسراع ما أمكن ونفض اليد من أمهات القضايا التي عرضتها المرحلة المكية ، وما من بأس إن شاء الله تعالى على السامع ، فبحسب الإنسان المسلم إذا صحبته عناية الله تعالى وقدم بين يدي قراءته للقرآن الرغبة فيما عند الله والحرص على أن يتعرف على مرادات الله من كلامه أقول : ما على السامع من بأس من الإسراع والإنجاز .
إن هذه السورة كما قلنا هي العاشرة في سياق التنزيل ، فهي بهذه المثابة من السور المبكرة جداً في النزول ، وتذكر التبكير هنا وسبق النزول ينفع في وضع القضايا التي تطرحها السورة ونظائرها في موضعها الصحيح من سياق الحركة . فكم من أخطاء وأخطار تعرضت لها الحركة الإسلامية لأنها ما استطاعت وهي في غمرة عملها أن تتعرف على المواضع الحقة من الكثير من الأمور . إن من أخطر ما يصيب الدعوات وهي تخطو طريقها نحتاً بين الصخور أن تتعجل وأن تحاول حرق المراحل ، إن هذا يشكل مغامرة كبيرة وخطيرة ، وما من ضير علينا لو اعترفنا بلا تردد بأن الطاقة البشرية قد تنوء بطول الطريق وقد تتضعضع تحت أثقال التكاليف ، وإنه لتطلع إلى مشروع ، ذلك التطلع الذي يشرئب في قلب الإنسان متمنياً أن يجني ثمار النصر ، ولكني أقول : إن قوانين الحركة شيء ورغبة الإنسان شيء آخر ، وليس جائزاً أبداً الخلط ولا في أية صورة من الصور ولا تحت ضغط من الضغوط بين ما يرغب فيه الإنسان وبين ما تتطلبه قواعد الحركة وقوانينها ، إن خير جيل بشهادة الله وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عالج مثل هذا التطلع ، فقديماً جلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مسهم العذاب الأليم ونال منهم التشريد وأصابتهم المسغبة واستولى عليهم الرعب وجلسوا يفكرون في قدر الله وفي هذه الخطوب التي تنال منهم ، شكوا إلى قائدهم ونبيهم وأعرف الخلق بطريق ربهم جلا وعلا : يا رسول الله قد ترى ما نحن فيه مما لا يخفى عليك ، بل مما مسّك منه الجانب الأكبر ، أفلا تدعو الله لنا ؟ أفلا تستنصر لنا ؟ كان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقدر غاية التقدير هذه التطلعات المشروعة في النفس الإنسانية ، كان رده رد القانون الإلهي الذي لا يحابي ولا يدغدغ عواطف الإنسان ولا يجازف بالموعودات التي لا تقبل التحقيق ، كان رده : إنكم تستعجلون . وغريب في هذا العصر أن يقال هذا الكلام لأمة قطعت في طريق التربية والانصهار في بوتقة التجربة مراحل وأشواطاً لو كدحت اليوم الإنسانية كدحها عشرات السنين ومئات السنين ما بلغتها ولا معشارها ، غريب أن يقال هذا ، ولكن هذا إشارة مبنية على قاعدة منصوصة في الكتاب الكريم أن النبيين يطاردون ويشردون وينال منهم الضيم ويمسهم الأذى ويزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ إلى الدرجة التي يبلغ الضيق فيها وانتظار الفرج مبالغه النهائية من نفس النبي المرسل الذي يأتيه الوحي ويصبحه ويمسيه ، يبلغ هذا التطلع ( متى نصر الله ) . إن هذا يفيد جداً ، في هذا الحسم الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ، درس لهم وللأجيال : إنكم تستعجلون .
الإسلام قضية عظمى وقضية خطيرة ، وبناء الإسلام ليس أماني ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) ، بناء الإسلام لبنة من وراء لبنة ، وقطرة دم تليها قطرة دم ، وآهة تصعد من كبد حرة تليها آهة شبيهة بها أو أحر منها ، كل شيء في مكانه وكل شيء في زمانه ، ولعل من أصوب ما يقوله قائل في هذه الأيام : حذار حذار ، إن إغراءات لا حصر لها قد تدفع ببعض الناس إلى مغامرات طائشة لا تدري نتائجها ، ولكنها على كل حال تحمل في أطوائها الدمار أشد الدمار ، وما ذلك جبن عن مواجهة الأخطار ولكن استعجال في الخطى قبل استكمال الاستعداد ، ومحاولة لوضع السقف على بناء لم تشيد أركانه بعد ، هذا ما يجب أن نتنبه إليه ونحن نواجه القضايا التي تضعها السورة في المكان المناسب من التنزيل وسياق الحركة في أبكر عصور التاريخ الإسلامي وتجربته الأولى .(/1)
يقول الله تعالى ( والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر ، والليل إذا يسر ، هل في ذلك قسم لذي حجر ، ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ) ينتهي إلى هنا جزء مهم من السورة يبرز واقعاً تاريخياً كان ثمرة طبيعية لإعلان الدعوة والجهر بها ثم تمضي السورة في مناحٍ ، الذي لا يعرف طريقة القرآن في البناء يعجب لها ويظنها مفككة لا رابط بينها ولا جامع ، ولكنها في الحقيقة يأخذ بعضها برقاب بعض .
( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ، كلا .. ) أي : ليس الأمر كما تتصورون ( كلا بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين ، وتأكلون التراث أكلاً لمّاً ، وتحبون المال حباً جماً ، كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً ، وجاء ربك والملك صفاً صفاً ، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يقول يا ليتني قدمت لحياتي ، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد ، يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي ، وادخلي جنتي ) إلى هنا تنتهي السورة ، وما من سبيل إلى أن نقف عند حصاد الفجر ، قبل أن نحل سياق السورة وقبل أن نترجم هذه السورة إلى اللغة المعتادة التي يتحدث بها الناس اليوم ، وللأسف نعيش في زمن يحتاج القرآن إلى ترجمة من العربية إلى العربية وهذا من أعجب ما يكون .
و( الفجر ) هذه الصياغة قسم لجملة من الأقسام ، والمقسم به هو الفجر ، والفجر المقسم به هو هذا الفجر المعروف بين الناس والذي دلت عليه العرب بهذه اللفظة المفردة ، الفجر هو بداية انطلاقة النهار وانحسار الليل . والليال العشر ، اختلف تراجمة القرآن في تأويلها فيذهب بعضهم إلى أنها العشر الأواخر من رمضان ويسندون ذلك على أن العشر الأواخر من رمضان كانت الوقت الذي نزل فيه القرآن ( شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) ويستندون في هذا لا إلى أثر ولكن من معنى من معاني القسم وهو أن القسم لكي يستجمع أسبابه الذي تسوغه وتبرره لا بد أن يكون بشيء عظيم يتضمن خرقه انتهاك هذا الشيء العظيم ، وشيء عظيم أن يقسم بالظرف والزمن الذي كان بداية لهذه الدعوة النبوية ، وشيء يتساوق مع البداية وهي القسم بالفجر أن يقسم بفجر الدعوة المحمدية ، فيكون القسم بالليالي العشر منصب على العشر الأواخر من رمضان . ويقول بعضهم : المراد هنا العشر الأوائل من ذي الحجة وهي التي يكون فيها عمل الحج ، وكما تعلمون فإن الحج واحدة من فرائض الإسلام وأحد أركانه الخمسة ، عليها يقوم شيء مهم من الأمور التي لحظها الإسلام في تقرير هذه الفريضة ، وقيل غير ذلك لا نهتم له وإنما نقرر أن المراد قد يكون هذا وقد يكون غيره ولكنه على كل حال قسم بليال عشر كما جاء ذلك موصوفاً ومنطوقاً في هذه الآية تتضمن فضيلة مخصوصة لا ضير أن تكون العشر الأواخر من رمضان أو تكون العشر الأوائل من ذي الحجة أو تكون العشر التي أتم فيها لموسى ميقاته وهي العشر المكملة للأربعين والتي قال عنها الله ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) لا ضير أن يكون هذا أو هذا أو ذاك ، فالمهم هو انصباب القسم على أمر عظيم .
( والشفع والوتر ) الوتر في كلام العرب هو الفرد ، والشفع هو الفرد الآخر الذي ينضم إلى فرد مثله فيشفعه ، فهنا شفع ووتر وهما هنا مطلقان ما بينتهما الآية ولا نصصتهما فذهب الذاهبون طرائق قدداً في تأويل ذلك ، قال قائلون : الشفع هو الخلق كله ، والوتر هو الله جلا وعلا ، لأنه الخلق كله شفع ، أرض وسماء فهما شفع ، ليل ونهار وهما شفع ، ذكر وأنثى وهما شفع ، ولو ذهبت على ضوء الكشوف العلمية لتبين لنا أن الكون كله يتألف من شيئين يتناقضان ولو في الظاهر . وقال قائلون بأن المراد بالشفع والوتر الصلاة فالصلاة منها شفع كصلاة الصبح والظهر والعصر والعشاء فهي صلوات ثنائية أو رباعية وهي من هذا القبيل شفع ، أو هي وتر كصلاة المغرب التي هي ثلاث ركعات ، وأياً ما كان فسواء كان القسم منصباً على المخلوقات باعتبارها كلاً ، وعلى الخالق باعتباره موجداً أو كان منصباً على هذه الفريضة أو على غيرها من الفرائض فما من شك في أن القسم واقع في مكانه مستجمع لشرائطه إذ هو قسم بأمر عظيم وشيء مقدس يتضمن الإخلال به انتهاك هذا الشيء العظيم .(/2)
( والليل إذا يسر ) والسريان والسّرى هو الشدّ والمشي من آخر الليل ، والإشارة هنا واضحة لمن يتبصر ، لا يقال لأحد أنه أسرى أو سرى وأنه تحمل السرى في الليل إلا إذا كان مشيه من آخر الليل فهو على شرف الفجر بانتظار انبثاق النور والضياء ، هذا الليل المشخص هنا كأنما هو شبح يتجرد من هذا الليل كله ليسير ضمن هذا الليل ضمن نفسه إلى غاية هو مدركها لا محالة أن ينشق الفجر وينقضي الليل ، لعلها تحمل معنى التضمين لذلك الجيل العظيم الذي سمع أول مرة هذا الكلام وهو يكابد من الجاهلية ليلاً طويلاً ثقيلاً ، ولعل هذا الليل بهذه المثابة وعلى هذا النحو من التشخيص والتصوير يحمل العزاء كل العزاء لهؤلاء الذين ينبثون اليوم وقبل وبعد في مشارق الأرض ومغاربها ، يعملون لله ولإنهاض هذه الأمة من كبوتها ، يكابدون ويجاهدون من هذه الجاهلية المحدثة ليلها الطويل الثقيل ، لعله يحمل أيضاً مثل هذه البشارة المطمئنة أن هذا إلى انقضاء ، وأن عاقبة السرى إلى فجر ينشق عن نور مبين وصبح بسّام .
(هل في ذلك قسم لذي حجر) تساؤل في موضعه ، والحجر هو العقل وسمي العقل حجراً لأنه يحجر الإنسان عما لا ينبغي ويرده عما لا يليق ، ومن هنا يقال حجر القاضي على السفيه أي منعه من أن يتصرف بأمواله تصرفاً يعود بالضرر عليه وعلى المجتمع ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ) فذو الحجر هو ذو العقل ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) وما في النية أن أفصل لكم عن مدلولات الاستفهام في قواعد اللغة وفقه العربية ولكني أحب أن أقول لكم إن هذا اللون من الاستفهام يسمى استفهاماً تقريرياً أي أنه جاء يقرر ويثبت الشيء الذي سبقه كما تقول : والله لا أفعل كذا ولا أفعل كذا هل صدّقت ؟ تريد أن تقول له : صدّقني . فسؤال القرآن هنا ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) يعني بالضبط إن هذا القسم الذي مرّ وانقضى بالفجر وبالليالي العشر وبالشفع والوتر وبالليل إذا يسر فيه غنى ومكتفى لذي اللب ولذي العقل الذي يدرك أن المقسم وهو الله جلا وعلا يقسم بآيات بينات ملموسات من آياته الباهرة الدالة على عظمته ووحدانيته وقدرته وقهره وجبروته ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) .(/3)
لاحظوا معي .. والخطاب هنا يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ) من هؤلاء ؟ بل قبل أن نتساءل من هؤلاء الناس علينا أن نتساءل : هل في الصياغة خلل ظاهري ؟ نحن نعرف أن حق الكلام يقتضي أن يكون للقسم جواب ، ولو أننا أخذنا الكلام على ما يقتضيه ظاهر القول مع حذف وسيلة البلاغة التي تعمل هنا عملها المقصود بالذات لكان حقاً أن يقال : والفجر .. إلى آخره ، ليفعلن الله كذا وكذا بقومك المكذبين هؤلاء كما فعل ذلك بعاد وبثمود وبفرعون ذي الأوتاد ، ولكنا نلاحظ أن القسم هنا يخلو تماماً من جواب القسم ، لقد طواه السياق طياً ولم يعرض له لا تصريحاً ولا تلميحاً ، وأنا أقول لا تصريحاً ولا تلميحاً مع علمي بأن معظم المفسرين من قدماء ومحدثين يذهبون إلى أن جواب القسم ملمح عليه في المصير الذي واجهته الأقوام المعدودة هنا قوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون ، إن السياق كما قلنا طوى الجواب طياً وأعرض عن ذكره ، لماذا ؟ لا بد أن تكون هناك نكتة بلاغية أراد السياق القرآني تقريرها في الأذهان تقريرياً صحيحاً ، قد يكون الأمر ولا أحذف من ساحة التأويلات أي تأويل مما جاء به الأقدمون والمحدثون ، ولكني أذهب في مذهبي الخاص المبني على اجتهادي الشخصي والذي أرى أنه يتساوق مع مجموع معطيات الدعوة ، ولا أسمح لنفسي كما قلت بأن أنظر في القرآن وفي الدعوة الإسلامية نظراً مجزءاً ، لأن ذلك يفوت علي أعظم الغايات التي أتوخاها وأرهق نفسي من أجل الوصول إليها ، قد يكون طي القسم هنا لهوان شأن هؤلاء الناس إذا كان الله جلا وعلا قد أهلك عاداً الأولى والذين كانوا يقولون : من أشد منا قوة ؟ كما تقرأون ذلك مصرحاً به في الكتاب ، وإذا كان الله قد أهلك ثموداً فما أبقى ، وإذا كان الله قد غشى المؤتفكة ما غشى ، وإذا كان الله دمّر على ما كان يصنع فرعون وما كانوا يعرشون ، فمن هؤلاء بالقياس إلى أمم عاتية جبارة بلغت أوج القوة ونهاية العظمة ، من هؤلاء الشراذم الذين يضطربون بين جنبات مكة وقصاراهم إذا طمحت هممهم وأبصارهم أن يبلغوا اليمن أو أطراف الشام ؟ إلى جانب الدول والممالك العظيمة التي جاءها من أمر ربك ما لا مرد له فواجهت المصير المؤلم . إن هؤلاء أهون شأناً وأقل مقاماً وأقل من أن يؤبه لهم ويكترث بشأنهم . فإذا قلنا إن السياق طوى جواب القسم معرضاً عن التعرض لذكر ما أعدّ الله لهؤلاء من أليم العقاب فنحن غير بعداء إذا قلنا : كان ذلك لهوانهم على الله . ولكن تساءلوا معي : هل وضع هذه الأمة المحمدية في التاريخ الإنساني ومن حيث قيادة الجنس البشري ومن حيث الأمانة على المصير الإنساني بالمثابة التي كانت فيها الأمم الماضية ؟ لا , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لنا في كلام رائع فضلاً وتمييزاً بين هذه الأمة وغيرها من الأمم ولا يبرزه عليه الصلاة والسلام لينفخ في أنوف هذه الأمة حتى تأخذها هذه الخنزوانة التي تأخذ المستكبرين والمتجبرين ، وإنما يبرز هذه المزايا لكي يضع أمام هذه الأمة مهماتها ووجائبها ، لكي يحث بعضها بعضاً أبداً حتى تقوم بما يتوجب عليها تجاه الرسالة التي أنيطت بها . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : أنتم توفون أي تكملون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى ، هذه واحدة .(/4)
إن هذا الكلام يعني أن هذه الأمة هي آخر شيء يكون ، ولكنه يعني التمييز والفضل على سائر الأمم التي مضت قبلها ، فإذا جئنا نستفتي محمداً عليه الصلاة والسلام مزيداً من الإيضاح في هذه المسألة الهامة ، ما الذي نسمعه ؟ نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : أنا آخر الأنبياء فلا نبي من بعدي وأنتم آخر الأمم فلا أمة بعدها . فإذاً فقد أغلق الباب بين السماء والأرض ، ما كان من قبل من تعاقب النبوات وتعاون الأمم على النهوض بالرسالات شيء طواه التاريخ وانتهى بمجرد بزوغ فجر الرسالة في غار حراء ، سدت منافذ السماء أمام المتنبئين والمتقولين على الله تعالى وانتهت الإنسانية من هذا ، وقد آن للإنسانية أن تأخذ بيديها زمام مصيرها . ولقد سئلت من ثلاث أو أربع سنوات من قبل أحد الإخوة عن معنى آية ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ) أقول إن الله تعالى مضت سنته في خلقه بالنسبة إلى الأمم الماضية التي ابتعث فيها أنبياء وأنزل عليها شرائعه أن يعاقب العناد والعتو عن أمر الله تعالى بلون من العقاب ، كانت الأمم لجهلها وقصور تفكيرها تتمرد على أنبيائها وتطلب طلبات لا يطلبها إلا ذو عقل صغير ( أسقط علينا السماء كما زعمت كسفاً ) ( آتنا بالله والملائكة قبيلاً ) افعل كذا وكذا ..إلى آخره ، كان الله حينما تطلب الأمة المتمردة طلباً يعلّق تحقيق الطلب على شرط ، سأفعل ولكن إذا آمنتم فبها ونعمت ، وإن لم تؤمنوا فأمامكم عذاب الاستئصال والمحق . من هنا كان التعجيز الذي قامت به أممٌ قبل أمتنا في مواجهة نبوات قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إنذار بإهلاك الأمم ، وكم من أمم جاءتها أنبياؤها ودعتها إلى الله فطلبت طلبات لا تحقق ، ثم حقق الله لها بعض ما طلبت ، فاستمرت في عنادها وتكذيبها ، فأنزل الله عليها قارعة فأهلكتها وأبادتها .
وأنتم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم شيئاً كثيراً ، إن بني إسرائيل حينما جاءهم المسيح عليه السلام طلبوا من المسيح ( يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ، قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ) ونزلت المائدة وأكل منها أصحاب عيسى بن مريم وأعاذ منها ذلك الجيل من المحق والاستئصال . هذه الأمة هل يمكن لنا أن نطبق عليها ذلك القانون نقول : لا . ما دامت هذه الأمة آخر الأمم وما دامت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبوات ، فحينما نقول بتماثل العقاب والعذاب بين هذه الأمة وبين عادٍ الأولى التي أهلكها الله إهلاكاً تاماً والتي تفتحون الآن كتب التاريخ وكتب الأنساب فتجدون قبيلة عادٍ الأولى مصنفة ضمن العرب البائدة التي بادت ولم يبقَ لها أثر إلا بقايا ذكر في كتب التاريخ ، وثمود كذلك والعرب البائدة وفرعون الذي أغرقه الله هو وجنوده بعد أن نبذهم في اليم ، ما دام الأمر كذلك فإن التماثل ممنوع ولا يمكن .(/5)
حينما نقول ذات العذاب الذي واجه الأمم الماضية سوف يواجه أمتنا هذا حينما تتمرد على أمر ربها ، فنحن نضرب قاعدة أساسية وهي أن هذه الدعوة هي الخاتمة ، لو بادت هذه الدعوة وباد رسولها بعد ، إذاً لاحتاجت البشرية إلى أن يرسل إليها رسول جديد وهذا لم ولن يحصل ، والله ذكر هذا في القرآن بشكل صريح قال ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً ) إن سنة الله مضت حينما يبلغ العذاب من قبل المشركين بنبيهم الحد الذي يخرج مغاضباً لهم ويهجر الأرض كلها بعد اليأس الكامل منهم ، تلك سنة مضت من قبل الله جلا وعلا . ولقد كاد العرب أن يبلغوا هذا المبلغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن منذ الأزل سبق في علم الله جلا وعلا أن هذا القرآن سينزل على محمد بين العرب وبلسان العرب لمزايا اختصت بها هذه الأمة ولسابق علم الله جلا وعلا بها ما نحاول أن نبحث فيها فأعطيت من أجل ذلك مكانة خاصة ، كم من المرات تقرأون في كتب السيرة والقرآن كيف وقف المشركون معجزين لرسول الله قالوا له : يا محمد أنت ترى نحن نعيش في وادٍ غير زرع لا ماء ولا شجر ولا وتعيش بلدتنا في هذا الوادي تكتنفها الجبال التي ترسل عليها السموم اللافح وترسل عليها كميات متكاثرة من رمال الصحراء الحارقة فاسأل الله إن كنت كريماً عليه وإن كان فعلاً قد أرسلك أن يحول عنا هذه الجبال وأن يحيل هذه الصحراء إلى جنات وحدائق كجنات الشام وحدائق الشام . وكان لا يزيد على أن يقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا ؟ يقولون له : يا محمد نحن نراك تكتسب ونراك تحترف ونراك في ضيق لا تملك المال فاسأل الله أن يوسع عليك . يقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ يقولون له : يا محمد سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً وفضة . فيقول : سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ يقف بعض المتعنتين فيقول له : والله لا أؤمن بك حتى ترقى في السماء ثم تأتينا بكتابٍ من السماء نقرأه ويأتي معك أربعة شهود من الملائكة على صحة هذا الكتاب ومع ذلك فوالله ما أظن أني سأصدقك . فلا يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرر لهم أنه رسول لا يملك لهم من الدنيا منفعاً ولا من الآخرة حظاً ولا نصيباً إلا أن يقولوا لا إله إلا الله .
ومع ذلك هل بلغ الغضب الإلهي الحد الذي يدمر هذه الأمة مع أن مطالبها في الواقع لا تفترق عن مطالب الأمم السابقة التي عتت عن أمر ربها وحاربت رسلها وأنبياءها ، كذبوهم وكذبوه وطاردوهم وطاردوه وحاولوا أن يقتلوهم وحاولوا أن يقتلوه وكل شيء فعلته الأمم الماضية مع أنبيائها فعله سفهاء قريش وسفهاء أعراب البادية مع محمد الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله جلا وعلا استوعب هذه الأمة بحلمه الواسع ، لأي شيء ؟ لكرامة ذاتية لهذه الأمة على الله ؟ أبداً ولكن لأن الأمر مؤسس ومشتق على قاعدة ، على قاعدة ختم الرسالة وعموم الرسالة ، فهذه الأمة إن حفظت فبحفظ الله لها بسبب قوامتها على رسالتها وهذه قضية من أخطر ما يمكن أن يستقر في أذهان الأمة ، لقد استقر هذا في أذهان العرب الأقدمين الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا معه وعزروه ونصروه ، وعرفوا أن كرامتهم مشتقة من كرامة الرسالة وبقاءهم مؤسس على بقاء الرسالة . وحينما كان فتح بيت المقدس وأصرت العرب والروم و النصارى الذين يسكنون تلك البقاع أن لا يسلموا مفاتيح بيت المقدس إلا لخليفة المسلمين عمر رضي الله عنه ، جاءه كتاب أبي عبيدة قائد جيوش الشام يكشف له الحقيقة ويقول له : إن القوم قد اشترطوا حضورك فإن رأيت أن تحضر فافعل والسلام . جاء عمر ، ليس على رأسه عمامة ، صلعته تلوح في الشمس ، يركب حماراً ، وكان رجلاً طويلاً فكان إذا ركب الحمار ومشى تخط رجلاه الأرض ، وليس معه أحد في هذه المفازة إلا خادم له ، وكان يتناوبان على ركوب الحمار ، قاربوا بيت المقدس فاعترضتهم مخاضة أي بركة ماء ، كان الروم مشرفين ينظرون إلى هذا الركب المقبل ، وجيوش المسلمين في الطرف الثاني من البركة وأمير المؤمنين قادم ، وللأسف كانت نوبة الخادم في ركوب الحمار في هذه اللحظات ، وأمير المؤمنين يقود الحمار وهو يمشي حافياً ، وأمير المؤمنين يلبس ثياباً من الصوف الخشن تبلغ أنصاف ساقيه ، ويقول : بسم الله ويخوض في البركة ، ينظر أبو عبيدة ، ما هذه المصيبة ؟ إن جيوش وقواد الروم ينظرون إلى هذا المشهد ، يقول له : يا أمير المؤمنين إن القوم ينظرون إليك ، يلتفت إليه عمر ويقول له : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً للمسلمين ، إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله .(/6)
عرفت هذه الأمة القيمة التي اشتقت قيمتها منها وهي القيمة العليا من خلود هذه الرسالة . إذاً فهذه الأمة محصنة ضد عوامل الإفناء والإهلاك ، ولكن هل هي محصنة ضد أن يأخذها الله بالبأساء والضراء ؟ الجواب : لا . إن هذه الأمة كلما تمردت على أوامر الله وتركت شريعة الله واتبعت كل ناعق مسها الله جلا وعلا بما شاء من أفانين العذاب وألوان الابتلاء . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ) كيف يهجم الناس حينما يدعون إلى الطعام كذلك أمم الأرض سوف تتداعى عليكم . ( ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم وليسلطن عليكم عدوكم حتى يستنقذوا بعض ما في أيديكم ) وهذا الكلام غريب فأن يقال مثل هذا في عز الإسلام وعنفوان الحركة ( قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ ) كأنما الأصحاب غابت عنهم حقائق التجربة ، إن مسألة القلة والكثرة أمر لا قيمة له في سياق الدعوات وتقرير المصائر أبداً ، المناط كله مبني على ثبوت اليقين والإيمان ومعرفة الطريق ووضوح الهدف ( قالوا أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال : لا ، إنكم يومئذ لكثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) الغثاء هو ما خف من الأخشاب والأوساخ التي تطفو على الماء حين يجرفها السيل ( ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) وحين تساءلوا عن السبب في ذلك قال : حب الدنيا وكراهية الموت . هذه الأمة ليست محصنة عن أنواع من البلاء ولكن لن تهلكها نهائياً ، تؤثر على كرامتها وعلى مكانتها وعلى واجب القيادة التي تفرضها عليها هذه الرسالة ، إن أمم العالم كما ترون أذاقتنا كأس الذل والهوان ، فيما مضى نفذ إلى جسم الأمة أبالسة الجن والإنس ينفثون سموم الفرقة والشتات حتى أصبحت الأمة وقد ألبسها الله شيعاً وأحزاباً يضرب بعضها رقاب بعض ، وبعد أن كانت السيوف مسلطة والرماح مشرعة على رقاب العدو ونحور العدو أصبحت هذه الأسلحة توجه إلى صدور الإخوة في الله جلّ وعلا فتمزقت الأمة وذهبت وحدتها ، ثم كانت النتائج التي لا بد منها أن تبلغ الأمة حالة الضعف حتى يطمع فيها من لم يكن يطمع فيها من قبل وحتى يتجرأ عليها فيمد يده فيأخذ بعض ممتلكاتها .
انظر الآن إلى أمم الأرض جميعاً لا تستثنِ أحداً ، فهذه الأمم كلما جاءت أمة لعنت أختها ، وجدير بنا أن ندرك جيداً أن الكفر ملة واحدة ، إن أمم الأرض جميعاً تعمل على أن نزداد خبالاً ونزداد تمزقاً ونزداد بعداً عن حقائق هذا الدين ، وهو بلاء كما ترون عظيم ، إننا نودينا من قبل معسكرات في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الحديث ولعلي في مناسبات قادمة سأفتح أمامكم صحفاً من التاريخ تزكم الأنوف روائحها الكريهة ولعلي سأكشف لكم صحفاً من التاريخ مؤلمة . نحن الآن ينبغي أن نعلم أننا غُلبنا على الصداقة من معسكرات ومن قبل أناس ، ثم اكتشفنا في غمرة الكارثة أننا كنا ضحايا الخديعة والمؤامرة الكبيرة . إن هذه عقوبة وهي في مكانها ، حينما تجد الأمة نفسها في وضع قد فقدت الثقة بنفسها فمن الحق ومن العدل أن تقسم إلى شيع وطوائف وأحزاب وأن ينضوي كل جزء من هذه الأمة تحت معسكر معاد . ولقد مرت بهذه الأمة في تاريخها الحاضر المعاصر سويعات وسنوات ما تسمع فيها من جانب إلا بحمد روسيا ، وتسبيحاً من الجانب الآخر بحمد أمريكا ، وأنت اليوم تسمع أنغاماً ترقص عليها أبالسة الجحيم مثل هذه الأنغام ما الذي يراد بذلك ؟ أمستقبل الأمة ؟ لا . أن تقف الأمة على قدميها ؟ أبداً . إن الذي يراد مزيد من الفرقة ومن الدفع إلى الخلف يبعد هذه الأمة عن حقائق هذا الدين . وهذه عقوبة وأية عقوبة ؟
إن الله جلا وعلا حين طوى جواب القسم فلم يذكره ، ما طواه هواناً واحتقاراً لشأن الأمة فالدنيا كلها وما فيها من أحياء وما فيها من أشياء هينة على الله جلّ وعلا حين تعصي أمره وتشذّ عن قاعدته ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله تعالى ، وفاجر شقي هين على الله تعالى . كل من ابتعد عن أمر الله وتمرد على رسله وأنبيائه فهو هين .. عاد وثمود وفرعون وغيرهم من الأمم والأقوام التي طواها الزمان بفعل التدمير ، والإهلاك المقصود إهلاكاً هيناً على الله ، كما أن سفهاء قريش وزعماء الكفر هينون على الله جلا وعلا . ولكن المماثلة بين الأمرين وبين أمتنا وبين من سبقها من الأمم منعدم ، ولهذا طوى السياق جواب القسم ، لأن جواب القسم حين يليه مصير أقوام أخرى ويكون منصوصاً فيه على أن ينال هذه الأمة جزاء العقوق والتمرد مثلما نال أولئك ، فإن ذلك يكون تدميراً للقاعدة التي أبرزناها وهي قاعدة الخلود لهذه الرسالة وكون هذه الأمة آخر الأمم وهذه الرسالة آخر الرسالات وأن القوامة محصورة فيها .(/7)
أشعر أنني أطلت ، إنما أشعر أن من الضرورة بمكان أن يعرف كلً منا مكانه من أمته ومكان أمته من أمم الأرض وأن يشحذ مواهبه وقواه على هذا الأساس . وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورة التين قريش القارعة )
الجمعة 2 جمادى الآخر 1397 / 20 أيار 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فقد يكون من غير الحكمة أن أواصل الحديث في المنحى الذي كنا نتحدث فيه من قبل ، كأن لم يحدث شيء ، فالواقع أن وقوفي على المنبر بعد الكلام الذي قلته في الجمعة الماضية قد يكون مدعاة للاستغراب لدى البعض ، والحق أنه بالنسبة إلي على الأقل قد حدث شيء كبير وخطير ، لقد قدمت في نهاية الخطبة الماضية اعتذاراً رجوت أن يكون مفهوماً ، وحين تحدث معي طوائف من الشباب ، وأقول طوائف ، وكثير من الناس ممن لم يكونوا حاضري الخطبة ، كنت أقول وما زلت مصراً على هذا القول إن القرار الذي اتخذته في هذا الموضوع قرار يتسم بالعقلانية الكاملة ، وكنت أسوق ـ وأنا أتحدث في الجمعة الماضية ـ مثلاً منتزعاً من التاريخ لنماذج من الناس توجد هنا وهناك ، وفي هذا الزمان أو ذاك ، علتها أو علة زمانها أنها غير قابلة للفهم ، لأن خطوط تفكيرها تنحو نحواً قد لا يطيقه كثير من الناس .
قدمت بين يدي هذا مثلاً شيخ المعرة رحمه الله تعالى حينما رأى ما عليه الناس وحينما صدمته بواكير حياته بما لم يكن يتوقعه ، فقرر أن يدير ظهره للناس وحاول أن ينسحب من الحياة إلا أن الناس لم يتركوه لقراره هذا ، فلم ينسحب من الحياة لأن الحياة أقبلت تزدحم على باب دهليزه ، لأنه كان يعبّر عن الحياة في صميمها وفي أبعادها الصحيحة ، وفي غاياتها التي يتوجب على الإنسان أن يضعها دائماً نصب عينيه من الصراحة والصدق والأمانة مع النفس ومع الناس ، وعجيب فعلاً أن يكون هذا المثل غير مفهوم ، ما المشكلة هنا ؟ المشكلة في جوهرها أن الموقف بالنسبة إلي كان مبنياً على الحساب ولا شيء وراء ذلك بإطلاق .
فجأة وتحت ظروف المرض وطوارئ العلل أدرت وجهي إلى الخلق ، فوجدتني في طريق اخترته بمحض إرادتي ، واخترته نزولاً على ضرورات ، تتصل بهذه الأمة في حاضرها وفي مستقبلها على السواء ، إن الجو الإسلامي على صعيد الفكر وعلى صعيد العمل جميعاً يعيش ارتباكات خطيرة وتضطرب في أحشائه اتجاهات متباينة ، كلٌ يظن أنه الحق الذي ليس وراءه إلا الباطل ، وهذه مصيبة كبيرة ، ونظرت وأنا أفكر طيلة السنوات الماضية أتلمس العلل وأحاول أن أقف على حقيقة الداء ، وهذه أيضاً مصيبة ولكن مصيبتي أنا بالذات لأني لا أملك ولا أستطيع أن أزيّف الأمور إلى نفسي ولا إلى الناس . فتبيّن لي بعد التفكير الطويل والبحث المستفيض والدرس العميق أن العلة في كل هذا الارتباك والاضطراب تنحسر في عدم الفهم الصحيح لمراحل العمل الإسلامي على النحو الذي خطّه ربنا جل وعلا في الكتاب والكريم ونفّذه الرسول صلى الله عليه وسلم كما نُقل إلينا في سيرته الطاهرة . وأن عصرنا الحاضر عصر يشكو من عيب أساسي وهو عيب ملازم في التاريخ البشري في كل فترات النهوض لدى جميع الشعوب ، وهو أن الشعب المتيقّظ على ذاتيته حديثاً لا يمكن أن يعود إلى أصالته وأن يتعرّف على حقيقته بين عشية وضحاها ، فلا بد من المعاناة ولا بد للخضوع للكوارث ولا بد من الاستفادة من الدروس التي تمر بها الأمم السابقة ..
فحين فتحنا أعيننا في مطالع هذا القرن وقبله بقليل على نُذر الهجمة الاستعمارية الصليبية الصهيونية الإلحادية كنا أشبه ما نكون بالغريق يتمسك بأي شيء خضوعاً لنازع الحفاظ على الذات ، وقد وقع في وهم معظم قادة الفكر وقادة الحياة الاجتماعية والسياسية في عالمنا الإسلامي المهدد بخطر الفناء أنه إذا كانت هناك علة قادت الأمة إلى الضعف والتدهور والانحلال فهي هذا الدين ، وساعد على تجسيم هذه الفكرة في أذهان قادة الرأي وقادة الحياة العملية أن أمم الغرب التي قادت التحرك الاستعماري نحو بلادنا خرجت إلى عصر النهضة وعصر الصناعة وعصر التقدم على الصعيد المادي من خلال صراع طويل مع الكنسية بسلطانها وهيمنتها على النفوس وقهرها واستبدادها .. فكان يسيراً جداً بالنسبة إلى قادة الرأي والسياسة عندنا أن يسقطوا هذه المشابهة أيضاً على الإسلام ، وظنوا أن أمم الغرب وصلت إلى مراحل التقدم والعمران من باب رفض الدين والتمرد على أحكامه بل الوقوف منه موقف العداء فكذلك يجب أن يكون عندنا ، فليكن الإسلام هو الهدف ، ومن المحزن حقاً أن هذا التصور الذي يشبه أن يكون انطباعاً طبيعياً وغير مستغرب في حياة الشعوب ترافق مع عامل مشدد وهو أن الاستعمار قاد في ركابه التبشير فكانت جحافل القسس والرهبان ومدارس الهدم والتخريب تحل من ديار الإسلام حيثما حلّ الاستعمار .. فحصل بلبلة ، بل حصل انصهار ، ولعل الإخوة لو حاولوا التعرّف عليه بالرجوع إلى ما كان يصدر من كتابات ومؤلفات في مطالع هذا القرن .. حصل عندنا نوع من الهجمة الشرسة على الإسلام قابلها ردّ فعل نحاول أن ندافع مجرد دفاع وأن نبرر مجرد تبرير هذا الإسلام .(/1)
إن الحركة الإسلامية المعاصرة نشأت في هذا المحضن المضطرب الذي قد لا يفتقر إلى شيء كما يفتقر إلى عناصر الصحة والحقيقة وكان لا بد من مخاض ولا بد من معاناة ولا بد من آلام .. حينما نشأت الحركة الإسلامية كانت تخضع للضغوط المجتمعية محليةً وعالمية ، ولعل الذين قادوها شغلتهم هموم الحاضر الذي كانوا يعيشونها عن الالتفات إلى ما كان يجب أن يكون نقطة البداية في أي تحرك .
لا أريد أن أحاكم الاتجاهات التي نتجت في مطالع القرن وكانت حصيلتها الخلافة الإسلامية وإلغاء الكيان الإسلامي جملة وتفصيلاً وتمزيق الأمة الواحدة إلى أمم ما تزال إلى الآن تلد أجنة مشوهة وكريهة تنفصل عن جسم الأم باستمرار ، مزيداً في النكاية في هذه الأمة ، وجرياً في الطريق المفضي إلى تدميرها ومحوها من الوجود ، لا أريد أن أتعرّض لهذا الجانب ولكن أريد أن أسلّط الضوء فقط وبصورة مبدئية وبسيطة إلى أن الواجب على العقلاء أن يلتفتوا إلى حقيقة بسيطة جداً ، هبْ أن ابنك أصابه المرض فهل ذلك يعني أن تتركه لعوامل المرض والفناء تفتك به وتفترسه أم تفتش عن مكان العلة لكي تطبّ لها بدوائها المعقول ، إن المسلك الأول هو مسلك البله والمجانين ، ولكن مسلك العقلاء هو المسلك الثاني ، وكان لا بد أن تمر الأمة بهذا الخبل العام ، الخبل الذي حملها على أن تنفض يدها من كيانها وحقيقتها ، لا شك أن الصورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، بل قل حتى الروحية التي سادت قبيل الحرب العالمية الأولى شيء يدعو إلى الأسف وإلى الحزن .. ولكنه لا يعني إلا عند العدو المجاهر بالعداوة أن نكون عوناً للأعداء على أنفسنا وأن نمزق بأيدينا جسم أمتنا ، لكن هذا هو الذي كان وهو الذي حصل .
منذ ذلك التاريخ كان على الأمة أن تعرف أن حق الأسوة وأن حق القدوة المفترضة على المسلم لكي يأخذ بها نفسه مهتدياً بنبيه صلى الله عليه وسلم يحتّم عليها أن تُعيد فحص حالتها على ضوء خطوات نبيها صلى الله عيه وسلم .. لكن هذا لم يحدث ، والذي زاد الطينة بلة وعقّد الأمور أن هذه الحالة استهلكت وقتاً طويلاً من حياة الأمة ، وقتاً سمح لكل النباتات الضارة أن تنمو على الساحة العربية وعلى الساحة الإسلامية .. اسأل نفسك أيها الأخ بصراحة وبوضوح وبأمانة وانسجام مع الإسلام : هل من المعقول أن تنشأ في الساحة العربية والإسلامية حركات وأحزاب ومذاهب واتجاهات لا همّ لها ولا وظيفة لها ولا غرض لها إلا الإيذاء للإسلام وإلا محو الإسلام ؟ أهذه ظاهرة طبيعية ؟ هل من المعقول أن تُنشد الأناشيد الحمراء في ديار المسلمين وأن يُشتم الله وأن يُهان محمد في ديار المسلمين ؟ هذا شيء غير معقول ، بل اسأل نفسك : هل من طبائع الأشياء ومن الأمور السوية في حياة الأمم أو في حياة أمة كأمتنا هي أمل الدنيا وضمانة المصير بالنسبة إلى البشرية جمعاء أن يباح الضجيج والعجيج لكل من هبّ ودبّ ولكل ما عرفت الدنيا من شرور ومفاسد وأن تُضرب الأسوار من حول الدعوة الإسلامية :
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنسِ
ذلك أمر غير معقول ، لولا أن الأمور لا تسير على محاورها الصحيحة ، إن بلاد الإسلام كما يجب أن يعلم العدو قبل الصديق للإسلام طال الزمان أو قصر ، صعبت الطريق أو هانت ، ديار المسلمين للمسلمين ، وهذه الخلائق الشائهة لا بد أن تأتيها يوم أو أيام تجد نفسها مرغمة على أن تعاود حساباتها وعلى أن تطيع لله جل وعلا ، كارهة أو راضية ، لكن كما قلت لكم إن الزمان طال ، وإن ارتباكات الحركة الإسلامية وأشدد الحركة الإسلامية وأنا هنا مبرر وجودي هي هذه الحركة ولا شيء غيرها .
إن ارتباكات هذه الحركة تجاوزت الحدود المعقولة وإنه من الحق على كل مدرك وعلى كل عاقل أن ينفض الغبار عن التاريخ ، وأن يعيد الحسابات لهذه الأمة تحت ضوء الكتاب وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الأمر الذي ندبت نفسي له منذ سنوات قريبة . حينما التفت إلى الخلف تحت عوامل المرض والألم أخذتني الروح ، إنني أمسك بأطراف النهج منذ سنتين وأمامي عمل هو تفكيك السيرة وإثارة ساحتها للتعرّف على كل قضاياها ، صغيرها وكبيرها ، لأعود إلى عملية تنسيق وتجميع تؤدي إلى استخلاص القوانين التي وضعتها الحركة الإسلامية بالعمل كي لا يكون إنسان أمام اجتهاده الخاص ، بل يكون أمام القضية الإسلامية بالذات ، ولكي نحسم هذه المشكلة من جذورها ، ولكي نغطي على كل ارتباكات الماضي .(/2)
حين نظرت منذ سنتين وإلى الآن وأنا ما أزال في بدايات الطريق وقلت لكم أنا الآن في الخمسين من العمر أو قريباً من ذلك . ما زلنا بعد سنتين لم ندرس واحداً من الألف مما يقتضي أن يُدرس ، وإذا كنا نريد أن نستمر في الطريق وكما قلت أن المسألة مبناها على الحساب فنقول في كل جمعة ساعة فنحن نحتاج إلى ما تبقى من العمر يضاف إليه عدة أعمار أخرى فكان القرار هكذا ، تبديل ميدان بميدان ، أردت أن اُفرغ نفسي لعمل أشعر من صميم قلبي ووجداني أنني مطالب به عن قناعة ، وأردت أن أترك المنبر لمن يشاء أن يعتليه ، فهذه هي القضية لا أكثر ، ولمصلحة الأمة كما تبدّى لي . إلا أن الشيء المؤلم أن هذه القضية على بساطتها على الرغم أنني طلبت من الإخوة أن يفهموني ، ولكن لم يُفهم مني ذلك . وقيل شيء كثير ، وخلال الجمعة الماضية وما وليها من أيام سمعت أشياء كثيرة وعجبت لهذا الإنسان ، لماذا ؟ أنا قلت كلاماً ذكرته للإخوة على سبيل التعريف بمخاطر الطريق ، قلت إنني الآن رجل مسقام كثير الأمراض وأنني تعبت وخاصة في السنوات العشر الأخيرة ، وذكرت شيئاً مما سبب هذه الحالة .. المتاعب والآلام والاتهامات إلى آخره .. أردت أن يكون في ذهن كل أخ أن طريقنا ليس طريقاً مجاناً ولكنه مشحون بهذه الأشياء ، أشياء ليس فقط ترهق النفس وتؤذي المشاعر ولكن تزرع الداء في الجسد ، وفُسّرت الأمور على أمر غريب .
قيل أن خلافاً وقع بيني وبين إخوتي من الشباب ، وأنا لا أنفي الخلاف ولكن أنا أنفر من عدم الخلاف ، أنا أعتبر الانسجام المطلق قرين الموت ، وأعتبر الحياة هي التي تحفل بصراع العقول وصراع الإرادات ، ولكن هل الذي استنتجه الإخوة أو بعض الإخوة صحيح ، أحب أن يكون واضحاً من الآن ودائماً ، أن هذه الوجوه ووجوهاً أخرى لا أعرفها ممن يحملون لي الحب والتقدير والاحترام جزء من نفسي ، جزء من ذاتي ، جزء من كياني ، والله يعلم أن أولادي من صلبي ليس أغلى علي منهم ، إنه لا يمكن أن يكون بيني وبين إخوتي خلاف ، فليطمئن الناس جميعاً ، إننا دائماً نتعامل مع الناس وفاقاً لقانون الأخوّة وقانون المحبة ، وإذا كان هذا واجباً مع العدو فهو مع الصديق أوجب .
وقيل فيما قيل تهديداً من بعض الناس ، ولقد قلت أكثر من مرة إنني رجل لا ترهبه بوارق الوعيد والتهديد ، ومنذ عرفت السجود لله لم أعرف الانحناء إلا لله جل وعلا ، لقد عشت طيلة حياتي بفضل الله تعالى مرفوع الرأس بل شامخ الرأس متمتعاً بكل معاني الرجولة والثبات والصدق ، ومع ذلك فهذا لم يحصل .
وقيل فيما قيل أنني منعت من السلطة ، وأنا رجل لا أدّعي صداقة السلطة ، والسلطة لا تدّعي صداقتي ، ولكني في كل الأحوال رجل يكره الظلم كما يكره الظالمين ، فأشهد غير متحرّج أنه حتى في الأوقات العاصفة منذ سنوات حينما كانت كل جمعة تحمل معها أزمة وتحمل معها مواجهة عاصفة مع السلطة لم يفكر
أحد من عناصر السلطة أن يطلب إلي أن أتخلى عن الخطابة ، إن السلطة غير محتاجة إلى هذه الشهادة مني ، ولكني أقولها للأمانة لم يكن شيء من ذلك ، كل ما في الأمر أني أردت أن أتفرغ لعمل أشعر أنني مطالب به ، لكنني وجدت من الإخوة الأحباب بما لا أملك له رداّ ، وبما حملني على تفكير طويل ، بل بما حملني أعيش تناقضاً خطيراً ومؤسفاً . إن المظاهر التي رأيتها من الطوائف التي قابلتني عادت إلى ذهني سير الأولين ، أعادت إلى ذهني تلك الصور الوضيئة جداً من تلك الجماعة الأولى التي سمعت الوحي من ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتأثرت به وتفاعلت معه ، أعادت إلى ذهني تلك الصورة التي كان وصفها الأساسي أنها جماعة من المؤمنين تجد خيرها المشترك في الوحدة الجامعة على طريق يؤدي إلى الله تعالى . أعادت إلى ذهني ذلك المعنى الكبير الذي حفظ هذه الأمة في وجه جميع الزعازع هذه الوحدة التي علَت على الأجناس والألوان ورفضت عصبيات الأسر ورفضت عصبيات القبائل ، أعادت إلى ذهني تلك الصورة التي أشار إليها محمد عليه الصلاة والسلام حينما ذكر طوائف من الناس حينما يحشر الناس إلى الله على منابر من نور ما هم بالنبيين وما هم بالصديقين وما هم بالشهداء يحسدهم النبيون ويحسدهم الصديقون ويحسدهم الشهداء على مكانهم من الله جل وعلا ، وحين طلب الأصحاب من نبيهم عليه الصلاة والسلام أن يجليهم لهم وأن يصفهم لهم ، قال لهم : أناس من قبائل شتى أوزاع لا تجمعهم رابطة الدم ولا تجمعهم عواطف القبيلة ولكن يجمعهم حب الله تعالى . إن هذه الظواهر التي عشتها في الأسبوع الماضي أعادت إلى ذهني التي تجعل كل ذرة في الكيان تختلج شوقاً إلى الله وشوقاً إلى هذا البناء المعجز الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا .(/3)
إن الموقف عابر ولكن أسأل نفسي وأسألكم : هل المنعطفات الخطيرة في التاريخ البشري كانت مؤسسة كلها على العقل والعقلانية ؟ ألم يكن نصيب العاطفة بل العاطفة المتأججة هي الأرجح ؟ بلى ، فأنا من أجل هذا أخضع نزولاً عند سؤال صغير وجهته إلى نفسي ووجهه إلي العديد من الإخوة : هل الضرورة الآن تقتضي منا أن نؤلف وأن نكدّس الكتب أم أن الضرورة تتقاضانا أم نصنع الرجال ؟ لا شك أنه سؤال صغير ، ولكنه خطير ، الحقيقة أننا في هذه المرحلة بحاجة إلى هذه النماذج من الرجال .
وإذا كنت هدفت من كلامي الماضي أن أنصرف إلى التأليف ـ وقلت بصراحة ـ إنني بلغت أواخر العمر ولم أترك ورائي إلا هذه الأشرطة القليلة وأريد أن أكتب ، فإن هذا الكلام يتضمن لوناً بغيضاً من الأنانية ، إنني إذاً أطلب انتباذ الذكر ، وأطلب السمعة ولا أبالي ضحيت أم لم أبالِ باحتياج الأمة الراهنة ، من أجل هذا أقول أنا معكم ، وليدركنا الأجل على المنبر أو في مجلس الدرس ، لن أترككم ، سأعيش معكم ، وأموت بينكم إن شاء الله على هذا الدرب وفي هذا الطريق ، وغاية ما نتمناه أن يرضى الله تعالى عنا ، وأن يبارك الله تعالى مسعانا ، مع كلام بسيط ، كانت لنا مجالس ودروس مرتين في الأسبوع أرجو أن يعذرني الإخوة إذا قلت لكم إنني ـ صحياً ـ محتاج إلى شيء من الراحة لا تقل عن أسبوعين ، فأسألهم أن يخففوا عني هذا العبء ، وأعدهم إن أحيانا الله أن نعود إلى ما كنا عليه إن لم يكن إلى أكثر مما كنا عليه .
نمضي الآن في طريقنا ..
فرغنا في الجمعة الماضية من سورة البروج وهي السورة السادسة والعشرون في سياق التنزيل ، والآن نواجه السورة السابعة والعشرين ، والثامنة والعشرين ، والتاسعة والعشرين ، ( سورة التين وسورة قريش وسورة القارعة ) ولا تستغربوا حينما أقرن السور الثلاثة في حديث واحد وسأمرّ عليها مروراً سريعاً .
أما سورة التين فتمضي هكذا : ( والتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ، فما يكذبك بعد بالدين ، أليس الله بأحكم الحاكمين ) هذه السورة سمعتموها مراراً وسأشير فقط إلى إشارات وجيزة لبعض المعاني البارزة التي تتضمنها هذه السورة .
أما قول الله جل اسمه ( والتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ) فقد اختلف تراجمة القرآن في تفسير معناها ، فذهب ذاهبون إلى أن المراد بالتين والزيتون هاتان الثمرتان المعروفتان ، وذهب ذاهبون إلى غير ذلك ، وعندنا أن النص على التين والزيتون المراد به هاتين الثمرتين شيء لا يتناسب مع جلال الموقف ، وإن كان كثير من المفسرين أن المراد هو هذا بداعي أن القول بغير هذا الكلام ذهاب إلى المجاز ، ولا يُعدل عن الحقيقة إلا بدليل راجح ولا دليل هنا ، والذين حاولوا التأويل قالوا إن في قول الله ( والتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ) إشارة إلى المراحل الأربعة التي مرّ بها هذا الركب البشري .. ففي التوراة التي أُنزلت على موسى عليه السلام ما يشير إلى أن الله جل وعلا حين خلق آدم واشتقّ من ضلعه زوجه حواء ليسكن إليها كان يجلسان في الجنة تحت شجرة التين ، وحين أكلا ما نهاهما الله تعالى عن قربانه فبدأت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان من ورق الجنة ، وكان هذا الورق هو ورق التين ، فقوله تعالى ( والتين ) إشارة إلى تلك المرحلة التي سلخها الإنسان في الجنة في مبدأ الخلق ، وأما قوله ( والزيتون ) فإشارة إلى ما كان بعد الاهباط من الجنة إلى الأرض وما كان بالتحديد على زمن نوح صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أول الرسل من أولي العزم ، فالذي ينبغي أن يكون معلوماً أن الله جل وعلا حين أمر نوحاً عليه السلام بأن يصنع الفلك وأن يحمل فيه من كلٍ زوجين اثنين وأن يرفض دخول الفاسقين والمارقين في هذا الفلك أمر الله جل وعلا السماء أن ترسل الماء مدراراً وأمر الأرض أن تتفجر عيوناً فكان الطوفان ، ومضت السفينة بنوح ومن معه مدةً الله أعلم بها وغشى الماء كل الأرض وطال الزمان فأراد نوح عليه السلام أن يعلم هل عادت الحياة إلى الأرض أم مازال أديمها مغطى بالماء فأرسل حمامة ترود الآفاق فعادت الحمامة تحمل في منقارها وريقات من شجرة الزيتون فعلم نوح عليه السلام أن الأرض عادت لها الحياة فنزل بالسفينة حتى استوت على الجودي ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ) فقوله ( والزيتون ) إشارة إلى هذه المرحلة الثانية من مراحل الوجود البشري وهي مرحلة تتمتع بخطورة خاصة .
وأما قوله ( وطور سينين ) فطور سينين هو جبل سيناء وهو المكان الذي تجلى فيه الله جل وعلا لموسى عليه السلام حين أنزل عليه الألواح وأعطاه الشرائع التي أمر بني إسرائيل أن يأخذوا بها .(/4)
وأما قوله ( وهذا البلد الأمين ) فبإجماع الناس جميعاً أن البلد الأمين هو مكة مسقط رأس محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأن الذين ذهبوا هذا المذهب في التأويل لاحظوا أن المواقف الأربعة في حياة البشرية مراحل ذات صفة خاصة أي أنها تشكل مراحل حاسمة في تاريخ البشرية من أجل هذا استحقت أن يقسم بها الله جل وعلا على ما يلي من ما ذكر في السورة الكريمة . لكننا في الحق لا نملك دليلاً يسمح لنا بأن نذهب هذا المذهب ، غاية ما نستطيع أن نقوله ظناً والله أعلم أن في قول الله جل وعلا ( والتين والزيتون ) إشارة إلى المكان الذي تنبت فيه هاتان الشجرتان وهو مهد مولد المسيح عليه الصلاة والسلام من أرض فلسطين هذه الأرض التي يجري التآمر عليها الآن من قبل أهلها ومن قبل أعدائها على السواء . وأما قوله جل وعلا ( وطور سينين ) إشارة إلى الديانة الموسمية اليهودية التي حملها موسى إلى الناس . وأن قول الله جل وعلا ( وهذا البلد الأمين ) إشارة إلى رسالة محمد ، ومن البيّن أن الرسائل الثلاثة هذه ( اليهودية والنصرانية والإسلام )هي الأديان الثلاثة الكبرى وذات الطابع الكلي الشمولي المعروفة في التاريخ البشري عموماً .
فمن هنا كان معقولاً أن يجري القسم بها وكان غير معقول أن يكون القسم بثمرة التين أو بثمرة الزيتون ، لونان من ألوان الفاكهة تزدحم الأرض بما هو أطيب منهما طعماً وأكثر شهية . ما الذي أقسم الله جل وعلا بها عليه ؟ هو أن الله جلا وعلا خلق الإنسان في أحسن تقويم وهنا ولكي لا يزل قارئ التفسير وقارئ القرآن أقول : إن كثيرين من المفسرين عليهم رحمة الله جل وعلا أخذوا الإنسان بمعناه الضيق ، فمن أجل ذلك قالوا إن الله أشار بذلك إلى إبداء خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين أي أنه نشأ نشأة حسنة ، شيء جميل ومسوى وعظيم ، ولكنه يُردّ إلى أرذل العمر ، يرد إلى حيث يكون إنساناً مخرّفاً بعد أن كان عاقلاً لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً ، يرد إلى أن يكون إنساناً يتحكم فيه الهزال والمرض بعد أن كان يتفجر قوة ونشاطاً وحيوية ، يردّ إلى أن يكون جيفة تركتها الحياة يرفضها أقرب الناس إليها . وهذا مدلول ( أسفل سافلين ) لكن لو أردنا أن نعتمد كلاماً من هذا القبيل لوجدنا أنفسنا نصطدم بما بعد ذلك مباشرة وهو قول الله تعالى ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ومعلوم أن ( إلا ) أداة من أدوات الاستثناء بل هي أم هذه الأدوات وأن الاستثناء هو إخراج شيء من الجملة لإفرادها بحكم خاص بها غير الحكم الذي يترتب عليه ، فإذا قلنا إن حال الإنسان كهذا فهل المؤمنون ينفردون بشيء غير هذا ؟ هل المؤمن لا يجري عليه ما يجري على الكافر من هذه الظواهر المادية ؟ ألا يشيخ المؤمن ؟ ألا يشيب المؤمن ؟ ألا يهرم ويخرف المؤمن ؟ ألا يموت المؤمن ؟ ألا تجيّف جثة المؤمن ؟ بلى ، إن المؤمن وغير المؤمن من حيث قوانين المادة ومن حيث قوانين الفيزيائية سواء . وإذاً فلا بد أن نلتمس معنى ، وفي تقديري أننا حينما نجعل السورة أمام منظارنا فسوف نرى أن الله سبحانه وتعالى أشار بهذه السورة إلى طوائف لا تحصى من هذا الإنسان ، والإنسان هنا لفظ جنس ، يتناول البشرية بمجموعها في غابرها وفي حاضرها وفي مستقبلها ، هذه الطوائف ترى أن التاريخ البشري سير في طريق مجهول البداية كما هو مجهول النهاية ، فمن أجل ذلك كانت هذه الطوائف من البشر من الناس أناسي ينبت في الساحة البشرية كما ينبت النبات الشيطاني لا هدف له ولا غاية ولا شيء جميل يتمسك به الإنسان وإنهم يمثلون الضيعة والفراغ وعدم الجدوى . والله تعالى يريد أن تعرف البشرية أن تاريخها أو الإنسانية ليست ضرباً في طريق من هذا القبيل ، فالبداية معلومة والنهاية معلومة ، وللإنسانية غاية هي التي يجب على الإنسانية أن تكدح لكي تصل إليها ( يا أيها الإنسان إن كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) يا أيها الناس إن لكم غاية فانتبهوا إلى غايتكم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن هذا تعتدل وتنبثق الجماعة الإسلامية ولا تكون هذه الجماعة كهذه الطوائف المتكاثرة من الناس التي رفضت الاعتراف على أن الكون صادر عن الله جل وعلا ، مخلوق من الله جل وعلا ، فوقعت في عقد والتواءات نفسية وفكرية وعملية لا تعرف كيف تتخلص منها ولا تعتقد كما تعتقد هذه الطوائف المتكاثرة من الناس أن البشرية تجري بلا هدف ولا غاية ( نموت ونحيا وما يُهلكنا إلا الدهر ) كما قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام قبل ألف وأربعمائة عام وكما يقول الماركسيون اليوم أن الإنسان يولد ويموت بدفعة الحياة ، ويولد وبقانون الموت يموت ولا شيء وراء ذلك ، فلا يعود إلى بعث ولا إلى نشور ولا يُجزى بأعماله ، وكما يقول الوجوديون والمتحللون من كل الملل .(/5)
إن الله جل وعلا ميّز في هذه السورة بين طائفتين من الناس ، طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين ، فالكافرون لا يعرفون مبدأً ولا معاداً ، فمن أجل ذلك كانت حياتهم منتكسة إلى أسفل سافلين ، ومن شاء الدليل على ذلك فلا عليه أكثر من أن ينظر إلى ما يمور به الواقع الإنساني في هذه الأيام ، هذه الحروب والمؤامرات الرهيبة ، هذا الكذب المستعلن ، هذا الصدق المطارد ، هذا الكفر البواح ، وهذا الإيمان المعزول ، كيف يمكن أن يحصل هذا إلا في ظل قيم لإنسان كما ذكر الله يسير في طريق مجهول البداية ومجهول النهاية ويؤدي إلى ضيعة لا ريب فيها .
إن الدليل على ما وصف الله به مسيرة الإنسانية من أنها ترتدّ إلى أسفل سافلين قائم في عصرنا الذي نعيش فيه ، وتبارك الله الذي قال ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق ) لقد ظهرت آية الله الآن في عصرنا هذا الذي كفر بالله ورفض أن يتخذ منه رباً وكفر بالمعاد إليه ، فكانت حياة الناس اليوم مأساة ، بل هي كارثة وتقف على شفا الترهيب ، ضغطة بسيطة على زر صغير من مجهول مأفون تؤدي إلى دمار البشرية بكاملها . ذلك هو المصير الذي يؤدي إليه الكفر والضلال . ولكن المصير الذي يؤدي إليه الإيمان هو السعادة .. فمن ذلك استقام مكان الاستثناء في سياق الآية ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فالذين آمنوا بالله جل وعلا رباً وخالقاً عارفين بالبداية التي صدروا عنها وعملوا الصالحات في هذه الدنيا وهي جملة الأوامر بأن تؤتى وجملة النواهي أن يُكفّ عنها ، هؤلاء فقط هم الذين يصلحون لعمارة الدنيا وقيادة الركب البشري .
فنحن إذاً أمام تيارين حضاريين ، ولسنا أمام نموذجين ماديين ، أحدهما يقود إلى الدمار والثاني يقود إلى السعادة والازدهار .. هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم عند الله أجر غير ممنون ، يعني غير مقطوع ، لأن ( منّ ) من جملة معانيها ( قطع ) تقول : مننت الحبل إذا قطعته ، فالأجر الموعود به هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجر دائم ، إنك مهما تسن في هذه الدنيا من سنة صالحة فأجرك عليها باقٍ ودائم لا ينقطع بموتك ، ألم تسمع نبيك عليه الصلاة والسلام وهو يقول : من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن يُنتقص من أجورهم شيء . إن أجرك باقٍ عند الله جل وعلا .
ثم بعد ، ما يكذبك بالدين ؟ ما الذي يجعلك يا أيها الإنسان تكذب بيوم الحساب ، وهذه مشكلة خطيرة كما سيأتي عندا بعد قليل ، ما الذي يكذبك بذلك ؟ أليس الله بأحكم الحاكمين ؟ إن كنت تقر بأنك مخلوق من قبل الله وأن الله هو الخالق فالمفروض بأن الخالق أن يكون حكيماً وإذا أعوزك الدليل العقلي على اتصاف الخالق بالحكمة فانظر في نفسك وفي الآفاق تجد أن هذا النظام البديع والنسق المعجز لا يمكن أن يصدر إلا عن إله حكيم غاية الحكمة ، فهل من الحكمة أن يخبص الإنسان في هذه الدنيا أو يظلم وأن يسرق وأن يزني وأن يفجر وما إلى ذلك .. ؟ ثم يمضي موفوراً . هل من حكمة الخالق أن يُترك المجرم ليفلت بجرائمه ؟ أم من حكمة الخالق أن ينال المحسن ثواب إحسانه وأن ينال المسيء جزاء إساءته ؟ إن الحكمة في معناها اللغوي والوضع العربي هي وضع الشيء في مكانه ، ووضع كل شيء في مكانه يقتضي أن ينال كل إنسان ما يستحقه من جزاء خيراً كان أو شراً .
فإذا كان الأمر كذلك فلا بد خضوعاً لناموس الحكمة من يوم تشخص فيه الأبصار ويقوم الناس فيه لرب العالمين وتنصب الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً ويثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته .
فإذا تركنا السورة هذه وذهبنا إلى سورة قريش ، فسورة قريش يخيّل إلي أنني تحدثت عنها من قبل ولو من بعض الوجوه ، حينما كنت أتحدث عن سورة الفيل ، لكني سأقول إن السورة تبدأ هكذا ( لإيلاف قريش ، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) مدار على واقعة تاريخية اجتماعية معروفة لدى الجاهليين ، وهو هذه الرحلة بين مكة واليمن شتاءً ، ومكة والشام صيفاً ، والتي ألفتها قريش ، والإيلاف هي الإبل ، فتذهب غادية وجائية ، متمتعة بالأمن . كل ماشٍ في الصحراء معرض للسلب والنهب والقتل إلا قطان الحرم إلا أهل مكة إلا قريش ، فحيثما مشوا آخذين باتجاه الجنوب إلى اليمن ، أو إلى الشمال إلى الشام ، حيثما أقاموا وحيثما حلوا فهم موضع الإعزاز وموضع التكريم بين قبائل العرب جميعاً .(/6)
أذلك لأن الدم الذي يجري في عروق القرشيين غير الدم الذي يجري في عروق بقية القبائل العربية ؟ لا ، ولكن لأن القرشيين هم جيران الله جل وعلا ، فمكانتهم ومنزلتهم والاحترام المقدور لهم بين الناس ناشئ عن البيت ، هذا البيت الذي يجاوروه ويعرفون بناءه منذ إبراهيم أبيهم عليه الصلاة والسلام ، ويعرفون أن إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت وطهراه للقائمين والطائفين والعاكفين والركع السجود ، ثم هم يلحدون فيه ، ويكفرون برب هذا البيت الذي أمرهم إبراهيم وإسماعيل أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .. وهي تذكرة سبقتها تذكرة أخرى ، وهي التي في سورة الفيل ، حينما حبس الله الفيل عن مكة وأنجاها من التخريب ، بل حينما بطش الله تعالى بجيش أبرهة البطشة الكبرى .
شيء من التاريخ أريد أن ألمح به تلميحاً يتعلّق بالبيت ، وموضوع البيت تكرر ذكره في القرآن الكريم مراراً كثيراً ، تكرر ذكره في معرض الدفع عنه حين ردّ الله أبرهة وجيش الحبشة ، وتكرر ذكره في معرض المنة على القرشيين في إيلافهم لهاتين الرحلتين آمنين موفورين ، وتكرر ذكره حينما قال ربنا جل وعلا ( أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) بل حتى في المرحلة المدنية تكرر ذكر البيت عدداً من المرات وحسبنا أن نشير إلى الآية الكريمة التي ذكرها الله في سورة البقرة ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) إن الرابط بين هذا الدين وبين هذا البيت رابطة غير قابلة للفصل ، بل إن البيت آخر مظهر من مظاهر هذا الإسلام .. ففي أحاديث الفتون وما يجري في آخر الزمان وعند اقتراب الساعة ذكر لرجل أُحيمش الساقين يغزو البيت فينقضه حجراً حجراً ، ويكون تهديم البيت ونقضه آيات على اقتراب الساعة .
والله جل وعلا حين أشار إلى هذه البيت في هذه الآية لفت نظر ما نحن المتأخرين على الأقل إلى أن ننظر إلى القضية نظراً أعمق .
نحن نعرف أن العرب وليس فقط عرب اليوم ، هم الذين يتآمرون على قضاياهم وليس فقط عرب اليوم هم الذين يساعدون أعداءهم على أنفسهم ، نحن نعرف أن العرب في الجاهلية كانوا يركبون هذا المركب الخشن والمعيب ، كانت في جنوب الجزيرة طوائف من النصارى تحدثنا عنهم من قبل ، هم النصارى في نجران ، ومن قبل هاجمت الحبشة اليمن واحتلتها ، وقادت الحبشة الجيش لتهدم البيت فردّها الله جل وعلا ، وعلى مر التاريخ فإن البيت كان موضعاً ومحلاً للمؤامرات المستمرة ، فأريد أن ألفت نظركم إلى مرحلة من مراحل تاريخ هذا البيت ، أنتم تقرأون آية المباهلة في سورة آل عمران ، حينما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل أو يلاعن الوفد النجراني الذي جاءه في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة ( تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ففيما يتعلق بالأمور التاريخية ليس لدينا تاريخ مضبوط على النحو الذي يسمح لنا بالحكم القاطع على الأشياء ، ولكن أختار رواية تكشف لكم عن ما أحاط بالبيت من مؤامرات .
إن المفهوم السائد عن الوفد النجراني أنه وفد جاء يطلب الموادعة ولكن الروايات المفصلة تقول لنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استتب له أمر الجزيرة العربية أو كاد فبادر بعض الأصحاب إلى النصارى في نجران فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا أشك في هذه الرواية وأقول إن الوفد جاء من نفسه دون طلب من الرسول عليه الصلاة والسلام ، ودون مبادرة من أحد من الأصحاب ، وفي الروايات التفصيلية أنه حينما جرى التفكير بإرسال وفد إلى المدينة يتعرف على حقيقة الدعوة وعلى شخص الداعي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ثار جدل طويل ، وقام من بين النجرانيين من يدعو إلى ضرورة تشكيل حلف يتكون من بيزنطة التي هي دولة الروم ، لاحظوا التاريخ يكاد يعيد نفسه ، ومن إمارة الغساسنة في جنوب الشام وهم نصارى ، ومن إمارة المناذرة في الحيرة وهم نصارى أيضاً ، ومن الممالك الإفريقية الخمسة التي كانت معروفة في ذلك الزمان وهي الحبشة وعلوة وزواو والنوبة ومريسة ، ومن النصارى النجرانيين ، وهؤلاء كلهم نصارى على مذهب الملكانية ، أي أنهم يدينون بالطاعة والولاء للمذهب النصراني الرسمي السائد في الدولة البيزنطية .
وأن الغرض من هذا الحلف هو الهجوم على المدينة واجتثاث الدعوة ، ثم تدمير الكعبة باعتبارها الرمز الذي يشد المؤمنين إليها جميعاً . إلا أن أصواتاً عالية ذكّرت النجرانيين بأن سفر الجامعة في العهد القديم فيه بشارة صريحة بالنسية أي المخلص ، بنبي يأتي من بعد موسى اسمه أحمد ، بنبي يأتي من بعد عيسى اسمه أحمد أو محمد ، فارعوى الناس وذهب الوفد ، على الأقل جاء ليختبر قوة الخصم على الطبيعة ، وحين اكتشف الوفد ذلك عاد بعد أن رضي بالموادعة وقبل أداء الجزية .(/7)
هذه القضية سأعرض لها إن شاء الله إذا أحياني الله وفاقاً للنظر التاريخي العلمي الصارم لكي يُعرف أن الشيء الذي قيل ويقال اليوم إن باب السيطرة على العالم الإسلامي يعتمد على شيئين : محو القرآن أولاً وهدم الكعبة ثانياً . فما دام القرآن موجوداً يقرأه المسلمون وما دام الكعبة موجودة في مكة تشد إليها أبصار المؤمنين وتشعل جذوة الحماس في نفوسهم فلا سبيل للسيطرة على العالم الإسلامي . إنها كما ترون معزوفة قديمة ، ويعاد اليوم العزف عليها ولكن مع اختلاف في الأوكسترا ، إن الممثلين والعازفين اليوم من المسلمين بالذات ، في الماضي كانوا نصارى ولا بأس ، ونحن بلغ بنا التمرد على الله أن نؤخر النصارى ونضعهم وراء ظهورنا لكي نقوم نحن بأيدينا بتنفيذ أغراض النصارى وتنفيذ أغراض اليهود . شيء مؤسف أليس كذلك ؟ ولكن هذه هي المسألة ، بكل عريها وبكل خزيها وبكل عارها ، مسألة قديمة يعاد تنفيذها اليوم .
فإذا تركنا سورة قريش وتذكيره إياهم بهذه النعمة السابغة وهي نعمة ينبغي أن يذكرها المسلمون اليوم .. وجئنا إلى القارعة فهي : ( القارعة ، ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة ) للتهويل ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) ولاحظوا التعبير اللطيف المعجز ، يوم القيامة يكون الناس كالفراش المبثوث ، فيه إشارة لطيفة بعيدة نوعاً ما ، حينما تشعل ناراً ، ما الذي يدور حول النار ؟ الفراش ، في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت هذه الهوام والفراش تتهافت فيها ، أي تنكب على النار ، فأنتم تتهافتون في النار وأنا آخذ بحجزكم ، يعني أمسك بكم من أوساطكم لكي لا تتهافتوا في النار ، إن التعبير ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) يشير إلى أن الناس بخطاياهم يحومون حول النار ويوشكون أن يتساقطون فيها .
( وتكون الجبال ) وهي أرسى شيء وأقوى شيء ( كالعهن المنفوش ) وفيها أيضاً إشارة لطيفة وبعيدة نوعاً ما ، والعهن هو الصوف ، والصوف عادة تتماسك شعيراته وإلا فلا فائدة فيه ، ولكنك حينما تعطيه للنداف فينفشه فتنحل هذه الشعيرات حتى يوشك أن تكون كل شعيرة ذاتاً قائمة على حيالها ، فكذلك الناس يوم القيامة ( كالعهن المنفوش ) تتفكك كل ذرة عن أختها وهنا إشارة إلى أن أحداً لا يعرف أحداً يوم القيامة ، ( لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) لكن من ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفّت موازينه فأولئك هم الخاسرون ، والناس يرفضون أو تذهب عليهم كل العلائق التي كانوا يعيشون عليها في الدنيا ليقف كل إنسان بمفرده أمام المصير والحساب والثواب والعقاب ..
( فأما من ثقلت موازينه ، فهو في عيشة راضية ) هناك مصير في الخلود والنعيم الأبدي ( وأما من خفت موازينه ، فأمه هاوية ) يعني جهنم يهوي فيها إلى قعرها ( وما أدراك ما هيه ، نار حامية ) .. بلا شعور مني بأن أستفيض في شرح هذه المسألة أقول إن السورة تثير موضوعاً من أخطر الموضوعات التي واجهتها الدعوة هو صدق وأحقية يوم الآخر ، إن الإنسان المسلم المفتاح الذي يضبط شخصيته ويحدد له أهدافه إيمانه بالمصير والمنقلب إلى الله ، إيمانه باليوم الآخر ، ومن كان لا يؤمن باليوم الآخر إيماناً راسخاً ثابتاً فلا خير فيه .
وهذه القضية سوف تقابلنا بعد الآن ، لأن المكيين أثاروا حولها جدلاً طويلاً وغباراً كثيفاً ، وتولى القرآن الردّ ، وتولى الكشف والبيان .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين ..(/8)
تفسير سورة ص )
الجمعة 30 ذي القعدة 1397 / 11 تشرين الثاني 1977
( 1 من 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة القمر ولمّا نكد ، وكل سورة بل كل آية من آي الذكر الحكيم تتطلب من المؤمنين المزيد من الإمعان والتدبّر ، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا أن نبذل قصارى ما في جهدنا من الفهم عن الله جل وعلا ، نعنى ما أراد في محكم تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وها نحن الآن نستقبل السورة السابعة والثلاثين في سياق التنزيل وهي سورة ( ص ) وعدد آياتها ثمان وثمانون آية ، وهي مكية بالإجماع ولعلها تكون من بواكير ما نزل من كتاب الله تعالى في المرحلة المكية بحيث تنتمي كما تكشف عن ذلك موحياتها وإشاراتها إلى نفس المنظور الزمني الذي حددناه للحديث عنها .
وطبعاً ككل سورة من السور التي تبلغ حداً معيناً من الطول وتنوع الأغراض فإن من غير الحكمة أن يصار إلى استعراضها مرة واحدة ، لأن ذلك فوق الطاقة ، ولو أن أحداً أطاقه لجنى دون ريب على جملة القضايا التي عرضت لها السورة الكريمة والتي ينبغي للمسلمين اليوم أن يتعرفوا عليها تعرفاً واضحاً ومستقيماً .
قبل هذا لا بد أن نعيد إلى أذهان الإخوة ما يساعد على فهم الجواء التي تحركت فيها آيات هذه السورة الكريمة ، فالدعوة وحتى الآن بل وحتى الوقت الذي نزلت فيه سورة ( ص ) مرت بمراحل يشبه أن تكون قابلة للتمييز ، ففي بداية الدعوة كان الاستنكار والاستغراب المصحوبان بعدم المبالاة والاستهجان والاستخفاف ، كشأن الناس مع كل جديد يلقى إليهم ويصافح أسماعهم ، ثم لما تبيّن للمشركين إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على الوقوف مع كلمات ربه كان بعد موقف الاستكبار والاستعلاء ومحاولة الصدّ بالقوة أو بالزجر على اعتبار ـ وهذا أيضاً يتساوق مع طبائع الأمور وسنن الاجتماع ـ على اعتبار أن الجهة الأقوى لا ترى ضرورة ماسة إلى استعمال ما هو أعنف إذا كان ما هو أخف منه يقوم مقامه ، وعهدنا دائماً في كل مجتمع من المجتمعات أن الطبقات العليا ومن بيدهم أزمّة الأمور يرون الدعوات الوليدة شيئاً لا يتقاضاهم أكثر من التجهّم والاستنكار ، ولكن الدعوة تمضي والمؤمنون يزدادون عدداً والناس يفتحون آذانهم لهذا الكلام المعجز الذي يتلوه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم مما لا عهد لهم بمثله حتى إنهم وهم الخصوم الألداء وقادة الكفر ورؤوس الشرك لم يقدروا على أن يمنعوا أنفسهم من أن يتسللوا لواذاً تحت جنح الليل لينصتوا إلى قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلاته في جوف الليل .
فكان بعض العدوان ، وانصب العدوان في معظمه على المستضعفين ، ورافقت ذلك حملة دعاوى استهدفت صدّ الناس عن الاستماع للذكر ، حتى إنهم ليأخذون أفواه الطرق وسكك مكة كي يبلغوا الوافدين عليها من القبائل أن لا يلقوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يستمعوا إليه ، لأنه يقول كلاماً يشكل خطراً على كيان الأمة وعلى كيان الأفراد والأسر جميعاً فكانت قالتهم المشهورة إنه جاء بسحر يفرق به بين المرء وزوجه ، وبين الرجل وولده ، وبين الولد وأبيه ، ولكنها ألاعيب صبية وحيلة عاجزين . فالمسألة هي خلاف كل ما جرّب الناس من قبل ، ليست نزوة فرد ولا شهوة طامع ، ولا شره إنسان تتحلّب أشداقه على ما عند الناس ، وإنما هو كلام الله ودعوة الله تعالى إلى الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
وإذاً فالعرب المكيون وُوجهوا بشيء لا يملكون معه حيلة ، كما لا يملكون له رداً ولا يطيقون له دفعاً ، فما الذي يكون ؟ إن الذي يقضي به طبائع المجتمعات وسننها وقوانينها أنك لا تستطيع أبداً وبصورة مستمرة أن تبقى على وتيرة واحدة في الحرب والنضال ، لا بد من تنويع الأسلحة ، ومع تنويع الأسلحة والمستويات التي تقاتل عليها فأنت خلال ذلك ولأجل أن تحمي من حولك ممن هم على مشربك وعلى منهجك أنت مضطر لأن تنظر إلى هذا الشيء الذي يقال ، من هنا ومنذ عدد من السور قلت لكم إن المشركين استنفذوا على الأقل مؤقتاً بعض الطاقة على رعونة المجابهة ، على لا عقلانية المجابهة ، على المجابهة الفاشلة ، ووجدوا أنفسهم في مواجهة أمور وقضايا لا تفلح فيها سفاهة السفهاء ولا تجدي في ردها اختلاقات الأكاذيب ، ولا بد من مواجهتها ، ولا بد من النظر فيها ، وإذاً فقد أصبحت آيات الله جل وعلا منذ ذلك الحين تأخذ منحى آخر يواجه أموراً جدية وبالغة الخطورة .(/1)
تعلمون أن الإسلام دين التوحيد ، ودين التوحيد كلمة تقال اليوم بين قوم لا يدركون أبعادها ولا يحسون خطرها ولا يشعرون ولا يتصورون الآثار الهائلة التي تترتب عليها ، لأنهم ألفوا منذ وُلدوا ومع لبن أمهاتهم أن يعرفوا أن الإسلام دين التوحيد ، لكن هذه القضية حين عُرضت لأول مرة في جنبات مكة في أم القرى بين قوم تتعدد آلهتهم وتتكاثر معبوداتهم ، وفي مجتمع إنساني من أقصاه إلى أقصاه يستغرب كلمة التوحيد كانت قضيةً بالغة الضخامة شديدة الخطورة ، فجاءت آيات الله جل وعلا تنافح ، مما يوحي أن طرح القضية بهذا الشكل أثار لدى المكيين ولدى غير المكيين ممن يهتمون بقضية الدين عموماً جدلاً كبيراً ، فانصبّت آيات الله جل وعلا تركّز الكلام حول نقطتين أساسيتين ، أولى النقطتين أن أيسر النظر وأهون الفكر وأقل تطلع إلى النفس وإلى الآفاق وملاحظة إلى النظام والانسجام وتبيّنٍ لمواقف اللطف والعناية الإلهيتين يوحي ذلك كله بالقصدية المحتّمة في هذا الكون .
والنتيجة التي تنبني على هذا الكلام أن الكون لم يُخلَق عبثاً ، في الوقت الذي يستحيل أن يوجد من غير موجد ، وهذه قضية أولية وأساسية ورئيسية ، لكن المشكلة مشكلة الألوهية التي لا تنحل عند هذا الحد ، فقد رأيتم في سورة ( ق ) وقبلها بقليل وبعدها بقليل أن آيات الله جل وعلا جاءت لتسبغ على قضية الألوهية أوصافاً معينة . إن الذهن البشري في دلالته المزمنة وخبله الدائم كان له تصور ، أن هؤلاء الناس شيء كثير ليسوا مفرداً ، نحن هنا أمة تجاورنا أمم ، وهذه الأمم تجاورها أمم أخرى ، ومن قبلنا أمم مضت وقبلهم أمم مضت في آزال لا يعلمها إلا الله تعالى ، ومن بعد فالأرحام تدفع والأرض تبلع ، وإذاً فثمة أجيال يستعد الوجود لاستقبالها ، ما عددها ؟ ما كثافتها ؟ الله أعلم بذلك . وأيضاً فنحن كوكب صغير في زاوية لا يكاد يؤبه لها من هذا الكون ، شظية من شظايا هذا الكون جهّزها الله تعالى لسكنى آدم وذريته ، وأياً ما كان فكون الله تعالى أوسع من كوننا وأعرض من كوننا ، وما يدرينا لعل لله مخلوقات من جنسنا أو من غير جنسنا تكون في كواكب أخرى وعوالم ، هنا يبدأ الإشكال في الذهن البشري المخبّل : هل يمكن ويستقيم عقلاً أن يكون لكل هذه الخلائق الضاربة في الأزل والموغلة في الأبد إله واحد يسمع شكاة الجميع ويأذن لرغبة الجميع ويستجيب لدعوة الجميع في آنٍ واحد ؟ تلك ربما تكون نقيضة أكبر من أن يستوعبها ذهن الإنسان وهو يتخبّط في خبله المادي المشدود إلى قيمة الأرض . من هنا جاءت لوثة التعدد وجاءت لوثة الشرك ، فلكي نقرر أن هذا الكون مخلوق لخالق ومربوب لرب فلا بد إذاً أن يكون أرباب متعددة ، كيف نوزع في حياتنا البشرية المهام والمسؤوليات والاختصاصات على المسؤولين عنها وعلى المنوط بهم إدارتها ونفاذها ، كذلك ينبغي أن يكون في هذه المقايسة العرجاء شأن الملأ الأعلى ، لا بد أن تكون ثمة آلهة ، لكل آلهة اختصاص وهو يفصل ويقضي في اختصاصه ، فجاءت قضية الشرك وتعدد الآلهة من هنا ، وقاتل الإسلام في هذا الباب قتالاً راشداً ولكنه مجيد ، لكي ينفي عن ذهن البشر هذه اللوثة ، وهو أن الإله الذي صدرت عنه هذه الموجودات لا يشذ عن علمه ، ولا تخرج عن شطآنه ، ولا مناص من أن تبقى تحت قهره ، وتحت سيطرته .
فآيات القرآن التي جاءت أولاً والتي مضى قسم كبير منها وبقي ما هو أكبر وأخطر جاءت تلفت الناس إلى هذه القضية بشعبتيها ، قضية ضرورة وجود الخالق الذي صدرت عنه الموجودات ووحدانية هذا الخالق ( قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، فلا يستقيم في الذهن السوي وفي العقل المستقيم أن تتعدد الإرادات إلا في كون لا يجري على نسق مضبوط . وأما في كون منذ أن وعى الإنسان وأدرك يمشي بنظام لا يحيد شعرة ولا يستأخر لحظة ولا يستقدم لحظة فمن النقائض التي لا تستقيم في عقل عاقل أن يكون هناك أكثر من إله ، لأن تنازع الاختصاص يؤدي إلى خلل في النظام هو الفوضى التي تدمّر الكون وتأتي على كل ما فيه . وما دمنا نرى كل ما في الكون على أبدع ما يكون من النسق والانتظام فلا بد ضرورة من أن نقرّ بمبدأ التوحيد . هذه واحدة .(/2)
الثانية أن المشركين بدأوا ينظرون إلى قضية ذات شعبتين أيضاً مضى الحديث عنهما قبل هذه السورة ، وجاءت تعقيبات القرآن تترا في هذا المجال ، لا بأس أن نقول أن الكون موجود عن موجد وأن هذا الموجد واحد لا شريك له ، لكن لماذا يكون الرسول بشراً من الناس ؟ ولماذا لا يكون ملكاً من الملائكة ؟ أليس لو كان ملكاً أليس ذلك أدعى لأن يكون أهيب لسلطانه وأكثر حملاً للناس على الإصاخة لقوله واتباع أمره ؟ فردّ الله تعالى عليهم هذه النقيضة ، وأبان لهم أن رسالة الله إلى الناس يُقصد منها الفهم والإفهام ، والفهم والإفهام يستحيلان إلا مع اتحاد الجنس ، ولو أن الله أجاب المتسائلين المتشككين إلى طلبهم لكان ضرورة الإفهام قاضية أن يرسل الله ملكاً في صورة رجل ، وإذاً فقد عدنا إلى بداية الأمر وبداية الإشكال ، وهذا ما ترجم الله عنه بقوله ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي عدنا إلى بداية النقيضة التي استشكلوها ، وكذلك ليكن رجلاً ، فلماذا يكون من أوساط الناس ؟ ولماذا لا يكون من الزعماء الذين عُرفوا بقيادة المعارك ، أي الذين عُرفوا بالبسطة في الجاه والسلطان ، أو من الذين عُرفوا بكثرة المال والثراء ؟ ولماذا يُختار لها إنسان ليس من هذه الأبواب لا من قليل ولا من كثير ؟ ويردّ الله تعالى عليهم ، انظر أيها الإنسان إلى مجتمعك الذي تعيش فيه ، ذكر وأنثى ، صغير وكبير ، أسود وأبيض ، جاهل ومتعلم ، غني وفقير ، ألك يدان في صنع هذه الفوارق ؟ أم الله جلت قدرته هو الذي قضى أن يكون الأمر بهذا الشكل ؟ وإذاً فالمسألة مسألة إرسال الرسول بعينه فلان من القوم الفلانيين مسألة اختصاص نابعة ومؤسسة على مطلق الملك الذي هو لله جل وعلا ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون ) فقُضي على هذا ، ولكن الأمر أخذ بُعداً آخر وطُرحت مشكلة أخرى ، لا بأس لنسلّم بكل هذا الذي قيل حتى الآن ، وماذا علينا لو قلنا إننا نريد أن نقيم حياتنا على هذا الأساس ؟ حياتنا الدنيا ، هل رضي القرآن منهم بذلك ؟ لا ، ولكنه أخبرهم أن القصدية التي هي أساس الوجود عاملة في نهاية هذا الوجود ، يعني أن الله تعالى حين خلق الخلق وبثّهم على ظهر هذا الكوكب فمن أجل أن يوحدوه ويعبدوه ولكي ينتهوا إلى أمره وإلى نهيه .
ومعلوم أن الناس منهم من يُضرب صفحاً عن كل هذا ، ومنهم من يُفرغ جهده في إرضاء الله تعالى فيما أمر ونهى ، ومنهم بين بين ، فهل يليق في حكمة الحكيم أن يسوي بين هؤلاء الناس جميعاً ؟ لا ، لا بد من يوم تعزو الرؤوس جميعاً لله ، يوم يقف الناس جميعاً للواحد القهار ( ويوم نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلَم نفس شيئاً وإن كان حبةً من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) هذه القضايا الرئيسية قضايا الألوهية والنبوة والكتاب واليوم الآخر هي عماد ما أثير في المرحلة المكية .(/3)
والناس بعد ذلك يراد بهم أمر ، ويراد منهم أمر ، وما يراد بهم ويراد منهم فمسطور في كتاب الله جل وعلا ، يراد منهم أن يعبدوا الله ويوحدوه ، ولا يشركوا به شيئاً ، وأن يعملوا بجملة ما أمر وينتهوا عن جملة ما نهى عنه ، ويراد بهم أن يتجاوزوا هذه الآفاق الوضيعة التي يتخبّط الناي فيها شرقاً وغرباً ، ليكون الإنسان إنساناً له من الملَك شفافية الروح وله من الملَك غريزة الطاعة وله من الإنسان هذا الجسد الذي ينازع إلى تحت ، ولكن يُطهَر بالارتفاع إلى الأعلى . هذا الذي يراد بالإنسان ، وذلك شيء ليس تمراً تأكله فتسيغه حلواً في حلقومك ، وليس كأساً باردة من الشراب تشربها لتستريح إليها نفسك ، ولكنه مكابدة التعب وسهر الليل وألم النهار ، لأنها قضية تجاوز الذات وقضية الانتصار على الضرورات وقضية تأهيل الإنسان لأن يكون في جوار الله جل وعلا حيث الملائكة والنبيون والصديقون والشهداء والصالحين .. ليس الأمر هيناً . من هنا انجفل الناس عن الإسلام بحكم الضرورات والمألوفات ولكن هذا لا ينقص أحداً من المسلمين المؤمنين ، فالإصرار على الطريق والمثابرة والدأب والمضي قدماً دون أن يلتفت الإنسان يمنة ولا يسرة ، كفيل بأن يفتح عيوناً عمياء وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً . وهذا الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي كان أيضاً في كل وقت وضعت فيه الدعوة إلى الله جل وعلا موضع التطبيق والتنفيذ بشرائطها المسطورة في كتاب الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم . على أي حال فليس غريباً أن ينفر الناس مما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ كان منه بأن حذّر وخوّف ووعد وأوعد ، كان كما قال عنه الله ( بشيراً ونذيراً ) بيّن لهم عاقبة المكذبين ، كما بيّن لهم عاقبة المؤمنين ، تمكيناً في الأرض ورضاناً في السماء ، وهذه طريقة ناجعة ومجدية ، لأنها طريقة التاريخ ، والإنسان بحكم إنه إنسان كائن تاريخي يعلم ما تعنيه كلمة التاريخ ، بيّن لهم قصص الماضين ومصارع الأمم المكذبة التي جاءها النذير من الله على ألسنة رسلها فأصمّت آذانها وأدارت ظهورها فأحلّ الله بها من نقماته ما أحلّ . وبيّن لهم ما أعدّ الله لهم من الروح والريحان والبشرى والنعيم للمؤمنين الصادقين وجاء ذلك دون أن أذكر لكم السور الماضيات .
في السورة الماضية التي فرغنا منها في الجمعة الماضية في سورة القمر عرض الله تعالى كما رأيتم صوراً لعدة أقوام جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا ( إنا كفرنا بما أرسلتم به ) قصّ الله علينا ذلك ، وبعد أن قصّ ذلك بأسانيده وبشواهده وبمبرراته التفت إلى المخاطبين من قريش الذي كانوا يقفون من النبي عليه الصلاة والسلام موقف الصد والإعراض والخصومة والحرب قال لهم هذا القول البليغ ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ، أم يقولون نحن جميع منتصر ، سيهزم الجمع ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) إن الأمة التي خوطبت على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام أمة لا تملك على الله صكاً بالنجاة من العذاب ، فتلك دعاوى بغيضة ، وهي دعاوى لا مستند لها ولا تستقر على قرار تقبله العقول ، وإنما الناس جميعاً عباد الله ليس بين أحد منهم وبين الله نسب ولا سبب ، وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى والعافية ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأنهم أولاً وآخراً ليسوا شيئاً شاذاً في هذا الكون ، فسنن الله الماضية في الكون والآفاق ماضية عليهم أيضاً ، وإذ هم يعلمون مصارع الماضين لأنهم يعيشون في نفس الديار التي عاشت فيها الأمم المكذبة من قبل ، ولأنهم يمرّون عليهم مصبحين وفي الليل أفلا يبصرون ، فلقد ذكّرهم الله جل وعلا ما هو قريب من أعينهم ، إنهم يعيشون في مساكن الذين ظلموا ، أين ذهب هؤلاء ولماذا ذهبوا ؟ لفّهم الفناء وباءوا باللعنة المذكورة إلى قيام الساعة وكان ذلك بسبب عصيان أوامر الله تعالى ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا ) فسبب الإهلاك هو هذا التكذيب الذي تمسكت به الأمم الماضية ، وهم أيضاً إذا تمسكوا بمثل ما تمسك به الماضون فهم خاضعون إلى نفس القانون الكوني الإلهي الذي لا يتخلّف والذي يحلّ بكل المكذبين لأمر الله جل وعلا .(/4)
( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ، أم يقولون نحن جميع منتصر ) هذه هي القضية التي تحول بينكم وبين الإيمان بمحمد ؟ هذه هي القضية التي تمنعكم من التصديق بالذي يتلوه عليكم محمد ؟ تعالوا إلى الحساب إلى النقاش الإنساني ، دعونا من الآخرة وما فيها ، هل المسألة مسألة جموع وتحزبات ؟ ومتى رأى الناس أن أمة من الأمم منذ عُرف التاريخ إلى الآن بقيت في مراكز الصدارة ، أما يرى الناس أن أمماً تبلغ الأوج والذرا في العز والسيادة ثم تشيخ وتنهار ؟ أما يرى الناس على مستوى الأفراد عزيزاً ذل وغنياً افتقر ، وإذاً فنظر يسير في تقادير الله جدير بأن يكشف النظر ويجلو اللوحة أمام الإنسان ( أم يقولون نحن جميع منتصر ) نحن كثر ، ومحمد ومن معه قلة ، وهذه مشكلة للأسف تعيش في أذهان الذين يدورون في فلك المتنفذين والذين في أيديهم بعض النفع الخفيف لذوي النفوس المريضة ، فيظنون أن الغلبة لهم لا محالة ، وأن العاقبة لهم لا ريب ، على المدار ليس على الكثرة ولا على القلة ، إنما المدار يتركز في أهلية البقاء ، القدرة على الوفاء لحاجات المستقبل والحاضر جميعاً ، إذا كانت الدعوة قادرة على إشباع احتياجات المستقبل مادياً ومعنوياً إيمانياً وأخلاقياً فهي الجديرة بأن تبقى ، وإذا كانت الدعوة على خلاف ذلك وإذا كان النظام على خلاف ذلك فليتحزّب معه أهل الأرض جميعاً ، إنه يحمل في تركيبه بذور الفناء وجراثيم الموت وأسباب الإبادة ، ولهذا قال الله لهم ( أم يقولون نحن جميع منتصر ، سيهزم الجمع ويولون الدبّر ) وبالفعل القلة المؤمنة التي آمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام في مكة وخرجت منها تتسلل في جنح الظلام مهاجرة إلى الله بدينها إلى يثرب هي التي لقيت المشركين بعنجهيتهم وبحدهم وبحديدهم وبكبريائهم وبفخرهم ( يحادون الله ورسوله ) فلم يثبتوا أمامهم إلا ضحوة من نهار ثم كانوا خبراً يُذكر ويلعن إلى أبد الدهر .
فالمسألة إذاً ليست الجموع الكثيفة ولكن هذه القضية قضية تحتاج إلى نظر عميق وإلى نوعية من الرجال أُشبعت إيماناً وأُشبعت يقيناً ، حينما جاء عدي بن حاتم بعد أن كتبت إليه أخته بأن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء عدي حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان تحت النبي صلى الله عليه وسلم حصير فدفعه إليه فجلس عليه عدي وجلس عليه الصلاة والسلام على الأرض ، قال له : يا عدي ما أفرّك ؟ أي لماذا فررت من وجهنا ؟ هل تعلم يا عدي إلهاً غير الله ؟ يا عدي أفرّك أن يقال الله أكبر ؟ تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ يا عدي لعله وقع في نفسك أن المسلمين قلة وأن عدوهم كثرة وأن المسلمين في ضعف وفاقة وأن عدوهم في غنى ، والله يا عدي ليوشكن أن تسير الظعينة من هنا إلى صنعاء لا تخشى إلا الله والذئب ، يا عدي والله ليفيضن المال فيضاً ولتفتحن كنوز كسرى وقيصر ولتنفقنها في سبيل الله . قال : كسرى بن هرمز ؟ قال نعم كسرى بن هرمز . ومات رسول الله ومات بعده أبو بكر ، وجاءت خلافة عمر ، وكان عدي رضي الله عنه فيمن حطّم ملك كسرى ، وكان فيمن شارك في تحطيم ملك قيصر ، وخرج المسلمون من القلة إلى الكثرة ، ومن الذلة إلى العزة ، ومن الفقر إلى الغنى والسؤدد ، فالذين لا يعلمون ولا يستبصرون الأمور هم الذين يؤخذون بظواهر الأمر ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ) وما جدوى أن يعلم الناس ظاهر الحياة الدنيا وهم في غفلة عن قانون الله جل وعلا .
هذه الذكريات التي ساقها الله جل وعلا أمام أنظار المشركين ساقها في مجال العظة والاعتبار ، ونحن الآن أمام السورة الثامنة والثلاثين سورة ( ص ) وأنا قصداً أطلت لكم الاستعراض لكي تعلموا شيئاً ، إن الإسلام لا يستطيع أن يقول كما يقول سفهاء السياسة أن الجهة الفلانية هي العدو رقم واحد ، أو أن الشخص الفلاني هو العدو رقم واحد ، تلك سفاهات تستجيش الغرائز المنحطة للناس المنحطين ، ونحن نتكلم في جيل يحرص على أن يبقى الإنسان إنساناً ، إنساناً لو دام على ما هو عليه لصافحته الملائكة وهو في الطرقات ، إن الإسلام لا يرتب الألويات بهذا الشكل ، الإسلام جهاز يعمل في كل الاتجاهات ، وعلى جميع المستويات ، وككل جهاز حينما تعطيه طاقة الشحن لجميع أجهزته يمنحك كفاءة عالية جداً من حيث القدرة ومن حيث الإنتاج ، لكنك حينما تُخل بترتيبات الجهاز فذلك على حساب الكفاءة التي تُطلب من الجهاز .(/5)
إنما ونحن نتوجه إلى الخصم الرئيسي على العدو المباشر إلى الحكم المادي الذي نراه أمام أعيننا يجب أن لا يغيب عن بالنا أننا نحن الأداة ، ما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن تحطيم الباطل العظيم يفتقر إلى تواجد حق عظيم ، ومعنى ذلك أيضاً أن الناس المؤهلين للدمدمة على آثار الباطل وإزالة آثار الطغيان وكنس بقايا الذل هم الرجال الذين ارتفعوا إلى مستوى رائع من حيث الكمال الإنساني المقدور للطاقة البشرية ، ولهذا فنحن نجد بالمقارنة والمقايسة حينما نقرأ سورة القمر أن الله تعالى اتجه بالخطاب إلى المشركين ، فبيّن قصص أقوام جاءتها رسل الله كما جاء المكيين محمد صلى الله عليه وسلم فكذبت رسلها فأخذها الله أخذ عزيز مقتدر ، لتتعظ أمة العرب أن تقع في نفس المحظور الذي وقعت فيه الأمم الماضية .
فإذا جئنا إلى سورة ( ص ) فنحن نواجه أمراً عجباً ، نواجه فاتحة أقرأها عليكم لتعرفوا كيف ترشح لمحتويات السورة بمذاق هي من خصائص القرآن ( ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) انتبه أيها المسلم ، لو أردت أن أقف معك ساعات عند هذه الكلمة ما فرغت . ( ص والقرآن ذي الذكر ) و ( ص ) كما قلت لكم من قبل إشارة إلى إعجاز هذا القرآن ، بمعنى أن هذا القرآن يملك من الحيوية مثلما يملك الإنسان من الحيوية ، وأنه في الإعجاز كدلالة الإنسان على صنع الله المعجز ، وأن هذا الحرف المفرد من حروف المعجم هو الذي تألّف منه الكلام القرآني الذي أعجز البلغاء والفصحاء ، والذي تحدّى الله به الإنس والجن وقال ( لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ) لماذا ؟ لأن التأليف غير التأليف ، فالحروف المفردة في أوائل السور من حروف اللغة العربية التي نؤلف بها كلامنا ، ولكننا في الواقع نؤلف الكلام فلا يكون عليه هذه الطلاوة ولا هذا الرونق ، لماذا ؟ لأن الفرق بين صنعة الله وصنعة الإنسان ، ونحن اتفقنا أن نحلل الجسم البشري تحليلاً كاملاً ، ونحن قادرون على أن نعطي نسباً دقيقة وصحيحة لكل ما في جسم الإنساني من عناصر ، ومع ذلك فلو أتيح لنا أن نخرج من المعمل كياناً في صورة الإنسان فهل هذا إنسان ؟ لا ، ضربت لكم سابقاً النفخ فقلت لكم إن الله تعالى قال ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) يعني أن خلق آدم مرّ بمرحلتين ، الأولى هي التسوية أي جعله مخلوقاً متساوياً على الشكل المقبول الذي عليه الآن ، ولكنه في هذا الحالة لم يستحق السجود ، فقال ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) فاستحق الكرامة وسجود الملائكة له بماذا ؟ بالنفخة الإلهية ، فبمثل هذه النفخة الإلهية التي كرّمت ابن آدم وجعلته معجزاً في خلق الله نفخة الله تعالى في هذا الحرف المفرد الذي شُكّل منه كلام الله تبارك وتعالى ، وإذاً فحرف صاد بمفرده يشير إليك أنك قد تملك العنصر الذي يترتب منه الكلام ولكنك لا تملك القدرة على أن تأتي بمثل هذا القرآن المعجز .
( ص والقرآن ذي الذكر ) يعني الذي يذكر الناس ، الوعاء الذي حوى كل شيء يذكر الناس بالله واليوم الآخر ، ويلفت نظره إلى ما يعطيه الخير في الدنيا والآخرة ، ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) ماذا ينتج الكفر ؟ عزة وشقاقاً ، والعزة ما هي ؟ العزة هي التصور أنك في مركز منيع لا تستطيع قوة أن تنالك فيه ، ولهذا قالت العرب : من عزّ بزّ . يعني من عزّ غلب ، فالعزة هي تصور الناس أنهم في موقف لا يُغلبون معه ولا يقهرون ، وماذا ينسج عن تطورٍ من هذا القبيل ؟ الشقاق والنزاع والتفرق والاختلاف ، منذ بدايات القرن الثامن عشر وبداية تشكل الدول القومية كنتَ تسمع وحتى الآن ، وفي بلادنا أيضاً مع أن الموضة سقطت ، ونحن على العادة لسخافة عقولنا ولسوء اختيار لأنفسنا نلتقط قمامة الأفكار والأزياء التي يتخلى عنها أصحابها ، حينما بدأت الدعوة القومية من أوروبا كنتَ تسمع دوماً ألمانيا فوق الجميع ، إيطاليا فوق الجميع ، فرنسا فوق الجميع ، هولندة فوق الجميع ، روسيا فوق الجميع ... فمن هو فوق الجميع ؟ من الذي بقي تحت الغربال ، إذا كان الكل فوق الجميع ، لماذا ينتج شيء من هذا القبيل ؟ لماذا تبرز ظواهر من هذا القبيل ؟ إن الكفر أول ما يعطيك استكباراً ورؤية أنك فوق القوانين وفوق أن تخضع للأوامر والنواهي فأنت وحدك عالم مستقل لك ذاتك التي لا يمكن أن تخضع أو تذل لأمر لا من فوق ولا من تحت ، وهذا أول الشقاق ، فكانت من نتيجة ذلك الشيء الذي لا بد منه شقاق ونزاع وحروب ودماء تسير بالملايين وإلى الآن .(/6)
فالذين كفروا الذين تحدثت عنهم سورة القمر وهي تعرض نماذج منهم جاءت سورة ( ص ) لتكشف منذ البداية عن العلة التي أوصلتهم إلى أن يكونوا مهزومين حكماً قانوناً لا يتخلف ، إن الكفر بمجرده هزيمة ، لأن الكفر له نتائج ، ونتائجه الاستكبار في الأرض ، والاستكبار في الأرض فساد عريض وشر مستطير ، ونتائجه الشقاق المستمر ، وإذاً فالمجتمع الكافر مجتمع ملغوم يمكن أن ينفجر في كل لحظة ، لكن فتيل البارود التي تشعل هذا البرميل ستفجره وستبدد هذا المجتمع المتداعي المهترء ، وجود القوة المؤمنة التي تشير بأصبعها إلى الطريق إلى الله وإلى طريقه المستقيم ، هذا شرط يجب أن يعرفه المسلمون ، وقد أبرزته فاتحة سورة ( ص ) .
( ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولا حين مناص ) وجاءت بعد ذلك الآيات التي تتحدث عن بعض الاحتجاجات على بعض النبوات كيف أنهم ( عجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ) لست بصدد عرض بداية السورة ولكن أريد أن أقول إن الله تعالى حين فرغ من عرض فاتحة السورة قال ( اصبر على ما يقولون ) والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ( واذكر عبدنا داوود ذا الأيدي إنه أواب ) وينتهي من قصص داوود ، ويقول ( ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب ) وينتهي من قصص سليمان ، ويقول ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) وينتهي من قصص أيوب ، ويقول ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولو الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطفَين الأخيار ، واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌ من الأخيار ) ونقف هنا وقفة صغيرة لنقول ، في سورة القمر كان الانتباه مشدوداً إلى عواقب المكذبين من الأمم لكي ترعوي الأمة العربية التي كذبت محمداً صلى الله عليه وسلم ، في سورة ( ق ) كان الانتباه مشدوداً إلى أنبياء وليس إلى أقوام ، أنبياء وضعهم الله بحكم النبوة في أفق عالٍ رفيع ، فكان منهم في بعض الأحايين ما يعتري الطبع البشري من هبوط بعض الشيء فعاقبهم وعاتبهم الله وهو عقاب وعتاب ليس من باب الزلة التي هي من زلات الآحاد وإنما هي من باب سيئات المقربين حسنات الأبرار . هؤلاء يُطلَب منهم أن يحاسبوا دائماً على المستوى الرفيع الذي وضعهم الله جل وعلا فيه ، وبعد ذلك فكل الدعاة إلى الله جل وعلا من غير الأنبياء على قدم الأنبياء ، أراد الله تعالى منهم أمراً ، فحين يعملون وحين يرون من المجتمع إعراضاً وحين يبطء عليهم النصر وحين تصد عنهم وتنغلق عليهم القلوب ليس لهم أبداً أن يفتشوا عن العلل في ثنايا المجتمع ، لأن المجتمع أمانة في أعناقهم ، بل عليهم أن يفتشوا في أعماق قلوبهم . حين وصف الله هؤلاء الأخيار قال عنهم : ( إنا أخلصناهم بخالصة ٍ ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطفَين الأخيار ) وظني أن الكثير منكم لا يدركون بحكم النشأة اللغوية للأسف معرفة ما يعنيه هذا التركيب ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) ما معنى أخلصناهم ؟ أخلصناهم معناها جعلناهم خالصين لنا ، وما هي الخالصة الأخرى ؟ هي الخصلة الخالصة المخلصة من شوائب الدنيا ، ما هي هذه الخلصة المخلصة من شوائب الدنيا ؟ هي ذكرى الدار ، وإذاً فالمعنى يكون : إنا اصطفيناهم على علم منا بهم من حيث أنهم تميّزوا بخصلة خالصة هي فوق كل الخصال وهي أنهم دائماً يذكرون الله واليوم الآخر ، دائماً يذكرون الدار الآخرة .
وإذاً فبداية السورة وما جاء من قصص فيها يعطينا انطباعاً بأن الله يريد أن يضع أمام نبيه صلى الله عليه وسلم أنموذجات من حياة الأنبياء الذين مضوا ، عاشوا بلايا وعاشوا محناً وعاشوا كوارث ، وأراد الله لهم أن يبقوا كذلك دون أن يتضعضعوا ودون أن يستيئسوا ، ولهذا كانت فاتحة الكلام بالنسبة له أن يقال له ( اصبر على ما يقولون ) تلك طبيعة الحياة ، وهؤلاء هم الناس ولا حيلة في تغيير طبائع الناس ، والحل أولاً وآخراً في الاستمرار والمصابرة على العمل وفي الصبر على سيئات الناس .
أحسب أنني كنت أريد أن أعجّل الخطى في سورة ( ص ) ولكن بدا لي في الأمس وأنا أستعرض في ذهني جوانب السورة أنني سوف أسمح لنفسي بالوقوف مطولاً إلى حدٍ ما عند السورة . الكلام الذي قلته الآن فيما أتصور يكفي في كشف الجو العام الذي تتحرك من خلاله آيات سورة صاد ، أطلب إليكم جميعاً أن تقرأوا السورة مرة ومرات لنستعدّ للأسابيع القادمة في تناول السورة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمد لله رب العالمين(/7)
تفسير سورة الأعراف
الجمعة 29 ربيع الآخر 1398 / 7 نيسان 1978
( 2 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فمع السورة الثامنة والثلاثين ( سورة الأعراف ) ومع الحلقة الثانية من أحاديثنا حول هذه السورة ، أُوثر وأحب أن أستمر اليوم في حدود نهج الجمعة الماضية في صورة من صور التعامل مع نصوص كتاب الله جل وعلا ، وإنما يدفعني إلى ذلك حرصي الكبير على أن تكون بين يدي الإخوة من شباب أمتنا الكريمة طرائق منتجة في التعامل مع نصوص الإسلام تضع الإنسان إن شاء الله تعالى على أبواب فهم أفضل لكلام الله جلّ اسمه وكلام نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمعة الماضية أدرنا الحديث كله حول جزء من الآية التي افتتحت بها السورة الكريمة بعد الحروف المقطعة .. ( بسم الرحمن الرحيم ، المص ، كتاب أُنزل إليك ) استغرق حديثنا في الجمعة الماضية ما اقتضى أن يقال حول هذا المقطع وحسب . وفي الدرب ذاته أواصل اليوم نفس المنهج وعلى أسلوب آخر ، فقد ينبغي أن لا يسقط من ذهن أحد من الإخوة أن هذا الكتاب أُنزل من الله ليدبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب ، والتدبّر عمل ، صحيح أن جزءه الأهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد ينبغي أن يكون واضحاً أن أي فهم لا يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ، وتدبّر دخله التحيّف على كل حال .
نواصل الآية ، وأطلب مزيداً من الانتباه .. ( كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) قلت لكم سابقاً إن الحرج هو المشقة ، وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ، تدل على المشقة والضيق والألم وما في هذا الباب . وألفت انتباهكم إلى ضرورة المقارنة بين الطلبات القرآنية ، فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ( لا يكن في صدرك حرج منه ) يعني من هذا الكتاب ، فإذا فرغتَ من قراءة الآية الكريمة واجهك طلب آخر ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ) فهنا طلب جاء بصيغة الأمر ، لكن ليس موجهاً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ولكنه موجه إلى الكافة ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ) وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ، مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة الانتباه حرصاً على الفائدة ، بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف فوارق ( لا يكن في صدرك حرج منه ) ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ) مع حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ، موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ، الحرج حالة نفسية تعتري الإنسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ، لكن سنده الباطن مختلف . ( اتبعوا ) أيضاً صورة ظاهرة ، فالاتباع هو الانقياد ، تقول : اتبع هذا الطريق ، فتجد الإنسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشرتَ إليه وطلبتَ إليه أن يتبعه ، لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى الكامل والطمأنينة التامة والانشراح اللازم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر لا علاقة له باللفظ مطلقاً ، وإذاً فثمة فرق بين أن يُقْدِم الإنسان على الفعل وهو منشرح الصدر لا يجد في فعله حرجاً ولا عنتاً ولا ضيقاً ولا ألماً ولا شيء مما في هذا المعنى ، وبين أن يؤدى الفعل على استكراه وضيق ومشقة وتقزز .(/1)
نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ( لا يكن في صدرك حرج منه ) كلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، هل يُتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلاة والسلام من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور . في حديث شق الصدر يتناجى الملَكان كما يروي النبي عليه الصلاة والسلام يقول أحدهما للآخر : أهو نائم ؟ فيجيبه الآخر : العين نائمة والقلب يقظان . وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول عليه الصلاة والسلام : يا عائشة إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي . في حديث الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلاة والسلام ، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها ، أي وجدوها قليلة فقالوا : وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله : والله إني لأعرفكم بالله وأشدكم له خشية . وأحدنا يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ( إنه عارض ممطرنا) ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح واضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتلوّن وجهه الشريف فإذا سئل قال : ما يدريني أن يكون هذا عذاباً فإن الله عذّب أقواماً بالمطر وعذّب أقواماً بالريح .
امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالملأ الأعلى وهذا هو مبلغ عرفانه بقدرة القادر المهيمن الغالب الذي لا يُغالب لا يُتصوَر بتاتاً أن ينفذ ما أراد الله منه وهو يجد ظلاً من الحرج في ذاته الشريفة . وإذاً فلا بد أن يكون لهذا اللفظ وجه آخر . لننظر كذلك ، الصيغة هنا لاحظوها ( لا يكن في صدرك حرج منه ) خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وهو خطاب فيه عنف وفيه عنفوان ، لاحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلاة والسلام إزاء أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاءً ، إن الله جل وعلا حينما أخذ عليه الصلاة والسلام الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى كان ذلك مغايراً لمقتدى الحكمة الربانية ، والله جل وعلا لا يحابي ، فما لبث أن أنزل قرآناً يُتلى إلى أن تقوم الساعة ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) لاحظوا ، لم يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ، عتب الحبيب على الحبيب ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) لم يُفتتح الكلام بأمر ولا بنهي ، وإنما بخبر أن الأنبياء شأنهم ألا يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ، وبإذاك حينما تستمكن رهبة الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب الأعداء فلا بأس بأخذ الأسرى وأخذ الفداء ، وهل انتهى الأمر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ لا ، ( تريدون عرض الدنيا ) لم يوجه الكلام بتة إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام ، وكأنه ينصب مباشرة على هؤلاء الذين شدوا وثاق الأسرى وأسروهم من الجيش ، وصُرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم .
في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخوّارين والجبناء من المنافقين أن يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع الرعب في قلوب الأعداء ، لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة رعوداً وبروقاً تجلجل من وراء الكلام ، وإنما افتتح الكلام بهذا اللفظ اللطيف ( عفا الله عنك لمَ أذنت لهم ) قدّم العفو أولاً ثم سأله هذا السؤال اللطيف ( لم أذنت لهم ) . في الخطابات التي جاءت مفتتحة بالنهي على غرار ما هو وارد في فواتح هذه السورة ، الخطاب الوارد بالنهي ( بلا ) حينما مات عبدالله بن أبي كبير المنافقين والذي جرّح رسول الله عليه السلام والذي كان يعمل على تحزيب الأحزاب والذي والذي ، حينما مات وتقدم النبي عليه الصلاة والسلام فصلى عليه جاءه الأمر الجازم من الله جل وعلا ( ولا تصلِ على أحد مات منهم أبداً ولا تقم على قبره ) كلام مفتتح بلا الناهية ، يحمل الأمر الجازم ، ولكن أمعن النظر في الصياغة ، إن الله حينما يقول لنبيه ( ولا تصلِ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) تستشف فوراً أن المقصود بذلك أن ينزه هذا المقام الكريم ، مقام النبوة أن يصلي على كبير النافقين ، وإذاً فالنهي لا ينصب أساساً على شخص النبي عليه الصلاة والسلام لمجرد النهي ، وإنما ليرفع مقام النبوة فوق أن يتقدم نبي كريم من أولي العزم ليصلي على منافق من المنافقين .(/2)
لكن هنا الأمر يختلف ، كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلاة والسلام لم تأتِ على نحو ما جاءت هنا ( لا يكن في صدرك حرج منه ) كأنما يشعر الإنسان بهذه الجفوة التي يتضمنها اللفظ ، كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يمكن ولو من باب التوهم أن ينفّذ مرادات الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ، كيف ؟ في الجمعة الماضية قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة الأعراف أن ترجعوا بالقراءة إلى سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة .
لمحة خاطفة نلقيها الآن ، نحن نجد أن الله تعالى اقتصّ في سورة القمر وفي سورة صاد وفي سورة الأعراف قصصاً من قصص الأنبياء مع أممهم السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ، ولكن وبدون تعجّل للوقفة التي سأقفها بإذن مع مدلولات القصص القرآني في مختلف السور لا بد أن ألفت انتباهكم وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص . في سورة القمر كل القصص التي وردت جاءت تثبيتاً وتطميناً للنبي الكريم إلا أن ظواهر الكنود والجحود ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئاً مستغرباً ، ذلك شأن كل أمة مع نبيها ، عتت وتمردت ورفضت الانصياع لأمر الله تعالى ، لكن العاقبة مقررة . كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب كذلك قانوناً مقدوراً لا بد أن يتغلّب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعاً والمعروضة بكتاب الله .
والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد لا بد أن ينهار ، لأن الباطل في ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ، ذلك أمر لا ريب فيه . فإذا جئنا إلى سورة صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحواً جديداً ، إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله لهفوات بسيطة ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب ) انتهى عرض الخصومة من قبل عرض واحد ، داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من طرف واحد فما لبث أن قال ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) هنا انتهى نطق داوود عليه السلام بالحكم باعتباره قاضياً من حيث هو خليفة الله في أرضه . لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله تعالى أدرك الخطأ ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) وجاءه التوجيه الإلهي ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) ما مقتضاها ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ) هنا بمَ أُخذ داوود عليه السلام ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين اعتمدوا الدسائس الإسرائيلية نجد الأمر واضح ، داوود عليه السلام من حيث قاضٍ سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يتريّث فلا يُصدر الحكم حتى يسمع الطرف الآخر ، فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على نحوٍ مما سمع ، وهذا هو الذي حصل .
ومقام النبوة لا يحتمل مثل هذه الهفوات ، وكذلك بقية القصص التي جاءت في سورة صاد ، جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم الإنسان ، وكل هاجس في خاطر الإنسان بالألم والمرارة ، ألم الإنسان الذي يعرف الطريق حق المعرفة ، ويعرف أيضاً أن هؤلاء ينكبون عن الطريق الصحيح عن عمد وعن اصرار ، ألم كاسح ، ولكن مقام النبوة مقام النيابة عن الله لا يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ، بل يجب أن يكون النبي متجاوباً عن الضمير الكوني كله ومنسجماً مع الإرادة الإلهية التامة . ولهذا فعليه أن لا يستخفّه الذين لا يستيقنون ، هذا الدرس العظيم هو الذي كان زبدة قصص الأنبياء في سورة صاد ، إننا حين نحاول أن نعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور الأعراف يتفسّر لنا مراد الله تعالى من قوله ( لا يكن في صدرك حرج منه ) لماذا ؟(/3)
أولاً : لأننا ما نزال ضمن الأفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمثل ما وضع إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم . ثانياً : لأننا بعدُ ما نزال ضمن المعركة إياها .. جماهير كثيفة لا ينقصها العقل ولا الإدراك ، بل لها أحلام راجحة ، وليس صحيحاً أن نصدر بتعجّل حكماً على أن الجاهليين غير عقلاء ، لا ، في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلامهم تزن الجبال رجاحة بدون شك ، ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال يُصاغ ويُصنع ، لا بد ، في الحياة الاجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل وردّ الفعل نافذ ، كل فعل يقابله ردّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه . والإنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والاتهامات الباطلة فيجب أن لا يسقط من بالنا أنه بشر ، ولكن في اللحظات الحرجة لا بد من وجود نماذج معينة من الناس ، لحظات الانحدار والهبوط المريع تحتاج إلى عمالقة بكل معنى الكلمة ، في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في الجمعة قبل الماضية قلت لكم : إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، إن طريق الأنبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ، لماذا ؟ إن الحياة الاجتماعية تفرض على الناس أنماطاً معينة من السلوك ، مرة دون أن أشعر بأية ضغوط تسيطر علي ، لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ، للحياة الاجتماعية ثقلها المعروف ، لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية بل في كل دقيقة من دقائق الحياة .(/4)
الحياة الاجتماعية باختصار قائمة على قانون الأخذ والعطاء ، إنك حينما تقبل الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من مزايا وفوائد ، ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ، وإذاً فأنت لقاء المزايا والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل وتغضي عن أمور كثيرة ، لولا أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ، ولولا أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ، ما كنت تقبل بها بحال من الأحوال ، تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ، نحن بفعل الإلف وبفعل الاستمرار ألفنا هذا الشيء الأمر أولاً يتم ضمن ساحة الشعوب ، ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ، ولهذا فنحن نتصرف لا شعورياً مغضين عن كثير من الواجبات ، مسقطين حساب كثير من التبعات ، لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون المجتمع ، لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء من حيث النتيجة ، الأنبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ، لم يقبلوها رفضوها بدءاً كما رفضوها نهاية ، إنهم لا يريدون من الناس شيئاً ، المزايا التي يوفرها كون الإنسان في مجتمع لا يريدها الأنبياء ، وهذه الدنيا بلاغ ، ولا تستحق أبداً أن يضحي الإنسان من أجلها بالمثل ولا بالقيم بتاتاً ، لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة ، كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى المدينة بيت الاستقرار ، كان مضموناً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي الشرفات ، ذلك هو المألوف والمعروف ، ولقد أراد الأصحاب رضي الله عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في ذلك الزمان ، ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار الأنبياء عامة : الأمر أعجل من ذلك ، إنكم تبنون الآن لي بيتاً ولكني سأموت قبل أن يتهدم البيت ، الأمر أعجل من ذلك ، إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في فلاء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى . هذه هي الحياة الدنيا ، لحظة من زمان ، خطرة من منام ، ثم ينتهي كل شيء . وإذاً فهي لا تستحق بتاتاً أن يضحى من أجلها بشيء . جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زوراً وبهتاتاً ومن غير استحقاق ، وقال له : يا فلان لماذا لا تزورنا ، لماذا لا تنتفع بدنيانا ؟ فقال له : يا عبد الله إن الله جل وعلا يقول مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً ) وإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء . فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ، ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه من هذه الدنيا ، ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ( قل متاع الدنيا قليل ) وإذاً فالحياة الدنيا في ذهنية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليست شيئاً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ، ولهذا فالأنبياء جميعاً رفضوا ابتداءً أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي يقدمها المجتمع ، رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها المجتمع ، وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ( قل ما أسألكم عليه من أجر ) إن النبي لم يأتِ ليكثر الأتباع من حوله ، ذلك شأن الأفاقين وقطاع الطرق من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ، وأما الأنبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها الأتباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لأنها ستنقلب حتماً إلى تلاعن وإلى تباغض وإلى تبرء الأخلاء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إلا المتقين ، وسترون في سورة الأعراف مزيداً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلاة والسلام كان يغشى عليه حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال : ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من المال في بيته ، فكانوا يقولون له : هو في البيت . فيقول : فرقوه . فلما أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له : أنفقناه يا رسول الله . قال : الحمد لله لا عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب . إنه جاء للدنيا من أجل ذلك فهو من أجل ذلك لا يشعر أنه مدين لأحد بصورة باتة ، وإن المن والفضل لله تباراك وتعالى ( يمنون عليكم أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين ) هذا الأنموذج الفذ من الرجال الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والذين يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ، والذين يرفضون أية حماية يقدمها إليهم المجتمع لأنهم يعتزون بالله .. هؤلاء هم الفئة الوحيدة المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة الإنسانية(/5)
طريقاً جديداً ، لكن هؤلاء لا بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي الكبير ، الانسجام مع هذا القانون مع المشيئة الإلهية المطلقة دون تردد دون المحاولة عليها ، ذاك شأن الأنبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الآثار البينة الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعلا راغبين راضين طائعين . ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ، أولئك الذين يُدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركلاً بالأقدام لن يكونوا نافعين في المراحل الأولى من مراحل البناء .
فهناك فرق ما بين الصياغتين ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) وهو خطاب إلى المثل الأعلى محمد عليه الصلاة والسلام ، والخطاب الذي وجه في الآية التي تليها ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) هل نستطيع أن نتصور أن اكتساب هذه الحالة من الطواعية ، اكتساب هذه الحالة من الشفافية ، اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين الإنسان وبين القانون الإلهي المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبداً هذه القضية يجب أن تكون واضحة ابتداءً . كثيراً ما يأتيك إنسان لا يحسن في هذه الدنيا إلا الكلام فيناقشك في أمور الدين من صلاحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة على الفعل والإنجاز .. يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين : جانبه العقلاني النظري وجانبه العملي ، وليس ميسوراً لا نظرياً ولا عملياً أن يفصل بين الجانبين ، إن الله يقول ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) والله سبحانه تعالى بيّن لنا أن وضع الإنسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا كان لا بد أن يكون الخطاب ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) لا بد أولاً من أن تضع نفسك في كليتها ضمن الطريق الذي رسمته آيات الكتاب الكريم ، هذا شيء لا بد منه بحال من الأحوال وأنت مع الزمن تكتسب شيئاً فشيئاً خبرة إلى خبرة تجربة إلى تجربة قناعة إلى قناعة ، سوف تكتسب هذه الخاصية التي تجعلك تنفذ أمر الله جل وعلا من غير حرج لماذا ؟ في مبادئ الناس وفي أنظمة الآدميين يمشي الإنسان ويعمل والإنسان ويترك الإنسان وفي ذهنه مصالح قد تتحقق وقد تتخلف فإذا تحققت فرح ، وإذا تخلفت سخط ، ولكنه ضمن قوانين الله وضمن شرائع الإسلام التي أحاطت بمصالح الأفراد والجماعات عموماً يمشي الإنسان وهو في غمرة العمل يكشف آناً بعد آن ويوماً بعد يوم أنه من حيث الإيمان ازداد وأنه من حيث الفكر اتسع وأنه من حيث الأخلاق ازداد طهراً ونقاءً وأنه من حيث الرفاه اكتسب بالتعاون مع إخوانه حماية حقيقية ليست كتلك الحماية التي تقدمها المجتمعات المجرمة اليوم .. أعطني صوتك لأعطيك لقمة الخبز ، أبداً إنها الحماية التي تقول لك أن تعيش ذلك حقك لا يناقشك فيه مناقش ولا يدفعه عنك ، أنت تعارض الحاكم ولكنك إن كنت اليوم رجلاً في مجتمعات الجاهلية الحديثة فقف أمام حاكم من هؤلاء الحكام لترى أن أول شيء يغلق فمك وفم أولادك ، إن الحماية التي تقدمها المجتمعات الزائفة اليوم حماية مضللة ، لكن الحماية الحقيقية هي التي يقدمها مجتمع الإسلام . جاء رجل بعد حروب اليمامة إلى عمر فقال له عمر : ألستَ أنت قاتل ضرار بن الخطاب ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين أنا قتلت أخاك . قال عمر : والله لا أحبك . قال : يا أمير المؤمنين أذلك ينقصني من حقي شيئاً ؟ قال : لا ، ذلك شيء وهذا شيء آخر ، هذه عاطفة شخصية ، أنت قاتل أخي ، ولكن هذا حقك . قال له : إذاً لا بأس إنما يأسى على الحب النساء . إن أحببتني أو لم تحبني لا فرق ولا أهتم لذلك ، المهم أنك لا تتزحزح عن قاعدة الإسلام .
إذاً فمع غمرة العمل ومع مسيرة النضال ومع تحقق المكاسب الحقة يوماً بعد يوم يشعر الفرد المسلم وتشعر الجماعة المسلمة أنها في ظلال الله جل وعلا تتحرك وتتصرف لا بسائق الاتباع ولكن انتهاءً في هذه الروح التي تقدم باتجاه العمل ولا تشعر بآية حرج . هذه الصياغة هذا التصور هو الذي أوجد النماذج العاملة ، كان محمد عليه الصلاة والسلام كذلك ولم يكن قول الله له ـ والله أعلم ـ ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) إلا خطاب للأمة لشخص عظيم لم يكن إلا كذلك فيما أظن ، وبعد التحليل الذي قلته لكم الآن ولكن مع الزمن رأيتم أبا بكر ورأيتم عمر ورأيتم عثمان ورأيتم علياً ورأيتم مالكاً ورأيتم الشافعي وأحمد وأبا حنيفة ورأيتم عبدالله بن المبارك وسفيان الثوري والحارس المحاسبي إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي لا تنتهي من الرجال العظام الذين يقومون اليوم كما قاموا بالأمس وسيقومون أبد الدهر شاهداً لا ينقضي على قدرة هذا الدين على أن يقدم وباستمرار للإنسانية النماذج التي تنفع في ساعات الشدة وتفعل عند الأزمات .(/6)
ذلك هو مدلول قول الله جل وعلا والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه ( كتاب أنزل إليه فلا يكن في صدرك حرج منه ) يجب أن تتحرك بملء الحرية ، الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ، كما قلت لكم من قبل إن مجتمع الإسلام الذي يتألف من الرجال والنساء الأحرار الذين لا يشعرون بأي ضغط ولا بأي إكراه ويندفعون قدماً في طريق الغاية التي حددها الله تبارك وتعالى .
لا أعتقد أيها الإخوة الأحبة أنني لن أعود إلى هذا الأسلوب من التعامل مع نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجاً بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعلا ، وأنا شديد الأمل وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة الإمعان والتدبر مع المقارنات . وألفت أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية والشمول سيكون نظراً مختلاً بل سيكون نظراً مضللاً إن القرآن يجب أن ينظر إليه في كليته لأنه جسم واحد فلا تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت تغفل رأسك ، إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ، كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى نتيجة ، لا بد أن يكون أمامك دائماً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي كليته ستجد أن الفهم وأن الأفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه وأمواجه . فاعملوا على أن يكون فهمكم للقرآن كذلك .
أقول لكم اليوم ما نسيته في الجمعة الماضية ، وعدناكم منذ أسبوعين أن نعود إن شاء الله إلى الدروس التي قطعناها بعد نتهاء رمضان الفائت أعلن لكم الآن أننا بحول الله عازمون بعد اليوم واعتباراً من يوم الثلاثاء القادم بالتعاون مع الأخ الكريم أبي محمد الشيخ عبد القادر على القيام بدروس معينة في الجامع الوسط بين المغرب والعشاء يوم الثلاثاء ويوم الجمعة بعد صلاة المغرب مباشرة ، فمن شاء أن يفيد من هذه الفرصة فنحن سنكون مسرورين إن شاء الله إذا استطعنا أن نقدم لإخواننا أية مساعدة طبعاً على صعيد القضايا الإسلامية مذكراً على أن الدروس على الصيغة المعهودة واحد يقرأ أو يتكلم والباقي ينصتون ، شيء قل ما ينفع . اعملوا على أن تكون الدروس ميداناً للمحاورة للحوار من كان عنده شيء ليسأل ولا يتحرج بالنسبة إلي لو أن أحدكم رد علي وأنا على المنبر فلا بأس ، لأقول شيء وأكون في غاية السعادة وغاية السرور وكذلك في الدرس سواءً اعطوا الدروس هذه الحيوية المطلوبة التي تشعر بالمشاركة الفعلية بين الذي يعطي الدرس وبين الذي يستمع الدرس .
أسأل الله جل وعلا أن يردنا جميعاً إلى سواء السبيل وأن يضعنا على مراشد المور وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وآصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/7)
تفسير سورة الأعراف
الجمعة 7 جمادى الأولى 1398 / 14 نيسان 1978
( 3 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فمع فواتح سورة الأعراف نواصل السير مستعينين بالله تبارك وتعالى ، ومن غير مزيد من الشروح نريد أن نقطع شوطاً مناسباً في السورة الكريمة .
يقول الله تبارك وتقدس ( بسم الله الرحمن الرحيم ، المص ، كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ، وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون ، فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ، فلنسألن الذين أُرسل إليهم ولنسألن المرسلين ، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ، والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) وأُقدّر إن شاء الله تعالى أن جملة المعاني المبثوثة في هذا المقطع الذي تلوناه الآن واضحة في أذهان معظمكم ، فقد يشبه أن تكون هذه الآيات الوجيزة قد لّخصت بصورة بارعة غاية في البراعة محتويات السورة بعامة ، كما سوف يتضح لكم بإذن الله من خلال متابعة أحاديثنا عن هذه السورة الكريمة . وما سبق من حديث عن جزء من الآية الأولى بعد الحروف المقطعة لا داعي إلى تكراره إن شاء الله ، ولكن التذكير بعموده الفقري ضروري ، من أجل تماسك أجزاء الصورة التي نريد أن نبرزها كاملة إذا تيسّر لنا ذلك اليوم .
فقوله تعالى ( كتاب أُنزل إليك ) يشعر بتحميل رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وتحميل المؤمنين معه والذين سيأتون من بعد ، فيؤمنون بما أنزل إليهم من ربهم مسؤولية البلاغ وإيصال الدعوة إلى من لم تصل إليهم هذه الدعوة ، وتصحيح مفاهيم المؤمنين إذا تراكمت عبر العصور المتعاقبة اجتهادات خاطئة وتفسيرات مضللة ، تشوه نضارة الإسلام ، وذلك منتزع من استعمال حرف تحدثنا عنه وهو حرف الجر ( إلى ) لأن هذا الحرف يفيد الانتقال من الذات إلى الموضوع ، من الداخل إلى الخارج ، ثم ترون أن ما جاء بعد ذلك من كلام في الآية ذاتها ، وفي الآيات التي وليتها قرائن ، احتفّت بالقضية فجعلت مهمة المسلم هي أن يفهم وأن يعلم وأن يبلغ وأن يعلّم ، ضمن شرائط أشارت إليها هؤلاء الآيات بصورةٍ غاية في الإعجاز .
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ) يعني من هذا الكتاب ، لكن لماذا ؟ ( لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) وإذاً فنحن في الصورة أمام جانبين ، جانب يتناول ضرورة طرد جميع أحاسيس الحرج والضيق والألم التي يحس بها الإنسان عادةً وطبعاً حينما يواجه مجتمعاً ما بما يغاير معتقداته ، وبما يصادم عوائده وأعرافه ، لأن هذا يؤكد ضرورةً أن الداعي إلى الجديد يشعر أنه يعيش في وسط غريب عليه ، ويعيش أيضاً في وسط يعاديه . وهو من حيث هو بشر حزمة من الأحاسيس ، كتلة من المشاعر ، لا بد أن يألم ولا بد أن يضيق ذرعاً بهذه الظواهر التي يصادفها أثناء طريقه وهو يدعو الناس إلى الله تبارك وتعالى .
في الجمعة الماضية فصلت لكم فرق ما بين الأمرين ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) وبين قول الله أيضاً خطاباً للكافة ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) وأوضحت لكم أن الحرص على اقتلاع عوامل الحرج والألم والضيق من نفس النبي عليه الصلاة والسلام شيء يشبه ألا يكون موجهاً إلى ذاته الكريمة ، ولكن هو مرشّح لما ستكون عليه حال المؤمنين من بعد ، لأن موضوع نفي الحرج بصورة باتة أمر باطل ، يعني يوجب أن يحصل على الإنسان على هذا السلام الداخلي والإطمئنان المطلق في الداخل وفي القلب وفي الحس وفي الشعور وفي الإدراك وفي العقل ، إلا أنه يعيش متوازناً ومتناغماً ، لا يشعر أن كل الأشياء الخطأ التي تعيش خارج نفسه يمكن أن تترك أي انعكاس على داخل نفسه لتشوش عليه حاضره .(/1)
والمعروف عن النبي عليه الصلاة والسلام المقطوع به أنه لم يكن ذلك الإنسان الذي يمكن أن يحسّ بشيء من هذا الحرج . بعد أن انقضت المرحلة المكية وأذن الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة خرج النبي عليه الصلاة والسلام مستخفياً ، طبعاً هو إنسان مطلوب ، وضعت قريش جائزة ضخمة مائة ناقة ، شيء كبير في مقاييس الاقتصاد لذلك الزمان ، لمن يأتيهم بمحمد عليه السلام حياً أو ميتاً . فخرج مستخفياً يصحبه الصدّيق ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) ليس المهم أن نتتبع خطى المسيرة الكريمة العظيمة التي غيّرت وجه الدنيا ، وغيّرت من صياغة الإنسان ، وإنما المهم أن نقف مستطلعين متأملين بل خاشعين أمام موقف ، حينما لحق سراقة بن مالك بالنبي عليه الصلاة والسلام في طريق هجرته طامعاً بالجائزة الكبيرة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بالرسول عليه السلام ، وتبيّن لأبي بكر سواد سراقة قاصداً إياهم أخذه رضي الله عنه شيء كثير من الروع ، أصبح يمشي تارة عن يمين النبي عليه الصلاة والسلام ، وتارة عن يساره ، وتارة من خلفه ، وأخرى من أمامه ، لا يكاد يستقر خوف الطلب ، لا على شخص ، ولكن على شخص الحبيب الغالي محمد صلى الله عليه وسلم ، هو يعرف حقد قريش ، ويعرف مبلغ شراسة هذا الحقد ، ويعرف المصير المقرر الذي سيكون فيما لو وقع عليه الصلاة والسلام بين أيدي قريش .
هذا موقف أبي بكر وهو أكمل الأمة إيماناً بعد نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام ، إذ يقول : لو وُزِنَ إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لا رجح إيمان أبي بكر . تلك خصيصة من الله اختص الله بها الصدّيق رضوان الله عليه ، ومع ذلك كان بهذا الشكل . انظر إلى الصورة الأخرى ، صورة الهارب المطلوب محمد عليه الصلاة والسلام ، ولنترك الحديث لسراقة ، يقول : جئت أشتد ، يعني يعنف على فرسه لكي تلحق بالهارب المطلوب ، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يلتفت حتى اقترب منه ، قال : فسمع صوته وهو يقرأ القرآن ويدعو الله تبارك وتعالى ، ومع ذلك لم يلتفت إليه أبداً ، أين أنت ؟ بيد الله . سراقة ومحمد وأبو بكر وقريش ومن في الأرض جميعاً بيد الله تبارك وتعالى ، وإذاً فأية شعرة تهتز في جسد الإنسان بعامل الرعب أو الخوف تؤكد أن ثمة نقصاً في إيمان الإنسان ، لم يكن عليه الصلاة والسلام يلتفت إلى سراقة أبداً ، حتى إذا كَبَتْ به فرسُه وأيقن أنه لا سبيل إلى أن يأسر محمداً عليه الصلاة والسلام ، طلب منه الأمان ، هنا فقط التفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام ، لا ليكلفه بمهمات ، ولا ولا ولا وإنما ليقول له هذه القولة المطمئنة التي تتحدث بلسان القدر الذي لا سبيل إلى رده : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري الكسرى بن هرمز ؟ عجيب ! إنسان مطلوب ليقتل ، ومع ذلك لا تهتز في جسده شعرة واحدة أمام الهول الهائل والخطر القريب ، ثم لا يكتفي بهذا ، وإنما يلتفت إلى هذا الذي جاء ليأسره وليبشره : كيف بك إذا لبست سواري الكسرى بن هرمز . في الوقت الذي كان كسرى ترتعد لذكر اسمه فرائص العرب جميعاً ، وأفضل العرب مقاماً وخيرهم داراً هو ذلك الذي يحظى يوماً من الأيام بنظرة من كسرى .
بذلك لا يمكن أن يُتصوّر أن طلب نفيّ الحرج من القرآن موجه لشخص النبي عليه الصلاة والسلام ، بل موجه إلى الأمة اعتباراً لما سوف يكون ، لكن كيف يكون هذا ؟ إن الإنسانية في طريقها الطويل شهدت أشياء كثيرة ، شهدت فلاسفة وشهدت مفكرين وشهدت مصلحين ، وشهدت ثورات وشهدت كل شيء ، لم يبقَ شيء لم يجرّب ، وما يُظن أنه إنتاج حديث وبدعة حديثة فغلط ، يكشف عن جهل القائلين بجملة التاريخ الحضاري لهذه البشرية المعذبة ، كل ما ترونه الآن موجود مثله في الماضي حذو النعل بالنعل ، لم يتغير شيء ، شهدت الإنسانية أشياء من هذا القبيل ، ومع ذلك رأيناها تتبخّر ، ورأيناها تذهب أدراج الرياح ، ولو ذهبت بهذا الشكل لذهبت مشيعة غير مأسوف عليها ، ولكنها ذهبت بأضاحي ملايين من الأنفس أزهقت من غير ذنب ، أنهار من الدماء جرت لا لسبب معقول ووجيه ، إمكانات أُهدرت ، لو وُظفت توظيفاً صحيحاً لكان الأداء الإنساني أكمل ، ولكانت الثمرة البشرية أنضج ، ولكان الناس اليوم في مستوى إنساني أرقى .(/2)
لماذا ذهبت ؟ لأن الناس يميلون إلى أن يتخففوا من عبء العمل ، افهم ، ما كل إنسان يطيق تكاليف العمل ، لا ، نخدع أنفسنا كثيراً إذا قلنا إن الناس جميعاً عندهم الاستعداد لأن يخوضوا غمرات العمل ، نحن الآن هنا في المسجد مسلمون ، نصفّ أقدامنا بين يدي الله راكعين ساجدين يبدوا أننا خاشعون والعلم عند الله ، ومع ذلك ومع عرفاننا جميعاً بأن إسلامنا في خطر ، وبأن ديننا في حرب شرسة ، وبأن وجودنا كله يستهدف للضياع . فنحن حينما نصرخ بالناس : وحّدوا جهودكم ، كتّلوا أنفسكم ، اجمعوا كلمتكم على أمر الله تبارك وتعالى ، ترى أن الفرائص ترتعد . هنا يبطل التصوّر وتذهب القناعات ويتبيّن أن الكلمة النهائية لحساب سلامة الذات ، نحن نحسب لو أنني عملت ضد رغبات المجتمع فلن أكترث بها ، ولو أنني عارضت التيار العام واحتقرته ورفضته فما الذي يحصل ؟ إن كنت موظفاً فسأُطرد من وظيفتي ، وإن كنت تاجراً فستبور تجارتي ، وإن كنت وجيهاً فسيسقط اعتباري وتذهب مكانتي ، وإلى آخر هذه الخدع الشيطانية التي لا نهاية لها .
يا أخي دعك من الإسلام ، ودعك من مقررات الإيمان ، وأمسِكْ ورقة وقلماً واحسب القضية حساب التاجر الشحيح ، تجد أنك مأكول ، إن لم تؤكل اليوم فستؤكل غداً ، ومن الخير لك ومن الأكرم إليك أن تموت تحت بوارق السيوف مدافعاً عن قضية قامت عليها السماوات والأرض . وأما صعودك ، وأما تعلاتك هذه فثق تماماً أنها لن تغنيك شيئاً ، قد تجعلك تعيش في البحبوحة أياماً وشهوراً وسنين قلائل ، ولكن لا إلى نهاية . المسلمون في روسيا ـ مثلاً ـ ولا حاجة إلى التاريخ البعيد ، كانوا يعدّون خمسين أو ستين مليون مسلم يعيشون في عز وسلطان وممالك ، ومع ذلك بين عشيةٍ وضحاها قامت الثورة الحمراء ، واسألوا الآن أين المسلمون في روسيا ؟ المسلمون في الصين كانوا أسياد الصين ، كانوا أكثر ستين مليوناً من الناس ، وقامت المسيرة الطويلة مسيرة الألف ميل بقيادة ( ماوتس تونغ ) واسألوا الآن أين أصبح المسلمون في الصين ؟ المسلمون في إرتيريا مسلمون عرب عرب عرب ، يقال هذا للذين يتشدقون بالعروبة ولا يجري في عروقهم دم عربي أبداً ، عرب مسلمون يذبحون كما تذبح النعاج . المسلمون في جنوب لبنان تهدم المساجد على رؤوسهم ويذبح الرجال والنساء والصبيان من غير تمييز ، ويعتذر الرهبان بأنها مسألة ثأر ، الرهبان رجال الدين المسيحي الأصدقاء الأحلاف الإخوان الذين يريدون أن يكونوا أتباعاً للرجل العبد المسيح الذي يقول : جئت لألقي على الأرض سلاماً . المسلمون في الأندلس دولة أمة ذُبح منهم خمسة ملايين وهُجّر الباقون ، ومن لم يهجّر أُدخل في النصرانية كرهاً ، وإلى الآن يتحدث مفكروهم فيقولون : أنا فكتور بن جورج بن كذا بن كذا بن محمد بن عبد الله ، رأيتم ؟ فإذاً لو حسبتَ الأمر حساب التاجر الشحيح بالورقة والقلم لوجدتَ أن القعود غير منتج ، قد يؤجل الكارثة ، ولكنه لن يلغي الكارثة أبداً .
المعلوم أن الحرب منذ أن وجدت الإنسانية وكما ستكشف لكم سورة الأعراف هذه ، ومنذ أن نفخ الكبر في أنف الشيطان فعادى آدم قائمة ومستعرة بين الحق والباطل ، والدنيا هذه لا تتسع للأمرين ، ولا يمكن أن يتعايش الحق والباطل بسلام أبداً ، إما للحق وإما للباطل . من أجل ذلك نجد أن طلب الله تعالى من الأمة بشخص النبي عليه الصلاة والسلام أن تتقدم للعمل بغير حرج أخذ طريقه المنطقي دون أن نغفل الطبيعة البشرية بحالٍ من الأحوال .
جاء الخطاب أولاً للنبي عليه الصلاة والسلام ترشيحاً للمستقبل ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) ثم جاء من بعد خطاباً للكافة ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) لماذا ؟ قلت لكم في الجمعة الماضية أن هذا الدين ليس ككل شيء ، ربما ذهبت أنا إلى حزب من الأحزاب وقدمت طلب الانتساب وملأت الاستمارة وقُبلت عضواً في الحزب . والتقدم والصدارة والمكاسب لا تتوقف على شيء أكثر من التزلف ومسح الجوخ ، بل لا تتوقف على شيء أكثر من سقوط الأخلاق وإغفال كل معاني الشرف ، هذا ممكن ، لكن في هذا الدين الأمر يختلف بتاتاً . هنا كل شيءٍ يوزن بالميزان الرباني ، فما رجح في الميزان الرباني فمقبول ، وما شالت كفته فمرفوض ، فهمتم ؟ لا يمكن أن نضع هذا الدين بمقرارته وقضاياه مع أي مبدأ من المبادئ في مجال المقارنة والموازنة ، نحن نريد ـ إسلامياً ـ أن نعيد صياغة الجنس البشري من جديد ، نحن نريد أن نوجد الإنسان الذي يمتلئ بالمشاعر الإنسانية ، والذي يشعر بآلام الناس وإن كانت في أقصى الأرض ، والذي يمشي وفق نهجٍ مرسوم فلا يتخبط في الظلام ولا يسير في التيه .(/3)
هذا الشيء في الكلام هين ، ولكن في العمل صعب ، ولما كان في العمل صعباً كان لا بد من الممارسة ولا بد من التجربة ولا بد من الوعي أثناء الممارسة وأثناء التجربة واستحضار النتائج أو الغايات التي نريد أن نصل إليها كي نجني الثمرة كاملاً .. كيف ؟ دعني أحدثك عن الله وعن وجوده وعن الصلاة وعن ثمراتها وعن الزكاة وعن فوائدها وعن الصوم وعن حكمه وعن أسراره وعن أخلاقيات الإسلام وما أشبه إلى ما لا نهاية ، إنك لا تستطيع أن تستفيد من هذا الكلام كما تستفيد من فريضة واحدة تصليها في المسجد وفي جماعة لأنك حينئذ في غمرة العمل في صلب الممارسة تشعر بالمعاني التي لا تستطيع أن تعبّر عنها . إذاً فلا بد من أجل اكتساب غايات الإسلام وأهدافه ، واكتساب طرائق الإسلام الصحيحة من أن تضع نفسك في غمرة العمل ، هذا شيء لا بد منه ، ولهذا كان الخطاب الموجّه للكافة في الآية الأخرى ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ) اتبع ، لا بد أن تتبع ، أما متى يحصل لك هذا الاطمئنان ؟ متى تكتسب هذه النفسية السليمة التي تشعر بالأمن والطمأنينة وبالثقة من الطريق ومن غاية الطريق فذلك يأتيك أثناء العمل ، أعيدكم إلى واقع الإسلام ، إن المسلمين خوطبوا بهذا الكلام ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) ولكن هؤلاء المسلمين بالعمل ، بالليالي الطويلة التي قضوها واقفين بين يدي الله يرتلون كلامه متأملين متدبرين ، بالمواجهات اليومية لمؤامرات المشركين ، بالصبر الطويل الرائع الذي قدموها بين يدي الآلام وصنوف العذاب ، وصلوا إلى المرحلة التي أرادها الله ، وُجدت النماذج الإنسانية التي تقوم الآن حجة على الخلق ، وُجد أصحاب رسول الله ، هؤلاء الذين قال الله عنهم ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) إن الثلاث عشرة سنة التي قُضيت في غمرة العذاب المؤلم المرّ ، وفي مواجهات الصعاب المستحكمة ، وفي مقارعة شراسة قريش ، لم تذهب عبثاً ، غنها أوجدت أُنموذجات الكبيرة التي استعدت فعلاً لتلقي أوامر الله دون مناقشة ودون جدل .
في حادثة تحريم الخمر حينما جاء رجل فأخبر بعض الأصحاب وهم في مجلسهم وهم يشربون الخمر أن الله أنزل في الخمر قرآناً وتلا عليهم قول الله تعالى ( إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) كان منهم من يمسك الكأس بيده ، ومنهم من يدنيها من شفتيه فما فرغ القارئ من قراءة الآية حتى أسقط الجميع ما في أيديهم قائلين : انتهينا يا رب .
هذا الاستعداد لتلقي الأمر الإلهي ووضعه موضع التنفيذ فوراً دون مناقشة ودون تحايل ودون محاولة تبرير لا معنى له ولا سند لها من القيم ولا سند لها من الأخلاق هي الشيء الذي حصل المسلمون عليه نتيجة للمسيرة التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم . لكن هل جاء ذلك عبثاً ؟ لا ، جاء من خلال العمل ، جاء من خلال الاتباع ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ) .
لا أتصور أنني قادر الآن على الفراغ من رسم الصورة جميعاً ، لكني أحب أن أُلخّص لكم شيئاً أساسياً تعرضت إليه من قبل في مناسبات ، لكنا في سورة الأعراف في مرحلة متقدمة إلى حدٍ بعيد من مراحل الدعوة الإسلامية ، مرحلة تحتاج إلى هذا النوع من الرجال ، الرجال الذين تسكن الثقة بالله أعمق قلوبهم ، والذين تسيطر عليهم فكرة أنهم قادرون على الإنجاز والفعل .. يشعرون بقيمتهم الشخصية ويشعرون أنهم يستندون إلى ركن ركين .(/4)
في سورة الأعراف نحن نواجه هذه المهمة ، كتب الجنرال ديجول بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن خاض حرب تحرير فرنسا من الألمان ، كتب نبذة شديدة الإيحاء وهي ضرورية ، وهي ليست جديدة علينا ، عندنا في الإسلام موجودة ، لكن سبب إيرادي لها هنا هو أن أقول لكم إن الحاجة إليها متجددة ، يشعر أن الناس بضرورتها في كل وقت . يقول الجنرال ديجول إنه حينما بدأ حرب المقاومة السرية للاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية وفي منتصف الأربعينات كان أهم شيء وأصعب شيء يواجهه هذا الرعب الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي ، وهذا الإعجاب المنقطع النظير الذي يسكن قلب المواطن الفرنسي تجاه كل ما هو ألماني ، االمواطن الفرنسي مثله الأعلى المواطن الألماني ، المرأة الفرنسية مثلها الأعلى المرأة الألمانية ، الجندي الفرنسي مثله الأعلى الجندي الألماني ، الضابط الفرنسي مثله الأعلى الضابط الألماني .. لماذا ؟ لم يأتِ الأمر عبثاً بالطبع ، إن فرنسا في كانت في عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية تقول : إن خط ماشينو لا يمكن اختراقه ، وإن الشعب الفرنسي سليل الثورات ومحطم العروش لأوروبا وحامل مشعل المدنية للعالم وأبو العقل الحديث لا يمكن أن يُغلب ، ومع ذلك فحين وقعت الحرب العالمية الثانية تحطمت الأمة الفرنسية كأمة وكدولة خلال أربعة عشر يوماً فقط ، جرى احتلال فرنسا وسقطت مدينة باريس بعد أن أُعلنت مدينة مكشوفة وخرجت فتيات باريس ينثر الزهور على الجنود الألمان ، على الجنود الفاتحين ، على الغزاة .
هذه الواقعة يقول ديجول إنها أشد شيء واجهها ، كان محتاجاً إلى أن يعيد إلى الإنسان الفرنسي ثقته في نفسه ، وقبل ذلك لا فائدة أبداً . ما قيمة أن تخوض حرباً وأنت قانع منذ البداية أنك لا يمكن أن تغلب هذه الأمة ؟ ما قيمة هذه الحرب ؟ هذه حرب مقررة النتائج سلفاً ، كل إنسان شهد حرباً يعرف هذه الحقيقة ، إنك حينما تدخل معركة وأنت على ثقة من أن خصمك ذبابة فسوف تنتصر ، ولكنك إذا تصورته بعبعاً فأنت مهزوم ومن الخير لك أن لا تخوض الحرب .
وخلال مسيرة طويلة وعناء أطول استطاع ديجول أن يعيد للفرنسيين ثقتهم بأنفسهم كأمة ، وأن يعيد لفلول الجيش الفرنسي ثقته بقدرة الجندي الفرنسي وقدرة الضابط الفرنسي على مقارعة الجندي الألماني والضابط الألماني ، وحصل التحرير .
ولماذا نذهب بعيداً ؟ نحن عندنا الواقع الذي عشناه جميعاً ، قبل عام 1956 ، كنتَ لا تستطيع أن تهرب من الحصار المضروب عليك في الصحف الإذاعات وأجهزة الإعلام والدعاوى والنشر والمؤسسات الشعبية ، والمؤسسات الشعبية تحدثك عن الظافر والناصر والقاهر وعن القوة التي لا تُغلب وعن أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط وعن وعن .. وقام العدوان الثلاثي على مصر وهُزمنا ، بالرغم من أننا ما زلنا نحتفل بالنصر في السويس وفي بور سعيد هُزمنا، وبالرغم من أن الزعماء كانوا يقولون العدو وحّل في أبو ركيلة ، كذب ، هُزمنا ، وذهبنا نبتلع هذه الأكاذيب بسخف وببلاهة وبقلة عقل ، وجاءت 1967 ، وللأسف تصور أناس كثيرون أن إسرائيل زالت وانتهت ، ولم يدرِ المغفلون من أبناء الأمة أن جيوش العرب جميعاً خلال ساعتين في الفجر تحطمت كلها ، وأننا بقينا مجردين من السلاح . وتلك خطة مرسومة بذكاء وبألمعية أشهد لها ، لا يُقصد منها كما يتصور الناس اليوم أن تحقق مكاسب على الأرض ، لا ، إن الدوائر الاستعمارية التي تحركها وتحرك إسرائيل لا تهتم بالسويس ولا بالضفة الغربية ولا بمرتفعات الجولان ، افهموا الحقائق ، كونوا أبناء زمانكم يا ناس . إن الدوائر الاستعمارية التي ترسم لنا وتضعنا ضمن الأخطبوط العظيم الكبير الخطير لا تهتم بهذه الصغائر ، إنها تهتم بشيء واحد ، هو أن تتحطم ثقتنا بالله وثقتنا بأنفسنا ، وبالفعل فبعد 1967 أصبح كل مواطن في العالم العربي من أوله إلى آخره أن الجندي الإسرائيلي لا يُغلب ، بل سمعنا في حرب 1973 أن الصراع بيننا وبين إسرائيل صراع بين العلم والجهل ، نحن كأمة كنا نخوض الحرب بجهل وغباء ، وإسرائيل كانت تخوض الحرب بعلم وذكاء .(/5)
المقصود إذاً أن يُقضى على هذا الوثوق بقدرة الأمة على النهوض وعلى الفعل وعلى الإنجاز ، وأن تسكن بدل ذلك هذه الخرافة المزعجة أن الجندي الإسرائيلي لا يُغلب ، ذلك بأن الصراع كما يجب أن يحدد وكما يجب أن يُعرف فوق كل الاعتبارات وبالرغم من كل الدعاوى التي تُطلق الآن وتطلق إلى ما لا أدري متى ينقضي ذلك من أن الصراع بيننا كعرب وبين اليهود ، أو بيننا كدول العالم الثالث وبين الإمبريالية ، كل هذه أخطاء وأضاليل ينبغي أن لا تتكرر ، الصراع كما يجب أن يكون مفهوماً بين الإسلام من حيث هو دين قادر على تغيير وجه الأرض وبين أحلاس الباطل جميعاً ، وإلا فخبروني ما الذي يجمع اليهودي مع النصراني ؟ مع أن النصراني يعتقد أن اليهود صلبوا المسيح ، ما الذي يجمع الاتحاد السوفييتي مع أمريكا في التآمر على المسلمين في باكستان وفي الحبشة وإريتيريا ، وفي التآمر على المسلمين في الصومال ، وفي التآمر على المسلمين في لبنان بل وفي كل مكان ؟ ما الذي يجمع النصراني واليهودي والبوذي وعابد البقر .. ما الذي يجمع هؤلاء جميعاً على المسلمين لولا هذا الكره العميق لكل ما هو إسلامي ؟ إن أعداءنا ـ للأسف ـ يعرفون عن الإسلام وقدراته أكثر مما نعرف ، إن أعداءنا يدركون جيداً أنه حين يتاح للإسلام أن يتنفس وأن يأخذ مداه بالفعل فلن تكون الأرض هي الأرض ، ولن يكون الناس هم الناس . إن هذا العدوان الخطير على حريات الناس ودماء الناس وأموال الناس وعلى كل ما هو كريم وشريف بين الناس سوف يقضي عليه الإسلام ، إن هذه المسوخ من أصنام القرن العشرين التي تسمى بزعماء لن تكون زعماء ، سوف تجد اللص مقطوع اليد ، وستجد الزاني مرجوماًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً بحجارته ، وسوف تجد الذي أزهق النفوس مقطوع الرأس بالسيف . كل السخف الذي يجري الآن وكل الظلم الذي يجري الآن لن يكون لو وُجد الإسلام .
وإن التفوق والسلام المسلح وسياسة العصا الغليظة المفروضة على العالم لن يكون لها وجود أبداً ، فمن هنا تجدون أن أعداء الإسلام جميعاً يختلفون ما يختلفون ولكنهم يتفقون علينا .. كيف نستطيع أن نقضي على ذلك ؟ نحن بشر ونحن رجال ونحن الآن في موقف الأمانة التي نُسأل عنها أمام الله تبارك وتعالى . أول عدو لنا هو في داخل أنفسنا ، شهواتنا ، حبنا للدنيا ، استنامتنا إليها ، إن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر ما سيؤول إليه أمر الأمة مع الزمن قال : وليسلطن الله عليكم عدوكم حتى يأخذوا بعض ما في بأيديكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت . نحن في الواقع نكره الموت ، نحن في الواقع نفر من مواطن الكرامة ، نحن في الواقع ننسحب بحرية إرادة غريبة من ساحة التاريخ كلها ، علماً بأن أسلافنا الذين رباهم الإسلام لم يكونوا كذلك بحال ، ألم تسمعوا بحنظلة الغسيل ، تزوج أمس وأصبح في العرس ونادى منادي رسول الله في الصباح أن حيّ على الجهاد إلى معركة أحد ، ووجد أن ضيقاً عليه وأن حرجاً عليه بأن يتأخر عن تلبية نداء الرسول الكريم حتى يغتسل من الجنابة ، فطار إلى الموت وقاتل حتى قُتل وهو جنب ، فقال النبي عليه السلام : إن صاحبكم تغسله الملائكة فسلوا عرسه ، قالت : إن النداء أعجله عن الاغتسال .
إن المسلمين خاضوا غمرات الموت ولسانهم يردد :
ركضاً إلى الله بغير زادِ إلا التقى وعمل المَعادِ
أذلك منفخة ؟ غرور ؟ لا ، ولكن عمل موصول وصبر وطويل وجهاد متصل ووقوف مع أمر الله تبارك وتعالى حتى جعلهم ذلك يشعرون فعلاً أنهم أكبر من الناس جميعاً ، وأنهم هم وحدهم ولا أحد أبداً سواهم المرشحون لعمارة الدنيا ، وأنهم هم وحدهم المرشحون لتحرير الناس .(/6)
حينما لقي واحد من الفرس شداد بن الهاد في معارك القادسية قال له : إلى أين وماذا أخرجكم ؟ قال : إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . وحينما لقي بعض قواد الفرس أعرابياً مسلماً من أعراب المسلمين قال له : كيف تقاتلون فارس وغاية ما يطمع فيه الواحد منكم أن يأخذ عِدلاً من تمر ؟ قال له : يا هذا دعك من هذا الكلام إنك لا تجادل البشر ولكنك تجادل القدر . إن الأمة بلغت هذه المراحل العالية من الوثوق بأنها تترجم عن ضمير المستقبل ، وبأنها تتحدث عن الأجيال الواعدة التي سوف تأتي . لذلك شادت وسادت ، وبذلك فقط عزت ، وغاية ما يراد اليوم أن تحطم في نفوس هذه الأمة هذه المعاني الكبيرة ، إن وزير خارجية فرنسا لا يجمجم ولا يداور ولا يداهي ، في اجتماع معين للوزارة تحدث متحدثون عن الخطر الذي يأتي من الشرق ، تحدث متحدثون عن خطر الشيوعية على فرنسا ، وقام وزير الخارجية فقال هذه الكلمات التي يحسُن بنا أن نعرفها ، قال لهم : يا ناس لا تصوروا أن علينا خطراً من الشرق ، إن الإتحاد السوفييتي لا يشكل بالنسبة لفرنسا ولا بالنسبة لأوروبا أية خطر ، إن الشيوعية ثمرة من ثمرات الحضارة البيزنطية التي ننتمي إليها جميعاً ، أتريدون أن أدلكم على خطر ؟ إن الخطر عبر مضيق جبل طارق ، متى عبرتم مضيق جبل طارق ووصلتم إلى المغرب العربي وعرفتم هناك المسلمين فهناك الخطر ، الخطر في المسلمين وليس في الاتحاد السوفييتي .
أرأيتم كيف يقوّمنا أعداؤنا ؟ ولكن نحن نظلم أنفسنا ، لأننا نجهل للأسف قيمة أنفسنا . كيف نستعيد معرفة هذه القيمة ؟ بالوقوف طويلاً مع آيات الله تبارك وتعالى ، وبالوثوق من خلال العمل بأننا ضمن دين مختار لم يصنعه زعيم من الزعماء ، ولم تولده إرادة من إرادات البشر ، وإنما أنزله الله الذي يعلمه الخبء في السماوات والأرض ، وأننا من أجل ذلك حماة الإنسانية وحراس حاضرها ومستقبلها ، وأولى الناس جميعاً بأن نكون القيّمين على الفضائل ، والمحافظين على المثل ، والرافعين لراية الحق ، والمعدلة بين الناس . ذلك كلام يقال الآن ، ولكنه في التطبيق شيء عسير للغاية ، عسير لماذا ؟ لأننا بعدُ لم نلامس حقيقة الإسلام .
نحن الآن نتحدث عن نظام رأسمالي ، ونتحدث عن نظام اشتراكي ، ونتحدث عن نظام شيوعي ، ونتحدث عن أخلاقيات غربية ، ونتحدث عن أخلاق ماركسية ، ونتحدث عن أشياء لا أدري ماذا أقول عنها ، لكني ألفت أنظار الإخوة ولا سيما المثقفين الذين يتابعون على الأقل بعض إنتاج العصر الحاضر في ديار الغرب ، إن كبار المفكرين يدينون المدنية الحاضرة ، ويقولون إنها شاخت وإنها مريضة وإنها تدفع إلى الجنون وتدفع للانتحار . والإنسانية اليوم وصلت مرحلة لا أدري ماذا أقول عنها ، ولكن مجنوناً واحداً تتحرك في نفسه نزوة شاذة فيضغط على زر من الأزرار كفيل بأن يدمر وجه الأرض كلها . إن الإنسانية اليوم تئن تحت أسواط العذاب ، ليس لها إلا الله وأنتم ، ليس لها إلا الله والمسلمون ، إن الموازين طاشت ، وإن المسلمين مدعوون اليوم بأن يعيدوا الأمور إلى مجالها الطبيعي . ولكن ما لم يشعروا أنهم دائماً وأبداً مع الله ، ينفذون أمره من غير حرج ومن غير تململ ومن غير آية محاولة للتحايل على نصوص الإسلام فلن ينفعوا أنفسهم ولن ينفعوا الإنسانية بشيء .(/7)
أنبه .. بعض الناس يتصور أنني وأنا أتحدث عن هذه الموضوعات قد أكون مولعاً بتجريح بعض الناس وبعض الهيئات وبعض الأشخاص ، لا لا ، اعلموا تماماً عني أنا بالذات أنني أحكم حكماً قاطعاً على كل ما هو موجود في العالم الإسلامي من الدار البيضاء إلى جاكرتا ، مفهوم بأنه باطل ولا خير فيه لا اليوم ولا غداً ، ولو عاش ملايين السنين فستظل كلا الأنظمة التي تسرح وتمرح على الساحة الإسلامية عوامل هدم وتخريب ، اعرفوا هذا ، ولكني لست من الغفلة ولا من البلاهة ولا من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة الأمة تتمثل في شخص ، ولست من البلاهة ولا من الغفلة ولا من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة الأمة تتمثل في حزب ، ولست من الغفلة ولا من البلاهة ولا من الغرارة بحيث أتصور أن نكبة الأمة تتمثل في قطر ، لا ، إن هذه كلها أجزاء من الظاهرة الحضارية المتدهورة التي نعيش فيها ، وإن الداء فينا جميعاً ، ونحن كلنا رضينا أم كرهنا ، أحببنا أم أبغضنا ، شركاء في المسؤولية عما صرنا إليه من تدهور وانحلال وانحطاط ، شركاء أيضاً في المسؤولية عما ينبغي أن نصل إليه من عز ومن رفعة ، وأنه ينبغي أن يكون واضحاً أن كل أحد منكم يجب أن يحمل في يده صابونة ديلافيوس ، حينما جاء اليهود بالمسيح ليصلبوه وطلبوا من ديلافيوس الحاكم الروماني آنذاك أن يوّقع قرار الحكم بصلب المسيح ، دعا بقطعة صابون وغسل يده وقال إنني بريء ونظيف اليد من دم هذا القديس . ونحن يجب علينا أن نفعل العكس ، يجب أن نغسل أيدينا جميعاً ونقول إننا برآء من كل هذا العمل الشيطاني الموجود على الرقعة الإسلامية ، وعلينا فوراً ومن غير تلكؤ أن نجدد علاقتنا بالله وأن نعيد ارتباطنا بالله ، المسألة ليست مسألة أشخاص ولا مسألة أحزاب ولا مسألة تكتلات ولا مسألة أقطاب ولا مسألة مرحلة زمنية معينة ، المسألة مسألة الجنس برمته ، ومسألة الحاضر والمستقبل إلى أن تقوم الساعة .
لا تحتقر نفسك أيها المؤمن ، أنت مجلى إرادة الله ، أنت مظهر قدر الله تعالى ، أنت شيء عظيم ، ولكن أنت أنت الذي تحطم نفسك ، ما الذي فيك ؟ ما الذي ينقصك ؟ إن أكبر إنسان في الدنيا يملك رأساً كرأسك ، لا تزيد تلافيف مخه على تلافيف مخك أبداً ، يملك أنفاً كأنفك ، يعمل نفس الآلية ، يملك قدمين كقدميك ، يملك عينين كعينيك ، مثلك تماماً لا ينماز عنك إلا بتقوى الله وصالح العمل .. فلماذا تهين نفسك ؟ لماذا تذل نفسك ؟ ويحك لماذا ترضى لنفسك الدود ؟ هل كُتب عليك أن تبقى مصفقاً ومطبلاً ومزمراً للأماعات والتافهين ولقطاع الطرق والفاسدين والمفسدين ؟ أنت رجل أنت إنسان أنت مكرّم ، أنت أسجد الله لك ملائكته ، الملأ الأعلى ، فلماذا تهين نفسك ؟ ما الذي يدفعك إلى ذلك ؟ لقمة الخبز ؟ ويحك ، الكلب على المزبلة يعيش ، ويحك ، الحمار يجد شيئاً يأكله ، تذل نفسك من أجل هذه الصغائر ؟ عجيب ، نحن الآن في موقف محرج ، كما قلت لكم ليس بالنسبة لنا فحسب ، بالنسبة للناس جميعاً ، والقيّمون نحن ، والمحاسبون نحن ، واعلموا أن الله لا يحاسب الكافرين كما يحاسبنا ، أبداً أبداً ، نحن سوف نتحمل الحساب العسير .
افهموا .. ففي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن أول خلق الله تسعّر بهم النار يوم القيامة .. من ؟ رجل أتاه الله مالاً ، فيجاء به فيعرفه ربه نعمه فيعرفها ، فيقول له : فماذا عملت ؟ يقول : يا رب ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت . فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الباري تعالى : بل أنفقتَ ليقال فلان جواد وقد قيل ، اذهبوا به إلى النار . ورجل آتاه الله علماً فجيء به فعرّفه الله نعمه عليه فعرفها ، فيقول له : ماذا عملت فيما علمتك ؟ يقول : يا رب قرأت القرآن وأقرأته ، وتعلمت العلم وعلّمته . فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة له : كذبت . يقول الله جلّ اسمه : بل تعلمتَ ليقال فلان عالم ، وقد قيل ، اذهبوا به إلى النار . ورجل قاتل حتى قُتل فيجاء به يتشحّط بدمه ، فيعرّفه الله نعمه عليه فيعرفها ، فيقول له : ماذا عملت ؟ ألم أصحح لك بدنك ؟ ألم أقوي لك جسمك ؟ فيقول : يا رب قاتلت فيك حتى قُتلت . فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة له : كذبت ، يقول له الله : لقد قاتلت ليقال فلان جريء ، وقد قيل ، اذهبوا به إلى النار .(/8)
المجاهد والمنفق والعالم ، ذروة المجتمع ، أيوجد فوق هؤلاء أحد ؟ مع ذلك إن الله لم يقبل من عمل هؤلاء صورته الظاهرة ، إنها نظر إلى الدافع وكشفه ، وجعل صورة العمل بغير قيمة ، وجعل القيمة الكلية للدافع . الدافع هو الذي تحدثنا عنه في أول الآية ، هو الذي يجعلك قائماً مع الأمر ، قاعداً مع الأمر ، ناطقاً مع الأمر ، ساكتاً مع الأمر ، أي أنك مع الله ، تلتمس رضا الله تعالى ، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول : والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به . أي كل طاقة الإنسان مسخرة لكي تتلاءم وتنسجم مع مرادات الخالق جلّ وعلا التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممما سواهما .. ) . أنا أعرض عليكم ميزاناً وليس قبان جزر ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ضع نفسك أمام هذه القاعدة ، وتصور نفسك بين أمرين ، أمر يدعوك إلى طاعة الله ، وأمر يدعوك إلى طاعة نفسك واتباع شهواتك ، إن وقفتَ مع الله وخالفتَ هوى نفسك فأنت تجد حلاوة الإيمان في قلبك . ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ) واعرضوا أنفسكم على هذه القاعدة ، ماذا يحب بعضنا بعضاً عليه ، أنا أحبك لأنك صديقي أو لأنك قريبي أو لأني أرجو من ورائك نفعاً ، أو أحبك لأني أخشى منك شراً أريد أن أدرأه عن نفسي بهذه المحبة ولو كانت مزيفة .. أما أن أحبك لأن الله جمعني وإياك على كلمته الخالدة ؟ فهذا شيء نادر . ( وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار ) اعرضوا هذه القاعدة على أنفسكم ، قل لفلان : تعال سجّل في الحزب الفلاني ، يقول لك : نعم .. لماذا ؟ من ورائها وظيفة ، ومن ورائها راحة بال من ملاحقة كلاب البوليس ، ومن ورائها ومن ورائها .. قل له : تعالى قف مع الله . كأنما وضعتَ بين يديه عقرباً ساماً ، أهذا هو الإسلام ؟ أهذه هي الحالة التي نريد أن ننهض معها لنصحح أوضاعنا وأوضاع البشرية ؟ أرأيتم الهاوية التي نتردى فيها يا إخوة ؟ أأدركتم عظم المسؤولية التي نتعرض لها ؟ مع الله جميعاً من فوق كل شيء ، جددوا صلتكم بالله ، ولا تخرجوا من هنا حتى تعاهدوا الله جلّ وعلا أن يكون رضاه آثر على أنفسكم من رضا أنفسكم ، وآثر على أنفسكم من رضا أياً كان ، فإن كنتم كذلك فأنتم فعلاً جند الله ، وأنتم فعلاً ورثة محمد وأبناء محمد صلى الله عليه وسلم .. أسأل الله تعالى أن يفتح قلوبنا جميعاً وأن ينير قلوبناً جميعاً بهمة وقوة التي ترشحنا للتمسك الكامل لكل أوامر الله تعالى .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/9)
تفسير سورة الأعراف
الجمعة 29 ربيع الآخر 1398 / 7 نيسان 1978
( 2 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فمع السورة الثامنة والثلاثين ( سورة الأعراف ) ومع الحلقة الثانية من أحاديثنا حول هذه السورة ، أُوثر وأحب أن أستمر اليوم في حدود نهج الجمعة الماضية في صورة من صور التعامل مع نصوص كتاب الله جل وعلا ، وإنما يدفعني إلى ذلك حرصي الكبير على أن تكون بين يدي الإخوة من شباب أمتنا الكريمة طرائق منتجة في التعامل مع نصوص الإسلام تضع الإنسان إن شاء الله تعالى على أبواب فهم أفضل لكلام الله جلّ اسمه وكلام نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمعة الماضية أدرنا الحديث كله حول جزء من الآية التي افتتحت بها السورة الكريمة بعد الحروف المقطعة .. ( بسم الرحمن الرحيم ، المص ، كتاب أُنزل إليك ) استغرق حديثنا في الجمعة الماضية ما اقتضى أن يقال حول هذا المقطع وحسب . وفي الدرب ذاته أواصل اليوم نفس المنهج وعلى أسلوب آخر ، فقد ينبغي أن لا يسقط من ذهن أحد من الإخوة أن هذا الكتاب أُنزل من الله ليدبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب ، والتدبّر عمل ، صحيح أن جزءه الأهم يتصل بالذهن ولكن بالرد إلى حديثنا في الجمعة الماضية فقد ينبغي أن يكون واضحاً أن أي فهم لا يتصل بالتفاعل مع صيرورة الحياة ومسيرة الحركة ومع التعامل اليومي المباشر فهو فهم أبتر وناقص ، وتدبّر دخله التحيّف على كل حال .
نواصل الآية ، وأطلب مزيداً من الانتباه .. ( كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) قلت لكم سابقاً إن الحرج هو المشقة ، وذلك هو المفهوم الظاهر من المادة بتقاليبها المختلفة ، تدل على المشقة والضيق والألم وما في هذا الباب . وألفت انتباهكم إلى ضرورة المقارنة بين الطلبات القرآنية ، فهنا طلب بصيغة النهي موجه إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ( لا يكن في صدرك حرج منه ) يعني من هذا الكتاب ، فإذا فرغتَ من قراءة الآية الكريمة واجهك طلب آخر ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ) فهنا طلب جاء بصيغة الأمر ، لكن ليس موجهاً بصورة مباشرة إلى شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ولكنه موجه إلى الكافة ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ) وبالنظر إلى مدلول اللفظتين ، مرة أخرى أحب أو أؤكد على ضرورة الانتباه حرصاً على الفائدة ، بالنظر إلى مدلول الصيغتين أو اللفظين نكتشف فوارق ( لا يكن في صدرك حرج منه ) ( اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ) مع حسبان الفارق بين الصيغة الموجهة بصورة مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصيغة الموجهة إلى الكافة فثمة فارق يحتويه اللفظ ، موضوع نفي الحرج موضوع داخلي ووجداني وجواني ، الحرج حالة نفسية تعتري الإنسان ربما يؤدي الفعل وهو يجد هذا الكره الذي يسكن في القلب للفعل فهو يؤديه صورته الظاهرة تامة ، لكن سنده الباطن مختلف . ( اتبعوا ) أيضاً صورة ظاهرة ، فالاتباع هو الانقياد ، تقول : اتبع هذا الطريق ، فتجد الإنسان المخاطب المأمور يدرج على هذا الطريق الذي أشرتَ إليه وطلبتَ إليه أن يتبعه ، لكن ما علمك بدخيلة نفسك ؟ أهو ينفذ أمرك بالرضى الكامل والطمأنينة التامة والانشراح اللازم ؟ أم هو يأتي بظاهر العمل على كره وعلى غير انشراح ؟ ذلك أمر لا علاقة له باللفظ مطلقاً ، وإذاً فثمة فرق بين أن يُقْدِم الإنسان على الفعل وهو منشرح الصدر لا يجد في فعله حرجاً ولا عنتاً ولا ضيقاً ولا ألماً ولا شيء مما في هذا المعنى ، وبين أن يؤدى الفعل على استكراه وضيق ومشقة وتقزز .(/1)
نرجع مرة أخرى إلى اللفظ ( لا يكن في صدرك حرج منه ) كلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، هل يُتصور أن امرأ في مكانة محمد عليه الصلاة والسلام من ربه ومن دينه وشرعه وفي موضع القدوة بالنسبة لخلقه أن ينفذ أوامر الله وهو كاره ؟ ما أتصور . في حديث شق الصدر يتناجى الملَكان كما يروي النبي عليه الصلاة والسلام يقول أحدهما للآخر : أهو نائم ؟ فيجيبه الآخر : العين نائمة والقلب يقظان . وفي حديث عائشة رضي الله عنها يقول عليه الصلاة والسلام : يا عائشة إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي . في حديث الصحابة الذين جاءوا يسألون في أبيات رسول الله عن عبادته عليه الصلاة والسلام ، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها ، أي وجدوها قليلة فقالوا : وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ يخاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله : والله إني لأعرفكم بالله وأشدكم له خشية . وأحدنا يرى سحابة مقبلة فيستبشر وينتظر هطول الغيث ويقول مقالة الغافلين ( إنه عارض ممطرنا) ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح واضطربت عوامل الطبيعة أكثر الدخول والخروج وأكثر القيام والقعود وتلوّن وجهه الشريف فإذا سئل قال : ما يدريني أن يكون هذا عذاباً فإن الله عذّب أقواماً بالمطر وعذّب أقواماً بالريح .
امرؤ هذه صلته بالله وهذا هو اندماجه بالملأ الأعلى وهذا هو مبلغ عرفانه بقدرة القادر المهيمن الغالب الذي لا يُغالب لا يُتصوَر بتاتاً أن ينفذ ما أراد الله منه وهو يجد ظلاً من الحرج في ذاته الشريفة . وإذاً فلا بد أن يكون لهذا اللفظ وجه آخر . لننظر كذلك ، الصيغة هنا لاحظوها ( لا يكن في صدرك حرج منه ) خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وهو خطاب فيه عنف وفيه عنفوان ، لاحظوا أنماط المخاطبات مع النبي عليه الصلاة والسلام إزاء أخطاء ولنتجوز ولنسمها أخطاءً ، إن الله جل وعلا حينما أخذ عليه الصلاة والسلام الفداء من أسرى بدر في أول معركة حقيقية مع أعداء الله تعالى كان ذلك مغايراً لمقتدى الحكمة الربانية ، والله جل وعلا لا يحابي ، فما لبث أن أنزل قرآناً يُتلى إلى أن تقوم الساعة ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) لاحظوا ، لم يتجه العتاب واللوم بصورة مباشرة إلى شخص الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وإنما جاء بهذه الصياغة اللطيفة ، عتب الحبيب على الحبيب ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) لم يُفتتح الكلام بأمر ولا بنهي ، وإنما بخبر أن الأنبياء شأنهم ألا يكون لهم أسرى في أول معركة حتى يثخنوا في العدو وحتى يوقعوا الرهبة في قلب العدو ، وبإذاك حينما تستمكن رهبة الله ورهبة رسوله ورهبة المؤمنين من قلوب الأعداء فلا بأس بأخذ الأسرى وأخذ الفداء ، وهل انتهى الأمر عند هذا العتب المهذب اللطيف ؟ لا ، ( تريدون عرض الدنيا ) لم يوجه الكلام بتة إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام ، وكأنه ينصب مباشرة على هؤلاء الذين شدوا وثاق الأسرى وأسروهم من الجيش ، وصُرف اللفظ بتة عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم .
في غزوة تبوك حينما استأذن بعض الخوّارين والجبناء من المنافقين أن يرجعوا إلى أهاليهم وهي غزوة عسيرة وتحتاج أن يتحرك كل قادر ليوقع الرعب في قلوب الأعداء ، لم يكن العتاب بهذه الصياغة التي تشعر أن ثمة رعوداً وبروقاً تجلجل من وراء الكلام ، وإنما افتتح الكلام بهذا اللفظ اللطيف ( عفا الله عنك لمَ أذنت لهم ) قدّم العفو أولاً ثم سأله هذا السؤال اللطيف ( لم أذنت لهم ) . في الخطابات التي جاءت مفتتحة بالنهي على غرار ما هو وارد في فواتح هذه السورة ، الخطاب الوارد بالنهي ( بلا ) حينما مات عبدالله بن أبي كبير المنافقين والذي جرّح رسول الله عليه السلام والذي كان يعمل على تحزيب الأحزاب والذي والذي ، حينما مات وتقدم النبي عليه الصلاة والسلام فصلى عليه جاءه الأمر الجازم من الله جل وعلا ( ولا تصلِ على أحد مات منهم أبداً ولا تقم على قبره ) كلام مفتتح بلا الناهية ، يحمل الأمر الجازم ، ولكن أمعن النظر في الصياغة ، إن الله حينما يقول لنبيه ( ولا تصلِ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) تستشف فوراً أن المقصود بذلك أن ينزه هذا المقام الكريم ، مقام النبوة أن يصلي على كبير النافقين ، وإذاً فالنهي لا ينصب أساساً على شخص النبي عليه الصلاة والسلام لمجرد النهي ، وإنما ليرفع مقام النبوة فوق أن يتقدم نبي كريم من أولي العزم ليصلي على منافق من المنافقين .(/2)
لكن هنا الأمر يختلف ، كل الصياغات التي تلوتها عليكم مما تضمن مخاطبات من قبل الله مع رسوله الحبيب عليه الصلاة والسلام لم تأتِ على نحو ما جاءت هنا ( لا يكن في صدرك حرج منه ) كأنما يشعر الإنسان بهذه الجفوة التي يتضمنها اللفظ ، كأنما يريد أن يستقر في وهم القارئ أو السامع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يمكن ولو من باب التوهم أن ينفّذ مرادات الخالق تبارك اسمه وهو كاره لهذه المرادات ، كيف ؟ في الجمعة الماضية قلت لكم يحسن لكي يستقيم فهم سورة الأعراف أن ترجعوا بالقراءة إلى سورتي القمر وصاد اللتين سبقتا في النزول هذه السورة الكريمة .
لمحة خاطفة نلقيها الآن ، نحن نجد أن الله تعالى اقتصّ في سورة القمر وفي سورة صاد وفي سورة الأعراف قصصاً من قصص الأنبياء مع أممهم السابقة قبل أمتنا المسلمة هذه ، ولكن وبدون تعجّل للوقفة التي سأقفها بإذن مع مدلولات القصص القرآني في مختلف السور لا بد أن ألفت انتباهكم وأنعش ذاكرتكم فيما يختص بهذه القصص . في سورة القمر كل القصص التي وردت جاءت تثبيتاً وتطميناً للنبي الكريم إلا أن ظواهر الكنود والجحود ومظاهر العداء والصد والنفور والتنكيل والتعذيب ليس شيئاً مستغرباً ، ذلك شأن كل أمة مع نبيها ، عتت وتمردت ورفضت الانصياع لأمر الله تعالى ، لكن العاقبة مقررة . كما تشرق الشمس من المشرق لتغيب في المغرب كذلك قانوناً مقدوراً لا بد أن يتغلّب الحق ولكن بشروطه المعروفة طبعاً والمعروضة بكتاب الله .
والباطل مهما استشرى وتمادى في العناد لا بد أن ينهار ، لأن الباطل في ذاته يحمل جراثيم الفناء والموت ، ذلك أمر لا ريب فيه . فإذا جئنا إلى سورة صاد وهي السورة التي جاءت بعد سورة القمر مباشرة وألقينا النظرة العجلى على قصص القرآن نجد القصص القرآني ينحو في التقرير نحواً جديداً ، إن القرآني في سورة صاد استعرض وقائع نبيين معينين آخذهم الله لهفوات بسيطة ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسورا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب ) انتهى عرض الخصومة من قبل عرض واحد ، داوود نبي وخليفة الله تعالى في أرضه سمع من طرف واحد فما لبث أن قال ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) هنا انتهى نطق داوود عليه السلام بالحكم باعتباره قاضياً من حيث هو خليفة الله في أرضه . لكن داوود بالصلة الموصولة بينه وبين الله تعالى أدرك الخطأ ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) وجاءه التوجيه الإلهي ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) ما مقتضاها ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحياب ) هنا بمَ أُخذ داوود عليه السلام ؟ بقطع النظر عن تخبيص كثير من المفسرين الذين اعتمدوا الدسائس الإسرائيلية نجد الأمر واضح ، داوود عليه السلام من حيث قاضٍ سمع من طرف واحد وكان الواجب أن يتريّث فلا يُصدر الحكم حتى يسمع الطرف الآخر ، فقد يكون هذا ألحن بحجته من أخيه فيقضي له على نحوٍ مما سمع ، وهذا هو الذي حصل .
ومقام النبوة لا يحتمل مثل هذه الهفوات ، وكذلك بقية القصص التي جاءت في سورة صاد ، جات لتضع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط المعركة المحتدمة بينه وبين المشركين والتي تثير كل خلية في جسم الإنسان ، وكل هاجس في خاطر الإنسان بالألم والمرارة ، ألم الإنسان الذي يعرف الطريق حق المعرفة ، ويعرف أيضاً أن هؤلاء ينكبون عن الطريق الصحيح عن عمد وعن اصرار ، ألم كاسح ، ولكن مقام النبوة مقام النيابة عن الله لا يحتمل هذه النظرات المجزوءة المحدود بحدود الزمان والمكان ، بل يجب أن يكون النبي متجاوباً عن الضمير الكوني كله ومنسجماً مع الإرادة الإلهية التامة . ولهذا فعليه أن لا يستخفّه الذين لا يستيقنون ، هذا الدرس العظيم هو الذي كان زبدة قصص الأنبياء في سورة صاد ، إننا حين نحاول أن نعقد الحبل من طرفين بين سورة صاد وسور الأعراف يتفسّر لنا مراد الله تعالى من قوله ( لا يكن في صدرك حرج منه ) لماذا ؟(/3)
أولاً : لأننا ما نزال ضمن الأفق العالي الذي وضع الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمثل ما وضع إخوانه الأنبياء صلوات الله عليهم . ثانياً : لأننا بعدُ ما نزال ضمن المعركة إياها .. جماهير كثيفة لا ينقصها العقل ولا الإدراك ، بل لها أحلام راجحة ، وليس صحيحاً أن نصدر بتعجّل حكماً على أن الجاهليين غير عقلاء ، لا ، في مقاييس ذلك الزمان كانت أحلامهم تزن الجبال رجاحة بدون شك ، ولكن المسألة تحتاج إلى نمط معين من الرجال يُصاغ ويُصنع ، لا بد ، في الحياة الاجتماعية كما في الحياة المادية سواء بسواء قانون الفعل وردّ الفعل نافذ ، كل فعل يقابله ردّ فعل يتسق معه من حيث شموله ومداه . والإنسان حينما يوجه الدعوة فيقابل بالعنف وبالتكذيب والاتهامات الباطلة فيجب أن لا يسقط من بالنا أنه بشر ، ولكن في اللحظات الحرجة لا بد من وجود نماذج معينة من الناس ، لحظات الانحدار والهبوط المريع تحتاج إلى عمالقة بكل معنى الكلمة ، في كلمتي الشاملة التي تحدثت إليكم بها في الجمعة قبل الماضية قلت لكم : إننا يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، إن طريق الأنبياء ليس بالطبع هو الطريق الذي نحن فيه ، لماذا ؟ إن الحياة الاجتماعية تفرض على الناس أنماطاً معينة من السلوك ، مرة دون أن أشعر بأية ضغوط تسيطر علي ، لكني حينما أكون في جماعة يتغير الموقف فأتصرف على نحو آخر وأفكر على نحو آخر ، للحياة الاجتماعية ثقلها المعروف ، لها ضغوطها الملموسة التي يدركها كل إنسان في حياته اليومية بل في كل دقيقة من دقائق الحياة .(/4)
الحياة الاجتماعية باختصار قائمة على قانون الأخذ والعطاء ، إنك حينما تقبل الدخول في مجتمع فأنت تقبل ذلك لما يحققه لك كونك في المجتمع من مزايا وفوائد ، ولما يقدمه لك هذا المجتمع من حماية ، وإذاً فأنت لقاء المزايا والفوائد ولقاء الحماية التي تأخذها من مجتمعك الذي تعيش فيه تتنازل وتغضي عن أمور كثيرة ، لولا أنك مستفيد من مجتمعك الذي تعيش فيه ، ولولا أنك مفتقر إلى الحماية التي يقدمها إليك هذا المجتمع ، ما كنت تقبل بها بحال من الأحوال ، تصرفاتنا عند التحليل النهائي ترتد إلى هذه القاعدة ، نحن بفعل الإلف وبفعل الاستمرار ألفنا هذا الشيء الأمر أولاً يتم ضمن ساحة الشعوب ، ولكنه مع التكرار يتم خارج ساحة هذه الشعوب ، ولهذا فنحن نتصرف لا شعورياً مغضين عن كثير من الواجبات ، مسقطين حساب كثير من التبعات ، لماذا ؟ تحت ضغط هذا الشيء الذي يفرضه قانون المجتمع ، لكن ما نتيجة ذلك ؟ إن طاحونة المجتمع سوف تسحق كل شيء من حيث النتيجة ، الأنبياء في الواقع رفضوا الدخول في هذه اللعبة ، لم يقبلوها رفضوها بدءاً كما رفضوها نهاية ، إنهم لا يريدون من الناس شيئاً ، المزايا التي يوفرها كون الإنسان في مجتمع لا يريدها الأنبياء ، وهذه الدنيا بلاغ ، ولا تستحق أبداً أن يضحي الإنسان من أجلها بالمثل ولا بالقيم بتاتاً ، لماذا ؟ ما الذي يلزمك بذلك ؟ إن محمد عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة ، كان تحت الخوف والرعب وتحت التشريد والتطريد فجاء إلى المدينة بيت الاستقرار ، كان مضموناً أن يستريح إلى بيت واسع نظيف عالي الشرفات ، ذلك هو المألوف والمعروف ، ولقد أراد الأصحاب رضي الله عنهم بحبهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام أن يشيدوا له أفضل بناء ممكن في ذلك الزمان ، ولكنه قال لهم هذه القالة التي هي شعار الأنبياء عامة : الأمر أعجل من ذلك ، إنكم تبنون الآن لي بيتاً ولكني سأموت قبل أن يتهدم البيت ، الأمر أعجل من ذلك ، إنما مثلي ومثل هذه الدنيا كمثل راكب في فلاء استظل بظل شجرة ثم تركها ومضى . هذه هي الحياة الدنيا ، لحظة من زمان ، خطرة من منام ، ثم ينتهي كل شيء . وإذاً فهي لا تستحق بتاتاً أن يضحى من أجلها بشيء . جيئ برجل من سلفنا الصالح رضي الله عنهم إلى أحد الخلفاء مما حملوا هذا القب زوراً وبهتاتاً ومن غير استحقاق ، وقال له : يا فلان لماذا لا تزورنا ، لماذا لا تنتفع بدنيانا ؟ فقال له : يا عبد الله إن الله جل وعلا يقول مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً ) وإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء . فانظر رحمك الله ما الذي عندك من هذه الدنيا منذ أن خلق الله خلق وبرء النسم وإلى أن تقوم الساعة ، ثم انظر رحمك الله قدر هذا الذي تعطيه من هذه الدنيا ، ثم انظر أين يقع من هذا القليل الذي قال الله عنه ( قل متاع الدنيا قليل ) وإذاً فالحياة الدنيا في ذهنية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليست شيئاً أن يضحي من أجلها بالمثل وبالقيم العالية وبالمصالح البشرية ، ولهذا فالأنبياء جميعاً رفضوا ابتداءً أن يكونوا مستفيدين من هذه الحماية التي يقدمها المجتمع ، رفضوا أن يكونوا مستفيدين من هذه المزايا التي يقدمها المجتمع ، وأعلنوا بكل صراحة وبكل وضوح ( قل ما أسألكم عليه من أجر ) إن النبي لم يأتِ ليكثر الأتباع من حوله ، ذلك شأن الأفاقين وقطاع الطرق من الزعماء الذين يستجدون تصفيق الناس وتهليلهم وتطبيلهم وتزميرهم ، وأما الأنبياء فإنهم يقولون إن ما عند الله خير وإن هذه الظواهر التي يظهرها الأتباع للمتبوعين ظواهر خداعة ومضللة لأنها ستنقلب حتماً إلى تلاعن وإلى تباغض وإلى تبرء الأخلاء يومئذ بعضهم لبعضهم عدو إلا المتقين ، وسترون في سورة الأعراف مزيداً من التقرير لهذه الفكرة ومن النبي الذي خرج من هذه الدنيا وهو يملك منها شيء ومحمد عليه الصلاة والسلام كان يغشى عليه حين النزع فيفيق فإذا أفاق قال : ما صنعتم بالذهب ؟ يقصد ما عنده من المال في بيته ، فكانوا يقولون له : هو في البيت . فيقول : فرقوه . فلما أفاق مرة سأل السؤال فقالوا له : أنفقناه يا رسول الله . قال : الحمد لله لا عذر لمحمد عند ربه إذا لقي الله وعنده هذا الذهب . إنه جاء للدنيا من أجل ذلك فهو من أجل ذلك لا يشعر أنه مدين لأحد بصورة باتة ، وإن المن والفضل لله تباراك وتعالى ( يمنون عليكم أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين ) هذا الأنموذج الفذ من الرجال الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والذين يرفضون أي مزية يقدمها إليهم انخراطهم في المجتمع ، والذين يرفضون أية حماية يقدمها إليهم المجتمع لأنهم يعتزون بالله .. هؤلاء هم الفئة الوحيدة المؤثرة والتي تلوي زمام التاريخ لتأخذ القافلة الإنسانية(/5)
طريقاً جديداً ، لكن هؤلاء لا بد أن يكونوا مصوغين على طراز خاص ثمت قانون واحد يحكم هذا الكون برمته هو إرادة الله النافذة في الصغير وفي الكبير ، الانسجام مع هذا القانون مع المشيئة الإلهية المطلقة دون تردد دون المحاولة عليها ، ذاك شأن الأنبياء وشأن المصلحين الذين يتركون الآثار البينة الواضحة على مسيرة التاريخ البشري هم الذين ينفذون أمر الله جل وعلا راغبين راضين طائعين . ولكن أولئك الذين يساقون في طريق الحق ، أولئك الذين يُدفعون في ذلك الطريق بالسياط بل وركلاً بالأقدام لن يكونوا نافعين في المراحل الأولى من مراحل البناء .
فهناك فرق ما بين الصياغتين ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) وهو خطاب إلى المثل الأعلى محمد عليه الصلاة والسلام ، والخطاب الذي وجه في الآية التي تليها ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) هل نستطيع أن نتصور أن اكتساب هذه الحالة من الطواعية ، اكتساب هذه الحالة من الشفافية ، اكتساب هذه الحالة من التفاعل الحر بين الإنسان وبين القانون الإلهي المطلق يمكن أن يتم بالتأمل النظري ؟ أبداً هذه القضية يجب أن تكون واضحة ابتداءً . كثيراً ما يأتيك إنسان لا يحسن في هذه الدنيا إلا الكلام فيناقشك في أمور الدين من صلاحية هذا المبدأ ومدى قدرة هذه القاعدة على الفعل والإنجاز .. يا أخانا بل يا إخواننا إن ثمت لكل أمر جانبين : جانبه العقلاني النظري وجانبه العملي ، وليس ميسوراً لا نظرياً ولا عملياً أن يفصل بين الجانبين ، إن الله يقول ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) والله سبحانه تعالى بيّن لنا أن وضع الإنسان نفسه في الطريق هو الذي ينير له الطريق ولهذا كان لا بد أن يكون الخطاب ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) لا بد أولاً من أن تضع نفسك في كليتها ضمن الطريق الذي رسمته آيات الكتاب الكريم ، هذا شيء لا بد منه بحال من الأحوال وأنت مع الزمن تكتسب شيئاً فشيئاً خبرة إلى خبرة تجربة إلى تجربة قناعة إلى قناعة ، سوف تكتسب هذه الخاصية التي تجعلك تنفذ أمر الله جل وعلا من غير حرج لماذا ؟ في مبادئ الناس وفي أنظمة الآدميين يمشي الإنسان ويعمل والإنسان ويترك الإنسان وفي ذهنه مصالح قد تتحقق وقد تتخلف فإذا تحققت فرح ، وإذا تخلفت سخط ، ولكنه ضمن قوانين الله وضمن شرائع الإسلام التي أحاطت بمصالح الأفراد والجماعات عموماً يمشي الإنسان وهو في غمرة العمل يكشف آناً بعد آن ويوماً بعد يوم أنه من حيث الإيمان ازداد وأنه من حيث الفكر اتسع وأنه من حيث الأخلاق ازداد طهراً ونقاءً وأنه من حيث الرفاه اكتسب بالتعاون مع إخوانه حماية حقيقية ليست كتلك الحماية التي تقدمها المجتمعات المجرمة اليوم .. أعطني صوتك لأعطيك لقمة الخبز ، أبداً إنها الحماية التي تقول لك أن تعيش ذلك حقك لا يناقشك فيه مناقش ولا يدفعه عنك ، أنت تعارض الحاكم ولكنك إن كنت اليوم رجلاً في مجتمعات الجاهلية الحديثة فقف أمام حاكم من هؤلاء الحكام لترى أن أول شيء يغلق فمك وفم أولادك ، إن الحماية التي تقدمها المجتمعات الزائفة اليوم حماية مضللة ، لكن الحماية الحقيقية هي التي يقدمها مجتمع الإسلام . جاء رجل بعد حروب اليمامة إلى عمر فقال له عمر : ألستَ أنت قاتل ضرار بن الخطاب ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين أنا قتلت أخاك . قال عمر : والله لا أحبك . قال : يا أمير المؤمنين أذلك ينقصني من حقي شيئاً ؟ قال : لا ، ذلك شيء وهذا شيء آخر ، هذه عاطفة شخصية ، أنت قاتل أخي ، ولكن هذا حقك . قال له : إذاً لا بأس إنما يأسى على الحب النساء . إن أحببتني أو لم تحبني لا فرق ولا أهتم لذلك ، المهم أنك لا تتزحزح عن قاعدة الإسلام .
إذاً فمع غمرة العمل ومع مسيرة النضال ومع تحقق المكاسب الحقة يوماً بعد يوم يشعر الفرد المسلم وتشعر الجماعة المسلمة أنها في ظلال الله جل وعلا تتحرك وتتصرف لا بسائق الاتباع ولكن انتهاءً في هذه الروح التي تقدم باتجاه العمل ولا تشعر بآية حرج . هذه الصياغة هذا التصور هو الذي أوجد النماذج العاملة ، كان محمد عليه الصلاة والسلام كذلك ولم يكن قول الله له ـ والله أعلم ـ ( فلا يكن في صدرك حرج منه ) إلا خطاب للأمة لشخص عظيم لم يكن إلا كذلك فيما أظن ، وبعد التحليل الذي قلته لكم الآن ولكن مع الزمن رأيتم أبا بكر ورأيتم عمر ورأيتم عثمان ورأيتم علياً ورأيتم مالكاً ورأيتم الشافعي وأحمد وأبا حنيفة ورأيتم عبدالله بن المبارك وسفيان الثوري والحارس المحاسبي إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي لا تنتهي من الرجال العظام الذين يقومون اليوم كما قاموا بالأمس وسيقومون أبد الدهر شاهداً لا ينقضي على قدرة هذا الدين على أن يقدم وباستمرار للإنسانية النماذج التي تنفع في ساعات الشدة وتفعل عند الأزمات .(/6)
ذلك هو مدلول قول الله جل وعلا والحصيلة النهائية لقوله تبارك اسمه ( كتاب أنزل إليه فلا يكن في صدرك حرج منه ) يجب أن تتحرك بملء الحرية ، الحرية التي تسكن في داخلك لتنشأ المجتمع الحر ، كما قلت لكم من قبل إن مجتمع الإسلام الذي يتألف من الرجال والنساء الأحرار الذين لا يشعرون بأي ضغط ولا بأي إكراه ويندفعون قدماً في طريق الغاية التي حددها الله تبارك وتعالى .
لا أعتقد أيها الإخوة الأحبة أنني لن أعود إلى هذا الأسلوب من التعامل مع نص القرآن فقد يكفي ما ذكرت لكم في هذه الجمعة الماضية ليكون نموذجاً بأسلوب معين من التدبر والفهم لكتاب الله جل وعلا ، وأنا شديد الأمل وعظيم الرجاء في أن تنتفوا في زيادة الإمعان والتدبر مع المقارنات . وألفت أنظاركم إلى أمر أساسي إن أي نظر في كتاب الله يغفل قاعدة الكلية والشمول سيكون نظراً مختلاً بل سيكون نظراً مضللاً إن القرآن يجب أن ينظر إليه في كليته لأنه جسم واحد فلا تستطيع أن تنظر إلى يدك وأنت تغفل رأسك ، إن أعضاءك تتعاون كلها لتشكل دفة الحياة التي تتحرك به ، كذلك آيات الله المبثوثة في سور القرآن المجموعة بين دفتين المصحف لو أنك أخذت آية معينة وأردت أن تفهمها مفصولة عن غيرها فلن تصل إلى نتيجة ، لا بد أن يكون أمامك دائماً أن تنظر إلى القرآن في شموله وفي كليته ستجد أن الفهم وأن الأفكار تتدفق أمامك كالنهر الذي تصطخب أواذيه وأمواجه . فاعملوا على أن يكون فهمكم للقرآن كذلك .
أقول لكم اليوم ما نسيته في الجمعة الماضية ، وعدناكم منذ أسبوعين أن نعود إن شاء الله إلى الدروس التي قطعناها بعد نتهاء رمضان الفائت أعلن لكم الآن أننا بحول الله عازمون بعد اليوم واعتباراً من يوم الثلاثاء القادم بالتعاون مع الأخ الكريم أبي محمد الشيخ عبد القادر على القيام بدروس معينة في الجامع الوسط بين المغرب والعشاء يوم الثلاثاء ويوم الجمعة بعد صلاة المغرب مباشرة ، فمن شاء أن يفيد من هذه الفرصة فنحن سنكون مسرورين إن شاء الله إذا استطعنا أن نقدم لإخواننا أية مساعدة طبعاً على صعيد القضايا الإسلامية مذكراً على أن الدروس على الصيغة المعهودة واحد يقرأ أو يتكلم والباقي ينصتون ، شيء قل ما ينفع . اعملوا على أن تكون الدروس ميداناً للمحاورة للحوار من كان عنده شيء ليسأل ولا يتحرج بالنسبة إلي لو أن أحدكم رد علي وأنا على المنبر فلا بأس ، لأقول شيء وأكون في غاية السعادة وغاية السرور وكذلك في الدرس سواءً اعطوا الدروس هذه الحيوية المطلوبة التي تشعر بالمشاركة الفعلية بين الذي يعطي الدرس وبين الذي يستمع الدرس .
أسأل الله جل وعلا أن يردنا جميعاً إلى سواء السبيل وأن يضعنا على مراشد المور وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وآصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/7)
تفسير سورة الأعلى الحلقة الثانية
الجمعة 8 / 10 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
ففي الجمعة الماضية افتتحنا الحديث عن السورة الثامنة ، وفاقاً لترتيب المصحف بحسب سياق النزول على الأرجح ، ولَكم كنت حريصاً على أن أكون في التتبع والسرد أسرع من تطلعاتكم ورغباتكم ، ولكنا جميعاً وبغير استثناء نعاني من مرض قديم ونلمس آثاره وعقابيله تقهقراً وتخلفاً وانحطاطاً ، إن هذه الأمة ومنذ مئات السنين مع الأسف الشديد تنفر من معالم الأمور وتفر مما يكلف مشقة ، وآية ذلك أن هذا الخلط الوبيل يتجلى حتى في صغائر الأمور فنحن نحب السرعة ونحب الخفة ونحب أن نعيش أكثر أوقاتنا مع الأماني والأحلام ، أن تكون الأمة التي أراد الله لها أن تعلّم الناس الجد في الأمر كله ، وأن تعلّم الناس قيمة الوقت ، وأن تعلّم الناس أن الحياة تكاليف ومشقات ، هذه الأمة بالذات أصبحت من رسالتها على النقيض . وصدقوني حين أقول لكم والألم يحز في نفسي أنني منذ سنوات ومنذ بدأت أتحدث إليكم وإلى الناس على النحو الذي أتحدث به أعيش ما يشبه الغربة وأتقلب في الألم . إن كل شيء من حولنا يريد منا الجد ، وبالمقابل كل خلية من كياننا تريد السهولة والهزل ، وما من غرابة بعد ذلك أن تكون أحوال الأمة في مشارق الأرض ومغاربها على النحو الذي ترون هزائم متلاحقة وفشل المستمر .
وحسبنا أننا أضحوكة الناس في هذه الأيام ، إن الإسلام حين بدأ من أول الطريق في بواكيره الأولى ، اعتمد على الرصيد الذي لا رصيد سواه بعد الله تعالى وهو هذا الإنسان ، فهو بحكم استخلافه في الأرض مكلّف ومطالب ، وحين يميل إلى الرخاوة والطراوة فقد نبه الإسلام إلى أن ذلك علامة الدمار ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها فدمرناها تدميراً ) . وحين شحن هذا الإنسان بالطاقة وبعثه عنصر فعالاً في هذا الوجود أحدث المعجزة التي ما تزال آية في التاريخ لا تسبق ولا تلحق .
ونحن منذ بداية الطريق ومنذ سنوات ـ كما قلت لكم ـ ما غابت عنا هذه الحقيقة وكنا بين أمرين ، إما أن نعض بالنواجز على البداية التي بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكابد المشقة ونريح أنفسنا ونتملق عواطف الجماهير ونسد كثيراً من الأبواب التي تزعج وتؤذي وتسيء ، وإما أن نجد وندخل من الباب الضيق ونعمل للأمد الطويل ، ولعل منكم من يذكر أنني في هذا المكان قلت منذ سنوات : إنني قررت أن أتحدث إلى الأجيال المقبلة ، ما أقول هذا ـ يشهد الله ـ لأبعث اليأس في النفوس ولا لأحطم الهمم التي تريد أن تتوثب ، ولكني أريد أن أجسّم خطراً ماثلاً ، ربما يختدع بعض الناس فيه ، ولكنه يَضل ويُضل ، ومن الخير لنا قولاً واحداً أن نعرف ما نريد وبالحجم الذي نريد ، وأن نوفر من الطاقة كفاء هذا الذي نريد .
هذا كلام أقوله وأن أستذكر بعض ما قلت في الأسبوع الماضي ، لعلي ذكرت لكم أني سأمرّ على السورة ، ومن صنع الله تبارك وتعالى أنني ما استطعت على مدى ساعة كاملة أن أتجاوز كلمة واحدة ، مضت الساعة كلها ونحن نتحدث إليكم عن معنى ( سبح ) معنى التسبيح ، وحين كنت أتحدث يشهد الله أنني كنت أتمزق ، أعرف أن كثيراً من هذا الذي أقول غير مفهوم ، ولكن لا بأس ، ورجوت أن يكون هذا الأسبوع خيراً من الذي مضى ، وأن أُدخل على نفوسكم بعض السهولة والليونة ولكني مضطر إلى أن آخذ نفسي وإلى أن آخذكم أيضاً بألوان من مشقات ، لا بد من الصبر عليها .
إن هذا القرآن قائد هذه الأمة ودليلها والضوء الذي تعشو إليه والحداء الذي تسير من خلفه ، وهذا القرآن معجزة الله الباقية على الدهر ، لا يبليها كر الليالي ولا مر الأيام ، ثم هو صياغة الحكيم الخبير ، ثم هو عهد الله وميثاقه إلى الناس عامة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فهو بهذه المثابة نمط فريد ومعجز وعجيب من القول ، بل لعلنا نظلم القرآن إذا سميناه قولاً ، لولا أن الله جلّ وعلا سماه كذلك في بعض الأحيان ، لعل من الخير أن نركز على التسمية الأخرى التي وردت في القرآن وهي أنه روح ، فالكلام الذي يتلى له من الإعجاز والفاعلية ما للروح في جسم الإنسان . وكلام من هذا النوع خليق أن لا يتنطح للقول فيه إلا من أخذ له أهبته وأعد عدته ، ولكننا في زمان عضوض ، ولولا أن هذا الزمان منتكس ما كنت بينكم خطيباً ولا معلماً ولا مرشداً ، ومن أنا وأضرابي حتى نقف المواقف التي وقفها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس آيات الله ، وينثر عليهم حكمه الشريفة ، ويكون صدى ضخماً جداً لهذا الوصف الباهت الذي قاله فيه شوقي :
وإذا خطبتَ فللمنابر هزة تعرو النبي وللقلوب بكاء(/1)
هذا القرآن يجب أن نعطيه ما يستحق ، ومن الظلم البين له أن ننزل على حكم الضرورات ، فنستخف به ، بصياغته بمعانيه بإيحاءاته ، إن على الناس جميعاً أن يبذلوا من ذات أنفسهم كي يتعرفوا على كلام الله ، وإذا قصرت بالإنسان وسائله في بعض الأحيان فليس من المنطق ـ كلا ولا من الوفاء لهذا لدين ـ أن نتنازل لنتساوق مع إمكانيات الناس ، ولكن نحن نستنهض الهمم كي يستدرك بعض الناس ما ينبغي لهم أن يُعدّوه من أنفسهم من أجل أن يفقهوا كتاب الله تعالى .
وآلم شيء إلى نفسي أن أضطر في بعض الأحيان إلى خوض بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ، فأنا وأنتم نعرف المؤامرة الرهيبة التي صُنعت لاغتيال هذه اللغة ، من المؤسف أن الجامعات في الدنيا تدرس اللغات الميتة ، لغات لا يتحدث بها اليوم ، تحي من آدابها وتنشر من روائعها وتحاول الإفادة منها . ولكن لغة العرب تعيش في وسط هذه المؤامرة القاتلة ، لا لشيء إلا لأنها لغة القرآن ، وإلا لأن هؤلاء الأعداء والخصوم أدركوا ما آثر الإخوة المتقدميون أن ينسوه ، أدركوا أن الوفاء للعروبة عضّ بالنواجز على الإسلام ، وأن الحرص على اللغة فقه في دين الله تبارك وتعالى ، وأن الإنسان الذي يتنكر للإسلام فآخر إنسان يستحق شرف الانتماء للأمة العربية ، وأن الإنسان الذي يستعجم لسانه بلغة القرآن آخر من يتصدّ لتعليم الناس المبادئ القومية ، هذا المعنى الذي نسيه وأسقطه إخواننا التقدميون مع الأسف ، أدركه خصوم الأمة وأعداؤها ، وعلموا أن أي إنهاض للسان العربي فهو إنهاض بالضرورة لهذا الإسلام ، لأن الرابطة بين القرآن وبين لغة العرب رابطة لا تنفصل ، والوشيجة التي تربط العرب إلى الإسلام وشيجة لا تضعف ولا تنحل ، لأن العرب يحتل الإسلام منها محل القلب من الجسد ، محل الروح من الكيان الحي . مع ذلك فلا بد لنا من أن نقف في الآن بعد الآن ولو على سبيل لفت النظر عند بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ، لكي ننادي إخواننا الذي يرغبون في فهم كلام الله تعالى ، أن يستحضروا العدة لذلك ، من التعرف على أساليب العرب في الخطاب ، وأنه لا وفاء للإسلام أبداً إذا قصّر المسلمون في فهم كلام الله تعالى .
نعود الآن إلى ما مضى أن قلناه من قبل ، مع أن منادح القول في هذا واسع ، ولكن نمضي مع السورة .
يقول الله تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأول ما يلفت النظر في هذه الآية لفظان ، لفظ الرب ولفظ الأعلى ، ومعلوم لكل من قرأ القرآن ولو قراءة سطحية أن الرب جل وعلا وصف نفسه بأوصاف متعددة في القرآن الكريم ، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف ، وأحصاه عليه الصلاة والسلام في حديث الذي قال فيه : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدة . وترد هذه الأوصاف في القرآن متغايرة ومتباينة ، القارئ العادي يقرأها دون أن يحس ما يعنيه الفرق بين استعمال الوصف هنا واستعماله هناك . في الحقيقة الأوصاف الإلهية والأسماء الحسنى تعبر عن حقائق ، وحينما تنزّل صفة من الصفات الإلهية ، أو يُنزّل اسم من أسماء الله في مكان ما من سورة ما من آية ما ، فعلى قارئ القرآن أن يعرف مجمل الجو لكي يدرك لماذا اختير الوصف ولم يُختر وصف آخر ؟ فكلمة الرب هنا لو أنك قرأتَ فواتح السورة لأدركتَ أنها الوصف الذي لا يصلح غيره في هذا المكان ، اسمع ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) سأترك لكم إعطاء الحكم النهائي قليلاً كي نتعرف على على المسألة شيئاً فشيئاً .(/2)
معلوم أن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب حين نطقت بهذه اللغة الشريفة عبرت بها عن حقائق قائمة في النفس منطبعة عن وقائع في الوجود ، مفهوم فيما أعتقد ؟ فكلمة الرب في اللغة مأخذوة من مادة لها معناها الخاص ، مادة ( ربّ وربا ) هاتان المادتان أو هما مادة واحدة وأقول مادتان تسهيلاً تعنيان التنمية والحفاظ شيئاً بعد شيء ، وتعنيان مع ذلك عدم ترك الشيء المربوب من قبل الذي يرب أو من قبل الرب ، أعيد ؟ نعم سأعيد ، هذه الكلمة تعني التنمية والمحافظة والزيادة ، وتعني أيضاً المواصلة والمواظبة على ذلك ، وعدم ترك الشيء المربوب ولا لحظة واحدة ، فالرب هو الذي يشرف على ما يصنع حالاً بعد حال ، وزمان بعد زمان ، ولا يتركه حتى يصل تمامه وكماله ، وهو الذي أيضاً يحوطه ويحفظه من سائر الجهات ، وفي الأثر : ألك نعمة عند فلان تردها . يعنون بذلك أنك بربك للنعمة تحافظ عليها وتحرسها وتحوطها ممن يفسدها . ومن هذه المادة جاء معنى الربا ، والربا هو الزيادة ، والزيادة المستمرة ، ولولا الاستمرار المتلاحق ، ولولا سهر المربي كان من العبث أن يسمى الربا ربا ، ونحن لو أخذنا مقطعاً من القرآن الكريم يبين فيه لونين من الزيادة لاتضح لنا المعنى المراد . قال الله تعالى في موطن آخر من الكتاب ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) والمضعفون هم الذين تضاعف لهم الأجور ، فحين نقابل بين الإضعاف وبين الربا يتضح لنا الفارق بين معنى الرب الذي ينمي ويزيد شيئاً بعد شيء وعلى وتيرة متصاعدة والذي يحافظ ، وبين الزيادة التي تطرأ في إبانها وفي مناسباتها ولضروراتها ودواعيها .
فالربا زيادة في المال يأخذها المربي تزيد عاماً بعد عام ، أو تزيد شهراً بعد شهر . هذا من جهة المال . ومن جهة صاحب المال فهو حريص عليه محافظ على إنمائه وعلى زيادته ، فالزيادة شيء نابع من طبيعة الربا ، وحين نأتي إلى معنى ( فأولئك هم المضعفون ) فالإضعاف هو الزيادة تقول : أعطيت فلاناً مثل أجره ، أي مثله بالضبط ، وأعطيته ضعفه أي مثله مرتين ، والمضعفون هم الذين يضاعف لهم الأجر مرة أو مرتين أو سبعة مائة ضعف . لكن هنالك فرق في ما يتعلق بالأجور المستحقة على الأعمال ، فالأجر عليها لا يتبع قاعدة النماء شيئاً بعد شيء ، ولا يتبع الاستمرار ولا يستلزم الحياطة . أنت تعمل العمل اليوم تستحق عليه أجرك اليوم ، وتعمل مثله أو غيره بعد سنة أو بعد عشرات السنين تستحق عليه أجره الذي يستحقه ، فظاهرة التسلسل والنماء المستمر غير موجودة في الإضعاف ، بينما هي موجودة في الإرباء .
هذا المعنى بالضبط ملحوظ في كلمة الرب ، حين يستعمل في القرآن في هذا الموطن اسم الرب جلّ وعلا ، وصْف الرب جلّ وعلا فإنما ذلك لفت نظر ابن آدم بقوة إلى حقيقة يذهل عنها كثير من الناس ، وهو أنك أيها الإنسان لو تصورت ما أنت ؟ لوجدت أنك كنت شيئاً في علم الله جلّ وعلا ، ثم أصبحت نطفة قطرة من ماء في رحم أمك وعناية الله معك تحوطك وتربيك وتنميك ، لو أن أي خلل جزئي بسيط وقع في تركيب هذه المادة التي نزلت من الرجل في رحم الأم ما كنت شيئاً مذكوراً ، الله جلّ وعلا بعلمه وبرحمته وبمقتضى ربوبيته قدر أن تكون نطفة أبيك على النحو الذي هي عليه كي تنتجك أنت ، ثم وأنت في ظلمات الرحم تحوطك عناية الله يأتي الغذاء من حيث لا يقوم غذاء في العادة للأحياء ، ولكن قدرة الله التي لا تغفل عنك ورحمته التي تحيط به صحبتك أيضاً وأنت تتخلق أطواراً في رحم أمك ، حتى إذا ضرب المخاض أمك نزلت طفلاً سوياً ، لك كل معالم الإنسان وكل قسيمات الإنسان ، ومع هذا فأنت بعد أن كمل تكوينك واستقامت خلقتك قادر على أن تستقل بنفسك ؟ لا ، أنت محتاج إلى ماذا ؟ محتاج إلى الله طبعاً ، ولكن أي وصف هذا الذي ينبغي أن يستصحبك وأنت تمر في أطواره ؟ وصف الرب ، الرب الذي لا تغفل عين عنايته عنك لحظة واحدة ، معك وأنت جنين ، ومعك وأنت طفل تمص ثدي أمك وتغتذي بلبنها ، ومعك وأنت تتمرن على إساغة بعض ألوان الطعام ، ومعك وأنت تحاول أن تقعد ، ومعك وأنت تكبو وتتعثر لكي تمشي ، ثم هو معك حينما تشب أطواراً ، وهو معك حين الكهولة وفي الشيخوخة وإلى أن تفارقك أنفاسك .(/3)
هذا الوصف الذي يعني مداووة العناية ، والذي يعني الحياطة ورد الآفات والأسواء عنك ، هذا المعنى لا يليق به إلا الرب ، إلا وصف الرب جلّ وعلا ، فمن هنا ترون أنه لو اختير في هذا الكلام أي وصف من أوصاف الباري تبارك اسمه لكان غير مؤدٍ للمعنى نظراً إلى السياق الذي مرت به الآيات ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ) فأشار لك إلى هذه الخلقة التي خلقك عليها ( والذي قدر فهدى ) فلفت نظرك هنا إلى دوام عنايته بك وبالكون كله ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) هذا الرب أيضاً لا تظنن بتاتاً أن عنايته تحيطك وحدك ، فعنايته ودوام رحمته محيطة بالكون كله معك ، وحين يضرب لك هذا المثل البسيط والقريب جداً يريد أن يلفت نظرك إلى معنى الرب ، كما يريد أن يفلت نظرك إلى أنك ثمرة من ثمرات القوة التي أنشأت هذا الوجود ، أنت لست بدعاً في الكون طبعاً ، ألا ترى إلى النبات تنشق عنه البذور ويبسق في الجواء ثم ينمو ، أنت كذلك ، العناية التي صحبت النبات منذ كان بذرة وإلى أن صُوّح وانتهى هي هي العناية التي صحبتك منذ كنت نطفة في رحم الأم وإلى أن يضمك القبر .
وكلمة ( الأعلى ) كما يعرف كل من شدا شيئاً من علوم العربية صيغة تفضيل ، تقول : فلان أعلم من فلان ، وفلان أكرم من فلان ، وفلان أعلى من فلان . هذه الصيغة هي ما يُطلق عليها في اللغة اسم التفضيل ، والتفضيل كما هو معروف في قواعد اللغة وأساليبها يتقتضي وجود فاضل ومفضول ، ويتقتضي اشتراك الطرفين في الصفة التي هي مجال التفضيل . فحين نقول ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقد يتبادر إلى أذهاننا ، ويقيناً الإنسان العامي الذي لا يُكلف نفسه مشقة معرفة قوانين اللغة يتصور أن الأعلى يشكل طبقة لما هو أدنى منه ، وأن الأدنى والأعلى يشتركان في الصفة العلو ، فهل يعني هذا أن الله حين يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ( سبح اسم ربك الأعلى ) يريد أن يقرّ في ذهنه أن الله إله أعلى من كل الآلهة ، هذا خطأ في في التصور ، ولو أننا حكّمنا ما يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى لقلنا إن هذا مقتضى اللغة ، ولكنا نلفت النظر إلى قاعدة في التفضيل .
إن التفضيل الذي يدل على اشتراك طرفين في صفة واحدة ينبغي أن يكون مضافاً لا مقطوعاً ، فهنا التفضيل مقطوع ، نقول : الله أعلى وأجل . ولكنا إذا قلنا : الله أعلى من اللات وأعلى من هبل وأعلى من العزى ، فمعنى ذلك أننا أضفنا التفضيل ، وإضافة التفضيل تقتضي الاشتراك في صفة الفضل . نقول : فلان أكرم من فلان . ذلك يعني أن فلاناً وفلاناً يشترك في هذه الصفة ، وأن الكرم خصيصة تنتظم الجانبين . فهل الأمر كذلك حينما نقول ( سبح اسم ربك الأعلى ) لو قلنا ذلك لسقطنا في حضيض الكفر ، لأننا سنثبت لآلهة العرب المدعاة الزائفة شيئاً من صفة العلو وهي في الحضيض . فالتفضيل حينما يكون مقطوعاً على هذا النحو يخرج عن بابه ، ويكون المراد منه أن يُرفع الرب إلى أقصى مقامات الإجلال والكمال .
فالله جل وعلا حين يقول لنبيه عليه عليه الصلاة والسلام ( سبح اسم ربك الأعلى ) يريد أن يقول له : إن ربك هو الأعلى ولا علو مستحق لغيره بوجه من الوجوه . الله هو الأعلى ، والكون كله بما فيه من مخلوقات مقامهم مقام العبودية .
ثم بعد أن فرغنا من هذا الكلام العسير ومن هذا الكلام الذي قد يتصور البعض أنه يجب أن لا يقال مع أنه يجب أن يقال ، مع أنه يجب على كل إنسان من المسلمين ومن العرب أن يتعرف على حقائق اللغة ليعرف مدلولاتها وليدرك مرادات الله تتبارك وتعالى ، وأنه يجب أن يعرف أن العرب في سلائقها وفي فطرها المستقيمة كانت تنفر من طول الكلام ومن تشقيق اللسان وتعد ذلك عجزاً وتعده عياً وتعده من معايب الخطاب ومن معايب الكلام ، لأن القرآن نزل لكي يخاطب ما استقرّ في الطبيعة العربية من قابلية للتفاعل مع أبعد نأمات الإيحاءات التي توحيها الكلمة .
العربي الذي يسمع هذا الكلام ( سبح اسم ربك الأعلى ) يتصور مباشرة وبدون أن يمرّ بكل هذه التحاليل التي مررنا بها ، وبكل هذا الكلام الذي قلناه ، يتصور ربه هو الأعلى وأنه لا عليّ إلا الله تبارك وتعالى .(/4)
( سبح اسم ربك الأعلى ) من ؟ ( الذي خلق فسوى ) وأية بادرة من الذهن تشعر بأن ترتيب الكلام على هذا النحو ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ) نزول من الأعلى إلى الأدنى مباشرة ليستقرّ في الذهن أن ما سوى الله فمخلوق ، وأن ما سوى الله فمربوب ، وأن ما سوى الله فمحتاج إلى الله تبارك وتعالى . ( الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ) خلق فسوى ، كلمتان تأتيان وراء بعضهما ، ماذا تعنيان ؟ أنت يا أنت قارئ القرآن ماذا تفهم من ذلك ؟ الخلق هو الصنع ، وكل عامل في الحدادة أو في النجارة أو في أي عمل من الأعمال يعلم أن ليس كل عملٍ عملٌ وليست كل صنعةٍ صنعةٌُ ، وأن العمال والصانعين يتفاوتون من حيث الإتقان تبعاً لدرجة المران وبقدر ما أنتجوا من المادة التي صنعوها ، فحين تصنع شيئاً قد يخرج معك على نحو بدائي غير منسق وغير مرتب ناقص الأداء ، ولكن الله تعالى أراد أن لا يلحق بخلقه هذا التصور ، وأراد أن يستقر في عقل الإنسان إن خِلقة الله على أتم وأكمل ما يكون ، فالخلق هو الإيجاد ، ولكن التسوية هي التهذيب والتشذيب والتعديل ، أنت تقتطع قطعة من الجبل حجارة فأنت صنعتها بهذا الشكل باقتطاعك لها ، بمجرد هذا الاقتطاع صنعتَ حجر ، ولكن لا يقول قائل : إنك نحتَ منها تمثالاً ، ولا يقول قائل : إنك جعلتَ منها لبنة تصلح في مكان مستوٍ ، ولكنك حين تُعمل الإزميل والفأس فتسوي من هذه الكتلة تمثالاً جميلاً ، أو حينما تُعمل الإزميل والفأس فتشّب أطرافها حتى تكون حجارة تأخذ مكانها في الجدار على استقامة فأنت في هذه الحالة لم تخلقها وحسب وإنما خلقتها وسويتها . وهذا هو معنى التقويم الذي ورد في مواطن أخرة من القرآن الكريم ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فأنت لم يخلقك الله تعالى كما يُخلَ أي شيء بلا قيمة ، لا ، أنت خُلقتَ لغاية وخُلقتَ لهدف ، أنت رُشّحتَ لكي تكون خليفة الله في الأرض فاهماً عنه قيّماً على شئون الدنيا ، قيّماً على حراسة دين الله ، حارساً على كلمات الله تبارك وتعالى .
فمن أجل ذلك أنت لا بد أن يكون قد سواك الله تعالى تسوية لكي تؤدي هذه المعمة ، فأنت أيها الإنسان مخلوق على أحسن صورة وأكمل خلق يساعدك على أداء هذه الغاية .
( والذي قدّر فهدى ) والذي يُفهم من التقدير طبعاً هو قضاء الله تعالى أن يكون الأمر الفلاني على الشكل الفلاني ، ولكن للعلماء في هذا المجال كلاماً وإن كان غالبهم لا يأخذ به إلا أنني أجدني أميل إلى اعتناقه وتبنّيه ، فكلمة ( قدّر ) بهذا البناء في اللغة تعني : جعل الشيء وفقاً لمقدار ، وجعله مؤدياً لغاية . وتعني من جانب آخر كلمة ( قدّر ) بهذا البناء إعطاء القدرة ، تقول : قدّرتُ فلاناً على أن يفعل كذا ، أي منحته القدرة والقوة على أن يؤدي الشيء الفلاني . وفي تقديري ولا أدري فقد أكون مصيباً أو لا ، أن هذا لمعنى الثاني أولى بأن يؤخذ به في تأويل الآية ، فالله تعالى أوجد هذا الإنسان وأوجد هذه المخلوقات جميعاً ، منها الناطق ومنها الصامت ، ومنها الحي ومنها الجامد ، لكن كل ما أوجد الله تعالى تضمن سنناً وتضمن قوانين لها فعلها ولها أثرها في الكون ولها وظيفتها في هذا الوجود ، من الذي أعطاها القدرة على أن تؤدي ما يراد لها أن تؤديه ؟ الله . فالله تعالى قدّر هذا الإنسان ، أي أقدر هذا الإنسان على أن يتحرك في المسار الذي أراده الله تعالى له ، ويزيدني قناعة وميلاً إلى هذه التأويل كلمة ( هدى ) فالله تعالى يقول ( والذي قدّر فهدى ) أي أعطاك القوة على الحركة ، والحركة لا يُشترط فيها أن تكون مستقيمة ، فدوران الإنسان حول نفسه حركة ، وأخذه يميناً وشمالاً حركة ، وضربه في التيه حركة ، واستواؤه على جادة مستقيمة حركة ، لكن هذا الإقدار حكمه الله تعالى بأنه مقصود منه الهداية ، عند هذه النقطة أريد أن أقول كلمتين لأقف .(/5)
حينما نسمع الله تعالى وممتناً على ابن آدم ( والذي قدّر فهدى ) بعد أن أبان له أنه خلقه فسوى ، يريد أن يقول له : يا ابن آدم أنا الذي خلقتك ، ولم أخلقك خلقاً ناقصاً وكنت على ذلك قديراً ، فسويتك وجعلتك في أحسن تقويم ، ثن أعطيتك القوة لتتحرك وتعمل وأقدرتك على ذلك ، ولو شئتُ ما أعطيتكها أبداً ، ثم هديتك ( وهدايناه النجدين ) فأنت يا ابن آدم حينما تستخدم نعم الله عليك من الإيجاد والخلق ، والتسوية والإقدار في غير ما أراد الله تبارك وتعالى فأنت عندي كافر جاحد ، وأنت في أعراف بني آدم ناكر للجميل . تصوّر أن رجلاً أعطاك مبلغاً من المال لكي تستعين بها على قضاء حوائجك وإرضاء ضروراتك ومصالحك ، فذهبتَ واشتريت بها مسدساً وجئتَ تصوبه إلى صدر هذا الذي أعطاك هذا المال ، ما أنت ؟ أأنت إنسان ؟ أم أنت مخلوق نكد ناكر للجميل ؟ في أعراف بني آدم في فطرهم وفي سلائقهم وفي أخلاق الناس استعمال النعم ضد الذي أنعم بها سقوط في الخلق وانتكاس في الطبع ، فالله تعالى إذ يعدّ عليك نعمه بهذا الشكل لا الشكل الغيبي وإنما بالشكل المحسوس ، الذي تحسه في نفسك وفيما حولك ومن حولك ، يريد منك بكلمة هدى أن تلتزم الطريق الذي أراده لك .
أما أن تستخدم نعم الله لكي تعصي بها الله فذلك خلاف مقتضى الإنسانية ، ولو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الدنيا إلى هذا المعنى الذي فهمه الإنسان العربي يوم تلاه محمد صلى الله عليه وسلم فاستقام عليه طبيعته كلها ، لو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الإنسانية إلى هذا وتساءلنا : كم من النعم التي يتكلم فيها أيها الإخوة ؟ هل نحن الذين أوجدنا هذه النعم ؟ لا ، هل نحن الذين أوصلناها إلى أنفسنا ؟ لا ، لا يتوهمن متوهم أن عمله وسعيه وكدحه هو الذي يجلب عليه الرزق ويردّ عنه السيئات ، أبداً ، لا بد من عون الله ، ولا بد من إرادة الله ومن مشيئة الله ، وقديماً قال قائلهم :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده
وكم من لقمة وصلت إلى الفم ثم اختطفت ، وعملك وكدحك وجدّك ونشاطك ليس هو الذي يقرب إليك الخير ويدفع عنك الضير ، أبداً ، الله هو الذي يعطيك ، والله هو الذي يحرمك إن شاء ، والله هو الذب يمتحنك ويبتليك ، والله هو الذي يسامحك ويعافيك .
فالله تعالى يريد لك أن تعلم أن استخدام هذه النعم على النحو الذي تستخدمه أنت أيها الإنسان ، هذه النعم التي تتقلب بين أعطافها وتتمتع بها وتتملاها عينك ، وتسعدك بها حواسك ، من أين لك ؟ من الله ، أفجائز لك في قضية العقل .. أيسوغ لك في قانون الخلق أن تستخدم ما أعطاك الله فيما يغضب الله تعالى ؟ سل نفسك .. أنت تعطي الدنيا من ذاتك الشيء الكثير والكثير الكثير .. كم من الوقت تذكر الله فيه ولا تنساه ؟ إن الله فرض عليك فرائض فهل أنت مؤدٍ لما افترض الله عليك ؟ إن الله منعك أشياء أفانت مع هذا المنع ؟ إن الله أراد لك أن تسلك طريقاً أفأنت سالك هذا الطريق ؟ بل أفأنت معين على سلوك هذا الطريق ؟ كل هذه الأسئلة لو أردنا أن نجيب عليها بحرية واطمئنان لوجدنا أنفسنا نقف في الصف الخاسر ، نحن مع الله لسنا أوفياء ولسنا أخلاقيين ولسنا راغبين في خفض العيش ورغده ولسنا راغبين في سعادة مرموقة عند الله تبارك وتعالى ( أم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) ألم يأنِ لك أيها الإنسان أن تذكر الله الذي خلقك وحاطك ورباك وسخر لك ما في السماوات والأرض جميعاً منه .. ألم يأنِ لك أن تفيء لله ربك ؟ آن لك أيها الإنسان ؟ آن لك أن تصيخ للنداء فإنه النداء الذي يتغلغل في أعماق الذي صغت قلوبهم لذكر الله تبارك وتعالى .
( يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ) إن لك غاية فاكدح نحوها ، وإن لك هدف لم تصنعه يداك ، ولكن رحمة الله أنزلته قرآناً يتلى وشريعة تُتبع وتسلك ، فاعمل على أن تكون مع الله ومع شريعة الله واجتهد في أن تسير في طريق الله ، ذلك خير للذين يريدون وجه الله ، وذلك علامة على كمال الإنسانية لا سقوطها ، ولعلي لا أقول عجيباً إذا قلت إن إنسانية اليوم كلها محتاجة إلى أن تعيد النظر في أمور تعتبر ألف باء الوجود الإنساني ، محتاجة أن تعيد النظر في قواعد الأخلاق ، إن الأخلاق تقتضي أن تستخدم نعمة الله فيما يرضي الله ، وأكبر نعمة عليك أن الله أوجدك .
فسخّرْ وجودك كله بكل ما فيه من طاقات وما شُحنت فيه من إمكانات ومواهب لكي ترضي الله تبارك وتعالى . فلا ربّ إلا سواه ، ولا منقلب لك إلى غيره ، فأعد الجواب ليوم تشخص فيه الأبصار ، أجارنا الله وإياكم من سوء المنقلب وسوء العاقبة وكتب لنا ولكم وللمسلمين سلوك سبل الهداية والتوفيق وما يريضي الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير سورة البروج (2)
الجمعة 26 ربيع الآخر 1397 / 15 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
في الجمعة الماضية تحدثنا إليكم مطولاً عن فضل سورة البروج ، وهي كما لا يخفى سورة عظيمة وكريمة وإذا جاز لنا أن نتعرف على الأسس التي تأخذ هذه السورة أهميتها منها ، فإن من بين هذه الأسس بلا شك أن هذه السورة العظيمة أرّخت لمرحلة هامة وحاسمة من مراحل الدعوة الإسلامية زمن مؤسسها وقائدها محمد صلوات الله وسلامه عليه .
ولقد قمنا في الجمعة الماضية والتي قبلها بالبحث عن الواقعة التاريخية التي أشارت إليها السورة الكريمة إشارة عامة ، ثم عقبت بعد ذلك على هذه الواقعة بجملة من الدروس والمواعظ المنبثقة عن هذه الواقعة والمؤسسة عليها . وأنتم بطبيعة الحال في غنى عن إعادة الواقعة ، ولكننا جميعاً لسنا أغنياء عن دراسة الواقعة ، وعن محاولة التعرف على أهم ما فيها من دروس وحكم . إن مسألة المحنة والابتلاء في الدعوات مسألة طبيعية ، وأقصد أنه لا بد في كل نظام اجتماعي بشري حين تخرج من بين صفوفه دعوة تهز أركانه وتضع أسسه وقواعده موضع التساؤل لا بد لهذا النظام من أن يأخذ أهبته في الدفاع .
تلك ظاهرة معروفة وأظن أن أي دارس للتاريخ العام ولتاريخ الديانات ، وإن أي مطلع ولو بصورة سطحية على تاريخ الإسلام في صدره الأول يدرك بجلاء لا مزيد عليه أن المؤمنين أوذوا في الله ، وأن الشدة والبأساء والبلاء أخذتهم من جميع أقطارهم ومن البعداء والأقرباء والأعداء والأصدقاء على حد سواء .
لكن هذه الحادثة لها طعم خاص ، لها لون خاص ، لها مدلول خاص . ولكي لا نقفز من فوق القضايا التي ينبغي إبرازها والعناية بالتفكير بها فلا بد أن نشير إلى ما سبق أن قلناه قبل الآن ، إن سياق الآيات ودراسة وقائع التاريخ تشهد على الأرجح أن الحادثة وقعت قبل بعثة النبي عليه السلام وبعد ميلاد عيسى صلوات الله عليه ، أي في الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وعلى جميع إخوانهما من جميع الأنبياء والمرسلين .
فإذا نحن رحنا نتعرف على مسيرة الدعوة المسيحية بعد رفع المسيح عليه السلام فإننا نجد في تاريخ المسيحية منعطفاً خطيراً كان ذلك في بداية القرن الرابع الميلادي ، وكان ذلك بعد أن أسلم قسطنطين إمبراطور الرومان ، وكان ذلك بعد أن بذل هذا الإمبراطور محاولة جاهدة لتوحيد التيارات الدينية في مملكته ضمن تيار واحد . وهذا طبعاً شأن السياسة ، فالساسة في أي زمان وأي مكان ضد التطور وضد التقدم ، لا يمكن أن يوافقوا على العمليات الانفجارية ولا يمكن إلا أن يقفوا في وجهها . والإمبراطورية الرومانية في الأرض إمبراطورية وثنية ، أي أنها كانت تعبد الأصنام والتماثيل . وليست تماثيل اليونان المشهورة في التاريخ إلا أثراً من هذه الآثار الوثنية التي كانت عليها روما بعد أن ورثت حضارة اليونان .
لكن ضمن الإمبراطورية الرومانية كان يوجد يهود ويوجد المسيحيون ويوجد وثنيون ويوجد فلاسفة ومفكرون مؤلهون ويوجد فلاسفة ومفكرون ماديون ، كما يوجد مجوسيون على مذاهب ونحل وآراء متعددة ومختلفة .
إن شؤون السياسة طبعاً لا تستقيم على حالة كهذه من التشتت وتفرق المنازع والآراء والأهواء ، فالمحاولة التي بذلها قسطنطين ظاهرة طبيعية في علم السياسة ، لا استنكار تستدعيه ولا شيء مما يخرج على مألوف الساسة في أي زمان ومكان . لكن المهم أن نقرر حقيقة يجب أن يستحضرها كل إنسان هي أن مسائل العقيدة ليست مما يصلح معها أن تبذل المحاولات لتوحيدها بقوة القانون وبرغبة السلطة ، فالقانون والسلطة يتناولان الأجسام ، ولكن لا شأن لهما بقلوب الناس ولا يستطيعان تغيير شيء من اتجاهات الناس العقلية ، إلا أنه حينما يكون الموقف من الجهة المعارضة متصلاً بالصلابة والرسوخ فبالسلطة في ذلك الحين موقف معروف أيضاً هو التناهي في الضغط والتناهي في الإكراه والتناهي في بذل الجهود لملاحقة الخارجين على القانون السائد والعرف المتبع . إن قسطنطين فكر في أن يجمع كل هذه الآراء والأهواء والمتجهات في مذهب واحد ، وجمع الأساقفة بعد أن انتشرت الديانة النصرانية في جزء كبير من أجزاء الإمبراطورية الرومانية وخرج بقرارات ، الهدف منها إيجاد صيغة يمكن أن تستوعب كل هذه الاتجاهات المتضاربة .
خرج بصيغة تقول:إن المسيح عليه السلام ليس رسولاً فحسب ولكنه هو ابن الله وهو التجسيد الحي لله خالق السماوات والأرض.وخرج بسلسلة من التصورات والمفاهيم جعلت المسيحية بعد أن كانت توحيداً وإسلاماً لله تعالى أصبحت ضمن الأديان الوثنية وليس مع الأديان الموحدة.(/1)
إلا أن حقائق الدين كما قلنا ومسائل العقيدة ترفضان الخضوع كل الخضوع ، فخرج على قسطنطين ناس ، فلاحقهم في البراري والصحاري ، وشردهم في الأديرة ، فخرجوا فارين بدينهم . وبقيت عنده بعض حقائق الدين ، وكان من ضمن من خرج شرذمة من النصارى الذين فروا من قسطنطين وتوغلوا في جزيرة العرب واستوطنوا في وسط الجزيرة في منطقة نجران بين الحدود بين السعودية الحالية واليمن .
إن الشيء الذي يلفت النظر ليس أن تعمد اليهودية إلى امتحان النصارى ، لأن اليهودية في وطن النصارى في الشام ، حاربت المسيحية ، وسعى رجال الدين اليهودي لدى الإمبراطور الروماني لاستصدار حكم الصلب على السيد المسيح عليه السلام . وكانوا الساعد الأيمن في مطاردة المسيحيين . ليست المسألة التي تلفت النظر هي هذه أبداً ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر هو أن شركاء العقيدة لا يمدون يد المساعدة لبعضهم ، حينما قال أحدهم بنشر اليهودية في اليمن ومضى ، ووقعت واقعة الأخدود التي تحدثت عنها سورة البروج في نجران ، وشقوا للناس الخنادق والأخاديد وملؤوها بالنيران المتأججة وألقى فيها اليهود المسيحيين وأحرقوهم وهم أحياء ، لماذا لم تكترث الدولة النصرانية في الشام ؟ ولماذا لم تتحرك الولاية الرومانية في مصر ؟ ولماذا لم تتحرك الدولة النصرانية في الحبشة ؟ علماً بأن مجال الإنجاد مفتوح ، لماذا ؟ إن هنا موضعاً للتأمل والتفكير الطويل .
نرجع إلى الآيات لنعرف ما أسباب المحنة كما شرحها الله تعالى ، ومعهودنا من الله أنه حينما يعرض الدرس الكبير ويتناول الموقف الخطير لا يلقيها إلى المسلمين مجرداً بل يبرز الأسباب . اسمعوا : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قُتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) إلى هنا ينتهي عرض المسألة ، لنأتي مباشرة إلى استماع التعليل وإلى إبراز السبب الذي من أجله تعرّض هؤلاء المؤمنون إلى امتحان قاسٍ ، قال الله تعالى ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ) إذاً فنحن نستطيع أن نعرف السبب الذي من أجله تعرّضت هذه العصابة المؤمنة لهذا البلاء العظيم . أهي نزاع على الدنيا أو على السلطان ؟ لا شيء من هذا . لكن الجريمة التي ارتكبها المؤمنون هي أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد . ندع هذا الكلام مؤقتاً لنعود إلى صلب الواقعة التاريخية .
ونتساءل : ألم تكن نصرانية الرومان تؤمن بالله العزيز الحميد ؟ ألم تكن اليهودية تؤمن بالله العزيز الحميد ونحن ما زلنا في تاريخ الأديان المقارن نعتبر اليهودية من ديانات التوحيد ؟ إن إلقاء السبب بهذا الشكل مجرداً عن علائقه جميعاً يوحي ويطبع في الأذهان أن ثمة معسكرين ، معسكر يؤمن بالله العزيز الحميد فهو من أجل ذلك تعرّض لهذا البلاء الشديد ، ومعسكر آخر يظن كل هؤلاء الناس الذين أشرنا إليهم لا يؤمنوا بالله العزيز الحميد . ولكن الآن تذهب وتقول لليهودي : أنت لا تؤمن بالله ، فسيقابلك بالإنكار ، سيرى أنك تجرح إيمانه وتعتدي على دينه . وتذهب إلى النصراني وتقول له : أنت لا تؤمن بالله العزيز الحميد . فسيقابلك بالإنكار ويرى أنك ألحقت به إهانة لا تُغتفر . لكن واقع الأمر يختلف .
إننا حين نضع قضية الإيمان في مجال التفكير فإن الإيمان ينحل معنا من حيث النتيجة ودون حاجة إلى بحوث مستفيضة ، إلى عدد من الأفكار ، أولاً : هذا الكون العظيم الهائل لا يعقل أنه نشأ هكذا مصادفة ، كما أنه لا يعقل أنه أنشأ نفسه (أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) إن العقل السوي السليم لا يستوعب هذين الاحتمالين أبداً ، لا يقر أن الكون وُجد من غير شيء ، كما لا يقر أن الكون أوجد نفسه ، فمحال أن يُجمَع الفعل والفاعل في آن لاستحالة أن يكون الخالق والمخلوق في آن واحد . وإذا فلم يبقَ في مجال الفروض إلا هذا الفرض الواحد الصحيح وهو أن هذا الكون الهائل الآخذ بالاتساع من صنع الله تعالى .
أنت أيها الإنسان جزء من هذا الكون يسري عليك القانون الذي يسري على الكون كله ، وحينما نقر أن هذا الكون مخلوق فنحن نقول بديهة أنك أنت أيها الإنسان الذي أنت جزء من هذا الكون أيضاً مخلوق . ومصيرك مرهون بهذا الخالق طالما أنت جزء من مخلوقاته . وكل مخلوقات الله تسير وفق القوانين التي وضعها الله لها ، فمن غير المعقول أن تكون أنت وحدك أيها الإنسان من بين مخلوقات الله أن ترفض أن تسير وفق القوانين والنظم التي شرعها الله لك . فمن غير المعقول أن تكون أنت أيها الإنسان الشاذ من بين مخلوقات الله .(/2)
انظر إلى نفسك .. انظر إلى قدراتك .. والله يقول لك ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) فستجد أنك من حيث العمر محكوم بقانون الولادة ثم النشأة ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة فالموت ، أي أنك محكوم من الزمان من طرفين ، من البداية والنهاية ، وبالتالي أنت تدرك بضرورة الإحساس والمشاهدة أنك كائن طارئ في هذا الوجود ، ليس لك صفة الخلود ولا السرمدية ، فأنت من حيث العمر الذي نضعه أساساً للنظر مؤقت بزمن بسيط لا يساوي في عمر الزمان طرفة عين . فإذا نظرتَ إلى قواك والإمكانات والمواهب والحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك والتي جبلك عليها فسوف تخرج بنهاية القياس أنك مستطيع بغيرك غير مستطيع بنفسك ، أي أنك كفرد ليستَ قادراً على أن تحصل الضرورات اللازمة لقوام عيشك ، فلا بد في صفاتك المعيشية من أن تستعين بإخوانك من بني البشر .
والناس كمجموعة ، مجموعة لهذه الطاقات ، صحيح أن مجموعة الطاقات أقوى وأعظم وأكبر من طاقات الأفراد ، ولنضربه بواحد واثنين وبعشرة وبألوف وبملايين ومع ذلك فسيظل معنا في نهاية المطاف أن الإنسانية عاجزة من حيث هي موكولة إلى قدراتها عن تحصيل أسباب السلامة والهدوء والطمأنينة في هذه الحياة . من الذي يستطيع أن يرشد الإنسان إلى سلوك السبيل الأقوى والأقوم لانتهاج الطريق المستقيم ؟ أنت في لقمة العيش لا تجد غضاضة ولا عيباً في أن تستعين بإخوانك من بني البشر ، فإذا كنتَ في لقمة العيش محتاجاً إلى الآخرين فأنت محتاج أكثر فيما هو أهم من لقمة العيش مما يتناول استقرار الكائن البشري .. فيجب أن لا تحسّ بالغضاضة ولا تشعر بالعيب حينما يُقال إنك أيها الإنسان لا تستطيع من غير هداية الوحي ، ولا تستطيع من غير دعم من الله أن تهتدي إلى الطريق الذي يدلك إلى السعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة .
من هذا التحليل الموجز لأصول قضية الإيمان نصل إلى أنه لا يكفي في ميدان في عقيدة التوحيد أن يقول الإنسان أنا مؤمن بالله ، تلك دعوى يقدر عليها ويطيقها كل إنسان ولكنها ليست كل شيء بل ربما كانت في كثير من الأحيان لا تدل على شيء على الإطلاق . إن فيصل التفرقة بين من يؤمن بالله العزيز الحميد والذي لا يؤمن بالله العزيز الحميد أن المؤمن ملتزم بمنهاج الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم جميعاً والذي لا يؤمن بالله هو ذلك الإنسان الذي يكتفي من عالم الإيمان بالدعوى وبالتبجح ثم يضرب بكل مقررات الدين وبكل أوامر الله وبكل تعليمات رسل الله عرض الحائط ليتخذ لنفسه منهاجاً ونظاماً من اختراع نفسه ومن تصورات عقله لا ينتج عنه إلا الخلل والدمار والهلاك .
اليهودية لماذا حاربت النصرانية ؟ حينما نقول إن اليهود مؤمنون ، والنصارى مؤمنون بالله العزيز الحميد ، لنفترض أن النقيضة الأساسية غير موجودة وهي ضرورة إرسال رسول جديد ، لنفترض أن هذا غير موجود . فلماذا يتصارعون ؟ لأنهم يتصارعون على القواعد والأسس ، لخلاف على صورة الكون والحياة ومنزلة الإنسان في هذه الحياة ، إن اليهودية من بعد موسى ومن بعد هارون عليهما السلام انتكست في حياة عنصرية ومادية وقبلية ضيقة جعلت تعتمد مبدأ العدوان أساساً لكل تصرفاتها .
فمن أجل ذلك سقطت اليهودية في هذا التسلط وهذه الشراسة التي رافقت بني إسرائيل منذ عصر بعيد جداً . إن اليهودية فقدت كل الأسباب وكل المبررات التي تدعوها إلى أن تكون وسيلة هداية ، وأن تكون رسالة سماوية يفيء الناس إلى ظلها أو أن يجدون فيها الحلول لمشكلاتهم اليومية أو المستقبلية . فمن أجل ذلك جاء عيسى صلوات الله عليه رسولاً من الله تعالى لكي يبعث الرطوبة في هذا الجفاف الذي تسرّب إلى اليهودية . من الخطأ البين أن نتصور النصرانية ديانة قائمة بذاتها ، إن النصرانية هي تجديد للدين اليهودي . ولهذا نرى الإنجيل يخلو تماماً من التشريع ، لأن الله تعالى في ميدان التشريع ردّ الحقائق التي أنزلها في التوراة على موسى عليه السلام . ولكنه جاء بهذه الدعوة الروحية وجاء بشيء من التجديد ومن التسهيل لمرافق الحياة قال ( ولأحلّ لكم بعض الذي حُرّم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ، إن الله ربي وربكم فاعبدوه ) هكذا قال المسيح عليه السلام لليهود .
وحينما تحولت النصرانية على يد قسطنطين ومن بعد قسطنطين إلى ديانة محرّفة فيها كثير من عوامل الوثنية لم يقف الأمر عند هذا الحد . إن النصرانية بهذا الاعتبار الذي شرحناه ديانة مدعوة إلى تحكيم شرع الله الوارد في التوراة ، فإذا طرحنا على أنفسنا هذا السؤال : بماذا كانت تحكم الدولة الرومانية التي كانت تدين بالمسيحية ؟ بماذا كانت تحكم الولاية المصرية التي دخل أهلها الأقباط في الديانة النصرانية ؟ بماذا كان يحكم الأحباش ؟ فسنجد أن شرائع الله معزولة وأن الناس يتحاكمون إلى قوانين وإلى أعراف هي من صنع أيديهم .(/3)
حينما وُجدت هذه الجماعة المؤمنة الذين هم أصحاب الأخدود والذين تلقوا هذه الصدمة .. ماذا كانت النتائج ؟ كانت النتائج هذا البلاء المستطير . لأي سبب ؟ لأن هذه الصفوة والبقية كانت تحمل شعلة الإيمان الحقيقي في نفوسها ، كانت تدعو إلى الاحتكام إلى شرع الله في وجه من يتحاكم إلى شرائعهم الخاصة التي صنعتها من ذات أنفسها وفاقاً لتصوراتها وأفكارها .
فنحن في هذه الصورة أمام نوعين من التديّن ، لون صحيح ، ولون محرّف ، أو لنصطلح على أن نقول أنه مزيف . حينما يتقابل في ميدان العقيدة الزيف مع الدين الصحيح فإن الزيف لا يقلّ عنفاً وشراسة وخصومة وفي الحرب والعنف عن الأعداء الأصليين . نحن من هنا نستطيع أن نفسر وأن نحل كثيراً من المشكلات التي تحيّر كثيراً من قصار النظر . إن التاريخ عرف حركات دينية تحمل الصيغة الدينية الصحيحة ، فحُوربت من أبنائها ، لماذا ؟ لأن هناك أناساً تزحزحوا عن قواعد الوحي ووقفوا مع الذي لا يؤمنون ، أي انسحبت الصالح ، أي الخطر على مصالحهم ، فمن أجل ذلك وقعت الواقعة .
إننا نقول هذا وفي الذهن أمور ، ما أريد أن أنظر إليها لأنها في الواقع أمور مؤلمة ، في الذهن أمور وصور ، جعلتنا عبر تاريخنا الطويل نقف في مواجهتنا بعضنا بعضاً ، ويحمل بعضنا السلاح في وجه الآخر ، برغم من أننا ننتمي إلى دين واحد . وبرغم أننا نسجد لرب واحد ونبي واحد ونستقبل قبلة واحدة . إن المسألة بسيطة وواضحة ، إن الزيف والأصالة يتقابلان ، وكلما تقابل الزيف والأصالة حصل هذا الصراع ، وإن هذا الصراع مؤسس على هذه الحقيقة التي عرضتها هذه الآية ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) لو أنك أُتيح لك أن تضع التاريخ في صفحة واحدة تستعرضها بلمحة عين لعرفتَ أن رجالاً أتقياء قاموا يدعون إلى صراط الله العزيز الحميد حُرّض عليهم من قبل السلطات .. وقيل فيهم أشياء كثيرة .. قيل أنهم طامعون في الجاه أو في المنصب أو في المال .. وهم ليس في هذه أبداً .
إن المؤمن من حيث هو مؤمن لا يكون في نفسه كذلك وهو في نفسه شره إلى السلطة أو شره إلى المال أو الجاه ، ولا يكون مؤمناً وهو يحاول أن يكثّر من حوله الأنصار ليصل إلى السلطة . إن هذه النوازع والتطلعات الرديئة متى وُجدت في نفس الإنسان كفّ المؤمن أن يكون مؤمناً . إن المؤمنين قوم نصحوا لأنفسهم ولعباد الله تعالى ، لا يمكن أن يغشوا بحال من الأحوال ، لا يريدون إلا استقامة الأحوال وإلا أن تنصلح شؤون الناس ، ولكن أنت إذا رأيت إنساناً مفسداً يرى إنساناً آخر صالحاً ، إن هذا المفسد يرى في هذا الصالح شهادة بينة وواقعية على هوانه وعلى خساسة قدره ، فمن أجل ذلك هو ينتقم لخسته ولهوانه بالتنكيل بالناس الصالحين وبالناس الطيبين . هذا على صعيد الأفراد .
فإذا نقلت إلى الصعيد العام وأخذت شريحة من التاريخ البشري تحاكم إليها هذه القاعدة ، فاسأل نفسك : من الذي دعاه محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدين ؟ ما هو جوهر الخلاف بينه وبين الناس ؟ قال للناس : إن ما تعبدون من أصنام وأوثان باطلة ، فاعبدوا الله الذي خلقكم والذي إليه ترجعون ، وإن ما تتحاكمون إليه من أعراف وتقاليد هي بالية وعتيقة ضارة وتقولون وجدنا عليها الأباء والأجداد ، لن تنفعكم شيئاً ولن تسهم أي إسهام في حل مشكلات الحياة ولا في تذليل الصعوبات الموجودة في وجه هذه الإنسانية المعذبة ، فتعالوا إلى كلمة الله الجامعة غير المفرقة ، وتعالوا إلى الله الذي يردوا الحقوق إلى أربابها ، لا كعدل البشر الذي يسلب الحقوق ويمكن للظالمين من الظلم ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله )
إذاً هي صيحة الإسلام . فثارت عناصر الشر والفساد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن كان قد ربى أصحابه ، وكان قد قطع الشوط الذي كان الخطر فيه ماثلاً على القلة المؤمنة ، وخرج بالمؤمنين إلى رحابة الإيمان ، وبقيت المسألة في قانون النبوة والرسالة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر ، إن أسس الحياة الجاهلية قد تهاوت ولم تبقَ إلا سنوات وسينقض هذا البناء برمته لتقوم على أنقاضه أمة الإسلام ولتقوم دولة الإسلام .(/4)
ومضت الأمة المسلمة ثم أدركها ما يدرك الأمم من الفتور في الهمم والعزائم والانغماس في الشهوات جرياً وراء الدنيا وأخذاً بأسباب اللذة ، فأصابها ما أصابها ، وتذكر يا رسول الله ـ بأبي أنت وأمي ـ ألم تقل : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه ) كذلك فعلت هذه الأمة نفس الأدواء نفس المشكلات نفس الصعوبات نفس المتاعب قابلت هذه الأمة المسلمة ، ومع ذلك فإن أمتنا كما ذكرت لكم من قبل تمتاز عن النبوات السابقة بميزتين لم تتوفرا في جيل من الأجيال ولا في أمة من الأمم ، أولى هاتين الميزتين أن الله جل وعلا حفظ حقائق وحيه المنزل على نبيه المكرم صلوات الله وسلامه عليه وآخر السورة التي نحن بصددها يشير إلى هذا الحفظ ( بل هو قرآن مجيد ،في لوح محفوظ ) وكم بُذلت من محاولات عبر التاريخ وعلى اختلاف العناصر والأجناس والألوان لكي تغيّر حقيقة بسيطة من حقائق الوحي فما أمكن ذلك ، لأن كفالة الله لا تثقبها محاولات الآدميين ، والله قد تكفل بهذا الدين بالحفظ ، كم من أبالسة ، كم من شياطين ، كم من أفاكين ، كم من كذابين حاولوا أن يزيدوا في كلام الله أو ينقصوا منه فباءت محاولاتهم بالخسران .
وهذه إسرائيل طبعت قبل سنوات من المصحف نسخاً بمئات الألوف تزيد منها وتنقص وتوزعها في بقاع الأرض فيتلقى المسلمون النبأ ببرود ، لأن النسخ جميعاً تأخذ طريقها إلى الحرق ، لأن الله تعالى لم يسمح ولم يأذن لحقيقة واحدة من حقائق الوحي أن يتطرق إليها الخلل .. فهذه الكفالة لم تتوفر لدين من الأديان في الماضي ولكنها توفرت لهذا الدين الذي هو الإسلام .
الميزة الثانية التي توفرت لهذه الأمة ولهذا الدين وحُرمت منها الأمم الأخرى جميعاً أن سبيل الإسلام في العمل سبيل بشري وجماعي ، أي أن حقائق الوحي كانت تنزل منجمة ومفرقة على رسول الله بالآية وبالعدد من الآيات فيأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بتنظيم الجماعة المؤمنة وفاقاً لحقائق هذه التوجيهات الربانية . فالوحي كان يوافقه عمل بنائي جماعي تنظيمي جعل الأمة المسلمة أن قوام حياتها وحياة مستقبلها تتمثل في هذا العمل الجماعي الذي لا يجوز التفريط فيه .
ومع أن الأمة تعرضت لأسباب شتى من ألوان التدمير المقصود والمتعمد ، وتعرضت إلى ألوان من الدعاوى والدس فإن أمة الإسلام ما تزال حتى الساعة بالرغم من تفرق الحدود وبالرغم من تعدد الألسنة والألوان والأجناس تشعر أنها أمة واحدة تجمعها رابطة العقيدة في الله ، ويشدها إلى الأرض من جهة وإلى الجنة من جهة أخرى نداء الله تعالى المتمثل في آيات الله تعالى .
إن شئت مصداقاً لذلك فاذهب إلى الحج ، وانظر إلى هناك كيف يتجمع الناس في المشاعر في تلك البقاع الطاهرة .. الزنجي والهندي والعربي ومن كل لون ومن كل ملة .. لا تفرق بينهم الألوان والأجناس والألسنة ، لأن الجامعة الدينية ربطت بينهم جميعاً .
ولهذا فنحن نجد على ألسنة الدهاقنة من الاستعمار وتجار السياسة وزبانية التلفيق والملاحدة في كل جيل كلمة واحدة تتردد على ألسنتهم جميعاً : ما دام هذا القرآن موجوداً وما دامت مكة موجودة فلا سبيل إلى السيطرة على العالم الإسلامي بحال من الأحوال . اسألوا أنفسكم ، لماذا هذه الخصومة ؟ ألسنا نحن أمة نعيش على أرضنا وفي بيوتنا وبين أبنائنا ومن حقنا أن نتمتع بخيراتنا ومن حقنا أن نكون آمنين وادعين . لماذا إذاً ؟ ترمينا الأمم جميعاً عن قوس واحد . لماذا إن تحركنا لكي نزيل عن أمتنا لعنة التفرق والتمزق التي صنعت في ديار الغرب فجعلت الأمة الواحدة أمماً والدولة الواحدة دول ؟ لماذا حينما نتحرك نحو الدولة الجامعة تنطلق الدعوات من أقطار الأرض جميعاً لتحطم هذه الوحدة ؟ لماذا حينما ننادي بوضع شرائع الله موضع التطبيق أذلك شأن يخصنا أم يخصهم ؟ يخصنا ولا يخصهم . لماذا جميعاً ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور ؟ لماذا ينادونا بالرجعية والتخلف وعدم المساير ركب التقدم . لماذا ؟
إن مسألة عناد كما قلنا لكم ، ثم جوهر الصراع بين هذه الأمة وبين أعدائها في القديم وأعدائها في الحديث وأعدائها في المستقبل يتمثل في هذه الحقيقة البسيطة أننا أمة تؤمن الله العزيز الحميد وأن هؤلاء لا يؤمنون بالله العزيز الحميد . إن الشرق سابقاً حاربنا ، وإن الغرب حاربنا بالرغم من الغزل الرخيص الذي يقوم الآن بيننا وبينه ، ولم يدخر وسعاً في تحطيمنا وابتغاء الدمار لأمتنا ، ولا أعرف أمة من الأمم لا في القديم ولا في الحديث وقفت موقفاً قاسياً مع أمة الإسلام . إن الكل متفقون اتفاقاً لا ريب فيه ولا شبهة على ضرورة تحطيم الإسلام ، ولكن الله من ورائهم محيط .(/5)
أيها الإخوة ليس القضية هنا ، في الواقع خصمك إن لم يكن بهذا الشكل فلن يكون خصمك . الاستعمار إن لم يكن بالصورة التي عرفناها فلن يكون استعماراً. والصليبية العالمية إن لم تفعل هذا بنا فما هي بصليبية ، ستكون إيماناً وستكون إسلاماً . العدو هو العدو . ما نحن هنا ؟ نحن فقط عند أصوات النشاز ،عند أصوات المنكر ، تصدر من أناس لهم دائماً مكان الصدارة في ميدان التديّن الرسمي ، وأقول ميدان التدين الرسمي إن هؤلاء حملة الشباك وصيادون في الماء العكر وأجراء خسيسون ، رخيصون ، يعملون على ذبح أمتنا ويعملون على التضحية بدينهم ويعملون على إغضاب ربهم جل وعلا . إن هؤلاء موجودون ، وموجودون في كل مكان كما وجدوا في كل مكان ، وسيوجدون في كل زمان كما وجدوا من قبل في كل زمان ، وإن سبيل الخلاص من شعور الآثمين والظالمين سواء في الداخل أو في الخارج التمسك بهذه الحقيقة التي هي عقدة العقد بيننا وبين أعداء هذه الأمة جميعاً الإيمان بالله العزيز الحميد .
إن الناس يناصبوننا العداء لأننا مؤمنون ، فلكي نتخلص منهم ولكي نتغلب عليهم لنحقق هذا الإيمان في نفوسنا . كيف ؟ كيف يتحقق كذلك ؟ بالقاعدتين اللتين أشرت إليهما سابقاً ، بما حفظ الله به محمد عليه السلام وما حفظ به القلة المؤمنة ، باعتماد القرآن منهجاً في السلوك والاعتقاد والتشريع وفي كل شيء والتحاكم إلى الله في كل ما يحدث بين الناس من شؤون وشجون . ثم في ترابط الجماعة المؤمنة تضامنها تناسقها شعورها بأنها في وجه خطر مستشرى إن لم تدرأه عن أنفسها في هذا التضامن الذي لا حدود له ، لهذه الأخوة التي يفرقها شيء ، بهذه الصفاء الذي لا يعكره أي معكر فنحن ثائرون إلى هناء ، ولكن كما قلت هذا قبل مدة طويلة إن الله باق ليس لأحد سبيل عليه ، لكن الذي يحدث أن الله يغضب على جيل من الأجيال فقط فيسلبه شرف خدمته تعالى ويسلبه شرف الانتماء الصحيح إليه جل وعلا ، ثم يستبدل من بعده قوماً آخرين .
فاتقوا الله أيها الإخوة واعملوا على ترسيخ الإيمان في قلوبكم وسارعوا إلى تلاوة قرآنكم والتعرف على أحكام ربكم من خلال هذا القرآن ، ومن خلال سنن النبي عليه الصلاة والسلام ، واتقوا الله في هذه الوحدة الجامعة في هذه الأخوة العظيمة التي عقد الله عقدتها بيمينه بين قلوبكم لا تفرطوا فيها . إنها عصمتكم يوم تزيغ الآراء ويوم تتفرق السبل وإنها عدتكم وجُنتكم إذ يدلهم الخطر، إن الشيطان لا يمكن أن يتسلل إلى الصف المتناسق ولكنه يجد طريقه واسعاً حينما يكون الصف مخلخلاً .
فأسأل الله العلي القدير أن يرسخ معاني الإيمان في قلوبنا وأن يحبب إلينا هذا الإيمان وأن يكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأسأله جل وعلا أن يُلزِم قلوبنا تعرف معنى هذه الأخوة ، إنه هو المسؤول وهو الملجأ حين تدلهم الخطوب وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير سورة البروج (3)
الجمعة 4 جمادى الأولى 1397 / 22 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد يا أيها الإخوة المؤمنون :
سنتابع اليوم إن شاء الله تعالى حديثنا مع سورة البروج ، وكان من فضل الله تعالى أننا وقفنا في الجمعة الماضية عند جوهر الصراع بين المؤمنين والكافرين ، حسبما أدرجه الله تعالى في آية واحدة من هذه السورة الكريمة ، وما مضى فقد مضى وليس في نيتي أبداً أن أعود إلى التفصيل مما نفضت يدي منه في الجمعة الماضية ولكن ذكرى .
إن المسألة التي أدرجتها السورة الكريمة والتي منّ الله علينا بالحديث عنها في الجمعة الماضية بإسهاب وإطالة مسألة ذات أهمية خاصة ، وهي في الوقت نفسه ذات أهمية بالغة وما ينفع شيئاً أن تغطى الشمس بطرف الرداء ، إنه قد آن أن يتعلم الناس كل الناس أنصاراً وخصوماً ، بل قد آن للكثير أن يعلموا أن ما حكاه الله عنهم فهو الأصل لا ريب فيه ، وأن ما كشفه من خبيئتهم فهو الحق لا مراء فيه ، وأنه مهما يحاول أعداء الله جل وعلا أن يُلبسوا أنفسهم من اللباس مما يجتذب الألباب ، ويتبعوا العقول ويستهوي الأفئدة ، فإن ربنا جل وعلا قد أوقفنا على الحقيقة عارية مجردة من كل بهرجة لا يعلق بها زيف ولا ينال منها التضليل .
إن المعركة الخالدة كان يجب أن لا تغيب عن بال أحد هي بين الإيمان من حيث هو إيمان ، والكفر من حيث هو كفر . وأي لباس بعد ذلك يلبسه الكفر فلن يخفى على المؤمنين إن شاء الله تعالى ، وذلك يتطلب على صعيد النظر والاعتقاد كما يتطلب على صعيد السلوك والعمل والحركة جميعاً رفض محاولات التزييف وتمييع المواقف من قبل الأنصار والخصوم على حدٍ سواء ، إن الله تعالى قد حكى في هذه السورة جوهر المسألة فقال تعالى ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) ولقد رأينا من خلال تاريخنا رايات تُرفع وشعارات تُقدم ، وأشنع ما في الأمر أن هذه الرايات والشعارات أنهم يريدون أن يدخلوا على المؤمنين من أبواب الإيمان والإسلام ، وفي السر غير المعلن ، ولكن نأمل إن شاء الله تعالى أن يكون قد استقر في أذهان المسلمين بصورة جلية أن النقيضين لا يجتمعان ، وأن الليل والنهار لا يجتمعان ، وأن السواد والبياض لا يجتمعان ، فإما إيمان خالص لله تعالى على النحو الذي شرحناه من قبل ، وإما شيء آخر وراء الإيمان ولكنه في كل الأحوال لا يمتّ إلى الإيمان بصلة .
وهذا شيء أحسب أنني قد فرغت منه في الجمعة الماضية وكشفت الأمر على نحو يكفي إن شاء الله ، إلا أنني لا أحب أن أجاوز هذا الموطن من السورة قبل أن أجبر نفسي وأجبركم على الوقوف مرة أخرى عند هذه الآية بالذات .
فيما مضى قلت لكم هنا إنه ينبغي أن لا يغيب عنا الهدف الذي نسعى إليه من خلال هذه الأحاديث فما نحن بمفسرين ، ولو كنا كذلك لاعتمدنا في أحاديثنا منهجاً آخر .
وينبغي أن لا ننسى أن القرآن الكريم هو الذي يقود المعركة في الدعوة الإسلامية ، وهل يستطيع أحد أن ينسى أن هذه الآيات البينات كانت هي السلاح الأول والأخير في المعركة . وحين يكون الأمر كذلك فسيكون حقاً ووفاءً للقرآن ولدعوة القرآن أن لا تهمل اللمحات حتى البعيدة منها ، وأن يحاول الإنسان وهو يقرأ القرآن أن يتصور لوحة الأحداث أمام عينيه كي لا يزيغ منها شيء ، وإن لم يفعل فسوف يُصاب بعمى الألوان ، وسوف يصاب بقصر النظر .
إن القرآن بالفعل كان ينزل ليكشف للمسلمين مواطئ المهمة في مزدحم الحوادث ومعترك النضال ، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن مهمة مزدوجة للآيات الكريمة ، إنه كان يهدم ويبني في آن معاً ، كان يتجه إلى الكافرين ، وكان يتجه إلى المؤمنين في آن واحد . فهو يقود المعركة المزدوجة التي لا يجوز معها أن يُغفل فيها جانبا الصراع ، وإذا نظرنا من هذا المبدأ في الآية الكريمة فسنجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننتبه حتى إلى الألفاظ المفردة لغرض أن نتعرف على الانطباعات التي تتركها هذه الألفاظ في مشاعر الطرفين جميعاً .
إن المسلمين في المرحلة التي نتحدث عنها قلة قليلة ، ولكنها قد تجاوزت الخطر ، أصبح لديها حجم مقبول من القضايا والقواعد والأسس التي تجعل السيطرة عليها أمراً مستحيلاً ، ولكن هذا شيء ، وضمان الطريق حتى النهاية شيء آخر ، ويجب أن نذكر ولا ننسى أن القرآن والإيمان والإسلام حقائق تتمثل في بشر ، وليست أشياء تنزل من السماء جاهزة لتحل محل أشياء أخرى موجودة على الأرض ، ولكنها قضايا وحقائق تنزل من السماء على أهل الأرض ليباشر أهل الأرض تغييراً أساسياً وحاسماً في داخل النفوس لكي يكونوا على استعداد لمواجهة المشقات والصعوبات .(/1)
إن هذه القلة التي آمنت برسول الله صلى الله عليه ترى ما حولها وتراه على الطبيعة ، إنها بشر من البشر ، ولو أنها تُركت للمشاعر الإنسانية البحتة ولنتائج الفعل التي تتولّد عنها لاستيأسوا وألقوا بأيديهم ، ولكن القرآن بأناةٍ عجيبة كان يأخذ بالهمم حتى لا تسقط ، كان يتناول هذه العزائم في ذروة الخطر ليحقنها بالمادة الصالحة والمؤهلة لتجديد الحيوية والنشاط .
إن المسلم يعرف من حقائق إيمانه الأولية أنه لا يعطي للناس رسالة نفسه ، ولكنه يقدم لهم رسالة الله ، وحين تدلهم الخطوب من حولنا ونكون في وسط الصراع وجهاً لوجه أمام أعداء الله تعالى ، من هنا يتطرّق اليأس إلى قلوب الناس حينما يعالجون أمر الرسالة وحينما يجابهون أعداء الله تعالى ، لكن المؤمن حينما يستحضر في ذهنه أنه مجرد أداة ووسيلة بيد القادر القاهر الجبار المنتقم ، وبأن أمر الرسالة نصراً أو هزيمة ليس إليه ، والذي هو فعلاً مسؤول عنه ومطالب عنه هو تحرير النية وإخلاص القلب لله تعالى والتدرّع بالثبات والصبر ، لو أن المسلم في معترك الصراع ذكر هذا لانزاحت عنه غاشية الهزيمة ، ولَشعر أنه يفيء إلى جانب عزيز كريم قوي قادر قاهر لا يُغالبه أحد إلا غلبه ولا يتصدى له أحد إلا دندن عليه .
هذه الحقيقة كما قلنا من أوليات الإيمان موجودة في الآية التي نتلوها ، إن الله يقول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ) فيناسب بعد تحديد جوهر الصراع بأنه لا خلاف بين المؤمنين ومن عداهم إلا على حقيقة الإيمان وبأنه لا صح ما يقال بأن الذين يقفون مع حقائق الكتاب المنزل ويحاولون إيصال هذا النور إلى الناس الذين حُرموا منه لعوامل وذرائع شتى لا أرب لهم في أموال الناس ولا شيء آخر .. وسواء عليهم عُرفوا أم لم يُعرَفوا ، بل إن المؤمنين حينما يُعرَفون من قبل الناس يتمنون لو أن الله أخفى لهم أعمالهم . إن المؤمنين ليسوا في سبيل من هذه السبل التي يتحدث عنها الناس في مختلف الأقطار وفي مختلف الأجناس ، ولكنهم إن كان لهم جرم ، إن كان لهم ذنب ، فذنبهم وجرمهم هو هذا الإيمان ، والذي حرّض عليه دعاة السوء والفساد هو أنهم آمنوا بالله ربهم .
بعد أن حرر الله تعالى جوهر الصراع لكي يقطع على المؤمنين طريق التأثر بما يثيره أعداء الله في وجوههم وبين أقوامهم من المغفلين من أن المؤمنين يريدون كذا وكذا ، بعد أن وقعت الأمثولة البارزة أمام أعين المؤمنين والكافرين جميعاً هو أنها جاءت وفود المكيين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه المغريات وتنثر بين يديه المفاتن .. إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً .. وإن كنت تريد ملكاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك .. وإن كنت تريد النساء زوجناك من تشتهي وتختار من أجمل نسائنا وأكرم بيوتاتنا .. بعد هذا كله يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الإنسان المؤمن لا يسعى إلى شيء من هذا القبيل ولا يطلب أغراضاً من هذا المستوى ، إنه يقول لهم : ما لي هذا الذي قلتم ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً فإن تقبلوا مني فذلك حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم وهو خير الحاكمين .
ومع ذلك فإن المؤمن ككل جهاز من أجهزة الدنيا محتاج إلى أن يُشحن بالطاقة كلما كادت هذه الطاقة أن تفرغ . وفي الصراع يُنفق الإنسان كمية هائلة من الطاقة فهو بحاجة إلى أن يُشحن باستمرار . فإذا جئتم إلى الآيات وذلك هو الغرض الذي أريد أن أقف اليوم عنده وأقف وقوف الإنسان المتدبّر المتأمل الذي يعلم أن هذا القرآن سلاح المسلمين في معركتهم مع أعداء الله تعالى ، فمن أجل ذلك عليهم أن يتدبّروه ( أفلا يتدبّرون القرآن ) ومن أجل ذلك حذّر النبي عليه الصلاة والسلام من عدم التدبّر لآيات الله وأشار إلى أن قوماً ينزلون بين المسلمين يقرأون القرآن ولكن لا يجاور حناجرهم ، ولذلك أريد أن ألفت نظركم إلى أن الآية حملت صفات من صفات الله تعالى ، والذي يلفت الذهن وينير الطريق أمام المؤمن هو الدقة في اختيار في الألفاظ ، إن الله تعالى يقول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله ) كان يمكن أن يُكتفى بالكلام عند هذا الحد وتكون القضية على سوائها ، إن جوهر الصراع مع هؤلاء الناس أنهم آمنوا بالله ، ويمكن أن ينتهي كل شيء عند هذه الكلمة ولكن الله تعالى أردف اسمه الكريم الذي هو ( الله ) بأوصاف ، ما هذه الأوصاف؟ الوصف الأول أنه العزيز ، والوصف الثاني أنه الحميد ، والصف الثالث أنه مالك كل شيء ، والوصف الرابع أنه شهيد على كل شيء .(/2)
هذه الأوصاف الأربعة : العز والحمد والملك والشهادة جاءت في مكانها اللائق والمناسب بل وفي مكانها الضروري من سياق القضية التي عرضتها سورة البروج ومن سياق الواقع التاريخي المادي الذي كان المسلمون يتحركون من خلاله وهم يأخذون طريقهم صُعُداً إلى الله تعالى .
إن المؤمن كما قلنا وهو في غمرة الصراع بحاجة إلى أن يشعر بمتانة الركن الذي يستند إليه ، وإن الإنسان كما هو مشاهَد يدخل المعركة يقاتل حينما يكون من حوله عدد محصور من الناس على نحو ، ولكنه حين يعلم وأن من ورائه جيوش جرارة يقاتل على نحو آخر لعله يكون مضروباً بعشرة أو بمائة أو أكثر ، إن الهمة التي تُشعر الإنسان بأنه مستند إلى ركن شديد ويأوي إلى كهف مكين همة لا تتقاعس ولا تتردد ولا تنكس ولا تنهزم ، وما أحوج المؤمنين وهم في تلك الظروف الحالكة إلى أن يُشار إليهم وإلى أن يُلوّح أمام أعينهم إن الله الذي يلجئون إليه عزيز حميد . ما معنى أن يكون الله عزيزاً ؟ ما معنى وصف الله بالعزة ؟ إن العزة مأخوذة من العزاز ، يُقال في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن هذه أرض عزاز أي أنها أرض صلبة لا يؤثر فيها شيء ، بمعنى أنها مهما ضربت فيها المعاول فسوف تنثني عليك لأنها أرض عزاز ومتينة وصلبة ، ومن لوازم هذا المفهوم في أصل الوضع اللغوي الغلبة والقهر ، ولذلك ما حكاه الله في القرآن الكريم قال ( وعزّني في الخطاب ) أي غلبني وقهرني في الخطاب ، فوصف الله بأنه عزيز أي أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء .
فإذا عرفنا أن هذا الإيمان وهذا الإسلام وهذه الرسالة التي يتحرك لها ويتحرك بها المؤمنون بالله هي من عند الله وأن الله عزيز لا يُغالَب وأن الله غالب على أمره فخليق بالمؤمن أن يشعر بالراحة وأن يشعر بالرضى وأن يشعر بعوامل القوة تتفجّر بين يديه . هذا على صعيد الجبهة المؤمنة ، فإذا نظرتَ إلى الجبهة التي تقاتل المؤمنين .. إلى معسكر الكافرين والمشركين فهم خلفاء أن يعلموا مَن يقاتلون ؟ إنهم لا يقاتلون هؤلاء الناس ، هم لا يدخلون معركة مع البشر ، إن معركتهم مع الله العزيز القاهر ، ومن كان منهم ذا قلب ولب فسوف يدرك أن هذه المعركة ما دامت طبيعتها بهذا الشكل فخاتمتها محددة ومحسومة .
إن الصف الكافر محكوم عليه بأن ينهزم وبأن يفشل وأن يتراجع إلى غير رجعة ، لو كان الأمر أمر بشر لبشر لانتهى كل شيء ولحسمت المعركة من بدايات الطريق ، ولكن المسألة مسألة صراع بين طرفين لا يتكافآن ، بين الله وبين هؤلاء الناس ، فمن أجل هذا فإننا حين نمشي مع وقائع تاريخنا فإننا نجد وقائع وأخباراً تكشف لنا عن حقيقة هذا الشعور الذي عُبّئ به المسلمون . في فتوح العراق كان رجل من المسلمين الأعراب ممن انتُدب لمقابلة رستم قائد الجحافل الفارسية التي هالها أن يحدث هؤلاء الأعراب أنفسهم بغزو فارس ، وقصاراهم كما قال لهم رستم أن يأتي الوافد منهم ويأخذ شيئاً من التمر ثم يرجع . ولكن العرب الذين عزّوا بالإسلام والتفتوا إلى شريعة محمد عليه الصلاة والسلام شعروا أنهم خُلقوا خلقاً آخر فأصبحوا أمة أخرى لا شأن لها ولا صلة بينها وبين الحياة التي كانت عليها فيما مضى ، إن رستم يسأل هذا الأعرابي : ما أخرجكم ؟ أمَا تعلمون أننا أقوى منكم عدة وأكثر منكم عدداً وأوسع منكم رقعة أرض ؟ ما يكون الجواب ؟ وماذا سيجيب هذا الأعرابي ؟
لو كان جاهلياً لجاء إلى رستم سائلاً متسوّلاً يطلب شيئاً من الميرة ويرجع بشيء من التمر . ولكنه الإنسان المؤمن المسلم الذي شرب حقيقة الإيمان وعرف أنه يستند إلى ركن شديد ، قال له : يا هذا دعك من هذا الكلام ، إنك لا تجادل البشر ، ولكن تجادل القدر . إن كل مسلم كان يشعر أنه قذيفة قدَرية من الله تعالى لا يقف في وجهها شيء ، وبذلك انتصروا ، وبذلك عزّوا . والمسلمون حين وُضعت أمامهم صفة الله العزيز إنما وُضعت تذكيراً لهم بالملجأ الذي يلجئون إليه تذكيراً لهم بأن الله الذي حمّلهم هذه الأمانة سيتولى كفايتهم وسيدمّر أعداءهم بشرط أن يُخلصوا معهم نواياهم وأن يحرروا قلوبهم خالصة لوجهه الكريم ، وكذلك هي إشعار للصف الكافر لكي يعلم بأن معركته ليست مع هؤلاء ولكن مع الله تعالى ، وهذا يعني أن المعركة محسومة منذ بداية الطريق . وعلى كل عاقل أن يجنب نفسه أن يخوض معركة من هذا القبيل في كل زمان وفي كل مكان . في الوقت الذي تتحرك فيه المعركة بهذا الشكل فإن قانون العبث يُلغى ، وإن قانون العدة يُلغى ، ولا يبقى إلا قانون واحد هو قانون الله العزيز الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه أي شيء .(/3)
حينما تحدّث بعض المكيين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا قريشاً إلى العودة إلى عبادة هبل والعزى والأصنام قال سهيل بن عمرو رضي الله عنه يذكرهم بالله ويقول لهم : يا قوم .. الله الله في أنفسكم لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأولهم ارتداداً عن هذا الدين ، والله ليتمّن الله هذا الدين . قال قائل منهم : ما يدريك ؟ قال سهيل : لقد رأيتُ ورأيتم محمداً صلى الله عليه وسلم يقف إلى جوار هذا البيت وحيداً لا يوجد معه أحد يقول لكم : إن الله غالب على أمره ، ويقول لكم : والله لتدخلنّ في هذا الدين طائعين أو كارهين . ولقد كان محمد في ذلك الزمن أهون على أحدنا من كسرة الخبز في يد الصبي ، ولقد رأيتم ما حقق الله موعوده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
إن تحرير المعركة كما قلنا على الشكل الذي توحيه هذه اللفظة المفردة ( الله العزيز ) شيء ضروري ، كي تنقطع في نفوس المسلمين الالتفات إلى غير الله تعالى .
ثم هو أيضاً ( الحميد ) وقد يكون من الغريب أن يأتي وصف الحميد بعد وصف العزيز ، ولكن لا غرابة إذا مددنا البصر إلى ما بعد هذه الآية فقط ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) إن بين المعترضتين تتركز العلاقة بين الحميد وبين مناسبة هذا الكلام ، نرجع إلى وصف الله جل وعلا بأنه الحميد إن المعركة كما قلنا ليست مع الناس ولكن مع الله وإن المؤمنين كما قلنا ليس لهم مطمع ولا مناصب ، وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم وليكن منهم ما يكون ، سنشرح هذا ولكن أريد أن أُجسّد العلاقة بين الصفة الكريمة لله ( الحميد ) وبين مناسبتها لهذا الكلام ، إن المؤمنين تعرضوا عبر أزمانهم لما لا يحصيه إلا الله من الكوارث والأهوال على يد الصديق أو العدو أو القريب أو البعيد ، ومن حكمة الله تعالى بهذه الإنسانية أن جعل المؤمنين برآء من الحقد ومن الضغينة . إن الفاسد في الأرض وقاتل الأخ وقاتل العم لا شيء بيننا وبينه حينما يؤمن بالله العزيز الحميد .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل أبطال المعارك الذين مثّلوا بأصحابه بالأحضان ، استقبلهم باسماً . إن الأحقاد لا سبيل لها إلى قلبه ، فهو لا يتحرك بالأحقاد ، إنه حب غامر مجسّد . ومن هنا كان الإسلام يجبّ ما قبله ، جاء عمرو بن العاص رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة ليسلم فلما أراد أن يبسط يده لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله إني أريد أن أشترط لنفسي . قال : تشترط ماذا ؟ قال : أن يُغفر لي ما تقدم من ذنبي . إن ابن العاص يعلم أن آذى المسلمين كثيراً ، فهو سافر إلى الحبشة لكي يردّ المسلمين من هناك كما تعلمون من القصة . فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : يا عمرو ألم تعلم أن الإسلام يجبّ ما قبله ، أي فُتحت صفحة جديدة .
إن الله تعالى حين يقول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) تجيء كلمة الحميد لتفتح باباً واسعاً من الألم والرحمة أمام هؤلاء الذين يبذلون قصارى جهودهم من أجل إطفاء شعلة الإيمان .. من أجل إطفاء نور الله تعالى ، لا يا معاشر بني آدم ، إن رحمة الله مفتحة أبوابها ، وإن عليكم أن تعلموا أن الله حميد ، ووصف الحميد يتضمن معنيين متلازمين ، الأول : أن الله هو المستحق للحمد ، بمعنى أنه هو واهب النعم وليس معه أحد من الناس ، لا من شريك ولا وزير ، فمن حقه على الناس أن يحمدوه ، إنك ترى أن من صميم الطبع البشري أن يحمد الإنسان من يقدم له معروفاً . ولو أن أحداً أسدى إليك معروفاً بسيطاً فمن الطبيعي أن تشكره على ذلك . ذلك شيء موجود في طبع الإنسان ولكن الإنسان كما قلنا أكثر من مرة محكوم بقوانين الزمان والمكان فهو من أجل ذلك قلّما يتسامى بنظره وببصيرته إلى ما وراء قوانين الزمان وقوانين المكان ، انظر إلى ما وراء هذه الحجب التي أمامك لترى أن الله تعالى هو واهب النعم لا أحد معه في ذلك ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ) إن كل خير وكل نعمة يتقلب فيها ابن آدم فمرجعها إلى الله تعالى . فمن هنا كان الله مستحقاً للحمد سبحانه وتعالى .(/4)
وأيضاً ثمة معنى آخر ، وهو أن الله يحمد عباده المؤمنين ، الله ليس بحاجة إليكم أبداً ، ليس بحاجة إلى عبادتكم ، ولكن من واسع فضل الله ومن عميم نعمة الله أنه يحمدكم أيضاً حينما تحمدونه على نعمة أنعمها عليكم . يقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله يرضى من المسلم إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمده عليها . ويقول أيضاً : لو أن الإنسان قدّم كل شيء ، أي أخذ كل شيء من الله تعالى ، كل النعم الموجودة على الأرض ، لو أن الإنسان أخذها فقال : الحمد لله لكانت كلمة الحمد لله خيراً وأثقل في الميزان من كل هذه النعم التي أعطاها الله للإنسان . إن النعم يتمتع بها الإنسان والحيوان ، وتكون كلمة الحمد لله في مجال الاعتراف لصاحب النعمة بأنه هو الذي أوصلها إليك وهو الذي يسرها لك .
إن معنى الحميد تتجلى أن الله أيضاً يحمد عباده ، وفي ذلك يأتي الحديث القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن ربنا تبارك وتعالى يقول : وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإذا تقرّب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإذا تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت إليه باعاً ، وإن جاءني يسعى أتيته هرولة . إن الله جل وعلا يحمد عباده ولا يوجد شيء يعيبه في ذلك .
إن وصف الحميد في هذه الآية يفتح أمام هؤلاء المعاندين الأبواب مشرعة كي لا يتمادوا في هذا الطريق البغيض ، طريق الضلال وطريق البعد عن الله تعالى .
والوصف الثالث الذي جاء هنا هو أنه تعالى مالك كل شيء ، وينفع في هذا المقام أن نقول أننا نحن وخصومنا وكل ما في السماوات وما في الأرض ، ومن في السماوات ومن في الأرض بيد الله لا إله إلا هو ، يتصرف بنا كيفما يشاء ، لا نخرج عن إرادته ، ولا نغيب عن علمه ، هو المالك لكل شيء الذي له ملك السماوات والأرض . فإذا كان الأمر كذلك فيجب علينا نحن المؤمنين أن لا نبتئس وأن لا نيأس ، ويجب أن لا نشمئز ولا نتضعضع حينما تكثر النكبات والكوارث والمحن . وعلى هؤلاء الذين يقاتلون المؤمنين أن يتذكروا أنهم خلق من خلق الله دائماً تحت مفهوم الملك لله تعالى .
لو أنني أردت أن آخذ بأيديكم إلى الخوارق لذكرت لكم شأن ذلك الرجل التقي العابد الذي غضب عليه سلطان من الجائرين فأمر بأن يُلقى في الجب وأن تطلق عليه السباع لكي تفترسه ، وبالفعل ألقي هذا الإنسان التقي في الجب وأطلق عليه السبع وقال الناس : مات الرجل . ومن عجب أن يطلّ المطلّون على الجب فيروا أن الرجل مستغرقاً في الذكر والتأمل ، ويرون السبع الأسد يدور حول هذا الإنسان التقي . وحين أُخرج من الجب سألوه فقال : ما كان علي من بأس وكنت أفكر في لعاب الأسد ، هل هو طاهر أم نجس . هذا هو الشيء الذي خطر على بالي .
إذاً فلا ينبغي للمؤمنين أن يلقوا بالاً للمتاعب والمصاعب التي يرونها وهم في طريق الدعوة ، ذلك شيء من طبيعة الطريق ، وإنه لا علاج لهذه الحالة إلا الشعور بأننا جميعاً ملك لله تعالى .
ويأتي الوصف الرابع ، إنك حين تفعل السيئة وتستخفي بها عن أعين الناس لا تشعر بوخذ الضمير بنفس النسبة وبنفس المقدار الذي يكون عليه شعورك وأنت فعلت نفس السيئة أمام أعين الناس ، حين يكون ذنبك أمام الجمهور فإنك تتضاءل وتستحي وتخجل ، لأنك تشعر أنها الفضيحة التي لا يمكن أن يُغطى عليها . والله تعالى بإيراد هذا الوصف ( والله على كل شيء شهيد ) يريد أن يُعلِم هؤلاء الذين يناوئون المؤمنين أن جريمتهم كبيرة ، ألا يعلمون أن الله لا يعلم سرهم ونجواهم ؟ بلى ورسل الله لديه يكتبون ، إن الله على كل شيء شهيد ، إن الله يستجيش عاطفة الحياء في نفوس هؤلاء الناس لكي يفيئوا إلى شيء من المعاني الكريمة التي تتحرك عادة في نفس الإنسان .
هذه أوصاف أربعة ، كنت خليقاً أن أمرّ عليها حتى نبرزها كي يكون فهمنا للقرآن الكريم صحيحاً وسليماً ، على نحو مقارب مما كان يفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، ومما كان يفهمه أيضاً أعداء الله من المشركين والجبارين في ذلك الزمان .
وما أعظمها من عبر ودروس للمؤمنين لو أنها استقرت في النفوس لجعلت من الناس أناساً آخرين ، ولأحالت هذا الإنسان مخلوقاً آخر يستصغر كل شيء في جنب الله تعالى ، ويستهين بكل شيء طالما هو مؤمن بأنه يأوي إلى ركن شديد ، يأوي إلى الله العزيز الحميد .
ولو أننا عرفنا معاني أوصاف الله تعالى وانتفعنا بهذه المعرفة في حياتنا العملية لتغيرت الأحوال ولذللت مصاعبنا ، ولكن الله وحده هو الذي بيده كل شيء ، فنسأله وهو المعين أن يهدينا سبل السلام وأن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/5)
تفسير سورة البروج (4)
الجمعة 11 جمادى الأول 1397 / 29 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
يحسن أن نستذكر الواقعة التاريخية التي أشارت إليها بعض آيات هذه السورة ، وأُديرت السورة جميعاً على الدروس المستفادة منها ، فنحن الآن مع الآية الكريمة ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) وكذلك مع بعض مما ييسر الله تعالى من الآيات التي تلي هذه الآية .
وأقول إنه يحسن أن نتذكر الواقعة التاريخية لما بين هذه الواقعة وإشعاعات الآية من تناسق وانسجام ، وعلى وجه الاختصار فإن الواقعة التاريخية تقول إن نفراً من المؤمنين عرفوا الطريق الصحيح واهتدوا إلى العقيدة الحقة فآمنوا بها ودعوا إليها وثار عليهم خصوم الحقيقة وأعداء الصواب ففتنوهم ، وكانت الفتنة تعريض هؤلاء المؤمنين للون من العذاب الرهيب ، وهو حفر الأخاديد في الأرض وإشعال النار فيها وإلقاء المؤمنين في هذه النار ليحترقوا بها وهم أحياء .
وفي الأحاديث الشريفة التي عرضناها لكم قبل اليوم إيضاح لا بد من الإشارة إليه ، فإن الغلام الذي كان مفتاح القضية أعجز الملك المتجبر ولم يستطع هذا الجبار العنيد أن يقضي عليه ، فكان مما أراد الله تعالى أن أنطق الغلام بالمشورة والرأي فقال للملك : إن أردتَ أن تقتلني فخذ من كنانتي سهماً وصوّب السهم إلي وقل : باسم الله رب الغلام فإنك ستقتلني . ولأمر أراده الله تعالى فإن هذا الملك الجبار فعل ما أشار به الغلام فقال : باسم الله رب الغلام وأطلق السهم فأصاب الغلام في صدره فقضى عليه . ورأت جماهير الناس ما الذي حصل ، بعدما تسامعت ما قام به الملك لكي يقضي على الغلام فباءت بالفشل كلها ، فقالوا حين رأوا هذا : آمنا برب الغلام .
ثم نحن أمام لوحة واقعية ، جيل من الناس آمن بالرسالة فأخذ بها لنفسه ودعا الناس إليها وصبر على البلاء والامتحان . وكان البلاء رهيباً ومنكراً ، ومع هذا قابله المؤمنون بالرضا والتسليم ، فمن قدر عليه الملك راح ضحية هذه النار المتوقدة في الأخاديد . وقد يخطر لبعض الأذهان على مرّ العصور والأزمان أن عمليات الإبادة والاستئصال وتتبع المؤمنين في الطرق والسكك يمكن أن يكون وسيلة فعالة في مكافحة الإيمان ووقف زحف الإسلام .
ولكن حين نرجع إلى الواقعة فنحن لا نعلم إن كان قد بقي أحد من المؤمنين لم ينله العذاب ولم تزهق روحه في الأخاديد ، لا نعلم ، لكن الذي هو أشبه أن يكون المؤمنون جميعاً لاقوا هذه الميتة الشنيعة البشعة ، فقد تذكرون أن مما جاء في نص الحديث أن امرأة ممن آمن بالله جاءت وهي تحمل رضيعها على صدرها ، فلما أرادت أن تقتحم النار فكأنما أدركها ما يدرك الأم من شفقة على الوليد فأحجمت وترددت ، فقال لها هذا الغلام الرضيع : يا أماه اثبتي واصبري فإنك على الحق . فإذا كان العذاب ينال الأطفال الرضّع فيشبه أن يكون هذا العذاب قد أتى على جميع المؤمنين في تلك اللحظة . إلا أن الذي يدهش هو مكر الله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) فقد وقع في ذهن الملك الجبار أنه بقتله لكل المؤمنين أنه سيخل له وجه الناس ولن تشكل هذه الدعوة عليه بعد الآن أي خطر ، فقلب الله عليه مقصوده ، فحين ضرب الغلام وقال بسم الله رب الغلام تنبه الناس إلى أن الملك قد استفرغ جهوده كلها ولم يترك وسيلة ولا حيلة من أجل أن يقتل هذا الغلام فأنجاه الله تعالى ، ولم يبقى في يد الملك شيء يستطيع أن يفعله تجاه هذا الغلام المؤمن ، فلما ضربه مسمياً بسم رب الغلام أدرك الناس أن الملك ليس تلك الذات المتعالية عن البشر وعن سواد الناس وجماهير الشعب ، أن الملك ليس تلك التي تملك الإعطاء والرزق والحرمان والإحياء والإماتة ، وأن فوق هذا الملك قوة هي أعلى وأقوى وأقدر ، ولو لم يكن الأمر بهذه المثابة لما مات الغلام إذ سمى عليه بسم الله رب الغلام ، وحين رأى الناس هذه الواقعة تحدث أمام أعينهم قالوا جميعاً آمنا برب الغلام . أي أنه جيل مضى حرقاً في الأخاديد ولكن الأرض في اللحظة ذاتها أنبتت جيلاً آخر أخذ بالقضية ومشى بها وكان من سلالتها والله أعلم ذلك الوفد النصراني الذي جاء زائراً النبي عليه الصلاة والسلام في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة .(/1)
إن الآية تتناسق مع الواقعة ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) هنا نطلب إليكم جميعاً لهذا الذي سنقول . قبل كل شيء أحب أن تعلموا علماً لا يدخله الريب ولا يعتوره الشك أن الإسلام بمفاهيمه العظيمة وبقضاياه العالية غريب بين المسلمين ، وأُشدد غريب بين المسلمين ، وأن المسلمين بأمس الحاجة إلى أن يعرفوا أهداف إسلامهم الرفيعة وقضاياه الكبرى ، وإنه ليشدني إلى المقارنة إلى أنني كلما توغلت في دراسة الإسلام والقرآن على وجه الخصوص تكشفت لي جوانب من هذه العلاقات المتشابكة بين شؤون الإسلام كلها والتي يمكن أن يكون مستحيلاً أداؤها بالكلام الذي يفهمه سواد الناس .
إن الأمر الذي يستثير التفكير هو أن هناك مشابهة واضحة وقوية بين هذا الإسلام وبين نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وليست المشابهة التي أشير إليها هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متخلقاً بأخلاق القرآن أو ما أشبه فالقضية أبعد . خذ القرآن واقرأه من فاتحته إلى خاتمته فأنت تشعر باستمرار مع كل آية ومع كل كلمة ومع كل حرف أنك أمام ذات متعالية قاهرة متسلطة هي التي تتحدث ، وهي التي تخاطب وهي التي تأمر وهي التي تنهى وهي التي تشير إلى مسالك الطريق . تصوّر أن هذا القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وظل ينزل عليه ثلاثاً وعشرين سنة اختلفت عليه خلالها الأحوال وتقلبت به الأطوار ورأى ما رأى وسمع ما سمع ، أرأيت في القرآن شيئاً ولو بعض آية يشير إلى هذه الانفعالات البشرية التي كانت تعتري نفس محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لا ، أبداً ، بل إننا لنجد أن القرآن يحرص أبلغ الحرص على الفصل الكامل بين حقيقة الوحي وبين شخص النبي صلى الله عليه وسلم . إن الرسول عليه السلام حينما جاءته هذه النعمة من الله كان حريصاً عليها غاية الحرص يحبها ويريدها ويشتهي أن تدوم له آناء الليل وأطراف النهار ، وليس بعيداً عنكم تلك الواقعة من حوادث السيرة التي تقص عليكم خلال البحث في فترة الوحي ، فإن الوحي فتر عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة يختلف في تقديرها وتحديثها رواة السيرة إلا أن الشيء الذي نقف عنده متأملين هو أن النبي عليه السلام حينما تلبّث عليه الوحي وفتر حاول أن يتردى من شواهق الجبال ، حاول أن يلقي بنفسه من رأس جبل من هذه الجبال التي تحيط بمكة لكي يريح نفسه من هذا العذاب المر الذي نتج عن فترة الوحي إليه وغياب جبريل أمين الوحي . فهو إذاً عليه السلام كان لا أحرص منه على أن يبقى معايشاً لهذا الوحي ، ولهذا نجده عليه الصلاة والسلام حينما كان جبريل عليه السلام يأتيه بالوحي من وحي الله جل وعلا فيقرأه عليه يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل حرصاً منه على أن يثبّت في قلبه وفي لبه هذا الوحي كي لا يذهب عليه شيء وكي لا يتفلّت منه شيء ،فالله جل وعلا عزلاً للإرادة البشرية وفصلاً بين الوحي وبين النازع البشري قال له في محكم التنزيل ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) أي لا تسمح لعواطف الرغبة هذه التي تعتمل في داخل نفسك أن تصرفك عما ينبغي لك من الهدوء والسكينة والتوقر في ملاقاة وحي الله جل وعلا ولا تخف أن يذهب عليك منه شيء أو أن تنسى منه أي شيء ، فإن الله جل وعلا تكفّل بجمعه وقرآنه ، تكفّل له بأن يجمعه بصدره فلا ينساه وأن يعينه على أن يقرأه على الناس .
وفي آية أخرى في نفس المعنى يقول الله جل وعلا لنبيه الكريم ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه ) فلا سبيل إلى أن يجري أي اختلاط بين حقيقة الوحي وبين جملة ما يجيش في صدر النبي عليه الصلاة والسلام من عواطف ومن رغبات ومن اندفاعات . ألم يسأل المشركون صلى الله عليه وسلم جملة من الأسئلة فوعدهم بأن يخبرهم عنها في أمد حدده لهم ؟ هذا معروف ، فماذا كان موقف الوحي ؟ إن الوحي ظل هناك على حياله لا يتأثر برغبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يميل مع أهواء النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ظل هو الحقيقة الثابتة التي تشد إليها كل ما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من عواطف ورغبات واندفاعات . إن الله يعلم أن وعداً قُطع من محمد صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين بأن يجيبهم على أسئلتهم ، وإذا تأخر الوعد فإن الله يعلم أي غبار كثيف سوف يثيره المشركون تشكيكاً وطعناً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الوحي ظل على سكوته لم يكترث أبداً ، ثم جاء بعد انقضاء المدة ، جاء لا ليبدأ بالجواب على أسئلة المشركين ، بل ليبدأ بالعتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ) هذه الحالة تلفت النظر إلى حقيقة من حقائق التربية الإيمانية تشير إليها الآية التي تلوناها .(/2)
إن الآية التي تقول في معرض التهديد المرعب والوعيد الشديد للمعتدين على المؤمنين ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) مرة أخرى أقول لكم ـ للأسف ـ إن قوانين الإسلام وقضاياه الكبرى بعيدة عن المسلمين وغريبة على المسلمين في هذه الأيام بل منذ قرون ، إن علينا أن نستحضر في أذهاننا ساحة المعركة التي كانت تدور حينما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يشبه والله أعلم أننا نتحدث في حدود السنة الثالثة من البعثة والنبي صلى الله عليه وسلم قد عُرف أمره وشاع خبره ومشت الركبان بذكره ، والناس قد آمن بعضهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والمجتمع المشرك قد أخذ أُهبته للدفاع عن نفسه فأصبح ينتقد ويعيب ويعتدي ، إن المسلمين في هذا الإطار يعيشون في عقلية ونفسية خاصة ، تصوروا أنفسكم في ذلك الزمن ، إنك ترى أنك من غير ذنب جنيت هدفاً للعدوان وغرضاً للتشكيك والمقاطعة والابتلاء بكل صنوف الأذى ، وأنت بشر مخلوق من لحم ودم ، حزمة من الأعصاب التي أثارتها المرحلة الصعبة التي كان المسلمون يمرون بها . ينظر أحدهم فيرى أباه قد هجره ويرى أمه قد تخلت عنه ، ويرى أخاه معرضاً ، وينظر الآخر فيرى نفسه مقيد اليدين والرجلين ، وينظر الآخر فيرى أنه هدف للجلد بالسياط والجرّ على الرمال الحارقة بيد أقرب الناس إليه ، أية عواطف هذه التي كانت تسكن نفوس هؤلاء الأقوام الذين لا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربنا الله .
إن الحالة الشعورية لا بد أنها كانت على أشد ما تكون المشاعر توثّباً وقرباً من الانفجار . تصوروا أنفسكم في ذلك الموقف كم تسكن قلوبكم من عواطف الحقد والبغضاء لهؤلاء الذين يعذبونكم بلا سبب ، إنكم سوف تقولون على الأقل فيما بينكم وبين أنفسكم : لئن أمكننا الله منهم لنفعلنّ بهم ولنفعلنّ .. تصوروا أنفسكم في هذا الموقف في ذروة الشعور بالحنين والرغبة الجارفة بالانتقام يأتيكم الوحي كإناء الماء البارد يصب عليك ليهدّئ أعصابك وليشعرك أنك تفكر في طريق غلط . إن الآية تقول للمؤمنين في معرض الكشف عما أعدّ الله للمتجبرين ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ) فالآية تقيد ولا تطلق ، إن الوعيد والتهديد لم يأتِ مطلقاً لم يقل الله : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات لهم عذاب الحريق . ولو كان هذا الكلام بهذا الشكل لكان حقاً أن ينزل الله العذاب بكل إنسان آذى مؤمناً أياً كانت العاقبة التي انتهى إليها ، وأيّاً كانت الخاتمة التي مات عليها . ولكن الآية تقيد لتقول للمؤمنين بكلام بليغ غاية في البلاغة ، نهاية في الإيحاء المؤثر إن العذاب سينال هؤلاء المشركين تحت شرط أن يموتوا على شركهم وأن يموتوا وهم متمادون في سوم المؤمنين سوء العذاب ، ولكن هؤلاء المشركين الذين سفكوا دماءكم ومزقوا جلودكم وقطعوا أرحامكم وأجاعوكم وأعطشوكم وشردوا بكم هؤلاء إذا تابوا وأقلعوا عما هم فيه ورجعوا إلى الله جل وعلا فلا عذاب ولا شيء مما تفكرون به ولا شيء مما تنذر به عواطفكم المتأججة ولا شيء مما تحدثونه أنفسكم .
قد تتعرضون للعذاب على يد الجبارين والمتكبرين ، ولكن هذا لا يعني أنك من حيث أنك مسلم مؤمن بالله وكلماته يجوز لك أن تحافظ على الأحقاد في قلبك ، إن عليك أن توّطن النفس توطين لا استثناء له على قبول أي إنسان في حظيرة الإيمان وفي ساحة الإسلام أخاً محبوباً مرغوباً فيه لمجرد أن يؤمن بمثل هذا الإيمان الذي آمنت به . إن الآية لو تأخرت عن هذا الموعد لفقدت قيمتها ، لو تأخرت عن هذا الموقف لم يبقَ لها أي مفعول ، ولكن إعجاز الإسلام أن ينزل التهذيب والتأديب والتقويم في الوقت المناسب وفي الحالة المناسبة ، ولا أنسى من أن يأتي هذا التوجيه في ظل العذاب المتواصل الذي يتعرض له المؤمنون .(/3)
إن قضية الإسلام وإن قضاياه غريبة عن الناس اليوم ، إن قضيته لا تشبه ما يفكر به الناس اليوم ، ولا تشبه ما تعارفوا عليه وأخذوا أنفسهم به من مناهج جاهلية . وكيف كان الفصل جازماً وحازماً بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم ورغباته وبين حقيقة الوحي ، فكذلك أيضاً ، هذا الفصل على ذات الهيئة وعلى ذات الصورة قائم بين القرآن وحقائق الإسلام وبين عواطف المسلمين ورغباتهم . إن المسلمين أُخذوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم بألوان من التربية لا شيئاً أكاديمياً يتلقونه في المدارس ولكن على محرقة الواقع ، في نار التجربة ، وهم يخوضون معركة الإسلام ضد أعداء الله من كل صنف ولون ، حتى خلصت لله ضمائرهم ، وصغت لله قلوبهم ، وتطهرت نفوسهم من جميع الإرادات البشرية ، واستطاعوا بنتيجة ذلك السيطرة التامة على عواطفهم وعلى رغباتهم ، وإلا فكيف يستطيع المسلم أن يفسّر قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه للمؤمن : والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به . لا يمكن أن يفسر المؤمن بهذا الشكل إلا بعد أن يخالط حب الإسلام وحب قضاياه وحب خدمته الحد الذي يمتزج باللحم والعظم والدم ، حتى يتغلغل في أعماق النفس ، الحد الذي يستولي على نهاية شعور الإنسان . حينئذ يكون الإنسان وقّافاً عند حدود الله فوق رغباته جميعاً بل ضد رغباته جميعاً .
هل نستطيع أن نقول : إن المسلمين الذين قادهم الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب ليفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة ، ففتحوا مكة ، وكان عددهم عشرة آلاف ، جيش في مقاييس ذلك الزمان ترتعد له الفرائص ، هل نستطيع أن هؤلاء المسلمين حينما شاهدوا أعداء الله وأعداءهم أمام أعينهم ، هؤلاء الذين كانوا حتى صبيحة اليوم يحابونهم ولا يدّخرون وسعاً من أجل إفنائهم والقضاء عليهم ؟ هل نستطيع أن نقول : إن المسلمين كانوا بلا قلوب ، كانوا بلا مشاعر ، كانوا بلا أحاسيس ؟ إن أي إنسان يحس ويشعر ويتأثر ، ولكن الإنسان من بين مخلوقات الله هو المخلوق الوحيد الذي أُتي القدرة على أن يتحكّم في إرادته بطواعية واختيار ، إن الحيوان تسوقه الغريزة يأكل حين يجوع ، وينكح حين تشتد عليه شهوته ، ويشرب حين يحس بالعطش . ولكن الإنسان يمسك نفسه ، يجوع فلا يأكل ، ويعطش فلا يشرب ، ويشعر بالدافع الجنسي فلا يقترب منه ، ويريد الشيء ويمنع نفسه من ذلك ، إن هذه الإرادة الحرة الطليقة هي التي حرص الإسلام على أن يربيها في نفوس المسلمين . اسألوا أنفسكم : لماذا كل هذا التعب ؟ أذلك من أجل معركة تكتيكية ؟ نحن نعلم خاصة في هذه الأيام أشياء كثيرة وغريبة ، نعلم أن دولاً قامت ولها ثقلها في الميزان الدولي ولها تأثيرها علينا .. قامت على أساس معتقد يقول : إن الذين يملكون المال أو الأرض أو العقار لا يمكن أم يكونوا أصدقاء أوفياء للشعب ، إنهم أعداء الشعب ، ليكن مثقفاً ، ليكن جاهلاً ، ليكن مهذباً ، ليكن شريراً ، إن هذا لا يغير من الواقع شيئاً ، إن طبقة الرأسماليين من حيث هي طبقة رذيلة وشريرة ومستغلة ويجب أن تُفنى إفناءً كاملاً . وما يقوله هؤلاء يقوله المعسكر المضاد .
من أجل ذلك رأينا في تاريخنا المعاصر حركات تأخذ الناس بمجرد أنهم كتل تنضوي تحت مفهوم ، تأخذهم بالإفناء والتقتيل ، لا تسأل نفسها .. هل يمكن لهذا الإنسان أن يكون طيباً أو لا يمكن ؟ أبداً ، ثمة حكم مسبق ، كل إنسان ينتمي إلى طبقة معينة فوصفه كذا وكذا .. إننا في الإسلام نقول هذا خطأ ، إننا نقول عن الإنسان من حيث هو إنسان هو المنظور إليه ، ليكن من أية طبقة كانت . وتاريخنا الإسلامي يعطينا الصياغة التي صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي هي بشهادة الأقدمين وشهادة المحدثين وشهادة الأعداء والأصدقاء أفضل صياغة اجتماعية ممكنة ، فإذا فتشت عن عناصرها وجدتَ الحر والعبد .. وجدتَ الغني والفقير .. وجدتَ الشريف والوضيع .. ووجدتَ الذكر والأنثى .. كل هؤلاء جُمعوا في بوتقة الإسلام وعمل الإسلام على تكوينهم .. هذا التكوين الرائع الذي شهد له الأعداء والأصدقاء .(/4)
هل ننظر إلى الطبقة ؟ هل ننظر إلى الطبقة الاجتماعية ؟ لا ، هذا خطل في الرأي وهذا انسياق مع العواطف التي لم يصل الإنسان إلى المرحلة التي يتحكّم فيها ويضبطها ويكبتها ويمنعها عن الانطلاق إلى مراحل التخريب والهدم . إننا في الإسلام ننظر إلى الجوهر الكريم في الإنسان ، إلى المعنى الإنساني ، ونحن نعتقد كما علمنا القرآن أن الله برأ الناس على فطرة الإسلام ، قابلين أن يميزوا بين الخير والشر ، نفرق بين الهدى والضلال ، وأن يلتزموا جانب الحق والصواب ، ولكنهم بتعاملهم مع البيئات التي نشأوا بفعل قوانين الزمان والمكان ، بفعل مؤثرات لا تُعدّ ولا تُحصى ، أُصيب بهذه النكسة ، فالنكسة عارضة . المرض شيء طارئ ، ولا يمكن أن نرتب عليها حكماً ، ومن هنا كان موقف الإنسان المسلم هو موقف الإنسان الذي يصبر على هذه الطبيعة البشرية ، ويروضها شيئاً فشيئاً ، ويأخذها بين الآن والآن ، ويطيل الصبر عليها حتى يزيل عنها هذه الغشاوة التي لحقت بها عبر الأزمان والدهور لتفيء إلى أمر الله وليعلم الكل أن الإسلام فطرة الله التي فطر الناس عليها .
ولننظر إلى ما بعد هذه الآية ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لو يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) إن بين المعترضتين تتركز العلاقة بين ( الحميد ) وبين مناسبتها لهذا الكلام . إن المعركة كما قلنا ليست مع الناس وإنما مع الله ، وإن المؤمنين لا غاية لهم ولا أرَب ، ولا مطمع لهم في أموال الناس ولا في مناصب الناس ولا في الجاه ولا في غير ذلك ، وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم . ننظر إلى هذا المعنى لا نستطيع بسبب من المواقف أن نكوّن فكرة مسبقة عن إنسان أو نكوّن موقفاً مسبقاً عن هيئة أو حزب أو أي شيء آخر .. نحن نطمع في الجميع ، ونحن نصبر على الجميع ، ونحن نطالب الجميع ( ومن أصدق من الله قيلاً ) إنك لو أخذتَ من القرآن بعض من آياته .. اذهب مع الزمن .. مع وقت الهجرة وانظر في سورة الممتحنة التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وانظر كيف حددت علاقة المسلمين مع غير المسلمين .. مع الأعداء ، وانظر بأي ميزان وزنتهم ، وانظر إلى هذا الميزان العميق الذي شدت المسلمين إليه ، ثم إن السورة تُفتتح هكذا ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يُخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ، إن يثقفوكم ) أي يستطيعوا السيطرة عليكم ( يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ) ثم تأخذ السورة بعرض المثال النيّر ( لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) انظر أيضاً تجد الله تعالى قبل أن ينفض الميزان الذي يحدد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بقوله ( لا ينهاكم عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم ) ثم ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) قبل نصب الميزان ماذا يقول الله تعالى ؟ إنه يقول للمؤمنين ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ) وإذاً فالموقف العصبي المهتاج غير المبصر والأعمى الذي يقفه الإنسان أسيراً لهذه العواطف الهائجة المتمردة موقف ليس فقط غير عقلاني وإنما هو موقف غير إسلامي ، إنما الإسلام يفتح أبواب الأمن أمام الناس وأمام المؤمنين بالذات ، ومن الخطر أن يفقد الإنسان المسلم ثقته بالطبيعة البشرية ، ومن الخطر أن تكون نظرة الإنسان المسلم إلى الناس نظرة سوداوية .
إن رسالة الله موجهة إلى الناس كافة سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم مجوساً أم عبدة أوثان ، هم ناس قبل أي شيء وبعد أي شيء ، فالرجاء أمامهم وارد ، وبذلك يكون موقف العدوان المبدئي موقفاً لا ينسجم مع الطبيعة الإنسانية كما لا ينسجم مع حقيقة الإسلام . ثم هو لا ينسجم مع التكتيك الذي تنتهجه الأنظمة والمناهج في بناء الأمم والشعوب .(/5)
نحن الآن نعيش في زمن ، نجد فيه هذا المبدأ غريباً ، لماذا ؟ لأننا تعودنا أن الطبقة الفلانية كلها عدو وخصم لا يمكن أن يأتي منها خير ، وبذلك هي لا تستحق الشفقة ، وليس من أخلاق المناضلين ولا من أخلاق الكادحين ولا من أخلاق الثوريين أن يحسّوا أي إحساس بالشفقة على أي إنسان من هذه الطبقة العدوة . أما أن يسأل نفسه : أليس من الممكن أن يوجد بين هؤلاء الناس أُناس طيبون ؟ فهذا غير وارد . ونعيش في زمن أيضاً نعرف أن حركة ما قامت ونجحت ، لكنها تعرضت للبلاء قبل أن تنتصر ، ما هي سياستها الرشيد بعد أن تستلم الحكم ؟ تصفية الخصوم . تعرفون هذا طبعاً ، تصفية الخصوم ولكن بطريقة مهذبة ، هذا في السجن ، هذا في الإبعاد ، هذا تحت ستار من الصمت ، وهذا يُشنق اليوم ويلحقه آخر . بعد شهر وخلال فترة زمنية محددة يُصفى الخصوم بطريقة مهذبة لا تثير لها لغطاً أبداً . إن هذا الشيء هو الوارد في حياة الناس في هذه الأيام ، فهل ينسجم هذا مع قوانين الإسلام ؟ لا ، هذا جانب من القضية فقط .
إن هذا في الواقع الجانب السلبي ، ويكون الجانب الإيجابي الذي يكمل الصورة هو كما جاء في الآية بعد هذه الآية مباشرة ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) ما كان أحوج المسلمين إلى أن يقرأوا هذا الدرس وهم يتقلبون في المحن والابتلاءات بقيادة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
لماذا وُجد الإنسان ؟ الحيوان الأعجم يولد ويأكل ويشرب وينسل ويموت ، كم من المرات كنتَ ماراً في الطريق فوجدتَ جثة حمار أو جيفة كلب ، هذا مخلوق وأنت مخلوق ، لكن الإنسان كائن متفرّد ومتميّز ، هل غايتك أن تأكل وتشرب كما يأكل الحيوان ويشرب ؟ أم لك وظيفة ؟ إن الله تعالى قال ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) إن الأمانة التي حملها الإنسان الجهول الذي يجهل ضخامة هذه الأمانة ، والظلوم الذي لا يرعى غالباً مقتضيات هذه الأمانة ، هي رسالة الله تعالى . أنت كائن ومخلوق من أجل هذه الغاية ، حينما تفقد هذه الغاية تفقد شرف وجودك كله ، لا يبقى معنى لأن توجد ، إن وجودك ووجود أية حشرة تدبّ على الأرض أو تطير في السماء سواء ، فالإنسان وُجد لينصر كلمة الله ، , وُجد ليأخذ بأمر الله ، وُجد ليدعو إلى دين الله . هل وراء ذلك شيء ؟ إن الله تعالى لم يجعل وراء ذلك شيئاً ، فالمسلمون يعلمون علماً لا ريب فيه أن حياة الإنسان لا تتحدد ما بين الولادة والموت ، هم يعلمون أنهم سلالة أجيال مضت ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) وهم يعلمون أنه لهم ذرية ستأتي من بعدهم ، فمن أجل ذلك فاستمرارية البشرية لن تتأثر بفقد هذه العناصر التي تموت في سبيل شرف الغاية ، بل إن الذين يموتون يهيئون التربة لنمو القضية بأن تزكو هذه الثمرات التي وضعوا في الأرض بذورها وسقوها هم بدمائهم . إن المسلمين يعلمون هذا ويعلمون أن حياتهم لم تنقطع بهذا اللحظة التي توقفت فيها أنفاسهم عن التردد في أجوافهم ( من المؤمنين رجال صدقوا الله ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) ولو أتيح لكم لغة القرآن ، لغة العرب التي نزل بها القرآن ، لعرفتم أن هذا التعبير المعجز ( قضى نحبه ) يشير إلى شيء ربما لا يفكر به أي واحد منكم ، إن النحب هو الطلب هو الهرب هو الغاية ، إن النحب هو الواجب ، فهذا الذي مات قضى واجبه وفاز بغرضه ، واستولى على ما يريد ، إن الذي مات أخذ كل شيء يمكن أن يأخذه هذا الإنسان ، ومنهم آخرون ينتظرون ، ينتظرون هذا الموقف الذي وقفه إخوانهم ، ولم تنقطع الحياة بوفاتهم . استمرارية الحياة موجودة ، ولكن هذه الاستمرارية لا تعني أكثر من استمرارية الحمير أو الكلاب إذا فقد الإنسان شرف الغاية التي حددها الإسلام . فمن أجل شرف الغاية كان الاستشهاد وكان التعرّض للبلاء وكان تقحم المحن واجباً يسعى إليه المؤمن وهو قانع أن الربح معه وبأن الفوز معه ، وبأن الفلاح معه ، هو الرابح الوحيد في هذا الميدان .
من أجل هذا قال الله هنا ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) كان يكفي أن يقف الله عند هذا الكلام لكي يعلم كل مخاطب أن الله وعد الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، ولكن الله وهو يعرض المصير الرهيب الذي يتعرض له الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ولم يتوبوا يصف هذه الجنات بأنها الفوز الكبير ، لا أكبر من أن يقضي الإنسان حياته تابعاً ناصباً عاملاً في هذه الدنيا وفاقاً لأمر الله تعالى .(/6)
في أي شيء تستطيع أن تفسر يا أيها المسلم هذا الكلام الفصيح الذي كنتَ تسمعه من الإنسان المؤمن حينما كان يُقتل في سبيل الله ، إن الإنسان المسلم حينما كان يقود المعركة فيتلقى ضربة السيف أو طعنة الرمح المميتة كان يقول : فزت ورب الكعبة ، فاز ، إن هذا لا يمكن تعليله ، ولا يمكن تفسيره ، إلا على ضوء واحد هو العرفان الكامل من قبل المسلمين بحقيقة المهمة وطبيعة القضية التي يحملونها وبالموقف الدقيق إزاء البشرية التي يواجهونها بهذا الدين .
أقول هذا الكلام وأنا أطمع إن شاء الله تعالى أن يلامس آذاناً سميعة وأن يصل إلى قلوب مفتحة ، أقول هذا وأنا أطمع أن يتخلّق كل مسلم بأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وبأخلاق القرآن ، وأن يُشعر نفسه محبة الناس وأن يشعر قبل وبعد ذلك بحقيقة وظيفته مع هؤلاء الناس . أقول هذا وأنا أطمع أن يبلغ هذا الكلام عقولاً وقلوباً تستفيد منه حقيقة بسيطة هو أن الله أنزل هذه الشريعة وأنزل هذا القرآن لكي تُطوّع لها العواطف والرغبات والأهواء والأفكار والاتجاهات . ولكن من غير الجائز أن تُطوّع قضايا الإسلام لرغبات النفوس ، وأن توضع أمور الإسلام في خدمة العواطف التي لا تُبصر ولا تعقل ولا تفهم .
كيف كان الفاصل والحاجز قائماً بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الوحي ، اعلم أيها المسلم أن الحاجز بذاته موجود بينك وبين حقائق الشريعة ، إن عليك أن تُطوّع نفسك لشريعة الله ، وحذارِ حذار أن يقع في وهمك أنك يمكن لك يوماً ما أن تلوي عنق الشريعة ليساير رغباتك وأهواءك . فهل من سميع ؟ وهل من عالم بأن الوقت الذي تعيشه الأمة الآن أحوج الأوقات كلها إلى يعلم المسلمون العاملون هذا الدرس الكبير ، هذا الدرس الذي جاء إلى المسلمين في كلمات ثلاثة : ( ثم لم يتوبوا ) ضعها دائماً في ذهنك ، واعلم أن خصومتك مع الإنسان غير التائب إلى أن يتوب إلى الله تعالى ، فإذا تاب فهو الصديق وهو الأخ وهو الحبيب وهو الولي الحميم .
والله أسأل أن يزيدنا فهماً بحقائق كتابه ومواقف نبيه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة البروج
(5/6)
الجمعة 18 جمادى الأول 1397 / 6 أيار 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فأظن أننا الآن مع المرحلة الأخيرة من مراحل مسيرتنا مع سورة البروج ، وما كان أشهاه إلي وأحب لو يسّر الله تعالى منةً تطيق الصبر على تتبع الدروس الكبيرة التي تضمنتها هذه السورة العظيمة ، وأياً ما كان فلنقنع بما يسّر ، ولنسأل الله تعالى المزيد من فضله .
أدرنا الحديث في الجمعة الماضية عن الآيتين الكريمتين من سورة البروج وهما قول الله تعالى ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) وأحسب أن منكم من لاحظ أنني ما عُنيت بشرح الوعيد الشديد المذكور في الآية الكريمة الأولى ، وإنما ركّزت الكلام وسلّطت الأضواء كلها على ما حوته الآية من قول الله تعالى عن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ، وإنما أردت لذلك أن أُبرز هذه القضية لما لها من أهمية حاسمة في أخلاقيات الدعوة ، بل وفي طرائق الدعوة ذاتها .
فينبغي أن لا يغيب عن بالنا أننا نعيش عصر فتنة في الأشياء الفكرية والأنماط المذهبية ، وينبغي أيضاً أن لا يغيب عن بالنا أن رجال الأمة وأخص الشباب منهم يتغايرون بهذه المذاهب والمناهج الفكرية كما تتغاير النساء في أزياء اللباس وتصفيف الشعر أو أشد . وإنما يأتي ذلك دائماً من فقر الشخصية ، فقد ترى الرجل يعجبك جسمه ويروقك منظره ولكنك إذا بلوته تكشّف لك عن إنسان يرزح تحت فقر مدقع لا يعرف لشخصيته مرجعاً يرجع إليه ، ولا قاعدة يستقر عليها ، ولا غاية ينتهي إليها . وما أقول هذا لأقرّع أحداً ، ولا لأوبّخ أحداً ، فأنا واحد منكم ، مررت بالشيء الذي مررتموه ، وعشت الداء الذي تعانون منه ، وكدت أن أكون واحداً من صرعى هذه المذاهب الضالة الباطلة . ولكن أقول بأناة أن يستيقظ شباب هذه الأمة ويبذلوا من ذوات أنفسهم مجهودات صادقة ومخلصة وأمينة بغية اكتشاف حقيقتهم ومعرفة معنى وجودهم وغاية الاستخلاف التي أكرمهم ربهم جل وعلا به .
ولا بد أن أذكّر الإخوة جميعاً بأننا إذا كنا في الأربعينات والخمسينات نفتقر إلى مردود جيد من التجارب ونحتاج إلى وقود لا بأس به من المحن والبلايا والمصائب والكوارث ففي ظني أن إخوتنا اليوم يملكون بين أيديهم من حاضرهم المشهود وماضيهم القريب جداً ما يكفي لإقناع من أراد الله به الخير أن ما مضى كله بلاء ، وأن ما يتعاجب به الناس اليوم فشؤم وشر ، وأنه مضى الزمان الذي كانت فيه الأمة تُختدع بصداقات ذات ظاهر برّاق ووعود خلابة بعد تكشف الناس جميعاً في كل أركان الأرض عن عداوة مرّة لا يغسلها الماء ، لا من حيث أنها بشر ينطقون العربية فذلك شيء لا أهمية له ، وبين أمم الأرض من يعدّ أضعافنا وأضعاف أضعافنا لا يؤبه لهم ولا يقيم لهم أحد وزناً ، ولا لأننا نملك الخيرات ونجلس فوق بحر عائم من البترول والخامات ، فقد ينبغي أن يعلم الإخوة وعلى الأخص من أخذ شيئاً من العلوم والتقدم العلمي أن هذه الثروات الطبيعية التي قضينا من عمرنا زماناً ونحن نلوح بها ونهدد ونرعد دون أن نستخدمها ، هذه الثروات الطبيعية لم يعد لها وزن في تقرير مصائر الشعوب ولا في رسم مخططات السياسة التي تخطط لعشرات السنين .
إن العداء الأصيل مع عقيدة هذه الأمة ، الخصومة مع الإسلام وليست مع العرب من حيث هم عرب ، ولا مع سكان الشرق الأوسط من حيث هم سكان الشرق الأوسط ، وليس معركة قواعد تستخدم في الحروب ، فيجب أن يعلم ابن الشعب العامي أن هذا الكلام الذي يسمعه لا قيمة له ، إن القواعد أيضاً فقدت قيمتها بعد غزو الفضاء ، كل ما في الأمر أن الصراع الآن يتمثل بين حضارتين : حضارة تحمل الإسلام وإن كان أهلها نُوّماً لا يكادون يهتمون بها ، وحضارة تجمع كل ما خلق الله من أوشاج عبدة الشر وعبدة الفروج والعقول ، الصراع هذا وكل كلام سواه فهو باطل وأكذوبة ليس في حق أمة ولكن في حق العلم وفي حق المستقبل . من أجل هذا كنت شديد الحرص بكل أحاديثي الماضية على إبراز المعالم الأساسية التي غابت عن أعين أبناء الأمة بعد سُدّت آذانها وعُميّت الأعين ، بعد الضجيج الذي لا يريد أن ينتهي يروّج للمذهب الفلاني ويدعو إلى المنهج الفلاني ويرفع عيناً إلى أعلى عليين لينزل به غداً إلى أسفل سافلين ، هذه المهزلة التي تكون عذراً كافياً ولكن إلى حد ما أمام الشباب الذين ضُلّلوا طويلاً وغُرر بهم كثيراً ، ثم آن أن يواجهوا مسؤولياتهم ، ويعملون على أن يأخذوا بين أيديهم أزمّة مصائر أمتهم دون أن يتركوها للأبالسة الذين يخططون من الخارج ، وصغار الأبالسة الذين يعبثون في الداخل .(/1)
ولذلك أنا أشدد على المعالم البارزة في حركة الإسلام ، هذه الحركة التي أنزلها الله تعالى في مكة وحول مكة قبل ألف وأربع مائة سنة . ثم شاء أن تتحرك في جيلنا وتكون أيضاً قاتلة ومحرقة لكل الذين لا يؤمنون بالله ولكل الذين يدبرون المكائد لعباد الله . زبدة الفكرة التي قلتها لكم في الجمعة الماضية والتي استُخلصت من قول الله ( ولم يتوبوا ) أن هذا الإسلام له طريقه المتفرد وله نهجه الخاص في صياغة النفوس . إن الإسلام في الواقع ليس كما يحاول بعض دعاته والمحسوبين عليه والناطقين باسمه دون البقية .. هل هو دين يريد أن يرقع الحياة من هنا وهناك ، وأنا أريد أن أتحدث وبكل إخلاص إن شاء الله فأحذر من الانزلاق وراء المفاهيم السائدة في العصر ، لأنها لن تعدم ونحن نحاول أن نفهم الإسلام إلا أن تصل إلى حقيقة الإسلام إذا أخذت طريق البحث عن الحق . إن الفردية تعني أننا يجب أن نضع في كل مخططاتنا وجميع مناهجنا كلاً وتحصيلاً مصلحة الأفراد ، وإن طغيان الفرد من طغيان المجتمع ، فالمذهب الجماعي ينادي بأن الأولوية يجب أن تُمنح له ، وفي حال التعارض مع مصلحة الفرد ومصلحة المجموع فينبغي أن تهدر مصلحة الفرد وأن تقرر مصلحة المجموع .
وإذا ذهبتم تتلمسون نتائج وآثار هذا المفهوم فأنا أطمئنكم منذ البداية أن كل هذه الموضوعات سفسطة وأنها ليس أكثر من شراك وأحابيل وُضعت لوصول أناس إلى السلطة لكي يتحكموا في مصائر الناس إلى أمد يطول أو يقصر ، أما البحث عن نظافة الأيدي وعن سلامة المقاصد والأهداف وعن سمو المناهج فذلك شيء لا يقتنع به المذهب الجماعي ، كما لا يبحث فيه المذهب الفردي .
...................... حدث هنا خلل في الشريط ........................
إن الإسلام بناء غير معهود وغير معروف عند البشرية من قبل ، لم يكن الناس يعرفون من قبل أن صحة الإنسان العقلية والروحية والبدنية والشخصية تتوقف على مخالفة الطباع ، وتتوقف على مكافحة الشهوات ، لم يكن الناس يعرفون هذا ، الناس يعرفون أن من أكبر الخطأ أن تصد إنساناً ما عما يريد ، يقول لك : إذا أراد الإنسان أن يأكل فلا تمنعه ، وإذا أراد أن يعتدي فلا تمنعه ، وإذا أراد أن يزني فلا تمنعه ، وإذا أراد أن يعاقر الخمر فلا تمنعه ، لأن هذه طاقات فإما أن تفرغ وإما أن يكون الكبت . وما أدراك ما يجره الكبت من عقد والتواءات ، ولعل الإخوة المعلمين يعرفون مما قرأوا من مناهج التربية كم يشدد علماء التربية الذين يُسمون علماء زوراً وبهتاناً وهم لا يستحقون أقل من وصف الشياطين ، يعرف هؤلاء الإخوة كم يشدد هؤلاء على ضرورية إطلاق الحوافز وإطلاق الرغبات ورعايتهما ، إن الإسلام يقول خلاف هذا ، يقوله في الأول ويقوله في الآخر ، ويقوله في كل مناسبة ، إن الإنسان كما قال الله عنه : ظلوم وجهول وشحيح وحريص وطماع ومعتدي وظالم . تلك كلها أوصاف دمغ الله به الإنسان في القرآن الكريم تسمعونها فيه .
ووظيفة الرسالة ووظيفة النبوة أن تأتي إلى هذه الشجرة التي نبتت في الغابة كيفما اتفق ، تذهب أغصانها يميناً وشمالاً ، وتمتد إلى الوراء وإلى الأمام وتروح في السماء وتتدلى إلى الأرض ، فيها كل معاني الروعة التي تدل على الجمال وعلى الجلال ولكنها تخلو من التناسق الذي يوفر حسّ الجمال المريح للأعصاب والنظر . إن الإنسان كذلك ، الإنسان على طبيعته إنسان الغابة ، إنسان فيه كل هذه القوى ، وكل هذه المواهب التي فتنت عقولاً كبيرة ولعل الكثيرين من الإخوة يعرفون دعوة روسو وأمثاله من الذين كانوا ينادون بالعودة إلى الطبيعة ، وكان المثل الأعلى للإنسان عندهم إنسان الغابة الذي كان يعيش كيفما اتفق .
إن الإسلام يرفض هذا التفكير ، طريق الإنسان إلى الرقي والسمو يسير على أشلاء الشخصية الإنسانية العابثة ليقيم على هذا التفكيك بناءً مركباً كأدق ما يكون التفكيك . لهذا كانت آيات الله وكان أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قاضية على الإنسان أن يكون قيماً على نفسه ، إن طغت يردّها عن ذلك ، وإن نازعته نفسه إلى ما لا ينبغي خطمها بزمام العلم والحكمة والمعرفة وردها إلى تقوى الله ومخافة الله . وهذا الإنسان الذي يدفعه تيار الحياة بكل ما يزخر به ويموج به من قوى ، هذا الإنسان محتاج إلى أن يبذل طاقات هائلة لكي يكون ذلك الإنسان الخيّر المرشح لأن يسكن جنة الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .(/2)
إن الإسلام جاء ليعلم المسلمين هذه القضية البسيطة ، جاء ليعلمهم أن الإنسان إذا تُرك وما يعتمل في نفسه من قوى فهو أداة مخربة ومدمرة ، ولكنه حين يؤخذ بحبال الشريعة ويُزمّ بخطام القرآن فسيكون ذلك الإنسان الباني والخيّر ، ذلك الإنسان الذي يكتب في سفر الوجود كلمات الحضارة التي يعاديها الناس جميعاً بما فيها طوائف من السلمين لا تقع تحت حصر . وقفنا عند جزئية وعرفنا منها هذا الشيء ، عرفنا من هذا الصراع أن عواطف تسكن القلوب وتتحكم بتحركات الإنسان ، وكم يكون في ذهنك من تصورات عن خصمك وأنت وإياه في معركة تتقابلان وجهاً لوجه ، كل واحد منكما يريد أن يقتل الآخر ، لكن الإسلام حتى وهو في أوج المعركة ، حتى والنفوس عند الذروة من الانفعال ، لا يسمح لهذه العواطف التي قد يُخيّل للبعض أنها مشروعة وأن فيها شفاء للغيظ الذي في الصدور وشفاءً وبُرءاً من حزازات الصدور ، ومع ذلك لا يسمح بهذا ، إن الله أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم كتابه وأوحى إليه شريعة ليست موقوتة بزمن كما هي غير محصورة بمكان معين ، ولكنها للناس جميعاً وعلى ظهر الأرض كلها .
ومن هنا لا بد أن يؤخذ بالاعتبار حين التحرك أن نضع في أذهاننا ضمانات المستقبل ، وضمانات المستقبل أن يعرف الناس كلهم بلا استثناء ، أعداؤك قبل أصدقائك ، أنك لا تحرث لنفسك ، وإنما تحرث لله وتسعى نحو مكسب يعود على هذه الرسالة التي أنت من جنودها ، واحد من هذا الرعيل الذي بدأ بآدم وانتهى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم هو ممتد من بعد إلى أن تقوم الساعة ، أنت كائن تاريخي تشعر بانتماء إلى الإنسانية ، وأية شريحة من الإنسانية في أي زمان وفي أي مكان تشكل معنى الإساءة لهذه القيم العالية الرفيعة التي نادى بها القرآن وجاء بها محمد صلى الله عليه وسلم فإنما هي معول تخريب ، ليس في عصرك فقط وإنما في كل العصور التي تأتي فيما بعد لأنها ستكون الحجة التي يلوح بها الفاسدون والمفسدون والضالون والمضلون والذين يتبعون الشهوات في وجه الداعين إلى الله للدلالة على فساد الإسلام .
أغريب عن الأسماع ما يروجه أعداء الله تعالى من فساد بعض الملوك وبعض السلاطين ؟ أغريب على الأسماع ما أصبح علكاً يلوكه الناس من حديث القصور والجواري ومباذل الكبراء والزعماء .. ؟ كل ذلك يا إخوة مضاف على الإسلام ، محسوب على الإسلام ، ولهذا كان محمد عليه الصلاة والسلام حريصاً جداً على أن لا تظهر في الساحة مثل هذه الموبقات ، لأنها ستكون في المستقبل معوقات ، أوليس عليه الصلاة والسلام قد عزم علينا عزماً : لتأخذنّ على يد الظالم ولتأمرنّه على الحق أطراً ؟ أليس معنى هذا أن الأمة المسلمة مأمورة ومطالبة بأن تقود الضالين والمضلين من آذانهم كما يُقاد الكلب لكي يقف على الطريق الصحيح ، لماذا ؟ أغيرة على شريحة بسيطة في زمن ما وفي زاوية مهملة من زوايا الأرض ؟ لا ، ولكن الإسلام يفتش عن ضمانات المستقبل لكي يكون كل تصرف من كل مسلم على صعيد الفردي أو على صعيد الجماعي دليلاً لا يُدفع على صلاحية هذا الإسلام ومنازلة الفساد .
إن القضية هنا ، من أجل هذا رأينا القرآن في الآيتين اللتين مرّتا يبرز قضية بأنه لا بدّ أن يعرف المسلم من بداية الطريق ، أن الإسلام شيء وشخص المسلم شخص آخر ، إن الإسلام حقيقة ثابتة ، محور ثابت ، وإن الشخصية كائن أو تركيب أو جهاز تتحرك في داخله نوازع ودوافع ورغبات وأهواء لا تعدّ ولا تحصى ، وقيمة الإنسان هي أن يبقى يلاحظ ثبات المنهج وأن يشد دائماً هذه الدوافع والنوازع إلى ذلك المحور الثابت وأن لا يعكس القضية .
إننا نعرف على مستوى الأفراد أناساً يتظاهرون بالتقى وباللحى والعمائم ومسابح وارتياد للمساجد آناء الليل وأطراف النهار ، منظر يخدع ويغش ، يخيّل إليك أنك أمام قديس ، ولكنك حين تبلوه وتختبره تجد أنه واحد من غمار الناس ، لا ، بل هو أعرقهم بالسوء وبالفساد ، إنهم يتخذون من الدين ستاراً يريدون أن يغشوا به الناس . أنت وئيد الخطو على الأرض ووقور ، لا لأن الوقار شيء أمر به الدين ولكن لأن الساحة خلَت لك من المطمع فإذا برز المطمع أمامك خلعتَ ثوب الوقار وعبثت مع العابثين ونسيت أمر الله بل نسيت الله نفسه . إن هؤلاء موجودون في كل زمان ومكان من ديار المسلمين ، وهم الآن عملة رائجة رواجاً شديداً لظروف لا يجهلها أحد ، إن الزمان منقلب ، وإن المفاهيم منتكسة ، ولو أن الميزان اعتدلت كفتاه لكان هؤلاء إما مجلودين أو مرجومين أو مقطوعي الأيدي أو مصلبين بعد أن تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .(/3)
إن هؤلاء موجودون ورائجون ويا ليت الأمر انتهى عند هذا الحد ، فكما تعلمون أن العملة الزائفة تطرد العملة الصحيحة ، إن هؤلاء يشكل وجودهم خطراً مزدوجاً ، هم في ذاتهم بلاء وهم على الناس أيضاً بلاء ، إنهم يثيرون الغبار المخيف في وجوه المخلصين الذين يدعون إلى الله تعالى ويريدون للناس أن يستقيموا على أمر الله لا يطلبون من منهم جزاءً ولا شكوراً ، إنما يطلبون من الله فقط .
ترى هؤلاء المزيفين ينظرون إلى أنفسهم بضرورة مسايرة الظالمين ويسوغون لأنفسهم تدعيم المكانة على حساب المساومة على قضايا الإسلام الرئيسية ومصالح الإسلام الكبرى . ألم يبلغ هؤلاء ما توّعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأصناف ؟ لقد بلغهم ذلك ولكنه صافح الآذان ولم يلامس القلوب .
فإذا نقلتَ المسألة إلى الصعيد الجماعي فيا حسرتاه على العباد .. يا حسرة على هذه الأمة .. كنتم فعلاً خير أمة أُخرجت للناس ترفلون في ثياب العز وتمسكون بزمام التاريخ فأصبحتم عن جدارة واستحقاق لا تشرفون أحداً .. أسوء أمة وأهون أمة مجرورين بذنب كلب ، لماذا ؟ لأنكم أهملتم تربية أنفسكم وفاقاً لمبادئ القرآن الكريم ، من أجل هذه الأخطار التي قد لا يتسامى إليها نظر كثير من الإخوة وقفت طويلاً في الجمعة الماضية عند هذه الجزئية وسمحت لنفسي أن أقف اليوم عندها لأعطي مزيداً من التفاصيل بعض هذه الذي قلت وبعضها سوف أطويه ولن أتحدث به ، يكفيني أن ألخص لكم ما مضى وأن أقول قبل التلخيص : ارفعوا رؤوسكم عالياً يا مسلمون ، إن الإسلام في الواقع هو الدين والمنهج الوحيد الذي وضع للناس أخلاقيات كاملة ومنهجاً في السلوك والعمل والفكر وفي الاعتقاد ، وإنكم يوم تتعرفون عليه وتروضون أنفسكم على الأخذ به فسوف تكونون غير ما أنتم عليه ، وتكون الدنيا أيضاً تبعاً لكم على غير هذا النحو الذي هي عليه الآن .
إن الجزئية التي درسناها في الجمعة الماضية هي أن الإسلام ما ترفّق بالمسلمين لا جاملهم ولا أخذ في الحساب عواطفهم ولا جملة الظروف والمثيرات التي يُنظر إليها أثناء التشريعات وأثناء إصدار الأحكام ، ما أخذ شيئاً من ذلك أبداً ، كان المسلم يُنتزع من بيته ليُجرّ على الرمل في هجير الصيف حتى يشوى ، وكان المسلم يؤخذ ـ وتسمعون اليوم كيف تُكوى الجلود بواسطة الكهرباء في الأقبية والسجون ـ لكن اسمعوا ، إن هذه البدعة ليست جديدة ، إنها خُلُق الأولين ، إن كثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوضع الجمر على ظهورهم وعلى بطونهم يبقى هذا الجمر ، جمر الغضا ولا أدري هل تعرفون الغضا أو هل شاهدتموه ؟ إن جمر الغضا لا ينطفئ إلا بودك الجلود بالدهن الذي يخرج من جلود المؤمنين ، دهن المؤمنين هو الذي يطفئ الجمر ، إن المؤمنين كانوا يُذبحون أشنع ذبح ، ويُقتلون أسوء قتلة ، ومع ذلك حينما كانت المعركة بين المسلمين وبين المشركين في أوجها وفي عز احتدامها لاحظنا أن القرآن كان غايةً في العنف وغاية في التصميم ، إنك في خصامك مع عدوك لا تخاصم إنساناً من لحم ودم ولكن تخاصم المعنى الذي يحمله هذا الإنسان ، فإذا زال المعنى فلا خصومة بينك وبين هذا الإنسان .
فالمسلمون إذاً يصارعون على الدين ، ومهما يكن من شأن خصمك .. ليكن قد قتل أباك .. ليكن قتل عمك أو ولدك .. فإن هذا لا يعني أن تحمل له العداوة والبغضاء أبداً ، إن الأمر ينتهي عند حدود زوال معنى الكفر من هذه النفس ، إذا أسلم فليس بينك وبينه عتاب وليس بينه حساب . حينما أرادت زينب رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلحق أباها الكريم صلى الله عليه وسلم قام ناس من المشركين يريدون أن يحولوا دونها ، وكانت حبلى رضي الله عنها ، وقام هبّار بن الأسود فروّعها وألقاها عن الجمل التي كانت فوقه ، فأسقطت ما في بطنها ، ولما وصلت أباها الكريم في المدينة ماتت ، جريمة قتل ، وجريمة فيها كل معاني الوحشية ، صاحبها لا يجد في نفسه ذرة من الإحساس بالرحمة والشفقة والإنسانية .
ومضت السنون وسار المسلمون إلى مكة فاتحين ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : من لقي منكم هبّار بن الأسود فليقتله وإن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة . لا ينسى محمد عليه الصلاة والسلام تلك النفس البريئة التي أُزهقت وهي لا تملك أن تردّ عن نفسها أذى المشركين . ولكن هبّاراً سمع وهو على شركه وقبل فتح مكة ما عليه محمد عليه الصلاة والسلام من كرم العنصر وطيب الخلق وأنه لا يردّ من جاءه مسلماً . فتسلل إليه في مجلسه وقال : يا محمد أنا هبّار بن الأسود وقد بلغني ما قلتَ فيّ ولكني أعلم أنك لا تردّ من جاءك مسلماً ، أقابل أنت إسلامي ؟ قال : نعم يا هبّار عفا الله عما مضى . فتصوروا سمو النفس وكبرها وعظمتها . هذا هو الذي يريده الإسلام .(/4)
إن تحرير المعركة بين المعاني التي يحملها الناس هو الذي يضمن بالفعل سلامة الإنسانية ورخاء الإنسانية ومستقبل الإنسانية ، وحين تتحول المعركة لتكون شيئاً بين الأشخاص بالذات فإن المعنى الإنساني يهون إلى الدرجة التي شهدنا معها في أيامنا في جيلنا في عمرنا كيف كان الناس ومازالوا يتسلى بعضهم بذبح بعض ، رأينا هذه الإنسانية التائهة الضالة لهوان معنى الإنسانية عليها ولغيبة مبدأ الصراع بين الآراء وبين الأفكار تحول المعركة إلى الذوات فتكون تدميراً شاملاً ، في الحرب العالمية الثانية دمرت ألمانية تدميراً لم تعرف له الإنسانية مثيلاً من قبل ، ومات ناس ما رفعوا يداً ولا حملوا سلاحاً ولا خاضوا معركة ، ماتوا لأن الحمم تساقطت عليهم من السماء قنابل تحملها هذه الآلات الجهنمّية المجنحة ، ولأن الحرائق شبت في البيوت فمات الناس ، وفي اليابان وفي غير اليابان ، وقل إنها الحرب قل إنها الحرب تشفع لأصحابها ، والقائد في الحرب يُعذر ما لا يُعذر المواطن العادي لكن ما رأيكم يا إخوة ؟ ما رأي الإنسانية اليوم إذا عرفت أن أبالسة الحرب وشياطين الشر يجرّبون الأسلحة المتطورة في أجزاء يختارونها من العالم ، تجرّب كل كتلة مدى صلاحية وفعالية السلاح الذي ابتكرته ووصلت إلى اختراعه . هل الحرب في فيتنام وفي كوريا وفي الشرق الأوسط وبين الهند وباكستان وفي أية بقعة أخرى قامت وتقوم الآن من أجل مصالح حقيقية ؟ لا ، المسألة بسيطة ملخصها أن الأسلحة في تطورٍ مستمر ، ولكن الأسلحة بحاجة إلى التأكد من سلامتها والتأكد من صلاحيتها ولا يمكن التأكد من ذلك إلا على أجسام الناس ، إلا على أرواح الناس ، ولا بأس بعد ذلك أن يموت عدد يكثر أو يقل من ملايين الناس .
ألم يقل هذا المأفون المجنون الذي ذهب إلى لعنة الله غير مأسوف عليه والذي أسأل الله أن يُلحق به كل من على شاكلته ماوسيتونغ حيث قال : إنه لا بأس أن يموت ثلثا البشرية من أجل أن يعيش الثلث الآخر بسلام وراحة وكفاية . إنّ النتائج كما ترون وخيمة ، حينما تتحول معارك الصراع إلى معارك بين الناس بالذات تكون المجازر ، وحينما تكون صراعاً على المبادئ ، صراعاً على الأفكار ، ينتهي بانتهاء الوصف الذي كان يحمله الإنسان ، يكون الأمر على النحو الذي عرضه تاريخ المسلمين .
تصوّرْ ، الرسول عليه الصلاة والسلام عاش من عُمر الدعوة ثلاثاً وعشرين سنة بعد أن هاجر إلى المدينة عاش عشر سنوات فقط ، خلال هذه المدة خاض معارك وحروب قادها بنفسه وأرسل سرايا قادها بعض من أصحابه ووقعت قتلى من الطرفين ، كم تتصورون عدد القتلى من المسلمين والمشركين في كل معارك الإسلام التي انتهت بتدعيم السيادة للإسلام ؟ أقل من ألف ، من الطرفين ، أقل من ألف بكثير لا يتجاوزون سبعمائة من المسلمين والمشركين . لماذا ؟ لأن وصايا النبي عليه الصلاة والسلام كانت حاسمة ومشددة : لا يُقاتَل إلا المقاتل ، الشيخ الكبير ، الراهب في الصومعة ، الفلاح في الأرض ، العامل في مكان عمله ، الطفل والمرأة ، لا يجوز أن يقاتَلوا أو أن يُقتَلوا أبداً . في إحدى الغزوات مر النبي عليه الصلاة والسلام فوجد امرأة مقتولة ، فتغيظ عليه الصلاة والسلام حتى عُرف الألم في وجهه الشريف وقال من فعل هذا ؟ ما كان لهذه أن تقاتل ، هذه امرأة هل يعقل أنها خرجت بقتال ، وهب أنها خرجت بقتال أما كنت قادراً ويحك على أن تكفها عن نفسك ؟(/5)
إن المسألة تعود إلى تحديد وصف المعركة التي حددها القرآن الكريم جاءت الآية لتقول ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) استعرضوا القرآن من أول كلمة في البقرة ( ألم ) إلى آخر الفاتحة إلى ( الضالين ) لن تجد تهديداً مثل هذا التهديد وجهه الله تعالى إلى أي مخلوق من مخلوقاته ، حتى شرّهم وأردئهم إبليس لم يتعرّض إلى تهديد من هذا القبيل ، أن يُجمَع له هذان الوصفان ( فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) فعلاً العملية صعبة ، أناس آمنوا بالله ، ما لك ولهم ؟ أناس اختاروا لأنفسهم طريقاُ ، ما الذي يضرك من أن يختار هؤلاء الناس لهم طريقاً ؟ لماذا تقتلهم ؟ أهم انتزعوا خبزتك من فمك ؟ أهم جاؤوك فزحزحوك عن كرسيك ؟ لا ، ولكنهم قالوا : لا إله إلا الله . ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يستنكر حين وجدوا المشركين في مكة وقد تجمعوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاولون الفتك به ، قال لهم : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه . لا معنى أبداً لكل هذه العصبية التي ظهرت من قبل وتظهر في كل وقت حينما يقوم قائم يدعو إلى الله تعالى ، ولكن الحقيقة التي قلناها أكثر من مرة والتي يجب أن نقولها باستمرار ليعرفها عدو الله قبل ولي الله ، الحقيقة أن عبادة الله وعبادة البشر لا يجتمعان في قلب الناس أبداً ، من آمن بالله رباً بارئاً خالقاً مصوراً رازقاً محيياً مميتاً فمن المستحيل أن يصفّق للسادة والزعماء .
المشكلة أن حقيقة الإيمان تنفي ألوهية الناس ، والمشكلة أن حقيقة الإيمان تضع الناس جميعاً على صعيد العبودية لله جل وعلا ، كن رئيساً ، املك أموال قارون ، مهما فعلت فأنت عبد ، أنت مثلي وأنا مثلك . إن عمر رضي الله عنه قال لأصحابه مباسطاً وقلما كان يباسطهم رضي الله عنه : أرأيتم لو قلت للدنيا بعنقي هكذا ، يعني ملت إلى الدنيا ، ما أنتم قائلون ؟ قام رجل من الأصحاب وسلّ سيفه وقال : نقول لك هكذا ، أي نعدّل رقبتك بالسيف . قال : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقيم عمر بسيفه . جرّب اليوم أن تشتم إنساناً تافهاً ، في الحالة العادية لا تسمح له أن يحلّ خيوط نعلك ، جرّب أن تشتمه ، اشتم الله فلن يحاسبك أحد ، اشتم الزعيم فسوف تعفّن في الأقبية والسجون . إن العبودية لله تُنزل الناس جميعا منزلة واحدة ، ومن هنا هذه الشراسة التي يبديها أعداء الله جميعاً في وجه الداعين المخلصين إلى الله تعالى ، ولهذا استحق هذا الصنف الكريه المقيت عدو الله وعدو الإنسان أن يُوجّه إليه هذا التهديد الرعيب المخيف ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) ومع هذا ففي وسط هذا التهديد الذي لا مثيل في القرآن كما قلت لكم يستل الله تعالى هذا المعنى ليحدد معنى المعركة ووصف المعركة وواجب المسلم حيال نفسه وحيال عدوه ، إن خصمك مهما يفعل ، فبمجرد أن يتوب من ذنبه ويؤمن بالله العزيز الحميد لم يبقَ بينك وبينه أي حساب .
ومن هنا كانت دعوة الإسلام رحبة وسماحة وخير وبر ومرحمة ، ومن أجل ذلك كانت هي الوحيدة في موج هذه البحار المتلاطمة من المذاهب ومن الآراء ومن التصورات ومن المناهج .. الدعوة الوحيدة المؤهلة ليس فقط لإنقاذ العالم العربي وليس فقط لإنقاذ العالم الإسلامي وإنما لإنقاذ البشرية جميعاً من محنتها التي تتردى فيها والتي تسعى حثيثاً للسقوط فيها .
أقول هذا الكلام وفي النفس ما فيها من الحسرات ومن الآلام .. ألم يكن خيراً وأكرم لهذه الأمة لو أن ساستها وزعماءها ـ وأقول هذا من باب رفع العتب في الواقع ـ قلت لكم قبل اليوم : في كل تجمع بشري وفي كل تركيبة اجتماعية أسوء ما في الناس رؤوس الناس ، هم الطبقة والفئة التي استُهلكت وفسدت ولم يبقَ فيها خير ، ولكن من باب رفع العتب ، أقول : ألم يكن خيراً وأكرم لو أن كبراء الأمة ومفكريها وساستها وزعماءها التفتوا إلى هذه الغايات العظيمة والأهداف العالية فدعّموا بناء الإسلام داخل هذه الأمة وحلوا مشكلاتهم في نور القرآن وفي ضوء الإسلام وعلى هدي من تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم ثم التفتوا إلى الإنسانية المعذبة يحملون إليها العلاج التي تحتاجه أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب ؟ أهذا خير أم أن يطير الزعيم الفلاني إلى العاصمة الفلانية ، وأن يطير الملك هذا إلى العاصمة الفلانية ، أو أن يذهب الأمير هنا أو هناك ، وبين ركام من السفاسف والموبقات تُقال كلمة استجداء لهذه الدولة الكبيرة ، وكلمة تملق لهذه الدولة الكبيرة .(/6)
وكل ذلك منتهٍ إلى أن نعود إلى النقطة التي انطلقنا منها ، لأن كل هذه المحاولات فاشلة لا تؤدي إلى نتيجة ، وأضل الناس عقلاً وأقلهم سعياً هو ذلك الذي يطلب الدواء عند عدوه ، هو ذلك الذي يطلب النصر عند خصمه ، أليس خيراً لو أن الأمة بمفكريها وكبرائها التفتت إلى ذاتها فوعت حقيقة الرسالة الإسلامية وحلت مشكلاتها لتكون عاملاً أساسياً بل ووحيداً لحل معضلات الإنسانية المستعصية ؟ كان ذلك أكرم ولكننا سفهاء ، وتعرفون معنى السفيه ، السفيه ليس هذا الذي يضرب هذا على وجهه أو يركل هذا برجله ، لا ، السفيه هو الذي خوّله الله نعمة جمعها أو ورثها فهو ينفقها بغير عقل وبغير تدبّر ، أي بسفاهة ، فهذا يُحجر عليه ، تأتي السلطة لتضع إشارة الحجر على أمواله وتتولى هي الإنفاق عليه . نحن المسلمين ورثنا كنزاً بل كنوزاً ، ورثنا هذه الرسالة العظيمة ، فماذا نفعل بها الآن ؟ ما موقفنا منها ؟ موقفنا منها أسوء من موقف السفيه الذي ورث الملايين من أبيه أو من جده فهو ينفقها على الليالي الحمراء وعلى موائد القمار وعلى كل ما لا يرضي الله تعالى ولا يعود عليه بذرة من نفع ، قلت لكم : لا ألوم ولا أعتب ولا أؤنب ولا أوبّخ ، كل ما هنالك أني أبسط إليكم الساحة لأضع الجميع أمام مسؤولياتهم .
إننا نعيش فترة حرجة جداً من تاريخنا ، ومن الواجب على كل أحد أن يواجه مسؤوليته ، ولا يستقلّن أحد نفسه ، فمحمد صلى الله عليه وسلم فرد فاستطاع في ثلاث عشرة سنة أن يرسي دعائم هذه الأمة واستطاع في عشرة أعوام بعد ذلك أن يمهّد الجزيرة العربية لهذا الدين وأن يناوش الروم الذين كانوا يتربصون للانقضاض على المسلمين في الشام . لا يستهن أحد ما أودع الله فيه من خير ، وما أعطاه من قوى ، فإن الأمة في غمرة الصراع وفي فترات النهوض محتاجة إلى كل قطرة من دم أبنائها ، وإلى كل لحظة من وقت أبنائها ، وإلى كل ذرة من جهود أبنائها .. فاستعينوا بالله والجأوا إليه وقولوا يا معلم إبراهيم علّمنا وقولوا اللهم إنا نبرأ من حولنا وقوتنا .. نبرأ بذلك إلى حولك وقوتك .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة البروج
الجمعة 25 جمادى الأول 1397 / 13 أيار 1977
( 6 ـ 6 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
أحب أن أختتم لكم اليوم إن شاء الله سورة البروج ، وأن أختتم معها فصلاً من حياتي طال طولاً فاحشاً ..أفترض أن في أذهانكم سورة كاملة أو شبه كاملة عن الأفكار التي بحثناها من هذه السورة الكريمة ، وتأسيساً على هذا الافتراض أعفي نفسي من أية مراجعة لأية فكرة سبقت ، لكي أواجه معكم هذه البقية الباقية من السورة الكريمة .
بعد أن ذكر الله تعالى قوله الكريم ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) بعد هذا قال جل وعلا ( إن بطش ربك لشديد ، إنه هو يبدئ ويعيد ، وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ، فعّال لما يريد ) تعطي هذه الآيات القارئ انطباعاً بأن الله تعالى أراد وهو العليم بمعنى ما أراد من عرض هذه الآيات أن يقرّ في أحاسيس المسلمين وهم في بحار الصراع مع المشركين المكيين وهم في أوائل هذه الدعوة .. أراد أن يقرّ عدداً من الأفكار ولعل في رأسها وأمسّها لاحتياجات الحركة في تلك اللحظات الحاسمة إقناع المسلمين بأن إرادة الله حرة وطليقة وأن قدر الله الماضي في الأولين والآخرين لا يتوقف على الرغبات العارضة ولا يكترث للآلام التي لا بدّ أن تتوضع في بعض مراحل الدعوة .
كما أراد أن يقرّ أيضاً في حسّ المسلمين أن ما هم فيه من أليم العذاب وشديد البلاء جزء من الطريق الذي هم ماضون فيه ، كما أراد أن يقرّ أيضاً في حسّ المسلم وهو في أوجّ صراعه مع أعداء الله جل وعلا أن النظرة الإلهية غير النظرة البشرية ، فإذا ضاقت صدور المؤمنين من الذي يعانون فلا يعني هذا أن الوحي ينبغي أن يغير من خط القدر لكي يجلب الراحة والطمأنينة إلى نفوس المسلمين .
إن المسلم مخلوق من جملة مخلوقات الله ، لا يمتاز على بقية المخلوقات إلا من حيث أنه قد استجاب لنداء ربه واتّبع شرعة ومنهاج نبيه صلى الله عليه وسلم ، لكن المسلم إذا فهم من هذا أن العناية الربانية يجب أن تكون مقصورة عليه وحده وأن رحمة الله يجب أن تُفتح له وحده ، المسلم إذا فهم هذا فهو مخطئ ، إن الله لو لم يبذل أسباب الرحمة والعناية للناس جميعا قاصيهم ودانيهم ومسلمهم وكافرهم وذكرهم وأنثاهم فلا يستحق أن يكون هو الرحمن الرحيم ، ولهذا تجدون ربنا تبارك اسمه يقول في هذه الآيات ( وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ، فعّال لما يريد ) وإننا لو فهمنا اتصاف الله بالرحمة والمغفرة إلى خلقه على أنها أوصاف تمسّ بآثارها قطاع المسلمين فسوف نظلم الذات الإلهية ، إن الله تعالى تحبب إلى خلقه بما بذل لهم من أسباب الهداية وبما خوّلهم من النعم هو المبتدئ بها عليهم ، وهم الذين يتمتعون بها من غير استحقاق لهم على الله . فالآية الكريمة تُشعر بأن الله جلّت قدرته يفتح الباب أمام المسرفين على أنفسهم من المشركين وأمام المتألهين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمام المؤمنين لكي يقول لهم : لا تيأسوا من روح الله ولا تقنطوا من رحمة الله فإن الله هو ربكم ومن حيث هو ربكم فهو عليكم حريص وبكم رؤوف رحيم ، ولئن شكرتم وآمنتم لأعفونّ عما مضى ولأسترنّ ما فعلتم برسول الله وبالفئة التي آمنت معه .
إن هذا الكلام يأتي ضمن هذا الإطار الذي سمعتموه ( إن بطش ربك لشديد ) كلام مختصر قرأه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع من أمين الوحي عليه السلام وذلّت بقراءته ألسنة المؤمنين ، فتصوّروا ما الذي يفهمه المؤمنون وهم في غمرة الصراع حينما كانوا يقرأون هذه الآية ؟ إن المسألة لكي تُفهم تتوقف على ضرورة الحصول على قدر أدنى من المعرفة بمقدار غموضيته ، إن أول شيء وإن أبسط شيء يفهمه الإنسان حين يقول أشهد أن لا إله إلا الله هو أن الله خالق بارئ مصور مانع معطي معز مذل يخفض ويرفع يفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه وهو الحكيم الخبير ، ومؤدى هذه العقيدة البسيطة التي تعرفها العجائز أن يستحضر المسلم وهو في غمرة الصراع حقيقة أن الله ليس غائباً عن المعركة ، ليس بعيداً عن الساحة ، وما يحدث فبعلمه يحدث بل وبإرادته يحدث ، وإذاً فالمفروض أن يجد المؤمن الروح والراحة واليقين والاطمئنان وعزيمة الصبر حينما تتكالب عليه الأعداء وتبرق الدنيا وترعد من حوله ، إنه بين يدي الله ، والله يراه ويسمع ، بل هو الذي يفعل ، وصوّروا لأنفسكم أية عزيمة هذه التي يجدها الإنسان المؤمن وهو يضم جنبيه على ثقة بالله من هذا القبيل .(/1)
يقيناً إن محمد صلى الله عليه وآله وإن المؤمنين معه .. المطرودين في شعاب مكة واللائذين في بعض دورها والممددين على رمضائها والذين تمسهم أيدي المشركين بأقصى ما يستطيعه الإنسان في ذلك الوقت من تنكيل وبلاء ، إن رسول الله والمؤمنين كانوا يدركون أنهم على بصيرة من أمرهم ، وأن الله لو شاء لخسف بهمُ الأرض أو لأنزل عليهم قارعة من السماء ، كما أنه من جانب آخر لو شاء لعطف هذه القلوب المتحجرة الصلبة الغليظة فجاء بها إلى رحاب الله طائعة راضية ، وما دام الأمر على غير هذا الشكل فإنها إرادة الله جل وعلا ، وإرادة منظور منها أن تعالج وضعاً يعيشه المسلمون ، فثمة رجال ما عرفوا بعد من الإسلام إلا العدد القليل من قضاياه الأساسية ، أما أهدافه الكبرى ، غاياته البعيدة ، مراده بالنفس الإنسانية ، أسلوبه ، نظرته في إعادة وصياغة تكوين الإنسان ، فتلك أمور ما توضحت بعد بالنسبة للمسلمين .
لكن المسلمين على أي حال كان مطلوباً لهم أن يعرفوا حقيقةً جوهرية هي فيصل التفرقة بين الإسلام النازل من عند الله وبين ما يتبعه الناس اليوم لأنفسهم ولغيرهم من مناهج وسبل ، تلك هي أن الإسلام قاعدة ثابت ومحور أساسي ، وأن هذه القاعدة لا تكترث بعواطف الناس ولا تتأثر بانفعالات الناس ، ألم يوجه الله جل وعلا هذا الكلام القاسي إلى الرسول صلى الله عليه وآله في موقف من أحرج المواقف وأشدها إيلاماً للنفس في غزوة أحد في ساعة الكسرة في اللحظة التي تجول فيها عينا محمد صلى الله عليه وسلم على الأرض التي شهدت وقائع القتال فيرى خيار أصحابه مجندلين على الثرى لا تسترهم إلا السماء ، ممثلاً بهم ، كأن الذي فعلوا هذا لا ينتمون إلى بني آدم . ومع ذلك فلكي يفهم محمد عليه السلام ويفهم المسلمون كلهم أن الإسلام لا يكترث لهذه العواطف العارضة والانفعالات الزائلة قال له هذا الكلام القاسي ( ليس لك من الأمر ) حقيقة الوحي في مكانها وهذا شيء يعتبر عندنا نحن المسلمين كالأساس بل هو الأساس ، وحينما نحاول أن ننساه ولو لحظة واحدة فسوف نسيء إلى أنفسنا ولن نضر الله شيئاً ولن نسيء إلى هذا الإسلام ، لأن الإسلام أمنع بذلك بكثير ، لأنه حقيقة الحقائق ، كلمة الله النهائية إلى الناس والباقية إلى يوم الدين . فوظيفة هذا الكلام أن ينمي في صدور المسلمين وهم يعانون المشقة عزيمة الصبر على المكروب الذي يرونه صباح مساء ( إن بطش ربك لشديد ) كلمة تبعث الطمأنينة في نفسية الإنسان السلم ، وتجعله يشعر بأن الله الذي اصطفاه ليكون جندياً تحت هذه الراية الربانية ليس غائباً عن المعركة بل هو الذي يقود المعركة ، وأنه يصرّفها كيفما يشاء ، وأن له من وراء تعريض هذه العناصر المؤمنة للمحنة والاختبار غاية هي أن يكونوا نموذجاً آخر ، طرازاً آخر ، خلقاً آخر .
إن أقتل شيء يكون بالنسبة إلى الإسلام أن يتساوى المسلمون وغير المسلمين في المسالك ومناهج الفكر ، وإن أعظم سلاح وأقطع سلاح يمكن أن يحمله المسلمون هي هذه الأخلاقية العالية التي يجب أن يتمثّل بها المسلم ، وإن أعظم إساءة وُجّهت لهذه الأمة ، لعقيدتها وتاريخها ، هي أنها انتصرت على أعدائها بالقوة السلاح ، لا ، إن النصر الحقيقي الذي استطاعت هذه الأمة أن تحققها على أعدائها هو نصرها على أنفسها ، وهو ظهورها بمظهر بشري إنساني يغاير كل الأنموذجات التي كانت معروفة في الماضي .
( إن بطش ربك لشديد ، إنه يبدئ ويعيد ) كما قلنا حرية مطلقة ( وهو الغفور الودود ) وهذا خليق بأن يجعل المسلم يعرف أن الله هو ربك ورب الكل وأن هؤلاء الناس مهما تكن إساءاتهم ومهما تبلغ جرائمهم من الشناعة ومن القسوة فلا شيء بيننا وبينهم حين يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأن يسلموا مقادتهم إلى الله جل وعلا .(/2)
بعد أن يعرض الله تعالى هذا يأتي دور التطمين إلى العواقب ، وجميل جداً وحسن في باب المنهج أن يأتي التطمين من وقائع الصراع ، والتطمين هنا يأخذ شكلين ، معروف لدى كل أحد أن هذه الأمة أمة من الأمم مضت قبلها أمم ، وستأتي بعدها أمم ، وستواكبها أمم ، وأن الله من حيث الإله الذي صدر الخلق كلهم عنه ، ويألهون جميعاً له فإن قوانينه ونواميسه وسننه في خلقه واحدة لا تتغير . لقد مضت قبل هذه الأمة المخاطبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أمم ، وفي حديث للنبي صلى الله عليه وآله يقول : أنتم توفّون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا . قبل هذه الأمة مضت أمم ، والتاريخ وعى سواء في الأحافير وفي شواهد الحجارة التي لفت الله الأنظار إليها ( وإنكم لتمرّون عليها مصبحين ) ولفت إليها بأن قال لهم إنه ( أسكنهم ديارهم ) وسواء في الوثائق التي تركها الإنسان حين عرف القراءة والكتابة ، أو في المرويات التي يتناقلها الأسلاف عن الأخلاف ، ترك الإنسان وقائع تخبر عما مضى وتكشف زوايا من خبايا التاريخ ، والقرآن زيادة على هذا ألقى الأضواء على جوانب من حياة أمم مذكورة في القرآن لم يعرفها أهل الكتاب الأول ، لم تذكرها التوراة ولا الأناجيل ، وحتى الآن وبعد استبحار عمليات الكشوف ما تزال هذه الأمم والأقوام التي تعرض القرآن لذكرها وقصّ علينا منها مجهولة الخبر . والحكمة والعبرة من كل تجربة الإنسان سواء كانت باقية فوق سطح الأرض أو قطعة مطمورة في التراب أو كلمة منقوشة على لوح حجارة أو جلد غزال أو ورقة يُكتب عليها أو خبر يدور على الألسنة ينقله قوم إلى قوم .. حكمة هذا كله أن يعتبر الآتي بالماضي وأن يخرج الناظر في تاريخ الإنسانية بحقائق تنفعه وهو يعالج صعوبات الحاضر الذي يعيشه ، إن الله تعالى يذكر نبأ أقوام في هذه السورة أي سورة البروج تعقيباً على واقعة كانت قريبة جداً من عصر الرسالة .. واقعة تعذيبٍ لهاربين من النصارى والذين استقروا في نجران وما حولها ..
يذكر المحور الأول من محاور التطمين باستعراض وقائع الماضي ولكن يذكره بصيغة قرآنية كثيراً ما تتكرر في القرآن وهي صيغة تلفت النظر ( هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ) أحب لو أنكم حاولتم أن تذوقوا معنى اللغة التي صيغت بها هذه العبارة على النحو الذي أذوق ، ومع ذلك ففي التدقيق في العبارة يتكشف لكم أن الله جل وعلا عدل عن ذكر الأقوام إلى ذكر وصف ، فرعون كان يحكم مصر ، ومصر أمة من القبط ذات عراقة في التاريخ وذات حضارة مشهورة غير منكورة ، وهي كثيرة العدد ، وكان لها في زمن الفراعنة شأن ، كانت تشكل ثقلاً بالنسبة إلى العالم القديم . قل ذلك أيضاً بالنسبة إلى ثمود ، قبائل كانت تتمتع بجبروت وبالقوة الخارقة ، لكن لكي تتكشف لكم جوانب من إعجاز القرآن اسألوا أنفسكم : هل كانت أمة القبط في مصر التي كان يحكمها فرعون كلها عساكر ، هذا مستحيل ، ومعروف من واقع الأمم ، الأمم شعوب ويكون في هذه الشعوب عساكر وجنود ، هل كانت قبيلة ثمود كلها جنوداً ؟ لا ، وإنما المقاتلون منها قد لا يشكلون منها واحداً من الألف من جملة هذه القبائل ، ومع هذا فأنتم تسمعون التعبير القرآني يعدل عن ذكر الأمة إلى التنصيص على الوصف على سبيل التهويل ( هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ) أي تصوّرْ يا محمد أن تلك الأمم التي أبدتها بقوتي وبقهري واقتداري ، لو أنها كانت بشيبها وشبانها وبرجالها وبنسائها جنوداً كلها ما أعجزتني ، ومع ذلك أبدتها ومتى ؟ حينما حاولت أن تخرج على نواميس الله جل وعلا وأن تتكبر على أمر الله تبارك وتعالى وأن تسوم المؤمنين سوء العذاب ومرّ العذاب .
فأنتم حينما ترون أنفسكم يا معاشر المؤمنين في هذا الوضع الذي أنتم فيه لا يُنكَر عليكم أن تتأثروا ولكن يُنكَر عليكم أن تنسوا أنكم بعين الله وأن تنسوا أن الربّ الذي اختاركم وندبكم لهذه المهمة أهلك من كان قبل هؤلاء الكفار ممن كانوا أكثر جمعاً وأعظم قوة وأعرق حضارة وأكثر علماً ولم يعجزه ذلك جلّ اسمه ، ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) وهذا هو المحور الأول من محاور التطمين التي ساقها الله جل وعلا للمؤمنين وهم في أوجه الصراع مع المشركين في الأوقات التي يستيئس فيها حتى أشد الناس قوة وأكثرهم صبراً ، ولكن يجب ألا نسقط من حسابنا أن الإسلام كان يعالج في تلك الساعة أمراً عظيماً كان يريد أن يبدع للإنسانية إنسانية جديدة لها مقاييس لم تكن البشرية تعرفها من قبل ، وكضميمة لهذا المحور من محاوره فمن الضروري أن يكشف الله جل وعلا لهذا النبي الكريم النبي الإنسان النبي البشر من الضروري أن يكشف له حقيقة هذه الخصم وهذا العدو الذي يقارع ( بل الذين كفروا في تكذيب ) .(/3)
إن الرسالة التي تحملها لا غبار عليها ، إنها الحق المطلق ، إنها العدل الكامل ، بل هي الإنسانية التامة التي لا مطمع ورائها لطامع ، ولكن هل الناس كل الناس قادرون على استيعاب الحقيقة ؟ وهل الناس كل الناس إذا قدروا على استيعاب الحقيقة هم في الوقت ذاته قادرون على أن يعيشوا هذه الحقيقة ؟ لا ، من أجل هذا نسمع الله جل وعلا يقول في الكتاب مخاطباً رسوله عليه الصلاة والسلام ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) إن الحقيقة الدينية تشكل دائماً وأبداً صدمة عنيفة للرغبات البشرية ، ومن هنا هذه النفرة التي يعاني منها الأنبياء ويعاني منها الدعاة ويعاني منها المصلحون ، ولكن ربما والإنسان إنسان ومسارب الشيطان في النفس لا تقع تحت حق ربما في ساعة من الساعات تجد أكثر الناس ثباتاً ورسوخاً في باب الإيمان يجد أنه يقف على أرض تتحرك من تحته ، في صلح الحديبية جاء سهيل بن عمر رضي الله عنه في خاتمة المطاف بعد تردد الرسل والوفود بين المشركين والرسول صلى الله عليه وآله ، وبدأت كتابة نصوص العقد وكانت نصوصاً مجحفة في ظاهر الأمر ، ما تقولون في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أذلك إنسان يتطاول أحد إلى أن يسامته في الذروة السامقة التي بلغها في باب الإيمان ؟
فإن عمر جاء كالجمل الهائج إلى رسول الله صلوات الله عليه يقول : يا رسول الله ألسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى يا عمر ، قال : ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ قال : بلى يا عمر : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى يا عمر ، قال يا رسول الله : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ أين عمر ؟ وأين حقائق الإيمان العليا ؟ قال له : يا عمر إني عبد الله ورسوله ولن يضيعني الله . في بعض الساعات ، الشيطان قد يدخل إلى الإنسان من مدخل خبيث حتى يصيب قاعدة الإيمان في نفسه ، استمرار المحنة واستمرار العذاب واستمرار البلاء ربما يزلزل قاعدة الإيمان ، ولعل من المفيد أن أذكر لكم في الدراسات الحديثة أن العلماء أو من يسمون هكذا من الأجانب وممن قلدهم من أبنائنا نحن المسلمين خرجوا من دراسة وقائع الاضطهاد البشري عبر التاريخ الديني والسياسي بنتيجة هي أن الاضطهاد إذا طال أكثر مما يجب فإنه سوف يحطم العقائد السائدة وإن كانت عقائد حق ، لست محتاجاً إلى أن أقول لكم أن هذا كلام أناس يسمون أنفسهم علماء وما هم علماء أبداً ولكن أقول إن المسألة في ذاتها مشكلة ، ومن الممكن أن يتساءل الإنسان في لحظة من لحظات البلاء عن مدى أحقية الموقف الذي يقفه . والله جل وعلا ذكر بعضاً من هذا في القرآن الكريم قال ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) وإذاً ففي مراحل البلاء هنالك مراحل يشعر الرسل بالذات بأنه ربما يكون في الموقف خطأ في زاوية ما ، ولكن الله جل وعلا يتدارك الأمور بنفخ العزيمة في صدور المؤمنين حتى تفرّغ الخصم من جميع عوامل القوة وتتركه فريسة هينة بين أيدي المسلمين .
من أجل ذلك كانت الضرورة ماسة إلى كشف حقيقة الأعداء ، هل هؤلاء المكيون المشركون الذين يتصلبون في مواقفهم تصلباً غير معقول على حق ؟ وإذاً لماذا يتمسكون بالأمر على هذا الشكل ؟هل من المعقول أن يتمسك الإنسان بالباطل ويكابر ذاته ويعالج نداء الفطرة الذي يتفجر في داخل كيانه ؟ نقول نعم ممكن ، ألم يقل الله جل وعلا ( وكذلك زينّا لكل أمة عملهم ) بلى ، هذا كلام تقرأونه في القرآن .
وإذا جئت الآن برجل أخرجته من مستشفى المجانين لا يعرف الطين من العجين ووضعت أمامه أرسطو أو أفلاطون ، لقال لك هذا المجنون المأفون : عقلي خير من عقل هذا . وإذاً فمن الممكن للإنسان أن يقف ضد الحق على رغم قناعاته بهذا التزييف الذي يدفع الإنسان للوقوف مع الباطل وقوفاً لا يقر به الإنسان في الحالة العادية . ما معنى هذا ؟ معناه أن المسلم عليه أن يعرف حقيقة بسيطة ، إن تكاثر الخصوم وتكالب الخصوم وثبات الخصوم على مواقف الضلال والكفر لا يعني أن موقفك تلحقه شائبة من شوائب الباطل ، يجب أن تبقى متمسكاً بقناعتك أنك على الحق ، وهؤلاء لم يقل الله جل علا أنهم مكذبون فلو قال : بل الذين كفروا يكذبون أو مكذبون لكان ذلك وصفاً عارضاً يلحق الجماعة المناوئة للإسلام ، ولكن الله قال ( بل الذين كفروا في تكذيب ) إشارة إلى الإغراق في هذه الرذيلة التي يتمسك بها المشركون كأنما صور الله جل وعلا التكذيب بحراً أو إناءً أو ظرفاً أوقعه هؤلاء أنفسهم فيه حتى استولى عليهم من جميع أقطار الدنيا ، فإذاً كضميمة للضمانة الأولى التي أشارت إليها السورة الكريمة كشف الله جل وعلا حقيقة الموقف الذي عليه المشركون حتى لا يتطرق اليأس ولا تتطرق الشبهة ولا يتطرق الشك إلى نفوس المؤمنين الذين يخوضون معركة الإنسانية كلها ، والتي لو خسروها في ذلك الوقت لخسروا أنفسهم ، بل ولخسرت الإنسانية كلها هذا الخير العظيم .(/4)
ثم يقول ( والله من ورائهم محيط ) وهذا أيضاً تطمين عظيم ، إذا كان الله من وراء هؤلاء محيط فلا بأس على المؤمنين ولا خوف من العواقب ، والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين ، والنصر للمؤمنين ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) .
ثم يأتي المحور الثاني الذي يشكل الضمانة الباقية ، والذي يشكل عامل تطمين لا يغفل عنه إلا غافل ( بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ ) مهما يكن من آراء المفسرين في هذا اللوح الذي حُفظ فيه القرآن فعلينا أن نذكر أن الله تعالى قال لنبيه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى : وآتيتك قراناً لا يغسله الماء لتقرأه نائماً ويقظان .
ألقوا النظر على صفحات الماضي .. منذ عُرف الإنسان إلى اليوم فأنتم تجدون النقص والتشويه والتحريف تتناول الرسالات والمناهج والمذاهب والآراء ، بل لماذا نذهب بعيداً ولماذاً نفتش في صفحات من التاريخ قد يجازف فيها المجازف ويكابر فيها المكابر ؟ إن تقريراً يطلقه زعيم من زعماء اليوم لا يلقى عند الناس قبولاً يخرج هذا الزعيم نفسه في نفس اليوم أو في اليوم الثاني ليقول كلاماً غيره ينسخ الكلام الماضي . ليس الدنيا على ظهر الأرض وثيقة محصورة على النحو الذي نزلت به بلا زيادة حرف وبلا نقص حرف إلا هذا القرآن .. التوراة والإنجيل والزبور وكل ما أنزل الله من كتاب عدا القرآن جرى فيه زيادة ونقصان ، وأُخفيت منه أشياء وزيدت فيه أشياء ، وكل ما كتب الناس عمل فيه الإنسان فيه التشويه والبتر والنقص والزيادة . ولكنك أيها المسلم أنت الوحيد في القديم والحديث وإلى قيام الساعة الذي يسكن على هذه الأرض يقرأ القرآن على نحو مما قرأه محمد صلى الله عليه وسلم .
ولئن أمكن أن يتطرّق النسخ أو التشويه إلى بعض وقائع تاريخك إن وثيقة دينك منيعة على أي تشويه ، ومنيعة على أية نسخ ، ولا يمكن أن يزاد فيها حرف ولا يمكن أن يُنقص منها حرف . إن هذه الضمانة لم تُعطَ لكتاب من كتب الأنبياء السابقين ، وإنما أُعطيت لهذا القرآن ، وإن هذه الضمانة لم يتكفل بها الله لدين من الأديان السابقة ، وجعلها كفالة لدين الإسلام الذي اصطفى لتبليغه محمد صلى الله عليه وسلم .
هذه هي السورة .. انتهينا منها .. هل أعطيتها حقها ؟ لا أتصور ، ولكن أظن أن الشيء الذي قلناه يكفي لإعطاء صورة عن الحقائق التي أثارتها السورة الكريمة .(/5)
بقي أن أتحدث إليكم حديثاً خاصاً ، أرجو قبل كل شيء أن تسمعوني وأرجو أن تفهموني .. أحب أن لا ينسى أحد ، أحب أن لا يتأثر أحد ، أنا الآن أبلغ من العمر الخمسين من العمر ، عشت بينكم ولكم ، فرضت على نفسي سلوكاً صارماً ، طريقةً لا يُقدر عليها ، وأقول هذا تحدثاً بنعمة الله ، وإذا حذفت كل شيء فلا أستطيع أن أحذف من حياتي السنوات العشرة الأخيرة ، كانت لي آمال حدثتكم ببعضها ، وطويت القسم الأكبر منها ، مضينا في مسيرة ، كثيراً ما قلت لنفسي لعلك يا فلان لم تكن موفّقاً في اختيار الموضوعات ولم تكن موفّقاً في الأداء ، وكنت أجرّب تجربة ، ومن جرّب مثل تجربتي عرف الذي أعرف ، ثم أقول لكم إن طريق الدعوة إلى الله زرع الداء في جسمي فيجب أن تعرفوا أن هذه حقيقة ، منذ سنوات وبين إخواني في دير الزور قلت كلاماً قدّمت فيه أخي وصديقي ورفيق طريقي المرحوم الدكتور عبد الكريم عثمان ، وفي مسجد من مساجد دير الزور قلت : إن هذه الدعوة فيما يبدو لي كالقطة تأكل أبناءها . وحين أستعرض رجال الدعوة أراهم مصرّعين على الأرض أو رازحين تحت أعباء الداء ، ذلك قدر ، ولا أبحث في هذه الناحية ، لكني أريد أن أقول لكم ومن غير مجاملة : إنني أشعر منذ زمن أنني غير مقبول وغير مفهوم لسبب إن مجتمعنا هذا يمكن أن نستعير له الوصف الذي وُصف به تفسير الرازي رحمه الله فقد كانوا يقولون : إن تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير . ومجتمعنا هذا فيه كل شيء إلا الإسلام ، الواقع أن رواسب جاهلية وعقد والتواءات تُحسد عليها الأمة هي التي لا تلبس بالإسلام وما هي من الإسلام ، وحين يجد الإنسان نفسه ضمن مجموعة من هذا القبيل بهذا الشكل تكون المسألة مهمة ، كنت سابقاً ولا أدري إن كنت قلت لكم إني عشت مع شيخ المعرة أبي العلاء رحمه الله سبع سنوات أقرأ شعره ونثره ، المهم أن تعرفوا أن مؤرخي الحضارة الإسلامية يقولون إن القرن الرابع الذي عاش فيه المعري عصر الازدهار والرقي والعطاء ، هو أن الواقع أن هذه أكذوبة تاريخية ضخمة ، فالحقيقة أن الجنوح نحو الانحدار كانت أشد ما يتمثّل في عصر شيخ المعرة رحمه الله تعالى ، كنت أعجب وأقرأ وأفكر ، هذا الإنسان الذي أثار نقاشاً طويلاً عاش وهو حي وما زال مستمراً بعد ألف وخمس أو سبع وعشرين سنة ما زال النقاش محتدماً للتعرف على صفة هذا المخلوق ، حُلّت مشكلته عندي ، إن الرجل عاش في عصر فرض عليه أن يكون غير مكفوف ، إنه عاش عصراً فيه ظواهر تُخيّل إليك أن المجتمع مسلم ، ولكن حقائق الأمور وبواطن الأشياء بعيدة جداُ عن هذا الواقع ، تواطؤ مع البيزنطيين ، قتال وحروب بين أمراء المسلمين ، تقاطع وتدابر بين البلاد الإسلامية ، سلب ونهب وهتك أعراض وفتك ، بكل ما تحمله هذه المعاني على الصعيد الشخصي ، تجد غشاً في التعامل ، وتجد حقداً وبغضاء . ومع ذلك تدخل المسجد فتغرّك المظاهر ، كان شيخ المعرة رحمه الله تعالى بما وُهب من رهافة الحس وسلامة الإدراك يعلم بُعد الفارق بين الصورة الوضيئة التي نزلت على محمد عليه الصلاة والسلام وطبّقها في عصره ، وبين الصورة الكريهة التي يعيشها ، فمن أجل ذلك كان ولوعاً غاية الولوع بأن يرفض الواقع ، إنك تُجرّب أن تسير ضد التيار ، وحين تملك الطبع الحرّ والخليقة المستقيمة والجبهة التي تناطح السماء والعزيمة التي لا تعرف الانحناء بين يدي المخلوقات بعد أن عرفت الانحناء لله ، فمن الصعب أن تعيش في مجتمع زائف وكريه ومخرّب كذلك المجتمع الذي كان يعيش في شيخ المعرة ، كان يقول رحمه الله :
إذا قلتم محال رفعت صوتي وإن قلتم صحيح عطيت همسي
كهذا المجتمع ، اكذب ودجّل وافعل كل شيء فسوف تجد الآذان الصاغية ، بل أكثر ، ستجد من يمسح لك أطراف ذيلك ، ولكنما حين تريد أن تقول الحقيقة فأنت مضطر لأن تقولها بين أربعة جدران ، إلى أن تقول همساً ، وإياك أن ترفع صوتك ، ومن أجل هذا كان رحمه الله حريصا ً على أن يذبل هذه الدنيا وأن لا يكترث لها وأن يبقى وفياً لمبادئه ، منسجماً مع آرائه ونظراته ، كان يقول في أوائل اللزوميات :
وما لي لا أكون وصي نفسي ولا تعصي أموري الأوصياء
وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس بهم رياء
فألفيت البهائم لا عقول تنير لها الطريق ولا ضياء
وأرباب الفطانة في اختيال كأنهم لقوم أنبياء(/6)
إن الرجل عاش مجهولاً في عصره ، فمن أجل ذلك عاش ومات مهضوم الحق ، وهذا شيء أقوله لكم ، بعد الآن لن تسمعوا مني شيئاً إن شاء الله ، كنت أدرّس في الجامع الوطني درسين في الأسبوع ، فلن تكون ثمة دروس بعد اليوم ، والشوط الذي قطعته في هذه الخطب سيكون يتيماً بإذن الله ، وغاية ما أرجوه أن ألقى الله تعالى على هذه الحال ، ليس عاراً أن أقول لكم أنني لم أعدّ أتحمل ، جسم مسقام كثير الأمراض ، وأناس لا يتقون الله ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، أقول هذا وأعيد أليس من الحق أنني أخطأت اختيار الساحة وأخطأت استعمال الأداء ، نعم ، أنا الآن قريب من الخمسين ، لم أترك للناس من بعدي إلا هذه الشرائط التي تُسجّل ، وبين أُنملين قلم لو جرى لجرى الذهب معه ، ولو جرى لخط في التاريخ خطاً ، أحب أن تعلموا إن الناس ثلاثة ، واحد يسمح للتيار أن يسحقه ، أي مسلوب الإرادة ، وواحد يترك على التيار بصماته ، وهو خير من الأول ، وواحد يصنع التيار ، ليس من باب التمدّح ولكن لأعرّفكم بطبيعتي ، أنا ليست من الذين يحنون رؤوسهم للرعاع وليست من الذين يتملقون عواطف الناس ، ومن هذا المكان منذ سنوات قلت لكم : يا إخوتي والله كدت أقول ما قال ذلك العالم في بغداد حين قرر الرحيل من بغداد : لو وجدت عندكم رغيفاً آكله في الصباح ورغيفاً آكله في المساء ما فارقتكم . والله ثم والله ثم والله فقد عشت لكم ومن أجلكم ابتغاء مرضاة الله ظروفاً لا يتحمّلها بشر ، ومع ذلك انتهيت ، ذهبت القوة وانقطعت المنّة وأنا الآن بحاجة إلى أن أُعيد حساباتي من أولها إلى آخرها ، أنا واثق ابتداءً أنني كان أحب أن أعمل في هذا الميدان وأن لا أسمح لملكة الخطابة أن تعدو على ملكة الكتابة ، وما يجد بعضكم من متاع ولذة بالاستماع إلي مرة أو مرتين في الأسبوع كان يمكن أن يكون ما هو خير منه وأبقى حين أترك للناس نتاج عقلي وثمرة تفكيري بل ثمرة فؤادي ووجداني شيئاً يُقرأ بعد مئات السنين وبعد آلاف السنين ، ولا ضير فيما أقول ، فليس أول من وقع ضحية الخداع ، إن الاستمرار في الطريق في تقديري الآن خطأ ، وإن علي أن أختار ميداناً آخر ، إن العمل بين الناس ميدان يحتاج إلى مراعاة الناس ، وميدان يحتاج إلى مسايرة التيار ، وأنا ليست واحداً ممن يحنون رؤوسهم للتيار ، وليست واحداً ممن يرضون بأن يتركوا بعض بصماتهم على التيار ، أنا ـ بفضل الله ـ من صنعة التيارات وليست أقلّ من ذلك في كل حال .
بعد الآن لا خطابة ولا دروس ، علي واجب إذا أشكل على إنسان من أمر دينه أمر فليسألني وسأجيبه بإذن الله تعالى ، وكلمة أخيرة أقولها : لا سيما المرحلة الأخيرة سُجّلت الخطب كلها على الأشرطة ، وانتشرت الأشرطة هنا وهناك في كل مكان في العالم العربي والعالم الإسلامي ، ليكن واضحاً أنني لا أسمح ثم لا أسمح ثم لا أسمح ولا أحلّ لأحد أن يستخدم هذه الأفكار مضافة إليه ، إنني كنت أعمل على إثارة الساحة وإثارة الأفكار ، وتأتي هنا فكرة وهناك فكرة ووعدت بأن نجرد هذه الحصيلة في المستقبل لنستخرج قواعد الحركة ، وأنا أعرف أن في هذه الدنيا أناساً يأتون إلى الشيء الكامل فينتقصوه فما بالك بالشيء الذي لم يكتمل بعد ، إن الأفكار التي طرحتها جزء من عمل لا أريد ولا أقبل أن يضيفها إليه أحد لأنها لا تمثّل فكرة نهائية ، الفكرة النهائية لم تُطرح بعد ، وأنا آمل وأستعين الله جل وعلا على أن يعينني على تسجيلها وكتابتها وإذاعتها بين الناس ، هذا شيء ضروري ، أشرطتي التي سُجّلت عليها أحاديثي ليستخدمها من شاء كيفما شاء إلا أن يقول أن هذه آراء فلان وهي ليست آرائي ، آرائي لم يكمل بناؤها حتى الساعة ، ومع ذلك فللشباب أن يستخدموها كيفما شاءوا ، مع زيادة هو أن الشوط الذي قطعناه أعتقد وأتصوّر أنه وضع في طريق المنهج لبنات ، ننصح الإخوة الذين يريدون أن يبحثوا في التاريخ النبوي والتاريخ الإسلامي بعامة وحقائق الإسلام يمكن أن يستخدموها ويستفيدوا منها وأن يضيفوا إليها إن شاء الله تعالى إضافات موفّقة ومباركة .
رجائي إلى الله جل وعلا أن يعينكم وأن يهدي قلوبكم وأن يوفقكم وأن يسدد خطاكم ، وقلت لكم أن لا يغضب أحد ، إن الأمة ليست متوقفة علي ، وإذا كانت متوقفة علي فمن الخير أن تموت ، إن الأمة فيها خير له أول وليس له آخر ، وغاية الأمر أن نبدل ميداناً بميدان ، وأن الأساس فنحن وأنتم على العهد ، حياتنا ومماتنا وصحتنا وسقمنا وشبابنا وهرمنا ودماؤنا وأموالنا نرجو أن تكون لله جل وعلا .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة البروج (1)
مع تعليق على سورتي ( القدر ، الشمس )
الجمعة 12 ربيع الآخر 1397 / 1 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
نحن اليوم في مواجهة سورة كريمة هامة ، لأنها ترشح لدخول مرحلة حاسمة من مراحل الدعوة النبوية الكريمة ، وإنه لمن دواعي أسفي أنني لا أستطيع في الوقت الحاضر أن أبحث السورة على النحو الذي يجب أن تُبحث عليه ، فينبغي أن تتوفر قدرة لا أملكها الآن ، ولكن إن شاء الله تعالى نقدم جهد المقل ، ونرجو أن يكون فيما نقول خير وبركة إن شاء الله تعالى .
رأينا في السورتين السابقتين ( القدر والشمس ) واللتين سبق أن عرضنا لهما وشرحنا ما يسر الله جل وعلا من قضاياهما ، رأينا أمراً هاماً كنت أريد أن أبادر بالكشف عنه في ذلك الحين ، ولكن وجدت أن الحديث عنه والإشارة إليه لون من استباق الأمور قد يقع في غير مكانه ، فأرجأت الإشارة إليه إلى اليوم حين نتعرض بالنظر للسورة الكريمة التي نحن بصددها . إن الله تعالى كشف للمسلمين في السورتين اللتين مضتا ( القدر والشمس ) عن أمر ذي خطورة بالغة وأهمية كبيرة ، عرض للناس في سورة القدر قضية ينبغي أن يطول وقوف الناس عندها ، وينبغي أن يبذل الجهد الكبير من أجل التعرف على دقائقها .
إن ليلة القدر هذه الليلة التي لا أعظم ولا أكرم ، إنها كانت عند الله وعند الناس وفي التاريخ من حيث هي تُؤرخ لنزول القرآن ، فقيمتها مستمدة من القرآن من الرسالة من الإسلام ، وحين تعرض القضية بهذا الشكل فالواجب على المسلم أن يحاول ما وسعته الطاقة أن يتعرف على وجوه التقدير الموجودة في هذا الدين . إن هذا الدين لا يشرف الناس ويمنحهم القدر والقيمة وحسب ، وإنما يشرف الأيام ويشرف الليالي والساعات ويمنحها القيمة والقدر . وإذا كان للدنيا من تاريخ فإن تاريخها يجب أن يحسب على حساب القيم والمثل والفضائل اعتباراً من تلك اللحظات الكبيرة العظيمة المقدرة التي كان فيها اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم وآله ثاوياً في بطن الغار يرثي لهذه الدنيا ويألم لسخافات الناس ويتأذى بهوان الإنسانية . وإذ هو كذلك صلوات الله عليه يأتيه الأمر من الله جل وعلا بأن يقرأ على الناس هذا القرآن ، ويكون ذلك ، وتقلب صفحات كثيرة سوداء قذرة مضت من عمر الإنسانية الطويل ، كلها أذى وكلها قذى وكلها هوان ، ليفتح الزمان صفحات بيضاء نقية طاهرة يخط فيها الإسلام قدراً بالدنيا جديداً ومصيراً لهذه الإنسانية سعيداً ويمضي الركب على اسم الله وبركاته ، يقوده اليتيم الثاوي في بطن الغار عليه أفضل الصلاة والسلام ، لتظل من بعد كلمة الله تدوي في الخافقين من بين الدماء والدموع ، ومن وسط الكوارث والأهوال ، ومن خلال النكبات والزوابع يشع نور الله جل وعلا يلوح للحائرين والضالين أن من ههنا الطريق .
ومنذ أن تلقّف محمد صلى الله عليه وآله هؤلاء الكلمات البيضاء عرف لها قيمتها وعرف لها قدرها ، وأدرك جيداً ـ بأبي هو وأمي ـ أن الدنيا بدأت تستقيم وأن الإنسان قد آن أن يستعيد كرامته المهدورة وحقه المسلوب في أن يكون إنساناً كامل الإنسانية ، موفور الكرامة عزيز الجانب سيد مخلوقات الله جل وعلا ، ولا يعيب القرآن ولا يعيب هذا الدين أن يتناسى هؤلاء الخلائف من المسلمين قيمة هذه الكلمات المنيرات ، وأن يهمل هؤلاء الخلائف من المسلمين التعرف على قدرهم وقيمتهم المشتقة من الإسلام والمستمدة من القرآن ، وإنما كلامنا كله ما مضى وما هو حاضر وما هو آت ، من أجل هذا فقط ، من أجل أن يدرك المسلمون أنهم ناس لهم في الدنيا قدر وقيمة مؤسسان على كلمات الله ومشتقان من دين الله عز وجل .
فإذا وقفنا عند سورة الشمس وجدنا أمراً عجباً وجدنا الله جل وعلا يعرض قضية الإسلام خلال مشاهد الكون التي تمضي رتيبة منتظمة ، لا يطرأ عليها خلف ولا يلحقها انحراف ولا انخراق تحت طائلة التخريب والفناء ، فيستشف المسلم من خلل ذلك أن هذا الدين الذي جاء به محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام إنما شأنه شأن الظواهر الكونية سواء بسواء ، وأن العدوان عليه يشبه من كل الوجوه العدوان على النظام الكوني ، وكما أن النظام الكوني حينما يتطرق إليه الخلل تكون العاقبة فساداً وتخريباً ودماراً وفناءً وكذلك بالضبط العدوان على هذا الدين واختراق حدود القرآن وتجاوز أوامر الله تعالى لا ينتج عنها إلا الفساد والخلل والخراب . والله تعالى ذكر في مواطن عدة من كتابه أمر الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، ونهى في مواطن عدة عن الفساد في الأرض .
واتفقت كلمة المفسرين وتراجمة القرآن الكريم على أن الفساد في الأرض هو ارتكاب المعاصي ، لأن إهمال التطبيق الكامل لشرائع الله لا ينتج عنه إلا فساد الدنيا وضياع الآخرة على النحو الذي يشهده الناس في هذه الأيام .(/1)
ودلّ على أمر آخر ، فحينما ذكر الله تعالى أمر ثمود فقال ( كذبت ثمود بطغواها ، إذ انبعث أشقاها ، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ، ولا يخاف عقباها ) حين قال الله تعالى هذا كان في هذه الصياغة معتبر لأولي الألباب ، وكان فيها أيضاً ضياء يشير إلى واقع تحقق في الجماعة المسلمة ستلحقه وقائع ، وسيزداد اتضاحاً وجلاء . إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس فراداً كما دعا الناس جماعات ، ودعاهم وهو يتردد حول البيت ، كما دعاهم وهو يغشاهم في نواديهم ، وتحرّى أن يلقاهم في المواسم فوقف عليهم وقرأ عليهم القرآن ، وذكرهم بأيام الله تعالى ، فاستجاب من كتب له الله التوفيق والإحسان ، وأعرض عنه من حق عليه كلمة الضلالة ، وعلى أي الأحوال ففي سياق الزمن فإن هذه الجماعة الملتفة حول محمد صلى الله عليه وسلم كانت تكتسب مع الأيام مواصفات كلها في صالح القضية ، وكلها يمهّد ماضيها للاحقها ، تمهيد السبب للمسبب ، إننا نعثر الآن على أوائل الإشارات التي تشير إلى مسؤولية الجماعة المؤمنة . من أكبر الأخطاء ومن أشدها فتكاً وتدميراً بالنسبة للدعوة أن يفصل الإنسان المسلم بين ذاته واهتماماته وبين مصالح واهتمامات الجماعة ومآلات الإسلام .
إن الجماعة المؤمنة حين تتكوّن يعني أنها قررت قراراً لا رجعة فيه أن تحمل على عاتقها أن تصل الليل بالنهار وتصل النهار بالليل من أجل أن يترقى حال الناس وشأنهم .
حينما تضع أمامك صياغة الآيات من آخر سورة الشمس فستدرك إن شاء الله أن القرآن يعرض عليك قضية غير مصرحة من خلال صياغة الآيات وتركيب الجمل والكلمات ، عرض عليك قصة ثمود ، وثمود مجموعة من القبائل التي مضت قبل أمتنا ، جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا : إنا كفرنا بما أُرسلتم به . أمة بالكامل ، ولكن إعجاز القرآن في إيحائه بالمعاني من خلال الصياغة وحروف الكلمة الواحدة يتجلى في هذه الهندسة البديعة في نمط الكلام . أمة أعرضت ولكن حين نهى نبيها عن الاعتداء على الآية التي طلبها القوم من رسولهم فكانت ناقة الله لم تتآمر الأمة بمجموعها على هذه الآية ، هنا جاء النص على أنه بعث أشقاها ، أي أن المباشرة في قتل الناقة كان رجلاً واحداً ، وإذا ذهبنا نتعرف على حقائق القصة من خلال سور القرآن الكريم فسنجد أن المؤامرة حيكت من خلال نفر ، قال الله تعالى في موضع آخر ( وكان في المدينة تسعة رهط مفسدون في الأرض ولا يصلحون ) تسعة هو الذين تآمروا على قتل الناقة ، وواحد فقط هو الذي باشر في تنفيذ الجريمة التي تشكل اعتداءً على أوامر الله . فما الذي كان ؟ إن موازين العدل الظاهر تقتضي أن يؤخذ المجرم بذنبه ، وأن لا يُتعدى بالعقوبة إلى من لم يباشر الفعل ، ذلك صحيح بالنسبة إلى قوانين الدنيا وإلى أنظمة الناس ، هذه التي تشرّع لناس محصورين في بقعة من الأرض معلومة وفي فترة من الزمان محدودة ، وأما رسالات الله التي تتغلغل في البواطن وتتشعب مع ضمير الغيب فشأنها في إنزال العقوبة شأن آخر .
إننا على الصعيد الاجتماعي نتعامل مع كتلة لا مع فرد ، وهذه الكتلة منظومة من أفراد ، وإذاً فالأفراد يشكلون الكتلة والكتلة تتضمن الأفراد ، وما يجوز في هذا الاعتبار أن تُفصل العقوبة عن الجريمة من جسم هذه الكتلة ليُنزل العقاب بفرد آخر . إن قوانين الاجتماع كما انتهى إليها علم الاجتماع في زماننا هذا وقبله تشير إلى بدايات الرسالات قبل آلاف السنين .. إن قوانين الاجتماع تقول : إن الإنسان الفرد غير مأذون له أن يعتدي على القوانين العامة في الجماعة ، لأن القوانين العامة في الجماعة تمسّ مصالح الجماعة ككل ، وتنعكس آثارها على الكل ، فمن أجل ذلك كانت مسؤولية الحفاظ عليها ومسؤولية حراستها مترتبة على الكل . فمن هنا حين نرى كتلة اجتماعية تؤمن بالنظر الواسع العريض ونجد بينها أفراداً أو عشرات أو مئات أو ألوفاً يعملون بالطاعة ويبتعدون عن المعصية ولكن ضمن إطارهم الخاص ، وفي حدود ذواتهم فقط فإننا يجب أن لا نستغرب حين تسوء الأمور ويمر الإنسان المؤمن التقي فيرى المعصية وهي تُباشَر ويرى المنكر يُجهَر به بغير استحياء ولا تحوّط ، ثم يقول : ما لي ؟ يجب أن لا نستغرب حين ينزل البلاء عاماً وصدق الله العظيم ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وما أصدق الكلمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سألته عائشة رضي الله عنها قالت : يا نبي الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث .(/2)
إذا استعلَمت المعصية وإذا عربد المنكر وإذا تجاهر الشذوذ ، مهما يكن في الأمة من صالحين فالهلاك واقع ، لأن الصلاح بمجرده ليس الصلاح المحدود بحدود الظرف ، ولكن الصلاح الذي يبغيه القرآن ورسمته الشريعة هو ذلك الصلاح الذي تتراحب آفاقه لتشمل مصالح الأمة في حاضرها ومستقبلها ومن أقصاها إلى أقصاها ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا عمهم الله جل وعلا بالعذاب.
فهذه الظاهرة التي نتعرف على بدايات الحديث عنها والتي سترد معنا فيما سنستقدم من كلمات الله شيء عظيم الأهمية .
إن الذي قام بالجرم واحد ، وإن الذين تآمروا تسعة ، ومع ذلك فإن الله تعالى جلّل تلك الأمة بالعقوبة فجعل عاليها سافلها وأحلّ بها دماراً وألحقها بالأمم السابقة التي عصت أوامر الله . وأنت الآن تفتش عن ثمود فتقرأ بجانب اسمها أنها من القبائل العربية البائدة ، أي التي بادت ولم يبقَ لها ذكر .
ماذا يترك من انطباع طرق المسألة بهذا الشكل على تلك الجماعة المؤمنة الناشئة حول محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إنه يضع النذير أمام أعينها ، ويخط لها في مزدحم المسالك طريقاٌ واضحاً ، إنه على الأمة المسلمة وهي تأخذ أمر الله بقوة وتباشر شريعة الله بجدية كاملة أن لا تغفل عن سلامة البناء لحظة واحدة ، وعليها أن تعلم أن أي شذوذ من أي مصدر كان ، من أسفل البناء أو من أعلاه أو من وسطه فإنما يعني الجميع . وأن الخرافة المقيتة التي تقول أن هذا من شأن الدين وأن ذاك من شأن السياسة ، هذا من شأن الرعية وهذا من شأن الحاكم ، فهي خرافة لا تقوم على رجل سليمة ، كما لا تقوم على رجل عرجاء . وأنها وسيلة الأفّاقين والضالين والمضلين إلى حرف الأمة عن طريقها وإبعادها عن هدي ربها .
إن أي شيء ما لا يمكن أن يسقط من اهتمام أي فرد في المجتمع ، وليس شيئاً يختص بالقاعدة أو بالقمة ، وإنما الأمر كله لله .
إن تتبع أخبار تلك الجماعة التي نشأت حول محمد صلى الله عليه وسلم يكشف أمامنا ما اكتسبه المسلمون من هذا الدرس البليغ ، لقد كان كل واحد من هؤلاء النجباء الأبرار وجنود محمد صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه قيّم على رسالة السماء ، هو نفسه يشعر بأنه يحمل مسؤولية الدنيا من أولها إلى آخرها ، ومن هنا كانت هناك يقظة دائمة وحراسة دائمة .
وكان المسلمون بفضل الله تعالى عوناً لبعضهم على إقامة أمر الله حيثما وُجد تعب ، إن أي انهيار في أية جهة كان المسلمون يسارعون كلهم لدعم هذا الانهيار ولبعث النشاط في هذا التعب ، حيثما وُجد خلل سُدّت الأبواب في وجه الشيطان حفاظاً على أمر الله تعالى ، ولكي لا يُترك المجال مفتوحاً أمام الشيطان ليعبث في هذا البناء الرباني الذي أقام الله المسلمين عليه .
هذا المعنى لم أشرحه من قبل ، ولم أشرحه الآن ، وإنما المسألة عميقة وكثيرة الفروع والتشعبات ، إن القرآن كان يقود المسلمين في معركتهم المشرفة .. ضد الإلحاد والتخريب ، وهو في نفس الوقت يؤرخ للجماعة المسلمة ، ويؤرخ لدرجات النمو في هذه الجماعة .
إننا حينما نوجه الآن سورة البروج نواجه أمراً يكاد يكون نتيجة طبيعية لتلك المقدمة التي مضت في سورتي القدر والشمس .. إعداد الإسلام والشعور بأن هذا الإسلام هو جزء من النظام الكوني ، وإن أية إساءة إليه هو إساءة لمصير الإنسانية برمتها ، ليس كلاماً يقال في الهواء ، وليس تسلية يتسلى بها الفارغون ، ولا شعاراً يلقيه تجار السياسة ولصوص الشعوب ، ولكنه الحقيقة الكونية الهائلة العظيمة التي لا يغفل عنها إلا شقي .
إنها مسؤولية ضخمة وكبيرة ، ولكنها المسؤولية التي من ورائها جنات تجري من تحتها الأنهار ورضوان من الله أكبر . إن سورة البروج تعرض للمسلمين درساً في الثبات والتثبيت لا مثيل له ، اسمعوا السورة ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قُتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ، إن بطش ربك لشديد ، إنه يبدئ ويعيد ، وهو الغفور الودود ، ذو العرش المجيد ، فعّال لما يريد ، هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود ، بل الذين كفروا في تكذيب ، والله من ورائهم محيط ، بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ ) .(/3)
سمعتم هذا الكلام الذي ينساب منساباً تارة ويعنف مزمجراً مدمراً تارة أخرى ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) سمعتم هذا الكلام الذي يتموّج هبوطاً وارتفاعاً في النبرة والسياق ، ماذا كان يريد أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ وماذا كان يريد أن يقول للعصبة المؤمنة ؟ أرأيتم سورة الشمس كيف أبانت لنا أن نظام الإسلام وأن شريعة الإسلام جزء من النظام الكوني برمته وأن العدوان على هذه الشريعة فمرده إلى الناس بالذات ، لأنهم هم الذين سيألمون منه ، أرأيتم كيف أن خواتيم سورة الشمس أبانت لنا أن نظام الإسلام جزء من النظام الكوني ولا يمكن أن ينهزم ؟ أرأيتم هذا المعنى ؟ إن التطمين في سورة البروج يأتي على نحو أوضح ولكن من إعجاز القرآن أن يساق القرآن مساقاً يختلف شدة وليناً وارتفاعاً وهبوطاً ثم لا يأتي الوعد بالحفظ إلا في آخر السورة ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) .
هذا الدين له الغلبة ، وإن الذين تحدثهم أنفسهم وتسول لهم شياطينهم أن يعبثوا بحقائق هذا الدين .. أن يريحوا أنفسهم من هذا ، لأن جهدهم في هباء . إن الله الذي لا يعجزه شيء ، لقد تكفّل بالحفظ لهذا الدين ( بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ ) .
وإن الله تعالى تكفّل للذين اكتسبوا شرف الانتماء إليه بأن يكونوا دائماً هم الغالبين ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وإن جندنا لهم الغالبون ) هذه بشارة كبيرة بالحفظ والتمكين وعدم فتح المجال أمام الضالين لكي يعبثوا بحقائق الإسلام . هذا الوعد لا يأتي إلا أخيراً ، ولكنه وعد صدق وحق ، إن أمامنا تاريخاً طويلاً وحافلاً ، وإن وقائع في التاريخ محفوظة ، وإنه في أية نزاع كان بين الإسلام وبين أعداء الله تعالى فإن الغلبة في الجولة الأخيرة كانت لله ولكلمات الله ولجند الله ، ورجع الضالون بالخيبة والخسران وشيعتهم الأجيال باللعنات المتلاحقة . إن هذا وعد مقطوع للناس لكي لا يستيئس الناس ولكي تدرك الإنسانية أن الله الذي رحمها بمحمد صلى الله عليه وسلم لن يتركها فريسة للشياطين وللأبالسة ، لن يتركها فريسة للضالين والمضلين ولكن متى ؟ في آخر السورة ، ولماذا ؟
قلت لكم مراراً : هذا الكتاب معجز ، وإعجازه ليس فقط في المعاني ، كلا وليس فقط في الألفاظ ولا في التراكيب ، وإنما كذلك في هندسة الكلام ، في توزيع السور ، توزيع الأخيلة ، توزيع القضايا من خلال الإطار العام . إن الوعد جاء بعد عرض صورة وبعد مشهد كوني (والسماء ذات البروج ) ما هي البروج ؟ إن المتبادر أن البروج هي الطرائق التي تسلكها النجوم في السماء ، وآن أن نكشف لبساً يتعلق في هذا الموضوع .
إن تراجمة القرآن اختلفت حول هذا الموضوع ، واختلافها جاء من جراء علوم كونية نجمت في تلك العصور .. وماذا الآن .. إننا نعتمد في صورة أساسية على دلائل اللغة وعلى سلائق العرب في فهم كلامها الذي نطقت به . وأننا حين تتعارض الآراء فإننا نرجع إلى ما صح نقلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم . فإن لم نجد فنأخذ من كلام الأصحاب والتابعين ما كان أقرب إلى دلالات اللغة كي لا نحمّل ما لا يتحمّل .
ما معنى البروج ؟ البروج مادة مشتقة من جذر من ثلاثة حروف وهي الباء والراء والجيم ، مادة برج ، برج في اللغة تعني ظهر ، ومن هنا نقول : هذه امرأة متبرجة يعني ظاهرة الزينة ، لكن في المادة إيحاء بمعنى آخر هو معنى السمو والارتفاع ، فالشيء الذي يظهر لا يمكن أن يظهر بين ما هو أعلى منه ، إنك إذا وضعت مصباحاً صغيراً بين أضواء قوية فإن أضواء القوية تخفي ضوء المصباح وتلاشيه ، ولا يكون هذا ظاهراً . لا يقتضي أن يكون أكثر ضوءاً وأعلى مكاناً من سائر الأضواء الأخرى لكي ينطبق عليه وصف أنه من البروج .
ومن هنا قلنا عن المرأة أنها متبرجة أي أنها تضع الزينة على وجهها ، وهو أعلى شيء فيها وهو أظهر شيء فيها ثم هي تظهره وتسفر فيه . من هنا جاء لفظ البروج إلى كل ما هو ظاهر ومرتفع ، نقول : بنينا برجاً أي أقمنا بناءً هو أعلى من جميع الأبنية ، فالأبراج في القلاع التي كان الناس يبنونها قديماً كان أعلى شيء في بناء القلعة وكان مخصصة لتكون مرقباً يرقب منه أهل القلعة مجيء الأعداء إليهم .
حينما نطقت العرب بهذا اللفظة وقالت بها في هذا المعنى المتساوق مع الجذر اللغوي سمّت كل بناء مرتفع برجاً ، فالقصر الشامخ المزيّن يسمى أيضاً برجاً ، فالقصور بروج . فمن حيث أن النجوم في السماء وأنها عظيمة الأجرام وظاهرة البريق واللمعان سمتها العرب بروجاً . ولذلك قال الله ( تبارك الله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ) فالسراج هو الشمس ، والقمر هو هذا المعروف عند الناس ، والبروج هي النجوم .(/4)
فالبروج هنا ليست الطرائق التي تمشي فيها النجوم ، كما أنها ليست قصوراً مبنية في السماء كما ذهب إلى ذلك بعض قدامى المفسرين ، وإنما هي النجوم في السماء . ( والسماء ذات البروج )هي تلك الأجرام الهائلة البالغة في العلو والارتفاع والسمو والضخامة . ( واليوم الموعود ) وهو يوم القيامة . ( وشاهد ومشهود ) وهنا اضطربت آراء المفسرين اضطراباً واسعاً ، قالوا إن الشاهد هو الله والمشهود هم الخلق ، وقال قائلون إن الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود هم الأمة ، وقال آخرون إن الشاهد هو يوم الجمعة والشهود هو يوم عرفة .
ونحن .. ما لم تكن بين أيدينا دلالة تدل على صدق التأويل فلسنا ملزمين أن نأخذ بها . وعلى أية حال فينبغي أن نعلم أن كل من قال قولاً فإنما استند بقوله هذا إلى دليل لاقى رأيه ، فالله تعالى سمى محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً فقال ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ) كما سمى هذه الأمة المحمدية شاهدة قال ( وجعلناكم أمة وسطاً لتكون شهداء للناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) كما سمى يوم القيامة مشهوداً فقال ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود ، يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ) فإذاً ففي كلمات الله تعالى ما يسند هذه التأويلات الذي ذهب إليها هؤلاء .
ولكنا نريد أن ننبه إلى أمر .. الله تعالى يقسم بالسماء ذات البروج ويقسم باليوم الموعود وهو اتفاقاً اليوم الآخر . من الذي يناسب قسماً كونياً هائلاً مصيرياً كهذا ؟ يناسبه أن يكون الشاهد هو ابن آدم وسائر الخلائق الموقوفة للحساب يوم القيامة ، وأن يكون المشهود هو ما يعانيه الناس من أهوال يوم القيامة . ذلك هو المناسب لكي يوضع الإنسان في الصورة ولكي يدرك قيمة هذا القسم الذي جاء مرشحاً لسياق أمر عظيم ( وشاهد ومشهود ) أين جواب القسم ؟ ( قُتل أصحاب الأخدود ) فكأن الله تعالى قال : لقد قُتل أصحاب الأخدود . وقتلهم لا يعني هنا القتل المادي ، ولكن يعني اللعن والطرد من رحمة الله ، فما شأن أصحاب الأخدود ؟(/5)
إن أصحاب الأخدود قوم من الأمم السابقة ، لهم نبأ عظيم ، ونبأهم له اتصال بمجرى الدعوة وسياق القضية الإسلامية . والذي يضفي على نبئهم أهمية خاصة أن هذه التجربة المقيتة تتكرر عبر القرون .. إن المفسرين اختلفوا في ماهية أصحاب الأخدود ، من هم ؟ ذهب منهم إلى أنهم كانوا في الزمن الأول ، قال قائلون إنهم كانوا قبل إبراهيم ، وقال غيرهم إنهم كانوا بعد إسماعيل بخمسمائة سنة ، لكن نحن في حل من الأخذ بكل هذه الآراء ، قلت لكم إننا حين نعثر على نص مسند بطريق صحيح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلا علينا أن نكب كل شيء ، وأن نقف مع النص النبوي ولا نتعداه . قال الإمام أحمد رحمه الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان للملك ساحر ، فقال الساحر للملك ذات يوم : إنه قد كبر سني واقترب أجلي فادفع إلي غلاماً أعلمه السحر قبل أن أموت ، قال فدفع إليه الملك غلاماً لبيباً ، فصار الغلام يختلف إلى الساحر ، وكان بين بيت الغلام وبين بين الساحر راهب ، فكان الغلام يمرّ بطريقه إلى الساحر بالراهب ، فجلس إليه ذات يوم ، فأعجبه كلامه ، فآمن بما عند الراهب ، وأصبح الغلام يقضي أوقاتاً عند الراهب فيتأخر ، فإذا جاء إلى الساحر قال له : ما أخّرك ؟ ويضربه ، وإذا رجع إلى أهله يضربونه على التأخير ، فشكى إلى الراهب أمره ، قال له : إذا جئت إلى أهلك فقل لهم : كنت عند الساحر ، وإذا جئت إلى الساحر فقل : أخّرني أهلي . ومضى الأمر هكذا . وكان للملك جليس ، فعمي ذلك الجليس وانقطع عن الملك ، وبينما كان الغلام ذات يوم في طريقه إلى مقصده فجاء إلى مكان فيه الناس محتجزون والطريق مقطوع ، وإذا حية عظيمة قطعت على الناس الطريق ، ولا يستطيع الناس أن يمروا ، قال الغلام في نفسه : اليوم أعلم : أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ فتناول حجراً وقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة وأرح الناس منها ، ورمى الحجر فقُتلت الدابة . فاجتاز الناس . وأصبح الغلام يبرئ الأعمى والأبرص ويشفي الأمراض والأدواء ، فلما جاء إلى الراهب قال له يا بني أنت الآن أفضل مني ولكن إذا سألك الملك عني فلا تدله علي . فلما سمع الناس بأمر الغلام وقدرته على معالجة الأمراض والأسقام ، سمع من جملة ذلك جليس الملك ذلك الذي عمي ، فجاءه وطلب منه أن يشفيه ، قال له : أنا لا أشفي ، إن الذي يشفي هو الله ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فسيشفيك إن شاء الله . قال فآمن جليس الملك ودعا الغلام ربه فردّ الله البصر إلى جليس الملك . ويفاجأ الملك بجليسه مبصراً يدخل مجلسه ، قال له : ما شأنك ؟ قال : شافاني ربي . قال الملك : أنا ؟ قال : لا ، ربي وربك الله . قال : هل لك من إله غيري ؟ قال : نعم ، الله . فما زال الملك يعذبه حتى دلّ على الغلام . وجيء بالغلام فعُذب فدلّ على الراهب . وجيء بالراهب واجتمع الثلاث . اجتمع هؤلاء الثلاثة أمام الملك . قال لجليسه : ارجع عن دينك . قال : لا . فأمر به فقُتل . قال للراهب : ارجع عن دينك . قال : لا . فأمر به فربط على جذع شجرة ، ثم جيء بالمنشار فقطع نصفين . قال للغلام : ارجع عن دينك . قال الغلام : لا ، الله ربي . فأمر الملك رجاله أن يأخذوه ويصعدوا به إلى أعلى الجبل ، وقال لهم : إن أنتم وصلتم إلى أعلى الجبل فخيّروه بين أن يرجع عن دينه أو يرموه من الجبل . فلما صعدوا به خيّروه ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقط أتباع الملك جميعاً ، وفوجئ الملك بالغلام وهو يدخل عليه . قال : ما شأنك ؟ قال : أنجاني الله تعالى . فأمر به أن يحمل في قارب صغير فإذا وصلوا به إلى المكان العميق في البحر خيّروه فإما أن يعود عن دينه أو يرموه في البحر . فأخذوه فلما كانوا في وسط البحر خيّروه ، فدعا الغلام وقال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فتحركت الأمواج فغرق أتباع الملك ، ونجا الغلام ودخل على الملك . عجب الملك وقال : ما شأنك ؟ قال : دعوت الله فنجاني منهم وأغرقهم . فتحيّر الملك ، فقال الغلام له : أنا أدلك على ماذا تفعل بي ، إن أنت أردت أن تقتلني فاجمع الناس واربطني على شجرة وخذ سهماً من كنانتي وإذا وضعته في القوس فقل : باسم الله رب الغلام واضربني فإنك سوف تقتلني . وحشر الملك فنادى واجتمع الناس وجيء بالغلام ورُبط على الجذع وتناول الملك الغشيم سهماً من كنانة الغلام فوضعه في القوس وقال أمام الملأ : باسم الله رب الغلام وأطلق السهم فوقع في صدر الغلام ، ومات الغلام . حينها قال الناس : آمنا برب الغلام . قال الأتباع والمنافقون والدجالون والمرتزقة .. قالوا للملك : قد وقع ما كنت تخشاه . كنت تريد من الناس أن لا يؤمنوا فها هم قد آمنوا .(/6)
هذا الحديث ذكره الإمام أحمد ، كما رواه الإمام مسلم في آخر صحيحه ، كما رواه أيضاً الإمام النسائي والإمام الترمذي ، رووه جميعاً بنحو من صياغة أحمد تقريباً . والواقعة وقعت في جزيرة العرب ، وأن السورة نزلت من أجلها ، وأن العرب كان عندهم علم بهذه الحادثة ، مما يرجح أن الحادثة وقعت في الفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ومما يؤكد على أن الحادثة معلومة عند العرب قوله تعالى (هل أتاك حديث الجنود ) و ( قُتل أصحاب الأخدود ) ثم لا يُفصّل القرآن قصة أصحاب الأخدود لا في هذه السورة ولا في غيرها كما هو العادة في بقية قصص القرآن التي لا يعرف عنها العرب شيئاً .
الذي يدلّ عليه السياق أن العرب تعرف قصة أصحاب الأخدود ، ولاحظوا ، أمامنا نص يحتاج إلى تأنٍ وهو ثمين ومفيد ، كما قلت لكم أن المفسرين اختلفوا في أصحاب الأخدود ، المكان ومن هم وفي أي وقت . الراجح عندنا كما سنشرحه في الجمعة القادمة أنهم كانوا في جنوب الجزيرة العربية ، وعلى تحديد أدق في نجران التي بين الحدود السعودية واليمن الآن ، والراجح عندنا أنهم في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والراجح عندنا أن العرب كان عندهم خبر بهذه القصة . وهناك روايات تقول أن الأخدود كان في الشام على زمن قسطنطين حين أراد أن يحرق النصارى ، يقولون أن الأخدود كان في اليمن في زمن تبّع ، وكان في العراق في أرض بابل حينما دعا بختنصر الناس للسجود له فأبى عليه دانيال ومن كان معه .
هذا النص يشعرنا أن حوادث تعذيب المؤمنين لا لسبب إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، إلا أن يقولوا ربنا الله .
عادة مكرورة من جميع أعداء الله تعالى في وجه المؤمنين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ، والذين يقولون لا إله إلا الله ، والذين لا يجرون وراء الحطام ، والذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون ، والذين يحرثون للآخرة ويشرونها بدنياهم ، هم الذين ثبتوا على كلمات الله ووقفوا مع كلمات الله ومع أوامر الله فتعرضوا إلى العذاب والمحن .
إن الملك حين رأى الناس قد أسلموا هددهم بالقوة وأمر بأن تُحفر الخنادق في الشوارع والدروب وأن تُملأ بالحطب والنيران ، قالت القوة الباغية : اعرضوا الناس على النيران فمن أبى أن يرجع عن دينه فاطرحوه في النار حياً . ومن تراجع عن دينه فخلوا عنه . وتقحّم المؤمنون يدخلون النار أفواجاً يستعذبون العذاب في ذات الله ، ويرون أن الموت في سبيل الله غاية ، وليس بينهم وبين الجنة إلا أن تُنتزع هذه الروح من البدن .
ويروى في الحديث نفسه أن امرأة من المؤمنات جاءت تحمل طفلاً صغيراً على صدرها فلما مسها لفح النار فكأنها تقاعست وكادت أن ترجع ، فأنطق الله الصبي وقال لها : يا أماه اثبتي فإنك على الحق . فاقتحمت المرأة النار ودخلت النار .
هذه الصورة التي عرضتها سورة البروج من جملة ما عرضت ، كانت درساً في مكانه وفي زمانه ومتساوقاُ مع درجة النمو التي بلغتها الجماعة حول محمد ، كما هو متساوق مع مبلغ الشراسة والعنف والعنفوان الذي بدأ يتفجر في صدور القرشيين وسائر أعداء الله تعالى .
وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله .. نفصل في الحديث عن الدروس والإشارات البالغة التي تضمنتها هذه السورة الكريمة .. سائلاً الله تعالى أن يفتح قلوبنا لفهم كتابه الكريم وأن يثبت عزائمنا لكي نقف مع الله أمام كل متكبر جبار .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة البلد
الجمعة 10 شوال 1397 / 23 أيلول 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
نسأل الله القدير أن يعيننا على ما تبقى من مراحل الطريق الذي مشينا فيه منذ أكثر من سنتين ، ونستأنف بإذن الله الكلام عما كنا فيه ، بعد أن شغلتنا عنه لفترة قصيرة شواغل هي إلى السخف والهوان أقرب ، ونرجو أن يتابع الكل معنا هذه الآفاق العالية التي رسمها القرآن للناس وأراد لهم أن يأخذوا بها أنفسهم من أجلهم ومن أجل صلاحهم ، وأجدني الآن مضطراً لأن أقول : إن الأسلوب المتمهل البطيء الذي كنا نصطنعه فيما مضى يشبه أن يكون أسلوباً يمد مراحل الطريق إلى غير انتهاء ، لهذا وبرغم مما أعرف من أن هذا الأسلوب الجديد سوف يترك خيبة أمل لدى البعض بالرغم من هذا فأرى أنه من الممكن أن نقتصر على بيان أهم ما تدعو الحاجة إلى بيانه ، ونترك التفصيلات للذين يعنون بالتفصيلات .
بين يدي سورة البلد وسورة الطارق وهما اللتان نزلتا بعد سورة ( ق ) التي فرغنا من الحديث عنها مع آخر جمعة من رمضان المبارك ، وأذكر أن الشوط الطويل الماضي كان ينصب معظمه على هذه القضية الكبيرة قضية وجود الله وقضية الدار الآخرة ، على اعتبار أن الذي لا يؤمن بوجود الله لا خير فيه ، وأن الذي لا يؤمن بالعودة إلى ربه وتقديم الحساب بين يديه لا يؤتمن لا على دنيا ولا على دين ، فلهذا اشتدت عناية الإسلام في تأكيد هذه المعاني ، وطال حجاج القرآن مع المشركين الذين لا يؤمنون أو الذين يشركون مع الله آلهة أخرى ومع الذين يستبعدون اليوم الآخر ويرونه ضرباً من المحال .
فإذا أخذنا بين أيدينا الآن أولى السورتين وهي سورة البلد ، فنحن نجدها تنساب هكذا : ( لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حلّ بهذا البلد ، ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد ، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالاً لبداً ، أيحسب أن لم يره أحد ، ألم نجعل له عينين ، ولساناً وشفتين ، وهديناه النجدين ، فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة ، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ، أولئك أصحاب الميمنة ، والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة ، عليهم نار مؤصدة ) بهذا الشكل تنساب سورة البلد ، وهي كما ترون تتصل من بعض الجوانب أو من معظم الجوانب بجملة السياق الذي سبق أن عرضناه عليكم من خلال الآيات التي استعرضناها فيها .
والشيء الجديد في الأمر في هذه السورة أن السورة تعنى ببيان شيء من شأن الإنسان وهذا جديد وخليق بالنظر الطويل . ونبدأ ونقول :
في قوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد ) قسم منفي على غرار الأقسام السابقة ، والقسم المنفي يفيد وفاقاً لاصطلاحات الناطقين بلغة القرآن تأكيد المقسم عليه ورفعه إلى مقام البداهة ، فإن القائل بأسلوب القسم المنفي يريد أن يقول لك إن الأمر لشدة وضوحه وبيانه وبداهته لا يحتاج إلى القسم ، لأنه فوق القسم ، فقوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد ) هو من هذا الباب ، تأكيد للمقسم عليه ورفعه إلى مكان البداهة لأنه واقع مشهود .(/1)
( والبلد ) هنا ظاهر أنه هو مكة الموطن الذي يقع فيه بيت الله الحرام ، ومعلوم أن مكة بلد حرمه الله تعالى لا لأنه تربة وحجارة يسكنه آدميون ، ولكن لأنه مقر البيت الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعده ليكون للناس سواء في العاكف والباد ، وليكون مطهراً من الأرجاس والأصنام والأوثان ، ولينتفي فيه القتل والقتال ، وليكون مثابة للناس وأمناً ، وليكون محلاً للخطرات النبيلة والأفكار النظيفة ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) وإلا فبلاد الله واحدة تستوي من حيث القدر والمنزلة إلا ما كان في بعضها من معالم العبادة ومظاهر التقى ومعالم الشرع الذي ارتضاه الله جل وعلا طريقاً للعباد . وكذلك شأن كل شيء في هذه الدنيا ، فالناس والأشياء لا تأخذ قيمتها إلا من هذا المعنى الذي هو تقوى الله تعالى . هذا المسجد مثلاً : ما الذي يميز بينه وبين أي شبر خارج حدود المسجد ، إلا أن المسجد مكان حُدد وحجز عن أن يكون محلاً لأشياء الناس ووُقف ليكون محلاً للصلاة . وكذلك هذا البيت يقسم به الله جل وعلا قسماً منفياً ليبرز قيمته وليؤكد المقسم عليه ، ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما اضطره قومه إلى الخروج من مكة استقبل البيت وقال : والله إني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت . فمكة المعظمة محرمة ومقدسة في تقديس الله إياها وتحريم الله لها بسبب هذا البيت الذي جاء ذكره في القرآن مراراً من قبل في سورة قريش وفي سورة الفيل وفي المناسبات الأخرى ، والشيء الجديد هنا أن الله أردف القسم هنا بالبلد الذي هو مكة المكرمة بذات الرسول عليه الصلاة والسلام فقال ( وأنت حل بهذا البلد ) وبسبب أن تفسير الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى تفسير مقروء ومتداول بين الناس ، فأنا أحب أن أزيل وهماً ربما يقع فيه من يحسن الظن بكل ما يقرأ بالكتب دون بحث ولا تمحيص ، فابن كثير يروي عن بعض السلف ، والقرآن كما قال علي كرم الله وجهه لابن عباس حمّال أوجه ، يروي أن المراد ( وأنت حل بهذا البلد ) يعني حال إحلال الله لك مكة لتمارس فيها القتال حين الفتح ، بمعنى أن الله جل وعلا يقسم بتلك الساعة التي أباح الله فيها لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يرفع السلاح في مكة مع أنها بلد حرام حين الفتح ، ولعمري إن هذا التفسير لا يسعف عليه سياق القرآن ولا يتساوق مع الآفاق الرفيعة التي تنساب فيها آيات هذه السورة ، وبين نزول هذه السورة وبين الواقعة التي يشير إليه إليها ابن كثير ويريدها مقتصر عليها كأنه لا يرى تأويلاً غيرها فرق في الزمان بعيد لا يقل عن خمس عشرة أو ثمان عشرة سنة ، فالحادثة التي يذكرها ابن كثير كانت في عام الفتح من السنة الثامنة للهجرة أي بعد البعثة النبوية بواحد وعشرين سنة ، وصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف إما في تلك المناسبة وإما في حجة الوداع وهو الأرجح يخاطب الناس فيقول : يا آيها الناس إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض وإنها حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كما كانت فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم ، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب .
هذا ما كان من نص الرسول عليه السلام في تلك المناسبة ، وهي مناسبة واقعية في سياق الدعوة لكننا حينما نأتي إلى النص فنجد أن معنى الحل هو الحلال المطلق وهذا ما يتفق مع رأي ابن كثير ، وأن معنى الحل هو الحال المقيم وهذا أشهر وأظهر استعمال المفرد أي هذه اللغة في هذا الموقف ، نتساءل : ما قيمة القسم بتلك اللحظة ؟ إنه لا يكاد الإنسان يتبين للقسم بهذا من معنى مفهوم ، ولكن إذا رجعنا إلى مقررات القرآن الكريم فنحن نجد أن الله جل وعلا رفع ابن آدم فوق قدر الكعبة المشرفة ، فإنه ورد صحيحاً عن رسول الله عليه السلام أنه نظر إلى بيت الله إلى الكعبة وقال : ما أعظم حرمتك عند الله ، وإن عرض الرجل المسلم أعظم حرمة منك . فالله جل وعلا صحيح أنه حرم بيته الحرام ومنحه من القداسة ما لا يبلغه الوصف ، ولكن حرمة الإنسان المسلم أكبر من حرمة الكعبة . وهذا من حيث المبدأ ، والناس كما قلنا يتساوون من حيث الجوهر الإنساني وإنما يتفاضل الناس بعضهم على بعض بالتقوى والعافية ، وأفضل الناس هم الأنبياء والمرسلون ، وأفضل الأنبياء أولوا العزم ، وأفضل أولوا العزم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم .(/2)
وحيثما قلبتَ القرآن فأنت تجد الله جل وعلا يأخذ المسلمين بأدبٍ شديد مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض ) ( يا آيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) ( لتعزروه وتوقروه ) وهكذا فحيثما سرحت طرفك في آيات الله وجدت الله يدعوك إلى توقير رسوله وإلى احترام رسوله وإلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين . وفي القرآن الكريم ( قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) وإذاً فنحن من هنا نستطيع أن نقول إن الله جل وعلا عظّم شأن القسم بإضافة نبيه عليه الصلاة والسلام إلى البيت الذي أقسم به ، أي أنه لم يقسم بالبيت مجرداً وإنما أقسم بالبيت في حال وجود رسول صلى الله عليه وسلم فيه ، وهذا معنى قوله ( وأنت حل بهذا البلد ) .
ثم ( ووالد وما ولد ) وأوجه ما يأخذ في هذا المعنى أن تكون الإشارة هنا إلى الذرية الإنسانية المسلسلة من لدن آدم أبي البشر صلوات الله عليه إلى أن يشاء الله أن يأخذ هذه الدنيا ، لأن فيها مظهراً بارزاً من مظاهر قدرة الله جل وعلا أن جعل الناس يتوالد بعضهم من بعض ولم يجعل الخلقة مفتقرة إلى التدخل الإلهي المباشر بواسطة الأمر ( كن فيكون ) أو بواسطة النفخ كما حدث في بعض الأحايين .
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) هذا هو المقسم عليه ، والكبد هو المشقة والتعب والنصب ، ماذا يريد الله أن يلقن الناس بهذا القسم ؟ كان يمكن أن يقال : قد خلقنا الإنسان ليكابد المشقة والتعب . وفي صياغة من هذا النوع يكون المعنى أن أمامنا أمرين ، الأمر الأول : الإنسان . والأمر الثاني : المشقة والتعب . لكن بين الأمرين انفصال ولا يوجد اتصال ، الإنسان شيء والمشقة التي يكابدها شيء ، ويستطيع الإنسان أن ينفصل عن المشقة ولا يقربها . لكن حين يأتي الكلام بهذه الصياغة ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) وحرف الجر ( في ) يتضمن معنى الظرفية والاستيعاب والاحتواء ، فالصيغة تدل على أن المشقة والنصب والتعب تلبس الإنسان تماماً ولا ينفك عنها الإنسان بحال من الأحوال .
فالدنيا من حيث هي دنيا مجردة من حيث هي أوامر ونواهٍ دار نصب وشقاء وعذاب وبلاء ، منذ أن يستهل الطفل صارخاً حين تنزل من بطن أمه وهو يتقلب بين الأهوال والمتاعب والمصاعب ولا يريحه من ذلك إلا الموت . وما أصدق ما تخيّل الشاعر الأعمى ابن الرومي حين قال :
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد
و إلا فما يبكيه منها وإنها لأفسح مما كان فيه وأرغد
فالدنيا من حيث المبدأ دار تعب ومشقة وبلاء ، ولكن ذلك شيء بسيط هين ، أنت حينما تشعر بأنه لا أمر عليك ولا نهي يتوجه إليك فأنت حري بأن ترسل نفسك على هواها ، تتمتع وتأكل وتأخذ وتدع ، وحين تصادفك العقبة تشعر بالألم ، وإذاً فتعبك ساعة فساعة ، ويوم فيوم ، وشهر فشهر ، أي متقطع .
ولكن ضمن إطار الدين ومقررات الإسلام فالأمر يختلف ، إن الإسلام منذ أن بدأ نزوله على الناس كان ضربة في هذا الركود الذي يسيطر على حياة الناس أثارت الأعماق ووضعت الإنسان السارح الشارد أمام مسؤوليات مباشرة ويومية ، فالإسلام لا يعترف على الإنسان كامل الإنسانية ما لم تكن عيناه مفتوحتان على سعتهما ليكون لهاتين العينين رقيباً على أخفى خفيات نفسه ، يراقب ويفكر بعواقب الأمور ويتدبر ويحسب حساب النتائج ، وكل شريعة من شرائع الله وكل فريضة من فرائض الإسلام فإنما هي إخراج للإنسان المسلم من حياة الرتابة والجمود إلى حياة الحركة والفاعلية والإيجابية ليكون الإنسان المسلم فاعلاً بانياً غير مستهتر ولا مبالٍ وإنما هو الإنسان الواعي الذي يعرف أن الله خلقه لغاية وأن وجوده في الدنيا بين إخوانه يرتب عليه واجبات ويحدد له مسؤوليات ويتطلب منه مسالك وأخلاق كلها متعبة وشاقة ليست كأس ماء تُشرب ولا لقمة طعام تساغ ، وإنما هي مكابدة التعب .
فالكبد الذي ورد هنا هو التعب والشقة الذي يلازم الأخذ بأمر الله تعالى ، لأن الأخذ بأمر الله شديد ولا يطيقه إلا الناس الواعون الفاهمون لأمر الله .(/3)
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالاً لبداً ، أيحسب أن لم يره أحد ) هنا المراد والله أعلم بقطع النظر عن تشقيق المعاني الرد إلى ما سبق أن أثاره القرآن من حجاج حول وجود الله واليوم الآخر وحول بعض الأوصاف التي ينبغي أن يتصف بها الإله . فالإنسان يشعر ، وهذا شعور مباشر بلا ريب ، أنه يتحرك في الدنيا يخذ ويترك ويشتري ويبيع ويجمع .. ثم هو ينفق هذه الأموال ويشعر أن حركته واضطرابه هما اللذان جمعا له المال ، وحين ينفق المال الكثير ، واللبد هو الكثير ، كأنما يتلبد فوقه فوق بعض حتى يكون كالتلال والجبال ، يشعر بأنه ينفق من داخل نفسه ، لا أمر عليه وهو حرّ في هذا الإنفاق . هذا الشعور بلا رقابة يولّد لدى الإنسان نوعاً من التسيب والتفلت ، ارجع إلى الآية ( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ) الإنسان قدر على جمع المال وقدر على إنفاق المال الكثير والقليل ، وكأنما استقر في نفسه أنه سيد الكون وأنه لا سلطان عليه ، فجاءه هذا التساؤل الإنكاري ( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ، يقول أهلكت مالاً لبداً ، أيحسب أن لم يره أحد ) والأحد هنا هو الله جل وعلا ، ومعلوم عندكم أن علم الله جل وعلا كان مدار حجاج وتساؤل ، وجاءت آيات القرآن ولا سيما في سورة ( ق ) لتبيّن للإنسان أنه في وهم وأنه في ضلال حينما يتصور أنه بعيد عن رقابة الله جل وعلا ، الله جل وعلا قال في سورة ( ق ) : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) حتى هذا الصوت الخفي الهاجس البعيد يعلمه الله تعالى ، ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) فهؤلاء الآيات أبانت علم الله تعالى بحال الإنسان وإحاطة هذا العلم بأخفى خفيات الإنسان ، فحين تأتي الآية ( أيحسب أن لم يره أحد ) فإنما يريد الله أن يقول للإنسان والله أعلم : إذا كنت أيها المخلوق ترى أنك تسمع وترى وتبصر فكيف تستكثر على الله الذي خلقك أنه لا يراك ، فالله جل وعلا يراك ، إن كنت في ليل يراك ، وإن كنت في نهار يراك ، إن كنت في جمع يراك ، لا تستطيع أن تفلت من رقابة الله تعالى .
ثم يأتي هذا التساؤل الذي يشد هذا المعنى ( ألم نجعل له عينين ) يرى بهما ويبصر ( ولساناً وشفتين ) يتكلم ويصمت فكيف تستكثر على الله أن يُنزل كلامه وأن يأمر وينهى ( وهديناه النجدين ) والنجد في الأصل هو ما ارتفع من الأرض قليلاً ، فكأنما المراد بإيحاء اللغة وإشعاع اللفظ أن طريق الخير لا يخفى وأن طريق الشر لا يخفى ، يمكن في الأرض المنبسطة المستوية أن يخفى عليك الشيء ، لكن إذا رأيت الهضبة والجبل فلا يعي عن النظر إليها إلا أعمى ، وأما الذي يتمتع بالبصر فيرى ، فحين يقول الله ( وهديناه النجدين ) أي هديناه طريقي الخير والشر ، بمعنى أننا بيّنا له طريق الخير كما بيّنا له طريق الشر . وفي التعبير بالنجدين عن الطريقين والسبيلين والنهجين دلالة بيّنة من أصل الوضع اللغوي على أن كل شيء واضح . والأمور حين تشتبه على الناس فلا تشتبه لأنها غامضة في ذاتها ولكن تشتبه لأن الشهوات تغطي على الأبصار والبصائر ، وحبك الشيء يعمي ويصم ، يجعلك لا يرى ولا تسمع ، وإلا فمن يجادل بأن حياة العفة والطهارة خير وأكرم من حياة الرذيلة والفسوق ؟ وأن حب الناس خير وأكرم من الحقد والبغض والكراهية ؟ وأن الحرث للآخرة خير وأكرم من صغائر الدنيا ؟ هذه أشياء لا يعمى عن رؤيتها إلا أعمى مطموس البصر والبصيرة ، ولهذا جاء التعبير هنا ( وهديناه النجدين ) .(/4)
( فلا اقتحم العقبة ) ارجع إلى قوله جل وعلا ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) وتذكّر أن الكبد هنا هو المشقة والتعب والنصب وتذكّر أن أمر الإسلام جد ومقاساة ومعاناة وتعب ، والعقبة ما هي ؟ العقبة هي في الأصل كل شيء يحول بينك وبين الوصول إلى غرضك ، إذا كنتَ سائراً في طريق فاعترضك جبل عالٍ لا تستطيع تسلقه ولا تخطيه فهذه عقبة ، وإذا كنتَ تسير في طريق تقصد غاية معينة فاعترضك أخدود لا تستطيع النزول فيه ولا القفز من فوقه فهو عقبة ، إذا كنت تسير في طريق فاعترضك نهر لا تستطيع قطعه فهذا عقبة ، إذا كنتَ تهدف إلى محل فاعترضك عدو قطع عليك الطريق فهذا عقبة ، فالعقبة كل أمر مادي أو معنوي يحول بينك وبين الوصول إلى غرضك . هذا هو الأصل في العقبة .. تعالوا ننظر ماذا أراد الله تعالى بهذه العقبة ؟ هل هي عقبة من العقبات المادية أم هناك معنى آخر ؟ لا نحتاج إلى كثير تأمل وفلسفة لا معنى لها ، لأن الله بيّن كل شيء ، جاء في التفسير المبيّن ( فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ) وهذا التساؤل ليجعلك تنتبه إلى المراد بالعقبة فقال ( فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة ) والمتربة هي الفقر ، لأن الفقير لاصق بالتراب فجاءت المتربة من هذا الباب ، وانظر تجد الله تعالى أبان عن العقبة بما يلي : فك الرقاب أي تحرير الأرقاء ، ويدخل فيه طبعاً إنقاذ الضعفاء والمظلومين والمقهورين ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة ) يتيماً في حجرك وتحت كنفك ( أو مسكيناً ذا متربة ) فالعقبة جاء ممثلاً لها بشيئين يحملان كلاهما معنى الحياة ويدلان على ما وراءهما من معاني الإسلام .
الإسلام حين اعتبر فك الرقبة وتحرير الأرقاء وإعتاق الناس وإخراجهم من ربقة الظلم والبغي والعدوان إلى حياة الحرية والإنسانية الكاملة ، فإنما أكّد على معنى الحياة ، وكذلك الشأن في موضوع الإطعام ، تصوّر أن جائحة مرت من الجوع سنة أصابت الناس فإن الناس رأوا على ممر التاريخ سنين من القحط والجوع إلى حد الذي أكل بعضهم بعضاً ، وفي مصر كما يحدثنا الجبرتي في تاريخه في القرن الثامن عشر أو في التاسع عشر سجّلت عدة حوادث في المجاعات العامة أكل الناس فيها أولادهم من الجوع ، فحين يشدد القرآن على هذا المعنى فإنما يريد من الإنسان أن يعلم أن اللقمة في فم الجائع توازي وتكافئ عتق الرقيق وإعادته إلى الحرية ، لأن الرقيق في حكم الميت ، وحين تعيد إليه حريته وتعطيه كمال الأهلية للتصرف والأخذ والعطاء فإنما تجعله إنساناً يساوي بني آدم ، وكذلك الجائع فحينما يعضه الجوع عضاً بليغاً فإنما تعيده إلى هذه الحياة بهذه اللقمة التي تمنحه إياها .
كم من الناس من يفعل هذا ؟ بل ماذا ينفق الناس من الجهد ومن التعب ومن المعالجة مع نفوسهم لكي يصلوا إلى المرحلة التي يحررون فيها الرقيق بلا أدنى شعور يخالجهم بالجشع والشح . كان الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أمر غلاماً له بأن يحضر له إناءً من ماء يتوضأ منه وقال له : صبّ علي الماء يا بني ، وأخذ الإمام يصب الماء ، والغلام سهى ، وأراد الله الحسنى فسقط الماء والإناء كله على الإمام ، ونظر إليه ، وكأن الغلام لمح في عيني الإمام بعض الغضب ، فقال : يا إمام إن الله تعالى يقول ( والكاظمين الغيظ ) فقال الإمام : يا بني قد كظمت غيظي ، قال وقال ( والعافين عن الناس ) قال يا بني عفوت عنك ، قال وقال ( والله يحب المحسنين ) فقال الإمام : اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى .(/5)
فالمسلمون حقاً حينما يخرجون عن أموالهم يخرجون بهذه الروح السمحة ، ويشعرون بأن اللقمة أو الخير أو المنفعة حينما تساق إلى إخوانهم في الله وفي الإنسانية فهي زكاة للنفوس ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) وهي أيضاً إحياء للناس وهي الحياة التي أراد الله جل وعلا أن يحياها الناس مليئة عامرة ، وهي أيضاً انتصار على النفس وعلى الشهوات واقتحام لهذه العقبة . اسأل نفسك ، لستَ بحاجة إلى الوقائع وإلى استقراء التاريخ .. انظر حواليك .. كم في جوارك وفي حيك وفي أسرتك من أناس يملكون من المال والمتاع ينفقونها هنا وهناك على الشهوات على وعلى .. ؟ وإلى جوارهم أناس يتضورون من الجوع ، وإلى جوارهم يعرون ، ويرونهم بأم أعينهم . والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم . ومع هذا فأنت تجد أن الأغنياء يشحون بأموالهم ، لماذا ؟ لأن ثقتهم بالله ضعيفة ، ثقتهم بأن الله يخلف ما عندهم معدومة بالمرة ، إن الله تعال يقول ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون بما في يد الله أوثق منه مما في يده . كيف أمسك بهذا الشيء وأقول أنه حق ، فيجب أن أثق بوعد الله أكثر من ثقتي بأنني أحمل هذا الشيء . هذا شرط الإيمان ، ولهذا سن الله تعالى الانتصار على النفس بتحرير النفوس وبإطعام الجائع وإكساء العاري ، لأنه ليس أمراً سهلاً ولكنه شديد ( فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ) والمسغبة هي شدة الجوع ( يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ، ثم كانوا من الذين آمنوا ) وقلنا عشرات المرات إن سنة الله مضت وإن قضاء الله حكم أن لا يقبل من العمل إلا ما خلص لوجهه ، وإن الإيمان بالله والإيمان برسله شرط لقبول الأعمال ، وإن الكافر يعمل الخير ويعمل المعروف ، ولكن الله يطعمه في الدنيا حتى يلقى الله تعالى وليست له حسنة على الإطلاق ، ولكن الإنسان المؤمن يثاب على مجرد خاطرة الخير ، من همّ بحسنة ولم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له عشرة .
فلا بد من تقدم شرط الإيمان لكي يكون العمل مقبولاً ( ثم كان من الذين آمنوا ) ولكن الإيمان لفظ مبهم ، شرط يكاد أن يكون إلى التجريد أقرب ، والله تعالى يبين بعض خصائص الإيمان ( ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة ) أمران يغفل عنهما أكثر الناس ، إن الحق ليس شيئاً بسيطاً ولا قضية هينة ، الحق صعب على النفوس ، أصعب مما تتصورون ، ولكن المؤمن إذا وُوجه بالحق أذعن بلا مجادلة وبلا محاولة التملص ، والمنافق يحاول أن يدور ويلف من حول الحق . الحق مرّ المذاق ، ولهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : وأسألك كلمة العدل ، وفي بعض الروايات كلمة الحق في الرضا والغضب . فالحق لا يطيقه كل الناس ، ولكن يطيقه الناس الذي مرّنوا أنفسهم على ممارسة مناهج الإيمان ، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافة عمر ، وعمر الحاكم الذي ترتعد الفرائص حين يُذكر ، ليس الأعداء فقط حتى المسلمون ، أذكر لكم واقعة طريفة ، كان عمر يمشي في طرقات المدينة وخلفه جمهور من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كل واحد منهم آمن بالذي آمن به عمر ، وصحب النبي كما صحبه عمر ، وشهد من النبي كما شهد عمر ، ولكن عمر صياغة معينة ، ولا أدري ما الذي كان من المناسبة ، الناس يمشون خلفه فالتفت فجأة إلى الوراء ، حينما وقعت عينه على جمهور الأصحاب ووقعت عيونهم على عينه جثوا جميعاً على ركبهم خوفاً ورعباً من عمر رضي الله عنه . هذا الرجل الشديد القوي ، جاءه رجل ودخل مجلسه وقال له : ألستَ قاتل زيد بن الخطاب ، أي أخوه الذي قُتل في حرب اليمامة ، قال : بلى يا أمير المؤمنين . قال له : والله لا أحبك . فتبسم الرجل وقال : يا أمير المؤمنين أذلك يمنعني حقاً هو لي عندك ؟ عدم حبك إياي يحملك على ظلمي ؟ فال : لا . قال : إنما يأسى على الحب النساء . النساء هي التي تسأل عن الحب ن أما الرجال فلا يسألون عن الحب ، الرجال يسألون عن إقامة الحق وعن تحقيق العدل .(/6)
فالحق في الحقيقة لا يطيقه كل الناس لأنه شديد وصعب ومرّ المذاق على النفوس ، ولهذا كان من شرط الإيمان أن لا يعتقدوا الحق فقط وإنما يتواصون به ، لأن الإنسان ربما يضله الهوى وتجره القرابة أو تلفته بعض العلائق فيتجاوز الحق ، وفي تجاوز الحق هلكة التي لا حياة بعدها . وإنما يجب دائماً أن يتواصوا بالحق ، ولهذا فنحن نعلم من أخلاق ومسالك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم أنهم إذا التقى منهما اثنان سلم الواحد منهم على الآخر وأخذ يده مصافحاً إياه وقرأ كل واحد منهما على الآخر ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) يقرأ بعضهم على بعض هذه السورة مع كل لقاء لكي يتذكر المسلمون دائماً أنهم ممثلو الحق والقائمون على الحق في هذه الدنيا .
والشيء الثاني هو التواصي بالمرحمة ، دخل رجل على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده الحسن أو الحسين ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقبله ، وهذا أعرابي ، والأعراب نعرة نستعيذ بالله منها ، فكأن هذا الأعرابي استنكر أن يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصبي . فقال : يا رسول الله أتقبله ؟ قال : ولمَ ؟ قال : يا رسول الله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحد منهم قط . ونظر إليه النبي الحنون والعطوف وقال له : وماذا أملك لك إذا كان الله قد نزع الرحمة من قلبك .
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : من لا يرحم لا يُرحم ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء . التواصي بالمرحمة هو نظر رقيق إلى عواقب ما فيه ابن آدم ، مثلاً : ترى إنساناً فقيراً فتشعر بهذا الانعطاف النبيل والطيب والطاهر ، ماذا يكون من شأن هذا لو أنه استمر في هذا الفقر المدقع ، ألا يشرف على الجوع والهلكة ؟ فتأخذك الشفقة والمرحمة فتعينه .
تمرّ على الإنسان الآخر تراه واقعاً تحت الظلم يعذب ويهان فتتساءل : وإلى متى ؟ وإذا كانت السماوات والأرض قامتا على الحق والعدل فكيف يكون صلاح الناس إذا أُخل بالعدل وبالحق ؟ فتأخذك الرحمة فتنتصر للمظلوم . وإذاً فالتواصي بالمرحمة هو استحياء مستمر لهذا الشعور العظيم النبيل الذي يجعلك وقافاً مع أعلى ما في الحياة الإنسانية من مستويات النبل والكرامة والشرف .
( أولئك أصحاب الميمنة ) ودائماً حيثما مرّ معكم لفظ الميمنة فالمراد به التعبير عن رضوان الله تعالى ، وحيثما مرّ معكم التعبير بالمشئمة فذلك كناية عن سخط الله جلا وعلا .
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا هو أصحاب المشئمة ، عليهم نار مؤصدة ) أي أن الله تعالى أعدّ للمؤمنين الذين يتواصون بالصبر وبالحق وبالرحمة والشفقة على عيال الله ، والخلق كلهم عيال الله كما قال عليه الصلاة والسلام وأحبهم إلى الله أبرهم وأشفقهم إلى عياله ، هؤلاء هو أصحاب اليمين الذين ينالهم الله برحمة منه . وأما العتاة والكفرة والفساق وقساة القلوب فهو الذين توعّدهم الله تعالى بأن يدخلهم جهنم ليذيقهم العذاب الأليم .
حبذا لو كان لدي بعض الوقت لأنتهي من سورة الطارق ، وأفرغ لما بعدها ، ولكن لا بأس أن نكتفي بهذا القدر الذي قلناه ، وأنا أرجو أن يعود كل واحد منكم دائماً إلى القرآن يستفتيه ويسأله ويتدبر في آياته ، فتحت كلمة من كلمات الله عالم مضيء من الطهر والعفاف والكرامة والشهامة والاستقامة . اتركوا هذا الواقع المرّ الوبيئ البغيض الذي يعيش فيه الناس تافهين كما يعيش الدود لا همّ لهم إلا الشهوات والعواطف الرخيصة والدوافع الخبيثة .. اتركوا هذا كله ، هذا لا يعمر الحياة ولا يفيء الاطمئنان على الناس ، وعيشوا مع القرآن وعانقوا المثل العليا وتعوّدوا على أن تكونوا أكبر من ذواتكم .. تعوّدوا على أن تكونوا مؤمنين تجدون أنفسكم أكبر من الدنيا وما فيها ، في حديث يروى عن الله جلا وعلا من الأحاديث القدسية : ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن .
إن الإنسان المؤمن إذا سكنت قلبه معاني الإيمان كان أكبر من الكون كله ، فارفعوا أنفسكم عن الصغائر وعيشوا مع الله ومع حقائق كتابه ومع حقائق نبيه صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة الطارق
الجمعة 17 شوال 1397 / 30 أيلول 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
ففي مسيرتنا مع ما نزل من أوائل كتاب الله تعالى نقف اليوم مع سورة الخامسة والثلاثين في سياق التنزيل ، ولئن أتيح لنا أن نبلغ بكم سورة الأعراف وهي الثامنة والثلاثون فنفرغ منها إننا إذاً لسعداء ، وسيكون بين يدي الإخوة من خلال هذا الاستعراض لبعض ما نزل من كتاب الله ذخيرة طيبة من الأفكار النافعة وصورة قريبة من الكمال لدعوة الإسلام في مراحلها الأولى ، وضوابط في ميدان العمل ومجالات التحرك تحول دون كثير من الخلط والالتباس ، والله تعالى هو المسؤول أن يسدد ويعين .
السورة الخامسة والثلاثون هي سورة الطارق ، وسبقها في الجمعة الماضية الحديث عن السورة الرابعة والثلاثين وهي سورة البلد ، وبعض الناس يوحد بين السورتين ولا حرج فموضوعاتهما متشابهة أو متساوقة في أكثر مواطنها .. والذي يستحضر أكثر سورة ( ق ) ثم البلد ثم الطارق فسيجد نفسه أمام طور له مواصفات خاصة من أطوار الدعوة الإسلامية ، وبطبيعة الحال فالوقت والطاقة لا يتسعان لشرح هذا ولست أجدني أنشط لهذا في الوقت الحاضر فنرضى بما قسم الله .
السورة تقول ( والسماء والطارق ، وما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب ) وينتهي القسم هنا ليساق الكلام على المقسم عليه ( إن كل نفس لمّا عليها حافظ ) ثم تمضي السورة نحو بيان شأن الإنسان هذا الطاغي الباغي المتكبر والمتجبر الجاهل بنفسه وبالذي حوله والمتشبع بما لم يعطَ وعريض الادعاء والدعوة ( فلينظر الإنسان ممَّ خلق ، خلق ممن ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، إنه على رجعه لقادر ، يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر ) ثم يأتي قسم آخر على موضوع آخر ( والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ) وبهذه الآيات القصيرة جداً والكلام البالغ غاية حدود الوجازة والكثافة والاختصار يؤكد الله تعالى فرق ما بين القرآن الذي يتولوه على الناس محمد صلى الله عليه وسلم وبين ما يهرف به الناس من كلام يظنونه حقاً وهو باطل ، فإذا انتهى بهذا الشكل من الوجازة والاختصار سيق الكلام نحو قضية هامة ولها امتدادها في الزمان والمكان ( إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ، فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ) وبهؤلاء الآيات الوجيزات كذلك تساق قضية من قضايا الحركة والعمل لعلها تكون أضخم القضايا وفي نفس الوقت أول ما يُنسى من قضايا الحركة والعمل من أجل الإسلام .
وكشأن عديد من الآيات التي مرت من قبل فالسورة مبدوءة بالقسم ، ولقد يجب أن ننبه باستمرار إلى حكمة القسم ، ففي الحالة العادية وفيما يتعاطاه الناي في الكلام فوظيفة القسم في اللغة معروفة ، إن القسم يشد الكلام ويؤكد المقسم عليه وإذا كان القسم صادراً ممن يؤنس فيه الصدق ويُظن فيه الخير فإن القسم يأتي بمثابة جيش من الشهود ويغني غناء جيش من الشهود . وحين يأتي القسم من الله تعالى فمن بدائه الأمور أن الله تعالى أصدق القائلين ، لا تبديل لكلماته ولا خلف لوعده ، وهذا يعطي الكلام المقسم عليه قوة تأكيدية بالغة ، ولكن حس المسلم لا يحتاج مطلقاً إلى ما يؤكد له صدق الله تعالى ، فهذا الموضوع فوق الظنون والشبهات ، فإذاً للقسم فائدة أخرى يجب أن تغيب عن بال قارئ القرآن وهي إبراز شرف المقسم عليه وقيمته .
فالله تعالى أقسم بشخص رسوله عليه الصلاة والسلام فقال ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) وعلى لسان بعض خلقه أقسم بذاته الكريمة فقال على لسان إبراهيم عليه السلام ( وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) وأقسم بمظاهر من مظاهر الكون وهذا وجه من وجوه الحكم في القسم غير داخل في إبراز شرف المقسم عليه ولكنه يتعلق بالمقسم به ويجب أن لا يتخطاه القارئ لكتاب الله تعالى .(/1)
فلننظر هنا في صيغة القسم ( والسماء والطارق ) فالسماء معروفة ، والطارق لفظ مبهم ، ولأن الطارق في الأصل مشتق من الفعل ( طرق ) وطرق مأخوذ من الطريق ، فكل سالك طريقاً يسمى طارق ، ولكن هذا الإبهام مفسّر بهذه الآيات ، فحين قال ( والسماء والطارق ) فجاء بالبدل فقال ( النجم الثاقب ) فالمراد بالطارق إذاً هذا النجم الذي يلتمع في السماء ضوءه مشعاً منيراً ، والثاقب هو شديد اللمعان واضح الضوء ولا يُطلق إلا على النور الذي إذا وقع على الشيء يثقبه ، فكأن المراد هنا والله أعلم القسم بالنجوم التي تخترق أشعتها وتثقب حجب الظلمات ، فلماذا أقسم الله تعالى بهذا النجم الثاقب ؟ بل قبل هذا فلماذا سماه طارقاً ؟ قلنا إن الطارق في كلام العرب هو كل سالك طريقاً ، لكن عرف الاستعمال خصصه بالذي يأتي ليلاً ولا يقال لمن جاءك نهاراً هو طارق ، وإنما يقال ذلك لمن جاءك ليلاً ، ومنه الحديث الشريف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطرق أهله ليلاً ، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المسافر أن يعود إلى أهله في الليل ورغّب أن تكون عودة المسافر إلى أهله نهاراً . وفي هذا النهي احتمالان : فقد يكون المراد بالنهي عن طروق الرجل أهله ليلاً أن لا يرى الرجل زوجته على حالة لا يستحبها من الكمال وحسن المنظر ، وإنما يراها وهي متهيئة بزينتها لاستقبال الزوج ، فالمرأة المهيبة غالباً ما تتبذّل وتترك الزينة ولا تُعنى بكمال الشكل وجمال المظهر ، فإذا جاء الرجل أهله ليلاً على غير انتظار فقد يجد أهله على حالة لا تدعو إلى الارتياح من حيث المنظر العام والمظهر الواضح .
وقد يحتمل هذا معنى آخر فالإسلام الذي يدعو إلى الصوم ويرغّب في الستر ينهى الرجل عن أن يطرق أهله ليلاً لاحتمال ولو كان ضعيفاً ولو كان بعيداً ، فقد يجد الرجل في بيته من الغرباء أو الأقرباء من لا يرتاح إلى وجوده في حال غيابه مع أهله ، فيكون من ذلك ما يدعو إلى النفرة وإلى سوء العشرة وإلى تهديد الحياة الزوجية . فمن هنا كان نهي النبي عليه السلام المؤمن عن أن يطرق أهله ليلاً وكان ترغيبه في القدوم إذا قدم المسافر نهاراً .
وموضع الشاهد أن النجم سمي طارقاً لأنه يعرض في أفق السماء ليلاً فسمي طارقاً لهذا ، ووصف بأنه الثاقب لأن ضوء النجوم هو الذي يجعل أديم السماء الأسود المكفهر يزدهر بالنور .
هذه النجوم التي تكرر القسم بها تنفع الناس على الأرض كما تنفع مخلوقات الله جميعاً ، وهي عرى في شد النظام الكوني والناس يعرفون منها قديماً الشيء الكثير ، والعلم كشف اليوم منها أكثر مما كان الناس يعرفون ، ولا حاجة بنا إلى الخوض عن ما لهذه النجوم من تأثيرات ، ويكفي أن نعلم أن توزيع النجوم في السماء بالنسب التي هي عليها وبالحجوم التي هي عليها عامل أساسي في حفظ النظام الكوني ، ولو أن نجماً من نجوم السماء انزاح عن مكانه ومداره ومساره المرسوم شيئاً ولو طفيفاً لأدى ذلك إلى اختلال في نسب الجاذبية وتغيرات واضحة في الأجواء التي يتنفس فيها الإنسان ، وإذاً فالله يقسم بشيء ذي أهمية بالغة بالنسبة لحياة الناس في موضوع هو برمته يتعلق بحياة الناس .(/2)
( والسماء والطارق ، وما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب ) على ماذا أقسم ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) بعض الكاتبين في القرآن من المفسرين يذهبون في تأويل هذا الحرف مذهباً يساعد عليه ظاهر اللفظ ولا غرابة فيه ، أي أن الله سبحانه وتعالى وكّل بكل إنسان حَفَظة يسجلون عليه كلما يقول وكلما يفعل ليكون هذا التسجيل معداً لمناقشته في يوم الحساب . ولكنا نرى والله أعلم أن المسألة أبعد من هذا وأن الأمر في جوهره أمر بيان للمنة العظيمة التي امتن الله بها على الناس ، فالإنسان لولا عناية الله وكلاءة الرحمن وحفظه لما استطاع التماسك في هذه الدنيا بحال من الأحوال ، والله جل وعلا بنواميسه التي زرعها في الكون وقوانينه وسننه الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير حفظ الإنسان من شرور كثير ة ، والله جل وعلا تولى رعاية الإنسان بأمور لا يدركها ولا يبلغها علمه ولا ينالها وهمه إلا من طريق الخبر الصادق عن الصادق المعصوم عليه الصلاة والسلام ، ولقد جاء في بعض الآثار أن الشياطين يتكأكؤن من حول ابن آدم ولو أن ملائكة الرحمن تخلت عن الإنسان طرفة عين لتخطفته الشياطين من كل جانب ، فهذا جانب من حفظ الله جل وعلا لهذا الإنسان ، والله جل وعلا ذكر ذلك واضحاً بيّناً في القرآن الكريم فقال جلّ اسمه ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) والمعقبات هم الملائكة الذين يتعاقبون على كلاءة ابن آدم وحفظه ، ومن ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار . فهذا جانب من الحفظ الذي رعى الله به هذا الإنسان وهذه هي المعقبات التي ذكر الله جل وعلا أنها تحفظ الإنسان من أمر الله ليس أن تحفظ الإنسان من أن تصيبه شيء من أمر الله وقضائه وقدره ، ولكن معنى ذلك أنها تحفظ الإنسان بأمر الله جل وعلا ، فمن هنا ليست على بابها بعضية ولكن هي سببية أي بسبب أمر الله جل وعلا .
فهذا معنى قوله تعالى ( إن كل نفس لمّا عليها حافظ ) يعني ما من نفس منفوسة إلا عليها حافظ يحفظها بأمر الله تعالى ، ولو ارتفع عنها حفظ الله وكلاءة الله تعالى لتخطفتها الشياطين . ومن ظواهر الحفظ هذه ما امتنّ الله تعالى به على عباده من إنزال الكتب ومن إرسال الرسل ، فهذه وجوه من وجوه الحفظ ، لا يذكرها الله تعالى في مجال المنة وحسب ، وإنما يذكرها في مجال التكريم ، فالإنسان الذي اختصه الله تعالى بالسمع والبصر والفؤاد والنطق والقدرة على التصرف والأخذ والعطاء وبمواجهة المسؤولية والتبعة إنسان متميز من بين خلق الله تعالى ، وبسبب من هذا التميز استحق كرامة الله تعالى إذا قال ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) فهذا جانب مما يوحيه قول الله تعالى ( إن كل نفس لمّا عليها حافظ ) .
هذا الإنسان المحفوظ لا من ذاته ولكن من القوة الخارجة عنه هي قوة الله ، هذا الإنسان المعتنى به ، هذا الإنسان المكرم والذي سخّر الله له كل شيء ، والذي أسجد الله له ملائكته الذين اختصهم لتسبيحه وتقديسه ، هذا الإنسان المتمرد الطاغي يزعم كما رأينا في السور الماضيات أن الله لن يقدر عليه ، وأنه لن يعيده كما بدأه ، وهذه غفلة ونفسة كبرياء لا تصيب إلا الغافلين عن أنفسهم ( نسوا الله فنسيهم ) ( ونسوا الله فأنساهم أنفسهم ) . الإنسان من أجل الإقرار والإيمان بحتمية المصير إلى ربه لا يحتاج إلى مجهود كبير أقام الله الشواهد ونصب الدلائل على ذلك في تصاريف الكون وفي خلقة وجسم الإنسان وصدق الله ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد ) .
انظر إلى نفسك ، المسألة في متناول يدك ( فلينظر الإنسان ممَ خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ) والصلب هو فقار ظهر الرجل ، والترائب هي عظام صدر المرأة ، وما يتخلّق منه الإنسان إنما هو نطف قليلة من هذا الماء الذي يخرج من فقار الرجل وترائب المرأة على نسب مضبوطة ومقادير موزونة . إذاً فنحن ما زلنا في جو التناسق وفي جو التناسب وفي جو السماء والطارق وفي جو هذه النسب التي تشكل مظهراً من مظاهر سنن الله تعال لكي يرتفع الله بالإنسان من مقام الهوان ، دودة تدب على ظهر الأرض إلى ظاهرة كونية شأنها من حيث الضبط والنفع للكون كله كشأن أية ظاهرة كونية أخرى ، فلا ينبغي للإنسان أن يبخس نفسه ولا ينبغي أن يغفل عن قيمته ، بل الله الذي كرّم هذا الإنسان أراد له أن يعي قيمة نفسه لكي يُذلها ولا يهينها فلا تقدر بعدها أن تترشح إلى عظائم الأمور .(/3)
( يخرج من بين الصلب والترائب ، إنه على رجعه لقادر ) والهاء في ( إنه ) أي الضمير يعود إلى الله تعالى ، أي إن الله تعالى قادر على رجعه ، وللمفسرين تأويلات ، أحدهما أقرب إلى الآخر وإلى المعنى وأدعى إلى الاطمئنان ، قال قائلون : إن الله على رجع هذا الماء المتولد من فقار الرجل أي صلبه ، ومن ترائب المرأة قادر على إعادته من حيث خرج ، ولا جدال في قدرة الله تعالى على ذلك ، ولعل الذي هيّأ لهم أن يذهبوا هذا المذهب قرب الحديث عن الماء ( فلينظر الإنسان مما خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ) ولكن لو أننا ذهبنا مع الآيات قليلاً لوجدنا أن المعنى يتعين في ناحية أخرى ( إنه على رجعه لقادر ، يوم تبلى السرائر ) فالرجع مرتبط بيوم وصفه الله تعالى بأنه يوم تبلى فيه السرائر ، والسرائر هي خفيات النفوس وما يسره الإنسان ويخفيه عن كل أحد ، وبلاء السرائر هو إظهار ما فيها وكشفها واضحة معلنة ، وهذا لا يكون طبعاً إلا يوم القيامة حين تنصب الموازين القسط لذلك اليوم ويقف الناس ليوم الحساب ، وإذاً فأقرب التأويلات إلى هذا أن يصار إلى القول : إن الله قادر على أن يرجع هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى في الدار الآخرة برغم البلى والتحلل والتفرق في جميع الأنحاء . والكلام بعد كما مرّ معنا في سور أخرى كلام يدور حول هذا المحور حول إثبات اليوم الآخر وضرورة إقام الناس ليوم الآخر ، لأن الموضوع جد خطير ، فمن لا يؤمن باليوم الآخر وبحتمية المصير إلى ربه والوقف بين يديه وتقديم كشف الحساب إليه يفعل ما يشاء دون رادع يردعه ، وإنما الخير كل الخير في الذين يخافون الله ويرجون رضاه في اليوم الآخر .
هنالك في اليوم الآخر وصف آخر جاء وهو وصف بالغ الدلالة ، هذا الإنسان وصفه الله تعالى بأنه في دار الدنيا بأنه في صفات متعددة : جبار وطاغٍ ومتمرد وعنيد وخصم وجدل .. وبسائر هذه الأوصاف والنعوت التي تشير إلى العظمة والجبروت ، ووصفه هنا حينما يكون في اليوم الآخر بهذا الوصف المعبر ( فما له من قوة ولا ناصر ) كلمتان : قوة وناصر . والقوة عادة من حيث أصل الوضع ذاتية ، يعني أن الإنسان يوصف بأنه قوي ، إذا كانت القوة وصفاً ذاتياً له ، ولكن العرف العامي يقول إن فلاناً قوي ، بمعنى أن من ورائه أشياع وأتباع ونصراء ، هذه ليست قوة في مدلول اللغة وفي أصل الوضع . فإذا رأينا الآية تقول هنا ( فما له من قوة ولا ناصر ) فمعنى هذا أن الله يوقف الإنسان في اليوم الآخر بحيث أنه يلتمس من نفسه القوة فلا يجدها ، ويلتمس النصراء فلا يجدهم .. وإذاً فقد تقطعت به الأسباب ، هذه الإنسان وصفه الملازم له هو هذا ، في الدنيا كذلك هو ، لو أن الإنسان كان كما يظن بنفسه لاستحق أن يكون غير ما هو عليه . ولكن الإنسان المنصف لنفسه يعرف أنه ضعيف ، وأن كثيراً مما زرأ الله على الأرض من حشرات أقوى منه ، والنمرود مات بذبابة ، وأصغر الجراثيم تبث بين الناس وباءً يحصد المئات والألوف من الناس .. ومع أصدق المتنبي حين كان يشير إلى هذا المعنى فيقول في قصيدة طويلة ما معناه : لو أن الأمر أمر قوة وأن شرف الإنسان ومنزلته تقاس بالقوة وبضخامة البدن لكان أدنى حيوان أدنى إلى الشرف من هذا الإنسان . ولكن الإنسان ضعيف ذاتياً بكل ما في الكلمة ، حسبك أن يلمّ بك شيء من المرض فإذا أنت مطروح على الفراش ، لا تستطيع لنفسك حولاً ولا قوة .
والمظهر الآخر من مظاهر القوة وهي قوة النصراء والأتباع ، فنحن نرى أن كثيراً من الناس تأتي عليهم أويقات يرون من ورائهم الألوف والملايين مساندين له ، ولكنهم ينفضون بعد ذلك . فإذاً ليس شيء من أسباب القوة لازم للإنسان بأي حال من الأحوال ، ومع هذا فانظروا إلى ما ذكر الله تعالى في هذه الآية من حفظ الله تعالى للإنسان لتروا أن الله تعالى أكرم الإنسان على غير استحقاق ذاتي لغاية أرادها الله تعالى هو ترشيحه للقيام بتبعات الدعوة إلى الله تعالى .
وأظن أنني أشرت إلى هذا المعنى قبل زمن وجيز حينما تطرقت إلى ذكر هذه الفكرة فقلت إن الأرض من حيث هي أرض تتساوى بقاعها وأماكنها من حيث الشرف ، ولكن الله تعالى يخص ما يشاء من بقاع الأرض لشرف ما يكون فيها من عمل ، فمكة ليست كسائر بلاد الله ، والحرم ليس كسائر مكة ، والمدينة ليست كسائر بلاد الله ، وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كسائر أجزاء المدينة ، وليلة القدر ليست كسائر الليالي ، والحجر الأسود ليس كبقية الأحجار التي بنيت منها الكعبة .. وإذاً فالتشريف والتكريم اختصاص مطلق من الله جل وعلا ، ومن هذا الاختصاص اختصاص الإنسان بهذه الكرامة لا على استحقاق منه وإلا فالإنسان لا قوة له ولا ناصر له .(/4)
ثم تساق الآيات مساقاً آخر فيه شيء من هذا التناسق الذي ذكرناه ( والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ) وقلنا إن هذا قسم جديد ، ومعنى أن السماء ذات الرجع ، والرجع هو الإرجاع ، المراد بذلك السماء ذات المطر الذي يصعد إليها من الأرض ثم يرجع إلى الأرض من السماء ، فهذا هو معنى كون السماء ذات رجع . والأرض ذات الصدع معناها أن الأرض حين ينزل عليها الماء تهتز وتربو وتتشقق وتتصدع وتقبل الماء وينبت العشب والكلأ والخير الكثير . أين وجه التناسق والارتباط ؟ التناسق والارتباط بين هذه الصورة .. صورة السماء التي تتصاعد إليها أبخرة الماء فتنعقد في الجو سحباً مركومة ، ثم ترجع إلى الأرض ، ثم إذا رجعت إلى الأرض أنبتت العشب والخير الكثير بعد أن تتصدع لتتلقى أكرم تلقٍ هذا الماء الراجع إليها من السماء ، صورة شديدة الارتباط ووثيقة المشابهة مع الماء الدافق المتولد من صلب الذكر وترائب الأنثى ، والملقى في رحم المرأة لتقبله فيتصدع ويخرج هذا الكائن الحي . وإذاً فنحن ما زلنا في الجو الذي أبرزته الآيات في أول السورة ..
( والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ) هذه العملية بشقيها .. عملية التقاء العنصرين الذكر والأنثى في رحم المرأة ، وعملية انصداع الأرض لتتلقى وهي تتلقى الماء النازل من السماء لتنشق عن الخير والنبات والعشب .. هذا شيء ليس هيناً ، وإنما هو مظهر من مظاهر الإعجاز والقدرة الباهرة والعظمة الخارقة الدالة على وجود الخالق القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء ، وإذاً فالله تعالى يقسم بأبرز مظهر من مظاهر قدرته على أمر أريد أن نتمعن فيه قليلاً .
( إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ) والهاء في ( إنه ) قد يكون المراد بها إن الحديث عن الأمور التي مرت بالسورة شيء حقيقي ، ولكن الأوجه أن يساق ويوجه الضمير إلى القرآن الذي حوى كل هذه الأشياء ( إنه لقول فصل ) والقول الفصل هو الذي يصيب وسط الحقيقة ( وما هو بالهزل ) ومعنى الهزل هو المزاح ، ولكن الهزل في دلالة اللغة معنى أبعد من معنى المزاح ، أو هو معنى يعطي للمزاح محتواه الصحيح ، الهزل مشتق من الفعل ( هزل ) ومعنى هزل أي ضعف ، والضعيف هو الذي لا قوة فيه ولا قدرة له ، وإنما يقال هذا كلام هزل بمعنى أنه كلام لا يعد أن يكون هواءً منطلقاً من الفم ، وحروفاً مرصوفة ولكنها لا ترجع إلى معنى حقيقي ، وليس لها أي وصف ولا خصيصة من أوصاف وخصائص القوة ، وجوهر الحقيقة أنه قوة ، وجوهر الهزل أنه لا شيء ، وإنما يسمى هزل الهازل هزلاً لأن صاحبه لا يعود بمحصّل ، فكأنه هراء لا شيء وراءه على الإطلاق . وذلك شأن الناس وليس شأن الله ، الناس يهزلون ولا يبالون أن يقولوا ويتحدثوا بما لا يعود بخير ، ولا يرجع إلى قاعدة معروفة من قواعد الحقيقة ، ولكن الله يقول الحق ويهدي السبيل ، فالله تعالى إذاً يفرّق بين هذا الكلام الذي يأتي به محمد من عند ربه وبين كلام المخلوقين ، ليهيب بالناس من بعد أن يكونوا إلى الحقيقة أقرب ومن الهزل أبعد ، ليكونوا إلى الحق أرقب ومن الباطل أبعد ، فكلام الله تعالى هو الحق المرّ ، وكلام الخلق هو الهزل الذي لا يرجع منه صاحبه بقليل ولا كثير .
ثم تأتي القضية الثانية ( إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ، فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ) أما الكيد فهو التدبير الخفي ، ولا يسمى كل تدبير كيداً إلا إذا كان تآمراً في الظلام ومن وراء الجدر ، أما التدبير الواضح فلا يسمى كيداً .
وحينما ننظر إلى هذه الآية وهذه السورة وهذا الطور من أطوار الدعوة في ضوء هذه اللفظة المفردة ( الكيد ) فسنجد أن الدعوة بلغت مرحلة طيبة في طريق التقدم والاتقاء والرسوخ والنماء ، إنك حينما يكون أمامك خصم لا تكترث به ولا تأبه له ولا تقيم له وزناً ولا تلقي له بالاً ، فأنت لا تهتم بأن يكون تدبيرك ضده تدبيراً خفياً ، وإنما تجاهر وتقول : ماذا يستطيع هذا أن يفعل تجاهي ؟ لا شيء إنه في حالة من الضعف جردته من كل قوة ، وإذاً فأنا في حلٍ من أن أكتم أي تصرف من تصرفاتي ، ولكنك حينما تواجه إنساناً له حظ من القوة أو مجموعة من الناس بلغت شأناً من الرسوخ والقوة فأنت محتاج إلى أن تحكم تدبيرك وإلى أن تخفي كثيراً من وجوه أمرك .(/5)
إذاً هذه الكلمة توحي لنا بأن المرحلة التي نتحدث عنها بلغت مرحلة يحسب لها الخصوم حساباً ، فهم يكيدون ، والله جل وعلا يكيد ، وإنما يكيد الله جل وعلا على سبيل المجازاة ، فالعرب تأتي باللفظ مشتقاً من جنسه لتجازي أي لتقابل بين الفعلين مقابلة لفظية لا مريدة بذلك أن الله فعلاً يريد اللفظ بحقيقة معناه . فحينما نسمع الله يقول ( نسوا الله فنسيهم ) نعلم أن هذا اللفظ من باب المجازاة اللفظية ، وإلا فالله يستحيل عليه النسيان ، ويقول أيضاً ( يخادعون الله وهو خادعهم ) فهذا لا يعني أن الله يلجأ إلى طريقة الخداع ولكن هو من باب المجازاة اللفظية وهو أسلوب يعرفه الذين يدرسون خصائص الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن . وقوله تعالى ( إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ) من هذه الباب .
يا إخوة أريد أن أقف معكم في هذه النقطة قليلاً .. لا لأني لم أقف عندها من قبل ، ولكن للتذكير .. المسألة في نظري بالغة الخطورة ، شديدة الحساسية ، وفي ميدان الماديات فأنت تلقي الحصاة في النهر فتتولد في النهر دوائر تنداح وقد لا تراها ولكن اهتزازات الماء لا تنقطع .. فتصل شاطئ النهر فترتد في حركة حتى تختفي رويداً رويداً . والكلمة تقولها في مجال المعنويات تترك في العواطف والمشاعر والنفوس والعقول أصداء لها مثل هذه الدوائر التي في الماء فتذهب وترجع متذبذبة من غير انتهاء . والإسلام حركة ، جاء قولاً وجاء عملاً ، وجاء حركة لامست الواقع ولم تكن تصورات في عقل فيلسوف ولا حكمة في رأس حكيم ، وإنما هي رسالة خوطب بها الناس بصورة مباشرة ووضعت موضع التطبيق من أول مرحلة من مراحله ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه الأرجاء وهذه الأصداء في حياة الناس ، بين راضين وبين ساخطين ومنكرين ، وبطبيعة فالمنكرون ينكرون والساخطون يسخطون حينما تُهدد لهم مصالح ذاتية معنوية أو مادية ، يرون في الدعوة الجديدة خطراً عليهم .
وهذا الذي كان من زعماء مكة وأغنياء مكة وكبراء ساسة مكة ، فقد أنكروا على رسول الله ما جاء به من عند ربه ، وردوه عليه ، وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، واستمر المكيون في الإنكار ، ثم لا يكتفون بالإنكار ، وإنما يدبّرون بالكيد المحكم الخفي ، لينالوا من الدعوة بالتشكيك والتشويش ، ولينالوا من المسلمين بالمطاردة والتعذيب ، ولينالوا من قائد الدعوة بالطعن والتجريح .. وكل هذه الأشياء مرت معنا صورها ، والمسألة كما يلي : المسألة هو أن الناس على المستوى الدنيوي وعلى مستوى الدعوات ذات الطبيعة الأرضية لهم أن يكيّفوا أنفسهم وفاقاً لما يشاؤون ، ولهم أن يعملوا بعد كل حركة حساباً للخسائر والأرباح ، ولهم أم يعملوا حساباً للاحتمالات ، ولهم أن يقدروا مواقفهم وفاقاً لكل هذه الحسابات والمعطيات . أما نحن في ميدان الإسلام فالحركة وقوانينها وقواعدها ليست إلينا ، وهذا الكلام قلته أكثر من مرة ، قلته حتى مللت من قوله ، وحتى ظن المشككون والطاعنون والصائدون في الماء العكر أنني أسكت على مظاهر الانحراف والانحلال والإجرام بحق الأمة وأدعو الناس إلى ذلك ، وحبذا لو كان الذين يطعنون ويشككون أناساً يتمتعون بذرة من الشجاعة ، ولكنهم جبناء وأذلة وسكان جحور ، ومع هذا فأنا أصر على هذا القول ، وأرى فيه مقطع الصواب فيما يتعلق بجوهر الحركة وقانون الحركة الأول .
نحن لا نملك أن نسخر مقتضيات الحركة للأصداء والأرجاع التي تقع في نفوسنا ومشاعرنا من جرّاء مواجهات الناس ، نحن بشر لنا عواطف تهتاج وتثور ، ولكن لو كنا نعمل لحسابنا لكان ذلك مقبولاً ، واذهب أنت وما تشاء لنفسك ، ولكن تعمل لحساب دعوة لها امتدادها في الزمان والمكان ، امتدادها في الأرض ظهر الكرة الأرضية وأنت مخاطب بذلك ونبيك عليه الصلاة والسلام يقول فيما صح عنه صلوات الله عليه : إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها ، أي جمع لي مشارق الأرض ومغاربها حتى نظر عليه الصلاة والسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ مبلغ ما زُوي لي من الأرض ، أي أن هذا الإسلام لا بد أن يلف الكرة الأرضية برمتها ، ذلك وعد غير مكذوب ، ومن شاء أن يغرّ نفسه بمظاهر الطغيان والباطل والفساد فله ذلك ، فأما نحن المسلمين فنحن نثق بموعود الله وبموعود رسوله صلى الله عليه وسلم . وإذاً فساحة الدعوة من حيث المكان ظهر الأرض جميعاً .(/6)
ومن حيث الزمان فهي موغلة في الآزال ، ضاربة في الآباد ، أي أنه ما دام لهذا الكون عمر فالدعوة قائمة ، وما دام الأمر كذلك فنحن نعالج أمراً عظيماً وكبيراً أكبر من ذواتنا وأخطر من عواطفنا , أبعد مدىً من تحركاتنا من هذه الدوافع الأنانية الصغيرة . وإذاً فقاعدة الحركة لا تسخر لصالح العاطفة التي تثور في قلبك وفي شعورك حينما تطارد أو حينما توجه إليك إهانة ، لأنك مطالب بموقف محدد سلفاً من قبل الله ، لأن الصبر الجميل أمر وارد في القرآن مع أوائل ما نزل من القرآن ، من هذا الباب لأول سورة حينما ذكر الله تعالى ردّ الفعل على المشركين على أول حديث ألقاه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المشركين داعياً إلى الله قال الله تعالى بهذا الأسلوب التعجيبي ( أرأيت الذي ينهى ، عبداً إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينتهِ لنسنفعن بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدعُ ناديه ، سندعو الزبانيه ) عند هذا الحد يكون الله تعالى عرض مشهداً لموقف الكافرين الأرعن حينما رأوا أن ما يدعو إليه محمد عليه الصلاة والسلام شيء يخرج على عرف الآباء والأجداد ، وإذاً فهو شيء مستحق للإنكار والرد والصد .
ثم تطور الأمر بعد إلى محاولات إلى الرد عن هذا الطريق فماذا كان الجواب ؟ كان الجواب أن الله تعالى تهدد وتوعد ( كلا لئن لم ينتهِ ) هذا المخلوق عن نهي عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن موالاة الدعوة ( لنسفعن بالناصية ) أي ليسمن النار ناصيته وهي مقدمة رأسه وهي أشرف ما في الإنسان ( ناصية كاذبة خاطئة ) وهذا الإنسان المغرور الذي يتكثر على عبدنا ونبينا محمد عليه السلام بالأنصار والأتباع ليدعً ناديه ( سندعو الزبانية ) فإن ملائكة الله جل وعلا حاضرين .
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد ، وهذه هي النقطة التي أريد أن أثيرها الآن .. موضوع الموقف ذو شقين ، هذا الشق الذي يتولاه الله ، والشق الآخر الذي يجب على الإنسان أن يحمل أعباءه ، يقول الله تعالى ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) هذا في أول سورة نزلت من القرآن الكريم ، بعد أن بيّن الله تعالى أن الموقف بهذا الشكل وأن تولي الله نصرة دينه ونصرة عباده المؤمنين أمر غير مشكوك فيه ، لكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه القاعدة لها جانبها البشري الذي إن أُهمل أدى إلى كوارث رهيبة ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) فأراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون رد الفعل عنده على رعونة المشركين والمارقين سجوده واقترابه من ربه ، أي مداومته ومثابرته ومواصلته للطريق الذي أراده الله جلا وعلا مع التذرع بالصبر الجميل والهجر الجميل .
بعد هذا لم يعد ضرورياً أن تفصل الأمور بهذا الشكل في كل مكان ، في سادس سورة وهي سورة المزمل يقول الله تعالى ( فذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلاً ) أي دعني لا تشغل نفسك بهم .. دعني مع هؤلاء المكذبين المتنعمين والمترفين الذين أنستهم أموالهم وشهواتهم أهوال الله جل وعلا ، وما حلّ بالسابقين من الأمم ممن يرونهم رأي العين ، أو يرون بقاياهم وآثارهم ( ومهّلهم قليلاً ) أي اصبر وواصل أيضاً .
وحينما تأتي السورة لتؤكد هذا المعنى ، ويقول الله تعالى ( والسماء والطارق ، وما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب ) نأتي لنستشف المعنى الذي نشد به آخر الآية إلى أولها ، هذا التناسق العجيب والإحكام الغريب من ورائه قوة ومن ورائه قدرة ، قوة قادرة وقوة غلابة ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) هي القدرة التي تفعل كل شيء ( فلينظر الإنسان مما خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ) إن القوة التي عرضت نفسها في أوائل السورة هي التي أكرمتك وأعطتك هذه القيمة العالية من بين كائنات الله تعالى ، بالرغم من هوان شأنك وتفاهة منشئك ( إنه على رجعه لقادر ) هي القوة التي تعيدك بعد أن هرمت وبعد أن بليت ( يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر ) هناك تعاين القوة معاينة ولا يبقى الأمر خبراً ( والسماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ) هذا المظهر الكوني المنسق بهذا الشكل المقصود الهادف من ورائه القوة التي عرضت نفسها في أول السورة ( إنه لقول فصل ، وما هو بالهزل ) إن القوة التي قالت هذا الكلام هي التي ترفعه أيضاً عن هزلاً كهزل الناس ( إنهم يكيدون كيداً ، وأكيد كيداً ) هؤلاء يكيدون وأنا أفعل ما أريد ( فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ) بعض الناس فهم هذا الكلام فهماً أعرج ، قلت لكم لا ضرورة لتكرير جميع جوانب القضية في كل سورة وفي كل موضع .(/7)
الموقف البشري منظور إليه وملحوظ في الدعوة ، كوننا نمهّل الكافرين ، وكون الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم ، لا يعني بتاتاً أن نعفي أنفسنا من مشقات العمل ، لا ، موقف الإسلام يتلخص بالاختصار : أنت مخاطب بأوامر ومخاطب بنواهي ، أي أنك مكلف بواجبات ، وظيفتك هي قيامك على هذه الواجبات ، وقوف عند الأمر والنهي ، عمل لما هو مأمور ، كف عما هو منهي عنه ، وبعد ذلك لا شيء عليك بحال من الأحوال . فما تبقى فإن الله تعالى هو الذي يتولى ، ويتولاه بجهدك الموصول ، لكن حينما نرى بعض الناس يكسر إحدى رجلي القضية ليرى أن الله سينصر دينه دون تدخل بشري على الإطلاق ، وحتى لو أن الناس عطّلوا الأوامر والنواهي فإلى هؤلاء نسوق الخطاب ، إلى هؤلاء نقول نحن نفهم أن يتحمس الإنسان ويتهم المتعقلين ، نفهم هذا كل الفهم ، ونرى أن الحماس الزائد أخرج هذا الإنسان عن سواء النظر ولا شيء ، ولكن حينما يكون الأمر أمر اتكالية مقيتة وعجز عن المواجهة إلى الحد الذي يصل إلى تعطيل الأمر والنهي فالمشكلة كبيرة جداً ، بل مصيبة ولا يُسكت عنها أبداً ، المسألة خطيرة جداً وخطورتها تتأتى من هذا التفلت المستمر والمتصاعد بين الناس ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة فجهر بها ، وكان قائدها ولم يتخفى ، ولم يخرج خارج البلاد ، ولم يقل إنني لم أقل كذا ، ولم يقل إنني لم أفعل كذا ، ولم يسكن وراء الجدران ، ولم يتنصل من تبعات أفعاله ، طاف النبي عليه الصلاة والسلام يوماً في الكعبة فتثاور إليه الناس من المشركين وأخذوا بمجمع ردائه وقالوا له : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فقال : نعم أنا الذي أقول كذا وكذا . وما زالوا به حتى كادوا يقتلونه ، وأمسك به أبو بكر يبكي ويقول : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات ؟ محمد صلى الله عليه وسلم فعل هذا ، والمسلمون معه لم تمضي عليهم في الدعوة سنة إلا كانوا يزحمون طرقات مكة ويجاهرون بالدعوة إلى الله بين أبالسة الطغيان والشرك ، متحملين في ذات الله كل الأعباء التي ألقاها عليهم ، مواجهين كل التبعات التي تترتب على التحرك في اتجاه الإسلام .
ومضت الدعوة في طريقها متصاعدة لا يأتي ولا تطلع شمس إلا وهي تسجل للمسلمين تقدماً وانتصاراً . وتسأل عن السبب فتجده بالأخذ الحازم بأوامر الله تعالى ونواهيه ، أي بالوقوف مع الواجبات التي ألقاها الله تعالى على عاتق الإنسان المسلم .
ومضت ثلاث وعشرون سنة تحقق فيها الانتصار الكامل لدعوة الله تعالى ، وحين كان عليه الصلاة والسلام يحج بالمسلمين حجة الوداع نزل عليه من فوق سبع سماوات قول الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) . هذه قضية من بدهيات السيرة النبوية كما هو معلوم ، ونسأل : دعوة الإسلام في هذا الزمان الأعجب تعمل وتُرفع في مشارق الأرض ومغاربها ولا أجهل قدرة وقوة الخصوم وأنا الذي اكتويت بنار ذلك مراراً ، أعرف ذلك ولكن يجب أن يعلم كل مسلم أن الإسلام أقوى من كل قوة ، وأن جيوش الأرض جميعاً لو اجتمعت على أن تكسر إرادته فلن تكسرها ، ولكن إن كنتَ من أشباه الرجال أو ربات الخدور فخير لك أن لا تتقدم إلى هذا الميدان بإطلاق بالمرة ، ذلك ليس مكانك ، وينبغي أن لا تضع نفسك في غير مكانك .
إن دعوة الإسلام تطلق وترفع في كل مكان ومع ذلك فهي تسجل هزائم وتراجع ، لماذا ؟ يجب أن يبحث عن العلة بصدق ورجولة وبشرف ، علة العلل هي أننا غير صادقين في أخذنا بهذا الإسلام . نحن حينما نضع قضايا الإسلام أمام أنظارنا وندعي أننا نعمل من أجله نتحرك ومع كل حركة حسابان : حساب لله وحساب للدنيا ، حساب للإسلام وحساب للذات ، ودائماً وأبداً حساب الذات أرجح وحساب الدنيا أوسع ، وهنا الخطأ .(/8)
إننا حين نسمع الله يقول ( كلا لا تطعه واسجد واقترب ) ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهّلهم قليلاً ) وما قاله الله هنا يجب أن نعلم أن الله أراد منا أن نأتي بالمطلوب منا وبالواجب علينا ، ودائماً الواجب علينا محدود الطريق ، ومحسوب في علم الله تعالى ، تصوّر حينما قامت دعوة الإسلام وبثها عليه الصلاة والسلام في جنبات مكة ، ألم يكن في إمكانه صلوات الله عليه أن يستخدم العشائرية والقبلية وأعراف الجاهلية ؟ وإذا كنتم اليوم ترون القبلية والعشائرية تمد عنقها وتؤثر تأثيراً بارزاً في مجرى حياة الناس ، فثقوا أن القبلية والعشائرية كانت تفعل هذا مضروباً وعشرات الألوف ، كانت القبلية تستطيع أن تحسم الأمور ، لكن على كل حال ليس لصالح الإسلام ، بل لتدعيم القبلية والعشائرية . وكان المسلمون يقفون متعجبين مذهولين من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه الأعداء ، البلاء ينصب عليهم انصباب المطر ، والرسول عليه الصلاة والسلام آخذٌ بحجزهم وممسك بهم كي لا يفلتوا ويوصي بالصبر والثبات ولا يسمح برفع اليد ولا يسمح برد الإساءة ، والله تعالى وصف هذه الحالة العصيبة بأنها حالة تستيئس معها حتى الرسل ، حينئذ يأتي أمر الله ويأتي بالنصر .
لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح بالعراك والقتال والمهاترة إذاً لضربت هذه النباتات من أول الطريق ، ولكن المسلمين كانوا يأخذون بالعزائم عبادة وأخلاقاً وسلوكاً وتطهيراً لمسالك الإدراك والفهم ، ومع التقدم تتنامى قواهم وتتصاعد قوى المشركين وهي دائماً تمشي في خطين متوازيين ، ولكن عموماً تجد أن الشرك في مواجهة الإسلام يقف عاجزاً باستمرار ، لماذا ؟ لأن المسلم لا يواجه الموقف الجديد إلا بعد أن يكون قد تسلح له بالسلاح الملائم له القادر على أن يتغلب على مشقاته وعقباته .
وبهذا فحينما طُرحت في ميدان التعامل الواقعي نماذج المسلمين التي رُبّيت وصهرت على نار التجربة في مكة .. حينما طُرحت هذه النماذج في بدر وفي أحد وفي سائر معارك الإسلام أثبتت جدارتها وثبت لنا وللناس قاطبة أن الجيش المسلم كان لا يعد بضع ألوف ، وكان يقابل مئات الألوف فيتغلب عليه ويحطمها وينتصر عليها .. لأي سبب ؟ هذا رجل وهذا رجل .. ولكن المسألة في هذا الشوط الطويل الذي قطعه الإسلام وهو يبني هذه اللبنات تربية وبناءً مؤسسين على أمر الله جل وعلا معزولين عن كل العواطف التي تثور في الإنسان حينما يتصدى له الخصوم .
وإذاً .. فالله تعالى حينما يريد منا هذا يريد شيئاً هيناً وداخلاً في طوقنا وإمكاننا ، قم بواجباتك وأدِ التكاليف عليك ، لا شك أنك ستغيظ ناساً ولكن لا تبالي ، امضِ ، حينما تتصاعد هذه الموجة من الغضب في قلوب الأعداء المارقين عن أمر الله تكون أنت قد بلغتَ طوراً أعلى وهكذا بغير انتهاء . والله تعالى قال ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا يُنصرون ) الأعداء حينما تُربى الأمة بهذا الشكل الهادئ المنظم القائم على أمر الله المؤسس على قواعد الحركة بل على قاعدة الحركة الأولى لن يبلغ الأعداء من المسلمين حد الإضرار ، والإضرار ماذا ؟ الإضرار هو أن تضر حتى تلتصق بالأرض فلا تستطيع أن تتحرك ، وأما الأذى فلا بد أن تسمعه ولا بد أن تلاقيه ، فهذا شيء مفروغ ( لن يضروكم إلا أذى ) ولكن حين يجد ( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) ما أريد قوله باختصار .. نصيحة صادقة من القلب للإخوة جميعاً ، عار علينا أن نخدع أنفسنا ، أما أن نخدع الله فذلك شيء لا سبيل إليه ، عار علينا أن نخدع أنفسنا ، نحن محتاجون إلى مزيد من الصدق مع الله ، محتاجون إلى مزيد من الوفاء لأوامر الله ونواهي الله جل وعلا ، وبغير هذا فلو أن الأبواق زرعت على ظهر كل منزل ، ولو أن أهل الأرض شُقت حناجرهم من النداء فلا نصر ولا تقدم . إن للنصر وللتقدم شروطاً إذا أغفلت كانت الكارثة ، وإذا أعملت كان النصر بإذن الله ، ونحن نرجو الله جل وعلا ألا يخزينا وإياكم وأن يشرح صدورنا بهذا النور العظيم المبين ،نور الإسلام ، وأن يرشحنا وان يؤهلنا لحمل هذه الدعوة ووراثة النبي صلوات الله عليه وخدمة هذه الأمة وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/9)
تفسير سورة العصر
(1)
الجمعة 26 ذي الحجة 1396 / 17 كانون الأول 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فنحن اليوم مع سورة جديدة من القرآن المكي المبكر ، ولقد كنت في الماضي أحسب أن الحديث عن هذه البواكير أمراً هيناً لا يستدعي كد الذهن إلى درجة عالية ، حتى اكتشفت في هذه المسيرة أن المسألة لا يقوم بها إلا الأفذاذ من الناس ، وكنت أقدر أن هذا الاكتشاف يكون آخر شيء ، لكن الطريق مليئ بالمفاجآت ، ولقد كشفت أيضاً علاوة على أن هذا الطريق مسعِد هو أيضاً مؤلم ، والله يعلم وحده أنني أواجه هذه المواقف الأخيرة مما تحدثنا عنه قبل أسابيع وما نستأنف الحديث عنه اليوم وبعد اليوم وكأن السكاكين تمزق أحشائي تمزيقاً ، ليس شيئاً مهماً أنك تسير وتخطئ ، فالخطأ من طبيعة الإنسان ، وجلّ الذي لا يخطئ ، ولكن المؤلم حقاً أن تعرف أنك تخطئ ، ذلك شيء مؤلم .
إن هذه الأمة التي تعيش على هذا الكوكب والتي أكرمها الله بالإسلام وزانها وأعلى قدرها ونوه بذكرها بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ترث أمراً عظيماً ، ترث مسؤولية الجنس البشري برمته ، وإنه يكون قدراً لازماً أن تظل الإنسانية كلها تخبط في بيداء التيه والضلال والحيرة والضياع إلى أن يأذن الله لهذه الأمة أن تلتقط طرف الخيط لتسير مع هداية الله مبتغية خير البشرية ، ومتى ؟ هنا موضع الألم ، إنه لا شيء مجهول ، فالإسلام بحمد الله واضح ، خاطب الناس يوم كان الناس يقرون على أنفسهم بالجهل والعجز فأفاد منه الناس وفهموه ، كان للعقول نور وكان للأخلاق زكاة ، وعدّل من مسار البشرية تعديلاً جوهرياً . والذي يُعَجّبك من هذا الزمان أن الناس بعد أن اتسعت معارفهم وارتقت مداركهم واستبحرت تجاربهم ما يزالون بعداء جداً عن الطريق ، لماذا ؟ أهذا الكلام الذي فهمته العرب يوم كانت على جاهليتها يُعجِز الناس أن يفهموه اليوم بعد أن انتشرت هذه العلوم ؟ لا ، وآية ذلك أنك تقرأ الجملة من آيات القرآن على الإنسان الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب فينفعل معها ويتحرك لها ويفهم عنك ، ثم إذا قلت له يا أخا الإسلام انهض وتحرك ، ربطته أثقال الشهوات إلى الأرض فأحس أنه لا يستطيع أن يستقل على قدميه ، إنها الشهوات إذاً ، إنه العمى أو إنه أخطر من العمى ، إنه الضيعة وراء ضلالة قريبة يمكن للإنسان بعزمة صغيرة أن يقضي عليها وأن يتجاوزها .
كلما وقفت أحدثكم شعرت بألم ، أَلَم الذي يدري كل شيء ، ألم الذي يتمثل بقول القائل في الخرافة المشهورة ( في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء ) أعرف كل شيء ، وليس المصيبة أننا نحاول فنخطئ فتلك سنة الحياة ، لكن المصيبة أننا نحاول ونعرف أننا سنخطئ ، تلك مصيبة ضخمة ، تحتاج منا إلى أشياء كثيرة .
هدفنا كله من استعراض بواكير الدعوة أن نُلَوّح أمام أنظار الأمة بصورة الحركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم فنجح وأفلَحَتْ ، لا نقول نريد أن ننقل تلك التجربة بحذافيرها وبحروفها بالحجم التي كانت به إلى هذا الزمان عبر القرون المتطاولة ، لا ، لكن من فضل الله على الأمة وعلى الإنسانية التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم هي جملة قواعد يمكن أن توضع موضع التنفيذ والتطبيق في أية بيئة ، وفي أي زمان ، ومهما يكن المستوى العلمي والثقافي ومهما تكن درجة الحضارة التي توضع في قواعد الإسلام موضع التطبيق فتنجح وتثمر وتؤتي أكلها .
إننا نواجه اليوم سورة صغيرة ، وجيزة الألفاظ ، قصيرة الفواصل ، يقرأها القارئ فتخف على لسانه ، فيسمعها فلا تؤود سمعه ، ولكنها في الميزان عظيمة ، إنها سورة العصر ، يقول الله تعالى ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) إنها قصيرة ، لكن أمتنا يوم كانت أمة ، ولكن رجال الإسلام يوم كانوا رجالاً ، يوم كانوا يقدرون لهذه السورة قدرها ويعطون مكانتها حقها ، كان الإمام الشافعي يقول فيما صحّ عنه : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم . أي لكفتهم ولأغنتهم عن سائر القرآن . وكان الرجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يلتقيان إذا التقيا فيسلم أحدهم على صاحبه ولا يفارقه حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة ، كالتذكرة والتنبيه على الواجب المترتب على الإنسان المسلم وعلى الأمة المسلمة . وهذا كله يكشف لنا عن درجة التقدير التي حظيت بها هذه السورة ذات الآيات القلائل والفواصل القصيرة ، لكن المثقلة بالمعاني ، الحبلى بالقضايا الخطيرة . هذه السورة لها جوها الخاص ، ومن الظلم لها أن نتحدث عنها معزولة عن جوها الخاص ، لا بد أن نعود إلى الوراء .(/1)
سبق أن قلنا ونحن نستعرض سورة الفجر وما قبلها بقليل إن ملامح الطريق التي تتجه نحوها حركة الإسلام بدأت تتضح ، إنه يطرح على بساط البحث عدد من الخيارات حينما تقوم حركة ما تجد نفسها أمام عدد من الطرق يمكن أن تسلك هذا أو هذا أو ذاك ، والإنسانية تعرف وعرفت من قبل وتجرب في كل يوم جديداً من هذه التجارب ، عرفت ما سبق من قبل أن أُلهمت عقولٌ كبيرة مرت في هذه الدنيا ومضت كانت تتلمس الحق وتجهد من أجل الوصول إليه ، وقد توفق إلى بعض منه وقد لا توفق ، ليس هذا مهماً ، لكنها عقليات وتيارات فكرية ومذاهب فلسفية ونماذج وأنماط سياسية أو اجتماعية يتخيلها المتخيلون ممن أعفوا أنفسهم من مشقات الكفاح والكدح والمعاناة والصبر والمصابرة ، فكانت كلمات ضائعة في الهواء ، ليس لها رجع على أرض الواقع ولا أثر ، ذلك ما يعرف في التاريخ الإنساني بالمدارس والمذاهب الفلسفية ، وكانت أيضاً مع هذا وبعد تجارب النبوات السابقة دروساً غنية بالمواعظ تشير إلى مواطن الداء وتصف الأدواء وتشير إلى أسباب النهوض بالأمم وتصف الأسباب التي أدت إلى الانتكاس وعجز الأمم عن مجاراة الآفاق العالية التي كانت تتخاطب معها النبوات السابقة .
وجاء الإسلام فتحاً جديداً وكلاماً معجزاً ولكن معه أيضاً نبوة معجزة ، وكان من أول شيء هدي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حياة الإنسانية ليس كلاماً يقال ولكنه معاناة تعاش ، وليس تصورات يتخيلها الذهن ولكنه مجهودٌ يَوْمِيٌ موصول ، وأما ما وقع في أذهان الذين مضوا من قبل وما يقع في أذهان الناس تحت ضغوط متباينة ومتعددة من أن الفصل بين المعرفة وبين العمل ، بين العلم والممارسة اليومية شيء لا ينبغي أن ينزل في قاموس الإسلام ، إن العلم والعمل قرينان ، بل إن العمل هو المقصود لذاته ، والعلم مصباح ودليل وإشارة يكشف لك جنبات الطريق كي لا تضل ولا تضيع ، وهذا التفاعل المستمر والأخذ والعطاء بين والعلم والعمل هو قوام هذه العملية التي تستهدف اجتماعياً إغناء التجربة الإنسانية ورفع الواقع الإنساني من مستوى الحيوانية التي تدنت إليه هذه البشرية في سلسلة الانحدار المتسارعة يوماً بعد يوم .
ولكن هل هذه البداية تكفي ؟ قلنا إن الحركة الإسلامية كان أمامها عدة خيارات ، كان يمكن أن تسلك هذا الطريق أو ذاك ، ولكنها حركة قيدت من أول يوم بيد الله سبحانه وتعالى ، وكان الوحي حارسها الذي لا ينام ورقيبها الذي لا يغفل ، كل خطوة مسددة بأمر الله تعالى . كان يمكن أن يصرخ محمد صلى الله عليه وسلم في العراء لكي يخرجوا من تلك الحالة الزرية التي كانوا فيها قبل الإسلام ، ما معنى أن يكون آلاف الناس ضائعين في هذه الصحراء المؤلمة ؟ ما معنى أن تكون أمة برمتها ذات تجارب وأبناؤها أصحاب عقول وأرباب حساسيات ومشاعر عالية ؟ ما معنى أن تسخر هذه القوى وأن تجمد هذه المواهب والطاقات لتوضع في خدمة فارس أو توضع في خدمة الروم ؟ وإلى متى يظل العرب في بيدائهم وفي صحرائهم أجراء لدى فارس والروم ولدى الأقوياء من أمم الأرض ؟ كان يمكن أن يصرخ محمد عليه الصلاة والسلام بهذا النداء أن يا أمة العرب توحدي ، وأن يا أمة العرب عزي بعد ذل ، وارتفعي بعد هبوط ، وسودي بعد هوان . وممكن والله أعلم أن تستجيب له بعض القلوب والعقول ، ولكن لم يكن يخطط لشيء من هذا القبيل .
قلنا من قبل إن الإنسانية بلغت في نضجها الحد الذي أصبح جديراً بها أن تأخذ زمام مصيرها بين يديه ، وأن هذا الوحي الذي جاء به محمد صلوات الله عليه آخر شيء تسمعه الأرض من السماء وبعد الآن فعلى الإنسان أن يعتمد على نفسه ، وعلى البشرية أن تحسن الإفادة من هذا الوحي الكريم ، والإسلام جاء بهذه المفادة .. رسالة ليس فقط لهذه الأمة التائهة الضائعة وإنما للناس كافة ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض ) وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ يقول له ويشير إلى ما فرق الله به بينه وبين الأنبياء السابقين إذ كان النبي يبعث إلى قومه وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .(/2)
لكن ، هنا يبرز سؤال : أليس من الجائز كأحد من الخيارات المطروحة أمام الدعوة أن نعتبر أن هذه الرسالة للناس عامة ، لا بأس ، ولكن ما الذي يمنع أن تكون هذه الأمة التي جاء الإسلام ونزل القرآن على رجل منها وكان الوحي بلسانها ولغتها وخوطبت قبل الناس كافة بهذا الخطاب ، ما الذي يمنع أن تتولى هذه الأمة قيادة البشرية جميعاً وأن تكون لها الريادة بالنسبة إلى الحضارة الإنسانية عامة ؟ وإذا رجعنا إلى مقررات الإسلام ولكي يُعرَف أن هذا الإسلام يقاد بالوحي يتبين للدارسين أن هذه الخطوات الأولى تتنافى مع النهايات التي انتهى إليها ، لكي يتبين هذا ، علينا أن نعرف أن الإسلام حين نظر إلى الواقع البشري وضع أصبعه على مرض خطير وداء فتاك يعذب البشرية ويقلقها بالفناء والدمار ، هو هذا التمايز ، التمايز بين أبناء الأمة الواحدة مرفوض في نظر الإسلام ومدان ، وهو أيضاً بين الأمم مرفوض ، كيف لا تقبل أنت أن يكون أخوك ابن أمك وأبيك متميزاً عليك ، كذلك أنت لا تقبل أن يكون ابن بلدك متميزاً عليك ، إلا بما ميّز الله وبما فضل ، وكذلك أنت لا تقبل أن يكون ابن وطنك متميزاً ، وكذلك غير مقبول في الساحة الإسلامية أن يتمايز الناس بعضهم على بعض وأن تعلو الأمم بعضها على بعض.
إن الإسلام يغلق الباب نهائياً ومن أول الطريق في وجه هذا النازع الخبيث أن تكون أمة هي أربى من أمة ، أن يستعلي فريق على فريق ، أن تستذل أمةٌ أمةً أخرى ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن في أية صورة أن يأخذ هذا الطريق . هذا شيء يجب أن يُعرف .
عرفنا الإسلام بغاياته العليا بأهدافه البعيدة ، ما هي الخطوات التي يجب أن نتبعها ؟ كذلك هنا خيارات متعددة ، ولكي يعرف إخواننا وأخص منهم المثقفين ثقافة عصرية أن الخيارات كثيرة ، ألفت نظرهم إلى الساحة المعاصرة ، كم من الأساليب والطرق موجودة بين يدي الناس ، إن الفقه السياسي اليوم وإن علم الاجتماع المعاصر ليزخران بالطرائق والأساليب التي يخطط بها الناس للوصول إلى الأهداف والغايات التي يريدونها ، لكن أمامنا طريقين واضحين ، سوف أشير إليهما مجرد إشارة فقط لأكشف للناظرين عمق التباين بين وجهة نظر الإسلام ووجهة نظر الناس .
عندنا طريق معروف ، في التراث الشرقي في الهند وما والاه ، وهذا الطريق تمثّل على أكمل ما يكون في سلوك غاندي ، هذا الرجل رأى أنه لا ضرورة للعنف ولا داعي لاستعمال السلاح ، ورأى كذلك أن المسألة هذه ليست مسألة مرحلية وإنما هي مسألة مبدئية ونهائية ، وكان سلوك الرجل إقراراً بالحقيقة واعترافاً بالواقع ، كان سلوك الرجل متطابقاً على أعلى ما يكون مع ما يؤمن به ، لقد قارع الاستعمار الإنكليزي في بلاده كما قارع الاستعمار في جنوب أفريقيا يوم كان محامياً هناك بهذه الروح وبهذه العقلية ، لقد أفلح في أن يهز دعائم الإمبراطورية البريطانية يوم كانت أقوى إمبراطورية عدوانية على وجه الأرض ، وطُرد الإنكليز من الهند ، وبالفعل يعود ذلك إلى هذا السلوك الفذ الذي سلكه غاندي وسار عليه ، ولكن ذهب هو ضحيته على يد شاب مجهول أرعن أطلق عليه النار وهو يصرخ بدعوة السلام .
هذا خيار من الخيارات المعاصرة كانت المدارس الماركسية الرد المقابل له ، وطرحت شعاراً هو في ظاهره صحيح ولكن قيادته حتى النهاية مشكلة ومستحيلة ، إن الثورة لكي تكون ناجحة يجب أن تكون ثورة مسلحة لإسقاط السلطة المسلحة ، تلك موضوعة لا شك أنها صادقة حينما ننظر إليها نظرة أولية ، وكلا الأمرين كان يمكن أن يُسلك في ذلك الزمان حينما اتجه محمد عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الناس ، كان يمكن أن يسلك طريق السلام باعتباره مبدأً لا يجوز الإخلال به ، وكان ممكناً أن يسلك سبيل العنف وكان قادراً على ذلك ، كان سبيل العنف أقرب السبل وأدعاها إلى أن يفلح وأن يؤتي أُكله حينما ننظر إلى المسألة بمناهج قريبة ومبسطة إلى حد الابتذال والإسفاف ، يمكن ذلك ، ما زلنا حتى اليوم وفي القبائل العربية في الأرياف وفي البادية أنه حينما يحصل اعتداء على فرد من أفراد القبيلة فإن كل أقاربه يثورون من أجله ويدافعون عنه دون أن يسألوا أنفسهم لماذا هم يحملون السلاح ولماذا يريقون الدماء ؟ وكما كان الشاعر العربي في القديم يقول مادحاً قومه :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهان(/3)
كان يمكن أن يتحرّش محمد صلى الله عليه وسلم بقبائل قريش ولا سيما بعد أن دخل في دين الله أناس من قبائل متعددة كان يمكن أن يوعز إلى أتباعه بأن يسلكوا طريق العنف ، ويكفي أن يقع قتيل أو قتيلان في مكة لكي تتقاتل الأحياء مع بعضها ، ولكي تقع الدماء أنهاراً ، ولكن تكون في النهاية فتنة عمياء . أذلك كان يمكن أن يأخذ به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لا ، لماذا ؟ الإسلام غريبة مفاهيمه في هذه الأيام لأن قعقعة الدعاوي الحديثة بالمناهج والنظم المستحدثة أوقرت الأسماع فلم تعد تسمع إلا قعقعة السلاح ، والعصر الحاضر طرح على البشرية مشكلة من أخطر المشاكل وهي مشكلة هوان الإنسان .
إن الإنسان الثوري يتحدث عن الدماء والقتل وعن السفك وعن العنف بلذاذة وبنشوة دونها نشوة الخمر حين تلعب برؤوس الشاربين ، فمن أجل ذلك حينما نتحدث عن مناهج الإسلام وقواعده في العمل وفي التطبيق نجد هذه الغربة ونحس في نفوسنا هذا الألم العميق .
إن الإسلام يوم أن نظر أيها الأحباب إلى موضوع المستقبل الإنساني نظر إليه متسلحاً بشعور لا ينطفئ بضخامة الأمانة التي بين يديه ، إن مستقبلاً ممتداً في الزمان والمكان ينتظر الناس ، وإن أي خلل في البناء يوشك أن يقع البناء على رأس البناة وساكني البناء ، فمن أجل ذلك كان الإسلام دقيقاً منذ البداية في وضع لبناته الأولى ، وأخذ النفس الإنسانية من مقادها الصحيح . إننا نجد في العنف والقهر والسلطان ولا سيما في الزمان الذي وضع أيدي الدولة حوله حولاً وطولاً ما عرفناها من قبل وسخر لها إمكانات العلم وهي إمكانات مخيفة ، وأمكنها من أن تتغفل الشعوب وتقودهم في طرق لا تريدها ولا تحبها ، في هذه الأيام نعرف إلى أية درجة كان الإسلام حكيماً ، يمكن تحت قهر السلطة وقوة السلاح أن نبني الأمم وأن نشيد البناء ونعليه ولكن عوامل السوس والدمار موجودة ، وهي نُذُر الفناء ومقدمات الموت موجودة ، إن إمكانية الانقضاض على السلطة والثورة في وجه السلطة قائمة ، والفكر السياسي المعاصر الذي يعرفه الشباب المثقفون اليوم أن السلطة مهما تتمتع به من طرق ورفعة وتجرد في الغاية فإنه مع الزمن يصيبها بما يُعرف في الفقه السياسي بتسلم السلطة كيف يدخل تسلم السلطة إلى الجسم فيقتله ويميته ، كذلك السلطة حينما تجد أنها تملك القدرة على كل شيء تصاب بالاستئثار الذي يجعلها تحتقر الشعب ولا تلقي له بالاً ، ترى أنه مجموعة من الأوباش والمغفلين والتافهين والمجانين وأنه سلعة رخيصة يمكن أن تشتريها بدريهمات معدودة ثم تسوقها سوق الأنعام كما يسوق الراعي بعصاه ، بل كيف يوضع فحل الغنم مربوطاً إلى ذيل حمار فيقود الغنم كلها ، كذلك يمكن للسلطة أن تفعل ، يتصورون هذا ، إلا أنه نجد أن حوادث التاريخ ، عِبَر التاريخ الصارخة جميعاً تكشف عن ثمة نقطة هي نقطة الانفجار ، لا يمكن أن تساس الإنسانية بالقهر ، لا يمكن أن تصبر الإنسانية على الغلبة بحال من الأحوال ، وتتحطم السلطة ولكن متى ؟ بعد أن تكون قد دمرت كل شيء وأفسدت كل شيء . ما هي الضمانة التي بحث عنها الإسلام والتي وجدها الإسلام والتي وضعها الإسلام كان كلمةً أولى في نهجه البنائي ؟ هي النفس الإنسانية ، ضمانتنا من أجل سلامة البناء في المستقبل البعيد والقريب على حدٍ سواء أن يستقيم الإنسان على طريق الله تبارك وتعالى وأن يربّى الإنسان هذه التربية التي تجعله قادراً على أن يرى وأن يعتنق الحق وأن يقف مع الحق وأن يضحي من أجل الحق وهذه تكاليف لا يستهين بها أحد من الناس .
فمن أجل ذلك رأينا في السيرة التي قطعناها من قبل ، أن الإسلام أضرب عن هذا الطريق ، ولكنه حين أضرب عن طريق العنف وإثارة الفتن والبؤر الثورية فإنما أضرب عنها نزولاً عند قاعدة أصيلة من قواعده في البناء ، وإنما أضرب عنها من أجل قاعدةٍ أخرى تربوية ، إنما ونحن نبني ونحن نسير ماذا ندري ؟ ندري في المراحل الأولى أن نعد ذلك الصنف من الرجال الذي يستحق أن يوصف بأنه أمين على مستقبل الإنسان ، نحن نعد ذلك الصنف من الناس الذي نثق أنه أمين على حقائق الوحي ، لقد رأينا من قبل في تجارب النبوات السابقة أن الكهنة والأحبار والرهبان خانوا مبادئ السماء فَحَرّفوا كلام الله واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ، ونحن نرى أن مقاليد السلطة وضعت في أيدي رجال خُدع الناس بظواهرهم وخُدع الناس بما يبدو من لين قولهم ومعسول كلامهم حتى إذا ملكوا كل شيء طرحوا عن ظهورهم جلد الضأن ليلبسوا جلود الذئاب ، كل ذلك كان ، ما الذي يفتقر إليه هذا الصنف من الناس؟ هذه التربية الرائعة البليغة التي سلكها محمد صلى الله عليه وسلم ، كان عمله عليه الصلاة والسلام يتواكب ، حين كان يهذّب النفس البشرية ، كان يبني المجتمع الإسلامي .(/4)
قلت قبل اليوم كان من جملة ما يمكن أن يفكر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يزيد عن ذهن أحد أن يشكل حزباً ، اسخروا ما شئتم أن تسخروا ، ما الذي يأتي بخاطر الحزب في ذلك الزمان ؟ لكنه كان وارداً ، ولكن المسألة لا تحلها الأحزاب ، إنها حينما نتصور تصوراً من هذا النوع فسوف ننتهي إلى نتائج راهنة نحن في غنى عن الإفاضة في شرحها ولكن نشير إلى أن الحزب قانونه الأساسي الذي يتحكم به هم القلة ، فالحزب في كل أمة قلة في وسط كثرة ، الحزب الشيوعي في روسيا في عام 1917 حينما نجحت الثورة الروسية كان يعد مائتي ألف إنسان منظم ملتزم بالحزب وسط مائة وخمسين مليون من الناس ، فهو قلة قليلة ، وهذا شأن كل حزب . حينما تتوفر ظروف الحكم ، ودعونا من التفسير المادي والحتميات التي لا معنى لها والكلام الفارغ الذي تفلسف به هذه الأمور ، دعونا مع الواقع ، إن فرصاً تعرض أثناء مسيرة المجتمع ينتهزها بعض الأذكياء فيقفزون على السلطة في غفلة عن الآخرين ، وحينما يضعون مفاتيح السلطة في أيديهم يفعلون ما يحلو لهم عند هذه النقطة تبدأ المشاكل إلى أن يكون الاستيلاء على السلطة فالأمر طبيعي ، ولكن الأمور تكون غير طبيعية والمشاكل تبدأ عند هذه النقطة . إن الحزب يعاني دائماً هذا الشعور الناتج عن إحساسه بأنه قلة في وسط كثرةٍ تعاديه ، ماذا يفعل ؟ إنه مضطر للمحافظة على ذاته والمحافظة على بقائه ، تلك غريزة المحافظة على الحياة والبقاء ، غريزةٌ مشروعة وحيوية يحس بها حتى حيوان الأميبيا ذي الخلية الواحدة حينما تحرضه يستجيب للتحريض دفاعاً عن نفسه .(/5)
فغريزة حفظ الذات تجعل الحزب حريصاً بل حساساً غاية الحساسية في هذه القضية إنه محتاج إلى أن يحافظ على بقائه ، إنه حين يفرّط في بقائه ينتحر ويموت ، فهو إذاً بحاجةٍ إلى البقاء . ماذا يفعل القليل بين الكثير ، يفرق ويمزق ويضرب صفوف الناس بعضها ببعض كي يوقع الناس في خبالٍ حتى يتبين خطوات أخرى ، يركز بها نفسه أكثر . وهكذا دوامة لا أفظع منها ولا أبشع منها ولا أخطر منها . كل الكرة الأرضية الآن تعاني من هذه الأزمة وهي موجودة بحمد الله يعرفها القاصي كما يعرفها الداني ويعرفها المثقف كما يعرفها قليل الثقافة . فالإسلام لم يكن أمامه سبيل كي يختار هذا الخيار ، إطلاقاً ، لأن المسألة حينئذ تتصادم مع جلة المعطيات التي جاء بها الإسلام ، كل معاني الاخوة والمساواة والعدالة تذهب هباء حينما تكون القضية قضية دفاع عن الذات ، قضية محافظة على البقاء ، قضية حياة أو موت ، فأنا مضطر إلى أن أعطيك وأشتري ولاءك ، وأنا مضطر إلى أن أجاملك وأغضي عن سيئاتك ، وأنا مضطر إلى أن أتحمل منك ما يحتمل وما لا يحتمل . وتاريخنا الإسلامي بالذات في مراحله البعيدة مليئ بالشواهد على هذا ، لقد وجدنا في تاريخنا عدداً من الخلفاء يكسرون قواعد الإسلام ليشتروا الأنصار والأعوان ليسكتوا أفواه الخصوم . هذا شيء طبيعي فهل كان الإسلام يستطيع فعل شيء كهذا ؟ لا، إذاً ماذا ؟ هنا السؤال ، السؤال الذي حارت الإنسانية فيه فعلاً منذ كانت الإنسانية ، وجاءت النبوات جميعاً لتتمخض عن هذه التجربة العالية التي جاء الإسلام ليدعم بناءها ويشيد أركانها . ماذا يفعلون ؟ إن القوة الصغيرة ضمن المجتمع الكبير لا تستطيع أن تهيمن وتسيطر إلا على جبال من الأشلاء والجماجم وإلا على أنهار وسيول من الدماء . هذه موضوعة صادقة مائة بالمائة في تاريخنا المعاصر وفي التاريخ القديم ، ولكن كل الحركات التي بدأت بدايات من هذا النوع انتهت إلى فشل ذريع وإلى عاقبةٍ محزنة ، لأنها أغفلت أن تبدأ منذ الأساس . إننا حينما نبني البناء بناءً صحيحاً سوف نصل إلى ما نريد ، أول شيء رأيناه يُطرح علينا أن نمسك بزمام أنفسنا فنعدّها عبر الآلام والمتاعب والصبر والمصابرة لكي تكون قادرةً على الوقوف في وجه الصعوبات مهما تكون هذه الصعوبات ، من أجل ذلك كانت مرحلة الدعوة الأولى ابتداءً من أول الوحي ، وانتبهوا يا إخواني من الشباب كي لا تزل بكم القدم في متاهات لها بداية وليست لها نهاية ، كان الإسلام يأخذ نفسه وأتباعه بأن يبني هذا خلال مرحلة الدعوة من أول النزول وإلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت المسيرة تمشي وكان عدد المسلمين يزداد وكان الإسلام ينتشر وكان صوته يُعرف بين القبائل ، وكان المسلمون خلال ذلك يتحملون المتاعب ويتعرضون للآلام . وكثير ما جاء أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون له : يا رسول الله أنت ترى كذا وترى كذا وأنت أنت الكريم على الله يصيبك من أذى أعداء الله ما يصيبك إئذن لنا لنقاتل ولندفع عن أنفسنا ، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً قاطعاً كالسيف : إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد وكان يربط إلى الشجرة ويؤتى بالمنشار فيشق نصفين ما يصده ذلك عن دين الله والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى مكة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . كانوا يطلبون منه أن يسمح لهم أن يردوا الاعتداء عن أنفسهم ، غريزة الدفاع عن النفس ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عليها بيد من حديد ويلجمها إلجاماً لا يسمح لها أن تتحرك ويقول لهم : لم يأذن الله لنا بالقتال . أكانت عين الله نائمة عن هذا البلاء الذي يسلط على أحبابه ، الذين عبدوه ، هذه الفئة القليلة التي آمنت به ، على هذه الرقعة من الأرض التي لا يوجد غيرها تعبد الله وتوحد الله ؟ الله جلّ وعلا يراها ويسمع ويعلم وهم بعينه ، ولكن الله يعلم وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه النفوس التي تُعدّ الآن في بحار من الدماء خلال الكوارث والأهوال ، خلال الصعوبات والمشقات ، خلال الأذى الذي ينصب عليهم في الصباح والمساء وما بين ذلك ، هذه النفوس تُعدّ لاستلام زمام الحياة ، وتُعدّ للقوامة على الجنس البشري برمته ، وأنها محتاجة لأن تطهر من الأدران وأن تطهر من الشوائب ، وأن القتال لا يؤذن به إلا للضرورة التي يحسها الطبيب حين يشعر أن العلة لا يجدي معها العلاج ولا بدّ أن يتدخل سكين الجراح . ولهذا نحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع منعاً باتاً من استعمال العنف ، وبعد الهجرة حين تكونت للمسلمين دولة وقامت لهم أمة أنزل الله عليهم ( أذن للذين يقاتَلون ) وليس ـ يقاتِلون ـ ( بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) أذن الله جلّ وعلا بعد خمس عشرة سنة من هذا البلاء الواصب ومن هذا العذاب الشديد أذن(/6)
للمسلمين أن يمتشقوا الحسام وأن يرفعوه في وجه القوة الباغية .
ونتساءل هنا : هل القتال ضرورة من ضرورات الدعوة ؟ لا ، بكل تأكيد ، إن الضرورة المطلقة في الدعوة هي البلاء ، وأي مجتمع وأي قوم فتحوا صدورهم وفتحوا بلادهم لسماع هذه الدعوة فإن استعمال السلاح محرم ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، لأن من مقررات الإسلام الثقة بالعقل الإنساني والثقة بالإدراك الإنساني بعد أن تمهد السبل أمامه لكي يرى وينظر ويفكر ويحاسب نفسه مفصولاً عن الضغوط التي تضغط عليه من كهنوت ورأسمالية ومن سياسيين يضغطون عليه ، إذا طُهرت الأرض من هؤلاء فالإنسان خليق أن يجد طريقه إلى الله تبارك وتعالى . ولكن مهمة من هذا القبيل ليست شيئاً هيناً ، إننا يجب أن نصل إلى الصيغة التي تستطيع الثبات أمام هذه الزعازع التي تثور من حولنا ، ما هي الصيغة ؟ إن الإسلام اهتدى إلى صيغة قريبة فعلاً وكان يجب أن يفكر فيها الناس ، والمؤلم الذي حدثتكم عنه أول هذا الكلام هو أننا في العصر الحاضر ما زلنا نتلمس هذه الصيغة تلمس العميان مع الأسف ، إن المسألة قريبة ، إن كل حركة يمكن أن تثور في وجه السلطة كفيلة بأن تفشل ، وإن السلطة قادرة على تحطيمها بتحريك قطعة صغيرة من قطع الجيش ، ولكن قطع الجيش جميعاً تفشل أمام الإرادة الشعبية المجمعة على أمر معين . إنك تستطيع أن تحطم يد الإنسان لكنك لا تستطيع أن تحطم قلبه ، إنك تستطيع أن تقيد يديه ورجليه ، ولكنك لا تستطيع أن تقيد إرادته ، إن تحرير الإرادة وتحرير العقل وربط الإنسان المسلم بالمجتمع الذي يفيء إليه هو الطريق الذي وضعه الإسلام حلاً لمعضلة الإنسان المزمنة . فمن أجل ذلك قلت لكم ارجعوا إلى الوراء قليلاً وانظروا ، فستجدون في الفجر وقبل الفجر أن الإسلام بعد أن مكّن عرى الإيمان بالله جلّ وعلا بين الناس طرح عليهم أموراً ذات أهمية ، طلب منهم حينما كانوا يسلمون فيلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون طاقاتهم في خدمة الدعوة مجندة لذلك ، ليس في المسألة انتساباً لحزب يدفع من أجل ذلك اشتراك ، المسألة أكبر وأخطر ، إن المسألة انتساب إلى مجتمع ، والانتساب إلى المجتمع يعني الفناء في المجتمع ، يعني هبة الذات للمجتمع برمتها دون أن يختزل منها شيء ، فمن أجل ذلك كان الإسلام من بواكيره الأولى يطلب من المسلمين إمكانياتهم جميعاً كل ما لديك من مال ، كل ما لديك من طاقة ، يجب أن توضع بين يدي رسول الله أي بين يدي الدعوة . والدعوة بذلك تقوم على أقدامها وتشكل مجتمعها وتحس أحاسيس ، وتحس ذلك الإحساس المؤلم أنها قلة في وسط كثرة ، وأنها ضعف إلى جانبه قوة ، وهذا إحساس مباشر وصحيح ، كل إنسان يشعر به ، لكنكم تدركون تماماً ما أثارته الآيات حينما ذكر الله شأن عاد وثمود وفرعون ، متى تموت الأمم ؟ تموت حين يسكن الرعب في قلوبها ، نحن انهزمنا في العصر الحديث أمام إسرائيل ونحن جيوش كبيرة وأعداد كثيرة ، أمن قلة ؟ لا ، أمن نقص في التسلح والتدريب ؟ لا ، ولكن لذلك الرعب والخور الذي يسكن في القلوب ، كنا نتصور الجندي الإسرائيلي كائناً لا يُغلب ، وجندينا يدخل المعركة وهو واثق بالهزيمة ، يعرف أنه يقاتل ولكن وجهه إلى الوراء ، يفتش عن مواطن أقدامه حين يفر من المعركة ، من أجل ذلك انهزمنا . وحينما نقلب صفحات التاريخ فنحن نجد أن التتار حين تغلبوا على العالم الإسلامي ما تغلبوا عليه خرقاً لقوانين الوجود أبداً ، وإنما تغلبوا عليه تساوقاً مع قوانين الكون ومع سنن الاجتماع ، إنما الأمة باقٍ بها التمزق والعصف الحالة التي أطمعت بها الأعداء وجعلتها تعيش هذا الرعب الذي تحس به تجاه السلطات الحاكمة وتجاه الأمم المجاورة ، فمن أجل ذلك لا نستغرب حينما نقرأ في تاريخنا أن الجندي التتري كان يأتي إلى المسلمين فيجمع ثلاث مائة أو أربع مائة من المسلمين ولا يكون عنده خنجر ولا سيف ، يقول لهم : قفوا صفاً واحداً ، وانتظروني حتى أجلب السيف لأذبحكم ، وبالفعل يذهب التتري وهذه البغال واقفة في مكانها ويعود بالسيف ويقتلها واحداً واحداً ، لو أن واحداً منهم ضربه بقدمه لقضى عليه ، ولكنهم لم يفعلوا ، لماذا ؟ لأن الرعب في قلوبهم .(/7)
إن الإسلام عالج هذه القضية ، وحين أثار قضية عاد وثمود وفرعون والأمم التي بادت من قبل والتي عاشت كانت لها حضارات وسلطات وصولة ودولة تهمدت وتحطمت ، فلا ينبغي لأحد أن يسأل عن الكثرة والقلة ، وإنما ينبغي أن يسأل عن الصحة وعدم الصحة ، عن الصواب وعن الخطأ ، مجتمعك حين يكون سائراً على طريق صحيح وقائماً على قواعد سليمة فلا تسأل ، إن المستقبل معك ، ولكنك حين تقوم مركزاً على قواعدك الخاطئة فمهما يكن لك من أساطيل ومن جيوش ومن طائرات فأنت لا بد فاشل ومنهزم ، إن الإسلام ثبّت هذه القضية في عقول المسلمين ، فمن أجل ذلك رأيناه تبارك وتعالى يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن الشدة بعد أن ذكر له أنباء القرون الخوالي ( ألم نشرح لك صدرك ) كان محمد عليه الصلاة والسلام يعيش هذه الزعازع المتلاطمة كموج البحر المظلم وهو منشرح الصدر واثق من المستقبل قانع بأن الله الذي أوحى إليه هذا الدين سيقوده إلى النصر لا محالة ، كان عليه الصلاة والسلام يقود الأمة بهذه العزمة التي لا تبلغها عزمة ، ومن الخير أن نتذكر أن هذه العزمة التي وجدت في نفس محمد عليه الصلاة والسلام وشحن بها قلبه كانت عدوى تسللت إلى قلوب الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم ، وما من أحد يجهل أن الإنسانية بمفكريها اليوم يعجبون كيف أمكن لهذه الأمة الضعيفة المستضعفة أن تسيطر على العالم القديم كله في أقل من قرن واحد من الزمان ؟ كيف أمكن ذلك ؟ ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب . إن المسألة واضحة ، بناء المجتمع كان منذ البداية كي يفيء إليه الناس ويلتزمون به التزاماً مصيرياً بدل الانتساب إلى الحزب انتساب إلى المجتمع ، بدل انتساب إلى المنظمة الانخراط في حياة المجتمع اليومية وممارسة للشعارات والقضايا والوقائع التي يضعها الوحي في أيدينا . بهذا نجح الإسلام ، وبهذا حُق لنا أن نقابل الآن سورة العصر لنرى أنها لا تخاطب أفراداً ، ولكنها تخاطب كينونة معينة بلغها المجتمع المسلم ، تخاطب المجتمع الذي أرسى قواعده محمد صلى الله عليه وسلم ، وقاد خطواته شيئاً فشيئاً ، ووضع لبناته لبنة بعد لبنة ، كم كان يطيب لي أن أعفي نفسي من هذه المقدمة الطويلة وأن لا أثقل على عقولكم . أنا أعرف أن ما يثار من قضايا ونحن نواجه أوليات الوحي قد يكون صعباً على كثير من العقول لكن من زمن بعيد قلت لكم أنني قررت أن أدخل معكم من الباب الضيق ، لقد تعودنا على الرخاوة والطراوة ، تعودنا على لين العيش وإعفاء النفس من التكاليف وعلى تعطيل ملكات الفكر والرأي والنظر ، وذلك كله ضلال بعيد ، وآن لنا ونحن نخطو طريق مستقبلنا أن نعرف خطوات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورة القمر
الجمعة 2 ذي القعدة 1397 / 14 تشرين الأول 1977
( 2 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فهذه هي الوقفة الثانية مع سورة جليلة هي سورة القمر ، ولولا بعض التعقيبات التي أراها ضرورية لتصحيح بعض المفاهيم ولتحديد معالم الحركة لكان لازماً أن أمضي في تنفيذ الوعد الذي قطعته لكم منذ جمعتين أن لا أطيل الوقوف مع القضايا الثانوية ، وأن أعمل على إبراز القضايا الرئيسية التي تتصل بالمحور الذي نهتم له ، طبعاً دون عدوان على المنهج ولا تحيّف من هذه القضايا الأساسية .
وفي الجمعة الماضية أتيت على تلخيص أتصور أنه طيب للسورة الكريمة ولعله أن يكون مغنياً إن شاء الله تعالى . لكني وعدت أن أعود إلى بعض النقاط بسبب ما ضاق علينا من الوقت ، فنقول مستعينين بالله تعالى ، أول هذه النقاط التي نريد أن نقف عندها قليلاً ولا نزعم أننا نمنحها حقها من التمحيص والدرس ، هي ما تعرضت له فاتحة السورة وما كان السبب في منحها الاسم الذي سميت به وهو حادث انشقاق القمر .
ولقد كان يغني ما قلناه في الجمعة الماضية لولا أننا نعيش عصراً غريب التلاوين شديد الوطء على أهله ، لا تكاد تعثر بين عشرات الألوف من أبنائه على واحد فقط يستطيع أن يملك لعقله حرية الحركة . إن حادث انشقاق القمر جاء ذكره في السورة الكريمة كما يلي ( بسم الله الرحمن الرحيم ، اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ) وأوردت لكم في الجمعة الماضية بعضاً من نصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبنت لكم وأظنني ذكرت لكم بعض الأسانيد أن الحادثة نُقلت في صحاح الحديث بأسانيد كالشمس وضوحاً ، والرواة الذين نقلوا إلينا هذه الحادثة هم ذاتهم الذين نقلوا إلينا شرائع الله في الحلال وفي الحرام ، أي هم الذين حملوا إلينا علم القرآن وسنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن هذا الباب فإن الطعن في هؤلاء الرواة الكبار شيء لا يدعو إلى الارتياح .
إن كل المفسرين القدامى يقفون عند حدود الروايات ويثبتون ما جاء بها ، ويتفقون على أن حادث انشقاق القمر حادث وقع قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وبعضهم يذهب إلى تحديد الزمن الذي وقع الحادث فيه بنحو من خمس سنين من قبل الهجرة أي في حدود السنة الثامنة أو أواخر السنة السابعة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولن يأتينا بطائل تحديد الزمن ، لكن الشيء الخطير حقاً هو البحث في ثبوت الواقعة أو عدم ثبوتها . وبطبيعة الحال فنحن من حيث المبدأ والأساس مع كل القائلين بأن رسولنا عليه الصلاة والسلام في غنى عن الخوارق والمعجزات الحسية والكونية ، ونحن أيضاً مع جميع القائلين بأن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ، ولكنا لسنا معهم في حال من الأحوال حينما يكون هذا القول من باب دغدغة العواطف وتملق الحس الديني لدى المسلمين لكي يكون هذا القول من بعد ذريعة إلى نسخ ما جاءنا بالطريق الثابت الصحيح من خوارق حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام .
القدامى من المفسرين ولست أزعم لنفسي أنني شديد الولوع بما قال الأقدمون فأنا قانع بأن الحياة حركة وتجدد وأن الإنسان الذي يجمد على نحو واحد إنسان يفقد حقه بأهلية الحياة الكريمة ، وأن الأمة التي لا تعرف هذا الطريق الصاعد باستمرار نحو التقدم والنماء أمة مجردة من أية رسالة يمكن أن تتقدم بها إلى الناس وتسهم بسببها في خدمة البشرية . ولكني أميز بدقة وبوضوح كافٍ بين التجدد وعوامل الثبات في هذا الدين ، إنني أفهم أن تتطور الأمة دائماً ، ولكني لا أفهم أن يأتي كلوف جاءوا بعد أن فسد اللسان وتلوثت السليقة وذهب حس اللغة وذوق اللغة ليستدركوا على أهل اللسان نبضات في هذه اللغة يزعمون أنها ذهبت عليهم . لا أستطيع أن أفهم هذا من أكبر المتعمقين في لغة العرب حينما يريد أن يستدرك على أعرابي جافٍ حافي القدمين شعث الشعر يعيش في أعمق أعماق البادية من أهل هذا اللسان .
وإنني أفهم التجدد ولكني لا أفهم الهزيمة العقلية ولا الهزيمة الشعورية أمام منجزات مادية يراد لها أن تكون هي البديل عن أنبل ما عرفته الإنسانية وهي معالم هذا الدين .
إن المفسرين القدامى أجمعوا على أن الحادثة وقعت ، وجاءت الرواية في ذلك بألفاظ ونصوص تتفاوت بعض الشيء ولكنها تجتمع لتزيد وقوع الحادثة ثباتاً ووثوقاً ، وفي بعض الروايات أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ، وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق له القمر نصفين ، وفي بعضها انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نصفين فقال لأهل مكة : اشهدوا . وفي بعضها أن الملأ من أشراف قريش طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية يعرفون منزلته عند الله وكرامته عليه فأراهم القمر منشقاً نصفين .(/1)
أما سلفنا العاقل المدرك صاحب اللسان والمالك لقدر هائل من التربية الإيمانية الوثيقة فقد وقف عند حدود النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما الخلائق التي جاءت بعد فيؤسفني جداً أن أقول إن معظم الذين قرأت لهم حتى الآن مصابون بهزيمة عقلية أمام الضغط الحضاري العنيف الذي يعيشه المسلمون وغير المسلمين ، إنهم يقولون إنه لا توجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا القرآن وما كان من شيء خلا ذلك فهو وهم واختلاق . وهذه القضية لا تتصل فقط برد رواية ، ولا أدري كيف تأتيك رواية ما من طريق فلان عن فلان عن فلان يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وتكون في الحلال والحرام وتكون في شرائع الدين وأصول الاعتقاد فتقول : هذه رواية صحيحة والحكم الذي تضمنته لازم ، ثم تأتيك رواية أخرى من نفس الطريق بالذات بنقل الرجال بأعيانهم فتقول : إنني أرفض هذه الرواية وأشك في صحتها . ماذا نسمي هذا إن لم يكن تحكيماً للهوى في نصوص هذه الشريعة ؟ أحب قبلاً أن أقول إن الإسناد وهو نقل الوقائع والأحكام عن طريق الرواة الذين ينقلونها واحداً عن واحد أو قوماً عن قوم أو جيلاً عن جيل خصيصة هذه الأمة التي لا يشاركها فيها أحد .
ولعل الذين لهم اطلاع على مبادئ علوم التاريخ يعرفون أن التاريخ كله إنما يعتمد هذه الطريقة ، ولكن ليس بدرجة من التوثق تبلغ الدرجة التي بلغها المسلمون ولا عشر معشارها أيضاً ، فالمسلمون عُنوا أبلغ العناية بالتوثق لما ينقلونه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم يعلمون أن هذا الذي ينقلونه دين ، وهو دين لازم للأمة إلى أن تقوم القيامة ، وذلك يعني أن الاحتياط واجب وضروري ، وأن التهاون والتساهل في قبول الروايات تحميل للأمة ثقلاً وأغلالاً لم يأذن بها الله تعالى ولم ينزل بها سلطان .
جماهير المفسرين المحدثين يقولون إن حادث انشقاق القمر لم يقع ، وما جاء في نظم الآية من قوله تعالى ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) فإنما ذلك يكون قرب يوم القيامة حين يأذن الله تعالى بخراب الدنيا ، ويعتمدون في ذلك رواية مكذوبة تنسب إلى الحسن البصري وهو من كبار التابعين رضي الله عنهم أجمعين من أن هذا يكون يوم القيامة . والتعبير بقوله تعالى ( وانشق القمر ) بصيغة الماضي هو تعبير يراد منه تأكيد الحدوث ولا يراد منه تحديد الزمن وهو أسلوب معروف في أساليب البيان العربي . ونحن لا نحتاج إن شاء الله تعالى إلى من يدلنا على خصائص البيان العربي وطرائق الأسلوب الذي يتخاطب به العرب والذي نزل به القرآن وتحدث به محمد صلى الله عليه وسلم .
ولكن المسألة ليست هنا ، المسألة فيما نرى ليست موضع اجتهاد ، فإن من علماء المسلمين من قرر أن حادث انشقاق القمر حادث نُقل بصورة تبلغ مبلغ التواتر ، وما نُقل إلينا متواتراً فلا سبيل إلى رده ، لأننا حينما نرد النقل المتواتر فنحن ضرورة نرد نقل القرآن ، لأن القرآن نُقل إلينا بطريق الكافة عن الكافة جيلاً من بعد جيل ، وهذا هو طريق التواتر , ومهما يكن من شيء فلكي تحدد المشكلة ويستبين الخطر فإن علماء الإسلام حددوا مبحثاً خاصاً يتعلق بمنكر انشقاق القمر ، وبحثوا هل يكفر من ينكر وقوع الحادثة أم لا ؟ والجمهور على أنه لا يكفر ، ذلك لأن التواتر لا يثبت ، صحيح أنه جاءنا عن خمسة أو ستة من الصحابة رضي الله عنهم بالطريق الصحيح المثبوت بصحته ، وصحيح أن الواقعة رويت في جميع كتب الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد بأسانيد لا سبيل للشك فيها ولا تعلق بها شبهة ، ولكن الصحيح أن منكر هذه القضية لا يكفر وإنما أذكر هذا لبيان خطورة المسألة فقط .
إن المسألة لا تتصل بإنكار حادث فردي ، فنبينا عليه الصلاة والسلام أجل وأعظم وأكرم على الله من أن يكون محتاجاً لأي شيء ، ولكن هذه قضية ، وإكرام الله تعالى لمن يشاء من عباده بلون من الكرامة قضية أخرى ، وما جاء في السورة وما جاء في الأحاديث يؤكد الواقعة ، والشك الذي حصل لدى جمهور المفسرين المحدثين والمعاصرين جاء من طريق الهجمة العنيفة الشرسة على الإسلام وعلى نبي الإسلام وعلوم الإسلام .. سأنشّط ذاكرة الذين يذكرون ، حينما كنا واقعين تحت الاستعمار الفرنسي في هذا البلد كان الذين يلبسون مسوح الإنسانية ويشتغلون في مهنة الطبابة والتمريض يدورون في القرى والمدن بحجة مكافحة الأمراض ومدواة المرضى وفي يدهم زجاجة الدواء وفي اليد الأخرى الإنجيل ، وفي رؤوسهم شيء واحد هو الحقد الدفين المر على الإسلام ونبي الإسلام وكتاب الإسلام وتاريخ الإسلام ، وفي قلبهم نبض واحد هو التحسب والخوف من أن تستيقظ هذه اليد التي دقت أبواب أوروبا وهددت عواصمها في الماضي لتعطل عليهم مسيرتهم في امتصاص الدماء ونهب الثروات وإذلال عباد الله .(/2)
كانوا يسيرون في القرى وفي المدن ليقولوا للناس إن نبيكم ليس له معجزات ولكن عيسى أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وكان يعلم الناس بما يدخرون في بيوتهم وكان وكان .. وموسى ألقى عصاه بشهادة قرآنكم أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون ، و ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، ومشى فيه موسى ومن معه من بني إسرائيل كما يمشون على اليابسة حتى إذا أنجاهم الله إلى البر انطبقت شعبتا الماء على فرعون ومن معه فأهلكتهم ، فماذا عند نبيكم من معجزات .
حيثما ذكرتَ لهم من معجزة يعمدون إلى إنكارها ويقولون هذه غير صحيحة ، وأمضى الأسلحة في أيديهم أن هذه المعجزات ينقلها أناس لا يُدرى حالهم من الضبط والإتقان والدراية والإدراك .. فهي إذاً موضع شك ، وما كان بهذه المثابة فهو خليق بأن يُرد .. هذه واحدة . الثانية : إن العلوم الكونية المستحدثة كشفت أشياء لا نقول إنها جديدة بمرة ، فالعلم وعلم الفلك والرياضيات بصورة خاصة توصلا منذ عصور ازدهار الإسلام إلى وضع مقاييس ثابتة لحركة الكواكب وقياس النسب والأبعاد ، ولم يكن علماؤنا الماضون الذين تطفّل العلماء المحدثون والمعاصرون على موائدهم يجهلون أن هذه الكواكب المزروعة في جو السماء لها كتلة ولها كثافة وهي فيما بينها ذات نسب ، لو اختلت هذه النسب لحدث تخرّب كوني هائل ، لم يكن علماؤنا يجهلون ذلك . ولكنهم ما كانوا بدرجة من الضلال كالتي عليها المهزومون من أبناء جلدتنا في هذه الأيام ومنذ مطالع هذا القرن .
يقولون لك إن القمر يمارس جذبه بالنسبة إلى الأرض وبالنسبة لما حوله ككل كوكب آخر ، فلو أن القمر انشق فعلاً لحصل خلل في قانون الجاذبية يؤدي إلى عدمٍ في التوزع النسبي الموجود في الكون ، وهذا هو ما يؤذن بتحطم الكون وانحلاله وخرابه . العلماء المحدثون يقولون هذا ولكنهم يُغفلون حقيقة بحثها العلماء المسلمون من قديم وهي أيضاً مبحوثة في الفلسفة القديمة ، لو أن هؤلاء المحدثين ممن يتقحّمون القول على كتاب الله بغير روية وبلا تبسّط أحسنوا الانتفاع بما قال الأقدمون .
إن علماءنا بحثوا في العلاقة بين السبب والنتيجة ، بين السبب والمسبب ، قالوا : إن السيف بطبعه قاطع ، والمشهود من التجربة أنك إذا ضربتَ به الجسم مضى فيه ، والمعروف أن الماء قاطع للعطش ، والمعروف عادة وطبعاً أن العطشان إذا شرب الماء انقطع عنه لغوب العطش ، والمعروف أن النار محرقة ، وأنك حين تلامسها تحترق يدك . كل ذلك معروف طبعاً وعادة ، ولكن السؤال ليس هنا ، السؤال في الآتي : هل العلاقة بين السبب والنتيجة علاقة ضرورية لا تنفك ولا تنفصل أم أنها علاقة معية ومصاحبة ؟ ذهب معظم فلاسفتنا ممن لم يتأثروا بنخالة الفكر اليوناني ولا بزبالة الفكر الروماني والمسيحي إلى أن السبب والنتيجة يتعايشان والعلاقة بينهما علاقة مصاحبة ومعية . بمعنى أن الإنسان يحصل له الرواء حينما يشرب الماء ، ولو شاء الله جل وعلا لجعل الماء غير قاطع للعطش ، وأن المحترق يحترق لا لأن الاحتراق لازم للنار ، ولكن الاحتراق يحصل مع وجود النار لا بسبب النار ، وإنما بين السبب والنتيجة ، من هنا فليس شيئاً يحيله العقل وليس شيئاً يرده المنطق أن تتعطل بعض النواميس وأن تبطل بعض الأسباب وأن تتخلف بعض النتائج عن أسبابها . هذا على مستوى النظري .
ولقد كان علماؤنا الماضون رضي الله عنهم إذا جاءهم الأمر من كلام الله أو من كلام رسوله عليه الصلاة والسلام لا يبحثون في تعليله وإنما يبحثون في مدى ثبوته ، فإذا ثبت بالدليل القطعي فعلى الرأس والعينين ، وإذا لم يثبت ردّوه غير آسفين . وحينما يثبت لا يقولون : لمَ ؟ ولا يقولون : كيف ؟ وإنما يفسرون ما يعرفون ويتركون علم ما يجهلون تفسيره إلى الله تعالى . ذات يوم حدّث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث فقال له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : كيف ذلك ؟ قال له أبو هريرة : يا ابن أخي إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال . إياك ، المسألة ليست مسألة كلام يجوز لنا أن نأخذ منه أو أن نترك ، المسألة أنها كلام النبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى ، فما عرفتَ فاعمل وافهم وفسّر ، وما لم تعرف فكِل العلم إلى العالم ، إن من وراء هذا علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً . ودعك من هذا ، إن من وراء ذلك مسيرة علمية بشرية كونية ماضية في طريقها ، ما جهلته اليوم من جوانب العلم فستعرفه غداً أو بعد غد أو بعد عشرات أو مئات السنين .. فالتهجم على الإنكار لمجرد الإنكار فضيحة عقلية ، وأقول فضيحة عقلية لماذا ؟ لأن حادث انشقاق القمر الذي كبر على المعاندين والمهزومين أن يقروا به برغم وثاقة الطرق التي بلغنا بها حادث واقع وثابت بالخبر وبالأثر .(/3)
منذ مدة قليلة أقل من عشر سنوات كتبت صحيفة أجنبية وهذا كلام نقوله للذين يحتقرون كل نتاج محلي وينحنون ذلة وخضوعاً لكل نتاج أجنبي ، كتبت جريدة أجنبية تقول : إنه تمّ الكشف عن معهد بوذي في الشرق الأقصى ، ووُجدت عليه كتابة وقرئت الكتابة ، وكان مفادها كالآتي : إنه حدث في عصر مضى حادث كوني رهيب هو أن القمر انشق نصفين ، وحينما حُسب تاريخ الكتابة وُجد مطابقاً تماماً للحادث الذي جاءت أحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إليه . وفي رسالة للدكتور محمد محمد السماحي من كبار علماء الأزهر إشارة أخرى إلى واقعتين أثريتين أخريين تثبتان حصول هذه الواقعة . فماذا يقول المهزومون ؟ إذا حصلت الواقعة بهذا الشكل يقرون بها ، لأنها جاءتنا عن طريق الأجانب ، وأما حين تأتينا عن طريق القرآن وعن طريق السنة النبوية فنحن لا نخجل من التحايل على نص القرآن لكي نصرفه عن وجهه ، ولا نخجل من اتهام أوثق الناس على الإطلاق بأنهم واهمون أو كاذبون حينما ينقلون إلينا الأخبار . وإذاً فواقعة انشقاق القمر حادث لا مجال لنكرانه .
بقيت حول هذه النقطة أريد أن أشير إليها ، وصاحبها عزيز علي وعلى كل مسلم ، ولكن الحق دائماً أعز من أي إنسان ، إن أستاذنا شهيد الإسلام المرحوم سيد قطب رجل معروف بالتقى ، ومعروف أنه شديد الاحترام لما ثبت في السنة النبوية ثبوتاً قاطعاً ، ولقد تعرّض لهذا الأمر ، وفي تقديري أنه لو لم يعالجه الظالمون بالمؤامرة التي حيكت في موسكو ونفّذت على يد الجلادين في مصر لكان خليق بأن يعيد النظر فيما كتب ، وأن يقول غير الذي قال . إن الرجل عليه رحمة الله ورضوانه يورد الأحاديث التي ذكرنا جانباً منها ، ويقرر أن الحادثة واقعة ولا مجال لإنكارها على الإطلاق . ولكن ليست هي المعجزة الكونية ، وإنما هي كرامة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وآية ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طلب من المشركين . قد يكون هذا الكلام غامضاً أو غير مفهوم من قبل البعض . إن الأستاذ سيد قطب رحمه الله يستند في ذلك إلى عموم من عمومات القرآن ، عندنا في سورة الإسراء آية تقول ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ) ومنذ عدة سنوات وفي غير هذا المكان وغير هذا البلد سئلت هذا السؤال : ما معنى قول الله تعالى ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ) ؟ وقلت يومها كلاماً مغنياً حول هذا الموضوع يتعلق برد الأمر إلى شيء يتصل بصميم الرسالة إلا أنني هنا أحب أن ألقي الأضواء على جوانب أخرى .
أولاً ـ قلت إن الأستاذ رحمه الله أقرّ بالحادثة ، لأن بين يديه أحاديث لا مجال لردها ، وهو كما قلت لكم شديد الاحترام لما ثبت بالنقل الصحيح عن رسول الله ، ولكنه فرّق بين الآية والكرامة والمعجزة ، وهو تفريق لا معنى له ، وحينما بحث ابن تيمية وهو من أئمة الإسلام وهو رجل يُرمى من قبل الجاهلين المغفلين المضللين بأنه عدو للنبوات وعدو للمعجزات حينما بحث رضي الله عنه موضوع النبوات لم يفرّق بين المعجزة التي تكون للأنبياء وبين الكرامة التي يكرم الله بها بعض أوليائه ، وقال إن المعجزة والكرامة من باب واحد على اعتبار أنهما خرق لناموس من نواميس الكون ولما جرت به عادة الله في خلقه وعادات الناس فيما بينهم .
فالتفريق بين المعجزة والكرامة تفريق يشبه أن يكون تفريقاً لفظياً ليس له محصل عملي ، وحينما يقول إنها آية جاءت إكراماً لرسول الله من ربه جل وعلا فنحب أن نقول : وهل المعجزات إلا آيات ؟ والقرآن معجزة النبي الكبرى ، فماذا هو غير هذه الآيات ؟ وهل سماه الله بشيء غير الآيات ؟ والمعجزات حينما نتتبع تسمياتها وأوصافها في القرآن لا نجدها بلفظ المعجزات ، ففي كل القرآن لا يوجد لفظ معجزة ، جاءت البصائر .. جاءت الآيات .. جاءت البينات .. وما في معنى ذلك وكلها تشير إلى معجزات كونية خارقة ، والآية هي المعجزة بالذات ، ولسنا محتاجين إلى كثير من إعمال الفكر ، نرجع إلى فاتحة السورة ( اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) هنا وُصف انشقاق القمر بأنه آية ، والآية هي ما كان واضحاً في الدلالة على المقصود وضوحاً لا يخفى على أحد في شيء من إدراك . وأما أن المشركين المكيين لم يطلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا غريب من الأستاذ سيد رحمة الله عليه . إنه لم يخفَ عليه بل هو ساق في جملة ما ساق من الأحاديث النصوص التي تقول إن أهل مكة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ، فأراهم انشقاق القمر نصفين ، فأي معنى بعد ذلك لإعمال قسم من الحديث وإهمال قسم آخر ، هذا لا معنى له ، إذا أنا صدقت بالحديث فهذا يعني أني أصدق بالحديث كله ، وإذا لم أصدق به فأنا أرفضه كله . أما أن آخذ ما أريد وأن أدع ما أريد فأخشى أن لا يكون هذا المسلك مسلكاً عقلانياً .(/4)
استناد الأستاذ سيد إلى قضية معروفة ، إن تتبع المعجزات الماضية التي جاءت على يد الأنبياء الماضين معجزات ذات طابع خاص ، والله جل وعلا ذكر في هذه الآية ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ) فدلت الآية على أن الله جل وعلا إذا عاندت أمة رسلها فكذبت وأبت ولجّت في عنادها فجاءت آية خارقة بناءً على طلب المرسل إليهم فكذبوا بها فإن الله جل وعلا مضت سنته في عباده أن يسلط عليهم عذاب المحو والمحق والاستئصال ، ولما كان هذا لم يحصل بالنسبة إلى العرب الذين كانوا بين أظهر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو الذين كان محمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم فذلك يعني أن ما جاء في بعض الأحاديث من أن المكيين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية شيء يستحق الرفض أو التوقف على الأقل .
ونقول : إن المسألة ليست في هذا المستوى أبداً ، إننا نقرأ من وقائع السيرة وفي صحاح الحديث ومن نقل إلينا من أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم أن زعماء المكيين : أبا جهل وأبا سفيان وعتبة وشيبة وأضرابهم مشوا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : يا محمد إنك قد جئتَ قومك بأمر عظيم ، فرّقتَ فيه جمعهم وسفّهتَ أحلامهم وضللتَ من مضى من آبائهم ، فاسأل الله جل وعلا أن يعطيك آية ترينا منزلتك وكرامتك على الله . قال لهم : إنني ما بُعثت بهذا إليكم ، وإنما بُعثت إليكم بلا إله إلا الله ، فإن تقبلوها مني فهي حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوها علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين . قالوا : إن لم تفعل فنحن نراك تضطرب في الأسواق وتبيع وتشتري فاسأل الله أن يجعل لك جنات وقصوراً كما جعل لملوك فارس والروم . قال : ما بُعثت إليكم بهذا وأعاد عليهم نفس المقال . قالوا : أما إذ أبيت أن تسأل الله لنفسك فأنت ترى أننا أهل بلد لا أضيق منا عيشاً ولا أضيق منا رقعة ، فاسأل الله أن يحول الصفا والمروة ذهباً . فقال : ما بهذا بُعثت . قالوا : فاسأل الله أن يحول عنا هذه الجبال التي ضيّقت علينا وأن يخرج لنا الأنهار حتى تكون بلادنا رخية خصيبة . قال : ما بهذا أرسلت إليكم . وجاءه ملك ربه تبارك وتعالى ، قال له : يا محمد قل لهم إن شئتم نفّذت لكم ما تريدون وحوّلت عنكم هذه الجبال وأحلت لكم الصفا والمروة ذهباً فإن تؤمنوا فذاك وإلا أحللت بكم ما أحللت بالأمم الماضية المكذبة من قبلكم . وكان ذلك تخييراً من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وكانت الخيرة بيد محمد صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله جل وعلا أن لا يأخذ أمته بغضبه ، واستعاذ بالله من ذلك ، وقال للملك : بل أستأني بهم وأصبر عليهم لعل الله تعالى أن يُخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى .
إذاً فها هنا آيات كونية لو أنها جاءت على سبيل المعاجزة والتحدي ثم كُلّب بها لحصل ما حصل ، ولكن ها هنا آية سماوية لم تكن نتيجة تحدٍ وإنما جاءت طلباً لإظهار المنزلة والكرامة التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه ، إن الله تعالى أهلك الأقوام الماضية حينما وضع بين أيديهم خوارق مادية يلمسونها لمس اليد ، ثمود حينما عقروا الناقة ، لم تكن هذه الناقة من النوق السارحة ، وإنما طلبوا هم أن يُخرج الله لهم الناقة من هضبة عينوها له ، واستجاب الله لهم وأخرج ناقة من هضبة صماء ، فكانت ناقة تأكل وتشرب وتسرح وتمرح ، وكان لها يوم معين لتشرب ، ولهم يوم معين ليشربوا ، وكانوا ينتفعون بلبنها ، وظلت آية بيّنة على صدق الرسول المرسل إليهم حتى انبعث أشقاها فعقر الناقة فأحل الله بهم ما أحل .
وأما هذا فالأمر ليس كذلك ، وفي تقديري أننا نحتاج قبل البت لأمور من هذا القبيل تتعلق بمعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نفرّق بين قوم وقوم ، وأن نفرّق بين معجزة ومعجزة ، وقضية من هذا القبيل لا يُقضى بها بكلام يُلقى على المنبر لأنها أدق وأعمق من أن تساق على المنابر ، وإنما قلت ما قلت لكي أنبه الإخوة جميعاً إلى خطر التقحّم على آيات الله جل وعلا بالتكذيب أو بإلقاء الشبه والشكوك من حولها ، فكم من كلام لله وكم من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكره من أنكره في الماضي ثم جاءت البيانات والشواهد والحقائق المادية مصدقة لهذا الذي نطق به القرآن أو هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد فثمة حديثاً صحيحاً جداً مروياً في البخاري وغيره يستند إليه هؤلاء المنكرون ولا مستند لهم فيه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من نبي من الأنبياء من قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه الناس ، وكان الذي أوتيته وحياً من الله ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .(/5)
حينما ندقق في صياغة الحديث ، والكلام كلام رسول الله وليس الكلام كلام الآدميين العاديين ، أي كلام رجل مسؤول يضع كل حرف في مكانه الذي لا يغني حرف في سواه نجد الأمر لا يفيد الحصر بحال من الأحوال . لا يعني ذلك أن الآية الوحيدة التي أوتيها رسولنا صلى الله عليه وسلم هي هذا القرآن ، ولكن يعني التفريق والتمييز بين وسيلة البلاغ عنده ووسيلة البلاغ عند الأنبياء الآخرين دون أن يتطرق ذلك إلى نفي المعجزات الأخرى . يعني بتعبير أدق أن المعجزات المادية الحسية المحدودة في الزمان والمكان هي معجزات موقوتة وليست لها صفة الديمومة والخلود . وما كان من معجزات للأنبياء الماضين عليهم الصلاة والسلام فقد انقضت بانقضاء زمنهم ، فليس في توراة موسى عليه السلام ما يدل على الإعجاز المتصل الخالد على النحو الموجود في القرآن ، وليس في إنجيل عيسى عليه الصلاة والسلام ما يدل على الإعجاز المتصل الخالد على النحو الموجود في القرآن ، ومعجزاتهم التي كانت سواء كانت انفلاق بحر أو انقلاب عصا إلى ثعبان هائل أو إحياء ميت أو ما شابه ذلك فهي إن نفعت تنفع الناس الذين رأوها أو عاينوها ، ثم هي بعد ذلك خبر من الأخبار .
ولكن الأمر بالنسبة إلى القرآن يختلف ، إن الذي أُعطيه رسولنا صلى الله عليه وسلم كوسيلة مستمرة وخالدة للدعوة هي هذا القرآن ، لأن القرآن بذاته وبنظمه وبأسلوبه وبالحشد من الأفكار والتصورات الموجودة فيه يحمل الإعجاز الذي لا ينقطع والدليل الذي لا يُقهر ولا يكسر على سلامة هذا الدين وكمال وخلود هذا الدين . هذا كل ما يعطينا إياه الحديث .
والذين يبشرون بالإنجيل الآن يواجهون خيبة الأمل في كل مكان ، والذين بشروا بالتوراة يواجهوا خيبة الأمل في كل مكان وزمان ، ولكن الذين يبشرون بالقرآن يواجهون النجاح كل يوم وفي كل مكان . نفسّر ذلك ما جاء ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحكيه عن حاله صلوات الله عليه وعن حال المرسلين عليهم السلام يوم القيامة يقول : إذا كان يوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد ، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ، ويأتي النبي ومعه الرهيط أي الجماعة الصغيرة ، ثم يعقب فيقول : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة . وإذاً فثمة أنبياء لم تكن بين أيديهم معجزات تضمن استمرار الدعوة إلى الأبد ، ولهذا يأتون ولا أحد معهم ، وثمة أنبياء كانت لهم معجزات حسية على نطاق ضيق آمن بها نفر صغير فهؤلاء هم الذين يأتون ومعهم الرجل والرجلان ، وثمة أنبياء كانت لهم مع المعجزات كتب بشّر بها أتباعهم من بعدهم فهؤلاء يأتي معهم الرهط اليسير والنفر الصغير ، ولكن الجمهور الأعظم من أهل الجنة الذين يوافون ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأن الدعوة بالقرآن خالدة لا تتخلف ولا تتعطل .
ولكن هذا لا يعني أنه عليه الصلاة والسلام ليست له معجزات ، والنبي صلى الله عليه وسلم ببركته كثّر الطعام ، ودعاه واحد من أصحابه على جدي صغير وقليل من دقيق الذرة لكي يأكل لما رأى منه من الجوع ، فلما أخبره بذلك قال له : ادعُ المهاجرين والأنصار . ودعاهم ووضع عليه الصلاة والسلام كسر الخبز ووضع فوقها المرق وشيئاً من اللحم وقال لهم : كلوا باسم الله ويده على الطعام يبرّك عليه حتى صدروا عنه وإنهم لأكثر من مائة شخص .
كيف وقد شكا إليه الناس شحّ المياه في غزوة من الغزوات فأتوه بقدح فيه قليل من الماء لا يواري الكف فوضع يده فيه فأصبح الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى صدروا جميعاً رواءً وكانوا كما يذكر الراوي رضي الله عنه خمس عشرة مائة أي ألفاً وخمسمائة شخص .
كيف وقد شحّ عليه الماء ذات يوم وكانوا في طريق قفرة فمرت امرأة تحمل مزادتين من ماء فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : متى عهدك بالماء ؟ قالت : مسيرة يوم وليلة . والمسلمون عطاش ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : بسم الله وفتح المزادتين وقال : خذ ، وأخذ الجيش وملأوا أزوادهم وسقوا رواحلهم ولم ينقص من المزادتين شيء ، بل كانتا قبل الأخذ منهم أقل مما كانتا عليه من بعد ما اُخذ منهما . فلما جاءت قومها قالت لهم : جئتكم من عند أسحر الناس أو إنه نبي بالفعل . وأسلمت وأسلم القوم كلهم .(/6)
إذاً لا مجال لإنكار بعض المعجزات الثابتة المنقولة إلينا بنقل الثقات العدول الذين نقلوا إلينا أحكام الحلال والحرام مهما تكن درجة الهزيمة العقلية ، لأننا يوم أن نجازف بكلام من هذا القبيل فنحن نهدم الأسس التي قام عليها بناء هذا الدين كله . ماذا عندنا ؟ قرآننا منقول بنقل الرجال ، ومات عليه الصلاة والسلام والقرآن محفوظ في الصدور ، وبالرغم من الألواح والقطع التي كان مكتوباً عليها فذلك لم يغنِ عن معارضته الألواح لما كان مجموعاً في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا طعنا بالرواة طعنا بالقرآن بالذات ، كيف يكون هذا وما نعرفه من شئون العقائد ومن شئون الشريعة منقول إلينا من هؤلاء الرواة الذين كانوا لئن يخرّ أحدهم من السماء إلى الأرض ولئن يحترق أحدهم حتى يكون حممة أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف نردّ هذه الروايات وهي ثابتة بالنقل الصحيح ؟ ألمجرد أننا نشعر إننا أمة ضعيفة مخذولة مهزومة ؟ هذا لا يجوز ، آن لنا أن نعرف أن ديننا ليس فيه غموض وليس فيه أسرار ، إن الغرب الذي يتعاجب بمسيحيته يرى أن مسيحيته التي يأخذ بها لا تروج حتى بين الوثنيين الذين يعيشون في مجاهل أفريقيا وأستراليا حتى الآن ، ومع ذلك فهم يرفعون الرأس بها ، وأما نحن فأصحاب العقيدة الواضحة وأصحاب الشريعة السمحة فنحن نخجل من بعض الأمور التي أخبر القرآن بها أو أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا لأنها غير حقيقية ولكن لأنها موضع اتهام من قبل أعدائنا ، ولأنها محل هجوم من قبل أعدائنا ، إن هذا ينبغي أن يزيدنا بها استمساكاً وأن لا يهوّنها في أنفسنا طرفة عين .
أتصور أن هذه القضية أخذت ما فيها الكفاية ، وليس عندي حولها بعد ذلك ما أقوله على المنبر ، ما وراء ذلك من بحث فليس مكانه المنبر ولكنه كلام يُكتب أو كلام يتطارحه الناس في مجالسهم الخاصة ، لأنه بعد هذا المستوى يصبح كلاماً غير مفهوم ، لا تؤاخذوني إذا وقفت عند هذا الحد .
بقيت في السورة بعض القضايا التي تحتاج إلى عرض ، لا أدري ربما أقف عندها في الجمعة القادة أو لا أقف ، ليس هذا مهماً ، إنما المهم أن نستعين الله جميعاً على أن يرزقنا السداد في الاعتقاد وأن يرزقنا الثقة لمقررات الدين الحنيف في كتاب ربنا .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة القمر
الجمعة 9 ذي القعدة 1397 / 21 تشرين الأول 1977
( 3 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
لقد رأينا أن نقف اليوم عند معنيين من سورة القمر نرى أن من اللازم أن نقف عندهما ، لا أقول إكمالاً للحديث عن السورة ، فذلك فوق الوسع وأكبر من الطاقة ، ولكن إبرازاً لبعض ما هو ضروري وتلزم معرفته في هذه الأيام التي مرج فيها أمر الإسلام والمسلمين .
سمعتم السورة من قبل ، وقراءة السورة بذاتها تغني والله أعلم عن كل إضاءة وعن كل شرح ، لولا أن الناس في هذه الأيام مصروفون بشدة في طرائق وسبل لا يرضاها الله ولا تنسجم مع وحي الله تعالى ، ولقد بلغت من شدة هذه الطرائق أنها حولت المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، وجعلت من قضايا الإسلام ومبادئه الأولية والأساسية حديثاً يقع من الآذان موقع الاستغراب وتكاد القلوب تنكره أشد الإنكار . وذلك كله يبرر في نظرنا الإفاضة في كثير مما لا يستدعي الإفاضة ، ولكنها الضرورة التي لا محيص عن النزول عند أحكامها .
سمعتم السورة ويمكن أن نقول بكل اختصار إن سياقة السورة على النحو التي سيقت عليه يراد منه أساساً أن تطرد من ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض التصورات التي لا بد أن تقع في ذهن الإنسان أي إنسان وهو في غمرة العمل وعلى وجه الخصوص لا بد أن تقع في أذهان أولئك النفر من الناس الذين بلغت القضية التي يدعون إليها شغاف قلوبهم ، واستقرت في مكان القناعة التي لا تناقش ، فهؤلاء حينما يرون من الناس ما يرون من استغراب وشك وارتياب وسخرية واستهزاء وخصومة ، بل ولدد في هذه الخصومة ، ثم يتحول ذلك كله إلى موجة عارمة وطاغية من الرغبة بالفتك والقتل والمحو والاستئصال ، إن الطراز من الناس الواثقة من أحقية ما يدعو إليه في مواجهة موقف كهذا بحاجة إلى السلوى والعزاء .
ولكنه العزاء الذي لا يكون من نوع التمنيات ولكن بسرد وقائع الماضين ممن يماثلونه في الوصف ويحملون من الرسالة مثلما يحمل ، لكي يخرج هذا الصنف من الناس بالانطباع اللازم أن طبع الناس هكذا ، وأن معطيات الطريق لا بد أن تكون بهذا الشكل ، وأنها يوم أن تكون على غير هذا الشكل فذلك يعني قطعاً أن الطريق غلط . السورة برمتها من حيث الأساس وفي المبدأ أرادت أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا مكان للعجب من موقف قومك منك ، فتلك هي طبيعة الأشياء وذلك هو رجع المجتمعات الجاهلية على الدعوات التوحيدية التي جاءت في كل جيل وبين كل قبيل ، وإذاً فالواجب هو الصح ، ومواصلة الطريق ومتابعة بذل المجهود ، وما يلقاه الداعي إلى الله تعالى ممن يوئس ويحمل على السوداوية فذلك لا علاج له إلا المزيد من الصبر ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعتَ أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ) لا يمكن ، ولهذا فوعد الله نبيه عليه الصلاة والسلام إزاء ضيق الصدر هذا أن لا يكون من الجاهليين ، لأن التضعضع والملل واليأس والقرف لبعض ما يلقاه الإنسان في طريقه مما هو في طبعه منفر ليس من أخلاق الدعاة ، ولا من طبع النبيين ، ولا من وصف السائرين في طريق الرسالة .
من أجل ذلك عدّد الله تعالى عليه من نبأ الماضين أنباءً فذكر له ما كان من قوم نوح مع نبيهم عليه الصلاة والسلام ، وأعطاه هذه اللمحة الموجزة ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) وما زادت السورة في الوصف على هذا شيئاً ، لكنها حددت باختصار ما يكفي لإقناع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مثله في الدعوة كمثل إخوانه من الأنبياء ، وأن مثله في ضرورة الصبر على البلاء كمثل إخوانه من الأنبياء أيضاً ، وحسبه أن يفكر بهذا الذي أخبره الله به عن موقف قوم نوح من نوح بأنهم كذبوه ، ولم يكتفوا بالتكذيب وإنما قالوا مجنون ، ووقع هذه الكلمة غير مجهول من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن سفهاء قريش قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم نفس الكلام ، ووصفوه بذات الوصف ونبذوه بنفس اللقب ، قالوا عنه مجنون .
ولهذا فحين تلقى في أذن النبي عليه الصلاة والسلام بطريق الوحي هذه اللفظة فإن لها في نفسه وقلبه وفكره وشعوره ظلالاً لا نستطيع أن نحس بها ، لأنها تلك الظلال التي تتضخم بفعل التجربة المعاشة والمعاناة التي كان يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القوم .
وجاءت الآيات بجانب آخر من جوانب موقف الكافرين من قوم نوح بهذه اللفظة المفردة ( وازدجر ) يعني زجر ونُهي وأُغلظ له القول ، وأيضاً هذه يدركها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيداً ، لأنه من أول يوم جاءه المشركون حينما رأوه على حالة لم يألفوها ولم يعهدوها واقفاً بين يدي ربه قارئاً راكعاً ساجداً على خلاف ما يعهدون في أداء الشعائر لأصنامهم ، نهروه وتهددوه وتوعدوه ، فهو يعرف عليه الصلاة والسلام ما تعنيه هذه الكلمة ( وازدجر(/1)
وكذلك عرضت الآيات لما كان من قوم عاد ، لم تزد شيئاً على أنها كذبت ، وما كان من قوم لوط وما أحلَ الله بها جزاء الفعلة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، وكذلك ما أحلّ الله بقوم فرعون على صورة وجيزة ، لكن يلفت الذهن والنظر ما جاء عن قوم ثمود ، مراراً قلت لكم إنني أتمنى لو أن الله سبحانه وتعالى وهبنا سلائق الماضين من أهل اللسان الذين يدركون تماماً حقائق اللفظ اللغوي وإيحاءات الكلام العربي الذي نزل به القرآن ، وإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلنجتزء بالقليل وما لم تكن إبل فمعزة .
حينما جاء الكلام على ثمود جاء سياق الآيات بصورة تقف الذهن عند حقائق من حقائق السيرة النبوية تتشابه من المشركين حذو النعل بالنعل وتتشابه من العاندين عن أمر الله حذو النعل بالنعل أيضاً ن ولكن الجديد فيها أنها ذات إيحاءات مزدوجة ، واسمعوا ما أعني : قصّت الآيات الأمر على النحو التالي ( كذبت ثمود بالنذر ) ولا شيء جديد فكل أمة جاءها رسولها كذبته للوهلة الأولى ، لكن مقولة هؤلاء الناس ومواقفهم هي التي تشد الذهن نحو التأمل البالغ ، ونحن محتاجون لأن ندقق بعض الشيء في الشرح لأن الكلام الإلهي في القرآن شديد التكثيف ، فهو إذاً إلى فضل تأمل ( فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر ، أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ، سيعلمون من هو الكذاب الأشر ) علينا أن نفكر هنا في دقة الصياغة القرآنية وما توحيه هذه الصياغة ( فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه ) وإذاً ففي هذا الكلام الموجز تكثيف شديد لموقف كل أمة إزاء الدعوة الجديدة ( أبشراً ) وهذه لفظة ( منا ) لفظة مفردة ( واحداً ) لفظة مفردة ( نتبعه ) إذا فهذه أربع كلمات ، انظروا ما الذي تحويه وما الذي تشير إليه وما هي المشابه بين هذا الموقف البعيد الموغل في التاريخ المتعلق بأمم بادت ولم يبقَ لها في ذاكرة الناس إلا ظلال وأصداء باهتة ، وبيم الموقف الذي كان يحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه في أوائل الدعوة .
فأول ما قالوا ( أبشراً ) فهم يستنكرون إذاً ما سبق للمكيين أن استنكروه ، مما هو معروف أن الغربة قرينة الرهبة ، فما كان مألوفاً لك فهذا لا يعطيك أي رهبة ولا يثير في نفسك أي استغراب ، ولكنك حين يفجؤك الشيء الغريب تحس بهذه الرهبة ، إن البشر من طينة واحدة ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) ولولا تباين الأوطان والأعمار والأجناس والألوان واللغات لأحسّ كل إنسان بالإلف لكل إنسان ، ومع ذلك فهذا الشعور المشترك بين الناس الذي يحمل على الألفة يزيل كثيراً من منافع الغربة التي قد تكون لازمة في بعض الأحيان . فالمشركون من العرب حينما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة رأوا أنه بشراً يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون ويضطرب في الأسواق كما يضطربون ويسعى لمعاشه كما يسعون ، وإذاً فأي جديد يأتي به هذا الإنسان ؟ إن من شرائط الدعوة التي تستلزم الإذعان والطاعة والتصديق الجازم غير المتردد في عرف هؤلاء الناس ومعظم الناس أن تأتي بالغرائب وأن تأتي عن طريق عناصر مغايرة لعناصر الناس . ولهذا كان من سؤال المكيين لرسول الله واعتراضهم على إرساله أنه كان من المفروض أن يكون الرسول ملكاً من الملائكة لا بشراً من البشر ، لأن الملك من جنس آخر ومعقول في ظنهم ووهمهم أن يكون الرسول بهذا الشكل ، ولكن الله تعالى أبان لهم فساد هذا التصور بقوله ( لو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) لأنه لا سبيل ولا طريق إلى التفاهم إلا بين المتحدين في النوع ، والملك وابن آدم يستحيل أن يتفاهما ، والجن وابن آدم يستحيل أن يتفاهما كما يستحيل أن يتفاهم ابن آدم مع الدواب ، فكل تفاهم لا بد من اتحاد الجنس لكي يكون هذا الاشتراك ذريعة إلى وحدة في المفاهيم والمشاعر تسهّل الشيء المطلوب ، فردّ الله عليهم ذلك .
ولا شك أن هذه القضية وهذا الإشكال وهذا الطعن في موضوع النبوة ترك في نفس النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الألم لهؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يفهموا حقائق الأمور مع أنها في متناول اليد فجاءت الآية هنا تحكي قصة ثمود مع نبيهم وتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ما أثير في وجهك من شبهة ليس بدعاً من الأمر ، من قبل قالته الأمم المكذبة والمعاندة ( أبشراً منا ) في هذه اللفظة ( منا ) إشارة إلى مانع من الموانع الحقيقية التي يتخذها كبار المشركين ذريعة إلى رفض الدعوة وتنكب طريقها . فمن المعلوم المشهود أن الرجل الغريب إذا جاء إلى قوم غير قومه له عندهم من المكانة ما ليس لمن هو من أبنائهم ، ومن هنا قيل : لا كرامة لنبي في قومه . وقبل اليوم قلت لكم إننا جربنا في كل مكان أناساً يأتون ، لا حظّ لهم من علم يرفع الرأس ولا من منطق يسلب اللب ويأسر العقل ، ولكن تشرئب لا لشيء إلا لأنه غريب ، والغريب مرهوب ومطلوب للاستماع إليه ، وبضاعة ابن المكان كاسدة غير رائجة .(/2)
ولهذا فالأمم الماضية حينما اعترضت ، اعترضت وهي تستند إلى هذه الحقيقة المجتمعية البشرية الإنسانية ( منا ) يعني لو كان مرسلاً إلينا من غير قومنا لهان الأمر ، ولا شك أن العرب الذين وُوجهوا بالدعوة لو كان المرسل إليهم من فارس أو الروم لكانت الاعتراضات عليه أقل ، إلا أنه لا سبيل إلى ذلك لاستحالة التفاهم ولأن الله تعالى قال ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) فحاجة البيان تقتضي اتحاد الجنس واتحاد اللسان وإلا لو كان المرسل من غير هؤلاء القوم لهانت المسألة ( أبشراً منا واحداً ) لعل بعضكم يتصور أن قول الله ( واحداً ) يعني أنه لو كان اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أقصد المرسلين لمكان ذلك أحرى أن يُسمع لهم ، هذا خطأ لأن أسرار البيان العربي ليست هكذا ، حينما تقول العرب : هذا واحد ، فلا تقصد العدد دائماً ، وإنما تقصد لازم العدد ، أي المفرد أي متفرد ، ليس معه من يعينه ومن ينصره ، أي لا أعوان ولا نصراء ولا جنود ولا أتباع ، وإذاً فهذه معضلة من المعضلات التي تعاني منها الدعوات ولا سيما في المراحل الأولى ، ودائماً مع كل دعوة فالداعي واحد ، ما عدا ما رأينا في القرآن من تعزيز الله جل وعلا لبعض الأنبياء بواحد واثنين ، وإلا فالأنبياء مفردون ، إنسان واحد يقوم بالدعوة تقوم في وجهه هذه المشكلة .
الناس ولا عيب حين نقر بواقع الناس ، الناس لا تتسرب العقائد والآراء والمبادئ والمذاهب إليهم فقط من طريق الحجاج العقلي وترتيب القضايا المنطقية ، بل لعلي لا أعدو الحقيقة حينما أقول إن قضية العقل آخر سلاح في الميدان ، إن الناس ولا سيما من هم دون الوسط ، السواد ، لا يكادون يتساءلون عن مدى أحقية دعوة ما ، ولكنهم إذا رأوا الدعوة من حولها الأتباع والأنصار ورأوا لها الجند الكثيف انساقوا دون تساؤل . وإذا فهؤلاء يساقون بقوة الجماعة لا بقضية العقل ، ويساقون بالسواد لا بحجة المنطق ، ولهذا فنحن نجد شرسة العداء أقوى ما تكون وأعنف ما تكون حينما تكون الدعوات الإلهية في مراحل الضعف وقلة الأعوان والنصراء ، حين ذلك تجد سواد الناس معرضاً عنها ، وعقلاؤهم يماحكون ، لا نزولاً عند قضية عقل ولكن تحايلاً على شهوات وعلى أطماع . والإسلام دين واقعي ، أي أنه جاء ليعتنقه بشر ، وهو من أجل ذلك لا يريد أن يغفل ولا يهمل أية وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى تدعيم الصف المسلم ، ولهذا فحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال بصريح العبارة : أنا بريء ممن أسلم ولم يهاجر ، لماذا ؟ لأن من الضروري هنا أن يُكثّر سواد المسلمين ، وليس مقبولاً بحال من الأحوال أن يجلس المسلم في زاوية من زوايا الأرض ويقول حسبي أنني مسلم وحسبي أنني أصوم وأصلي لله تبارك وتعالى وحسبي أنب أؤدي ما علي ، لا ، فالأمر أخطر من ذلك ، وأكبر من ذلك وأبعد ، وهذه قضية حينما أشير إليها فليس المراد فقط أؤدي حق الصياغة في الموضوع ولكن أن أؤدي حق الأمانة لكثير من الإخوة الذين يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويحجون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، بل لأولئك الذين يسيرون يظنون أنهم يدعمون صف الإسلام ولكنهم يبتعدون عن الصف بتسارع لا مثيل له إلا في صفوف الشياطين وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً .
إن الإسلام يتعرّض في بلاده وخارج بلاده لهجمة محسوبة ومدروسة تقوم عليها رؤوس مردت على الكفر وتمرست في أفانين الصدّ والنكران ، وإن المسلمين ليست لهم عدة لدرء هذا الخطر وردّ هذه الغاشية إلا أن يكون صفاً واحداً يعرفون ما يتوجب عليهم ويؤدون ما أراد الله منهم . فالسواد لا بد منه ، لأننا حين نسمح للصف الإسلام أن يتخلل فذلك يعني توهين العقيدة من حيث النتيجة في قلوب المسلمين ، والإسلام حريص على وحدة الصف ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ) حتى في وقت الهول والرعب يطلب الإسلام هذه الوحدة الجامعة ، وفي صف الصلاة كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول : تراصوا لا يتخللكم الشيطان ، فالسواد والجمع مهم في الإسلام ، لكن ثمة مرحلة هي مرحلة البناء لا بد من معاناة القلة ، فذلك هو الأمر المفروض ولهذا قالوا ( أبشراً منا واحداً ) لا يريدون أنه نبي واحد ولو كان نبيين لكان الوضع أحسن ولكن واحداً يعني مجرداً عن الأعوان ، لا يعينه أحد وليس من ورائه جمع ، أي لا يستند إلى قوة وصولة وسلطان ، إن هذه مشكلة ، وهي مشكلة لا تستطيع عقول هؤلاء الناس أن تتحملها ولا أن تستوعبها .(/3)
وحينما تساءلوا هذا التساؤل قالوا : لو أننا فعلنا ذلك لكنا في ضلال أي بعدٍ وضيعة عن الحق وسعر ، والسعر هو أقصى حالات الجنون ، هو الحالة التي تجد الإنسان فيها تتلعّب فيه مخدّمات الجنون كما يتلّعب الكَلَب بالكلب المسعور ، فهؤلاء يظنون أن اتباعهم لهذا النبي بالرغم ما في الدعوة من حق وهدى ونور مبين ، لأنه بشر ولأنه واحد إن هذا يعني أنهم فقدوا عقولهم وأضلوا صوابهم ( إنا إذاً لفي ضلال وسعر ) وأيضاً نفس الأشياء التي قيلت لمحمد صلى الله عليه وسلم لكي يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشدوداً إلى هذا الموكب الكريم الذي سبقه من قبل والذي جاء هو لكي يتوّجه كله كخاتم للأنبياء والمرسلين .
( أأُلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ) وكلمة ( كذّاب ) كلمة خفّت وهانت على ألسنة المشركين الذين جابهوا محمد عليه الصلاة والسلام ، وهي كلمة وقالة كانوا يرتكبونها بلا حق فقد قضى بينهم أربعين سنة ، لا يُعرف إلا بالصدق والأمانة والعفاف ، وحسبه صلى الله عليه وسلم شهادة منهم أنه ظل يدعوهم في مكة ثلاث عشرة سنة وبينه وبينهم ما صنع الحداد وعنده أمانات المشركين ، كلما خاف واحد منهم على شيء يريد أن يحفظه أودعه عند محمد صلى الله عليه وسلم ، هم يقولون له أنت كذّاب ، وفي نفس الوقت يضعون ودائعهم عنده ، كيف يتلاعبون على الواقع وعلى الحقيقة ؟ لم يُعرف طيلة عهده في الجاهلية ، أربعون عاماً ، إلا أنه الصادق الأمين ، وبعد أن جلل الشيب صدغيه وجاء هم بهذا الذي جاءهم من عند الله تعالى انفجرت دفائن الأحقاد والشهوات والأهواء فتجاوزوا الحقيقة وأكذبوا أنفسهم وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كذّاب ، وهذه كلمة فاحشة ومؤذية ، ولكنها ليست جديدة ، ما من نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلا قيل له هذا الكلام ، فالتكذيب سمة لازمة لكل المجتمعات التي جاءتهم الأنبياء ، والآية أشارت أيضاً إلى نوازع الحسد والأنانية البغيضة في هؤلاء الناس ( أءلقي الذكر من بيننا ) كلمة قالتها قبيلة ثمود لنبيها عليه الصلاة والسلام كما قالتها قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( وقالوا لولا أُنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) فهذه أيضاً مشكلة أخرى ، إن الأنبياء في العادة لا يبعثهم الله إلا من نفس أقوامهم ، ومع ذلك فهم دائماً يكونون من أشراف الناس ، لكن ليس من أشراف الناس في المقاييس المجتمعية الباطلة بل من أشراف الناس في مقاييس الله تعالى ، في مقاييس الحق والصواب ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : ما زال ربي ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة فما تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما . حتى ولدته أمه من أبيه عبد الله ، فالأنبياء دائماً يُبعثون مبرئين من الدنس ( والله أعلم حيث يجعل رسالته ) وبطبيعة الحال ليس شرطاً أن تنطبق أوصاف الشرف على أعراف الناس ، وكثيراً ما عرضت لكم مقالة النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وهو يسأل عن رجال : ما تقولون في هذا ؟ فيمدحونه ، ثم يقول : ما تقولون في هذا ؟ فيقولون : يا رسول الله هذا هين عليه آثار الزراية والفقر والمسكنة .. فيقول النبي عليه الصلاة والسلام مصححاً لمفاهيم الجاهلية راداً أقدار الرجال إلى موازينها الحقة : إن هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا .
فالشرف تُبعث منه الأنبياء ولكن ليس ضرورياً أن تتفق موازين الحقيقة مع أعراف الناس . لماذا ؟ لأن مجرى الحياة الإنسانية غالباً لا يسير وفاقاً للمحاور التي أرادها الله جل وعلا ، انظروا كيف كان ردّ الفعل لدى أعرابي يعيش في زمن النبي عليه الصلاة والسلام في أوائل الدعوة حينما جاءه ورآه ونظر إلى الذين آمنوا به ملتفين من حوله فرأى فيهم الضعفاء والحبشان والرومان ورأى كبراء قريش متروكين قال : وي إن هذا يريد أن يجعل الأسافل أعالي ، والأعالي أسافل . وهذا صحيح ، لأن الدعوة في الحقيقة تريد أن تعيد أقدار الناس لكي توزن في موازين الحق والصواب ، وأما أن تُترك أقدار الناس لكي تقوّم من خلال شهوات وما أشبه ذلك ، فذلك هو الخبال البشري ، وهذا أمر أظن الناس يعرفونه ، فمن قبل وكل واحد منا عاصر في جيله أناساً كان يشار إليهم بالبنان تغيّرت القيم واختلت الموازين واختلفت المفاهيم وأصبحوا يُعدّون في الأذناب ، وتقدم إلى الرؤوس أناساً من قبل قرشاً واحداً ، فهذه الموازين إذاً تختلف ، ولهذا فهؤلاء الذين استنكروا أن تكون الرسالة منزلة على هذا الشخص ، كانوا ينطلقون من واقع مجتمعي بشري يتحدثون من زاوية تتحكم به أعراف معينة ، والدعوات الإلهية لها صفة الإطلاق الذي يتجاوز الزمان والمكان ، ولهذا لا يصح أبداً أن تُقايس حقائق الشرع على وقائع الحياة ، ولكن الوضع الصحيح هو قلب المسألة تماماً لتقايس وقائع الحياة على مقررات الشرع .(/4)
فحينما نتخير لا شك أننا نرى من الناس ظاهراً ولا نعرف البواطن ، فعلم البواطن إلى الله تعالى ، ولو أننا أردنا أن نحمل إنساناً مهمة ما أو رسالة ما أو مسؤولية ما فنحن ننظر إلى ما يظهر ، ننظر إلى البدلة الحسنة والمظهر المونق واللفظ المعسول وإلى الخلق المرضي فيما يتعارف عليه الناس ونختار ، وأما الفضائل النفسية وأما الشمائل الخلقية وأما تقوى الله جل وعلا وأما رعاية أوامره ونواهيه فهذه أشياء لا نقدر على الإحاطة بها . من أجل ذلك تروننا في عصرنا هذا نتدهور باستمرار ، لماذا ؟ لأننا لا نحكم مقررات الشريعة في اختياراتنا ولكن نحكم الأهواء والشهوات والأطماع المستحكمة التي تملي علينا مسالك معينة هي باستمرار بعيدة عن رضى الله قريبة جداً من مساخط الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله .
لهذا ( فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر ، أءلقي الذكر عليه من بيننا ) ولماذا اختاره الله وحده ؟ لماذا لا يختارني أنا ؟ ولماذا لا يختار فلان ؟ وقد رأيتم وسمعتم أن أبا جهل سيد الوادي ، وأن أبا سفيان سيد الوادي ، وأن عتبة وشيبة من كبراء القوم ، فجاءت الرسالة وتخطت هؤلاء جميعاً ، لم تنزل على أحد منهم ، هل احتقاراً من الله جل وعلا لهؤلاء الناس ؟ لا ، ولكن النبوة اختصاص ، والاختصاص يحتاج إلى مواصفات وهؤلاء الناس لا يتمتعون بالمواصفات ، تُرك أبو سفيان على ما له من جاه ، وعلى أنه سيد الوادي ، وتُرك الحكم بن هشام الذي هو أبو جهل مع أنه سيد قريش ، وتُرك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه الثري المنظور إليه ، واختير محمد ، رجلاً يتيماً وفقيراً ، حينما أراد أن يتزوج ملكته الحيرة لأنه لا يملك المهر الذي يدفعه إلى الزوجة ، لماذا ؟ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام تجمّعت في شخصه الكريم كل فضائل الإنسانية وكل وراثات الأنبياء عليه الصلاة والسلام ، وتُرك هؤلاء الناس ، تُرك هؤلاء الناس لأنهم لا يتميّزون بما يتميّز به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالمسألة إذاً لمجرد أن يدخلها هذا النازع من الحسد تفسد كما فسدت في الماضي كما فسدت على الأقوام الماضية أمورهم لأنهم أرادوا أن يكونوا مخصوصين بالرسالة ، وفسدت على سفهاء المكيين أمورهم لأنهم أرادوا أن يكونوا مخصوصين بالرسالة ، كذلك للأسف نرى أن غيبة هذه القضية الأولية من قضايا الدعوة الإسلامية تسبب ارتباكات لا أول لها ولا آخر . الله تعالى يقول ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) إنني لمجرد أن أرى فلاناً من الناس يدعو إلى أمر ما ذا أخذتني الغيرة وشملني الحسد فأنا لا أسمح لنفسي أبداً أن أناقش هذه القضية أنا أردها سلفاً ، لماذا ؟ لداعي الحسد ، للأنانية البغيضة ، وهذه مظهر من مظاهر الداء القتّال في جسم الدعوة الإسلامية في هذه الأيام ، وأنا كما تعلمون لا أجامل أحداً ، إن الغيرية هي أول صفة يجب أن يتصف بها الدعاة إلى الله تعالى ، والشيء الذي يجب أن يبحث عنه المسلم هي الحقيقة الإسلامية ولا تسأل نفسك بعد : من المنادي بهذا ؟ ومن الداعي إلى هذا ؟ في اللحظة التي تقف فيها عند سؤال كهذا فأنت بعيد جداً عن الإسلام وعن قضايا الإسلام ، أنت إذاً في صف هؤلاء الذين قالوا ( أأُلقي الذكر عليه من بيننا ) أنت إذاً في صف هؤلاء الذين قالوا ( لولا أُنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) إن عملة الإسلام لا تروج مع الحسد والبغضاء ولا مع الأنانية ، وإنما تروج مع الغيرية ومع الفناء في القضية ، مع الفناء في الله تبارك وتعالى .
وكم من إنسان بل كم من جموع من الناس رُدّوا عن دعوة الله لا لأن دعوة الله غلط ولكن لأن الذي يحمل لواءها فلان وفلان من الناس ، فنحن نكرههم ولا نطيقهم ، ونحن نتصور أنهم كذا وكذا وكلها أخطاء وأغلاط وأكاذيب ومفتريات وزيوف ، نحن في الواقع نرزح تحت هذا الداء ، داء الحسد الذي حذّرنا منه رسول الله صلى عليه وسلم حينما قال : دبّ إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء .(/5)
فهذا ما أردت أن أقف عنده اليوم مما يتصل بالمشابه الملحوظة بين موقف هؤلاء النفر الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ، وبين الموقف الذي كان يعالجه ويعاني منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن الداعية إلى الله محتاج دائماً إلى أن يبصّر بعقبات الطريق ، وإلى أن تُكشف له الساحة كشفاً لا زيف فيه ولا تعمية ولا غبش ، إننا كمسلمين نسير في طريق ربما كان غيرنا يستطيع أن يلعب على الحبال ، وربما ملكنا غيرنا أن يرتزق وأن ينافق وأن يدجل ، وربما ملكنا غير أن يبيع الدنيا بالآخرة ، وربما وربما .. لكننا نحن نسير في طريق له حدوده وله مواصفاته ويحتاج السائرين فيه إلى نماذج أخلاقية معينة ، وبكل ما فيه من عقبات ومشقات ترهق أرباب العزائم الشامخات فإنه لا بد من أن يعتدّ الإنسان لذلك بعدة لا تنفك ، من الصبر على هذه المشقات والصبر على هذه المكاره وتحمل كل السفاهات التي يواجَه بها .
أنت تسمع النداء من قبل الله تعالى ، صوّر لنفسك : لو أن رجلاً ممن تحترمه ناداك فجأة ، فأنت تهرع إليه وربما تنسى أن تلبس حذاءك فتسير على الحجارة وعلى الشوك ، وقد تدمى رجلاك ولا تشعر ، فكيف والذي يدعوك هو الله الذي خلقك فسواك فعدلك ؟ كيف والذي يدعوك هو الله الذي يملك حياتك وموتك ورزقك وضرك ونفعك ؟ إن عليك حين تسمع النداء ( يا أيها الذين آمنوا ) أن تهرع لا تلتفت لا هنا ولا هناك ولا هنالك ، اجعل همك كله أن تقول : لبيك اللهم لبيك . أن تجيب داعي الله ( يا قومنا أجيبوا داعي الله ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ولا في السماء ) ولا تسمح للعقبات أن تعوقك في الطريق ، لا تسمح للنكبات أن تلفتك عما أنت في سبيله ، ذلك شرط الرجل المسلم ، وحينما وضع الله تعالى أمام نبيه قصص النبيين والماضين وقال له ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ) حينما قال له ذلك أراد لنبيه عليه الصلاة والسلام ولهذه الفئة المؤمنة معه أن تتحلى بهذا الصبر الذي تحلى به المؤمنون من قبل والذي تحلت به رسل الله من قبل ، وأراد الله تعالى تلقيناً مستمر المدى بالنسبة إلى هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة على اعتبارها وارثة النبوات وحاملة الرسالة الخالدة إلى الإنسانية أن يكون كل عامل من أبنائها على قدم النبيين والمرسلين يصبر كما صبروا ويترك كل ما حوله كما تركوا ويسير ملبياً داعي الله كما ساروا ولا يلتفت إلى مساءات المشركين والكافرين كما لم يلتفتوا فذلك هو شرط الفلاح وشرط النجاح .
كم كان بودي أن أقف عند قضية أخرى وقلت في مفتتح الحديث ثمة قضية أو قضيتان ، قضية التعليق على قول الله تعالى ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) لكني أكتفي بالذي قلت وأرجو أن يكون فيه بلاغ ومقنع وأرجو أم يكون قد كشف شيئين : الأول ما تحتاجه دراسة النص القرآني من مجهودات ، فليس كل قارئ للقرآن قارئاً . إن قراءة القرآن لكي تكون منتجة تحتاج إلى التدبر ، ونحن نسمع كلمة التدبر في القرآن وفيما بيننا وقال تعالى ( ليدّبروا آياته ) ( أفلا يتدبرون القرآن ) ولكن حينما نفكر بمعنى هذه اللفظة فسنجد عجباً ، إن كلمة ( تدبّر ) مأخوذة من هذا الفعل ( دبر ) وهذا جذري لغوي يحمل معنى النظر إلى دبر الأمور أي إلى عواقب الأمور ، فمعنى ( تدبّر القرآن ) هو التفكر في مآلات الآيات ، في النتائج التي تؤدي إليها الآيات ، وليس فقط هذا التحلي بالكلام الإلهي ، وإنما هو التفكر المنتج الذي يجعلك تسمع الآية فتقول : ماذا أراد الله بها ؟ وإذا تركتها ما دبر الأمر ؟ ما عاقبة الأمر وما نتيجة الأمر ؟ هذا هو التدبر . فنحن إذاً نحتاج إلى أن نتدبر النص القرآني لكي نستفيد منه تماماً .
والشيء الثاني أرجو أن أكون قد كشفت عن أمر ، كثيراً ما تحدثنا عنه ولكن بهذه الكثافة لا ، عن أمر ضروري ، نحن محتاجون في كل وقت إلى أن نجعل طاعة الله جل وعلا نصب أعيننا ، لا نلتفت يميناً ولا شمالاً ، الطريق مفروغ منه ومليئ بالعقبات والأشواك ، الطريق مفروغ منه دماء ودموع ولكن الوقوف عند الدماء والدموع فشل ، وإنما النجاح والفلاح هو في أن يعتدّ المسلم بعدة كافية من الصبر الطويل لكي يستعين بذاك على قطع مراحل الطريق ، وأرجو أن أكون قد بلغت من ذلك ، أو من هذين ما أريد من إخوتي من الشباب الذين يهتمون بقضية الإسلام ، ولي مع الناس حديث سأقوله إن شاء الله جل وعلا في الجمعة القادمة حينما أتحدث إليكم حديثاً وجيزاً عن تلقينات قوله تعالى في هذه السورة ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) لنرى ما معنى هذا التيسير وما هي الأكلاف التي يلقيه هذا التيسير على أكتاف الأمة ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/6)
تفسير سورة القمر
الجمعة 23 ذي القعدة 1397 / 4 تشرين الثاني 1977
( 4 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فهذه نهاية المطاف إن شاء الله تعالى مع سورة القمر نقف بها عند هذا الحد لنستقبل أحاديث أخرى فيما تبقى من سور المرحلة المكية التي حددنا بأنفسنا حدود النظر فيها ، وما تبقى من سورة القمر مما أردت أن أعرض له في نهاية المرحلة شيء أكبر وأخطر من أن نأتي عليه بحديث واحد قصير ، ولكن ما لا يدرك كله لا يُترك جله كما يقولون .
أحب في البداية أن ألفت أنظاركم إلى ما لفتنا النظر إليه في أول حديث لنا عن سورة القمر ، عن هذا التكرار لصيغة واحدة جاءت تعقيباً على قصص الماضين ، كان منطق الحديث يقضي أن نتعرّض لشيء من الكلام لقصص الأقوام الذين ذُكروا في السورة ، وبالتتبع تبيّن أن السورة التي تلي سورة القمر وهي سورة ( ص ) تضمنت هذه القصص ، وأن السورة التي تلي سورة ( ص ) وهي سورة الأعراف تضمنت هذه القصص ولكن بتفصيل أكبر ، فرجوت إن شاء الله تعالى أن يسهّل الله لنا سبيل القول عن هذه السور حينما نبلغ في أحاديثنا سورة الأعراف ، لأن الحديث عنها هناك أليق .
الشيء الذي يلفت النظر في سورة القمر هو هذه اللازمة التي تكررت أربع مرات تعقيباً على قصص الماضين ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وكأنموذج لذلك نأخذ أول قصة لنتعرّف على جو التعقيب وموحياته ، فبعد افتتاح السورة الكريمة سيقت القصص كما تعلمون تعزية وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من الأذى وما يقابله من المكروه ، وإنما سيقت هذه القصص ليعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس هكذا وأن الدنيا هكذا فلا يضيق صدره ولا يحرج ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) وليعرف أن من طبيعة الناس أنهم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ، وأنهم تخطم أعناقهم خطماً ليجروا إلى طريق الصواب كارهين أو راضين ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي من قومه فوق ما يتصوره العقل ، فقد ساق الله له هذه القصص ليعرف أنه حلقة في سلسلة الهداية الإلهية المستمرة ، وأنه الحلقة الخاتمة فخليق به أن يلقى حثالة ما في الطبع البشري من مساوئ وأوزار ، فهذه القصص تثبيت ( وكلاً نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) وهذه القصص عظة وتذكير ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ) .
لكن هذه القصص في هذه السورة ، سورة القمر ، سيقت بجسمها وتركيبها وبالتعقيبات التي جاءت عليها سياقة توحي باللطف الإلهي ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) وشيء من التأمل يوحي إليك بمعاني ما ينبغي أن تغيب على قارئ القرآن ، قوم نوح هم الجيل الثاني للبشرية إذ أن نوحاً عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية ، فبعد أن فسق الناس عن أمر ربهم من بعد آدم أبي البشر عليه الصلاة والسلام فجّر الله الأرض عيوناً وأطلق السماء ماءً وحمل في الفلك نوحاً ومن معه وقال ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) فهؤلاء إذاً فاتحة طيبة يمكن أن يستخلص منها قارئ القرآن ورجل الدعوة درساً لا أبلغ منه ( كذبت قبلهم قوم نوح ) والتعبير بقوله جلا وعلا ( كذبت ) يوحي بأن هؤلاء الناس يتبعون أهواءهم ويعطلون عقولهم ولا يملكون من أسلحة المعركة إلا هذا الشيء الذي لا يكلف شيئاً إلا سوء الخلق وفساد الطبع وهو التكذيب المجرد غير المستند إلى نظر وغير المؤسس على تحقيق وتدقيق .
وفي قوله تعالى ( فكذبوا عبدنا ) إشارة بالغة ، فهذا المنادي بأسباب الهداية ليس رجلاً يبحث لنفسه مجداً أو يلتمس عند الناس نفعاً أو يتقوّل عليهم من ذات نفسه ، وإنما هو مأمور ( فكذبوا عبدنا ) لم يقل : رسولنا ، لأن الرسول وإن كان ينطق بلسان المرسل ، لكن الرسول يحتفظ بذاتيته الإنسانية الكاملة غير منقوصة ، والتعبير بقوله هنا ( عبدنا ) إشارة إلى أن هذا المتكلم عن الله لا يملك ذاتيته ، لا يملك أسباب الحرية التي تجعله يقول على الله غير الحق وإنما هو عبد مأمور يتحرك ضمن الدائرة التي رسمها له الذي أرسله ( وكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) وهذه الألفاظ وراءها دلالات وحالات نفسية وأوضاع مجتمعية عاشها محمد صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه .
فأول ما يستقرّ في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول ما يستقر في ذهن أتباعه أن طبائع الأمور تقضي بأن يواجَه الداعين إلى الله بهذا التكذيب وبهذه السلسلة التي لا تريد أن تنتهي من الاتهامات والافتراءات ، وأن الواجب إزاء ذلك كله الصبر بغير حدود .
((/1)
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) ( قالوا يا نوح لئن لم تنتهِ لتكونن من المرجومين ) وإذاً فهو الزجر والدفع والصد والكيد والإيذاء وأكثر ، إن نوحاً عليه السلام كما ذكر القرآن لبث في قومه داعياً ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وكانت الأجيال تذهب وتجيء ، وكان الشيخ الهرم وهو يدلف إلى القبر يمسك بولده الصغير ويأتي به إلى نوح عليه السلام ويقول له : إياك أن تتبع هذا الكاذب المجنون . وإذاً فهم يتواصون على رفض الهداية وعلى محاربة الداعين إلى سبيل الحق والصواب كما يتواصى أبناء هذا الزمان على مكافحة الهداية وطمس معالم الهدى والحق .
هؤلاء الأقوام بعد أن قصّ الله علينا من نبئهم في سورة القمر ، كيف جاء التعقيب ؟ ذكر الله خاتمتهم ، ذكر لنا بالنسبة إلى قوم نوح كيف أغرق المكذبين وأنجى نوحاً ومن معه ، وذكر لنا كيف أرسل الريح العقيم على عاد ، وذكر لنا كيف أخذ الأقوام الآخرين بالصيحة وأشباهها ، شيء يجب أن نلتفت إليه : هذا التساؤل الإلهي الذي يلقيه إلى الناس بعد كل قصة ( فكيف كان عذابي ونذر ) ثم ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) قليل من التفكير يوحي بأن لطف الله جل وعلا يتخلل هذه الصور المرعبة للأقوام التي أخذها الله جل وعلا أخذ عزيز مقتدر ، إن الله تعالى لا يأخذ الناس لأول ذنب وحاشاه ، جاء رجل إلى ابن الخطاب رضي الله عنه أو جيء به في حدٍ من حدود الله سارقاً ، فقال يا أمير المؤمنين أقلني ، يعني اعف عني ، فهذه هي أول مرة أسرق فيها ، قال له : كذبت يا عدو الله ما كان الله ليفضح عبده المسلم لأول ذنب . أول ذنب في عوائد الله جل وعلا مستور ومغفور ومعفو عنه إن شاء الله ، لكن الإنسان يستحق النكال إذا استمرأ المرتع الوبيل وذاق الطعام الخبيث فأساغه ، حين ذلك فقط يحق عليه النكال ويأخذه الله تعالى إنفاذاً لسنته الماضية في الكون والأنفس والآفاق .
فهؤلاء حينما يسألنا الله ( فكيف كان عذابي ونذر ) يلفت نظرنا إلى أن الله تعالى لا يأخذ الناس اعتباطاً وإنما يمهل ويمهل ويحذر ويذكّر ، ويأخذهم بالشدائد لعلهم يرجعون ولعلهم يتقون ولعلهم يحذرون ، بل إنه ليمهلهم طويلاً فيمتع أجيالاً برمتها حتى ينسى الناس ما حلّ بهم ويقولون في الأحاديث وفي الأسمار ( قد مسّ آباءنا السراء والضراء ) ويظن الناس أنهم بمنجاة من العذاب ولكن الله تعالى يأخذهم فإذا هم مبلسون ( فكيف كان عذابي ونذر ) عذاب الله لا يأتي إلا بعد الإنذار ، والإنذار يكون تارة بالقول ويكون تارة بالذي يحدث للناس من الأوبئة والأمراض والسنين ونقص من الأموال والثمرات ، ويكون تارة ـ وهذا من اللطف ـ بما يصيب المجاورين من شدائد وكوارث وبلايا فإذا أراد الله جل وعلا أن يفتح مغاليق القلوب اهتدوا ، وإذا أصرّ الناس على العتاد والاستكبار نفذ فيهم قانون الله الذي لا يتخلف .
ثم يأتي هذا التعقيب الذي تكرر أربع مرات ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) تيسير القرآن للذكر تيسير مطلق ، وأعملوا فكركم معي قليلاً ، وفارق بين أن يكون الشيء مطلقاً وبين أن يكون مقيداً في جو معين ، إن تقييد المطلق بجو معين يلونه بتلاوين خاصة ، وها هنا في سياق السورة فالقضية مقيدة كما هو واضح ولو أننا قرأنا السورة الكريمة إلى آخرها لوجدنا الأمر واضحاً ، بعد أن ينتهي عرض الصور التي أُخذت بها الأمم الماضية ويُختتَم ذلك بهذا الإيجاز الذي يوحي بالموت والعذاب السريع والأخذ غير الممهل فقصص آل فرعون ( ولقد جاء آل فرعون النذر ، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) بعد هذا الاقتضاب والإيجاز الشديد يأتي كلام بالغ الدلالة بالنسبة إلى ذلك الزمان ولكل زمان وإذاً فهو مستمر المدى ، بالنسبة إلى التذكر ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ) أنتم أمة من جملة الأمم التي برأها الله جل وعلا وبثها على ظهر هذا الكوكب ، وأنتم لستم خيراً من أولئك الأقوام ، فلقد مضى قبلكم أمم أكثر عدداً وجمعاً وأولاداً وأكثر قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها فحلّ بهم ما قصّ عليكم ، فهل كفار العرب الذين يناوئون رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أولئكم ؟ ما وجه الخير ؟ الدم واحد ، الخلقة واحدة ، المنزلة عند الله واحدة ، والناس كلهم عباد الله ليس بين الله وبين أحد نسب ولا سبب وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى والعافية ويمتازون عنده بطاعة الله تعالى والاستمساك بأوامره والبعد عن مساخطه .
((/2)
أم لكم براءة في الزبر ) أم تقولون نفس القالة التي قالتها اليهود من قبل وقالتها النصارى ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وإذاً فإن الله لن يعذبنا بذنوبنا ، كل ذلك غير كائن ، ثم يلفت أنظارهم إلى أن الله تعالى عذابه حاضر وعتيد ( ولقد أهلكنا أشياعكم ) والأشياع هم الأمثال والنظراء ، تقول هذا الشيء شيع هذا الشيء يعني مثله ونظيره ، ( ولقد أهلكنا أشياعكم ) أي من كان على طريقتكم في العناد والاستكبار على الله تتعالى ، وإذاً فالقيد الذي يطرأ على قوله ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) في ظلال السورة وإطارها العام وفي جوها يوحي بداهة وابتداءً أن الله قصّ هذا القصص من قصص الماضين وعرضه على المسلمين وغير المسلمين وتركه كلاماً باقياً على الدهر لكي يكون وسيلة من وسائل التذكر اليسير ، كان ممكناً أن يطمس الحديث وأن يهذب الله من ذاكرة الناس بنبأ هؤلاء الأقوام وأن يمسح صفحات التاريخ مسحاً فلا يسمع الناس لا بقوم نوح ولا بقوم عاد ولا ثمود ولا بقوم لوط ولا بفرعون .. ويكون الناس كالذي يواجه الأمور لأول مرة ، ولكن الله بلطفه وبرحمته ساق هذا القصص وفصّل فيه وأبْدَأ وأعاد لكي يكون وسيلة للتذكرة ، ثم هو أحد وجوه تيسير القرآن للذكر ، وطبيعي أن الإنسان حينما يقرأ ما جاء في الكتاب الكريم من سير الماضين ومن معارك بين الحق والباطل ، ومن وصف دقيق لمواقف الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم ، سيكون عليه يسيراً أن يعي وأن يتذكر وأن يستبصر .
في هذا الإطار موضوع تيسير القرآن للذكر يبدو للوهلة الأولى محكوماً بفهم مغازي القصص التي سيقت في هذه السورة ، لكن المسألة لها جانبها المطلق ، لها جانبها الذي يتصل بصميم الدعوة وبأصولها العامة ، فالقرآن بالفعل ميسّر ، وقبل أن نذكر بعضاً من وجوه التيسير أحب أن ألفت أنظاركم إلى أن النص على تيسير القرآن للذكر جاء في السور التالية : في سورة القمر يقول الله ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) في سورة الدخان ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) في أواخر سورة مريم ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدّاً ) .. في كل القرآن لم يرد التيسير صراحة إلا في هذه السور فقط ، تأملوا الآن : حينما نأتي إلى آية الدخان ( فإنما يسّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) تكون عندنا قضية ، في آية مريم ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً ) تكون عندنا القضية ذاتها مع ضمائم أخرى ، في سورة الدخان يُذكر التيسير مقروناً بأنه بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه نزل بلغة العرب الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكلام لا يعطينا أكثر من أن هذا القرآن من جملة وجوه تيسيره للذكر أنه جاء بلسان العرب ، لكن حينما نأتي إلى آية مريم نجد الضمائم تضاف إلى المعنى الأصلي ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً ) الإنذار ما هو ؟ التحذير ، واللد من هم ؟ هم القوم الخصمون ، بل ولو أنني أدخل معكم في بعض الأحيان بمباحث تتعلق باللغة لكن هذا ضروري من أجل استقامة الفهم ، كلمة ( اللد ) جمع مفرده ( الألد ) والألد هو الخصم الشديد الخصومة بل إن من بعض معانيه الخصم الذي يغلب صاحبه في الخصومة ، إذاً فالألد هو الذي يغلبك في الخصومة ، أيضاً من معاني المادة التحيّر ، تقول : رأيت فلاناً يتلدّد في طريقه أي يتحيّر ولا يتهدي سبيله أين يكون ، وإذاً فحينما نسمع الله تعالى يصف كتابه الكريم والمحكم بأنه إنذار لقوم لدّ معنى ذلك أنه مؤثر في مواقف بالغة الصعوبة شديدة العنف ، إن الإنسان الذي يحيّرك وهو يخاصمك ويجادلك بنص كلام الله تعالى يمكن أن يُنار له الطريق وأن يُحمَل على أن يتخلى عن هذا الموقف الشنيع ، وإن الإنسان الذي يغلب في العادة خصومه في اللدد والحجاج لا يستطيع أن يغلب كلام الله جل وعلا ، ثم هو أيضاً يبشر المتقين ، ولكن هنا شيء أساسي نصّت عليه آيتان الدخان ومريم هو تيسير القرآن بلسان رسول الله أي بلسان العرب .(/3)
قبل بحث هذه النقطة بصورة وجيزة أحب أن ألفت النظر إلى وجه من وجوه التيسير ، إن القرآن نزل نجوماً متفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين سنة وفي بعض الروايات في عشرين سنة على اعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فاتحة سورة ( اقرأ يعني العلق ) ثم فتر الوحي ثلاث سنين لن يأته فيها جبريل عليه السلام ثم حمي الوحي وتتابع بعد هذه السنوات الثلاث ، وأياً ما هو كان فالقرآن كما هو مقطوع به نزل تفاريق على حسب الحوادث والنوازل ، وكان من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزلت الآيات دعا كتّاب الوحي وقال لهم : اكتبوا هؤلاء الآيات في المكان الذي يذُكر فيه كذا وكذا فيُكتب الوحي غضاً طرياً فور نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومات عليه الصلاة والسلام والقرآن كله مجموع ومكتوب لم يذهب على المسلمين منه حرف ولم تسقط منه آية ، ثم جُمع الجمعة الأخيرة من الصحف التي كُتبت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه وما زال هذا القرآن يُنقل إلينا ويُقرأ بيننا على ذات الصورة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها الأصحاب فهو نقل الكافة عن الكافة وباعتراف خصوم الإسلام والقرآن أنه لا يوجد على ظهر الأرض نص نقل إلى الناس على النحو الذي جاء به إلا القرآن الكريم .
حينما تأخذ بالمقايسة والمقارنة : أين صحف إبراهيم وأين زبور داوود وأين ما أنزل الله على المرسلين السابقين تجد أن هذا غير موجود بإطلاق ، حينما تأتي إلى النبوات المتأخرة إلى توراة موسى وإنجيل عيسى صلى الله عليهما وتسأل : أين هما ؟ لا تجدهما ، وما يقرأهما الناس من هذا الكلام الركيك الأعجمي المخلط الذي يسمى توراةً ويسمى إنجيلاً فما هو بالتوراة وما هو بالإنجيل وإنما هي أماني اكتتبها الأحبار والرهبان ليضعوا المكان لأنفسهم وليصطادوا أموال الناس وليلفتوا أعناق الناس نحوهم ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) نصوص التوراة والإنجيل لم تُكتب في حينها وإنما كتبت بعد عشرات السنين ، والأمر بالنسبة إلى التوراة أخطر ، لأن التوراة لم تُكتب إلا بعد السبي البابلي أي بعد ما لا يقل عن خمسة قرون من وفاة موسى صلوات الله عليه وكتبت بناءً على نقل شفوي لا يستند إلى أصل مكتوب .
وإذاً فحينما نريد أن نرجع إلى نص في التوراة أو نص في الإنجيل فالأمر ليس يسيراً وإنما هو عسير غاية العسر ، والذين لهم بعض الاطلاع على مقارنة الأديان يعرفون الكلام الكثير الذي أثير حول نصوص التوراة والإنجيل ، وإذاً فلا أعسر ولا أشق ولا صعب من أن يستطيع الإنسان الاهتداء إلى وصاةٍ من وصايا الله في التوراة والإنجيل ، ثم يقول باطمئنان هذا هو ما قال الله أو هذا هو ما قال موسى أو عيسى عليهما السلام ، لكن الأمر بالنسبة إلى القرآن فمختلف تماماً .
بالنسبة إلى القرآن .. الصغير والكبير والرجل والمرأة والقريب والبعيد والذي مات منذ عشرات القرون ومن هو حي الآن لا يختلفون جميعاً في أن هذا القرآن هو النص الذي نزل من عند الله بوساطة الأمين جبريل سفير الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما يقرأ الناس في مصاحفهم وما يقرأون في محاريبهم فذات الكلام النازل من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا وجه من وجوه التيسير الذي حفظ الله به هذا الدين وجعله يسيراً على طالبيه .
هذا تيسير أي تقريب للنص ووضع له بدقة وصدق بين أيدي الناس . تبقى المسألة واحدة ، مسألة تيسير القرآن بلسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي مسألة طويلة الذيول ، وأحسبني ألمحت إليها من قبل ، وسأقول لكم بعد قليل .(/4)
إن اللغة وعاء الفكر ، وباللغة يتواصل الناس ، ولولا اللغة لما أمكن أن ينقل فكر إلى فكر ولا أمكن أن يتفاهم إنسان مع إنسان ، واتحاد اللغة شرط لا غنى عنه من أجل الإفهام والتبليغ ، والله تعالى ذكر هذا في معرض المنة وقال ( ولو أنزلناه على بعض الأعجمين ) فلو كان القرآن نازلاً على العرب بلسان بعض الأعجمين لكان عسيراً غير يسير ولاستحال التفاهم ، فاتحاد اللسان بين المرسل والمرسل إليهم شرط لا بد منه من أجل وصول البلاغ ومن أجل تسير الوصول إليهم ولهذا قال الله ( فإنما يسّرناه بلسانك ) ولو لم يكن نازلاً بلغة العرب لاستحال أن يفهم العرب شيئاً من كلام الله تعالى ، وهنا تبدأ المعضلة فنحن نعلم أن هذا الإسلام كتابه الخالد ودستوره الباقي هو القرآن ، وأن القرآن نزل بلسان عربي مبين على قلب رسول الله ليكون من المنذِرين ، لكنا نعلم من جانب آخر أن الإسلام كلمة الله إلى الناس كافة ، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسوله إلى الناس عامة ( وما أرسلناك إلا رحمة إلا العالمين ) ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض ) وإذاً فكيف يستقيم لنا ادّعاء أن يكون القرآن ميسّراً للذكر مع اختلاف الألسنة ؟ في ظاهر الأمر يضع السلاح في أيدي خصوم الإسلام الذين يقولون إن الإسلام دين للعرب وليس لغير العرب ، ولكن هذا القول يصطدم بالحقائق الرئيسية الأساسية في الإسلام وفي كتاب الله وفي سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سأقول من غير مقدمات ، الله تعالى قال ( الله يجتبي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) أي يختار ، والله قال في معرض الرد على الذين يتخيرون كما يشتهون أن يكون الرسل قال ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) والله تعالى اختار أن يكون كتابه الخاتم بلسان العرب ، وعلماء اللسان عامة يعرفون أن لسان العرب له مزاياه الخاصة ، أي أنه قادر أي اللسان على حمل الدلائل وليس فقط الدلائل بل الموحيات أي الظلال والانعكاسات التي تتولد في النفس والذهن وتثير المشاعر حينما يسمع الإنسان الكلام ، ذلك شيء في طبيعة لسان العرب ، وسائر الألسنة الأخرى عاجزة عن إيصال أدق المشاعر الإنسانية على النحو الذي يقدر عليه لسان العرب ، ومن هنا كان الإسلام عربي اللسان ، وواقع التاريخ يشهد أن انتشار الإسلام كان دائماً مصحوباً بانتشار لغة العرب ، لأن هذا الإسلام لا يُفهم حق الفهم إلا إذا استطعنا أن نفهم اللسان الذي نزل به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحول هذه القضية حصلت بلبلة خطيرة ، حصلت بلبلة مفاده ضياع القضية الأساسية ، وأنا أقول ضياعها ولا أعني أنها ضاعت من تلقاء نفسها ، فتلك قضية كانت واضحة تماماً في أذهان الرواد الأوائل من المسلمين ولكنها أضيعت بفعل الأبالسة من المسلمين ومن غير المسلمين من خصوم هذه الأمة وأعداء تاريخها والذين يبغون لها الخبالة والضيعة .
إن هذه القضية ضاعت بين الشعوبية التي تضرب العرب باسم الإسلام وبين العروبيين الذين يضربون الإسلام باسم العرب ، وكلا الفريقين مخطئ وواهم بل ومجرم ، ولا أقول هو مجرم بحق العرب كالعرب فأنا لا يعنيني العرب كالعرب وإنما يعنيني العرب كمسلمين ، ولكنهم مجرمون بحق الإنسانية لأنهم يؤخرون ساعة خلاص هذه الإنسانية من هذه الأوهام التي تشدهم إلى الأوحال النتنة التي يتمرغون بها في هذه الأيام . إن الإسلام كما قلنا عربي اللسان عربي الكتاب عربي النبي ، ولكن في مفهومات الإسلام ، الناس من حيث الجبلة والطينة شيء واحد يتمايزون عند الله بالتقوى ويتفاضلون عنده بالطاعة ، والمزايا التي يمنحها الله للأفراد ويمنحها الله للأمم لها في مفاهيم الإسلام معنى ، بعض الناس حينما يرى نفسه قوي البدن يتصور أن قوة بدنه تعني أن يستطيل على الناس بالعدوان بالضرب والقتل وسفك الدم ، بعض الناس حينما يبسط الله لهم بالرزق يتصورون أن هذا الرزق المبسوط وهذا المال الممدود إنما هو وسيلة لانتهاك الأعراض وتعبيد الناس واستخدام البشر والاستطالة عليهم .(/5)
بعض الأمم حين تصل إلى بعض المعارف التي تهيئ لها وسيلة من وسائل القوة وحينما تجد نفسها أربى من غيرها في ميزان القوة تتصور أن من حقها أن تنهب وتعمل كل شيء . المزايا والفضائل في الإسلام لها غير هذه المعاني ، المزية تكليف في الإسلام وليست تشريفاً ، عمر بن الخطاب وأبو بكر ومن قبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبل في سجل التاريخ أنبياء الله جميعاً كانوا حينما توسد إليهم الأمور وتوكل إليهم قضايا الناس يحرمون أنفسهم لذيذ الطعام وهنيئ المنام ويتعبون وينصبون من أجل راحة الناس . وحينما رأى عمر رضي الله عنه وهو يعس ذات ليلة امرأة ورجلاً قد جهدهما الجوع وأصابهما البرد والمرأة في المخاض ذهب يسعى كالمأخوذ حتى جاء إلى بيته وقال لامرأته : هل لك في خير ساقه الله إليك ؟ قالت : ماذا ؟ قال لها : امرأة كذا وكذا ، فقومي ساعديها على الولادة . ثم أخذ كيساً من دقيق وعكة من سمن وأخذهما على ظهره وأخذ يشتد مهرولاً يطلب هذا الخباء الذي يسكنه فقير وفقيرة وصبية يبكون من الجوع ، وكان معه غلامه ، قال له : ألا أحمل عنك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أتحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك . وإذاً فهو يشعر بهذه المزية التي منحها الله له وساقها إليه تكليفاً وليست تشريفاً . كان ذات يوم يقف في وادٍ ونظر وضرب بالدرة على قدمه وقال : بخٍ بخٍ يا ابن الخطاب بالأمس كنتَ ترعى الغنم للخطاب وكان يعنف عليك ، قال له ابنه عبد الله : يا أبتي ما أكثر ما تهين نفسك ؟ قال : يا بني إن أباك أعجبته نفسه فأحببت أن أهينها .(/6)
فالمزايا سواء كانت للأفراد أو كانت للأمم هي تكليف وليست تشريفاً ، ولن ينفعنا شيء أن نقول : نحن العرب ، فذلك شيء لا يقدم ولا يؤخر . ومذ سنتين فيما أظن في هذا المكان حينما كنت أحدثكم عن بعض موحيات الهجرة إلى الحبشة تعرضت لهذه الناحية ، نحن لا نهتم للعرب كعرب ، والعرب لم يأخذوا قيمتهم في التاريخ ولم يأخذوا قيمتهم حالياً ولم تضربهم الأمم عن قوس واحدة لأنهم أبناء قحطان أو أبناء عدنان ، فقحطان وعدنان لا يزنان عند الله جناح بعوضة ، ولكنهم أخذوا منزلتهم في التاريخ وأخذوا قيمتهم الماضية ولهم وزنهم الحاضر من حيث هم حملة الرسالة وأرباب اللسان الذي نزل به كتاب الله ، والكثرة والقلة ليست شيئاً . هذه الهند التي تعدّ ست أو سبع مائة مليون ، في الموازين الدولية لا تساوي شيئاً ، وهذه الصين تعدّ ألف مليون ، في الموازين الدولية وفي الصراع لا تساوي شيئاً ، لكن العرب كعرب يعدّون مائة مليون ومع ذلك فالشرق والغرب والشمال والجنوب يتواصون على ضرورة إبقاء العرب في التخلف والخبال ، وإبعادهم عن حقائق اللسان وتمزيقهم كي لا يكونوا أمة واحدة ، لماذا ؟ ألأنهم عرب ؟ وما قحطان وما عدنان وما يعرب وما يشجب ؟ هؤلاء الأعاريب ليسوا عند الله شيئاً ، ولكن القيمة مستمدة من هذا الكتاب ، من هذا الدين ، والأمة حينما تعي هذه الحقيقة وتفي لهذا الدين وتعرف أن حياتها ومستقبلها لهذا الدين وتعرف أن الله كلّفها تكاليف وحمّلها أثقالاً لكي تقوم بها فحينئذ سيتبدد وجه الأرض ، وسيكون العرب غير عرب اليوم الذين يشكلون خزياً وعاراً وشناراً ليس في جبين العرب فقط وإنما في جبين الإنسانية جميعاً ، إن عرب اليوم أناس شائهون فكراً وخلقاً واتجاهاً ، إن عرب اليوم لا يملكون أن يقوّموا ألسنتهم بلغتهم الخاصة فهم يتراطنون بلغات الأعاجم وذلك شيء مصنوع لكي تغيب حقائق الكتاب في هذه الرطانة الأعجمية ، وإن العرب يقفون من غير استثناء من غير ادّعاءات من غير منفخة فارغة وكاذبة ، كلهم ضالعون مع الاستعمار ، أجراء وأذلة مع أعداء هذه الأمة ومع خصومها التاريخيين ، حتى الناس الذي بُرّر وجودهم لكونهم يريدون أن يجمعوا شمل العرب أصبحوا أكبر العوامل في تمزيق أمة العرب ، هؤلاء لو عقلوا عن الله لعرفوا أنهم يحافظون على صناعة استعمارية بحتة ، وكم من مرة قلت لكم : كان الموظف في زمن آبائكم يذهب من هنا إلى القسطنطينية ويخدم هناك ، ويذهب من هنا إلى اليمن ويخدم هناك كما ينقل من مدينة إلى أخرى ، لماذا ؟ لأنها كانت أمة واحدة ، متى كان ذلك ؟ عام 1917 ، حينذاك جاء الاستعمار واليهودية العالمية والصليبية الدولية وخصوم الأمة الذين يقف وزراؤهم وملوكهم ورؤساؤهم يمسكون بالقرآن قائلين في مجالسهم العامة : ما بقي هذا القرآن يُقرأ بين العرب فلا سبيل إلى استعمارهم ، هؤلاء خططوا لتكون الأمة الواحدة أمم ، والدولة الواحدة دولاً ، وأصبحنا وبعد مسيرة دامت ستين سنة إلى الآن نحاول أن نخرج من هذا التيه ، وأكرر الناس الذين يبًرر وجودهم على مسرح الحياة السياسية والاجتماعية بلمّ شمل الأمة هم الذين يمزقون الأمة ويؤخرون جمعها ، ونحن حينما ننادي بجمع الأمة العربية ليس في ذهننا كما أحب أن يكون ذلك واضحاً تماماً أن نصنع دولة عربية من المحيط إلى الخليج ، تلك شعارات لا تساوي في موازين التاريخ فلساً ممسوحاً ، لا ، ولكن نريد لهذه الأمة حين تجتمع على جنسها وعلى لسانها أن تعود لتعرف واجباتها ، ما هو واجبها ؟
اسمعوا الله تعالى ماذا يقول في سورة الزخرف ، يقول مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام : ( فاستمسك بالذي أُوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ) أي إن هذا القرآن شرف لك ولقومك وليس هذا فحسب ولكنكم سوف تسألون يوم القيامة عن هذا الشرف ، ولماذا السؤال ؟ أأنت صنعتَ نفسك فلم تنظر لها ، هل تستحق كل هذا التهديد الرعيد ؟ لا ، ولكن أنت باستمساكك بالذي أوحي إليك وبمحافظتك على هذا الشرف الذي اختصك الله به إنما تؤدي للإنسانية خدمة التي تنتظرها الإنسانية ، إن الإنسانية طالما كانت تعيش في دول منعزلة على طريقة القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وطالما كانت الإنسانية تعيش على ألسنة مبلبلة غير متفقة فلا مجال لأن يسود بينها السلام ولا مجال لأن يتحقق بين أفرادها التفاهم ، وإن شرط التفاهم والسلام في وحدة اللسان وإزالة الحدود وفوارق الجغرافيا التي يتمسك بها الناس ، وتلك مهمة منوطة بالإسلام والمسلمين وشرطها أن يعرف العرب واجبهم حيال هذا الأمر .(/7)
في حديث معاوية الصحيح بعد أن ذكر بعد أن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سيحل بالخلائق الشائهة في هذه الأمة قال أي رسول الله : سيكون أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب لصاحبه ، لا يدع عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله . ثم يلتفت معاوية على منبر النبي عليه الصلاة السلام فيخاطب المسلمين قائلاً هذه الكلمة التي قلت لكم وعاها الرواد وعياً تماماً وعملوا بمقتضاها عملاً مشكوراً ومبروراً وهم من أجل ذلك مذكورون أبد الدهر قال لهم : يا معشر العرب والله لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لغيركم من الأمم أعجز عن ذلك . إن خلاص الإنسانية إذاً أمانة في عنق العرب لا لأنهم جنس ولكن لأنهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن ، والذي اعتبر هذا اللسان وسيلة أو وجهاً من وجوه التيسير ، أليس من التيسير أن تقرأ القرآن وأنت لم تشدو من العلم إلا القليل فتفهم مراد الله ؟ أليس من التيسير أن تقرأ القرآن فتنفعل به ؟ أليس من التيسير أن تقرأ القرآن فيقشعر له جلدك ويخشع له قلبك ؟ أليس من التيسير أن يفهم القرآن الطفل والشاب والشيخ والمرأة وكل أحد ؟ ذلك كله تيسير وهو سرّ من أسرار الله جل وعلا أودعه في هذا الكتاب وجعل وعاءه هذا اللسان وجعله المنة ( فإنما يسّرناه بلسانك ) .
أأزيدكم شيئاً ؟ لا أعتقد بعد هذا الكلام محتاجون إلى شيء ، شيء أخير أحب أن أكرره . أقول لكم بمنتهى الحرية والوضوح ، الزمان الذي كانت تروّج فيه الشعارات المضللة والباطلة واليوم ، في الماضي وقبل عشرات كانت الخرافة تحتاج إلى عشرات السنين لكي يظهر زيفها وبطلانها ، ونحن نعيش في عصر فُتحت فيه منافذ العصر جميعاً وتواصل الناس فيه لم يكن يحلم فيها اشد الناس جموحاً في التطور والحياة . والخرافة التي تطلق اليوم قد لا تحتاج إلا إلى عدة أيام لتسقط ويبدو زيفها ، هذه الأمة عاشت على خرافات وعاشت على أضاليل ، ومن أخطر الأضاليل أن يوضع العرب في مقابلة المسلمين وأن يظهرا أنهما نقيضان ، آن لكل واحد أن يعلن حقيقة أولية بدهية : من لم يكن مسلماً فليس بعربي وإن نطق بلغة العرب وإن نزل من صلب عدنان وقحطان ، فالعرب هم المسلمون ، ومن كان يريد شاهداً ودليلاً فليسأل الذين كانوا في أوروبا وفي أمريكا عام 1967 ، ماذا فعل اليهود والنصارى بل الذين لا يحبون اليهود ولا النصارى من الملاحدة الشيوعيين ولا يؤمنون برب ولا بدين ، حينما هُزم العرب هزيمتهم الشنيعة كانوا يرقصون في الشوارع ، وعُرضت صورنا ونحن نعاني الهزيمة والذل كدعاوى على أننا أمة لا تستحق البقاء ولا تستحق العيش ، بل لماذا نذهب إلى أوروبا وأمريكا ؟ اذهبوا إلى الجزيرة ماذا كان يفعل النصارى حينما حلّت الكسرة بالعرب ، إنما الكسرة بالعرب فُسّرت على أنها هزيمة للإسلام ، والشعار الذي كان ينادي به اليهود بعد أن أكملوا احتلال مدينة القدس محمد مات وخلف بنات ، ويا ليتهن بنات بل هن عاهرات . مع الأسف الشديد ، إن هذه المناقضة باطلة فالعرب الحقيقيون هم المسلمون ، والمسلمون هم الذين يحفظون كرامة العرب وهم الذين يصونون بيضة العرب ، وهم الذين يُطلب إليهم أن يجعلوا لغة العرب لغة العالم كله ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ألا إن العربية ليست من أحدكم بأم ولا أب ، ألا إنما العربية اللسان . فمن تكلم العربية فهو عربي ، وهذا تحديد قاطع لرجل لم يأتنا من اليونان كميشيل عفلق مثلاً ، وإنما هو أعرب العرب وسيد العرب ، يحدد معنى العروبة ويحدد من هم العرب ، وحينما نأخذ على عواتقنا نحن المسلمين أن نجعل لغة الدنيا كلها هي اللغة العربية فقولوا لي من هم أوفى للعرب ؟ أنحن أم اللصقاء بالعرب ؟ أنحن أم الذين ينتمون إلى العرب زوراً وبهتاناً تقذفهم إلينا بقاع الدنيا لا يُعرَف لهم أب ولا يُعرَف لهم جد ، ويأتون ليزاودوا علينا في العروبة ، وأحدهم إذا نطق كلمتين يخلط فيهما بلغة أعجمية ، إننا حينما نقول هذا الكلام نطلب إلى شباب الأمة أن يواجهوا الحقائق ، زمن الخرافات ولى ، وزمن الشعارات ولى ، وشباب الأمة منتدب لكي يواجه الحقيقة المرة ، فإما أن يواجهها مواجهة الرجال ، وإما أن يحق عليه مقالة اليهود ( محمد مات وخلّف بنات ) وأنا أزيد وبنات عاهرات .
لكنا في الله جل وعلا رجاءً متيناً وقوياً ألا يضيع هذه الأمة وأن يحفظ علها دينها وأن يعطف قلوبها على هذا الدين وأن يأخذ بمقادتها إلى طريق الهدى والصواب وأن يجعل في كل واحد منا وازعاً يدفعه إلى أن يتجاوز شهواته ، وإلى أن يدوس على أطماعه ، وإلى أن يعلم أن الله ضرب علينا قدراً وهو لنا تكليف ومسؤولية نؤدي الحساب هنا ولكن الحساب الأخير والعسير سيؤدى عنها هناك .
وأسأل الله تعالى أن لا تطيش موازيننا هناك وأن يُثقل الله موازيننا بالعمل الصالح المثمر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورة القمر
الجمعة 24 شوال 1397 / 7 تشرين الأول 1977
( 1 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ... أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فنحن اليوم نواجه سورة كريمة في سياق تتبعنا لأوائل ما نزل من كتاب الله تعالى من أجل أن نتعرف على أساسيات الدعوة وقواعدها في العمل والسلوك وأساليب نشر الدعوة ، إضافة إلى ما تضمنته الآيات الكريمة منذ البداية من ترسيخ قواعد العقيدة بأسسها الثابتة .
هذه السورة هي السادسة والثلاثون في ترتيب النزول على الأشهر وما ارتضيناه في هذا الترتيب وفاقاً لما تبين لنا من شواهد ودلائل .. وهذه السورة الكريمة هي سورة القمر وهي من السور المتوسطة ، وبالرغم من أنها تدور حول المحور الذي دارت حوله سور عديدة ماضية استعرضناها وتحدثنا عنها ، فالذي يلفت النظر في هذه السورة الكريمة طعمها ومذاقها الخاص ، وقعها المميز ، في الحس والشعور والعقل جميعاً , ولئن أراد الواحد منكم ممن تتبع هذه السلسلة من الأحاديث ، ولا سيما في شوطها الأخير ، لمن أراد أن يرجع إلى أوائل السور التي اختُصت أو تميزت بالحديث عن اليوم الأخر بصورة أساسية ومقصودة فبدأ بإلقاء نظرة على سورة القارعة ، وهي سورة اختصت بوصف اليوم الآخر وما يكون من شأن الناس فيه ، دون أن تعرّج على ضرب الأمثال ولا إيراد الحجج وسوق الدلائل والبراهين ، ثم ذهب يستعرض السورة التي بعدها وهي سورة القيامة ، فيرى ما تناولته أثناء الحديث عن موضوع اليوم الآخر ، من شواهد ودلائل وبينات فأوضحت دلائل ذلك في الكون والآثار ، وأوضحت شواهد ذلك في الأنفس ، وساقت دلائل ذلك في باب الأخلاقيات وما يتعايش عليه الناس وضرورة أن لا يضيع حس العدل وقانون العدل ، وأن لا تطيش موازين العدل التي قامت به السماوات والأرض ، ثم عقب بعد ذلك على سورة الهمزة وهي التي جاءت بعد سورة القيامة ، يرى بوضوح أن موضوع القيامة واليوم الآخر حين عرضه القرآن في شوطه الأول لن تذهب أصداؤه ضائعة بين أمواج الأثير ولكنها تركت أصداءها القوية وآثارها العارمة في المجتمع الذي توّجه إليه خطاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم .
فإذا مضى بعد يستعرض سورة المرسلات رأى الأمر يعاد ولكن بأثواب أخرى وبأساليب جديدة ، فإذا انحدر إلى سورة قاف رأى الأمر يأخذ بُعداً آخر أو أبعاداً أخرى ، فقبل ، كان موضوع القيامة موضوع إنكار واستنكار وكانت الأجوبة تأتي على هذا على قدر الموقف ومتطلبات الموقف ولا مزيد ، ولكننا من سورة قاف نستشف شيء آخر عرضناه قبل وتكلمنا عليه بما يسر الله وأعان ، رأينا أن موضوع القيامة يخرج ليكون تساؤلاً ضخماً عن قدرة الله وعن علم الله تبارك وتعالى ، وإذاً فالقضية تنداح وتتسع .
فإذا جئنا بعد ذلك إلى سورة البلد وسورة الطارق وهي السورة التي عرضنا لها في الجمعة الماضية كشفنا عن شيء جديد أيضاً وهو أن الله سبحانه لن يكتفي بالرد على شبهات المشركين وبتفنيد تخرصات الكافرين وإنما تناول الإنسان ، فبيّن أنه كرم هذا الإنسان ، ومما تعارف الناس عليه وجرى بينهم كالقانون ، إن شكر المنعم واجب وإن معرفة كرم الكريم ضروري وحسن في أخلاق الناس ، وأنه تبعاً لذلك ولما أن أحداً من خلق الله لا يدعي أنه خلق نفسه ولا يستقيم في العقل أنه خُلق من غير شيء ، من أجل ذلك كانت بداهة الحس وضرورة العقل وأوليات المنطق تقضي بأن الإنسان مخلوق من قبل قوة أخرى مفارقة ولنصطلح على أن نسميها ( الله ) فإذا كان الأمر كذلك فمن عدم الأخلاق الذي يستنكره آحاد الناس فيما بينهم في الحياة الدنيا وفيما يتهادونه من معروف أن يقف الإنسان من المنعم موقف الجحود والنكران .
فإذا نقلنا الأمر إلى موضوع الرب والعبد كانت الجريمة أكبر ، وكانت الإساءة أوغل في الشناعة والإسفاف ، وهذا طور جديد ترقى إليه السورة .. لماذا ؟ لأن الله تعالى يريد قلب الإنسان وإرادته المحررة من كل ضغط ، المبرأة من كل استكراه ، ولو أن الله تعالى شاء أن يعطف قلوب الناس جميعاً إلى الإيمان لاستطاع ذلك .. وتبارك الله ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ) ولكن الإنسان يتفرد في هذا الكون بأنه مخلوق حر الإرادة طليق التفكير لكي يكون مؤهلاً لتحمل التبعة ومواجهة المسؤولية وهي أساس الثواب والعقاب ومناط الحساب في هذه الدنيا وعند الله في اليوم الآخر .(/1)
ولولا أن الإنسان مخلوق يلج في العناد ويسترسل في التكذيب ، غير ملقٍ بالاً إلى ما يستند إليه من حجة وعقل ومنطق ، لولا ذلك لكان بعض ما مضى كافياً لكي يحمل الناس على الإقرار بيوم القيامة ، وبأن الناس معروضون على الله وبأن كشف الحساب لا بد أن يقدم هناك . وأنا في غنى عن إعادة القول بأن إلحاح القرآن على تأكيد يوم القيامة وغرسه في جذر قلوب المؤمنين أمر ضروري ، لأن الإنسان الذي لا يؤمن بمرد ولا بمعاد إنسان لا خير فيه ، لأنه هو والبهيمة السارحة سواء ، بل لعل البهيمة أقل أذى وأقل شراً من الإنسان الذي لا يؤمن بالله وبحتمية الحساب بين يدي الله تعالى ، وما أصدق قولة الشاعر العربي القديم :
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً خيانة
فالإنسان الذي لا تشده إلى قواعد الحق والعدل وأصول الخير أسباب تتصل باليقين بالله ، وبحتمية المصير إلى الله ، إنسان فاتك أقرب إلى أن يكون شيطاناً رجيماً .
هذه السورة التي نواجهها الآن سورة تدور حول ذات المحاور ، لكن لها مذاقاً خاصاً ولها جرس خاص ، وحسبنا أن نلتفت إلى فواصل السورة ، ولعلي لا أبالغ إذا قلت : إن امرأ لم يتضلع بعلوم اللغة العربية ولم يفقه أسرار اللسان الذي نزل به القرآن لو تلوتَ عليه هذه السورة لشعر من موسيقاها ومن تقطيع فواصلها ومن جرس كلماتها أنه أمام شيء رهيب غير عادي ، السورة لا أستطيع أن أشرحها كلها في هذا الموقف ، وإنما ألقي عليها نظرة عجلى ، وإن بقي لدي من الوقت ما يسمح بشيء من الزيادة زدت ملاحظة ضرورية ستأتيكم إن شاء الله .
هذه السورة تشير في مطالعها إلى حادث شهير ذكره القرآن في هذه السورة وجاءت به الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بالوقوع ، تشير إلى اشتهر بانشقاق القمر ، اسمعوا أول السورة ( بسم الله الحمن الرحيم ، اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يُعرضوا ويقولوا سحر مستمر ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ، حكمة بالغة فما تغنِ النذر ، فتولَ عنهم يوم يدعو الداعِ إلى شيء نكر ، خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ، مهطعين إلى الداعِ يقول الكافرون هذا يوم عسر ) هذه فاتحة السورة الكريمة تشير إلى واقعة هي انشقاق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة النبوية أثناء انصباب المحن وصنوف البلاء على المسلمين .
والروايات كما قلنا في الحديث الشريف جاءت مصرحة بأن المشركين من المكيين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر نصفين ، فلقة ثبتت في مكانها ، وأخرى ذهبت خلف الجبل ، حتى رؤي حراء وهو الجبل المعروف قرب مكة من بين فرقتي القمر المنشق استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند حدثنا معمر يعني ابن راشد عن قتادة عن أنس أن أهل مكة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر قد انشق شقين . وأخرجه من طريق قتادة أيضاً البخاري في الصحيح ، ولم ينفرد أنس بهذه الرواية ، فالرواية في الصحاح وليس خارج الصحاح ، لو أردت أن أذكر لكم عما جاء عنها خارج صحاح الحديث لطال بنا المطال ، ولكنها في الصحاح مروية عن أنس بطرق صحيحة وثيقة ، ومروية عن جبير بن مطعم رضي الله عنه بطرق صحيحة وثيقة ، ومروية عن ابن عباس رضي الله عنهما بطرق صحيحة وثيقة ، وعن ابن عمر كذلك ، وعن عبد الله بن مسعود ، فهؤلاء خمسة من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يثبتون هذه الواقعة إثباتاً لا شبهة فيها ولا ريب بأسانيد هي كالشمس وضوحاً ، فلا معنى للنقاش والمراء من حول ذلك .
وسأعود فيما بعد لأناقش بعض المفسرين من المحدثين والمعاصرين ممن كبر عليهم للهزيمة العقلية والشعورية التي يحسها ابن اليوم فيسارع إلى تكذيب الخوارق والمعجزات ظناً منه أنه إنسان عقلاني .. سأعود لمناقشة هذه النقطة فيما بعد إن شاء الله .
أقول بعد ذلك بعد أن عرضت السورة الكريمة هذا الخارق المعجز تحدثت عن نبأ أقوام ، وليس غريباً عنا عن نبأ الأقوام الماضين ، فقد مرّ معنا من قبل حديث عن بعض الأقوام في سورة الفجر ( ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ) إذاً فبين أيدينا حديث مضى عن أقوام ثلاثة جاءت الإشارة إليها مقتضبة إلى حدٍ ما ، لكنا هنا نواجه حديثاً إضافياً عن أقوام جدد ، تحدثنا السورة عن قوم نوح ، كما تحدثنا عن قوم لوط ، وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها في سياق التنزيل بنبأ هاتين الأمتين مع رسل الله تبارك وتعالى .(/2)
يقول الله تعالى مفتتحاً الحديث عن الأقوام المكذبين تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً لبعض القواعد والأسس اللازمة أثناء العمل من أجل هذا الدين وحمل حقيقة هذا الإسلام ، يُفتتح الحديث عن قوم نوح ولا غرابة ، فنوح الأب الثاني للبشرية ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) وللمتأمل أن ينظر في هذه المقالة التي وُوجه بها نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام وإلى تكررها على ألسنة المكذبين باستمرار حتى استقرت على ألسنة الذي كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أما أنهم قالوا إن محمداً عليه الصلاة والسلام مجنون فذلك أشهر من أن يُذكر ، وليس بعيداً عنكم ما كان من حديثنا عن قول الله تعالى في فاتحة سورة القلم ( نون والقلم وما يسطرون ، ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فنفى عنه الجنون . وكما ازدجر نوح عليه السلام ونُهي عن المضي في الدعوة إلى الله فقد ازدجر محمد عليه الصلاة والسلام ونُهي عن الدعوة إلى الله تعالى .
وفي أول سورة نزلت من القرآن وهي سورة العلق ( أرأيت الذي ينهى ، عبداً إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى ، أو أمر بالتقوى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم يتنهِ لنسفعن بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدعُ ناديه ، سندع الزبانية ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ) فالفاتحة كما ترون عندما انعقل عن الله تعالى معنى ما أراد في كتابه ليست تراد لكي يقصّ علينا قصص من تاريخ الأقوام الذين مضوا ، فشأن القرآن أرفع وأجل وأعظم وأكثر فاعلية من أن يكون كتاب تاريخ يثبت وقائع من وقائع التاريخ ، ولكن القرآن يختار الواقعة التاريخية لتخدم الغرض العام فتأتي في مناسبتها الخاصة وفي تقديرها الذي لا يوجد إلا في محكم التنزيل في كتاب الله تعالى . والذي يقرأ هذا الكلام يدرك بكل سهولة أن مردوده في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن يا محمد ليس بدعاً من البدع ما وُوجهتَ به من صد وتكذيب ، فقد صُدّ من قبلك وكُذّب رسل الله جميعاً . وليس جديداً من سفاهة البشرية وضلالها أن يقال لك إنك مجنون ، فأبو الأنبياء نوح قيل له ذلك ، وليس جديداً أبداً أن تزجر عن الدعوة إلى الله فقد ازدجر من قبلك نوح وهو أول الرسل من أولي العزم صلوات الله تعالى عليهم ، وإذاً فالذي يراد منك يا محمد أن تزداد بصيرة في أمر الله ، وأن تزداد رسوخاً على طريق الدعوة ، وأن لا يلفتك عن مرضاة الله تعالى هذه السفاهة الصغيرة التي تخرج وتنجم من قوم سفهاء الأحلام صغار العقول .
فهذا ما يستقر في ذهن أي قارئ للقرآن ، ولك بعد أن تعمم ، فالمسألة أي هذه الواقعة الدعوية الحركية ليست واقفة عند حدود النبيين والمرسلين ، وإنما هي واقعة تتكرر باستمرار على مدى الأيام والأدهار والعصور ، فحيثما رأيت دعوةً إلى الله تأخذ طريقها باستقامة وتثبت قدميها في مستنقع الموت في سبيل الله جل وعلا تواجه بهذه السخرية المهينة ، إن هؤلاء الدعاة مجانين وإنهم أهلٌ لأن يزجروا وينهوا كما يُنهى السفهاء والمجانين ومن في حكمهم . ولكن لن يمضي إلا قليل وقت حتى يضحك الذين كانوا يبكون من قبل ، ويبكي الذين كانوا يضحكون من قبل ذلك ، ذلك بأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
فالقصة التي بُدأت بها هذه السلسلة من الأحاديث وهي قصة نوح عليه السلام زاخرة بالعبر والدلائل مما لا أريد أن أتعرض له الآن ، ولكني ألمعت إلماعاً يشبه أن يكون ضوءاً أمام الإخوة لكي يقرؤا القرآن بعقلانية أكثر وبتدبر أكثر ، فوراء كل آية وكل كلمة من كلمات الله جل وعلا عالم من المعاني يحتاج إلى ناس يقرؤونه بوعي لكي يدركوا مرادات الخالق تبارك وتعالى .
نمضي ( كذبت قبلهم ) يعني قبل هؤلاء المشركين ( قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ، وحملناه على ذات ألواح ودسر ، تجري بأعيننا ) أي بحفظنا ( جزاءً لمن كان كفر ، ولقد تركناها آية ) أي تركنا هذه الواقعة آية يتناقل الناس خبرها سلفاً عن سلف ، أو تركنا السفينة التي حملت نوحاً ومن معه آية بيّنة على قدرة الله حتى أدركت بقاياها أوائل هذه الأمة ، ولقد حدثني بعض الذين يسكنون في منطقة الجودي وهو الجبل الذي رست عليه سفينة نوح في أشهر الروايات أنهم يجدون إلى الآن بقايا المسامير المتخلفة عن سفينة نوح عليه السلام في قمة جبل الجودي ، ولكني ما رأيت ذلك بعيني للأسف ، مع أني كنت قريباً من قمة الجبل .(/3)
( ولقد تركناها آية فهل من مدكر ، فكيف كان عذابي ونذر ، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) بصورة عامة وبإجمال نقول : إن الخطوط الرئيسية التي تتناغم في هذه القصة تشبه إلى حد بعيد وليس من حيث النهاية ما حصل لمحمد عليه الصلاة والسلام ، رجل يختاره الله تعالى من بني البشر ليحمل الرسالة إلى الناس ( والله أعلم حيث يجعل رسالته ) ثم يأمره بالجهر وبالدعوة وبأن يصدع بما يؤمر ، فيشمر لأمر الله ويجهر بالدعوة وينادي بها ، ويكون لذلك أرجاع عند الناس وهي أرجاع معروفة ، وحين تتقرّاها في ساحة التاريخ عامة تجدها متماثلة ، إعراض وصد وتكذيب وسخرية واستهزاء وإيذاء ..
ويظن المغفلون أن الأمر صراع بين الإنسان وإنسان آخر ، ويذهب الغرور بالمغفلين إلى أن هذا النبي المرسل واحد وهم جمع كثير ، وغالباً وإن يكون الأنبياء المرسلون من أشرف بيوتات القبائل غالباً لا يكون الأنبياء من ذوي الثراء والجاه والمكانة ، وإنما يكونون من أوساط الناس ممن استقامت خلائقهم ثم طهرت فطرهم وسجاياهم ، وإذاً فالذين يتصدون لهم أكبر مقاماً وأعظم قوة وأوسع ثراءً وأبعد جاهاً وصوتاً ، وطبيعي أن خصاماً ونزاعاً وعراكاً يقع بين قبيلين من هؤلاء في حسابات الناس وفي القاموس البشري ، فالنتائج مقررة فتكون الغلبة للأقوى وللأكثر ثراءً وما أشبه ذلك ، وهذا كما قلت حساب المغفلين والذين لا يعقلون . إن حقيقة الصراع باستمرار حينما تُمحّض المعركة بين والإيمان ليست صراعاً بين بشر وبشر يحكمه قانون العدد وقانون القوة التي يجب أن تتساوى وتزيد لكي يضمن نجاح المعركة لأحد الطرفين ، ولكنها صراع بين الإنسان الضعيف والمغرور والتافه وبين الله الذي يغلب ولا يُغلب .
ولهذا فحين قال نوح في دعواه لربه ( إني مغلوب فانتصر ) تدخلت قدرة الله جلا وعلا من وراء الأسباب جميعاً ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ) كان يمكن أن يكون التعبير بأن أبواب السماء تفتحت بالماء ، ويُسند التفتح إلى أبواب السماء أو إلى السماء ، وكان يمكن أن يقول إن الأرض تفجرت عيوناً ، ويكون الكلام دالاً على المراد على نحو ما ، ولكن صيغة الآيات بسياقها هنا لا يراد منه أن توصف الواقعة ، وإن كان وصفها بالنحو الذي قلناه مغنياً غاية الغناء ، وإنما يريد أن يبرز عياناً ومشاهدة قوة الله القوي أمام الإنسان العاجز ، فأضاف الفتح إلى ذاته الكريمة وأضاف التفجير إلى ذاته الكريمة أيضاً ، أي أن الله هو الذي فجّر الأرض عيوناً وفتح أبواب السماء وقدّر الأمر تقديراً بحيث يكون الماء النازل من السماء مساوقاً في الوقت للماء النابع من الأرض بحيث يلتقي الماءان ليكون الطوفان أهول وأعظم فتكاً وتدميراً .
فهذه بعض جوانب العبر مما يستفيده الإنسان من الخطوط الرئيسية بالقصة ، نبي يدعو ، فيُكذّب ، فيلجأ إلى ربه ، فتتدخل القدرة الربانية لتقرّ في موضعه عبداً مخلوقاً تافهاً حقيراً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولو أن الله سخّر عليه أضعف جنده لأباده وأفناه .
ثم تتدخل ذات اليد ، يد وقدرة ، لتنجي الذين آمنوا ، فكما أنجى الله نوحاً ومن معه في الفلك المشحون كذلك قرر الله جل وعلا أنه كان حقاً عليه أن ينجي المؤمنين . فالذين آمنوا ينصب عليه البلاء ويُطاردون وتسفك منهم الدماء ، ويُدخلون في السجون ، وتوضع في أيديهم وأرجلهم وأعناقهم القيود محنة من الله وابتلاءً واختباراً ، ولكن العاقبة للمتقين .
والذين يدعون إلى الله جل وعلا إذا اهتزت في نفوسهم هذه العقيدة لحظة واحدة فقدوا كل مؤهلات الدعوة إلى الله تعالى ، لأن جند الله هم الذين أضافهم إلى نفسه فجعلهم أعظم الناس به ثقة وأكثرهم إليه عودة والتجاءً .(/4)
فهذه قصة نوح مع قومه ذكرها الله تعالى بهذا السياق .. ثم ماذا ؟ ( كذبت عاد ) وعاد مرّ معنا شيء من خبرها ( فكيف كان عذابي ونذر ، إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً ) ويا حبذا لو كل أخ ذاق معي طعم هذه اللفظة ( ريحاً صرصراً ) يكاد الريح العنيف القاصف العاصف البارد الشديد يذاق طعمه من هذه اللفظة ( ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ، فكيف كان عذابي ونذر ، ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ثم ماذا ؟ بعد عاد تذكر السورة قوم ثمود ( كذبت ثمود بالنذر ، فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر ) والسعر هو الجنون أو شدة الجنون أو الجنون المطبق الذي يعمّي على الإنسان مسالك الرأي ، ويفقده القدرة على التصرف السليم الحكيم ( إنا إذاً لفي ضلال وسعر ، أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ، سيعلمون غداً من الكذاب الأشر ، إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ، ونبّئهم أن الماء قسمة بينهم كل شربٍ محتضر ، فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) وهو قدار بن سالم ( فكيف كان عذابي ونذر ، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ، ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) ثم ماذا ؟ تأتي القصة بسياقها على شيء من نبأ قوم لوط ، وهذه هي المرة الأولى التي نواجه في سياق حديثاً عن قوم لوط ، وحديث القرآن عن قوم لوط تكرر في سور عديدة ، سيأتيكم الخبر عنه إن شاء الله تعالى في مواطنها ..
( كذبت قوم لوط بالنذر ، إنا أرسلنا عليهم حاصباً ) والحاصب هو الريح الذي يحمل لشدته وعنفوانه الحجارة والحصى فيرسلها تنصب على الناس من السماء ( إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر ، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ) أي من شكر الله على نعمة الدعوة والرسالة فالله جل وعلا ينجيه ثم يأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يصنعون .
( ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ) أي أن نبيهم لوطاً أنذرهم أن الله إذا بطش البطشة الكبرى فلا مجال بعد للاعتذار ( ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ) شكوا بهذا النذير الذي جاءهم على لسان ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ، ولقد صبّحهم بكرة عذاب مستقر ، فذوقوا عذابي ونذر ، ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) .(/5)
ثم ماذا ؟ حديث مقتضب عن فرعون وقومه ( ولقد جاء آل فرعون النذر ، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيزاً مقتدر ) إلى هنا ينتهي الحديث عن الأقوام الخمسة الذين كانت لهم مواقف متشابهة من أنبيائهم ومن كلمات الله ، وكانت مواقفهم متشابهة من كل الوجوه مع مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم . فمتى التعقيب ؟ هنا طعم السورة يتجلى ، إن السورة تحمل تهديداً ولكن لا يخطئ الحس فيها نازع الإشفاق على الناس ( أكفاركم خير من أولئكم ) هل كفار قريش خير من الأمم التي ذكرناها ؟ ( أم لكم براءة في الزبر ) هل عندكم صك عند الله تعالى أن يدعكم تسرحون وتمرحون وتفسقون وتفجرون ثم لا يأخذكم بالذي جنته أيديكم ؟ ( أم لكم براءة في الزبر ) يعني في الكتب الماضية النازلة من عند الله ( أم يقولون نحن جميع منتصر ) أم تذهب به أحلامهم وعقولهم إلى أن يقيسوا الأمر قياساً بشرياً صرفاً فيقولون إن محمداً وحيد ومن حوله ضعفاء ونحن جمع مجموع كثير والنصر لنا لا ريب فيه ؟ ( أم يقولون نحن جميع منتصر ، سيهزم الجمع ويولون الدبر ) ويرحم الله ابن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزل قول الله تعالى ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) قلت في نفسي : أي جمع يُهزم ؟ هذه قريش بعدّها وعديدها وسلاحها وأوباشها ومن حولها من الأعراب ترمي رسول الله والمؤمنين معه عن قوس واحدة ، فكيف سيُغلَب هذا الجمع . قال : فلما كانت غزوة بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خرج من العريش وهو يثب في درع ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر . فعلمت تأويلها يوم ذاك . أي أن الله تعالى أنزل في القرآن وعده لمحمد عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين معه وهم في وسط البلاء المنصب عليهم كالمطر بأن هذا الجمع سيهزم ثم حقق الله وعده بعد الهجرة في أول صدام وقع بين المؤمنين من جهة والمشركين من جهة أخرى ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) انظروا إلى هذا الحرف ( بل ) بل حرف في اللغة العربية يسمى حرف إضراب ومعنى الإضراب صرف النظر عن ما مضى واستئناف كلام جديد يقوم في الدلالة على المقصود أبلغ وأدل . دعك إذاً من هذه الهزيمة التي تحصّل للمشركين منها فقد الأنفس والأرواح وخسارة في الأموال والعتاد والخزي الذي لحقهم والفضيحة التي شملتهم بين العرب ، دعك من هذا ، هذا لا شيء ، كل هذه الخسائر والمصائب ما تعد شيئاً أمام ما ينتظرهم يوم القيامة ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وإذاً ففي هذا اللفظ المبهم المهول ما يكشف عن أن ما أعد الله للمكذبين برسله شيء لا يأتي على الوصف ولا تطيق تصوره العقول ،بل الساعة موعدهم والساعة أدهى من هذه الهزيمة وأمر من هذه الهزيمة ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) .
( إن المجرمين ) وهم الكافرون ( في ضلال وسعر ) أي متاهة وبعد من الحق وجنون مطبق يجعلهم يضربون شمالاً ويميناً ولا يستطيعون أن يتبينوا مواطئ أقدامهم ( يوم يُسحبون في النار على وجوههم ) هناك ( ذوقوا مس سقر ، إن كل شيء خلقناه بقدر ) وهذه الآية الفاذة ( إن كل شيء خلقناه بقدر ) تثبيت وتطمين للمؤمنين أبد الدهر ، إن هذا الكون بما فيه ومن فيه وبقضايا الصراع التي تدور فيه ليست شيئاً مفلتاً من قدرة الله جلا وعلا ، فكل شيء قدره الرب وأحكم تقديره وكل شيء يجري بعينه لا يشذ عن أمره شيء ، وإذاً فعلى المؤمنين ألا يستيئسوا حين يرون الباطل يتشامخ وينتفخ ويتيه في الأرض ، ويخيل لضعفاء العقول ولمهازيل الفرص والمرتزقة أن الدولة أُحكمت بالباطل يجب ألا يفتر المؤمنون بهذا ، فالكون بما فيه ومن فيه بقبضة الجبار تبارك وتعالى ، والله لن يسوي بين المؤمنين والفاجرين ولن يجعل المؤمنين طعمة في أفواه الكافرين ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ) صدق الله العظيم .
( إن كل شيء خلقناه بقدر ، وما أمرنا إلا واحدة ) يعني كلمة واحدة ( كلمح بالبصر ، ولقد أهلكنا أشياعكم ) والخطاب هنا للمكيين المشركين وأشياعهم هم الذين يماثلونهم في التكذيب والكفر تقول شايعت فلاناً على رأيه أي صدقت به وتابعته عليه ، فأشياعهم هم الذين يماثلونهم في الكفر بآيات الله وحرب أنبياء الله تعالى ( ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر ، وكل شيء فعلوه في الزبر ) أي كل شيء فعلوه مكتوب عند الله ومعدّ لكي يواجهوا به يوم الحساب ( وكل صغير وكبير مستطر ) حتى الخطى حتى الهمسة تدور في خلدك لا تشذ عن الله وتكتبها عليك الكرام الكتبة الحافظون لكي تلقى جزاءها هناك إن خيراً فخير وإن شراً فشر .(/6)
وينتهي الحديث عن تحذير هؤلاء الكفار بهذا الشكل الذي أبرز لهم فيه ما أحل بالأمم التي قبلهم وأبان لهم خطأ رأيهم بأنهم خير من الأمم التي مضت من قبلهم ، لتأتينا آيتان فقط تبينان لنا ما أعدّ الله تعالى للمؤمنين المتقين من راحة وروح وريحان ( إن المتقين في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) وصدق الله العظيم ، لاحظوا الأمر هنا ، ليس فقط من حيث التأويل ولكن من حيث الألفاظ المفردة ، وانظروا الدقة في هذا القرآن المعجز الذي لا يقدر ه حق قدره إلا الذين يتأملون فيه تأملاً زائداً ويعنون به عناية بالغة ويتدبرونه تدبراً طويلاً جداً ، المتقون ما لهم ؟ في جنات لا يعلم إلا الله ما أعد الله فيها للمتقين ، ( في مقعد صدق ) لا حظوا هذه الكلمة ( مقعد صدق ) إن مقعد الصدق الذي أعده الله للمتقين له صلة وارتباط بموقف الصدق الذي يقفه المؤمنون في هذه الحياة ( عند مليك مقتدر ) والعندية هنا عندية تشريف وعندية حماية ورعاية ، كأن هذه اللفظة ( مقتدر ) تشير لك وأنت في الحياة الدنيا قبل أن تصير إلى الله لتأخذ الجائزة وتقبض المكافأة ، أنه عليك أن تكون غاية في التقى بأنك أنت هنا وسط البلاء والعذاب لستَ غائباً عن أمر الله ، وما دمتَ أنت جندياً من حزب الله جلا وعلا فيجب أن تثق بقوله ( ألا إن حزب الله هو الغالبون ) وما دمتَ تعتقد أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون تبعي للجبار وفي يده وأنت تعلم أن هذا الإله الرب قادر على كل شيء فعليك أن لا يتزعزع إيمانك ولا يهتزّ ثقتك بأن قدرتك مستندة ومشتقة من قدرة المليك المقتدر الذي تأتي إليه يوم القيامة وتجلس عنده في مقعد صدق .. فما أعظمها من بشائر وما أوفاها من إشارة لو أحسن الناس التدبر ، لا سيما ونحن نقرأ في هذه السورة هذه اللازمة التي تكررت في خاتمة كل حديث عن أمة من الأمم ورد ذكرها في هذه السورة ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) في هذه الآية المعجزة سوق للإنسان ودفع له إلى الإفادة العزيز الجبار ، كلام الله عربي مبين وليس متعاظلاً ولا مشكلاً ولا متداخلاً ولا مضطرباً ولا مختلفاً ، وليس مما تتعايبه العيوب ويعلو على الأفهام ولكنه الكلام الميسر ، يستطيع العامي والمتعلم أن يفهم وأن يحسن الإفادة منه ، فإلى الله وإلى كلام الله .. اجعلوا القرآن سميركم واقطعوا به آناء الليل وأطراف النهار يهدي الله قلوبكم ويصحح الله أفهامكم ويثبت الله أقدامكم .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين(/7)
تفسير سورة الليل)
12 / 11 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
فلقد فرغنا بفضل الله تعالى وتوفيقه من الكلام عن السورة الثامنة في سياق تنزيل الكتاب الكريم ، وهي سورة ( الأعلى ) ، ونقف اليوم مستمدين العون والتوفيق من الله جل وعلا مع السورة التاسعة في سياق التنزيل وهي سورة ( الليل ) . ولقد كان لنا فيما مضى منهج واضح في دراسة هذه السور الثمانية ، نحن راضون عنه كل الرضى من حيث الجوهر ، ولكني أشعر أن متابعة الكلام على جانب من السور المكية على ذات النهج الذي مضى سيكون شوطاً طويلاً جداً ، قد تفنى فيه الأعمار وتستهلك القوى ، وأنا أريد أن يتوفر للإخوة ضوء يكفي للتعرّف على حقائق الحركة الإسلامية في عهدها المبكر ، وأريد لهذا الضوء أن يتوفر للإخوة بأسرع ما يمكن ، ولعلي لو استطعت لصببت للناس ذلك كله مرة واحدة ، وما ذلك بممكن ، من أجل هذا أرى لزاماً علي لا أن أغير في حقائق المنهج ولكن في أسلوبه ، فبدلاً من التوقف الطويل عند الدقائق والتفاصيل سنمر على هذه التفاصيل مراً سريعاً ، وسنولي الأشياء الهامة مزيداً من العناية .
أنا أعرف تماماً أن هذه الطريقة ستجني على أمور كثيرة ، بل لعلها سوف تنعكس على ذات القضايا التي نحرص على دراستها وإبرازها ، إن القرآن ليس فيه شيء مهم وشيء غير مهم ، كل ما في القرآن مهم ، وما أشار الله إليه في الكتاب من تفصيلات صغيرة فهذه الإشارة لا تعني عدم الأهمية بالنسبة إلى هذه التفاصيل ، إن هذه التفاصيل الصغيرة فيما يبدو للناس أشبه ما تكون في الملاط ( الإسمنت ) الذي يمسك الحجارة حين البناء ، بغيرها لا يكون البناء بناءً ، بل هو رصف للحجارة بعضها فوق بعض .
ولكني لا أملك إلا أن أضرب صفحاً عن كل هذه التفاصيل ، فكما قلت وأؤكد وأكرر وأريد أن ينغرس هذا عميقاً في قلوب الإخوة وفي عقولهم ، إن الأيام القادمة تحمل من النذر بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وإن من الأكبر الجناية على هذا الإسلام ومن أعظم الإساءة إلى هذه الأمة أن تواجه الأمة أخطاراً جساماً برؤية غير مبصرة ، أو تواجه الأمة هذه الأخطار الجسام وهي مشتتة الرأي موزعة الفكر ، وفي ظني والله أعلم أننا طالما نفتقر إلى رؤية صحيحة وكاملة لصورة الحركة الإسلامية كما قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن نستطيع أن نفلح ولن نستطيع أن ننجح ، قد يؤتى أحدنا لساناً ، وقد يكون أحدنا قادراً على اعتلاء المنابر ليحرك عواطف الناس ويستثير فيهم الشجن والأحزان ، ولكن ما فائدة هذا ؟ إذا كنا نقتنع تماماً بأننا في مواجهة صعوبات ، وأننا بحاجة إلى أن نعمل ثم لا ندري ماذا نعمل ، فأية قيمة لهذه المشاعر ؟ لا شيء لا شيء بتاتاً ، بل ربما دفع هذا الجهل بحقيقة الصورة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفر لها النجاح والفلاح قد يدفعنا الجهل بها إلى مغامرات طائشة أشبه ما تكون بالعمليات الانتحارية ، من أجل ذلك ومن أجل أنني قانع تماماً وواثق جداً من أننا مقبلون على أيام شداد وأوقات عصيبة رأيت أن أُعرض عن النهج السابق في تفصيلاته ودقائقه ، لأمسك بالخيوط الأساسية فقط ، عسى أن ننتهي في أقرب وقت ممكن من استجلاء الصورة الحقيقية لدعائم وقواعد وقوانين الحركة الإسلامية .
نحن يا إخوة لا نخدع أحداً ، بنفس القدر الذي لا نرضى فيه أن يخدعنا أحد ، نحن قلنا ونقول إن هذا الربع الأخير من القرن العشرين هو عصر التحرك الإسلامي ، ولعل كثيرين سيغيظهم هذا الكلام فلينشقوا غيظاً ، ولكن هذه البشارة يجب ألا تطمئن العاملين . إن معنى أن يكون الإنسان في غمرة العمل مزيد من الصعوبات ومزيد من المشكلات ومزيد من المتاعب ، قد ترون السجون تضيق بالنزلاء من المسلمين ، وقد ترون الساحات العامة تتدلى عليها جثث الشهداء ، ذلك لا يضر ولا يهم ، تلك هي الطبيعة الأساسية ، وتلك هي السمة البارزة لدعوة الله جلّ وعلا ، إن ساعة النجاح دائماً تسبقها لحظات كارثة ، إن غزوة أُحد التي مُني المسلمون فيها بخسارة فادحة وأصابتهم فيها ضربة موجعة كانت من بعدها الأحزاب ، وعندها قال الرسول عليه الصلاة والسلام : اليوم نغزوهم ولا يغزوننا . ومن بعدها كانت الحديبية ، وظن بعض المسلمين أن تنازلات الرسول صلى الله عليه وآله للمشركين مجحفة وتكشف عن ضعف موقف ، فكان أن أنزل الله على نبيه صلوات الله عليه وهو قافل من الحديبية ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) وانطلق بعد ذلك تيار الإسلام كالإعصار لا يرده شيء ولا يقف في وجهه شيء .
أكرر نحن لا نخدع أحداً فتلك ليست من قيمنا ، كما أننا لا نرضى أبداً أن يخدعنا أي مخلوق ، نحن مقبلون على أيام شداد وعلى أوقات سوداء ، وعدتنا في ذلك اليقين والصبر ، عدتنا في ذلك الاستمساك المطلق بحبل الله المتين ، لكن على هدى وبينة وبصيرة ، وخضوع لهذه العوامل رأيت أن أكتفي بالأمور الهامة في عرض القرآن المكي ، أو عرض جانب منه .(/1)
ونواجه الآن تاسعة السور ، وانظروا إلى الخلف ترون أننا في ثمانية من السور القصيرة سلخنا وقتاً طويلاً ، فما بالكم حين تكون سورة كالأعراف من جملة السور المكية التي يجب أن تواجه وأن تدرس . هذه السورة التاسعة هي سورة ( الليل ) سورة تعد من قصار السور تقرأها بسهولة ويسر ( بسم الله الرحمن الرحيم ، والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ، فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى ، إن علينا للهدى ، وإن لنا للآخرة والأولى ، فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. ) هذه السورة ، لو سألتم أنفسكم : كم من المرات قرأتموها ؟ لأعياكم العد والإحصاء ، ومع ذلك تعالوا ندقق النظر لتروا أنكم تظلمون قرآنكم حينما تدعون أنكم تقرأون هذا القرآن ، لقد فرق الله جل وعلا بين صنفين من القارئين ، الذين يتدبرون آيات الله ، والذين لا يتدبرونه ، فقال جلّ من قائل ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) بعض القلوب كالمقفلة ، عليها رتاج غليظ سميك ، وبعض القلوب تعي وتفقه وتدرك وتفهم ، والله نسأل أن يفتح قلوبنا وإياكم لفهم كتابه الكريم وتدبر آياته البينات .
ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن عرضناه في الأسبوع الماضي من أواخر سورة ( الأعلى ) ترون أن الله سبحانه وتعالى امتدح صنفاً من الناس ، ذلك الصنف الذي يزكي نفسه ، يبذل مجهوداً صادقاً ومخلصاً من أجل أن ينفتح قلبه للفهم والتدبر ، ومن أجل أن تُشحذ عزيمته للعمل والإنتاج والإنجاز ، وعرض الله تعالى في آخر السورة لأهم الأسباب أو للسبب الرئيسي الذي يصد الناس عن الهدى وهو انغماسهم في الدنيا وانكبابهم على الشهوات فقال جل وعلا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) بعد أن سبق أن قال لهم ( قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ) بعد هذه الخاتمة التي عرضت لهذا المجهود الذي يطلب من الإنسان المسلم أن يبذله في صميمه وفي داخله كي يغيّر من بنائه النفسي والعقلي والشعوري تأتي هذه السورة لتضرب على ذات الوتر ولكن من زوايا أخرى ، اسمع ، فُتحت السورة بالقسم ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ) ويقتضي أن نقول كلاماً بسيطاً لنعرف حكمة القسم ، لماذا يقسم الإنسان ؟ معلوم هنا أن الله جل وعلا يقسم بالليل وبتغشيته وبتغطيته بظلامه على الأكوان ، ويقسم بالنور حين يشع وحين يشرق نور النهار ( والنهار إذا تجلى ) ويقسم بخلقة الإنسان وقسمته إلى ذكر وأنثى ، يقسم على أن سعي الناس شتى ، وشتى جمع شتيت وهو المتفرق والمختلف ، حينما تقول : والله العظيم سوف أفعل كذا ، أو لن أفعل كذا ، فماذا تريد ؟ ماذا تقصد بالقسم ؟ دع عنك الكف أو الفعل ، لكن لماذا جئتَ بهذه الصيغة صيغة القسم ، إنك طبعاً تعظم الله وترى أنه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير ، ولأن الله تعالى بهذه المثابة من العظمة والكبرياء ومن المهابة في قلوب عباده ، فجعله جل وعلا حاجزاً وحائلاً وقاسماً بين الإنسان وبين الفعل أو الترك مشعر بأن الإقدام على الأمر الذي حلفتَ عليه يتضمن انتهاك حرمة هذا العظيم الذي حلفتَ به .........
انقطع الشريط قليلاً ..............................................................
من الفعل ( قَسَمَ ) وهي تدل على الفصل والتمييز ، فالقسم مأخوذ من تمييزه بين الفعل والترك ، بين الإقدام والإحجام ، بين المراد وغير المراد ، ومن هنا كان لا يمكن أن يقسم إلا بما هو معظّم وبما هو مقدس ، لأن ما هو معظم ومقدس أدعى إلى أن لا تُنتهك له حرمة ولا يتجاوز الإنسان ما يقتضي له من إجلال .(/2)
فأول ما يجب أن تعرفوه عن القسم بقطع النظر عن بقية تفصيلات القسم في فقه اللغة العربية هو أنه لا يُقسم إلا بشيء ذي أهمية ، ما لم يكن الشيء ذا أهمية فالقسم عبث . إذا نظرنا تحت هذا الضوء ومن هذا المنظار إلى القسم الوارد هنا وجدنا الله تعالى يقسم بالليل والنهار ويقسم بعجائب الخلق في الذكر والأنثى ، ويقسم على أمر عظيم ، فهل الليل والنهار وخلقة الإنسان على النحو الذي خُلق عليه شيء له كل هذه العظمة وهذه الجلالة ؟ نقول : نعم . ونقول نعم مع تحفظنا بأن عظمة هذه الأشياء ليست عظمة ذاتية ، وإنما هي عظيمة من حيث أنها تؤدي وتقود إلى معرفة العظيم جل وعلا ، فحينما نلحظ تعاقب الليل والنهار يتعاوران على الدنيا مذ كانت الدنيا على هذا النحو من الانتظام والتناسق ، وحينما ننظر في خلق الإنسان ونجد أن النطفة تستقر في رحم الأنثى قابلة لأن تكون ذكراً أو تكون أنثى ، ثم ننظر في الدنيا فنرى منذ وُجدت إلى الآن ميزان الذكورة والأنوثة يتعادل أو يقرب من التعادل دون أن يكون ثمة طغيان للذكران على الإناث ولا للإناث على الذكران ، وإذا نظرنا إلى الليل والنهار ونغلق بابة والنهار من بابة أخرى ، وإذا نظر إلى الإنسان ذكراً وأنثى ، والذكر من بابة ، والأنثى من بابة أخرى ، قد نشعر بشيء من الفوضى في هذا الكون ، ولكن الله تعالى يلفتك إلى هذا التناسق المنبثق من قلب هذه الفوضى أو هذا الاختلاف ، لا نسميه فوضى ولكن اختلاف ، اختلاف الليل والنهار هو الذي يسهل للناس المعايش ، ولولا الليل وما جعل الله منه سباتاً ومثابة للراحة والاستجمام واستعادة النشاط ما قدر الإنسان على مباشرة الأعمال في النهار . ولولا النهار وما جعله الله تعالى ظرفاً للحركة والسعي والكسب والمعاش لكان الإنسان على شرف الهلاك من الجوع لعدم التكسب والاحتراف . ولولا الذكور ما كانت الإناث ، ولولا ما كانت الذكور .
فالاختلاف في ظواهر الكون ، والاختلاف في حقائق الإنسان لا يعني الفوضى ولا يعني التصادم ، وإنما يعني التعاون المثمر المؤدي إلى النتائج التي رسمها الله جلّ وعلا باعتبارها غايات يسعى إليها الناس ويكدحون من أجل الوصول إليها . كذلك بذات الوصف وبنفس المنظور إن الله جلّ وعلا يكشف لنا عن جانب يبدو للناظر السطحي أنه جانب مأساوي مزعج ( إن سعيكم لشتى ) الناس في اضطرابهم في هذه الحياة وكدحهم من أجل المعاش لا تكاد تجدهم يتفقون على طريقة واحدة ، هذا أمين وهذا خائن ، وهذا صادق وهذا كذاب ، وهذا مستقيم وهذا معوج شديد العوج ، وهذا مهتدٍ وهذا ضال ، فمع أن الله جلّ وعلا زوّد الإنسان كل إنسان بطاقات متماثلة مع إخوانه من بني البشر ، مع ذلك فالآثار والنتائج المادية المترتبة على سعي الإنسان في هذه الحياة تبدو متفاوتة ومختلفة . ولا شك أن الإنسان المستقيم يؤذيه أن يرى الانحراف ، وأن الإنسان المتقي يؤذيه أن يرى الشقاوة والفسوق ، وكذلك فالإنسان الفاسق يهينه جداً منظر الإنسان المتقي ، والإنسان الخائن والغشاش يهينه جداً جداً أن يرى الإنسان المستقيم والأمين .
هذا واقع بشري مشهود ، ولكنه واقع سطحي ، انظر أبعد ، انظر أبعد ، لولا السواد ما عرفتَ البياض ، ولولا الليل ما عرفت معنى النهار ، ولولا الهدى ما عرفتَ الضلال ، وتصور حياةً يعيشها الناس نسخاً مكرورة لا تختلف نسخة عن أخرى ، كيف يكون شأنها ؟ إنها ثقيلة ثقيلة مملة شديد الإملال ، ثم هي حياة تسقط فيها المحنة ويُحذف منها الابتلاء والاختبار ، الإنسان وُجد في هذه الدنيا لكي يمر في نار التجربة ، لكي يُمتحن ويُبتلى ، لو كان الناس جميعاً أتقياء فما ثمة داعٍ إلى المحنة بل لا مكان للمحنة ولا مكان للابتلاء . فالإنسان المؤمن الذي يفقه عن الله جلّ وعلا معنى ما يقول لا يؤذيه أن يرى استشراء البغي والظلم ، ولا يؤذيه أن يرى سيادة الفسوق والعصيان ، وإنما الذي يؤذيه حقاً هو أن يشعر داخل نفسه بالانهزام أمام هذه الظواهر المؤذية التي تخدش في ضمير الإنسان .(/3)
( إن سعيكم لشتى ) الله جلّ وعلا حينما يعرض هذا فكأنما يحفر لك في الأرض تحت قدميك حفرة عميقة تثبت قدميك على الصراط كي لا تزل ولا تزيغ ، كم من الناس مروا علينا وعليكم .. كانوا أول الأمر أتقياء وكانوا متدينين وكانوا مستقيمين ، ثم رأيتموهم بعد ذلك كأنما خُلقوا خلقاً آخر ، من التدين إلى التفلت ، وأجارك الله من فسوق الإنسان الذي كان متديناً ، إنه يكون أستاذاً في الفسوق ، كم من الناس رأيناهم على هذه الشاكلة ؟ لو ذهبت تتعرف على الأسباب ، لماذا انحرف هذا الإنسان ؟ إن هذا الإنسان لم ينحرف أبداً لأن طبعه منحرف ، فالناس خُلقوا على فطرة واحدة ، والله جلّ وعلا يخبر عن دينه بأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ويخبر على لسان نبيه صلوات الله عليه : إني خلقت عبادي كلهم حنفاء . يعني على الفطرة السليمة وعلى الاستعداد الكامل لمعرفة الطريق الحق ، ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم يعني زحزحتهم عن القواعد التي خلقهم الله جلّ وعلا عليها . حينما تأخذ حالة أو شريحة من المجتمع فاسدة شاذة تتسائل ؟ لماذا فسق هذا الأخ ؟ لماذا فسدت هذه الطائفة من الناس ؟ ستجد أنهم تعبوا من الطريق ، إن الاستقامة تكاليف ، يتوهم كثيراً من يظن التقوى تمرة يأكلها أو جرعة ماء يشربها ، صعب ، الاستقامة تكاليف ومشقة ، ومع ذلك فواجب الإنسان أن يظل في غمرة هذا الصراع حتى النهاية ، إلا أن الناس في كثير من الأحيان يرون أن الشر مستطير وأن الناس يأخذون طرائق الفساد ولا يصيبهم شيء ، وأن فلاناً من الناس سرق ونهب وقتل وغش وفعل السبع الموبقات ، ثم هو في أعين الناس مبجل ومعظم ومحترم ، ثم مضى دون أن يصيبه شيء ، أذلك نظر مؤمنين ؟ لا أيها الإخوة ، إنكم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم في القرآن نصاً من أثمن ما تكون النصوص ، إن الله جلّ وعلا يقول ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) يعني سبيلاً واحداً مطبقين على الكفر ( لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ) إلى آخر ما وعد الله جل وعلا ، ما للكافر عند الله ؟ لا شيء .
إن عمر رضي الله عنه دخل ذات يوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عليه الصلاة والسلام يضطجع على رمال حصير ، رمال حصير أيها الإخوة هي العقد ، عقد النسج التي تبرز حينما يهترئ الحصير ، ليس حصيراً جديداً مسوى ، ولكنه حصير عتيق ظهرت فيه العجر ، فلما جلس الرسول عليه الصلاة والسلام نظر إليه عمر فرأى في جلده أثر الحصير فبكى ، بكى وبكى بكاء مراً ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قال : يا رسول الله إني نظرت فإذا كسرى وقيصر بالحرير والديباج والأسرة والصولجانات وأنت رسول الله أنظر فلا أرى ما يرد البصر . فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم ، تصوروا الفارق بين النفسيتين ، عمر بالرغم من أنه عملاق ، لو بقيت الدنيا يأخذها المخاض إلى قيام الساعة ما ولدت مثل عمر ، ومع ذلك فالفارق بين عمر وبين محمد كالفارق بين الأرض والسماء ، قال له : يا عمر أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم ، يا عمر ألا يرضيك أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الآخرة ؟ ما شأن المؤمن ؟ لا أسخف ولا أقل ولا أضل عقلاً من ذلك المؤمن الذي يتصور أن معركة الإسلام معركة قوة ؟ ما أسخف الناس ؟ يا حسرة على العباد ، ذلك قصارى المؤمن أن يدخل في صراع يعرف أوله ولا يعرف نهايته ، من أجل القوت ؟ هذا شيء سخيف ، إن كلبين على المزبلة يصطرعان يمثلان هذا الصراع أحسن مما يمثله الإنسان ، كلبان على مزبلة يتهارشان على عظم يمثلان ظاهرة الصراع على القوت بأفضل مما يمثلها الإنسان ، إن المؤمن حينما يتصور أن وظيفته في هذا الوجود أن يسعى نحو مآرب آنية من هذا القبيل يكون قد تخلى عن إيمانه ، هذا الكفر الذي يطبق الأرض ، هذا الفسوق ، هذا العصيان ، هذا التمرد على الله ، أين أنت عنه أيها المؤمن ؟ حينما تفرغ من الصراع في هذه الميادين التي هي ميادينك وبيئتك الوحيدة التي تستطيع أن تتنفس فيها بحرية وبملاءة فتش بعد ذلك عن القوت .(/4)
إن محمد عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة ما فكر أن يبني لنفسه بيتاً وهو الغريب عن المدينة ، أمر بأن يُبنى المسجد أولاً ، وبني المسجد ، وليست المسألة هنا ، ولكنهم أي أصحاب حين بدأوا يبنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيتاً قال لهم : لا ترفعوه أكثر من هكذا ، قامة الرجل ومد ذراعه فقط ، وساقفوه بجريد النخل ، وأرادوا على عادة ذلك الزمان أن يطلوا الحيطان بالقفصة يعني بالجص ، فقال لهم : لا ، الشأن أعجل من ذلك . وذات يوم طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينعم نفسه بعض الشيء ، فقال لهم : مالي ولدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب في الفلاة استظل بظل شجرة ثم راح وتركها . كذلك شأن المؤمن ، بل المسألة تبلغ في بعض الأحيان حد الأزمة وحد الإحراج ، في يوم من الأيام عملت نساء نبي الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله ما يشبه الاعتصاب ، والنساء مذ كن ناقصات عقل ودين ، جئن إليه يطالبنه بالقوت : نحن يا رسول الله لا نأكل كما يأكل الناس ولا نلبس كما يلبس الناس ولا نتوسع كما يتوسع الناس . وأين كان يعيش محمد وأين كانت تعيش أمهات المؤمنين ، أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتزل عنهن شهراً كاملاً ، لم يطرق واحدة منهن أبداً ، ثم نزل من السماء أمر الله لنساء نبيه بالتخيير ( إن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ، وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً ) إن هذه الظاهرة هي التي يجب ألا تغيب عن بال المؤمن ، وأنا ألح عليها وأركز ، ألح عليها لكي أطرد من نفوس الإخوة تصورات انطبعت في أذهانهم من جراء معايشتهم لأفكار اليوم وأعراف اليوم ، إنكم أبناء عالم مغاير لهذا العالم ، اعرفوا هذه الحقيقة ، حينما تنطلقون من النقط الحضارية القائمة الآن فثقوا أنكم فاشلون ولا يمكنكم أن تنجحوا بتاتاً ، ولكنكم حينا تنطلقون من النقاط الإيمانية البحتة فأنتم واصلون بإذن الله ، ولن تقوى قوة في الأرض أبداً على أن توهنكم أو تحطمكم .
هذا الذي تراه أيها المؤمن لشتيت السعي بين الناس ومن اختلاف أمزجة الناس ومن إعراض البعض وإقبال البعض ، ينبغي ألا يزعجك ، وهي ظاهرة كما ترون عظيمة تستحق القسم الذي بدأه جلّ وعلا في هذه السورة ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ) مع أن السعي مختلف والاختلاف لا يمكن حصره ، لكنا نستطيع في ضوء القرآن الكريم أن نصنف الناس عموماً تحت ضنفين فقط ( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ) هذا هو الصنف الأول ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى ) حينما ندقق في الآية في صياغتها نجد أن هذه الآية تلامس نفس الأوتار التي لمستها السورة الماضية ، العلة في اختلاف الناس إلى هذين الصنفين الرئيسين الأساسيين ، حب الدنيا والانغماس فيها ، أو عدم حبها والتخفف منها ، فالصنف الأول ذلك الصنف الذي أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، والحسنى هي وصف هذه الرسالة هذه الشريعة هذا الإسلام ، فهذا بما أفاء الله من نعمة اليقين والطمأنينة القلبية سيأخذ الله بناصيته إلى طريق الخير فيكون من المهتدين . وأما الصنف الآخر وهو الذي بخل ، كزّت يده ، ثم واستغنى ، ونحن لو رجعنا إلى السور التي سبق لنا أن عرضناها لوجدنا الله جلّ وعلا في عدد من المواطن أبرز ظاهرة الاستغناء ، فالاستغناء ليس فقط من كثرة المال ، قد يكون من المال وقد يكون من غير المال ، الإنسان في سلطانه يشعر أنه غني عن الناس ، وغني عن كل شيء ، والإنسان في عنفوان ثروته يشعر أنه أن يستطيع أن يشتري بماله السعادة لنفسه ، فهو مستغنٍ عن الناس وعن رب الناس ، والإنسان حينما يكون ذا حشم وخدم وأتباع وعشيرة وما أشبه ذلك يشعر بأنه عزيز ، فالاستغناء من الخطأ أن نفهم أنه متولد عن المال فقط ، ولكن المال عنصر أساسي بل هو العنصر الأول في بروز ظاهرة الاستغناء ، لاحظ إنك تجد إنساناً لا عشيرة له ولا حمولة وليس له جاه ولا سلطان ، فجأة يغتني ويكون ذا ثروة وذا مال ، إنك برغم ما تراه عليه من تواضع وطيبة لا تخطئ عينك هذه الصلافة الغليظة التي تكون فيه ، إن هذه الصلافة وهذه الجلافة مظهر أولي من مظاهر الاستغناء ، فإذا أضيف إلى المال عوامل أخرى كان الاستغناء خطراً مدمراً ، لأنه يصرف الإنسان عن الله جلّ وعلا .(/5)
ما الذي يقربك إلى الله ؟ شعورك أنك فقير إلى الله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ما لم تكن شاعراً شعوراً صادقاً لفقرك المطلق إلى الله تعالى فسوف تظل بعيداً عن حضرة الله جلّ وعلا ، فهذا الذي بخل فلم ينفق في الحقوق ، واستغنى وشعر أنه بغير حاجة إلى هذه الدعوة ، لديه من أسباب الحياة والطمأنينة والرفاه ما يكفي ويزيد ، هذا فقد طريق الهداية ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ) ولو أنكم ذهبتم تستعرضون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوات الأنبياء من قبله لوجدتم أن الرؤوس التي تنطحت للدعوات وخاصمت النبيين هم المترفون والأغنياء وأصحاب الأموال ، مفروض في أصحاب الأموال أنهم يخشون على أنفسهم ، جبناء ، لا تصدق أن هناك غنياً يتمتع بالشجاعة إلا من عصم الله ، الغني الحريص على ماله جبان ، والدعوات تكاليف ، والتكاليف تقتضي شجاعة ، وأول مظاهر الشجاعة الانخلاع من المال ، وهذا يتصور أن ينخلع من حياته كلها ولا ينخلع من ماله ، ولهذا نص الله عليه في هذه الآية ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ) الذين ناصبوا محمد عليه السلام العداء كانوا سادة قريش وكانوا أغنياء قريش الذين يمسكون بزمام الثروة ويحركون قوافل التجارة .
( فسنيسره للعسرى ) والعسرى هنا هي العذاب المؤلم الذي أعده الله للكافرين ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) في الواقع هذا الإنسان عجيب ، إن الله نصب لهذا الإنسان من الآيات والدلائل ما يلفت نظر الحمار ، حتى الحمار يلفت نظره ، ويحك ، قبلك ألم يكن أغنياء ؟ بلى ، مئات وآلاف وملايين ومليارات ، كانوا أغنياء ماذا أخذوا معهم ؟ حينما دلوا في الحفرة كل ما أخذوه من الدنيا بضعة أشبار من القماش الرخيص التافه ، ثم مضى وانتهى كل شيء ، وأصبح المال للوارث قد ينفق منه وهو يلعنك ، فلماذا إذاً هذا الحرص ؟ مالك لا يغني عنك إذا ترديت في نار جهنم ، أنت تتركه هنا وتقابل مصيرك المؤلم ، ولكن الإنسان قلّما يرعوي ، قلّما يفيد من التجربة ، والأمر كذلك .
( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) إلى هنا يكون الشرح الذي عرضه الله جلّ كاملاً ، ولكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد ؟ نحن أمام واقع تاريخي ، ونحن حين أخذنا أنفسنا بدراسة المرحلة المكية أخذناها بهدف اكتشاف المعالم البارزة في هذا الواقع التاريخي ، إن المسلمين الذين آمنوا برسول الله بشر آدميون مثلنا ، فيهم كما فينا نوازع ، وفيهم كما فينا عواطف ، يتألمون وينزعجون ، ولكن الله جلّ ما ربط دعوته بعواطف الناس ، ولو أن دعوات الله جلّ وعلا كانت طوع عواطف الناس لتحطمت منذ زمن آدم ومنذ زمن نوح . إن الدعوة كما يجب أن يُفهم بلا لبس وبلا إبهام وبلا غمغمة ومداورة شيء مفصول عن الناس ، قد يكون الناس فاسدين أو صالحين هذا شيء لا يؤثر على الدعوة في كثير ولا قليل . قاعدة الدعوة هي قاعدتهم من شاء أن يتأقلم معها فليصف قدميه على الطريق ، ومن أراد أن يأخذ ذات اليمين أو ذات الشمال فليكن أي شيء يريد ولكنه لن يكون مسلماً بحال من الأحوال ، إن الله جلّ وعلا بعد أن عرض هذا التشتت في مساع الناس ومواقف الناس وربطه بالظاهرة الكونية وجعله دليلاً على وجوده وقدرته جلّ وعلا أبان للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إلى آخر الزمان بأسلوب لا نظير له أبداً ، نحن سمع الله جلّ وعلا في مواطن عديدة من القرآن يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم يقول له ( إن عليك إلا البلاغ ) ( فذكر إنما أنت مذكر ) ( وما أنت عليهم بمسيطر ) ( وما أنت عليهم بجبار ) فيسند الخطاب إلى من ؟ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكن الإعجاز هنا والغرابة أن الخطاب أُسند إلى الذات العلية إلى الله جلاّ وعلا ( إن علينا للهدى ) الله جلّ وعلا قادر على أن يجعل الناس يؤمنون جميعاً وفي لحظة واحدة ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا يقول ( إن علينا للهدى ) يعني على الله جلّ وعلا أن يبذل للناس أسباب الهدى ، وأما أن يهتدوا أو لا يهتدوا فذلك مردود إلى سابق علم الله جلّ وعلا ، ومردود إلى المجهود الذي يبذله الإنسان من أجل التفاعل مع هذا الهدى .(/6)
تصوروا لو أن الله قال بدل ( إن علينا للهدى ) لو قال : إن علينا للهداية ، لكان حتماً أن يتهدي الناس جميعاً ، لأن الهداية غير الهدى ، لو تكفل بهداية لأوصل كل إنسان إلى طريقه جلّ وعلا ، ولكنه قال ( إن علينا للهدى ) أي على الله جلّ وعلا فقط أن يبذل لك أيها الإنسان أسباب الهداية ، فحينما ترى أيها العبد المؤمن أن الله جلّ وعلا لا يتعهد إلا بأن يعطيك أسباب الهداية ، أفأنت أن تكون على الناس جباراً ؟ أفأنت تريد أن تكون على الناس مسيطراً ؟ أفأنت تريد أن تكون عليهم قهاراً ؟ لا يا أخي ، ما عليك إلا أن تبلغ وأن تذكر وأن تنذر وأن تبين ضمن حدود وشرائط التذكير والبلاغ ، ولكي لا يكون في الكلام أي إبهام فأنا أعني بذلك حرفياً أن الذي يدعو إلى الله جلّ وعلا عليه أن يكون بكلمة جامعة قرآناً يتحرك ، زهادة عن الدنيا وإعراضاً عن الخلق ورجاءً بالله جلّ وعلا وإخلاصاً والتصاقاً بهذا الدين وعدم التفات إلى أي شيء سواه .. حينما توفر لدينا الأنموذجات التي من هذا القبيل فإن شخصاً واحداً أستطيع أن أطرحه بين ملايين وأنا واثق أنه قادر على أن يحول اتجاه هذه الملايين . أما أن نقوم دعاةً إلى الله جلّ وعلا في هذا الزمان العضوض ونحن لا نفترق عن الناس لا سلوكاً ولا تذكيراً ولا مشاعر ولا ولا ، فذلك هو الفشل وذلك هو الخسران المبين .
الله جلّ وعلا قال ( إن علينا للهدى ) وواجب التأدب مع الله جلّ وعلا ومع هذه الشريعة ألا نكون ملكيين أكثر من الملك ، نحن نريد للإنسان المسلم أن يكون داعية إلى الله ، رسول محبة ، رسول سلام ، لا سفّاكاً ولا قاتلاً ولا إرهابياً ولا شيء من هذا القبيل ، وإنما نريده داعيةً حقاً ، حينما يكون داعية حقاً إلى الله فليعلم أن الله جلّ وعلا سيضع بين يديه أزمة القلوب جميعاً ، وأما بغير هذه الطريقة فلا فائدة ( إن علينا للهدى ) .
( فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، ويجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) أحسب أنني أطلت عليكم بعض الشيء ، والحقيقة مهما بلغ بكم الأذى فأنا متأذٍ أكثر منكم ، كنت أتمنى أن أواجه هذه السورة بحالة صحية أفضل ، لكن شاء الله ذلك ، أريد أن أنتهي من السورة كما قلت ، لن أطيل الوقوف عند التفصيلات .
هذه الظاهرة تصادفنا لأول مرة ، في السور الثمانية التي مرت واجهنا بعض الظواهر وبعض الإشارات التي تشير إلى التزكي والتزكية والبذل وما أشبه ذلك ، ولكن بهذا الشكل وبهذا التركيز وبهذا السياق هذه أول مرة نواجه ذلك . بعد أن أنذر الله جلّ وعلا المكذبين ناراً تلظى وبيّن أنه سيصلاها الأشقى بيّن أنه سيجنبها أي سيبعد عن هذه النار الأتقى ، من هو الأتقى ؟ ولاحظوا أن الأتقى صيغة مبالغة للتقي ، أي أنه التقي الذي بلغ في التقوى ذروتها وغايتها ، قال ( الذي يؤتي ماله ) يعطيه ( يتزكى ) وكلمة يتزكى فعل وفاعل ، جملة فعلية محلها الحال ، يعني الذي يؤتي ماله متزكياً طالباً وراغباً أن يطهّر نفسه من نوازع الشح والجشع والطمع والكزازة والبخل ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) كفى ؟ لا ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قد أعطيك وأنا أشعر بأن لك سابق فضل علي ، وقد أعطيك وأنا أرجو أن تعود علي في المستقبل بمعروف ، هذه الأنواع من العطايا أنواع رديئة ، قد تحدث آثاراً مادية ، لكن ثقوا أنها ممحوقة البركة ، العطاء المبارك هو الذي يعطيه الإنسان للناس لا يقصد بذلك إلا وجه الله ، لا يجازي الحسنة بالحسنة ، ولا يرجو من وراء المعروف معروفاً يصيبه ، وإنما يرجو وجه الله وثواب الله فقط .(/7)
وبعض المفسرين وفي بعض روايات السير أن هؤلاء الآيات نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، فأبو بكر كان كما تعلمون في الجاهلية تاجراً ، وكان محبوباً من قومه ، رجل أوتي من اللطافة والكياسة ما يجعله قريباً من كل قلب ، فلما دخل الإيمان قلبه سخّر ماله كله لخدمة الإسلام ، كان يمر ويرى قريشاً قد وثبت بالضعفاء ويرى المشركين يعذبون عبيدهم العذاب الواصب ، ماذا يملك لهم أبو بكر ؟ لا يملك لهم إلا أن يشتريهم ، يذهب إلى صاحب العبد فيساومه على العبد ويشتريه منه بالغاً ما بلغ الثمن ، فإذا اشتراه أعتقه وحرره لوجه الله جلّ وعلا وخلصه من هذا العذاب ، أعتق أبو بكر رضي الله عنه عدداً من هؤلاء العبيد ، وكما قال عمر رضي الله عنه : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، والسيد الثاني هو بلال رضي الله عنه ، يروى في بعض الروايات أن بلالاً هذا كان عبداً لأمية بن خلف وكان يطرح على صدره الصخرة العظيمة بعد أن يجرده من ثيابه ويلقيه على رمال الجزيرة العربية الحارقة ، ثم يأمر الصبية فيسحبوه على الرمال وهو على هذه الحالة ، ويقول له : ستبقى هكذا حتى تكفر بمحمد . فلا يزيد بلال على أن يقول : أحد أحد ، فيقول له : دع أحد أحد فليخلصك ، مر أبو بكر فرأى هذا المنظر فهانه ، فذهب إلى أمية وقال له : يا أمية إن هذا لا يحل لك ، حرام ، فقال له : فإن استطعت فخلصه ، يقال إن لأبي بكر عبداً بالغ النشاط اسمه نسطاس رومي فجاء فأعطاه نسطاساً وأخذ منه بلالاً ، وقال إنه اشتراه بحر ماله ، ويقال إن هؤلاء الآيات نزلت في هذا الشأن بعد أرجف الكافرون بأن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلالاً وأعتقه لسابق يد وفضل كان لبلال عنده ، فأبان الله جلّ وعلا أن أحداً من الناس ليست له عند أبي بكر نعمة يريد أبو بكر أن يجزيه بها ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى ) .
وأبو بكر رضي الله عنه أعتق ستة أو سبعةً من هذا القبيل ، ولقد لامه أبوه ذات يوم قال له : يا بني إنك إذ فعلت ما فعلت فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً اشترِ شباباً وأعتقهم يمنعونك ، يفكر أبوه أن المسألة مسألةً جاهلية ، وأن أبا بكر يريد جموعاً يتعزز بها وتقاتل دونه ، قال : يا أبتي إنما أفعل ما أفعل ابتغاء مرضاة الله جلّ وعلا . هذه رواية لا أدري مبلغها من الصحة ولكني أتصور أنه ربما كان لها مدخل في الواقع ، لكن الشيء الذي يمكن أن نقطع به أن هذا الإسلام حينما بدأ يأخذ طريقه واجه ظاهرة غريبة ، ماذا تظنون ؟ هل يتخلى الأب عن ابنه ؟ هل تتخلى الأم عن ولدها وفلذة كبدها ؟ في الحالة العادية لا ، لكن حينما بدأ المسلمون يدخلون في دين الله وُجدت هذه الظاهرة في المجتمع المكي ، كان الأب يتخلى عن ابنه ، وكانت الأم تتخلى عن ابنها لمجرد أن يسلم ، تكاثر هؤلاء الناس وأصبحوا عدداً هائلاً ، أين كانوا يذهبون ؟ كانوا يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وُجد ما يشبه المجتمع المصغر ، انتبه ، إن الدعوة حينما تأخذ طريقها إلى البروز ، وتبدأ بظاهرة الانتشار تشكل مجتمعاً وليداً ، هذا المجتمع دائماً له احتياجات ، دائماً وأبداً منذ هذه اللحظة نرى أن الله جلّ وعلا يمتدح الذين يؤتون أموالهم ، الزكاة ما فرضت بعد ، الزكاة فرضت في المدينة ، ولكنا هنا نلاحظ أن الله جلّ وعلا يستغرق بالإيتاء جميع المال ( الذي يؤتي ماله ) كل ماله يتزكى ، فمرحلة الدعوة الأولى خلافاً لما يتوهم كثير من الناس من الذين ينظرون في قواعد الدعوة وقوانينها ، في المراحل الأولى الدعوة محتاجة إلى كل نشاطك ، ومحتاجة إلى كل مالك ، ومحتاجة إلى كل مجهودك ، وأما بعد الاستقرار فيا أخ الدعوة لا تكلفك إلا القليل وأقل من القليل ، أما في المراحل الأولى فاعرف أنك دخلت مع الله في صفقة بيع ، بعته نفسك .
فهذه الظاهرة ننص عليها الآن ونؤكد عليها ولا نفصل بها ، ولكنا نقرر أن الدعوة في مرحلة معينة من مراحل النشاط والانتشار تبلغ حدود المجتمع المصغر ، الذي توجد له احتياجاته ومتطلباته ومستلزماته ، وفي هذه الحالة يجب أن يجند كل شيء لخدمة هذا المجتمع الوليد الذي سيأخذ على عاتقه مسؤولية السير بالدعوة إلى النهاية .
وفي السور المقبلة سوف نواجه كثيراً من الإشارات والتوجيهات وسنزيدها تفصيلاً بإذن الله تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورة المرسلات
الجمعة 6 شعبان 1397 / 22 تموز 1977
( 2 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فقد سبق أن تلونا عليكم قبل جمعتين سورة المرسلات ونحن في طريقنا من أجل التعرف على خطوات البناء التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وآله ، وشغلنا عن متابعة الحديث عنها ما كان لا بد أن يشغلنا مما يتصل بهذه الدعوة العظيمة من قريب أو بعيد ، وها نحن اليوم نعيد النظر في السورة الكريمة بغاية ما يمكن من الإيجاز ، آملين أن تكون عقول الإخوة وقلوبهم معنا ونحن نستعرض كلام الله جل وعلا ، وقبل أي شيء فإن من الضروري أن نعرف ابتداءً أن طول الحديث عن اليوم الآخر ومتعلقاته ، أي ما يتصل به ويتفرع عليه ربما جعل بعض القارئين للقرآن أو السامعين لكلام الله يشعرون أن في الحديث زيادة عما ينبغي أن يكون ، ولعل الملل أن يتطرق إلى بعض النفوس وهي تقرأ أو تتابع هذه الحلقات المتصلة من حديث يدور حول قطب واحد وهو موضوع اليوم الآخر وما يتصل به وما يتفرع عنه ، ولكي نزيل هذه الفكرة إن خطرت لا سمح الله فمن الواجب أن نذكر أن كلام الله كله حق لا باطل معه ، وحكمة لا عبث معها ، وأن ما أنزل الله من قول على نبيه عليه الصلاة والسلام فكل حرف منه لازم لأنه جاء ليؤدي الغرض منه في المكان والزمان الملائمين .
وإنكم حينما تتبعون قضية من قضايا القرآن ولتكن مثلاً قضية اليوم الآخر على وجه الخصوص ، فلن يفوتكم إن قرأتم القرآن بإمعان أن كل حديث عن اليوم الآخر يضيف شيئاً جديداً إلى المفهومات السابقة من السور والآيات التي نزلت من قبل ، وسؤال لا بد أن يطرح هنا وأن يجاب عليه : ولماذا كل هذا ؟ فأقول ليس يخفى على أحد أن موضوع اليوم الآخر ومسألة المصير إلى الله وقضية السؤال بين يديه وموضوع الثواب والعقاب شغلت من كتاب الله في مرحلتيه المكية والمدنية حيزاً كبيراً ، وإذا ذهبنا نقارن بين موضوعين رئيسيين إن جاز الفصل بينهما كموضوع الألوهية وهو مسألة المسائل وموضوع اليوم الآخر وهو موضوع يتفرع عن موضوع الألوهية فسوف نجد أن الحديث عن اليوم الآخر أخذ من القرآن أضعاف ما أخذت قضية الألوهية ، هل المسألة هنا تتعلق بالأهمية وعدمها أو بدرجة الأهمية ؟ كلا قطعاً ، فما يشك عاقل أن أهم شيء في الإسلام هو الإيمان بالله تعالى ، لأنه المدخل الذي يلج منه الإنسان إلى رحاب هذا الدين العظيم وبغيره فمهما يفعل الإنسان من خيرات ومهما يقدم من معروف فإن ذلك ليس بنافعه في قليل ولا كثير ، لكن المسألة كما يجب يُعلم أن مشكلة الألوهية لا تحتل من أذهان الناس عادة ذلك المكان الخطير على الحس وعلى العقل الذي تحتله قضية اليوم الآخر .
فلا شك أن هذا الإسلام وُجّه إلى الناس كافة ، وبصورة أساسية ومباشرة وُجّه إلى العرب الوثنيين ، لكنك حينما تستشير القرآن بالذات هل المعضلة بالنسبة لموضوع الألوهية كهي بالنسبة لقضية اليوم الآخر ؟ تجد أن الله جل وعلا يقول : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فالعرب الذين كانوا يعبدون الأوثان لا يدّعون أن هذه الأوثان خلقت شيئاً من مخلوقات الله جل وعلا ، وإنما هي وسائط وشفعاء كما يدعون ويزعمون . ولهذا نجد الله جل وعلا يقول في وصف هؤلاء الصنف من المشركين ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فمسألة الألوهية في الحقيقة يشبه أن تكون مسألة مستقرة في قاع البديهة الإنسانية ، مهما كابر الإنسان وجادل ، ومهما حاول أن يبتعد عن الإقرار بها ، فهو مسوق بهذا النازع الفطري إلى أن يقر بها على نحو من الأنحاء . صحيح أن الإسلام له وجهته الخاصة في تقرير الألوهية منزهة عن الوسائط والشفعاء والشركاء والأنداد والأمثال ، لكن صحيحاً أيضاً أن العرب المشركين يقرون بالألوهية من حيث المبدأ ، لكن معضلته الكبرى ومعضلة الإنسانية عموماً هي : كيف يمكن أن يعود الإنسان بعد الموت خلقاً جديداً وكيف يمكن أن تتسع الأكوان لما لا يحصى من ملايين الناس الذي أكلهم الدهر وماتوا ؟ وكيف يمكن أن يحشروا ؟ وكيف يمكن لملك الموت أن يميت في اليوم وفي الساعة وفي اللحظة كذا وكذا عدداً من ألوف ومئات الألوف من الناس ؟ وكيف يمكن أن يوقف الناس جميعاً وأن يجري لهم الحساب ؟ إلى آخر هذه السلسلة التي تشكل فعلاً معضلة أمام العقل البشري ، بل أمام الحس البشري .
ونحن نعلم أن مقررات العقل وقناعات العقل لا بد لها أن تستند إلى شيء من وقائع الحس ومن العالم المشهود ، وإلا كانت مثالاً وتجريداً لا صلة له بالواقع ، وبالتالي فهو عاجز عن أن يتفاعل مع الكينونة الإنسانية بكل ما فيها من قوى وطاقات .(/1)
إن هذه المشكلة عرضها القرآن تباعاً ، وعرضها في المرحلة المكية ، وأشدد على ضرورة ملاحظة هذه الظاهرة في القرآن التي يغفل عنها معظم الذين يقرأون القرآن ، إن المرحلة المكية حفلت بالحديث عن اليوم الآخر مباشرة وابتداءً وكغرض مقصود ، قضايا اليوم الآخر أُبرزت على أنها غاية مقصودة في العرض والبحث والحجاج والمنافحة عنها ، ولكنك إذا قلبتَ صحف القرآن المدني فسوف تلاحظ أن موضوعات اليوم الآخر قلّما تُعرض على أنها قضايا مقصودة بالذات ، تأتيك تبعاً في نهاية آيات الأحكام ، في نهاية التوجيهات التي يُطلب من المسلمين أن يتقيدوا بها ، تذكر المسلمين باليوم الآخر وبالمصير إلى الله جل وعلا ، وتنبهوا إلى أن آخر آية نزلت من القرآن ذكّرت باليوم الآخر على هذا النحو المقتضب جداً وهي قول الله تعالى ( واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون ) هنا يحق لنا أن نسأل ولماذا ؟ والجواب يتطلب منا أن نعرف وجهة الإسلام في علاج مشكلات الجنس البشري وفي علاج القضايا الإنسانية حالاً ومآلاً ، لو أننا نعالج أمراً ذا صفة جزئية لكان هيناً لأن تعطى جملة مختصرة من التوجيهات وينتهي الأمر ، لو كنا نعالج مشكلة محلية لكان هيناً لأن يتداعى العقلاء لحلها ولا حاجة لتدخل السماء ، لو كنا نعالج فترة زمنية محدودة لكان بحسبنا عدد قليل من الآيات تحصر مشكلات المرحلة وتضع لها الحلول ، لو كنا نعالج أناساً بلا حس وبلا مشاعر وبلا دوافع وبلا عواطف لكان هيناً لأن تحل الأمور بأي سبيل ، لكن المشكلة التي واجهها الإسلام كما واجهتها الديانات الأخرى مع فارق أن الإسلام واجهها بعمق وبشمولية وجذرية ، هي مشكلة من غير هذه الطرز التي أعطينا أمثلة لها .
نحن حينما نريد أن نعالج وضعاً بشرياً فأمامنا عادة طريقان يمكن أن نختار أيهما شئنا ، يمكن أن نعالج مشكلات المجتمع الإنساني بالسوط والعصا ، وبقهر القوة ورهبة السلطان ، والإنسان إنسان محكوم بضرورات شئنا أم أبينا ، ذلك واقع لا يمكن تجازوه ، نحن بشر ولسنا ملائكة ، والإنسان حينما يوجه نحوه القهر بصورة مستمرة ومستديمة وقاسية فسوف يسير في الطريق الذي يراد أن يسير فيه ، يمكن ذلك . لكن تجربة البشرية تقول إن قبضة السلطان تتراخى باستمرار ، وإذا كانت القضية بهذا الشكل فما لم يكن مستقبل الإنسانية مضموناً بضمانة القناعة الإنسانية فإن ضمانة القهر والسلطان قاصرة عن أن تحافظ على استمرارية المثل ودوام السير بالنسبة لهذا الركب الإنساني . فهي إذاً طريقة فاشلة ، وإن كان هي الطريقة المعتمدة للأسف في هذه الأيام أن يحمَل الناس حملاً على ما يراد بهم ولهم دون أن يقام وزن لقناعاتهم ، لأن الناس انفصلوا عن هداية السماء وجهلوا تماماً فلسفة الإسلام في البناء الإنساني . هذا خيار ، ورأينا أنه فاشل عقلاً كما هو فاشل تاريخياً كما هو فاشل في الواقع اليومي المعاش ، ليس أمام الإسلام من طريق يسلكه ، وهو كلمة الله الأخيرة للناس ودعوته الشاملة إلى الجنس البشري ، إلا أن يسلك الطريق الآخر وهو أن يضع الجنس البشري بضمانة القناعة الإنسانية ، والقناعة ليست كلمة تلقى في الهواء ، ولكنه تعامل مستمر مع الواقع الذي يتحرك بالناس ويتحرك به الناس ، والقناعة مجموعة من التراكمات المحسوسة وغير المحسوسة ، والمباشرة والتبعية ، والقناعة حصيلة تجارب عمر يعيشها الإنسان فرداً ويعيشها الإنسان جماعة ، ومن اللجاجة في الفكر أن يتعجّل الناس النتائج لهذه التجارب ، لا بد من التأسيس انطلاقاً من هذه الوجهة الإسلامية الصافية .
نستطيع الآن أن نواجه قضايا اليوم الآخر ، كما نواجه كل القضايا الهامة والرئيسية في الإسلام بالصبر وبالأناة ، لكن سبق أن قارنا لكم سابقة بين سورة القارعة التي عرضت صور اليوم الآخر عرضاً إن صح أن نسميه باصطلاحات العقل عرضاً فيه برودة وجفاف العقل ، فالأمر كذلك ، وعرض المشكلة بهذا الشكل أثار لدى المكيين ردود أفعال فتساءلوا .(/2)
بعيد عن الإنسان أن يعاد خلقاً جديداً بعد أن بلي ومات ، ولكن لماذا يستبعد الإنسان هذا الشيء ؟ إنه يستبعده قياساً على المقاييس البشرية ، إلى خبراته اليومية ، إلى قناعاته المتولدة عن تحديد نظره بآفاق النعيم ، فجاء القرآن يعرض المشكلة ليوسّع من آفاق الناس . وثمة عندنا فريقان ، فريق يعيش على موروثات مضى عليها زمان طويل ، هم هؤلاء المشركون المخاطبون بهذا القرآن ، مرنوا على أن يعيشوا على نهب الملذات نهباً ، ويجمعون من الدنيا من الحل ومن الحرم ، دون سؤال ودون مراجعة ، وذلك لأنهم لا يرجون لله وقاراً ، ولا ينتظرون منه مرجعاً ومآلاً . وفريق آخر كان يقوم على تكوينه وبنائه محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن الفريقين كانا محتاجين إلى مرحلة تأسيس طويلة المدى بالغة العمق ، كان لازماً بالنسبة للمشركين أن تُفتّح أعينهم بأن الكون ليس فقط هذا الشيء الذي تلمسه أيديهم وتراه أعينهم ، فإن هذه الحواس المحدودة لا ترى من كون الله جل وعلا العريض إلا الأقل القليل ، ما تراه لا يشكل إلا هباءة تائهة في هذا الفضاء الكبير . وكان لا بد لهذه النباتات الغضة الطرية التي يتعهدها بالسقاية والغراس محمد صلى الله عليه وسلم من أن يستأني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيانها النفسي وبنائها الشعوري ومن قناعاتها العقلية ، وليس صحيحاً أبداً من أنه يمكن لنا أن نفعل ذلك بطرفة عين ونحن نتحرك على الصعيد الإنساني .
إذاً فكلا الطرفين كان محتاج إلى أن تُعرض القضايا شيئاً بعد شيء ، وبأناة زائدة ، وفي كل مرة يضاف شيء جديد . كما قلنا في القارعة عُرضت عرضاً مجرداً ، فلما حصلت ردود الأفعال لدى المكيين كان محتاجين لأن تمدّ آفاق أنظارهم شيئاً من هذا ، والمسلمون لم يكونوا أغنياء عن هذا فجاءت سورة القيامة . جاءت سورة القيامة لتقيم دلائل من الواقع المشهود ودلائل تستند إلى قضية العقل ، ودلائل تستند إلى مقررات الأخلاق ، وتكلمنا عن كل ذلك . والإنسان إنسان وعلينا أن لا نستغرب منه ولا عليه أي شيء ، وصدق ربنا ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .
المكيون لم يستطيعوا على أن يحملوا على أنفسهم الانخلاع بتة من هذه الموروثات التي ألفوها ، ولم يقبلوا أن يتخلوا عن معتقدات درج عليها الآباء والأجداد ، لكنهم جُوبهوا بقضايا لا سبيل إلى إنكارها ولا سبيل إلى تجاهلها ، فلجأوا إلى الطيش والعناد والسفاهة ، فجاءت سورة الهمزة تعرض للمسلمين لكي يبقى ذلك لهم أبد الدهر . موقف المكيين الأرعن الذي تخلى عن العقل ليبدأ سلسلة طويلة من الهمز واللمز والسخرية ، وما هي الصلة بين قضية العقل والشعور ، وقضية الحس والأخلاق ، وهذا الهمز واللمز وسائر التصرفات الرعناء الصبيانية التي تكشف عن زمام انفلات الأعصاب من أي قضية ؟ إنه لدرس بليغ ، وعلى كل مسلم أن يعي لكي لا يستغرب حينما يعرض مع مرور الأيام وتتابع آنات الدهور حينما يعرض رسالة الله إلى الناس فيصطدم بهذه الأصناف التي تعرف أن ما تقوله حق وتعرف أن ما تقوله صدق ، ولكنها محكومة بالهوى والشهوة والغرض ، مضروبة على آذانها ، لا تسمع نداء الله تعالى .
في كل زمان وفي كل مكان حينما تُعرض قضايا الإسلام عرضاً مجرداً ويعجز الناس عن تجاوز بداهة العقل يلجئون إلى الطعن والتشكيك ويلجئون إلى الهمز واللمز . وفي سورة المرسلات قلت لكم إن سورة المرسلات يمكن أن تكون معزوفة عالية النبرة ، ويمكن أن تكون جيشاً يقاتل ، أن الله جل وعلا وهو الحق يغار على الحق أن يُنتهك ، وحينما عرض الله قضايا اليوم الآخر على المكيين مجردة عارية فلم يقنعوا بها ، وعرضها مشفوعة بالحجج ، محفوفة بالدلائل والبراهين فأهدروا عقولهم وأهانوا إنسانيتهم ولجئوا إلى هذا السلاح الوسخ أي سلاح الهمز واللمز والشائعات الكاذبة المغرضة للتهويل من حملة الدعوة كي تهون الدعوة من وراء ذلك ، جاءت آيات الله في المرسلات تزلزل هؤلاء . ذلك شيء مبرر من واقع السيرة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/3)
عالجت السورة مشكلة سبق وأن واجهناها ، عالجت قضايا اليوم الآخر .. هل أضافت شيئاً جديداً إلى ما كنا قد تعرفنا عليه فيما مضى ؟ نقول : نعم . لاحظوا .. في سورة القيامة قال الله تعالى في آخرها ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) أمسكوا طرف الخيط ، إن الإنسان حينما يستبعد إمكان اليوم الآخر فذلك يعني أنه لم يقدر الإله حق قدره ، يعني أنه قاس إمكانات الإله إلى إمكانات نفسه ، يعني أنه لم يعرف قدرة الله جل وعلا التي لا تحدها الحدود ولا تبلغ نهاياتها العقول ، فإذا جئت إلى سورة المرسلات وجدتَ دلائل يوم الآخر إن صح أن نسميها دلائل تُشحن بهذا الشيء الذي يراد له أن يثبّت مفهوم القدرة الإلهية ، لأن الإنسان يوم أن يعتقد بأنه مخلوق من قبل الله وبأنه هذا الخالق قادر على كل شيء لا يعجزه شيء ولا تدخل الاستحالة في قاموسه ، فالمشكلة منتهية . ولكن إن تصورنا قدرة الله على نحو ما نتصور قدرات البشر فلن نصل إلى نتيجة في معالجة موضوع اليوم الآخر .
انظر .. افتتحت السورة بقول الله تعالى ( والمرسلات عرفاً ) يعني متتابعة ، تقول العرب : جاء القطا عرفاً أي جاء متتابعاً ، والمرسلات هنا هي الرياح . ( فالعاصفات عصفاً ، والناشرات نشراً ، فالفارقات فرقاً ، فالملقيات ذكراً ، عذراً أو نذراً ، إن ما توعدون لواقع ) قسم وجواب قسم ، وبقطع النظر عن اختلاف المفسرين في أنها هي الرياح أو هي الملائكة ، ولعل من قال بأن الملائكة مرادة في جزء من هذه الآيات قول الله تعالى ( فالملقيات ذكراً ) : إنهم تصوروا هي التي تلقي الذكر الذي هو القرآن ، فنحن نميل إلى أن الله أراد أن يلفت الإنسان إلى مظهر من مظاهر القدرة الإلهية محسوس ومشهود يراه الأعمى والبصير على سواء ، إنها الرياح التي تهب في الصباح المساء وتحمل من أمر الله ما تحمل ، أرأيت هذه السحب التي تنشأ في السماء أأنت أيها الإنسان أنشأته ؟ لا ، إنك لا تملك أن تدعي ادعاءً من هذا القبيل ، أرأيت كيف تأتي الرياح فتنشرها في السماء أأنت نشرتها بوسائلك الصناعية ؟ لا ، ولا تملك أن تدعي شيئاً من هذا القبيل . أرأيت كيف أن هذه السحب تنتشر في السماء فتغطي جو السماء كله ؟ أرأيت كيف أن الرياح تفرق السحب فرقاً تسوق شيئاً منها يميناً وشيئاً منها شمالاً وشيئاً شمالاً وشيئاً جنوباً لكي تغطي مناطق مختلفة .. أأنت فعلتَ ذلك ؟ لا ، أرأيت من بعد كيف يتنزل المطر بقدرة الله جل وعلا فيصيب الله به من يشاء ويمنعه عمن يشاء .. أأنت الذي فعل ذلك ؟ لا ، كل ذلك لم يكن منك .
( والملقيات ذكراً ) هي الرياح لا أشك في ذلك ، لماذا ؟ لأن كل ما يحدث في كون الله جل وعلا فهو مذكر بالله تعالى ، وليس ضرورياً أن نحمل الذكر هنا على القرآن ، لأن الذكر هو كل ما يذكّر بالله ، وكل ما يلفت النظر إلى عظمة الله وقهر الله وسلطانه وجبروته ، ألم تسمعوا ربكم جل وعلا يقول ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) فذلك هو تذكير من الله للإنسان بقدرة القادر الذي استبعد عليه هؤلاء المشركون أن يعيد الناس خلقاً جديداً بعد أن ماتوا ، واستكثروا على الله تعالى أن يسوق الناس إلى الحشر سوقاً ليسأل كل أحد عما قدمت يداه .(/4)
( والمرسلات عرفاً ، فالعاصفات عصفاً ، والناشرات نشراً ، فالفارقات فرقاً ، فالملقيات ذكراً ، عذراً أو نذراً ، إنما توعدون لواقع ، فإذا النجوم طُمست ، وإذا الجبال نسفت ، وإذا الرسل أُقتت ، لأي يوم أُجلت ، ليوم الفصل ، وما أدراك ما يوم الفصل ، ويل يومئذ للمكذبين ) أريد أن أقف معكم في هذه النقطة لأننا نوجه الآن بصورة أساسية أسلوباً من أساليب القرآن وهو أسلوب ربما يستخدمه بعض الناس فيفشل ، وفشله ليس متأتياً فن عجز الأسلوب ولكن عن صنع استخدام الأسلوب ، إننا نواجه في هذه السورة ما يسمى في بلاغة العرب بالتخييل والتمثيل والتجسيد ، إن القرآن مشحون بهذه التخييلات التي تصور بأن الأمور المغيبات كأنما هي واقع تراه رأي العين وتلمسه لمس اليد ، تسأل : ما مكان هذا الأسلوب في صفحة الإقناع ؟ ومع أني لا أقر هذا السؤال لكن لبعد الناس عن تذوق هذه اللغة الشريفة أريد أن أقف وأحلل وأن أحاول التعرف معكم على حكمة هذا الأسلوب وأخطار هذا الأسلوب حينما يُستخدم استخداماً رديئاً . يجب أن لا يغيب عن بالنا أن القرآن خاطب أمة هي صاحبة اللسان وهذه اللغة ، كيف تلفظ أنت باللهجة العامية التي رضعتها مع لبن أمك ونشأت عليها وتتحدث في شئونك كلها ، لفظة عامية واحدة تقولها أو تسمعها فتتأمل وتتداعى لها الصور وأخيلة وقضايا من هذه اللفظة ، لماذا ؟ لأن اللفظة جزء من الكيان الإنساني ، يمثل الكيان الإنساني بالذات ، لأن الكلام ليس شيئاً جامداً ولا بارداً ولكنه قطعة من هذا الكون ، وإذا كانت ألسنة الناس جميعاً تتمتع بهذه الخاصية الأساسية ، فلغة العرب من بين اللغات جميعاً أحسن اللغات كلها لهذه الخاصية العجيبة . إن اللفظة المفردة التي كانت تقال لعرب الجاهلية كانت تفعل فعل السلاح ، وليس غريباً على الإخوة الذين يعرفون شيئاً من حياة الجاهليين أن القبيلة التي كانت ينبغ فيها شاعر أو يبرز فيها خطيب تقيم الأحفال وتولم الولائم وتعمل الأفراح ، لماذا ؟ لأنها تعرف أن الشاعر والخطيب يدافع بالمثل الشرود والكلمة السائرة والبيت من الشعر الفاذ ، يحاول ما لا يحاول السيف ، وأن بيتاً من الشعر أخمل من ذكر قبيلة وأرفع من ذكر قبيلة ، ذلك شيء يعرفه الناس كلهم .
كانت قبيلة من القبائل تُعيّر بأنها أنف الناقة لماذا ؟ لأن هذه القبيلة ذبحت مرة لأحد الأضياف ناقة وقدموا له أنف الناقة فذهب شاعر يسبهم بأنه قدموا له أراذل لحم الناقة فسموا بأنف الناقة ، فجاء شاعر منهم فقال بيتاً من الشعر أذهب به هذه السبة التي كانت تعيّر بها القبيلة :
قال قوم هم الأنف والأذناب دونهم ومن يسوي بأنف الناقة ذنب
إذا كانت هذه القبيلة يقال لها أنف الناقة فغير من القبائل أذناب ، فالشاعر رفع من ذكر القبيلة . فللكلمة في الكيان العربي شأن ، وهي كلمة تقاتل ما لا يقاتل الجيش ، السلاح يحقق نصراً موقوتاً ، ولكن الكلمة الصائبة تبقى محققة لهذا النصر طيلة الأزمان والدهور . لا تملوا هذا التحليل الضروري وأنكم مطالبون بأن تقرأوا القرآن وأن تفهموا قيمة الكلمة التي كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن عشق العرب للكلام الجميل الفصيح الجذل القوي بلغ حد الهيام والغرام ، الكلمة عندهم فوق كل شيء . والله جل وعلا أعطى هذا اللسان العربي من القدرة على التخييل والتمثيل ما ترى معه أن الشيء الذي يحدثك به المتحدث واقع مشهود ، وصف يوماً رجل أسداً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحيث كان هذا الوصف مهولاً كأنما هو حاضر يتوثّب لكي يفترس الموجودين فقال عمر للواصف : حسبك لقد أفزعتَ الناس .(/5)
لغة العرب قادرة على تجسيم الأمور وتمثيلها وجعلها كالحاضرة المشهودة أمام الناس . قضايا الغيب لا يفلح معها أن نكل أمرها إلى الفلاسفة والعقلانيين والمفكرين ، لأنهم لا يملكون الوسائل التي تعينهم على المعرفة الصحيحة بواقع الأمر ، فهم من أجل ذلك يعجزون عن إيصالها إلى الناس . وكما قلت من قبل فقضايا الغيب لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي ، لكنا نخطئ خطأ فاحشاً ولا يُغتفر حينما نتصوّر أن الشهادة والغيب عالمان منفصلان لا يلتقيان ، في الحقيقة عالم الغيب والشهادة عالم واحد ، وإنما التفرقة اصطلاحية لا أكثر ولا أقل ، وآية ذلك : أنك وأنت هنا تشعر في دخيلة نفسك بأنك صغير عاجز ومخلوق ، وأن ثمة قدرة أقوى منك وأعلى منك وأعظم منك هي التي كوّنتك ، أتعرف أنت عن كل هذه القدرة شيئاً ؟ أبداً ، من ذا الذي يمكن أن يحيط بأوصاف الله جل وعلا ؟ أهو جسم ؟ أهو روح ؟ أهو متحيّز في جهة ؟ أهو محيط بالزمان والمكان ؟ ذلك شيء لا يعلمه الإنسان ، غاية ما تعلمه فطرة الإنسان ونباهة الإنسان وجود هذه القوة القادرة الفاعلة المحيطة بكل شيء . فهذا من عالم الغيب ولكن عالم الشهادة يتجاوب مع هذا الشيء ، أنت هنا تعيش ويمر بك غنى كما يمر بك فقر ، وتمر بك صحة كما يمر بك مرض ، ويمر بك عز كما تمر بك ذلة ، وتختلف بك الأحوال رفعاً وخفضاً ، ومن خلال هذه التجارب المكرورة تتساءل : هذه القوافل التي تذهب ، قافلة في أثر قافلة ، لا يرجع الماضي ولا يعرف الآتي ماذا يؤول إليه الأمر ، أمن العقل والمنطق ، أمن الأخلاق ، أم يكون ذلك كله عبثاً وسدى ؟ إنك تشعر في أعمق أعماقك أنه لا بد من وقت يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء ، وإلا لكانت حياة الدنيا مجزرة يأكل القوي فيها الضعيف ، ويسرق الفقير من الغني ، وينتهي كل معنى إنساني كريم يعيش عليه الناس أو يطمح إليه الناس .
هذا من عالم الغيب ، ولكنك في عالم الشهادة تجد له في نفسك ظلالاً وأصداءً ، هذه القضية يجب أن تُستحضر ، ونحن أمام التخييلات التي يضعها القرآن أمام أعيننا ، وضع القرآن أمام أعيننا الآن : كيف تنسف الجبال ، كيف تغير الأرض غير الأرض ، كيف تؤقت الرسل ، كيف يوقفون ليُسألوا عن الأمانة التي وُضعت بين أيديهم ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ، يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ) ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي به حق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب ) متى هذا ؟ في الدنيا ؟ لا ، في الآخرة ، ولكن آيات الله تضع هذا أمام عينيك كأنما تراه ( وإذا الرسل أُقتت ) أي ضُرب لها وقت معلوم وأجل محدود لكي تُسأل عن الأمانة ولكي تشهد على الناس ، هذا الأسلوب كان عظيم الفاعلية ، ولهذا فإن من أوصاف المؤمنين في القرآن الكريم أنهم إذا تليت عليهم آيات الله خشعت قلوبهم واقشعرّت جلودهم وبكت عيونهم ووصف الله جل وعلا أولئك الذين يؤمنون من أهل الكتاب من قبلنا أنهم إذا سمعوا آيات الله تتلى يخرّون إلى الأذقان يبكون ، لماذا ؟ لفاعلية الكلمة ، ولقدرة الكلمة على التأثير ، لاستحضار الكلمة لهذه المعاني العظيمة والمواقف المهولة التي يعرضها القرآن ، لقد كان ذلك الأسلوب من التعبير القرآني ولا سيما في باب الغيبيات أنجع أسلوب استخدمه القرآن ، بل أنجع أسلوب عرفته الإنسانية بإطلاق .
لكن هذه الأسلوب له أخطار ، ويجب أن أنبه ، إن نجاح هذا الأسلوب الذي تبناه القرآن واستعمله بكثرة يعود إلى ماذا ؟ هل يعود إلى قوة ذاتية في الأسلوب ؟ لا ، إن كل إنسان يستطيع أن يتصور وأن يتخيّل ، ويستطيع أن يستجيش فيك عاطفة موقوتة ، وقد يدفعك إلى عمل ما ، لكن هل يمكن لنا أن نتصور استمرار هذا الشيء ؟ حينما يكون التمثيل والتخييل مؤسسان على الصدق وعلى العقل تكون القضية صادقة ومستمرة ويكون الأسلوب بالغ الفاعلية إلى ما لا نهاية . أما إذا بنينا هذا الأسلوب على شيء لا نصيب له من الصحة ، على شيء بعيد من الصدق ، فنحن سوف نفشل ، لسبب بسيط ، لأن التمثيل والتخييل والتجسيم والتشبيه يصبح ذلك كله في استجاشة العاطفة وفي جعل كل الملكات البشرية مستوفزة حاضرة للاستجابة ، لكنها إذا ذهبت الرغوة عنها وتبيّن أن هذه التظاهرة ليس تحتها شيء من الصواب والصدق فإن خيبة الأمل حاضرة وعتيدة ، وإن الذي يستعمل هذا الأسلوب كذلك الكذاب الذي سُجّل عليه الكذب فهو إن نطق بالصدق فلا يصدق بحال من الأحوال .(/6)
إن أسلوب القرآن هذا كان مؤسساً على قضايا لا مجال للمناورة فيها ولا للجدل ، من ذا الذي يقول لك إن الله غير موجود ؟ سل شيوعياً من هؤلاء القذرين الذين يتباهون بأن الله غير موجود ، سل تقدمياً من هؤلاء المسوخ الذين انسلخوا من كل معنى إنساني والذين يتندّرون ويسخرون على الله وملائكته ، سله وقلت له : يا قذر يا تافه حينما تسقط في حفرة أتقول أين الرسالة الخالدة أم تقول يا الله ؟ إن بداهة الفطرة هنا لا مجال للمماراة فيها ، ولا مجال للمجادلة فيها ، إنك حينما تتأزّم الأمور تلجأ إلى الواحد القهار ، تنسى لينين وتنسى ماركس وتنسى كل الزعماء وتنسى كل شيء وتذكر الله الذي بيده كل شيء .
سر النجاح في هذا الأسلوب التخييلي العظيم أنه مؤسس على قضايا صادقة بصورة مطلقة ، والذين يريدون أن يستعملوا هذا الأسلوب بفاعلية ونجاح عليهم أن يدركوا أخطار هذه الأسلوب ، إننا حين نحاول أن نجسّد أو أن نهوّل فينبغي أن يكون الأساس صحيحاً ، فإذا كان الأساس فاسداً على النحو الذي يستعمله الناس في هذه الأيام فسوف تنتهي الأمور إلى كارثة ، أنتم تسمعون ، واسمحوا لي أن آخذ من الوقت دقائق خمسة ، تسمعون أجهزة الإعلام ومبالغتها ، وتعرفون كلكم أن تسعة وتسعين مما يقال زيف وكذب وباطل إن لم نقل إن الواحد الذي من تسع وتسعين هو كذلك زيف وباطل ، على أي شيء يؤسس هذا ، إن القاعدة التي يؤسس عليها الإعلام المعاصر تعتمد على أن الإنسان حينما تكرر عليه القضية باستمرار يأباها أول الأمر ويأباها ثانياً وثالثاُ ورابعاً وخامساً وهكذا .. ولكنه مع التكرار يتقبّلها شيئاً فشيئاً حتى يصدقها . وقاعدة أخرى تعتمد على هذه الظاهرة من الضعف البشري الطبيعي ، ليس كل إنسان قادراً على أن يتقّى الأمور ، فمثلاً أنت سمعتَ أن القضية الفلانية حدثت كذا وكذا ، واجبك كإنسان وتحترم عقلك وتقدر موقفك وتدرك أن خطواتك المبنية على التصديق أو التكذيب واجبك أن تتحرى وأن تحقق ، لكن واحد من الآلاف هو الذي يصبر على التحقق ويتابع الأمور لكي يصل إلى الحقيقة ، إلا أن السواد الأعظم من الناس لا يصبرون على هذا ، لذا هم يصدقون كل شيء بلا سؤال أو تحقق ، ومن هذا باب ما يشاع في الإعلام المعاصر من أننا نحن العرب ونحن المسلمين لا نقرأ ، إن ما يقال بيننا وما يكتَب بيننا من أكاذيب لا نكلف أنفسنا مؤونة فحص مبلغها من الصحة ، لكن هذا قليل ما يقوله عنا الأجانب وما يبيّت لنا الأجانب من خطط ومن مؤامرات تستهدفنا وهو مكتوب في اللغات الأجنبية بل حتى العربية وهم مطمئنون بأننا أمة لا تقرأ ، وإذا قرأت لا تفهم ، لأنها لا تكلف نفسها مشقة البحث والتحليل والتحقق من صحة الأمور أو عدم صحتها .
ومع ذلك فينبغي أن نعلم أن هذا الواقع الذي يعتمد عليه الإعلام المعاصر واقع مرفوض من وجهة نظر الإسلام ، لماذا ؟ لأنه يشكل حالة مرضية في الوجود الإنساني ، ولا يشكل حالة صحيحة ، لأن الحالة الصحيحة هي ما أخبر الله تعالى بقوله ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) إن الإسلام خلق رجالاً يشعر كل واحد منهم أنه يمثّل الكون برمته ، فهو من أجل ذلك أمين على هذه الكينونة الإنسانية الصافية التي لا يمكن أن ينطوي عليها الزيف .
أقول هذا وفي ذهني أن أنبه أننا ونحن نعرض قضايا الإسلام ينبغي أن ندرك أخطار أسلوب التخييل والتمثيل ، إن هذا الأسلوب يجب أن يكون معتمداً لا سيما في عرض قضايا الغيب ، ولكن على قواعد الصدق ، على قواعد الحق ، فإذا تورطنا في استخدام هذا الأسلوب بشكل سيء فسوف نفشل . لقد كان هذا القرآن الذي نقرأه وهذا الذي نجابه منذ الآن وإلى نهاية المرحلة المكية نموذجه الأمثل مؤسساً على هذه القاعدة . ليس في القرآن قضية تُعرَض للدعاوى ولا للإعلام ولا لاستجاشة العواطف ولا لإثارة الغرائز ، ولكنها إثارة لتجسيد الحقيقة حتى يتعرّف العقل عليها بكل أبعادها .
في الجمعة القادمة أرجو من الله تعالى أن أمرّ معكم كالبرق على بقية السورة ، لأننا أمامنا سوراً عديدة أخرى تمشي على هذه الوتيرة ، نريد أن نعرف ماذا أضافت . ومن الآن فلنعرف أن سورة المرسلات أضافت على سورة القيامة زيادة على الدلائل والشواهد والمؤيدات جواً ودلائل أخرى تشير إلى قدرة الله جل وعلا التي هي لازمة من لوازم الألوهية ولا يمكن تصور إمكان القيامة إلا مع إثبات هذه القدرة التي لا يحدها حد ولا يقيدها قيد .
والله جل وعلا أسأل أن ينفعنا والمسلمين بهذا القرآن .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة المرسلات
الجمعة 13 شعبان 1397 / 29 تموز 1977
( 3 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
وقفنا معكم في الجمعة الماضية عند مطالع سورة المرسلات ، ووجدنا أن من اللازم أن نتعرف على بعض خصائص أسلوب القرآن الكريم في عرض القضايا والمشكلات ومعالجتها ، ولما كنا بصدد الوقوف فترة طويلة جداً عند أسلوب التخييل والتمثيل واستحياء المشاهد وعرضها على الناس مفعمة بالحركة والحيوية يقرأها القارئ في كتاب الله أو يسمعها من أفواه الآخرين فيحس أنه أمام مشهد حي واقعي تنفعل معه أحاسيسه وتتجاوب معه مشاعره ويتحرك من أجل ذلك عقله ، فوجدنا أن من الضروري أن نتحدث عن حكمة استخدام هذا الأسلوب في القرآن الكريم ومجال استخدامه ومدى قدرة الناس على الاستفادة من هذا الأسلوب .
وبالرغم من حديثنا حول هذه القضية قد أثار عند بعض الإخوة شيئاً من الإشكالات فأحب أن أقول إن الذي يطلب منا أن نوضح كل شيء بحيث يصبح مفهوماً لجميع مستويات الناس يطلب المستحيل . إن طبيعة الموقف هنا لا تسمح بعرض كثير من الأمور على نحو مدرسي بحت ، وإن على كل أخ يحضر الجمعة أن يحضرها وهو يدرك جيداً أن عليه قسطاً كبيراً من الواجب تجاه المهمة التي يقوم بها الخطيب وهي أن يشارك بفكره وأن يقدم ما يستطيع من جهده من أجل الوصول إلى فهم أفضل ، زد على ذلك أنني قلت مراراً أن ثمة أموراً يجني عليها التبسيط لأن التبسيط يخرجها إلى حد الإسفاف والابتذال ، ولأنها بطبيعة تكوينها غير قابلة لهذا التبسيط .
إن المسألة التي وقفنا عندها معظم الوقت في الجمعة الماضية مسألة تتعلق بالخصائص الذاتية لهذه اللغة الشريفة التي نزل بها القرآن الكريم ، وأحسب أنه سيمضي زمن طويل قبل أن يحصّل الناس تلك الملكة العزيزة النادرة التي كان يتحلى بها العرب والتي كانت تعينهم على الفهم الصحيح والإدراك الصائب لخصائص الكلام المنزل من ربنا جل وعلا .
واليوم أريد أن أمضي مع السورة ملامساً رؤوس القضايا أو القضية التي تثيرها بفروعها وشعبها ، غير غافل عن ضرورة التنبيه مقدماً إلى أن الذي يدفعنا إلى وقفات قد تطول في بعض الأحيان عند بعض الظاهرات في الحركة أو أسلوب المعالجة أو القضايا ، لا بد أن نطيل الوقوف عندها لأنها ستشغل حيزاً كبيراً جداً . لا أدري لعلكم تذكرون أنني قلت لكم وأنا أتحدث عن سورة الطارق إن الدعوة الإسلامية ابتداءً من هذا التاريخ دخلت طوراً جديداً كانت القضية من قبلُ مهاترات ومجادلات بالباطل ونظرة أناس إلى الدعوة يحسون بالاستكبار وأن هذه الدعوة غير جديرة بالاهتمام ، لكنه ابتداءً من سورة الطارق فإن الدعوة بدأت تواجه المشكلات الحقيقية المتعلقة بصميم عملية البناء ، ومنذ سورة القارعة وإلى الآن وإلى مرحلة تالية قد تطول فنحن سنرود من عالم الغيب مساحات شاسعة ، وقلت في الجمعة الماضية إن أسلوب التخييل والتمثيل وإحياء المشاهد استخدم في القرآن على وجه الخصوص في ميادين عالم الغيب لأن هذه الميادين هي التي تنجع فيها الأسلوب من هذا القبيل .
ونحن سوف نواجه هذه المشكلات منذ الآن ، ولاحظوا كيف تتفرع قضايا الغيب بعضها على بعض ، في القارعة وما وليها كان الكلام على يوم الآخر يشبه أن يكون مجرداً ، وحتى جاءت سورة القيامة فعرضت قضية يوم الآخر بشواهدها وأدلتها وأساليبها المختلفة ، لكن الناس هم الناس في كل زمان ومكان بالرغم من أننا لاحظنا خلال سياحتنا الطويلة منذ بداية التنزيل وإلى الآن أن الله تعال لا يترك مناسبة إلا ويجلو أمام أنظار الناس طبيعة العوامل التي تصرفهم عن الاقتناع بالحقيقة والتزام الحقيقة والوقوف مع الحقيقة والدفاع عنها ، الإنسان الغارق بالشهوات ، والمبتلى بالمنكرات ، الإنسان الذي لم يتحرر بعد من عبوديته لذاته بما تمور به من مطامع وأهواء ، هذا الإنسان لا يزال في حد غير العبودية لله تعالى ، ولا يزال غير قادر على أن يملك أسباب التحرر الذاتي الذي هو الشرط الذي لا غنى عنه لسلامة النظر والحكم ولتحديد المواقف .
إن الإسلام كما رأيتم خلال المسيرة الماضية كلها أكد على موضوع الوحدانية منذ أول حرف نزل من القرآن ، وشدد على موضوع عبودية الإنسان لله تعالى ، هل معنى ذلك أن الله يريد أن يرهق الإنسان بأثقال هذه العبودية وبتكاليفها ، أبداً ، ليس الأمر على هذه الشاكلة ، وإنما الهدف كله يتركز في أمر بسيط ، إن الإنسان كما نراه يعيش على الطبيعة وبصورة ميدانية إنسان موزع النفس ومشتت القلب ومبدد التفكير ، وبالتالي مهدر الطاقة ، أي أنه كائن لا يستخدم الفاعليات الموجودة فيه استخداماً على قدر معقول من التفاؤل ، فهو بهذه المثابة إنسان يعطل عن عمد وإصرار قوى وطاقات وإمكانات مفروض أن تخدم الغاية العليا التي نزل القرآن وجاءت هذه الدعوة لتأكيدها بين الناس .(/1)
حين شدد الله جل وعلا على ضرورة أن يخلع الإنسان من عنقه كل ما يشده إلى أغراض الحياة وكل ما يوزع نفسه ويشتت فكره ويبدد أهواءه وطاقاته ليحصرها في الله تعالى فمعنى هذا أن الإسلام يريد أن يبلغ بالإنسان ذروة الحرية . إن الإنسان الذي يدين لله فقط بالعبودية هو وحده الإنسان الحر ، حرية كاملة وصحيحة غير منتقصة ، وهو أيضاً إنسان يسود نفسه ويملك نفسه ، ولا تستعبده نفسه ، ولا تضغط عليه شهواته . فهو إذاً أمام الحقيقة بدون ضغوط يستطيع أن يلتزم بها أو أن يقتنع بها وأن يفي لها وأن ينافح من أجلها حتى النهاية . غير هذا الإنسان لا يصلح . قد يصلح في أي مكان تضعه فيه من هذه الدنيا ، لكنه في ميدان الدعوة وفي ميدان الله تعالى وفي ميدان الإسلام إنسان لا يصلح بتاتاً .
لكن المشكلة ليست في أن يقرّ بالمبدأ من حيث هو مبدأ ، وحتى الذين يعبدون الحجارة والذين يدعون مع الله آلهة أخرى ما زعموا أن هؤلاء يخلقون ويرزقون ولكنهم قالوا : شفعاؤنا عند الله ، قالوا : أبناء الله وبناته ، قالوا : شركاء الله ولكن في مرتبة أدنى . فأصل القضية مقرر عند وعند المؤمن ، والمعضلة ليست هنا ، المعضلة أن تعرف حقاً ما هو هذا الله الذي تعبده ، وما هو قدرته وما هو جبروته ، وما مكانه من هذا الكون ؟ إذا استقامت لك الفكرة عن الله تعالى فأنت إذاً على باب التوحيد ، وإذا لم تستقم لك الفكرة في الله تعالى فأنت إذاً بعيد عن التوحيد .
هذا على صعيد النظرية ، لكن على صعيد التطبيق وهو ما يسهل عليكم ملاحظته وإدراكه ، حينما يعرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا ، أحدهما للدين والآخر للهوى والشهوة والطمع وسائر الجواذب الأرضية الأخرى .. فإذا كنت شجاعاً قادراً على أن تمتحن نفسك فذلك هو الميزان ، إذا أنت آثرتَ مرضاة الله واخترتَ قضية الإسلام ووقفت مع حدود الدين فأنت في باب الإيمان ، وإذا قهرتك نفسك وصرعتك شهواتك وتركت أمر الله جانباً وانقدتَ لما سوى ذلك فأنت خليق بك أن تبكي على نفسك ، لأنك فوق على أنك إنسان ناقص التفكير فأنت إنسان يمارس على نفسه تضليلاً بالغ الخطورة لأنه سيدمر نفسك تدميراً كاملاً .
إن موضوع القيامة حينما أُثير أُشير في سورة القيامة بالدلائل والشواهد الكافية ، ولكن حينما يأتيك إنسان لا يعرف عن الله جل وعلا الصفات الواجبة للإله التي يجب إثباتها لله جل وعلا فالأمر يصبح مشكلة ، وليست المسألة مسألة عامية وغير عامية ، أي ليست المسألة مسألة جهل وثقافة ، فنحن لدينا الآن وبعد هذه المسيرة الطويلة من تاريخ الجنس البشري ومن تجاربه الكبيرة والكثيرة والمختلفة الأصقاع والأزمان لدينا ما يشهد على ضلال الفكر تؤدي إلى ارتباكات لا نهاية لها .
الفلاسفة القدامى وهم قيمة الفكر الإنساني بلا ريب ولهم في مجال التفكير إبداعات ما تزال حتى الآن شاهدة على عظمة الإنسان وعلى جبروته وعلى مدى ما يستطيع أن يبلغه هذا الإنسان . لكن الإنسان ما لم يكن له مدد من الله تعالى فهو لا بد أن يسقط لأنه ضعيف مغلوب على أمره :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده(/2)
إن الفلاسفة القدامى والمحدثين والمعاصرين لديهم هذه الانطباعة الأولية عن الذات الإلهية أو عن القدرة التي انبثقت عنها الأكوان والتي صدرت عنها هذه الموجودات ، لكن ما كنهها وما أوصافها ؟ ذلك شيء يمسكون عنه . في تاريخ الفكرة الإنساني تيار يعرفه المطلعون أقل اطلاع على تاريخ الفكر الإنساني يقولون إن هذا الكون كله صدر عن ذات واحدة لا تنقسم ولا تتعدد ولا تقبل الشركة في حال من الأحوال ، ولكن هذه القوة بعد أن صدر عنها هذا الكون تعالت عن الكون فلم تعد تهتم به ولا تكترث له ولا تعتني بتدبيره بحال من الأحوال . فكرة قد يصور لبعض الناس أنها من المغالاة في التنزيه وفي التوحيد ، إن كثيراً من الناس يكبر عليهم أن يتصوروا الإله الخالق المبدع العميم الخير العظيم القدرة معنياً ومشغولاً بإدارة شئون الكون يشبه أن يكون مديراً لمؤسسة كبرى يصرف شؤونها ويطلع على كل مما فيها من صغيرة وكبيرة ، كثير من الناس يرون هذا التصور لا يليق بمقام الألوهية ، لكن لو تركناهم والتصورات وقلنا لهم تعالوا معنا إلى واقع الحياة ، تعالوا إلى مسيرة الإنسانية ما الذي ترتب ويترتب على اعتماد فكرة من هذا القبيل ؟ يترتب على ذلك أن الإنسان من حيث هو ذات يشعر أنه في هذا الكون وحده لا عناية واهتمام ، غريب وفي كل ما في الغربة من قسوة وبكل ما فيها من معاني الضيعة ، ما الذي ينتج من ذلك ؟ ينتج من ذلك أن الإنسان يناغي نفسه ويعتمد عليها ، وأنه لا سند له ولا معين له من خارج نفسه ، فمن أجل ذلك يكون أمر الناس في الصغيرة والكبيرة موكولاً إلى الطاقة البشرية وإلى الجهد البشري وموكولاً إلى السير في طريق التجربة والخطأ والصواب ، بحيث ينتظر الإنسان تراكمات الزمن أن تصحح له المسيرة ، لكن شاهد التاريخ يقول لنا غير هذا ، إن شاهد التاريخ عندنا يقول إن الضلال الذي عاش مع الإنسان في الماضي السحيق ما يزال يصاحبه حتى الآن ، نفس الضلال ونفس العبودية ونفس الشهوات ونفس الارتباكات الخطيرة ونفس العقد التي يرزح الناس تحتها ، نفس المظالم ، نفس كل ما عانت وتعاني الإنسانية ، كل شيء ترونه الآن له أصله الذي كان موجوداً في السابق . الحصيلة التي نخرج بها من تحليل من هذا القبيل هي أن الإسلام كان حكيماً غاية الحكمة حين صوّر للمسلمين وللناس الإله على غير الصورة التي كان يتصورها الناس والتي ما يزال كثير من الناس يتصورونها الآن .
بعد أن تحدثت سورة القيامة عن اليوم الآخر كأن كثيراً من الناس شككوا في مسألة إمكان اليوم الآخر ، في القدرة على إحياء من مات من الناس ، هذه خصيصة من خصائص الإله ، إن الإله لكي يكون إلهاً حقاً ينبغي أن يكون مقتدراً على كل شيء وينبغي أن تكون إرادته طليقة لا يحدها حد ولا يقيدها قيد ، وإلا فلا يمكن أن يكون إلهاً على غير هذه الصورة .(/3)
جئنا إلى سورة المرسلات ، في سورة المرسلات ظلال وإيماءات وإيحاءات إلى دلائل ذات قيمة على اليوم الآخر ، لكنك لو قرأتَ السورة بإمعان وروية فأنت تلاحظ أمرين ، تلاحظ أن الفرق بين عرض القضية في السور السابقة وعرضها في سورة المرسلات يتركز جوهرياً في أن الله تعالى من أول السورة إلى آخر السورة عرض القضية على صورة التخييل والتمثيل ، عرضها واقعاً حياً تشهده وتحسه به وتنفعل معه ، وعرضها على صورة تساؤلات ، وعرضها ضمن إطار يوحي إليك أنك في موقف الحساب وأنك تُسأل ، تشعر أنك تُسأل أمام الواحد الديان ، هذا الذي أنكرتَ عليه قدرته في أن يبعثك من بعد الموت ، لفت نظرك في فواتح السورة إلى ما حولك ، انظر ، أنت تعيش في كون يفترض أنك لا تجهله ، هذا الكون له ظاهرات أنت تعيشها ، لو حاولتَ أن تغلق عينيك عنها وأن تسد أذنيك عنها لما كان لك إلى ذلك سبيل ، فانظر إليها إنها تشهد لك على قدرة القادر القاهر الواحد الديان ، وتجعلك تقتنع بأن الذي خلقك ابتداءً قادر على أن يعيدك مرة أخرى متى شاء وعلى النحو الذي شاء ، فإن كنتَ لا تريد أن تنظر إلى ما حولك فأنت كائن تاريخي ، وتعلمون ما معنى الكائن التاريخي ، هذا كائن ولكنه جماد وليس له تاريخ ، لكنك أنت أيها الإنسان سلالة مخلوقات مضت قبلك ، خلقها الله كما خلقك ، وأماتها كما سوف يميتك ، فأنت تضرب في أصولك في الزمان وفي المكان ، أنت إنسان تاريخي مضت قبلك أجيال ، ماذا كانت ؟ اسمعوا ، بأسلوب التساؤل بل بأسلوب السؤال ، كأنما الله جاء بك في الموقف يوم يقوم الناس لرب العالمين ليسألك : لماذا لم تصدق برسولي الذي جاء من عندي ؟ أكبر عليك ذلك ولماذا يكبر عليك ذلك ؟ أأنت فذ وبديع في هذا الكون ؟ ألم يكن لك آباء وأجداد ؟ ألستَ ذرية قوم آخرين ؟ فأين كنتَ ؟ ( ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ) والسؤال هنا أو المحاسبة لا ينصب على الجنس كله ، ولكن ينصب على صنف من الناس ، هذا الصنف الذي ما قدر الله حق قدره إذ قال إن الله لا يقدر على الإعادة بعد الإماتة ، ولكنه ينصب على أمم مضت من قبل ، جاءتهم رسلهم بالبينات وعُرضت لهم الدلائل والشواهد والمؤيدات وذُكّروا بعد غفلة ، وأُوقظوا بعد نوم ، ثم أصروا على التكذيب ( ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ) إلى ما أحلّ الله تعالى بالأمم المكذبة من بطشه وسطوته ونقمته ، فكأنه يريد أن يقول لك بلسان التاريخ الذي لا تُدفَع له حجة ولا يُكذَب له شاهد إنك إن أصررتَ على ركوب طريق العناد والتكذيب فأنت لستَ في الكون بدعاً وليس في يدك من الله ميثاق أن قضاءه وقدره وأن سنته في الكون لم تطالك ، أنت واحد من الناس وأنتم أمة من الأمم وأنتم خلق من خلق الله جل وعلا ، كما كذبت الأمم السابقة فأصابها ما أصابها مما لا يخفى عليكم ومما تناقلته آباؤكم عن آبائهم وصل إليكم خبره ونبأه وعلمه فكذلك أنتم إن كذبتم رسولنا فسيحل بكم ذات الذي حلّ بالأمم الماضية ( كذلك نفعل بالمجرمين ) واستعمال كلمة المجرمين هنا استعمال له دلالته التاريخية المعينة ، إن الجريمة جريمة ولها ظلها في ذهن كل إنسان ، فما علاقتها في هذا الموقف ؟ العلاقة يمكن اكتشافها بسهولة ، إن هذا القرآن الذي تقرأه أيها المسلم هو الإرث الذي تناقلته الأنبياء وانتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأودعك هذا الرسول العظيم إياه لكي تحمله إلى الناس إلى آخر الزمان ، فما بعد القرآن كتاب وما بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي ، وتركزت المسؤولية على الأمة المسلمة . ما نتيجة الإخلال بجملة هذه التعاليم التي يطرحها عليك هذا الكتاب ؟ ما عاقبة ذلك ؟ عاقبة ذلك دمار البشرية ، وعاقبة ذلك ترك الناس فوضى يقودهم أهل الأهواء وأصحاب المطامع ولا يبالون أفلح الناس أم فسدوا ، استقامت حياتهم أم اعوجت ، ملء البطن وإرواء الفرج وتحصيل الحطام ، أما أن يكون ذلك على حساب الناس وعلى تلال من الجماجم والرؤوس فذلك شيء آخر لا ينظرون إليه ولا يلتفتون نحوه ، من نتيجة ذلك ؟ جريمة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، لا بحق فرد ولا بحق أمة ولكن بحق الإنسانية جميعاً ، إن أمتنا المحمدية اليوم لو أُتيح لأفرادها أن يواجهوا أنفسهم بشجاعة وبصراحة وبحرية لعرفوا أنهم فعلاً مجرمون ، مجرمون بحق أنفسهم وبالتالي بحق البشرية جميعاً ، متى عرفتم في تاريخ الإنسانية كل هذا الدمار وكل هذا التقتيل وكل هذا الهلاك ؟ متى عرفتم ذلك إلا في حال غياب هذه الأمة عن مسرح التاريخ ؟ إن الناس كلهم وكل أمم الأرض كانت تعلم أن ثمة أمة تحمل في يدها ميزان العدل والحق والخير هي أمة الإسلام ، كانت مأوى المظلومين وملاذ المكروبين والمثابة التي يفيء إليها كل هارب من الظلم والبغي والعدوان ، وما زالت تنحدر هذه الأمة حتى تمكّن منها عدوها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه نبهنا في حديث شريف له بأن الضعف سيحل بنا حتى(/4)
يطمع بنا من لم يكن نفسه تحدثه بالطمع بنا ، بل حتى ينتزع من أراضيها ونصبح غثاءً كغثاء السيل ، وقد كان ما قاله محمد عليه الصلاة والسلام .
ما حصيلة ذلك ، لستم بحاجة إلى تتبع رقعة العالم لتعرفوا مدى الخراب والدمار الذي تمارسه قوى الشر والبغي والعدوان على الإنسان من حيث هو إنسان ، أنتم بحسبكم أن تنظروا إلى الواقع الذي تعيشون فيه لتروا أية هوة مخيفة وعميقة التي تقف الأمة على شفيرها وتكاد أن تتردى فيها . ما السبب في ذلك ؟ السبب أننا أصبنا بنفس الداء الذي كانت الأمة التي خوطبت بالقرآن مصابة بها ، نحن تركنا أمر الله ، لأننا لم نعد نعرف الله جل وعلا على النحو الذي ينبغي أن نعرفه عليه ، إننا نقول لا إله إلا الله ، ولكن في الواقع نحن نشرّك مع الله آلهة أخرى .
انظر إلى نفسك أيها البائع في سوقك في دكانك حينما يأتيك ما تشره إليك نفسك من طمع وتجد من أخيك المشتري غرة فتقتنص هذه الغفلة لتحقق لنفسك مكسباً على حسابه ، إنك غالباً ما تتردد ، فأين الله وأين قولك لا إله إلا الله ، إن قولك لا إله إلا الله يتقاضاك أن تستحضر هيبة الله وخشية الله في السر والعلن . أنتم الآن ترون أن الناس يتراكضون شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً من أجل مهزلة لا أسخف منها ولا أقتل منها لهذه الأمة ، كلكم تصلون وكلكم تقولون لا إله إلا الله ولكنكم بعد خروجكم من المسجد إلا من عصم الله تجدون أنفسكم مجرورين من لحاكم لتركضوا في التيار الضار الذي يدعو إلى مناهج الشيطان وإلى نكران الله جل وعلا .
فأين الله وأين وحدانية الله ، إن معنى وحدانية الله جل وعلا أنك تقدر تحت كل الظروف وفي جميع الشروط أن تقف مع الله وحده ولو أغضبتَ الناس كلهم ، إن هذه الخصيصة مفقودة في هذه الأمة أو شبه مفقودة في هذه الأمة ، وهذه الخصيصة بالذات هي التي جاءت سور القرآن لتستحييها في نفوس الناس ، لماذا ؟ لتكوّن طرازاً جديداً من الناس .
إننا يجب أن نعلم أن سور القرآن انصبت أساساً في المرحلة المكية على التالي : إننا أمام واقع يستعبد الناس فيه بعضهم بعضاً ، ويقطعون صلتهم بالله جل وعلا ، فتتشوّه صورة الحياة عندهم ويبتدعون لأنفسهم تقاليد وأعراس ومناهج ونظماً هي في صميمها وفي أصل تكوينها قاصرة وناقصة وبالتالي مدمرة ، إننا يجب أن نصحح النظرة قبل كل شيء ، ما مقامك أيها الإنسان في هذه الحياة ؟ أأنت خالد مخلد ؟ هل هذه الدنيا سرمدية ؟ هذه هي النقطة التي وقف الإسلام عندها طويلاً ، فأبان منذ البداية أنك في هذا الكون الطارئ ضيف غريب وصدق رسول الله حينما قال ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة وبدأ الأصحاب رضوان الله عليهم بعد الفراغ من بناء المسجد النبوي يبنون له بيته صلوات الله عليه فأرادوا أن يشيدوه ويعلوه فقال لهم : الأمر أعجل من ذلك ، إن مثلي كمثل راكب استظل بظل شجرة ثم راح عنها وتركها . ذلك هو وضع الإنسان في هذه الحياة ، حياة واحدة ذو مرحلتين ، دنيا وأخرى ولا شيء وراء ذلك ، وحين يغفل الإنسان عن هذه الحقيقة يسقط في عبودية الدنيا ، يرى أن هذه الحياة هي كل شيء ، وهذا هو الخطأ والخطر وهذا هو الذي سوّغ للقرآن أن يقف طويلاً عند هذه النقطة التي توقظ الإنسان إلى هذه الحقيقة .
إن مقامك أيها الإنسان في هذه الدنيا قليل ، أيام أو شهور أو سنوات ، ثم بعد ذلك المنقلب والمصير إلى الله جل وعلا ، فإذا وقر في ذهنك أنه لا مرجع ولا معاد ، فأنت في الواقع مجرم . لكن هل المسألة سهلة ؟ لا ، يجب أن لا نكون أغبياء وأن لا نبسط الأمور أكثر مما ينبغي ، إن المسألة بحاجة إلى نموذج جديد كل الجدة من الإنسانية ، إننا بحاجة إلى تكوين الإنسان الرباني ، بل إلى تكوين الإنسان الكوني بكل معنى الكلمة . الإنسان الكوني هو ذلك الإنسان الذي يعرف أنه وُجد في هذا الزمان وهذا الموقع لأداء غاية معينة إذا أداها مضى إلى سبيله كدحاً إلى الله جل وعلا لكي يقدم الحساب .(/5)
والإنسان غير الكوني هو ذلك الإنسان الذي يقول قولة الفاجرين : نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . والله شدد غاية الشدة فيما يتعلق في هذه الناحية ، تقرأون في سورة المؤمن قول الرجل الصالح ( يا قومي إن هذه الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ) وتسمعون قول الله تعالى ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تُظلمون فتيلاً ) وإذا وقفتم عند آيات معينة من العهد المدني فستجدون الله جل وعلا يعرض هذه القضية بمعرض يصور الخطورة البالغة على البشرية وعلى المسلمين بصورة خاصة ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) ولكن هل انتهت الأمور عند هذا الحد ؟ أبداً ، إن حكمة الآية تأتي بعد ذلك ( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ) فالآية تضمنت أموراً ثلاثة ينبغي أن لا تغيب عن العاقل أبداً ، عاقبة التثاقل إلى الأرض ، ونسيان أن الدنيا في جنب الآخرة قليل ، تتركز أولاً في أن الله تعالى سيحل العقوبة بأصحاب هذا الاعتقاد ، لماذا ؟ لأن القضية ليست توجيهاً أخلاقياً ولكنها ناموس كوني ، وكل من يعتدي على نواميس الكوني يعاقب ، هذه العقوبة الرهيبة التي هي الدمار والمحو والإهلاك والاستئصال ( يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ) ما معنى أن يستبدل الله تعالى قوماً غيرنا ؟ معناه أن يُطرد الغرور من نفس الإنسان ومن نفوس الأمم ، حينما تتصور أن انتماءها إلى الإسلام اسماً بدون معنى ، وجسماً بدون روح ، يعصم من الكوارث والنكبات ، إن الدين هو دين الله وليس هو صنعتك يا أيها الإنسان . وإنه وديعة الله عندك استخلفك الله عليها ، فحين تخل بشرائط الاستخلاف وتخون أمانة الله عندك وتنقض عهد الله وميثاقه وتقطع ما أمر الله به أن يوصل وتفسد في الأرض فأنت لست بمحل من الكرامة على الله الذي يصبر عليك إلى ما لا نهاية ، إن دينه سوف يوكل إلى أقوام هم خير منك وأتقى منك وأصلب عوداً منك وأقدر على المضي بالرسالة منك .
ثم ( ولن تضروا الله شيئاً ) ثمة فاصل حاسم بين الخالق والمخلوق ، إن الدنيا بحزافيرها منذ خُلقت وإلى أن يأخذها الله لا تساوي شيئاً عند الله تعالى ، إذا كان يقول لك : قل متاع الدنيا قليل . فمن أنت في هذا القليل ؟ وأين تقع شهواتك ورغباتك من هذا المتاع الذي هو كل الدنيا ، بماضيها وحاضرها ومستقبلها ، إن الله جل وعلا حين يقول ( ولن تضروه شيئاً ) يعني أن يقيم الفاصل الحاسم بينك وبينه ، فالرب رب والعبد عبد ، العبد عاجز ضعيف متكل ومفتقر إلى الله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) في حديث لابن عباس رضي الله عنهما الذي اقتصّ فيه نبأ الخضر وموسى عليهما السلام جاء في جزء من الحديث أنهما حينما كانا يتحاوران والحديث وارد في دواوين السنة كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخضر لموسى : يا موسى إنك على علم من عند الله لا أعلمه ، وأنا على علم من علم الله لا تعلمه ، وبينما هما يتحاوران جاء طائر فحط على شراع السفينة ثم نزل فنقر بمنقاره حسوة من ماء البحر ، لفت الخضر نظر موسى عليه السلام قال : أرأيت كم رزأ هذا الطائر البحر ؟ أي كم حمل من البحر ، قال : لا شيء يُذكَر ، قال : فالدنيا كلها عند الله تعالى لا تساوي عند الله هذه الحسوة التي أخذها الطائر .
إن الله جل وعلا لن تنفعه طاعة الطائع كما لن تضره معصية العاصي ، لذا يجب على الإنسان أن يعلم ذلك حق العلم ، فإن كان نفع فهو للإنسان عائد ، وإن كان ضرر فعلى الإنسان يُراح ، والله جل وعلا فوق ذلك كله ، ماذا سبب أن يركز الله تعالى هذه العقوبات الماحقة الثلاث بعد قوله ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) سبب ذلك أن الله أراد حينما يبدأ ببناء الإنسان الرباني والإنسان الكوني أن يكون هذا الإنسان مستوفزاً حاضراً لتلبية نداء الله جل وعلا ، يعرف أن هذه الدنيا ليست له قراراً وليست له وطناً وأن المصير إلى الله وأن الجنة أبداً أو النار أبداً ، فهو من أجل ذلك على وجل وخوف من الله تعالى من عواقب التقصير وعواقب الإخلال .
إن المسألة بالغة الخطورة جداً ، لماذا ؟ لأن الإنسان حينما يتكل على الدنيا ينتهي ، والرسالة التي يحملها تنتهي ، ولكن الإنسان الذي يُطلب في مراحل البناء والتأسيس هو ذلك المخلوق الذي يعلم أنه على الدنيا طارئ وضيف وغريب ، بين يديه رسالة مطلوب منه أن يؤديها ثم هو صائر إلى يوم العرض ، إلى الحساب الذي تبيضّ فيه وجوه وتسود فيه وجوه ، من يقدر على ذلك ؟ الله الذي لا إله إلا هو .(/6)
الجاهليون لما كانت عقولهم لا تستطيعوا أن تبلغ هذا المرتقى الصعب ، ولما كانت أبصارهم حسيرة وكليلة عن التعرف على هذا الأفق العالي ركّز القرآن تركيزاً هائلاً جداً ـ وسوف ترون ذلك في السور القادمة ـ سوف تعرض عليكم وجوهاً من الأوصاف التي يجب أن يعتقدها الإنسان في الذات الإلهية كي يعرف دائماً أنه في حد العبودية لله جل وعلا .
هذا الدين يخدمه عباد الله ، أولئك الناس الذين حصلوا صفة الإنسان الكوني والرباني ، ذلك الذي يرضى برضى الله ويغضب لغضب الله ويتحرك لله ويسكن لله وينطق إن نطق لله ، ويسكت إن سكت لله ، ويحيا لله ، ويموت إن مات لله ، وتلك ليست غاية خيالية . حينما نتحدث عن الأمر بتجريد يشبه أن يكون في أذهان الكثيرين خيالاً وتجريداً أو على الأقل مقاييس وقضايا عقلية ، لكني أحب أن أضف لكم وأضرب لكم بعض الأمثال التي تحصلت عن تجربة محمد صلى الله عليه وسلم ، كل إنسان يستطيع أن يتبجح وأن يدعي ، لكن الاختبار هو الذي يحدد النتيجة بدقة ، كلنا نستطيع أن نقول : أرواحنا فداء لدعوة الإسلام ، دماؤنا فداء لكلمة الله تعالى ، ولكن الشهادة على ذلك تكون على محك الاختبار والواقع . خذوا مثالاً : حينما وقف المسلمون في غزوة بدر في أول لقاء مكشوف بينهم وبين المشركين ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الفئة المؤمنة ، ينظر إليهم ، ثلاثمائة يزيدون قليلاً ، ويلتفت نحو السماء يخاطب الله جل وعلا : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد بعد اليوم على الأرض ، هؤلاء فقط هم الذين آمنوا بك ووحدوك واتبعوا منهاجك وطريقك وصدقوا نبيك صلى الله عليه وسلم ، ثم يعود إلى هذه الفئة المؤمنة يعدّل الصفوف ، ويحرضها على الثبات والجهاد ، ويقول : والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم مسلم مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة . كان في القوم فتى اسمه عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه كان يأكل بعض تمرات في يده ، قال : بخ بخ يا رسول الله ، قال له : ما حملك على أن تقول هذا ؟ قال : يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ قال : نعم يا عمير . فألقى التمرات من يده وقال : لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة . ألقى التمرات من يده وركض نحو القوم وقاتلهم حتى قُتل .
في غزوة أحد حينما انجلت المعركة عن قتلى وصرعى وجرحى وشهداء كان النبي صلى الله عليه وسلم والألم يعتصر نفسه الشريفة يقول : من ينظر لي ماذا فعل سعد بن الربيع ، أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟ قال رجل : أنا أنظر يا رسول الله . وذهب وفتش بين القتلى وبين الجرحى ، بين الجثث الكريمة التي تعب عليها محمد عليه الصلاة والسلام لتحصدها سيوف المشركين في ضحوة من نهار ثم وجد سعد بن الربيع يجود بنفسه ، قال له : يا سعد إن رسول الله أرسلني لأنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات . قال : أنا في الأموات ، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له يا نبي الله جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ، وقل لقومي من الأنصار يقول لكم سعد بن الربيع لا عذر لكم عند الله جل وعلا إذا خُلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف . ثم فاضت الروح إلى بارئها تشكو إلى الله ظلم الإنسان .
حينما خرجت الهارعة ( أي الصوت ) الذي يدعو المسلمين إلى غزوة أحد كان من المسلمين رجل تزوج بالأمس ، كان يعيش في حضن العروس المحببة ، ينمي النفس بالحياة الوادعة الهادئة ، ويمني النفس بالبيت وبالأولاد الذي سيشرف على تربيتهم ، حينما خرج الصوت ينادي إلى ساحة الجهاد ما فكّر هذا العريس بأن يتلبّث عند زوجه لحظة واحدة ، انتزع نفسه من حضن الزوجة ونسي نفسه أن يغتسل لكي يسقط الجنابة عن نفسه ، ومشى إلى الله قائلاً :
ركضاً إلى الله بغير زادِ إلا التقى وعمل المعاد
هناك قاتل حتى قُتل ، في هذه اللحظات الهائلة التي يحق فيها الحق ويبطل فيها الباطل وتتكشف النفس فيها عن الخبيئات تبيّن حصائل التجربة الكريمة التي جربها محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله فإذا هي بالفعل تنتج رجالاً يمثلون ذلك الإنسان الكوني الذي يثق فيما عند الله جل وعلا ويعلم أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة .
هؤلاء هم النماذج الذين صنعوا الإسلام ، وصنعهم الإسلام ، وهم الذين مكنوا لكم في الأرض ، لا الأبالسة ولا التافهون ولا الساقطون ، الذين يريدون منكم أن تزدادوا خبالاً إلى خبال بهذه الأساليب الشيطانية التي يبتدعونها لكي يجتثوا الصلة التي تربطكم بالله تعالى .(/7)
في تلك اللحظات الهائلة المريعة يتكشف جوهر الإنسان ومعدن الرجال ، ولقد تكشفت تجربة التربية الإسلامية زمن محمد صلى الله عليه وسلم عن هوان الدنيا على المسلمين ، ويقول بعضهم لبعض في المعركة : والذي نفسي بيده إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد . هذه حقائق وليست خيالات وليست أوهاماً ، تعبر عن إنسان كُوّن من جديد ، لكنه نسخة ليست مكررة عن النسخ الشائهة الممسوخة التي كانت الجاهلية تعيشها ، إنها الإنسان الكامل المكمل ، إنه إنسان الرسالة ، إنسان البناء ، جيل التأسيس ، الجيل الذي يحمل على كتفيه أثقل رسالة ، وأطول رسالة ، وأعظم رسالة ، وكذلك تساس النفوس ، وكذلك تُبنى الأمم ، وبغير هذه الطرائق والأساليب فالمسألة لن تزيد الناس إلا خبالاً ، والمسألة لن تزيد على هذه الصور الشائهة من الحياة السخيفة المخيفة التي يعيشها الناس اليوم .
وأريد من كل أخ أن يعرف لماذا شدد الإسلام على هذه الأمور ، وما الذي كان يهدف إليه الإسلام من خلال هذا اللون والطراز الفريد من التربية ؟ وما هي المهمات العظيمة التي تقاضت الإسلام أن يحرص على تكوين نماذج من هذا القبيل . من الآن يجب أن نعرف هذه المبررات ، ويقيناً أنا أعرف أن إشكالات ستطرأ على أذهان بعض الإخوة من جرّاء هذا الكلام . ومرة أخرى فأحب أن أقول أنا غير قادر على تبسيط الأمور أكثر مما ينبغي .
إن الإسلام ذو طريقة فذة في البناء ، إن الإسلام ليس منهجاً دراسياً يتلقى في المدارس ليسكن العقول ، ولكنه منهج واقعي وعملي ، والعلم لا ينفك عن العمل بتاتاً ، وعبقرية الإسلام أنه بنى الأمة من خلال الواقع العملي المتحرك ، ولم يجلس الناس صفوفاً أمام رسول الله ليسمعوا منه محاضرة ثم يمشون . وإنما من خلال الواقع المتحرك لقّن الإسلام المسلمين دروسه العظمى . كثير من هذه الدروس لو شئنا أن نتعرف عليها من خلال النظر العقلي والمجادلات المنطقية لما وصلنا إلى شيء ، ولكنا في صعيد العمل سوف تتسرب إلى ذواتنا إشعاعات الحقيقة ، وهذا هو السر الذي جعل الله تعالى يقول ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) في مجال العمل تشعر بشيء من هذه الطمأنينة التي تغمر نفسك إلى صلاحية منهجك وإلى أحقية موقفك وإلى عظيم ثقتك بالله تعالى . فلا يستعجل أحد ، ولا يثقل علينا أخ من إخواننا بالمماحكات اللفظية ، ولا بالمجادلات العقلية ، لنا طريق أوله العمل وآخره العمل ، والكلمة فيه في خدمة العمل ، وحينما تكون الكلمة غاية فالمسألة مصيبة لا علاج لها ، قبل أن يفكر أحد في المماحكة والمجادلة والمناقشة عليه أن يضع نفسه في غمرة العمل ، وحينما يكون في غمرة العمل فهو في نور كاشف يتسلط عليه من جميع الجهات ، ما كان يحسبه معضلة من المعضلات العقلية فسيرى أنه لا شيء ، وسيرى أن القضايا تتهاوى ، والمشكلات تُحل فقط حينما يعزم العزمة الأكيدة على أن يعمل فعلاً على مرضاة الله وفاقاً للمنهج الذي لقّنه الله تعالى لنبيه ووضعه هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وديعة بين يديك أيها المسلم .
أسأل الله لك ولي وللمسلمين أن يعيننا ويسدد ويوفق ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورة المرسلات
الجمعة 20 شعبان 1397 / 5 آب 1977
( 4 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فقد ذكرنا لكم قبل ، ونحن نتحدث على هامش سورة المرسلات أن السورة الكريمة بالرغم ما سبقها مما تحدث عن اليوم الآخر فإنها تتميز بمذاق خاص ، إن القارئ ليدرك فروقاً واضحة سواء في طريقة الصياغة أم في طريقة تناول الموضوعات ، يدرك هذه الفروق عن التي سبق هذه السورة من سورة القارعة والقيامة والهمزة وبين سورة المرسلات ، ولقد أتيت بالحديث على بعض الأسباب التي حملت على هذا اللون من الكلام ، وأكمل لكي لا يسقط على الإخوة شيء من الأصول العامة التي يدور حولها كلامنا فأقول : إن لهجة السورة قد تغيرت فاتسمت بطابع الحدة لما سبق أن وقفه المشركون من مواقف رعناء تدل على أنهم فقدوا صوابهم ولم يستطيعوا أن يقفوا مع ما يقتضي به العقل والمنطق السليم ، فإزاء الطعون والهمز واللمز والتشكيك الذي واجه المشركون به محمداً عليه الصلاة والسلام جاءت سورة المرسلات حادة اللهجة متميزة المذاق لأنها تردّ على موقف معين . ولكن دون إخلال ـ ولو بسيط ـ بحق العقل والحجة والدليل ، وجاءت تتناول الأمور من منحى جديد ، لأن مسألة اليوم الآخر والقيامة مما يدركه الإنسان بأيسر النظر ، ولكن الإنسان الجدل الكثير الخصومة واللجاج لا يريد أن يدع حجة ولا ذريعة تفلت من يديه لكي يرفعها في وجه المنادين بأحقية اليوم الآخر وبأنها واقع لا ريب فيه .
فاتجه الطعن والتشكيك إلى وصف من الأوصاف التي لا يكون الخالق خالقاً بغيرها ، إلى القدرة ، تشكك المشركون في هذه الإمكانية .. هل من الممكن والمستطاع أن تعود الأجسام بعد أن فنيت وبليت ؟ وكيف أن هذه الأجزاء أن تتجمع وتتناسق بعد أن تحللت وتفرقت وبعثرت الرياح كثيراً منها وأكلت الأرض سائرها . إن المشكلة حين تحدد على هذا النحو فإنها تكون من غير ريب إهداراً لقيمة العقل . وإعجاز القرآن وهذا الدين أنه يلزمك بالحجة ويقيم لك الدليل من ذات المسلمات التي تسلم بها أنت ، لا يأتيك بشيء يصدم موروثاتك ومعتقداتك ابتداءً ومن كل وجه .
فهؤلاء المشركون الذين أطالوا الحجاج والجدال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكرون أن الله ربهم ، إن هذه المسألة محل تسليك ، غاية ما في الأمر أنه ربما ذهاباً في التنزيه إلى حدود غير عقلانية كان تصورهم للذات الإلهية وما ينبغي لها من أوصاف تتصور في عليائه بعد أن فرغ من خلقه أصبح أعلى وأعز وأمنع من أن يصيخ لشكوى الشاكين وأن يستجيب لدعاء الداعين فكان لا بد بحساب تصوراتهم من وسائط وشفعاء ومقربين ، ومن هنا كانت الأوثان والأصنام وكانت الأنداد من كل ما عُبد مع الله أو من دون الله من طواغيت عرفتها الإنسانية في تاريخها الطويل .
إن لوثة الوثنية في التاريخ الإنسانية كله تنبعث من هذه النقطة ، عجز العقل الإنساني في مراحل معينة من انحطاطه عن إدراك القدرة التي لا بد أن يتصف بها الخالق . إن القرآن حين عرض في سورة المرسلات موضوع القدرة لو يبده العقل العرب والإنساني بغير ما يعرف ، فالذين عبدوا الأوثان والأصنام مما عملته أيديهم لا يجهلون أبداً أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك الإحياء ولا الإماتة ولا الرزق ولا منع العطاء . ويدركون أن من يملك ذلك كله هو الله ، وهؤلاء شفعاء ووسطاء وزلفى لا أكثر ولا أقل . والذين عبدوا الفراعين والطواغيت من دون الله ممن هم على مثالهم وشاكلتهم من بني البشر لم يجهلوا أبداً أن الملوك الآلهة بشر يجري عليهم من أمر الله ما يجري على كل الكائنات التي خلقها الله . ولكنهم تصوروا حلول الذات الإلهية أو حلول جزء من الألوهية في هذه الذوات البشرية . إذاً فالمبدأ بين أيدينا سالم لم يتزحزح من مكانه ثمة قوة فوق هذه القوى ولا مشاححة في الأسماء ، ثمة القوة التي انبثق عنها الوجود وفاض عنها الكون وصدرت عنها الخلائف في ما بين الكاف والنون ، ثمة الله . هذا مطلوب ومسلم لدى المشركين الذين خوطبوا بالقرآن جميعاً ، فجاء القرآن يعتمد على هذا الأساس الذي لا يناقش فيه المشركون ليلزم هؤلاء المشركين من ذات الموقع الذي يعتقدونه بالحجة التي يريد أن يسوقها إليهم .(/1)
انظر أيها الإنسان .. أأنت وحدك في هذا الكون أم أنت واحد من ملايين وآلاف الملايين منها ما طحنته راح الزمان فمات ، ومنها ما يحيا معك ويضطرب على الأرض التي تضطرب عليها ، ومنها ما تبشر به وعود المستقبل ؟ بدون شك أنت واحد من أناسي كثيرين ، وأنت بالذات ومن معك ممن يشاركك ويشابهك . أأنتم كل ما في كون الله أم ثمة مخلوقات ومصنوعات صدرت عن هذه الذات أو القوة وسموها بالذي تشاؤون التي تقرون بها أنتم ؟ أدر نظرك في الأرض في السماء في الآفاق فأنت واجد عوالم أخرى ، عوالم منها ما تراه بعينك وتلمسه بيدك ومنها ما لا تراه ، ولكنك تحس آثاره وتلمس هذه الآثار ، ومنها ما تنكشف عنه حجب الزمان شيئاً من وراء شيء ، ومنها ما تجد البشرية نفسها على موعد معه بعد زمان يطول أو يقصر .
هذه المخلوقات المتكاثرة التي لا تقع تحت حساب ولا يحصيها العد ولا يجمعه ديوان كيف يقع في وهمك أنها تصدر عن قوة محدودة القدرة ؟ إن كوناً بهذه العظمة وهذه السعة وهذا التناسق والإبداع لا بد أن يكون من ورائه قوة لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود ، ذلك أبسط ما ينبغي للإنسان أن يسلم به ، أبسط شيء يجب عليك أن تسلم به أن هذا الذي خلق الأكوان كلها لا تحد قدرته حدود ولا تقوم دون إرادته قيود ، هذه المسلمة البدهية الصغيرة هي التي أبرزها القرآن في سورة المرسلات وأبرزها على نحو أخّاذ عجيب ، لأنه كلام الله الذي يأتي في الوقت المناسب والمكان المناسب رداً وعلاجاً لواقع عيني مشهود . تعال أيها العربي .. انظر حواليك وقلّب النظر .. أنت تستكثر على الله أن يحي الأموات بعد أن هرمت ، لا بأس عليك قد تكون عاجزاً عن مواجهة نفسك مع أن نفسك بالذات تحمل الدلائل على ذلك وصدق الله إذ يقول ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) لكن انظر بعد ( وفي الأرض آيات للموقنين ) انظر حواليك ماذا ترى : ليل ونهار وأرض وسماء ورياح تسوق السحاب وكل شيء من حولك يوحي بالدقة والإتقان ويوحي بالتناسق والضبط ويوحي بالقصدية التي لا بد أن يلمحها العاقل من تصرفات هذه الذات القوية التي نطلق عليها اسم الله جل وعلا .
هذه الرياح المرسلة التي تسوق السحاب إلى الأرض الجرز فينزل الله به الماء فيحيي به الزرع والضرع ويحيي به ميت الآمال في نفوس الناس ، هذه الرسل التي تتابعت تؤكد حقيقة واحدة هي أن الله موجود وأن الله خالق ، وأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا وُجد لغاية حددها القصد الإلهي ، وأنه لم يُخلق سدى ، وأنه لم يُترك لأن يتصرف على هواه وإنما لا بد من الشريعة تضبطه ، ولكي يؤدي من حيث النتيجة كشف الحساب ، هذا كله لا بد أن يكون عن قدرة ليس لها حد .
انظر كيف أن السور تصور لك كيف أن الله جل وعلا نقلك فوراً فوضعك في جو يوم الآخر ، وأنت قضيت حياتك كلها مكذباً جاحداً راداً على المرسلين ، هذا النور الذي جاء من عند الله هدى وبشرى للمتقين ، وعمى وضلالاً على الفاجرين ، تصور الله تعالى يجمع الرسل يوم القيامة ليكونوا شهداء على الناس ، ويجمع كذلك هذه الجماهير المكذبة التي تسمع من أخبارها ما تسمع ، والتي تجهل منها أكثر مما تعرف ( ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ) هذا السؤال وهذه المناقشة ليست هنا ، إنها تصوّرٌ لما سيكون في يوم القيامة حينما يواجه الإنسان المكذب عواقب التكذيب في الوقت الذي يبطل فيه التكليف ، وتسقط فيه الفرائض ، ولا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ( كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين ) أي في تلك الساعة وتلك الدار حين مناقشة الحساب .
ومع أن الجو كله جو تخييل وتصوير واستحياء لمشهد ما سيكون في يوم القيامة ابتغاء استجاشة المشاعر لكي ترجع إلى نداء الفطرة الكامنة في كل ذات بشرية ، فإن الله تعالى لطفاً بعباده لا يهمل حتى في هذا الموقف أن يلفت نظر الإنسان وهو في موقف الحجاج والنقاش إلى حقائق أولية ( ألم نخلقكم من ماء مهين ، فجعلناه في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدرنا فنعم القادرون ، ويل يومئذ للمكذبين ) أنت ترى أنه يستحيل أن يصير الموات حياً ، أنت ترى أن من المستحيل أن يعود الناس من بعد اليوم أحياء يُسألون ويُجيبون ، أفعلاً أنت صادق مع نفسك ؟ ما أنت ؟ أولك نطفة مذرة ، وآخرتك جيفة قذرة ، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة . ما أنت ؟ أنت نطفة من ماء مهين ، وما أبلغ قول الله جل اسمه ( ألم نخلقكم من ماء مهين ) والمهين هو ما كان في غاية الهوان والخسة والذلة وقلة القدر والقيمة ، هذه النطفة التي تنقذف منك في رحم المرأة في ساعة أو لحظة لا يخطر في بالك ما سيترتب عليها ، هذه النطفة المهينة التي لا تلقي لها بالاً والتي لا تحمل شيئاً من خصائص الحياة ، ماء ليس فيه عظم ولا عصب ، ولا عروق يجري فيها الدم ولا لحم وشحم ، ولا شيء من وراء ذلك كله ، هذه التي استقرت في الرحم ، سخرك الله تعالى لتقذفها هنا لأنها واسطة الخلق .(/2)
( ألم نخلقكم من ماء مهين ، فجعلناه في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدرنا فنعم القادرون ) ليس في نيتي أن أشرح لكم ما وصل إليه العلم من وجوه الإعجاز ودلائل القدرة في هذا الصندوق الذي يحفظ نطفة الماء هذه كي تتخلّق هناك وفاقاً لأقدار محسوبة وموزونة وشرائط ، لو تخلّف منها شرط لجاء المخلوق شائهاً .
ولكن أريد أن أتحدث عما يبده العقل ابتداءً من هذه القضية ، هل في عقلك ما يصور لك ويقدر أن هذه القطرة من ماء الذكر تستقر في رحم الأنثى يمكن أن تكون في المستقبل ذلك الإنسان الجبار الذي يمشي على الأرض يقوم ويقعد ويفعل ويترك ويتجبر ؟ لا ، نحن نعرف أن كل شيء ينتج من شكله ، وما من مناسبة مرئية بين الماء والإنسان وإن كان الله تعالى ينص على أنه خلق كل شيء من ماء ، إلا أنها عملية مشهودة تشد الذهن شداً إلى واقع يراه الصغير والكبير والعالم والجاهل ، وفيه معتبَر لمن يريد أن يعتبر من آيات الله .
هذا الإنسان رأيتم كيف أنه من مادة مهما نقل عن وصف الحياة المستقرة فيها فهي موات وشبه موات يتخلّق منها الكائن الحي الذي ينكر على ربه أن يقدر على الإعادة بعد الموت . انظر ، يناقشك الله فيقول ( ألم نجعل الأرض كفاتاً ، أحياءً وأمواتاً ، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً ، ويل يومئذ للمكذبين ) أترى الموات لا يتخلّق منه حياة ، انظر إلى الأرض ، يقول الله : ألم نجعلها كفاتاً ، ومعنى كفاتاً أي أنها تضم الأحياء والأموات ، والأصل في ذلك مادة ( كفت ) بمعنى ضم وجمع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : اكفتوا صبيانكم في الليل ، أي ضموهم إليكم واجمعوهم ولا تسمحوا لهم بالتفرق في الليل . هذه الأرض التي مهدها لك الله وخلقك عليها وجعلها أمك ومثواك شيء يجمع الأحياء والأموات .
أرأيت هذه الأرض الجديبة تراها تتسافى من فوقها الرمال ، موات لا أثر فيها من حياة ، لا حسّ ولا حركة ، لا نبات ولا حيوان ، كيف يتنزّل عليها المطر ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، إن الذي أحياها لمحي الموتى وإنه على كل شيء قدير ) هذه الأرض التي تتصور أنها موات كم تحمل من بذور الحياة مما تراه يومياً ، ولو أنك فتحت عقلك لرأيته كل ساعة وكل لحظة كيف يخرج الحي من الميت والميت من الحي ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) ..
( ألم نجعل الأرض كفاتاً ، أحياءً وأمواتاً ، وجعلنا فيها رواسي شامخات ) التي هي الجبال العاتية والتي هي أوتاد الأرض كما جاء في تعبيرات القرآن والتي تمنع الأرض أن يختل دوراها في فلكها المرسوم له ( وأسقيناكم ماء فراتاً ) أنظرتَ إلى هذه العملية التي قلما تلتفت إليها ؟ هذا النهر الذي تشرب ماءه عذباً فراتاً ، من أين جاء ؟ استخلصه لك الله بالرياح اللواقح التي لوّح لك بها في أول السورة من ماء البحر حتى استقلت في السماء سحاباً فأنزله الله جل وعلا فجرت به الأرض أنهاراً وعيوناً . من أين ؟ من صنعك ؟ من قدرتك ؟ هكذا اتفاقاً من غير شيء ، تلك إحالة عقلية لا يسقط فيها إنسان يحترم عقله في حال من الأحوال ، فيلفت إليها نظرك كتاب الله تعالى في موقع الحجاج والنقاش ، ولكن يقيم لك من خلال الحجاج والنقاش الحجة التي لا تدفع ، والدليل الذي لا يُنقض ، والمنطق الذي لا ينكسر ، على عدم وجود أي حد يقف في وجه القدرة الإلهية .
أرأيت ؟ أقنعت ؟ ولكن متى ؟ حين لا تنفع القناعة ، ولا يجزيك الإيمان أيها المكذب الضال ، هناك يصدر النداء من الباري تعالى إلى جحافل المكذبين والضالين ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) ألم تكونوا مكذبين باليوم الآخر وبما فيه من نعيم للأبرار ؟ وعذاب بئيس للأشرار ؟ ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ، لا ظليل ولا يغني من اللهب ) عهد الناس بالظل وقاء من الحر ولفح السموم ، ولكن الظلال التي تكون عن ألسنة اللهب المنبعثة من قلب جهنم يوم القيامة ليست ظليلة ، لا تؤنس ولا تسر ، ولا تغني شيئاً من أن يمس المكذبين لفح نار السموم ولهب الجحيم ( لا ظليل ولا يغني من اللهب ، إنها ترمي بشرر كالقصر ) هذه النار التي يسمع لها المكذبون تغيّظاً وزفيراً ، هذه النار تتقاذف منها أكوام الجحيم كبيرة كالقصر ، والعرب تسمي كل شيء كبير قصراً حتى الجبال تقول لها قصور ، وسمت الأبنية العالية قصوراً لأنها كبيرة ، هذا الشرر المتصاعد لكبره يشبه القصور ( كأنه جمالة صفر ) أرأيت عنق الجمال ، والعنق لا أريد به الرقبة ، وإنما أريد به جماعة الجمال حينما تأخذ بعضها برقاب بعض وهي تمشي في طريقها ، كذلك يتتابع هذا اللهب المرعب المخيف ( كأنه جمالة صفر ، ويل يومئذ للمكذبين ) .(/3)
هذا اليوم الذي كذبتَ به هل تعرف شيئاً من كنهه ؟ أنت الذي هجمت على التكذيب بلا مبرر ، بلا دليل ، إلا لأنك سقطتَ في أسر شهواتك ، ورغبتَ كما كشف الله لك في سور سابقات ، من أجل التمتع بالشهوات ، أتعرف ما هذا اليوم ؟ أنت هنا اليوم ذرف اللسان كثير اللجاج والحجاج ، تظن نفسك كل شيء لكنك هناك يا ويلك ، يا ويحك ( هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن له فيعتذرون ) ( اليوم نختم على أفواهنا وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما يكذبون ) إنك هنا تستطيع أن تراوغ وتستطيع أن تداور وتناور ، تستطيع أن تلبس الباطل ثوب الحق وأن تعري الحق من حجج الحق لتسلكه في سبيل الباطل ، ولكنك هناك محروم من هذه القدرة لا داعي إلى أن تتكلم ( هذا يوم لا ينطلقون ) ختم على الأفواه ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) إن المعذرة مقبولة في الدنيا قبل أن يغرغر الإنسان ، ومن رحمة الله بك يا ابن آدم أنه فسح لك في المدة وأطال لك في الأجل وأعطاك الأمد الواسع كي تراجع نفسك وكي تراجع ربك ولكي تصلح ما بينك وما بين الرب الرحيم . فإذا انقضت على الأرض مدتك فلا مجال للاعتذار ولا داعي للتكذيب لأن الأرض التي فسقت عليها ستكون شاهداً عليك ، ولأن اليد التي بطشت بها ستكون شاهداً عليك ، ولأن الرجل التي حملتك إلى مساخط الله ستكون شاهدة عليك ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) هنالك لا مجال للاعتذار .
أتعرف هول هذا اليوم الذي هجمت على التكذيب به من حيث لا تدري ومن حيث سفهت نفسك وضيعت حظك وأوبقت نفسك وأضعت آخرتك ( هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن له فيعتذرون ، ويل يومئذ للمكذبين ) هذا اليوم يقتص الله عليك من أنبائه ما يقتص بهذه السورة مما لست بالحاجة للإطالة فيه ولكني أقف عند آيتين ذكرهما الله جل وعلا في السورة ونعرج من بعدهما على الخاتمة .
( إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون ، كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ، إنا كذلك نجزي المحسنين ، ويل يومئذ للمكذبين ، كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ) لاحظوا ، في الآيات فرق حينما انصبت على المؤمنين وحينما انصبت على المكذبين ، إنها حينما تناولت حكاية ما أعدّ الله من الكرامة والنعيم للمؤمنين قال ( كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ، إنا كذلك نجزي المحسنين ) وحينما التفت إلى الضالين المكذبين قال ( كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ) ما الفارق بين الأمرين ؟ الفارق أن الأكل والشرب حاجة حيوية كالوقود بالنسبة إلى الآلة لا تدور من غيرها ، والإنسان بما هو مستخلف في الأرض موكولة إليه مهمة بحاجة إلى هذا الوقود ، فهو يأكل ويشرب ، ولكن لا شيء وراء هذا ، يأكل لكي يتقوى على الطاعة ، ويشرب لكي يتقوى على أمر الله تعالى ، ولكن التمتع وراء الأكل والشرب ، إنك تتمتع حينما تشعر بهذه الراحة الغامرة التي تنسيك الماضي والآتي ، وتأسرك في اللحظة التي أنت فيها لا تسمح لنفسك أن تخرج من لذاتها وهذا الشعور المريح الذي تحسه به ، هذا الشعور من باب النسيان بالنسبة إلى الإنسان ، الإنسان بمجرد أن ينسى حقيقة موقفه في هذه الدنيا والمهمة المطلوبة منه في هذه الدنيا ، بمجرد أن ينسى أن وجوده في هذا الكون موقوت وطارئ سقط من إنسانيته جميعاً ، ودخل في زمرة الحيوانات ، ومن هنا نجد الله تعالى يصف الكافرين في سورة محمد عليه الصلاة والسلام بقوله ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) ففارق بين الإنسان الذي يأكل ويشرب ويرعى حق إنسانيته عليه وبين الإنسان الذي يأكل ويشرب وهو يطلب التمتع المطغي والتمتع المنسي ، ذلك شأن المتقين الأبرار ، وهذا شأن الكافرين الأشرار ، فهذا فرق ما بين الأمرين في الآيات الكريمة ( كلوا وتمتعوا قليلاً ) والنص بقوله تعالى ( قليلاً ) إشعار مقصود بهوان الدنيا وقلة الدنيا وقلة لبث الإنسان في هذه الدنيا ( إنكم مجرمون ) .
ثم أمر آخر ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ، ويل يومئذ للمكذبين ) أأحسستم معنى هذا ؟ إن الكرامة في الدار الآخرة متجر ربيح ، وما لم يبذل الإنسان الثمن فهو تاجر فاشل ، إن الآخرة عروس لا يوجد لها نظير ، وإن مهرها غالٍ ، مهرها طاعة الله وإنفاذ أمر الله والوفاء بعهد الله ، إنك في الدنيا تملك أن تقدم هذا الثمن ، تملك أن تدفع هذا المهر ، ولكن الناس كثيراً ما يسهون عن ذلك ، ويذهبون ضحايا التسويف والتأجيل ، فإذا جاء وعد الآخرة تبين الإنسان هذه الحقيقة المرة ، يود لو أنه أُعيد إلى الدنيا ليطيع الله ويصدق المرسلين ، ولقد سبقت كلمة الله أنها إليها لا يرجعون .(/4)
يوم القيامة لا مجال للاعتذار كما رأينا في أول السورة ، ولا مجال لأداء الحقوق كما نرى الآن ، إنك دعيت في دار الدنيا إلى الطاعة فرفضت ، إنك دعيت إلى الركوع والسجود فرفضت ، فكان حقاً وعدلاً من أن تُمنع ذلك من يوم القيامة ، يقول الله تعالى ( يوم يُكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون ) يوم القيامة حينما تتوج كرامة الله لعباده المؤمنين بالتجلي الأعظم للذات الإلهية يخر المؤمنون سجداً لله جل وعلا ، ويحاول الضالون والكافرون والمنافقون أن يسجدوا أمام هذه العظمة وهذا الجبروت فلا يطيقون ذلك ، ومن باب النكاية والاستهزاء ، ومن باب التنكيل يقول الله عنهم ( وإذا قيل لهم اركعوا ) اركعوا الآن في الدار الآخرة ، فلقد دعيتم في الدنيا فأبيتم بمحض إرادتكم ، اركعوا الآن واستخدموا الإرادة التي كانت معكم في الدنيا إن كنتم قادرين على ذلك ، فيحاول الإنسان أن يركع لكنه لا يقدر على ذلك ، فالله هنا جعله عبداً عاجزاً بين يديه .
هذه الآيات التي استعرضتها الآن ، هذا الاستعراض السريع جداً ، ثم ختمت بهذه الآية التي تلمح من خلال صياغتها ، من نغمها ، تلمح رائحة الأسى على هذا الإنسان ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) إذا كنت أيها الإنسان تكذب بدلائل القرآن ، وترد حجج الله تعالى التي جاءتك على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، إذا كنت ترد كتاب الله ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) ألا تلمح هذا الأسى الذي يشيع في ثنايا الآية مع كل حرف من حروفها ، إن الله برغم تجبرك وبرغم تكذيبك للمرسلين وبرغم انغماسك في الشهوات لطيف ورحيم بك ، ساق لك الحجج والبراهين ، فإذا رفضت أن تنصاع لما جاء عن الله على يد محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي أي إمكان لأن تؤمن بشيء على الإطلاق .
إن أنصع الحجج والبراهين قامت في القرآن ، ومن أصاخ إلى الله وهو يحدثه ، ومن اعتبر كلام الله رسائل توجه من الله إلى عباده ، وأنصف نفسه مع ذلك ، واستعمل عقله ، وأصاخ إلى نداء الفطرة بين جنبيه أدرك أن كل حرف في القرآن حق وصدق ، وأدرك من بعد أن الحجة التي توهم المشركون أنها حجة تقوم في وجه إمكان القيامة حجة داحضة ، كل ما حولك يشعرك بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يخلقك مرة أخرى ، ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض )
إن الخلق ابتداءً أصعب من إعادة الخلق بعد المرة الأولى ، اعتبر نفسك صانعاً تصنع جهازاً ، إنك تجرب وتحاول في المرة الأولى والثانية والثالثة .. ثم تصل إلى المرحلة التي تصنع فيها الجهاز ، ولكنك بعد هذه المحاولة الناجحة تجد أن الأمر أصبح سهلاً ، لأنك تنسج على مثالاً سابق ، فالنشأة الآخرة ليست أصعب من النشأة الأولى ، بل هي أهون من النشأة الأولى ولله المثل الأعلى ، وهذا كلام نقوله على التقريب . فما يدعيه الناس من عدم إمكان يوم القيامة ليس دفعاً لهذا الإمكان ولكنه انحسار لمفهوم الأوصاف التي يجب أن يتحلى بها هذا الإله الخالق القادر ، إنه تصور حسير وكليل للقدرة التي ليست لها حدود التي ينبغي أن يتصف بها الإله لكي يكون إلهاً .
مرة أخرى أتساءل معكم : لماذا هذا التشديد من القرآن في المراحل الباكرة جداً من الدعوة الإسلامية على موضوعات نراها في عقلنا اليوم في القرن العشرين من الهنات الهينات ؟ إن الإنسان أيها الإخوة ويجب أن تدركوا هذا إدراكاً صافياً وسليماً ، في هذه الدنيا أمامه خياران ، الأول : أنه وحده في هذا الكون ، لا إله خلق ولا مصير إليه ينتهي . والثاني : أنه مخلوق ، وأن هذا الرب يتصف بأوصاف الجلال والجمال وفي ذروتها القوة والقدرة التي لا تتناهى ، والعدل .. فإذا أخذنا الخيار الأول ، وللأسف إنسانيتنا اليوم أخذت الخيار الأول فاعتبرت الإنسانية وحدها غير مرتبطة بالله ولا بهداية الأنبياء عليهم السلام ، فما الذي كان ؟ إن هذه الفكرة والخيار يتحمل وحده مسؤولية كل الارتباكات التي تعاني منها البشرية اليوم ، ويحمل وحده مسؤولية المجتمع البشري على شفير الكارثة ، لأنه قطع صلته بهداية السماء ، ولكن المجتمع الذي نأخذه كشريحة بشرية بالتدليل والتمثيل ، مجتمع المسلمين الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، شعروا حين تبنوا الخيار الثاني أنه ينبغي لهم أن ينسجموا مع النواميس العامة والقوانين الكلية التي تحكم الكون كله ماضيه وحاضره ومستقبله ، إنسه وجنه وملائكته ، حيه وجامده على سواء ، فمن أجل ذلك وجدتَ القصدية واضحة ، ووجدتَ الهدف واضحاً ، ووجدت الإنسان بارتباطه بقرآنه وببشائر نبيه صلى الله عليه وسلم وتمسكه بالصراط المستقيم ، يسير بخطى ثابتة .(/5)
خياران لا غير أمام الإنسانية ، إما أن تأخذ الإنسانية بخيار الجاهلية فهو الدمار والفناء . وإما أن تأخذ بخيار الإسلام فهو الراحة والهناء والاطمئنان والسلام ، والآخرة التي فيها النعيم المقيم الذي لا يزول . ولكن هذا تجريد ، سمعناه من الخطباء ومن الوعاظ ، يقولونه في المنابر وفي مواطن التذكير ، إنما فرق ما بيننا وبين محمد عليه الصلاة والسلام وهو يعمل أنه كان يعالج أدوات الإنسانية على الطبيعة ، كان لا بد منذ المراحل الباكرة أن تحكم الصلة جيداً بين هذا الإنسان وبين الله تعالى ، وأن يغرس عميقاً وفي جذور القلوب يقين هذا الإنسان المؤمن بأن كل حركة وسكنة وكل قول وفعل وكل أخذ وكل منّ مدوّن ومكتوب ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) وأنه لا بد من وقفة أمام الجبار الديان لكي يقدم الإنسان كشف الحساب .
فمن هنا كان الإنسان المسلم إنساناً يزمّ نفسه بزمام التقوى ولا يسمح لنفسه بالاندفاعات الضارة التي تضره في نفسه أو تضر مجتمعه أو تسيء إلى هذه الرسالة النقية التي يحملها عن الله تعالى .
إن هذا لا يتأتى اعتباطاً ، ولكنه يتأتى من خلال الممارسة اليومية التي يسهر عليها قائد حكيم مسدد من قبل الله تعالى ، فمن أجل هذا وجدنا القرآن يطيل التركيز في المراحل المكية عموماً على استحياء اليقين باليوم الآخر كي تكون كل حركة من الإنسان بحساب وكي تكون كل حسبة يجريها الإنسان مقصود بها أن يرضى الله عنها :
فإذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبان علي لئامها
رأيتم كيف تساوق موضوع اليوم الآخر وأسلمنا إلى شيء جديد لا نقول في نهاية المطاف ولكن أثناء المسيرة ، سنرى ونحن نستعرض بدءاً من الجمعة الماضية ونحن نواجه سورة قاف كيف تتفرع موضوع القدرة ليشمل دوائر أوسع ، إن الساحة تضيء للعاملين هذه الحركة البشرية التي تتكرر باستمرار ، إننا طالما نعمل من وراء الحجاب ونعمل من مواقف الأمر والنهي ، ونعمل منطلقين من التجريد والمعقولات فلن ننتهي إلى شيء ، لأننا لن نواجه أشياء حقيقية ، ولكن حينما ننزل إلى ساحة الواقع .. إلى المعترك البشري فسوف نجد أن المشاكل تبرد ، يتولد بعضها من بعض ، وسوف نجد أنفسنا نتربع ، من خلال المعاناة ، ومن خلال التجربة ، ومن خلال الصبر على مشقات الطريق . فأسأل الله العليم القدير العون التام الذي يعين على هذه المشقات .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير سورة المرسلات
الجمعة 8 رجب 1397 / 24 حزيران 1977
الحلقة ( 1 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة الهمزة وهي سورة تستحق من الشرح أكثر مما كان ، لأنها تكشف عن حالة غير سوية خرج إليها المشركون ، ولكن المشكلة التي أرقت هؤلاء المشركين وأفسدت عليهم مسالك الرأي وأصول التصرف هي السورتان اللتان سبقتا سورة الهمزة ، وهاتان السورتان تبحثان بصورة أساسية ومباشرة مسألة من أخطر المسائل التي أثارتها الديانات عموماً وألح عليها الإسلام على وجه الخصوص ، هذه المسألة هي مسألة الإيمان باليوم الآخر .
صحيح أن هذه المسألة بالذات أشار إليها الكتاب الكريم منذ بداية الوحي ، لكنها كانت إشارة مقتضبة تارة وعرضية تارة أخرى ، ولم نألف في كل ما استعرضناه من السور السابقة قبل القارعة أن سورة برمتها يدار الحديث فيها عن موضوع واحد لا يعدوه ولا يتجاوزه وهو موضوع القيامة .
نحن الآن أمام سورة هي في الترتيب الثانية والثلاثون وهي سورة المرسلات ، وهذه السورة كذلك تثير نفس الموضوع ولكنها تحمل طعماً من نوع خاص ، لها ملامح فيها شيء من الغرابة يكاد القارئ لها أو السامع أن يتصور أمامه جيشاً يقاتل لا كلام يطلق ، وقبل أن نتحدث بأي شيء فمن الخير أن نقرأ السورة باهتمام ، ومن الخير أن ألفت أنظار الإخوة إلى ضرورة التمعن في صياغة السورة ، فالواقع أنك حينما تقرأ هذه السورة حتى على إنسان عامي أو حتى على إنسان لا يعرف اللسان العربي الذي نزل به القرآن ندرك من الفواصل أن أمامه كلاماً يقاتل .
يقول الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( والمرسلات عرفاً ، فالعاصفات عصفاً ، والناشرات نشراً ، فالفارقات فرقاً ، فالملقيات ذكراً ، عذراً أو نذراً ، إنما توعدون لواقع ، فإذا النجوم طُمست ، وإذا السماء فرجت ، وإذا الجبال نسفت ، وإذا الرسل أقتت ، لأي يوم أجلت ، ليوم الفصل ، وما أدراك ما يوم الفصل ، ويل يومئذ للمكذبين ، ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين ، ألم نخلقكم من ماء مهين ، فجعلناه في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدرنا فنعم القادرون ، ويل يومئذ للمكذبين ، ألم نجعل الأرض كفاتاً ، أحياءً وأمواتاً ، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً ، ويل يومئذ للمكذبين ، انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاثة شعب ، لا ظليل ولا يغني من اللهب ، إنها ترمي عليهم بشرر كالقصر ، كأنه جمالات صفر ، ويل يومئذ للمكذبين ، هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، ويل يومئذ للمكذبين ، هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ، فإن كان لكم فكيدون ، ويل يومئذ للمكذبين ، إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون ، كذلك نفعل بالمحسنين ، ويل يومئذ للمكذبين ، كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ، ويل يومئذ للمكذبين ، فبأي حديث بعده يؤمنون ) .
إنك حين تقرأ السورة تلاحظ أن نظم السورة يختلف عما ألفناه في السور الماضية ، ولا سيما حين الحديث عن يوم القيامة ، تقريراً أو دحضاً لشبه أو عرضاً لدلائل وشواهد .. ولو أن إنساناً لا يعرف اللسان العربي بالمرة يسمعك تقرأ السورة فسيدرك أنه أمام أمر خطير ، وإلا ما تساوقت الفواصل بهذا الشكل ، وبحسبك أن تلتفت إلى هذه اللازمة ( ويل يومئذ للمكذبين ) التي تكررت عشر مرات ، وهي سورة لا تقول أنها قصيرة كما لا تقول أنه متوسطة ، فهي بين بين ، فلماذا أدير الحديث أصلاً بهذا الشكل ؟ إننا نتعرّف على حوادث السيرة ووقائع الإسلام في مراحله الأولى من خلال آيات الله تعالى متبعين في ذلك نهجاً خاصاً ينبغي أن نتساءل دائماً ، لماذا ذكرت القضية هنا ولم تذكر هناك ؟ لماذا شرحت القضية هنا واقتضبت هناك ؟ لماذا خفت اللهجة هنا واشتدت هناك ؟ كل هذه معالم يستطيع قارئ القرآن ومتتبع السيرة أن يجد لها تفسيرها المناسب وأن يجد تفسيرها الذي يلقي الأضواء على الأمور التي يهتم البحث عنها .(/1)
كما لاحظتم أيضاً تتناول السورة موضوع اليوم الآخر ، إن سوراً عديدة تحدثت عن هذا ، وسور أخرى اختصت بالحديث عن هذا الموضوع ، فهل له في صلب الإسلام كل هذه الأهمية ؟ ابتداءاً فنحن كلما رأينا القرآن الكريم يفيض بالحديث عن موضوع ما فيجب أن نتأكد أن هذا الموضوع يتمتع بأهمية خاصة ، إن موضوع اليوم الآخر شغل من كتاب الله تعالى مساحة كبيرة جداً لم تشغلها أية موضوعات أخرى ، لو أنك أخذت الآيات التي تتضمن عرض الشرائع التي يقوم عليها بناء المجتمع المسلم وتتحدد من خلالها الوجائب والحقوق بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين لوجدت أن هذه الآيات لا تتجاوز خمسمائة آية ، بينما تجد الآيات التي تعرضت لموضوع اليوم الآخر أكثر من ذلك بكثير ، فالمسألة وفاقاً للقاعدة التي قلناها الآن وهي ضخامة القضية اعتباراً بسعة الحديث عنها لها أهميتها الخاصة كما لا يخفى .
موضوع اليوم الآخر موضوع أساسي وحيوي في عقيدة الإسلام ، ويجب أن نعلم قبل أي شيء أن الإسلام نظام لا كغيره من الأنظمة ، إن أنظمة الدنيا تعتمد على قشرة ظاهرة رقيقة جداً من الإقناع ولكنها في أصولها تأخذ الناس بزمام الرغبة والرهبة ، وتسوق الناس بقهر السلطان ، ولا يشك عاقل في أن نهجاً من هذا القبيل لن يفلح في تزكية الإنسان ، ولن يرفع من سوية الإنسانية ، ولن يسهم أبداً في تكميل الشخصية الإنسانية . إن الذي يفلح هو القناعة الداخلية المنبعثة من عقل متحرر مستنير وقلب شفاف طهور ، إن حقائق الإسلام تُغرس في القلوب قبل أن تغرس في العقول ، وإنها تعتمد على هذا اليقين وعلى هذه القناعة ، وأي خير في الإنسان الذي يساق إلى المعروف بالعصا ؟ وأي خير يرد عن المنكر بسوط الجلاد ؟ إن الإنسان الكامل والذي يريده الإسلام ويحرص على توفير الأجواء لبروزه هو ذلك الإنسان الذي يفعل الخير لأنه خير ، وينتهي عن الشر لأنه منكر وقبيح ، ولا يحتاج إلى عصا الجلاد تلاحقه آناء الليل وأطراف النهار ، وإذا كان الأمر كذلك فإذا لم يقتنع الإنسان منذ البداية بأن كل شيء محسوب على الإنسان مدون ومسجل وأن الإنسان مسؤول وأن كشف الحساب حاضر فهذا الإنسان لن تتحكم فيه في هذه الحالة إلا شهواته ونزواته .
وإذاً فلا خير بالإنسان الذي لا يؤمن بالمصير إلى الله تعالى ، ولا خير في نظام لا يؤسس على نظام من هذا القبيل ، من أجل ذلك كان الإسلام حريصاً على تأكيد هذه العقيدة باليوم الآخر . هذا من حيث المبدأ ، كي لا يستغرب أن الإسلام يبدئ ويعيد في موضوع اليوم الآخر ، إن المسألة خطيرة للغاية ، إن مستقبل الإنسان كله يتوقف على اقتناعك وعلى إيمانك باليوم الآخر ، فإذا فقد إيمانه باليوم الآخر أهلك دنياه وخسر آخرته ، هذا من حيث المبدأ .
وأما من حيث جوهر السورة فمن الحق أن نتساءل : لماذا هذه النبرة الحادة ؟ لماذا هذه القسمات الغريبة والملامح التي يشبه أن تكون شاذة في شخصية السورة ؟ لكي نعرف لماذا علينا أن نرجع قليلاً للوراء وعلينا أن نستعين على الفهم وإنارة الساحة باستثمار شيء من وقائع السورة ولتكن وقائع نموذجية .
لا داعية لأن نعود إلى أوائل الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر .. هذا غير مهم ، لنقف عند سورة عرضناها منذ ثلاثة أسابيع وهي سورة القارعة ، إن سورة القارعة ألقت الأضواء على يوم الآخر إلقاءً هادئاً ليس فيه شيء من العنف والإثارة وإنما هي وصف ( القارعة ، ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة ، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش ، فأما من ثقلت موازينه ، فهو في عيشة راضية ، وأما من خفت موازينه ، فأمه هاوية ، وما أدراك ما هيه ، نار حامية ) تستطيع أن تقول أن السورة لا تتعرّض لأحد مطلقاً ، وإنما تثير موضوعاً معيناً كيف يكون يوم القيامة ، ويوم القيامة يكون على هذه الحالة , مع هذا فنحن نرى أن سورة القيامة أخذت بتلابيب سورة القارعة فنزلت بعدها مباشرة . سورة القيامة أيضاً تعالج نفس الموضوع ، وأخذت اسمها بمبررات كاملة أنها فعلاً سورة القيامة أنها تحدثت عن يوم القيامة ، لكنها تحدثت حديث العقل إلى العقل ، وحديث القلب على القلب ، لكنه حديث مستفيض عرض الشُبه وعرض الشكوك وكشف العلل التي تدفع الناس إلى أن يستبعدوا يوم القيامة ، هل نستطيع أن نضع استنتاجاً معيناً مستخلصاً من تساوق السورتين ؟ أقول : نعم .(/2)
إن العرب في الجاهلية كانت تعبد الأصنام ولكنك لو أخذت أي عربي من هؤلاء فسألته : أتعتقد أنت أن هذه الحجارة المنحوتة تخلق أو ترزق أو تعطي أو تميت .. أو تدفع هي عن أنفسها الضر أو تجلب بنفسها الخير ؟ لقال لك : لا ، إن الخالق الرازق المحي المميت هو الله ، ولكن الله في عليائه أبعد وأمنع وأسمى وأعلى وأجل من أن نتطاول نحن المخلوقات الصغيرة إلى مخاطبته . فهذه الأصنام شفعاؤنا عند الله ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) تأسيساً على هذه العقيدة الغامضة المضطربة غير الواقعية غير العقلانية نشأت غيوم حول موضوع المآل والمصير ، فكانت فكرة يوم الآخر فكرة مشوشة وغائمة في فكر العربي الجاهلي ، غاية ما يتسامى إليه في عقل العربي أن ينظر إلى الحوادث المباشرة فيرى ما يراه كل إنسان ويصوغ هذه الرؤيا بكلام لعل التعبير النموذجي عنها خطبة قس بن ساعدة الإيادي الجاهلي الذي كان يتوكأ على عصاه ويخطب في عرب الجاهلية في سوق عكاظ متسائلاً عن هذه الأرحام التي تدفع ، والأرض التي تبلع ، ومآل هذه القوافل التي ذهبت في الماضي وتذهب الآن ألها مصير تنتهي إليه أم ليس لها مصير ؟
إنه تساؤل عن المشكلة لا يطرح لها حلاً ولا يوجد لها تعليلاً يستطيع أن يطمئن إليه عقل العربي . ومعلوم أن كل إنسان مقطوع الصلة بالدين معذور ، لأن الكلام عن اليوم الآخر ليس صناعة عقول وإنما هو أن يتلقى الناس خبر يوم الآخر من الوحي ، ولا مجال للمعرفة عن اليوم الآخر من أي طريق آخر .
حينما فوجئ المشركون بسورة القارعة تتحدث بهذه الألفاظ الفخمة الجذلة عن اليوم الآخر وتصفه لهم وأنه يرونه رأي العين أو يلمسونه لمس اليد حتى تقشعر له أبدانهم أحدث دون شك بلبلة واضطراباً شديدين ، ولا بد أن تساؤلات طُرحت ولا بد أن حواراً قام بين المشركين وبين الرسول صلى الله عليه وسلم . فتلك هي طبيعة الأمور ، فجاءت سورة القيامة تضع الأمور مكانها حقاً . عرضت لموضوع القيامة فقررته أولاً ، ثم كشفت عن الدوافع التي تجعل الناس يستبعدون إمكان يوم الآخر ولا يؤمنون بهذا اليوم ، فإذا هي أمور دنيوية صرفة تتعلق بالرغائب والشهوات واللذائذ ولا تتصل بقناعة العقل ولا بطمأنينة القلب . ثم ساقت السورة دلائل يشهدها الناس يومياً ويستطيعون أن يتلفتون إليها ويقرأوها في أنفسها وفيما حولهم وفي الآفاق . وكان يمكن أن يستقر كل شيء في قراره الحق لو أن هذه الإنسانية كانت رشيدة ، ولكن الإنسانية كالعهد بها حينما تواجه بالحقائق الصلبة التي لا تحتمل النقاش تحاول أن تلجأ إلى طرق شائكة وغريبة ولا أخلاقية ، ماذا الرد ؟ كان الرد الغريب العجيب غير المعقول وغير المقبول لدى أي إنسان عنده ذرة من عقل ، كانت حملة التشويش والتشويه والتجريح على من ؟ ليس على الحقائق التي عرضتها سورة القيامة ، فالحقائق التي عُرضت في سورة القيامة أمنع من أن تطالها ثقافات البشر ، ولكن كما قلت لكم في الجمعة الماضية فإن الإنسانية المعذبة الشقية اخترعت حيلة قديمة قدم هذه البشرية ، حينما أدعوك إلى طريق فيه كل الهدى والحق والصلاح يضمن لك استقرار عيشك وسلامة مصيرك ويوفر عليك حقوقك ويرد عنك كل أنواع الظلم والعدوان ، لكنك لا تطيقه ، وترفضه شهواتك ، يقطع عنك حبل نزواتك ، أنت لا تستطيع أن تقول عن الشمس أنها مظلمة ، ذلك شيء يرده واقع الأمر ، لكنك تملك هذه الحيلة الرخيصة المجرمة أن تجرح صاحب الطريق وصاحب الدعوة ، أن تصب هجومك على الشعب الذي تتنفّذ فيه الدعوة ، ولهذا انصبت نقمة المشركين وانصبت دعواتهم الكاذبة على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا يطعنون .
وعجيب هذا الموقف ، إن محمد عليه الصلاة والسلام عاش بين هؤلاء المكيين أربعين سنة ، ما جربوا عليه كذبة قط ، ما صبا كما يصبو الشباب ، كان بينهم طفلاً فكان زهرة الأطفال ، ثم نشأ شاباً فكان فخر الشباب ، ثم أصبح رجلاً فكان تاج الرجال ، ولم يمسك عليه أحد أي مطعن طيلة الأربعين السنة ، لم يكن شخصه الكريم صلوات الله عليه إلا موضع والإجلال والتقدير والمحبة ، الشباب والشيوخ يقدرونه ، كل امرأة تتمنى أن يكون محمد لها بعلاً أو أباً أو أخاً ، حتى إذا جهر بالدعوة انقلبت كل شيء ، ورجع محمد صلى الله عليه وسلم كذاباً وأفّاقاً ومفترياً على الله تعالى ، ذهبت الدعاوى تأخذ هذا الطريق الوسخ ، ولكن غير المنتج ، فجاءت سورة الهمزة لا تتنزل بحيث تمسك بنفس السلاح لتضرب المكيين مع أنهم كلهم فيهم المطاعن ، كلهم مقاتلهم ظاهرة ، الإسلام أشرف من أن يستخدم سلاح الدعاوى الرخيصة أو أن يتورط في الكذب من أجل إسقاط الخصم . ولكنها قالت ( ويل لكل همزة لمزة ) سيلاقي العاقبة وسيلاقي المصير ، كلام نظيف .(/3)
هل انتهى الكلام عند هذا الحد ؟ لا ، إن المشركين تجاوزوا كل حد معقول ومقبول ، وهنا نريد أن نرجع إلى وقائع نموذجية ، إن موضوع اليوم الآخر أثير أولاً إثارة عادية ، ثم عُرضت دلائله وشواهده ومؤيداته ، ثم كُشفت الساحة عن أناس لا يؤمنون به لا لأن الأمر غير معقول ولكنه لأنه ينغص عليهم شهواتهم التي اعتادونها . لكن المكيين الذين كان خليقاً بهم أن لا يثيروا الموضوع أبداً . كان الصحابي الجليل خباب بن الأرت رضي الله عنه حداداً في مكة يصنع السيوف ، وصنع للعاص بن وائل السهمي وهو من زعماء القبائل المكية القرشية صنع له سيوفاً ، وأصبح له عليه دين ، فلما جاء الخباب يتقاضى العاص بن وائل دينه الذي له في ذمته ، ما تتصورون الجواب ؟ إن الواقعة استثمرت استثماراً قذراً ، في ذلك الوقت كانت آيات اليوم الآخر تتنزل ، وكان الحوار حولها يشتد ، وكانت أندية قريش تبدئ في هذا الموضوع وتعيد ، حينما تقاضى خباب رضي الله عنه دينه ، قال له العاص : يا خباب أليس يزعم صاحبك هذا الذي أنت على دينه أن الجنة فيها ما يشتهيه الإنسان من ذهب وفضة وطعام وخدم ؟ قال : بلى . قال : فأنظرني إلى ذلك اليوم ، فإذا دخلت إلى الجنة فسوف أقضيك ، فوالله لن تكون أنت ولا صاحبك آثر على الله مني ولا أكثر حظاً مما في اليوم الآخر . هذه السخرية المرة ، رجل له على رجل دين ، مسألة حقوق دنيوية تحصل بين الناس ، ما علاقة يوم الآخر وهي قضية القضايا بعد الإيمان بالله تعالى بعد الإسلام لكي تجر إلى الساحة بهذه السخرية المرة المقيتة التي تكشف عن انهزام أصحابها قبل أن تكشف عن سخريتهم لهذه القضية .
فلم يمهله الوحي ، فجاءت آيات الله تعالى تقول ( أرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً ؟ أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً ، كلا سنرثه ما يقول ونمدّ له من العذاب مداً ) .
وواقعة أخرى ، كان أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط زعيمين من زعماء الجاهلية متصافيين في الجاهلية ، وذات يوم جلس عقبة بن أبي معيط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، في تلك الأيام يبدو أن المشركين قرروا حظر الاجتماع مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، في تلك الأوقات كانوا يأخذون أفواه السكك والطرق كي لا يسمحوا لأحد من الوافدين على مكة أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أي شيء . حينما سمع أبي أن عقبة بن أبي معيط جلس إلى النبي عليه الصلاة والسلام مشى إليه وقال له : وجهي من وجهك حرام ، لا أكلمك أبداً إذا أنت جلستَ إلى محمد ، وإذا أنت كلمته فلم تذهب وتتفل في وجهه . وفعلاً مشى عدو الله عقبة حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في وجهه الشريف ، ونزل قول الله تعالى ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ، يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً ) .
أبي بن خلف هذا الزعيم السفيه المتعجرف مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما سمع الآيات تنذر باليوم الآخر وفي يديه عظم بالٍ ، ففركه في يديه حتى كان تراباً ونفخه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : أنت تزعم أن الله يحيي هذا بعد أن بلي ؟ قال : نعم ، يحييه الله ويبعثك ويدخلك النار . وأنزل الله في شأنه ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) هذا الجو مع هذه المواقف المزعجة غير الأخلاقية التي وُجه بها النبي صلى الله عليه وسلم والتي ينفذ لها صبر الحديد هي التي كانت وراء هذه اللهجة الحادة في صياغة سورة المرسلات .
إن الأمر تجاوز كل حد ، ومع ذلك فمن الخير أن نعيد قراءة سورة المرسلات حينما نقرأها ، مع كل هذه المواقف المستهزئة ، مع كل هذه الظواهر العدوانية ، هل يستطيع أحد أن يسجّل على سورة المرسلات أنها كانت بنفس أسلوب المشركين في تهجمهم على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أن تخاطب المشركين بنفس اللغة التي كانوا يخاطبون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم تستخدم نفس الأسلحة التي يستخدمونها ؟ لا ، بقيت قضية الإسلام في مستواها الرفيع العالي الذي لا يجوز أن يهان وأن يُنَزل به إلى هذه المستويات الرخيصة ، بقيت كلمات الله تعالى في الموقع الذي يقول لنا أنه مهما طال الشوط ومهما امتد الطريق فإن الإنسان يسكنه جوهره الإنساني الذي لا يستطيع أن يثبت على مواطن الخطأ إلى ما لا نهاية ، لا بد أن تحل الساعة الذي يفيء الإنسان إلى عقله ويرجع إلى رشده ويراجع حسابه ، فيرى أنه في ضلال مبين ويرى له أنه من الخير أن يدخل فيما دخل فيه الناس ، وأن يكون جندياً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأن يكون خادماً لهذا الدين العظيم ، يجنّد كل ما لديه من طاقة من أجل تدعيم مواقعه وترسيخ أقدام أتباعه حتى يفوزوا بالهمة التي أوكلها الله إليهم وهي استخلافهم في الأرض لينظر كيف كان يعملون .(/4)
لا أريد في هذه الجمعة أن أدخل في صلب السورة فقد وعدتم بأن أقتصر على أقل ما يمكن من الوقت ، وهذا قد أخذنا من الوقت ما هو مقدور لنا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .. والحمد لله رب العالمين .(/5)
تفسير سورة النجم
الجمعة 8 صفر 1397 / 28 كانون الثاني 1977
الحلقة ( 2 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
لقد كانت وقفتنا الأولى في الأسبوع الماضي مع سورة النجم ، وهي السورة التي أثارت في وجهنا وفي وجه كل الدارسين مشكلة من أعقد المشاكل التي تواجه دارس القرآن من حيث ارتباط الآيات بالوقائع .
وقفت بكم في الجمعة الماضية عند بعض مضامين سورة النجم وكان الهدف من ذلك أن نتحسس مدى صلة هذه المضامين بذلك الواقع البعيد ، ثم ننظر إلى النتائج التي حصلت والتي يمكن أن نلقيها على الواقع المعاصر . وتحدثنا عن فاتحة السورة بما أحسبه مغنياً إن شاء الله في هذا الموضع ، فمسألة الحديث عن الإسراء والمعراج ليست مسألة أساسية في سورة النجم لكي يفيض الحديث عنها في هذا الموقف ، لكن محلها في سورة الإسراء وهي من السور المكية التي لا بد أن نمر عليها إذا أحيانا الله وأقدرنا الله على ذلك .
عموماً فيما يتعلق في مضامين السورة فإن القرآن المكي برمته يدور حول الأمور السارية بصورة أساسية ، أولاً مشكلة الألوهية وما يتفرع عليه ، ثانياً مشكلة الرسالة وما ينبني عليها ، ثالثا مشكلة الدار الآخرة وما تثيره من الصعوبات ، فهذه الأمور الثلاثة هي في الحقيقة الأسس التي يدور عليه القرآن المكي كله . وبطبيعة الحال فهذا إجمال لا يغني عن تفصيل ، وإيجاز من ورائه كلام طويل ، خذ إليك مثلاً موضوع الألوهية ، وقلت إنها مشكلة الألوهية وهي في الحقيقة مشكلة إذا حُلّت انتهى كل شيء ورجعت الأمور إلى الحق ، وإذا لم تحل فلا جدوى من متابعة الطريق . إن مشاكل الإسلام وقضاياه يتصل بعضها ببعض ويأخذ بعضها برقاب بعض ، وهي كأجزاء البناء ، هي بمجموعها تسمى البناء ولكنها على شكل تفاريق وأجزاء ليست بناءً ولا شيئاً قريباً من البناء . مشكلة الألوهية لا يمكن أن يُنظر إليها بصدق وبجدية وبأسلوب علمي باختصار ما لم تتعرف قبل ذلك على الأرضية التي كانت متوفرة حين نزول الرسالة الإسلامية .
ما هو الواقع الديني ؟ ما هي جملة الأفكار التي كانت تموج بها الساحة الإنسانية في ذلك الوقت ؟ ما مبعث هذه الأفكار ؟ ما مأتاها ؟ ما منشؤها ؟ ما قيمتها في حياة الناس العقلية والعملية ؟ كل أولئك يجب أن تتعرف عليه قبل أن تأذن لنفسك بأن تخوض هذا الغمار ، ثم أنْتَ بَعْدُ مطالب بأن تعرض مسألة الألوهية على النحو الذي جاءت به الرسالة وأن تعرضها وهي في غمرة الصراع مع هذا الواقع الذي يتحرك بمختلف الاتجاهات والمبادئ . قل مثل ذلك بالنسبة لمشكلة الرسالة ، كيف يكون البشر رسولاً ؟ كيف تتحقق الصلة بين السماء والأرض ؟ ما ماهية الوحي ؟ ما موضوعات الوحي ؟ ما مقام الرسول من دين الله وشرعه ؟ ما مقام الرسول من أمته التي دعا إلى الله فيها ؟ ما مقام الرسالة ككل بالنسبة للبشرية ؟ كل أولئك أسئلة لا بد لك أن تواجهها وأنت تتعرف على حقائق التنزيل ، ومثل هذا أيضاً لك أن تقوله بالنسبة ليوم الآخر .(/1)
حينما نبسط أمامنا مخططاً عاماً لسورة النجم فبالتأكيد سوف نعثر على هذه القضايا بالذات ، أول شيء بدئت به السورة تلميح إلى موضوع الألوهية ولكن من الجانب الذي يهدم العقيدة الفاسدة أي من الجانب السلبي وليس من الجانب الإيجابي . ( والنجم إذا هوى ) فالنجم باعتباره أحد المعبودات التي كانت تعبدها الأمم القديمة ، ومن الخطأ أن نظن أن عبادة النجوم عبادة كانت مقصورة على العرب ، فالواقع أن العرب أخذوها عن غيرهم ، عبادة الكواكب والنجوم كانت أشيع ما تكون وأظهر ما تكون عند البابليين ، وحينما أرسل الله جل وعلا أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالحنيفية السمحة كانت عبادة النجوم أظهر شيء يكون في المجتمع البشري المعروف في العالم القديم ، ولعل الإشارة في الآية حكايةً عن مقام إبراهيم عليه السلام ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) تشير إلى هذا الواقع الذي كان معروفاً في ذلك التاريخ . والعرب أخذت عبادة بعض الكواكب عن الأمم الأخرى ، صحيح إن البابليين في الأصل موجة من موجات الهجرة العربية من الجزيرة العربية ولكنها تحيزت مع الزمن أمة قائمة بذاتها ، انفصلت بمعتقداتها وبآرائها ونظمها وبأنماط حياتها عن الأمة الأم التي بقيت تعيش داخل الجزيرة العربية ، فلا بدّ نعرف أن عبادة النجوم طارئة على الأمة العربية وليست أصيلة ، وأنها جاءت إليها من أمم أخرى . هذا التلميح الذي أشرنا إليه الآن والذي يشير إلى قَسَمٍ بالنجم إذا هوى يُشْعِرُ عند من يذوق تراكيب العربية ويعرف خصائص اللسان الذي أُنزل به القرآن ويعرف قيمة الزخم والإشعاع الذي تتمتع به هذه اللغة الشريفة التي نطق بها أفصح الخلق وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم تترك في حس العربي وهو يسمع هذا الكلام . العربي ولا نعني عرب اليوم فكثير منهم يجب أن يُسمّوا أعاجم ، وأعني العرب الذين خلصت فِطَرُهُمْ واستقامت سلائقهم وبرئت من العقد نفوسهم ، هذا العربي حين كان يسمع الله يقول ( والنجم إذا هوى ) يتصور في ذهنه عالماً كاملاً ، قضية برمتها تقوم رأساً في الذهن وتنبثق لتأخذ شكل عالم ، يتصور العربي أمته وتلك الطوائف منها التي كانت تعبد النجوم والكواكب سواء عبدتها استقلالاً أي اعتبرتها آلهة من دون الله أو عبدتها على سبيل المشاركة مع الله جل وعلا أو عبدتها على سبيل البُنُوّةِ لله جل وعلا تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ، كما كانت العرب تدعي أن الملائكة بنات الله ، وسواء عبدت هذه النجوم على أنها أشياء مقدسة لها تأثير أو فاعلية في الوجود أو بتعبير الفلاسفة ـ الذين يُسَمَوْن للأسف فلاسفة المسلمين ـ أن هذه الكواكب مدبرات للكون . سواء كانت الصورة هذه أو تلك فإن العربي يتصور مباشرة هذه الصورة . هذا النجم يراه أمامه كلما جن الليل ونظر العربي إلى أديم السماء ولاحظ حركات النجوم وجد النجم ينتقل بانتقال الفلك ويتحرك بحركة الفلك ، ثم وجد هذه النجوم المتهاوية المتساقطة فهو يرى دلائل التغير والحدوث ، ما كان متغيراً وحادثاً فلا بد أن يكون البداية ، والله الخالق البارئ المصور يستحيل أن تكون له بداية ، ما كان خاضعاً للتغير فإن الزمان يؤثر فيه ، وإن المكان يؤثر فيه ، والمعبود الحق خالق الزمان والمكان ومؤثر فيهما ، حينما تقع هذه اللحظة في حس العربي ( والنجم إذا هوى ) يدرك فوراً دلالة ما فيه طوائف من العرب ممن عبد النجوم ، وصحيح أن الهجوم على صورة من صور الوثنية بهذا الشكل هجوم غير مباشر ولكنه فعّال ، ليست المسألة أن أواجهك مواجهة صريحة وأن أكسر ساقيك ، لا ، هذه صورة من صور عديدة قد تكون أضعف الصور وأقلها تأثيراً ، المسألة التي يجب أن توضع في الاعتبار وأن تُوْلَي العناية الكافية ليست أن نسب معبودات العرب وغير العرب ، فإن السباب المباشر والهجوم المباشر دون أن يكون مصحوباً بهذه الزعزعة التي تتناول التشكيك بأساس القضية يؤدي إلى عكس المطلوب ، ولهذا نجد من جملة تأديبات القرآن للأمة المسلمة حينما كان بعض المسلمين يتسرع فيسب آلهة المشركين نجد الله تعالى يقول على سبيل التأديب والتوجيه وبيان الطريقة الأجدى والأمثل ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدواً بغير علم ) ماذا تكون النتيجة ؟ تكون النتيجة حين تهجم أنت الهجوم المباشر على الخصم أنت لا تفعل أكثر من أن تزيد ضلاله على ضلال ، وقساوة على قساوة ، الطريقة المثلى أن تمسّ القضية من أطرافها بالتشكيك ، لزعزعة الثقة ، حتى إذا ما اهتزت الأسس ولم يبقى للقضية التي يحملها خصمك كل هذه القداسة والتمسك فحينئذٍ اضرب الضربة القاضية وذلك هو ما فعله القرآن الكريم .(/2)
حين كان بعض المتسرعين من المسلمين يسبون الأصنام ماذا كانت النتيجة ؟ كانت النتيجة أن المشركين أخذوا يسبون الله ، ماذا فعلنا ؟ حصيلة العملية ماذا كانت ؟ أننا أقمنا حاجزاً كثيفاً بيننا وبين هذا الإنسان الذي نتحدث معه لكي نقتلع من ساحة تفكيره ومن جذر قلبه عقائد فاسدة لنحل في مكانها عقائد سليمة وأفكار صحيحة نكون قد أنزلنا حجاباً كثيفاً أمام هذا الإنسان ، هذا واحد . الشيء الثاني : في الوقت الذي نبعد أنفسنا عن هذا الإنسان ونبعد هذا الإنسان عنا نكون قد تسببنا في أن يُسب الله تعالى عدواً بغير علم . فعلاً إن الذي تنفض إليه ما عندك إنسان كما أنت إنسان ، كما أن لك عقلاً فله عقل ، وكما أنك تتمتع بأحاسيس ومشاعر فهو مثلك كذلك ، وكما أنك تحب قضيتك التي تحملها وتتفانى من أجلها ، فكذلك هو يحب ذلك ، فمن هنا ندرك ما قال الله تعالى تعقيباً على هذا الفهم المغلوط ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) . في السابق قلت لكم إن من الخطر أن تظنوا أن عابد الصنم لا يحس بالراحة والرضى ، ومن الخطأ أن تظنوا أن النصراني الذي يقول إن عيسى ربي وهو مخلصي وهو إلهي لا يحس بالرضى والطمأنينة ، ومن الخطأ أن تتصوروا اليهودي الذي يرزح تحت مجموعة هائلة من العقد غير راضٍ عما هو فيه ، بل من الخطأ أن تتصور أن هذا المشرك في الهند أو في الصين الذي يتقدس ويتطهر بروث البقر لا يحس الرضى والطمأنينة ، لا تتصوروا المسألة بهذا الشكل . من عجيب صنع الله أن الله تعالى أَرْضَى كل إنسان بالذي هو فيه وإلا لانشق الإنسان إلى نصفين ألماً وانزعاجاً ، لكن الله تعالى من أجل استقامة الحياة جعل كل إنسان راضياً بالذي هو فيه . ومهمة الرسالة أن تزيل هذه الحجب عن عيني الإنسان ، أن تجعل الإنسان يتطلع إلى ما هو أعلى ، وأن ينظر إلى ما هو فيه ، فيرى أن ما هو خلاف لهذا قد يكون أفضل وأحسن .
أريد أن يعرف كل واحد منا أن طريق الدعوة ليست سباباً أو ليست هي دائماً مواجهة فعلية ، إن النهاية الفعلية هي نهاية المطاف ، وأما في الدعوة فأنت مأمور بأن تتلطف بالناس وأن تأخذهم على أنه بشر ، قد يكون أبي فاسداً ولكن لا أرضى منك ولو كنتَ ملك الملوك أن تسب أبي ، وحين تسب أبي فسوف أسب أباك ، ولهذا قال النبي صلى الله عيه وسلم : لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات . وقال أيضاً فيمن يرتكب الكبائر عدّ منهم أن يسب الرجل أباه . قالوا : وكيف يسب الرجل أباه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فالتعامل مع كائن حي ، علينا أن نعرفه بدقة كي نعرف الطريق الذي يوصل إلى قلبه ، ولكي نمسك بالمفتاح الذي يفتح مغاليق هذا القلب . تجدون ربنا جل وعلا حينما يعرض سورة النجم بهذا الشكل الذي تحدث به لا يزيد في فاتحة السورة على أن يعرض تعريضاً يدركه أولوا الألباب ( والنجم إذا هوى ) هذه قضية تعرض لا مجال للمكابرة فيها ، سقوط النجوم شيء يراه الإنسان كل يوم لا سيما سكان الصحارى الذين تصفو عندهم السماء يرون تساقط النجوم بكثرة ، فإذا كانت النجوم متغيرة بهذا الشكل فقد وقع في الحس أن هذا لا يستحق أن يكون إلهاً .(/3)
ما أريد بعد هذا الكلام الذي أردته كالمدخل إلى ما أحب أن أقول لكم أن أتعرض مرة أخرى لموضوع فاتحة السورة التي تقص شيئاً من مشكلات الإسراء والمعراج فأنا أدخر هذا إلى اليوم الذي نقف فيه مع سورة الإسراء ، وإنما أريد أن أمر سريعاً إلى بعض موضوعات السورة وأقف عند قضية عرضت جوانب منها في الجمعة الماضية ، قضية الألوهية التي تصدى لها الإسلام ، وقضية المعتقدات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية . تعرفون أن الله تعالى قال مخاطباً هؤلاء الناس : ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ) ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) وفي هذا الموضوع عن ادعاء العرب في الجاهلية أن الملائكة بنات الله ، وعن ادعائهم أنهم شفعاء لهم عند الله ، وأنهم باعتبارهم بناتاً كانوا ينطلقون من تصور جاهلي متأصل في نفوس فرضته الحالة البدوية في الصحراء التي كانت تعيش فيه العرب . ففي الصحارى حينما لا يكون ثمة قانون ولا دولة فالإنسان يحتكم إلى ساعده وإلى قوته باستمرار ، من يقدر على هذا ؟ الذكران دون الإناث ، ولهذا كانت العرب تفرح بالمواليد الذكور وتبتئس بالإناث ، ولكراهيتهم للأنثى ولهوان قضية الألوهية عليهم أنفوا لأنفسهم واستكبروا أن ينسبوا الإناث إلى أنفسهم فنسبوها إلى الله جل وعلا واعتبروا الملائكة إناثاً وأنهم بنات الله وسموا الأصنام بأسماء الإناث ، اللات والعزى ومناة كلها على وزن التأنيث ، لأنهم ينفرون من الأنثى ويدفنونها وهي حية . ما عند هذا أريد أن أقف ، وإنما أريد أن أقف عند هذه الظاهرة ، من أين جاءت إلى العرب ؟ إننا في الواقع نعرف أن العرب سلالة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، يقول الله تعالى ( ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيم الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) في موضع آخر كان إبراهيم عليه السلام ينظر إلى الغيب البعيد ويقول ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ) فالعرب المستعربة هم من سلالة إبراهيم عليه السلام ، أرأيتم في ديانة إبراهيم شيئاً من الوثنية والصنمية ؟ إن إبراهيم عليه السلام جاء بها بيضاء نقية حنيفية سمحاء وتوحيداً مطلقاً لا شرك ولا شائبة من شوائب الشرك ، فلماذا إذاً وجدنا هذه الأمة حينما جاءها محمد صلى الله عليه وسلم ولا شيء أظهر عندها من عبادة الأصنام ؟ أهو شيء اخترعوه وابتدعوه أم هو شيء طرأ عليهم من الخارج ؟ من حيث المردود العملي فلا فرق يُذكر بين أن تكون الأصنام طارئة من الخارج أم نابعة من ذات الأمة ، لكن من وجهة إبراز مكانة الأمة فعلينا أن ننظر في القضية نظراً أدق وأقرب إلى وقائع التاريخ ، إن الأمة العربية والتي هي نسل إسماعيل والتي تلقت رسالة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبثت على الحنيفية السمحة ، ويقول الرواة إن إسماعيل عليه السلام تزوج امرأة من قبيلة جرهم ، حينما أنزل إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها في مكان البيت كان البيت ربوة بيضاء ولا ماء ولا شيء ، وترك أهله الآخرين في العراق وترك إسماعيل في الحجاز ومضى عائداً إلى العراق ، لم يكن في المكان إلا هاجر وابنها الرضيع إسماعيل .(/4)
ها نحن في قصة إسماعيل ، المهم أن البادية أعز شيء فيها هو الماء ، حيثما وُجد الماء وجد السكان ، والمكان الذي لا ماء فيه لا سكان فيه ، منطقة البيت لم يكن فيها ماء ولهذا لم يكن فيها سكان ، حينما أنبع الله جل وعلا زمزم لهاجر وابنها إسماعيل بدأت هذه الطيور تحوّم حول المكان فلاحظت فصائل من قبيلة جرهم وهي من العرب العاربة لاحظت وجود طائر يحوّم حول مكان معين قال قائلهم لا بد أن يكون هناك ماء ، وقصدوا هذا المكان ولدهشتهم وجدوا الماء فعلاً ولكن لم يجدوا إلا امرأة تحمل على صدرها رضيعاً . وبما أن في العرب خلائق جيدة ، لو كان هؤلاء يتمتعون بروح الشر والعدوان فماذا تستطيع امرأة أن تفعل أمام قبيلة ؟ ومع ذلك فإن القبيلة احترمت هذه المرأة وابنها واستأذنوا المرأة بأن يخيموا في هذا المكان . فوافقت المرأة ولكن قالت لهم : ولكن الماء لنا . وكبر إسماعيل عليه السلام وهو لا يرى إلا هذه القبيلة أمامه . ثم تزوج من هذه القبيلة وانتشرت ذرية إسماعيل . حينما انتشرت هذه الذرية وتكاثرت كان بينها ما يكون بين الناس في مزدحم الحياة ، الخلافات والقتال .. وجد الناس أنفسهم مضطرين أن يرحلوا ، بعضهم خرج إلى مناطق أخرى ولكن ضمن جزيرة العرب ، مكة المشرفة من خصائصها أن القلوب تهوي إليها ، وأن الإنسان إذا رآها مرة إلا ويسكنه الحنين إليها طيلة عمره . حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأهب للهجرة من مكة إلى المدينة نظر إلى البيت وإلى ربوع مكة التي كانت ملاعب الصبا ومدارج الشباب ونظر إلى هذه البقاع التي شهدت أخطر وأصعب مرحلة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة : والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت . مكة حبيبة إلى النفوس ، أرانا الله جميعاً إياها إن شاء الله .
حينما اضطرت بعض فصائل من ذرية إسماعيل للهجرة لشوقهم إلى مكة أخذوا معهم شيئاً من حجارة مكة ، كانوا يتذكرون هذا البلد الحبيب إلى نفوسهم ، لا شيء أكثر من ذلك في المرحلة الأولى . ولاحظوا كيف تتسلل العقائد الفاسدة وكيف يدخل تيار الانحراف إلى النفوس ؟ في المبدأ ليس أكثر من أنك حملت صورة صديق أو حبيب ووضعتها في جيبك وكلما تشوقت إليه استخرجت الصورة من جيبك ونظرت إليها . كذلك فعل العربي حين هاجر من مكة أخذ معه بعضاً من حجارة الكعبة ، كلما اشتاق إليها نظر إلى هذه الحجارة ، في مرحلة الشوق الأولى تكفيك النظر فترى أن شوقك قد روي ، ولكنك مع شدة الشوق لا تكتفي بذلك تضع يدك فتلمس فتشعر بهذا التيار العجيب الهادئ إلى نفسك ، ثم أخذوا يتلمسون هذه الحجارة كل فترة ، ومع الزمن ومع توالي الأجيال زادت المحبة وانقلبت المحبة إلى قداسة ، وانقلبت لمسة الحب إلى تقديس وعبادة ، وأصبح لدى العرب من العقائد والشعائر أنهم يتمسحون بالأصنام تكملة إلى أداء الشعيرة التي يريدونها . ثم تتطور الأمر ، هذه الحجارة الصماء أخذ الناس يشكلون فيها مع الزمن على هيئة صنم فطورت ثم عُبدت ومسحت ثم نُحر لها ثم عُبدت من دون الله تعالى .
من هنا إذاً نشأت الوثنية ، انظر إلى البداية ثم إلى النهاية تجد أن العمل الأول لا شيء فيه ، ثم تتطور الأمر إلى العبادة . فنحن حين نعرض إلى توجيهات الإسلام نجد الإسلام غاية في الحكمة وبعد النظر ، حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل على أصحابه كان بعضهم يهمّ أن يقوم إجلالاً واحتراماً للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأنتم تعرفون الآن أنه حين ندخل إلى مجلس من المجالس ولا يقوم الناس لنا حين ندخل نغضب ونشعر بأنه أُلحقت بنا إهانة ، النبي صلى الله عليه وسلم بنظره المحكم كان يقول لهم : اجلسوا ، لا تقوموا لي كما تفعل الأعاجم يعظم بعضها بعضاً . النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأعاجم عبدت ملوكها ، فرعون كان يُعبد من دون الله ، إمبراطور الرومان كان يُعبد من دون الله ، وكذلك كسرى . ما الملك ؟ هو بشر من البشر اختير من قبيلة قوية ليكون مدبراً . له شيء من الاحترام ولا شيء أكثر من ذلك . لكنه مع الزمن يستخف قومه فإذا هو يفرض عليهم مع الزمن احتراماً أكثر وهكذا حتى يطلب منهم أن يعبدوه .(/5)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع من هذه الظاهرة . وحين مرض صلى الله عليه وسلم مرضه الأخير وكانت تأخذه غاشية الموت كان يغطي وجهه بثوب ، فإذا أفاق رفع الثوب من على وجهه ومسح وجهه وقال : اشتد غضب الله على أُناس اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثناُ يُعبد . إن تطور الاحترام إلى تقديس أمر وارد ، ونحن نستطيع أن نلمح هذا في حياتنا المعاصرة ، بعد عشرات ومئات الألوف من السنين التي قطعتها البشرية وهي تعيش وهي ترى كيف يموت الزعماء وكيف يحيون ؟ نحن ليس بعيداً عنا أن الزعماء كانوا يُعبدون من دون الله جل وعلا وأن تماثيلهم وأصنامهم نُصبت على الطرقات كي تجذب اهتمام الناس ، ونحن نرى ونسمع مما عاصرناه أنه من السهل عليك أن تشتم الله وأن تكفر بأنبياء الله جميعاً ، لكن ليس من السهل عليك أن تسب أمام ضعيف عقل أحد هؤلاء الناس وزعيماً من الزعماء يأكل وينام ويتغوّط .. ويعيش ويموت ، والإنسانية لم تستفد من هذه التجربة بعد مئات من الألوف من السنين عاشتها وهي ترى أن إنساناً لا يختلف عن إنسان ، وأن إنساناً لا يصح أن ينحني أمام إنسان . من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يرفع هامة المسلم وأن يمنعها من أن تنحني لغير الله تعالى . ولهذا فنحن نجد أن ظاهرة الانحسار والانحطاط التي تعرضت لها الأمة كانت مصحوبة للأسف الشديد بهذا التقديس المبالغ فيه للصالحين وأصحاب الكرامات وما أشبه ذلك ، فهذا ينذر للقبر وهذا يسجد للقبر .. مما يخيل إليك أن الأمة عادت إلى جاهلية الأولى . مراحل الانحطاط كانت دائما مترافقة بهذه الظاهرة . فالإسلام يحرص على سد مثل هذه الأبواب أمام المسلم .
فمرحلة الوثنية نشأت من هذا الشيء ، أصلها حنين إلى البيت الحرام ثم إلى أخذ حجارة من البيت ثم مع الزمن عُبدت من دون الله تعالى . وحين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كانت الوثنية أعجوبة من الأعاجيب ، كان الرجل منهم يتقرّب من مناة وإلى العزى .. ثم لا يكفيه هذا ، فلا بد أن تعلق حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وفتحت أبواب الكعبة أخذ يطعنها بقوسه وهو يقول ( قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) وكانت هذه الأصنام تنكب للوجوه على الأرض ، وكان كذلك الذي حدث في كل بيت من بيوت العرب التي فيها أصنام .
وما قصة عمرو بن الجموح عنكم ببعيدة ، حينما فشى الإسلام أسلم أولاد عمرو بن الجموح وكان لعمرو بن الجموح صنم من الخشب ، كيف يحتال أولاده لكي يزعزعوا ثقة الشيخ بهذا الصنم ، كانوا كلما نام الشيخ جروا الصنم إلى المكان الذي تُلقى فيها الأقذار ، فإذا استيقظ من نومه وأراد أن يقيم بعض الشعائر عند صنمه لم يجده فبحث عنه حتى يجده بين الأقذار فيأخذه ويغسله ويطيبه ثم يعبده ، وفي المرة الأخيرة ربط أولاده هذا الصنم بكلب ميت ، فاكتشف الرجل أن هذا الأمر ضلالة . فكل بيت من بيوت العرب فيها صنم .
تسمعون في سورة نوح أن الله جل وعلا يحكي عن قوم نوح ( وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ) فهذه أسماء كانت أسماء أصنام كانت تُعبد عند قوم نوح ، وتعرفون أن نوحاً عليه السلام عاش ألفاً إلا خمسين سنة من عمره في قومه ، وكان الرجل من قومه إذا كبر وشاخ يأتي بابنه إلى نوح ويقول له : احذر هذا الكذاب فإن أبي جاء بي وأنا في مثل سنك وقال لي : احذر هذا الكذاب . الأباء يوصون الأبناء بتكذيب نوح عليه السلام . إلى هذه الدرجة كانت عبادة الأصنام متأصلة فيهم .
هناك اتجاه آخر في قضية عبادة الأصنام جديرٌ باعتبار ، ويشده حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يُقال إن أبا خزاعة ( وخزاعة هي القبيلة الأم للقبائل القرشية جميعاً ) أي ( عمرو بن لحي الخزاعي ) مرض حتى أشرف على الموت فقالوا له إن في الشام ( حمى ) فيها ماء ساخن فلو ذهبت إلى هناك واستحممت فيها برئت ، وذهب عمرو إلى الشام حتى استحمى بالحمى فبرئ ، ووجد في الشام أنهم يضعون تماثيل وأصنام ، فقال لهم : ما هذه ؟ فقالوا : هذه أصنام نستمطر بها المطر ونستنصر بها على العدو ، فطلب منهم أن يعيروه واحداً منها فأعطوه واحداً ، فذلك أول دخول الوثنية إلى جزيرة العرب . إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رأيت عمرو بن لحي في النار يجر قصبه في النار ( أي أمعاءه ) لأنه كان أول من بحر البحيرة وسيّب السائبة وحمى الحامي وغيّر دين إبراهيم عليه السلام . فمضمون الحديث إلى الواقعة التاريخية تشعر إلى أن الصنمية تحدرت من مشارف الشام من الحمى وهي قريبة من درعا التي على الحدود الأردنية الفلسطينية السورية .(/6)
الشيء الثاني ، حينما ننظر إلى الآية نكتشف مقابلة لطيفة ، انظر إلى الآية ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) لاحظوا ، إننا هنا أمام مقابلة بين الإله الحق والآلهة المدعاة ، الفارق الجوهري بين الإله الحق أنه إله بالذات وأن الآلهة المدعاة آلهة بالتسمية بالاسم ، الله جل وعلا إله لأنه هو الخالق وهو يستحق الألوهية بذاته ، وأما الآلهة المدعاة فسواء علينا كانت صنماً أم بشراً أم حيواناً أم كوكباً في السماء فنحن البشر الذين نسمي هذه الأسماء ، إذا كنا نحن نعطيها هذا الوصف فنحن كما أعطينا نستطيع أن نسترد ، نحن كما سمينا نستطيع أن نلغي ، لكن اكفر أنت ولتكفر الدنيا جميعاً أذلك يغير من الحقيقة شيئاً وهو أن الله رب الأولين والآخرين وأن الله رب السماوات والأرض ؟ إن الله لا تتعرّض ألوهيته لكفران الناس جميعاً لأي خدش من الخدوش ، إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله غني حميد . ففارق يُلفت إليه النظر ، إن الإله إله ليست لأنك أنت الذي ألّهته ولكن لأنه هو إلهك ، وسمي إلهاً لأنك أنت تأله إليه أي تشتاق إليه وتنجذب إليه وتفتقر إليه فهو إله بالذات ، لكن هذه الأصنام حينما سميتَ اللات والعزى ومناة وهبل وما أشبه ذلك ، أنت الذي سميته أم هي آلهة أعطت ومنعت وخلقت وأماتت ورزقت وأفقرت وأغنت وأقنت ؟ لا ، أنت الذي فعلت هذا وإذا فالمسألة تذهب منك لتعود إليك ، وقولك إن هؤلاء الآلهة لا يزيد في الحساب على أنه كلمة خرجت من شفتيك ، ولهذا قال الله هنا ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ) ما قال مسميات ، أنا كشخص مسمى ، ولكن حينما تسميني باسم الذي يعرفني فالاسم هو الاسم والمسمى غير الاسم ، فهذه الأصنام أسماء أي لا حقيقة لها في الواقع لا أثر لها بالمرة وهذا ما أرادت الآيات أن تلفت نظر الإنسان إليه بدقة ولطف ودون جرح ودون مهاترات ودون سباب ، القضية تحل في ضوء العقل وفي ضوء الحكم في نور العقل تحل ، هذه الأصنام التي أنتم عليها هذا النمط من العبودية كله فاسد بدلالة العقل وببداهة العقل وبقضية العقل ، وبعد أن تعرض الأمور وأن تكشف بهذا الشكل ، أفنحن المسيطرون على الناس أنحن جبارون أقلوب الناس بأيدينا ؟ لا إن الأمر بعد الكشف إلى الله ، من شاء أخذ بقلبه وناصيته إلى طريق الحق والصواب ومن شاء صرفه عن هذا الطريق ليرديه في مهاوي الهلاك والبواري والعذاب المقيم ، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينير عقولنا وعقولكم وأن يضيء أمامنا وأمامكم الطريق كي نعرف سبيل الطريق الوصول إليه تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة النجم
الجمعة 15 صفر 1397 / 2 شباط 1977
( 3 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
وفيما قلناه في الأسبوع الماضي أن القرآن المكي بصورة عامة يدور حول أمور أساسية كلها على امتداد ثلاثة عشر عاماً التي قضاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة ، كان يدور حول قضية الألوهية ، وثانياً حول مشكلة الرسالة ، وثالثاً حول قضية اليوم الآخر . وإبراز هذه القضايا في الحاضر ضروري ، هو ضروري من وجهة نظر الدراسة ، فالسورة كما عرفتم في أول حديث عنه أثارت في وجهنا مشكلة ليست هينة ، لأن فاتحة السورة تنتمي إلى الوقت الذي حصل فيه الإسراء والمعراج وهو في أواخر السنة العاشرة ونحن نتحدث عن وقائع تدور في فترة زمنية لا تتجاوز السنة السابعة من المبعث ، ومن هنا فنحن نريد أن ننفذ إلى إكمال لبقية الحديث للحل الذي قدمناه عن هذه المشكلة ، ثم نكمل ما تبقى من السورة .
قلنا إنه لا شك أن فاتحة سورة النجم تشير إلى واقعة حصلت في الإسراء والمعراج متأخرة جداً من المرحلة المكية ، وقلنا إن هذه المشكلة تُحل على ضوء تاريخ القرآن ، فالقرآن حين دوّن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه وبتوقيف منه أيضاً كانت آياته تنزل متفرقة ، كانت الآية تنزل اليوم ، وقد تنزل الآية بعد سنة أو أكثر ، وضربنا مثلاً سورة البقرة وهي مجموعة في القرآن في سورة واحدة وقلنا إن فيها آيات تُعد من أبكر الآيات في المرحلة المدنية ، كما أن فيها آية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ، فعمر هذه السورة في الإنزال لا يقل عن تسع سنوات ، ومع ذلك فهي سورة واحدة . والدارس للقرآن مضطر لأن يأخذ السورة على أنها بناء واحد ومتكامل ، لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتبها على الوجه الذي رتبت عليه ، فوجود الآية في سورة معينة أو وجود عدة آيات في سورة معينة تشير إلى واقعة من الوقائع المحددة تاريخياً لا يعني أن السورة برمتها تنتمي إلى الزمن الذي حصلت فيه الواقعة . تسميات السور قد لا تدل مطلقاً على مضامينها وقد لا تشير إلى شيء مما تضمنته ، عندنا سورة قاف سميت بالحرف الهجائي الذي بدئت به ، فماذا تفهم من هذا الحرف مما يدل على مضامين السورة ؟ لا شيء . عندنا سورة صاد وهي سورة سميت باسم الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة بصرف النظر عن مضامين السورة ، قلنا إننا على هذا النحو نستطيع أن نقول إن فاتحة سورة النجم لا يعني أن السورة برمتها نزلت متأخرة ، وبالتالي لا يسحب التشكيك على التوقيت الذي وضعه بصورة متقاربة علماء القرآن حينما رتبوا القرآن وفاقاً للنزول .
حينما ذهبنا نستعرض قضايا القرآن وقلنا لكم إن قضايا القرآن المكي عموماً تدور حول هذه الأقطاب الثلاثة : الألوهية والرسالة واليوم الآخر ، آن لنا أن ننظر إلى فاتحة السورة من زاوية أخرى . لنرى أهي متنافرة مع الجو العام الذي أشارت إليه السورة ؟ أم هي منسجمة معها كلياً ؟ هذا هو الحديث الذي نريد أن نبدأ به لنلفت النظر إلى أن الذين لم يرزقوا في القرآن ذوقاً خاصاً ولم تُكشف عن عيونهم الحجب لكي يذوقوا طعم هذا القرآن ، يتصورون الأمور في القرآن تتكرر متشابهة مكروهة وهذا خطأ ، فالقضية من القضايا التي تعرض في السورة كما تعرض في تلك كما تعرض في هاتيك ، وهي هنا لها دلالة وهي هناك لها دلالة أخرى وهنالك لها دلالة مغايرة ، قلنا إن فاتحة السورة تشير إلى واقعة الإسراء والمعراج فلماذا سحبت هذه الواقعة من السنة العاشرة أو بالأحرى من أواخر السنة العاشرة لتحشر في سورة أثارت قضايا ضمن السنوات الخمس الأولى من البعثة ؟ حينما نعود إلى استحضار ما نصصنا عليه من الأمور التي يدور حولها القرآن المكي ونتعرف على قضية الرسالة وما يتفرع عليها من مشكلات أثارها الحجاج المكي والجدال المكي لا نستغرب وجود الفاتحة ( أي فاتحة السورة ) في هذه السورة المبكرة زمنياً .(/1)
لقد كانت للمشركين ردود أفعال متباين ومختلفة حول ذلك ، أرأيت الذي يحاصره خطر داهم يريد أن يأتي عليه ، كيف يحاول أن يتملص من هذا الجانب أو ذاك ، كذلك حينما واجه محمد صلى الله عليه وسلم الأمة العربية وعلى وجه الخصوص المجتمع المكي القرشي كذلك أُخذت عليهم الأمور وعميت عليهم السبل ، فهم تارة يدفعون عن أنفسهم بهذه الحجة وتارة يثيرون في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المشكلة .. حينما قال لهم : أنا رسول الله إليكم وإلى الناس جميعاً ، أثاروا في وجهه مشكلة الصلة بين الإنسان وعالم الغيب ، وأثاروا في وجهه مشكلة مبرر الاختيار ، لماذا أنت من دون الناس ، ألم يجد الله غيرك يرسله إلى الناس ، فكان من مقالتهم ( لولا أُنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) لو أن الرسالة تنزلت على عظيم من عظماء مكة أو الطائف وهما البلدتان الأشهر في المجتمع العربي الجاهلي ، لو أن الرسالة جاءت إلى رجل من هاتين القريتين لكان مبررة ومعقولة ، ولكن أنت اليتيم والفقير تأتي بهذه الرسالة العظيمة على الأشياخ من قومك ، هذا شيء غريب ، وهناك مشكلات أخرى لا داعي لذكرها .
فكما أن القرآن الكريم يتولى تفنيد حجج المشركين والرد عليهم ويبرز من خلال ذلك مكانة النبي صلى الله عليه وسلم والمبررات التي جعلت الله جل وعلا يختار هذا اليتيم الفقير من أهل مكة ليختصه برسالته ، والله تعالى يقول ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فالأمر ليس إلى الناس ، والمسألة ليست مسألة مجاملات ومودات ولكنه اصطفاء من الله ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) والاصطفاء قائم على مبررات كاملة والمعقولة في علم الله جل وعلا وأمام العقل البشري أيضاً .
هذه المشكلة أثيرت من زاوية معينة في فاتحة سورة النجم ، أشارت السورة إلى ما كان في الإسراء والمعراج ولكنكم ترون أن السورة لم تتعرض لتفاصيل الإسراء والمعراج وأن الإسراء اختص بالقرآن بسورة خاصة سميت بهذا الاسم هي سورة الإسراء تحدثت عن هذه المعجزة الخالدة ، لكن فاتحة سورة النجم أخذت جانباً آخر .(/2)
( والنجم إذا هوى ) والجمعة الماضية تحدثت إليكم عن الإيحاءات التي يحسها العربي صاحب اللغة المتمتع بالفطرة السليمة والسليقة السليمة حينما يأتيه الكلام الإلهي المعجز بلغته التي يتحدث بها يومياً ، تحدثت إليكم عن ماذا يحس الإنسان العربي حينما يسمع القسم بالنجم ، الله تعالى أقسم في سور عديدة قسماً مجرداً ، قال ( والسماء والطارق ) ولم يذكر شيئاً من أوصاف السماء فبحسب قارئ القرآن أن يلتفت ذهنه إلى هذا البناء والسقف المحفوظ لكي يدرك عظيم صنع الله وهو المراد في هذا الموطن . ولكن المراد في فاتحة النجم غير هذا ، المراد به أن يلفت النظر إلى ضلالة العرب حينما كانت تعبد النجوم فقال لهم ( والنجم إذا هوى) أقسم بالنجم ليس مجرداً وإنما موصوفاً بالهوي والتغير والانحدار والحدوث لكي يترك هذا الإشعاع اللطيف الذي ينفذ إلى الحس ويأخذ بمجامع النفوس حين يشير إلى آلهة من آلهة العرب تعبدها من غير استحقاق ومن غير جدارة ، وتعبدها لماذا ؟ لأنها بعيدة فقط ومتعالية عن أن تنالها اليد في ذلك الزمان . ولكن الأمر انتهى عند هذا الحد ليسوق الله تعالى الحديث في اتجاه قضية النبوة وهي إحدى القضايا الرئيسية التي عُني بها القرآن المكي ، قال لهم ( والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) وشديد القوى هنا يشار به إلى جبريل عليه السلام ( ذو مرة فاستوى ) المرة أي القوة ، والأصل في المرة الحبل يُفتل فتلاً شديداً حتى يقوى فيقال : استمر مرير فلان أي مضى في الأمر الذي هو قاصد إليه بحزم وعزم وقوة ، فالمراد بذي المرة ذو القوة ( ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ) إلى هذا الحد من الآيات تكون فاتحة السورة قد عرضت علينا عدداً من القضايا ، أول هذه القضايا تبرئة محمد صلى الله عليه وسلم مما اتهمه به المشركون ، فالمشركون قالوا عنه أنه كذاب ومجنون وشاعر وساحر وكاهن وقالوا إن هذا الذي يأتي به أساطير الأولين أي كلام من الخرافات التي ترويها العجائز فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ، وقالوا إنما يعلمه بشر من هؤلاء الذين لفظتهم دولة الرومان فجاءوا مشردين إلى الجزيرة العربية يسكنون هنا وهناك فرد الله عليهم قائلاً ( لسان الذي يلحدون إليه ) يتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) فلو أنك ضممت كل هذه التهم التي ألصقها الجاهليون بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان حصيلتها أن من يتصف بهذه الأوصاف جميعاً هو ضال ومتقول ومفترٍ ، نزه الله تعالى نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم من مطاعن المشركين بصياغة لا بد أن يلتفت إليها الإنسان ليدرك إعجاب القرآن وليدرك البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق وليدرك أن قصارى ما يبلغه طوق البشر أن يشموا شيئاً من روائح هذه البلاغة المعجزة . لاحظوا ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ما قال ما ضل محمد ، وما قال ما ضل عبدي ، وما قال ما ضل رسول الله ، وإنما قال : ( ما ضل صاحبكم ) بهذه اللفظة المفردة التي هي صاحبكم أثيرت المشكلة على صعيد الواقع وهو أجدى الأصعدة التي تُثار عليها المشكلات ، من محمد ؟ أنتم الآن تماروا وتجادلون في صحة وأحقية هذا الذي يأتيكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتجهلونه يا معاشر العرب ؟ أليس محمد هو اليتيم الذي ولد لعبد الله ، ثم ماتت أمه وجده ثم تُرك لمعضلات الحياة ومشكلاتها ؟ وهو الذي عاش بينكم أربعين عاماً ليس يوماً ولا يومين ولا سنة ولا سنتين وإنما هي أربعون عاماً ، صرفها بينكم يا معاشر المكيين فهو صاحبكم تعرفونه كما يعرف الصاحب صاحبه ، ليس غريباً عنكم ، في كل مراحل حياته أخذتم معه وأعطيتم ، أجرّبتم عليه كذباً ؟ هل رأيتم عليه في كل مراحل حياته صبوة أو كبوة ؟ هل لاحظتم عليه شيئاً من اختلال العقل أو ما شابه ذلك ؟ لا من هذا ولا من ذاك . يرحم الله أبا العلاء لقد كان يدرك أن الإنسان إذا قطع أشواطاً من عمره حتى جاوز مرحلة معينة فلا خوف عليه ، كان يقول :
وما بعد الأربعين صباء
ما بعد الأربعين انحراف إلا عند هؤلاء المسوخ التي يستعبدها الشيطان . تجارب الحياة الطويلة تعيب عليه أن يفعل ما يعيب ، بل تجعله أن يتوقر .(/3)
ولهذا نجد الله تعالى يكشف الحقيقة عارية حينما تزايدت تهجمات المشركين على محمد صلى الله عيه وسلم وهو بشر يأخذه ما يأخذ البشر من ألم نفسي ، ولكن الله قال له ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) كل واحد منهم فيما بينه وبين نفسه لا يجرؤ على أن يقول إن محمداً يتورط في الكذب ، بل أشرافهم حينما كانوا يجلسون في منتدياتهم كانوا يستعرضون أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقرون بأنه الصادق الأمين ، بل أين نحن من زمن سوف يأتي بعد سنوات من الخصومة قامت على أشدها بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، والمشركون قبل الرسالة يعرفون صدق محمد وأمانته ، فما منهم من أحد عنده شيء نفيس يريد أن يحافظ عليه إلا ذهب إلى محمد ووضعه عنده . أثناء اشتداد المعركة معهم يقولون له إنك كاذب أو شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون ..ولكن أحداً منهم لم يفكر مطلقاً في أن يقول له : هات وديعتي التي عندك فإنك كذاب . ما قالوا هذا ، حين عزم محمد صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة كانت ودائع المشركين عنده وقد خلّف الرسول صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه حتى يردّ هذه الودائع إلى أهلها . فشخص محمد صلى الله عليه وسلم فوق الريبة والشكوك .
( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ولكن قد لا يضل الإنسان ، يمشي في الدنيا مستقيماً ولا ينحدر إلى رذائل الأخلاق ، ولكنه من ذات نفسه ، بمحض تصوراته .. وهنا فارق أساسي وجوهري بين النبي وغير النبي . النبي مرسل أي مؤتمن ومبلغ ، والمبلغ لا يتقوّل وإنما يوصل ما أُرسل به لا أقل ولا أكثر ، فالله تعالى أبرز الوصف الثاني برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( وما ينطق عن الهوى ) هذا الذي يقوله لكم ويجاهر به أمامكم ليسن من كلام محمد ولا تصوراً من تصورات محمد ولا تفكيراً من تفكيره ولا شيئاً من هواه ، نحن كما بشر نحب ونكره ويروق لنا أن نوصل الخير إلى من نحب ، وقد نُدخل هذا الخبر اللذيذ أن نلحق الشر بمن نكره ، ومن هنا فالإنسان العادي إن لم تصحبه عناية الله من جهة ، وإن لم يكن رقيباً عليها فإن هذه العواصف المتضاربة التي تعتري الإنسان لا بد أن تنعكس على سلوكه ، محاباة ومجاملة أو تحاملاً وعنفاً على الأعداء . إلا أن الرسالة شيء آخر ، هناك فاصل حاسم بين الرسالة التي جاءت من خالق الكون لتنظم شؤون الكون إلى آخر عمر الكون وبين تصورات المخلوقين ، نحن فيما يتعلق بتصورات التي عاشت على البشرية وما زالت تعيش ما نزال قانوناً ينسخ قانوناً وشريعة تنهي شريعة واتجاهاً يدمدم على اتجاه ، ما معنى هذا ؟ الناس هم الناس ، الإنسان رأسه في أعلاه ورجلاه في أسفله ، لم يتحول ويمشي على رأسه ويفكر برجليه ، والإنسان يمشي رجليه لم يتحول ليمشي على أربع ، منذ أن خلق الله سيدنا آدم الإنسان لم يغير شيئاً في جوهره ، والملكات النفسية والأشواق الروحية والتصورات العقلية هي نفسها ، فإذا كان المخلوق البشري هو نفسه منذ أن خلقه الله فما الذي يبرر اختلاف النظم من وقت إلى وقت ، من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان . الذي يبرر هذا فعلاً هو أن الإنسان إن لم يكن مرتبطاً بوحي الله جل وعلا يفيء إليه حين تختلط عليه السبل والطرق فإنه سوف يتأثر لا محالة بهذه النوازع التي توجدها في داخله الظروف والأحوال التي يعيش فيها .
لو أننا تركنا الناس يفكرون لأنفسهم فالإنسان يحب ذاته ويحب قريبه وأصدقائه ، والإنسان يكره أعداءه ويريد أن يلحق الضرر بهؤلاء الذين ألحقوا به الأضرار ، فساحة الحياة حين تُترك بين يدي الإنسان لن تكون أقل من ساحة حرب أو ساحة وحوش ولن تكون النتيجة أقل من مجازر هنا وهناك . التفتوا إلى الماضي البعيد أو القريب في التاريخ كله فأنتم تعثرون على النتائج الوخيمة التي وقعت فيها البشرية من وراء احتكامها إلى تصوراتها وأهوائها ومن وراء نبذها لكلام الله تعالى .(/4)
فالرسالة جوهرها الأساسي وهي تعرض الآن على المكيين المكذبين لتحدث تغييراً جوهرياً في حياتهم وحياة المجتمع البشري تعزل منذ بداية الطريق عاطفة الرسول وهواه ورغبته عن حقائقها النازلة وحياً من الله جل وعلا . الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه يغضب كما يغضب البشر فإذا حدّث الناس عن شيء من شؤون دنياهم أنتم أعلم بشئون دنياكم . أنتم تستطيعون أن تفلحوا وتزرعوا ، وبالتأكيد أي إنسان من المسلمين في ذلك الزمان كان يعرف من أمور الزراعة أكثر مما يعرف محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء مرة في المدينة فوجدهم يلقحون النخل ، قال : ما تفعلون ؟ قالوا : نلقح النخل . قال : ما أظن أن هذا يغني شيئاً . هذا رأيه ، لو لم تلقح النخلة لأثمرت ، هذا ما تصوره الرسول صلى الله عليه وسلم ، فترك المسلمون التلقيح ، فجاء التمر غير كامل النضج . فلما رأى ما رأى صلى الله عليه وسلم قال لهم : ما حدثتم عن أمر دنياكم فأنتم أعلم بشئون دنياكم ، وما حدثكم عن الله فإني لا أكذب على الله . فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتقوّل ولا يقول من عنده شيئاً ، والله تعالى يخرج هذه القضية مخرج التهديد المرعب لرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ، فما منكم من أحد عنه حاجزين ) مسألة التقوّل على الله غير واردة في سلوك الأنبياء .
نحن المسلمين يتكرر فشلنا ، لماذا ؟ لأننا لم نملك بعدُ القدرة الضرورية على أن نعزل عواطفنا وأهواءنا عن ميدان الدعوة . الدعوة توجه إلى العدو والصديق بمنتهى اللطف والرغبة في أن يأذن الله جل وعلا لهؤلاء الناس أن تتفتح مغاليق قلوبهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث علياً إلى اليمن أوصاه : لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت . فالمهم أن يهتدي الناس ، وليس أن نتشفى من الناس . والمهم أن يتعرّف الناس على طريق الله وليس أن نسفك دماء الناس . ولهذا فهذه القضية عرضت بهذا الإيجاز ( وما ينطق عن الهوى ) شخصه معزول ، رغباته معزولة عن المجال الوحي ثم يصف هذا الكلام ( إن هو ) بهذه الصياغة التي تدل على أشد النفي والإبعاد ( إن هو إلا وحي يوحى ) هذا الكلام إذاً وحي من الله ، والوحي عرضنا قبل اليوم في ما مضى ، لكن هذا الوحي حينما يتحدث عنه القرآن في هذه السورة يأتي الحديث مقروناً أو مشحوناً بما يلمح إلى ادعاءات المشركين ، نحن نقتطع من القرآن شريحة ، هذه الشريحة ليست شيئاً جامداً وإنما هي تعبر عن واقع المعاش عن فترة زمنية عاشتها الدعوة المحمدية ، عن أناس تحركوا خلالها وانفعلوا بأحداثها وتركوا بصمات عليها ، هذه الشريحة لا يمكن أن تكون موعظة معزولة عن الواقع ، ولكنها كلام يتصل بالواقع ولكنه اتصال الذي يحتاج إلى الذهن اللماح الذي يستطيع أن يدرك نوعية هذه الصلات ، قال المشركون إن محمداً صلى الله عليه وسلم يتسقط الأخبار والأحاديث من الذين يعرفون أخبار الفرس والروم أو من أهل الكتاب ، فجاء الكلام بأنه ( علمه شديد القوى ) وإنما هو من طريق جبريل عليه السلام ، طريق الملك الذي هو الصلة بين الله جل وعلا وبين من اصطفاه تبارك وتعالى لأداء الرسالة . هذا الملك ربما يقع في تصور الناس أنه مخلوق كنحن ولا غرابة ، فالإنسان في تصوراته محكوم بواقعه ، بحالته التي هو فيها بشرائط الدنيا ، ولهذا فنحن حينما نستعرض الساحة الدينية في العالم القديم نجد أن الأمم القديمة الوثنية حينما نحتت أصناماً آلهة نحتتها على شكل الآدميين ، جسم إنسان ربما يزيد فيه ذنب سمكة أو أجنحة لكي يشيروا إلى تمييزه عن الناس ، ولنه على الجملة وفي الأساس على التصور البشري جاء ، فالإنسان لا يستطيع أن يتصور المغيبات إلا انطلاقاً من ذاته وشخصه ومن معطيات هذه الذات فقط ، فالإنسان قد يتصور الله على صورة إنسان وهذا خطأ ، وقد يتصور جبريل على صورة البشر وهذا خطأ ، والبشر يخضعون إلى هذه الحالات من الضعف كل هذا خطأ ، وإنما هو شديد القوى ، هذا الملك قوي على أمر الله جل وعلا لا تحيط به عقولكم ، لأن أبصاركم لا تدركه .
( ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ) أي أن جبريل عليه السلام قوي مستوٍ بالأفق الأعلى حينما جاء إلى محمد صلى الله عله وسلم بهذه الرسالة ، حينما نضع هذه الآية إلى جانب الآية الماضية ( وما ينطق عن الهوى ) تكتمل صورة التفريق بين ما يريد الإنسان وما يريده الله جل وعلا ، أولاً : طبيعة الوحي أنه معزول عن رغبات البشر ، ثانياً : الذي يحمل كلام الله مخلوق مستوٍ في أفق السماء ، والموحى إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم البشر الذي تختلف طبيعته عن طبيعة جبريل . فترون القضية متشابكة .(/5)
( ثم دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ) أي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) هنا نصل إلى نهاية السورة تقريباً التي صورت قضية الوحي ، أبرزتها للمؤمنين كي يزدادوا إيماناً إلى إيمانهم ، وقربتها للمشركين لكي يفيئوا إلى أمر الله ولكي يدركوا أن القضية على خلاف ما يتصورون كما وقع في أخيلتهم وأذهانهم ، وإنما هي عملية قادر مقتدر رتبها الله جل وعلا لتكون بلاغه الأخير إلى الناس .
حينما تصل الآيات في التشخيص والتصوير هذا الحد يلتفت الخطاب لا إلى أحد ، وإنما يُترك مطلقاً ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ليس ضرورياً أن يوجه هذا الخطاب إلى المشركين ، وليس ضرورياً أن يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا إلى المسلمين ، إن القضية عُرضت بمبرراتها الكاملة ، وعُرضت بحججها الحسية والعقلية ، فإذاً تُركت القضية مجردة ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) إن قلب محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع به من تصديق لأمر الله جل وعلا لم يكن كاذباً ولم يكن زائغاً ، وإذا كان الأمر كذلك فسينصب الخطاب إلى المشركين ( أفتمارونه على ما يرى ) أتكذبونه بهذا الشيء الذي رآه ، إننا أمام شخصين مثلاً : شخص يتمتع بقدرة بصرية خارقة ، وشخص آخر ضعيف البصر ، الذي يتمتع بالقدرة البصرية الكاملة قد يرى الشخص يتحرك على بعد عدد كبير من الأمتار ، والذي يتمتع ببصر ضعيف لا بد أن تناوله الشيء مناولة ، حينما يقول صاحب البصر الممتد : أنا أرى من الجانب الثاني من النهر خيال شخص ، يأتي صاحب البصر الضعيف ويقول له : لا . نقول له يا هذا الزم حدك . إن المجال ليس مجالك ، هذا يرى وأنت لا ترى ، والأعمى ليس حجة على المبصر ، فما دام الأمر كذلك وما دام محمد صلى الله عليه وسلم رأى من أمر ربه ما رأى واطمأن إلى ما رآه وكان بشهادتكم صادقاً فيما يقول فلماذا تكذبونه فيما رآه ؟ ( أفتمارونه على ما يرى ) .(/6)
( ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ) هنا جاء الحديث عن الإسراء والمعراج ، لأن محمد صلى الله عليه وسلم لم يرَ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها إلا مرتين ، مرة وهو في حراء ، ومرة في المعراج ، أول ما جاء إليه الوحي وبعد أن فتر قليلاً وذهب محمد صلى الله عليه وسلم ليتردى من الجبال حزناً على هذا الوحي الذي فتر عنه تبدى له جبريل عليه السلام ، ناداه : يا محمد ، قال : فالتفت يميناً فلم أرَ شيئاً ، والتفت شمالاً فلم أرَ شيئاً ، وأمامي وخلفي فلم أرَ شيئاً ، فتكرر النداء فرفعت طرفي إلى السماء فإذا جبريل ساد بجناحيه أفق السماء ، فجفلت رعباً ، فطمأنه جبريل عليه السلام وقال له : أنا جبريل وأنت رسول الله . هذه هي المرة الأولى ، والمرة الثانية التي أشار إليها القرآن بهذه السورة ( ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ) في الرحلة العجيبة في الإسراء التي أُسري به من مكة إلى بيت المقدس وعُرج به إلى السماء إلى حيث ينتهي كل مخلوق ، إلى سدرة المنتهى التي لا يعرف وصفها إلا الله جل وعلا ، هناك أيضاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بصورته التي خلقه الله عليها ، قال : لقد رأيته وله ستمائة جناح . الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين ، أما المرة الأولى فمفهوم أن يشار إليها ، وأما المرة الثانية فما مبرر الإشارة إليها ؟ من هذه الزاوية الضيقة ولكن ليس لنا غيرها نستطيع أن ندخل إلى تأطير فاتحة السورة في هذا الجو المكي المبكر ، إن الكلام ينصب على أمين الوحي فهو جبريل وهو القوي والأمين وهو الذي رآه في الأفق الأعلى ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى وذلك في حادثة الإسراء والمعراج ، فالإشارة إلى ما كان في الإسراء والمعراج ليست مقصودة بالذات وإنما هي مقصودة تبعاً لكي تزيد من الظلال التي توقع القناعة في النفوس بقوة أمين الوحي وبقدرته على إبلاغ كلام الله جل وعلا إلى الناس ، خذ إليك ما شرحناه الآن تجد أن فاتحة السورة من أولها إلى الحد الذي انتهينا إليه يتحدث عن موضوع النبوة . وموضوع النبوة من الموضوعات المبكرة في الدعوة ، بل لعل موضوع النبوة أسبق الموضوعات جميعاً التي أثارها المشركون في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هنا دخلت فاتحة السورة بإشارتها إلى ما حدث في الإسراء والمعراج دخلت في جسم السورة دخولاً طبيعياً أنيقاً هيناً ليناً معجباً معجزاً ، وهذا هو الذي يجب أن يلتفت إليه دارس القرآن . القرآن نزل ليخاطب جملة الملكات الإنسانية ، ليس فقط يخاطب عقلك ، ولكن يخاطب عقلك وما فيه من مقاييس ، ويخاطب معارفك ومعلوماتك وما تستدعيه أنت من خزانة ذاكرة وأنت تقرأ الكتاب ، ويخاطب أحاسيسك ومشاعرك ، ويخاطب قلبك أي يخاطب الكينونة البشرية بكل ما فيها من قوى ومواهب وإمكانات وحوافز ودوافع ، فالإنسان الذي يقرأ القرآن إذا لم يكن مقبلاً عليه بكل ما فيه من طاقة وقوى وإمكانات لا يمكن بتاتاً أن يفيد من هذا الكلام الإلهي إلا كما يفيد الإنسان الذي يمر فيسمع لغواً من لغو الحديث لا أكثر ولا أقل . فاتقوا الله في قرآنكم ، واقرأوه كما ينبغي لكم أن تقرأوه ، وثقة أحدثكم ـ وهذا من التحدث بنعمة الله جل وعلا ـ أنا الآن في الخمسين من العمر ، وما أعرف بين أصحابي من حصل من العلم ما حصلت ، عمري كله دراسة ، كنت أقرأ القرآن وأنا طفل ، وقرأته بعد ذلك في الليل والنهار ، وأشهد صادقاٌ غير متواضع تواضعاً زائفاً أنني أقرأ القرآن اليوم على غير ما كنت أقرأه من قبل ، وأنني في السنتين أو الثلاثة الأخيرة أصبحت أذوق للقرآن طعماً حينما أتذكر أيامي الماضيات أشعر بالمرارة في حلقي ، لماذا لم أذق هذا الطعم قبل اليوم ؟ لماذا لم أُدرك هذا العالم قبل اليوم ؟ قدّر الله وما شاء فعل ، وها نحن نعيش مع القرآن عيشة من يتطفل على مائدة القرآن ، فاقرأوه إذاً بهذا الشكل . إذا كنتم تريدون أن تستفيدوا من هذا القرآن المعجز وإلا فدعوه ، إنه لن يغني عنكم شيئاً ، لأنه لن يزكي لكم نفساً ولن يقوّم لكم سلوكاً ، وإنما الذي يستفيد من القرآن هو من يعطي كله للقرآن . فعيشوا مع القرآن بكليتكم ثم انتظروا بعد ذلك مدد ربكم جل وعلا فسيفتح عليكم ، والإنسان حينما يلتجئ إلى الله يفتح الله له منافذ من العلم ما كانت تخطر له من بال .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.(/7)
تفسير سورة النجم
الجمعة 22 صفر 1397 / 11 شباط 1977
( 4 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
لعل اليوم نستطيع أن ننهي الكلام عن سورة النجم ، ولولا أن مشكلة من المشكلات استغرقت جانباً من هذه الأحاديث لكان منظوراً للكلام على السورة أن ينجز قبل اليوم ، ولكننا اغتنمنا الفرصة ونحن عازمون على أن لا نفرط إن شاء الله تعالى في فرص من هذا القبيل لكي نتعاون على الوصول إلى فهم أفضل لكتاب الله تعالى .
كان مما شغلنا به أنفسنا في الجمعة الماضية عود على فاتحة السورة الكريمة ، ولقد صرفنا في هذا مجهوداً ما أدري هل وُفقنا فيه أم لم نوفق ؟ لكنه على أي حال هو الذي استيسر من القول ومن الفهم جميعاً .
لقد كنا تحدثنا قبل الجمعة الماضية عن فاتحة السورة ، ثم أدرنا الحديث عن الفاتحة بالذات من زاوية جديدة وفي ضوء جديد ، وغرضنا الأساسي أن نلفت قارئ القرآن إلى حقيقة جوهرية وهي أن هذه السورة الذي يضعها بين يديه شيء كامل له صفات وخصائص الكائن الحي الذي يرفض البتر والتجزئة ، وإذا أُريد إليه أن يُنظر إليه بصحة فينبغي أن يُنظر إليه في كليته ، ومن الخطأ بل من الخطل لقارئ القرآن أن لا يحيط بعمومات القرآن ، لأن ذلك سوف يربكه لا محالة ، وسوف يحجب عنه كثيراً مما ينبغي أن لا يحجب عن قارئ القرآن .
لا أذكر فيما قرأت حول سورة النجم حديثاً أبعد المنحى الذي أخذنا به في الجمعة الماضية وإنما جرّنا إلى هذا مزيد من التدقيق في السورة ، وبكل صدق وأمانة أقول لكم إنني حين شرعت أُرتب في ذهني خصائص السورة الكريمة في البداية وأخطط للحديث عنها لم يكن يخطر في بالي أي شيء من هذا الذي قلته في الجمعة الماضية . وأحب أن أغتنم هذه الفرصة لأشير إلى شيء طال حوله التساؤل وكثرت علي فيه الملام ، للأسف حينما تكون الأمة بمجموعها على درجة ليست سارة من الرقي العقلي ومن النضج تستحسن أي شيء ، ولقد يعلم الله أنني أقل الناس اكتراثاً واحتفاءً بهذا الذي أقول ، ولكني أفاجأ دائماً هنا وفي كل مكان من يقول لي : لماذا لا تدوّن هذه الأفكار ولا تكتبها إنها حق الناس عليك . مرة أخرى أستدعي إلى نفسي شعور الأسف ، إن هذا ليس شيئاً يستحق العناية ولا شيئاً يستحق الاهتمام ، ولقد مضى الناس الذين يحق لهم أن يقولوا في القرآن ، إن القول في القرآن شديد ، وإنه لا يتنطّح له إلا من ضرب الله عليه الشقاء وسوء القول ، ولولا أننا في أمة وفي زمن كهذا الذي تعرفون ما كان لهذا الذي نقوله .
كان الناس في الماضي حينما كانت نفوسهم نقية ونظيفة وكان التوجه إلى الله صادقاً أصيلاً وكانت المعرفة بحقائق الشريعة موفورة وكانت الرغبة في الحق هي المحور الذي يدور عليه الناس حينما كان الناس بهذا الشكل ، كان القول في القرآن ميسراً مذللاً مهيأة أسبابه ، ولا تستغربوا فالله جل وعلا يقول ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) ويقول أيضاً ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) فالإنسان حينما يكون على درجة معينة من الصلة بالله جل وعلا فالله جل وعلا يفتح أمامه مغاليق الأمور وينير له معميات السبل ويكشف له عن أبواب من العلم لم تكن تخطر له ببال ، ونحن لسنا هكذا ، لا تقاة ولا ورعاً ولا علماً ولا إحاطة ولا تجرداً من حظوظ النفس ورغباتها ، مع هذا فبالمعاناة والصبر وبمداومة البحث والتفكير تنقذف لنا بين الآن والأخرى أفكار ، ربما يجدها الناس جيدة ولكن تأكد أنني أفقد اهتمامي بها لمجرد أن أقولها ، ولو أنني كتبتها لفقدت الثقة بها لمجرد أن أرمي القلم من يدي ، إنني أُلاحظ وأنا أدرس معكم القرآن ووقائع السيرة أنه في مسار الطريق تتكشف أمور لو لم نكن قلنا شيئاً في البداية ثم رجعنا إليه نعاود النظر فيه ونعيد القول ثم نعود إليه مرة أخرى ومرات ما خرج معنا هذا الشيء الذي يجده بعض الناس ثميناًُ ، كيف أستطيع أن أُجاذف في أمر أجده أشق الأمور على الإنسان ؟ كيف أستطيع أن أتعجّل تدوين كلام أن أدرى الناس أو من أدراهم بأنه حينما يوضع بين يدي الأجيال يُقرأ مصحوباً بقداسة الكلمة المكتوبة ما الذي سيتركه من انطباعات ومن آثار ومن نتائج في نفس قراء نعلمهم وقراء لا نعلمهم الله أعلم بهم ، ثقوا يا إخوة بكل أمانة أنني كلما تصورت حالة من هذا القبيل شعرت أني أنسحب ولا أستطيع أن أتحمل هذه المسؤولية ، إن الأمر كبير .
خذي عني وحسبك ذاك مني على ما فيّ من عوج وأمتِ
ولولا أن الزمان منقلب فهذا المكان ليس لي ، بصدق هذا المكان ليس لي لكن زماننا منكوس ، زماننا معكوس . خذوا عنا يا إخوة وجنبونا الملامة وجنبونا الطلبات ، نحن دونما في أنفسكم بكثير ، ولكن الله جل وعلا قضى علينا أن نقف موقفاً لا نريده ، ولوددت والله لو أن بعضكم كفاني هذه المواقف ، وأني وادع مطمئن خالي الذهن من كل هذا الذي يشغله .(/1)
فاتحة السورة كما وضعناها من جسم السورة كانت إذاً من الله حجاجاً في وجه المشركين حول موضوع أساسي من الموضوعات المبكرة التي طرحتها الدعوة وهو موضوع النبوة ، وآيات فاتحة السورة حينما سُحبت لتوضع في سورة النجم فليس لتشير إلى الحادثة البعيدة أي حادثة الإسراء والمعراج ، ولكن لتشير إلى المصدر الذي يتلقى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوحي ولتشير إلى الواسطة التي توصل هذا الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تقوّل إذاً ولا اختراع ولا أهواء ولا تصورات وإنما هو شعاع صادر من منبع حق هو الله جل وعلا ، ثم لا تلقّي لمحمد صلى الله عليه وسلم لا من خرافات الفرس ولا من أساطير العرب ولا من بقايا أهل الكتاب المنتشرين في الجزيرة العربية ، وإنما التلقي من أمين الوحي جبريل ذي القوة المكين عند الله جل وعلا ، فالسورة بفاتحتها لا تضع في اعتبارها تفصيل حادثة الإسراء والمعراج وإنما تضع في اعتبارها بيان أحقية الوحي وكونه صادراً من الله جل وعلا بواسطة الأمين جبريل عليه الصلاة والسلام ، فالسورة إذاً نستطيع أن نقول بعد كل المراحل والأشواط التي قطعناها إنها بالفعل من السور المبكرة في النزول جداً ، وليس صحيحاً أننا كلما عثرنا على آية من سورة تشير إلى واقعة معينة محددة التاريخ أن السورة نازلة في هذا التاريخ ليس صحيحاً هذا وإنما الصحيح أن ننظر من داخل السياق وأن نحاول من مجموع قرائن السورة أن نتعرف سيقت الواقعة بهذا الموضع من كتاب الله جل وعلا ، أمامكم كمثل حي القصص في القرآن ، كم من السور حوت أخبار آدم ونوح وصالح وفرعون وثمود وعاد وموسى وبني إسرائيل .. سور عديدة لا تكاد تخلو من سورة إلا ما ندر من ذكر هذه القصص ، الناظر المتعجل في القرآن يتصور أن ثمة تكراراً ، وهذا خطأ مبين ، في الحقيقة حينما تساق قصة أو واقعة في سورة وتساق هي بالذات بالنص أو تغيير طفيف في سورة أخرى فالغرض مختلف ، الواقعة جاءت هنا لغرض وجاءت هناك لغرض آخر ووظيفة قارئ القرآن هي أن يدرك بالحس اللطيف وباستلهام معلم إبراهيم صلوات الله عليه لماذا سيقت الوقائع هنا وهناك وما هي الأغراض التي عالجتها هنا وهناك ؟ وهذه أعلم أنها مهمة الشأن ، عسيرة وصعبة ، لكن لا بد من المعاناة ، فالذي أريده حقاً هو أن أستنهض هممكم وأن أستثير تطلعاتكم لكي تكون قراءتكم للقرآن مصحوبة بقدر أكثر من العناية . نأتي الآن بعد هذه الملحوظة التي لا بد منها كموعظة لي ولكم ولكل قارئ للقرآن .(/2)
نأتي الآن ونحاول أن ننظر لما تبقّى من السورة ، لكني أريد أن أعيد إلى أذهانكم بعض الآيات التي سبق أن تلوناها ليس لنشرحها ولكن لنستحضرها . حينما واجهت السورة من المشركين من العرب بالتنديد بآلهتهم والعيب لها والانتقاص منها ومنهم قال الله ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، أم للإنسان ما تمنى ، فلله الآخرة والأولى ، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى ، وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، ذلك فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) هذا المقطع تحدثنا عنه ، لكني أريد أن أقف عند آخر شيء منه لأشير إلى موقفين يتباينان ، موقف المؤمنين وموقف غير المؤمنين ، فأنتم ترون من استعراض هذا المقطع من السورة الكريمة أن هذه التصورات والأفكار التي سكنت عقول العرب الجاهليين من قبل سماها الله جل وعلا ظنوناً ، شيء يظنه الإنسان ، يتخيله ويتصوره ، ولكن الله جل وعلا بيّن أمراً جوهرياً ، بيّن أن ميدان الدينيات ليس كسائر الميادين ، نحن نتعامل في الدنيا نأخذ ونعطي ، نشتري ونبيع ، نشق الأرض ونستودعها البذور ، ونضرب في الأرض يميناً وشمالاً ، تصرفاتنا هذه مبنية على حسابات وعلى تصورات وعلى خبرات وعلى تجارب ، لكن هل هذه التصورات معصومة من أن تخطئ ؟ لا ، إنك تشتري السلعة وأنت تاجر وفي حساباتك وظنك أنك سوف تربح كذا وكذا ، وأي تاجر متمرس يتهيّب أن يضع لنفسه رقماً معيناً للربح ، لماذا ؟ لأن عامل الربح تتحكم فيه ظروف متعددة لا تقع تحت الحساب غالباً ولا يمكن التحكم بها في أغلب الأحيان ، ولكن غالب الظن أن الصفقة في الأسواق وأن البيع والشراء يعود على الإنسان بربح معقول ، شؤون الدنيا مبناها على هذه القاعدة ، قاعدة العمل بغالب الظن ، ولولا أننا نأخذ أنفسنا بهذه القاعدة لبطل العمل تماماً ، لأن استخلاص الحقيقة المطلقة القاطعة في أي أمر من الأمور شيء يكاد يدخل في حد المستحيلات . هذا ما يتعلّق في شؤون الدنيا ، ولكن شؤون الدين لا تنبني على شيء كهذا التفكير وهذا التصور ، في موضوع الدينيات لا مجال لشيء غير الحقيقة المطلقة ، لأن موضوع الدينيات موضوع مصير ، لا يتناول وجود الإنسان في الدنيا وإنما يمس مصير الإنسان في الدنيا والآخرة جميعاً ، فالله جل وعلا حينما بيّن لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن هذا الذي تأخذ به العرب ومن نحى نحوهم إنما هو ظنون بين أمرين أو ثلاثة أمور ، كونها ظنوناً وأن الظن غير الحق ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) وأن هذا الذي يقولونه هو مبلغهم من العلم ، هو كل ما يملكون من العلم ، ولو كان عندهم شيء آخر من العلم لأخذوا به ولقالوا بمقتضاه . تدركون الآن ما أعني بتقرير هذه الحقيقة البسيطة جداً ، سأشرح لكم هذه المسألة شرحاً موجزاً .
إن الإنسان أي إنسان ولا تتصوروا أن هذا الوصف مقصور على العرب الذين خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ، الناس جميعاً جبلة واحدة ، تركيب واحد ، وإنما يتباينون ويختلفون وتتعدد مواقفهم تبعاً لظروف هي ناشئة مع نشأة المجتمع الإنساني وليست كامنة في ذات الإنسان التي فُطر عليها ، إن العرب حينما قالت هذا الكلام لم تكن تملك مبلغاً آخر من العلم تقوم به ، إنسان حينما يكون على مستوى علمي وعقلي معين يأخذ هذا الذي هو فيه متأقلماً مع هذا الجو الذي هو فيه راضياً عما وضعه الله جل وعلا فيه ، حينما تأتيه بالشيء الجديد يقع الإنسان تحت تأثير عاملين متناقضين ، عامل الثبات وعامل الجذب ، عامل الوفاء للذي كان عليه وعامل التطلع نحو هذا الشيء الجديد الذي يشعر الإنسان أن فيه شيئاً ما من الحقيقة ، الإنسان مفطور كفطرة على أنه يحب الاستقرار ، يحب أن يكون أليفاً ، يحب أن لا يغير باستمرار ، تلك فطرة إنسانية عامة لا تجد خلافها إلا على ندرة وعلى شذوذ ، والمتنبي كان يعلل خوفنا من الموت بإلفنا للحياة فيقول :
إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مرّ المذاقِ(/3)
في الواقع أن الموت لا شيء فيه ولكن خوفنا من تغيير الجو الذي ألفناه وتأقلمنا معه وانصهرنا بمعطياته هو الذي يصور لنا أن هذا الحال الجديد الذي سنقدم عليه قد لا يكون مريحاً بنفس الدرجة التي نحن عليها الآن ، وهذا في الحقيقة أمر له نتائج بالغة ، الصراع بين الأجيال وفي عصرنا هذا نجد أن الصراع بين الأجيال يبلغ مداه ، والناس يتحدثون عن ثورات الشباب في الشرق والغرب عموماً ، ما سرّ هذا ؟ سرّه أن الشيوخ من الناس يحبون أن يظلوا على ما هم عليه ( ذلك مبلغهم من العلم ) وصلوا إلى مرحلة من العلم معينة فهم بها راضون ، لكن العلم متطور ومتجدد ، الأجيال الجديدة تتلقى من العلم فنوناً وقضايا ربما لا يعرفها الجيل الماضي أو لا يعرف عنها إلا القليل . سأقرب المسألة إليكم أكثر ، الطالب يبدأ الدراسة في المرحلة الابتدائية ويبقى يدرس حتى يدخل الجامعة وينتهي من الجامعة ، فإذا انتهى من الجامعة ووضع الشهادة في جيبه ذهب يطلب الرزق من الله جلا وعلا ، قلما يلتفت إلى أن يزداد علماً ، إنه يعرف أن العلم متطور وأن الدنيا تضيف الجديد في كافة العلوم ، لكنه يرى أن المرحلة العليا من الدراسة تكفيه ، الأشياء الجديدة لا يعرفها هو كما يجب وإنما سيعرفها الجيل الذي سيليه ، والجيل الذي يليه يفعل نفس الأمر وهكذا ... هنا نجد أن الإنسان الذي بلغ من السن مرحلة عالية قلما يحسن التعرّف على قضايا الأجيال المعاصرة ، فمن هنا ينشأ الصراع بين الأجيال ، جيل يريد أن يبقى محافظاً على الذي هو فيه ، وجيل يريد أن يغير لكي يتلاءم مع مقررات العلم ، ويقيناً لو أن التفاعل كان حقيقياً بين الأجيال لانتهت هذه النقيضة الملحوظة ، ولكن الأمر كما نرى حتى الآن كما صوّره المتنبي حينما صوّر صراع الأجيال فقال عن الدنيا :
تملكها الآتي تملك سالب وفارقها الماضي فراق سليب
بين الجيلين صراع ، أحدهما محكوم عليه أن ينهزم بالحسرة ، والآخر محكوم عليه أن ينتصر بكل مشاعر الظفر ، والسبب في ذلك كما قلنا هذه الحقيقة البسيطة .
إن الإنسان حينما تُكشف له آفاق العلم على غير الوجه الذي كان عنده ، بإضافات أخرى ربما يعارضك ، ربما يتأبى عليك ، ربما يرفض هذا الذي تقوله له ، ذلك مبلغه من العلم ، ولهذا ألحق الله جل وعلا ( إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) لماذا قال الله هذا الكلام في هذا الموضع ؟ لو أننا نعيش ضمن مقررات البشرية ، لو أننا نعيش في ظلال إنسانية ، لو أننا نتحرك من منظور تقدمي ، لكان الكلام على غير هذا الشكل ، ذلك مبلغهم من العلم صحيح ، ولكن ليس ربك أعلم بمن ضلّ عن سبيله ولا هو أعلم بمن اهتدى إنما اغسل المخ ، اسحل الناس ، اقتل كل الذين يخالفونك في الرأي . تلك رعونة الإنسان ، ضيق صدر الإنسان وتعجله ، ضيق أفق هذا الإنسان . لكن الذي يتحدث هنا هو الله الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركّبك ، الله هو الذي أودع فيك القوى والحوافز والمواهب ، الله الذي يعرف بأية قوانين تتشكل قناعاتك وتتمّ تصوراتك وتستطيع أن تبني لنفسك ما تريد ، الله الذي خلقك هو أعلم بك ، يعرف أن مسألة القناعة ليست شيئاً يصب في الدماغ على شكل حقن ، وليست شيئاً يُدخل إلى قلوب الناس بالقهر والغلبة والعنف والعنفوان ، ولكنه التراكم ، تراكم الأشياء والقناعات والخبرات والتجارب العقلية هو الذي سوف يولّد قناعاتك . خذ مثلاً وكثيراً ما نرى هذا إنساناً منغمساً في الفسوق من فرقه إلى قدمه ، يشرب الخمور ويزني ولا يتورع عن الموبقات ، نرى نماذج من هذا القبيل فإذا نحن نستيقظ في الصباح وإذا هذا الأخ المفترى في المسجد ، نتصور أن الأمر عبارة عن كهرباء مسّت الإنسان أو شيئاً كما يقول ابن الرومي :
إن للحظ كيمياءً إذا ما مسّ كلباً أحاله إنسانا(/4)
لا ، الأمور ليست كما تتبدى وتظهر ، هذا الإنسان الذي تراه الآن انقلب في طرفة عين من إنسان فاسق فاجر إلى إنسان تقيّ ملازم للمسجد ، هذا الإنسان أنت لم ترَ منه إلا الظاهر ولم ترَ منه إلا القشر فقط ، أما ما يدور في عالمه الداخلي من صراع ومن تناقض ، وأما ما يديره بينه وبين نفسه من حوار ومن أخذ وعطاء فكل ذلك مغيّب عنك . نتائج هذا هو هذه النقطة التي انفجر عندها التكوين الفاسد لكي يولّد الإنسان التقي المستقيم ، هذا الإنسان عشرات الأيام وربما الشهور والسنين وهو يخوض معركة قاسية مع نفسه في غاية القسوة . كثير من الناس واسألوا الفساق وحدثني كثير منهم ، واسألوا الفجرة وحدثني كثير منهم ، اسألوا الزناة وحدثني كثير منهم ، والله إن بعض الزناة رووا لي أنهم يزنون فإذا انتهوا من الزنى بصقوا على أنفسهم ، هو إنسان مغلوب على نفسه وهو يعرف في الداخل أنه مخطئ ، فهذا الإنسان حين تراه ينقلب بين عشية وضحاها إلى إنسان تقي لم يكن في الأمر شيء معجز ولا خارق ، وإنما أمر إنساني بحت ، لأن الإنسان مهما يكن شقياً أو بعيداً عن الله أو مهم يكن مجرداً من مشاعر الإنسان فهو أولاً حزمة من الأحاسيس ومن المشاعر من القوى ومن المواهب ، ولا تنسَ هذا القبس المقدس ، هذه الجزوة المباركة التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها . الإنسان يرضى بالذي هو فيه وفاقاً لقانون الرضى بالمستوى المعين من العلم ، لكن وظيفة الأديان والشرائع والوحي والرسالة هي أن تفتح باستمرار آفاقاً جديدة أمام ناظريك ، ربما يكون لك موقف ، لا بأس ، سيكون لك موقف بكل تأكيد ، ونحن حين نرجع إلى وقائع السيرة النبوية ونجد أن الله جل وعلا هدى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف من الناس ، ماذا نجد ؟ نجده يقول : ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كان عنده كبوة وتردد . دعني أنظر .. دعني أفكر .. حتى ربيبه علي رضي الله الذي نشأ عنده في بيته حينما فاتحه بالإسلام قال له : دعني أستشر أبا طالب ، أراد أن يستشير أباه . قال صلى الله عليه وسلم : ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد إلا ما كان من ابن أبي قحافة ( أبي بكر الصديق ) فإنه ما عكم عنه ، أي ما تردد ، فبمجرد أن دعاه استجاب له . واحد من عشرات الألوف من الناس ، لأن موقفهم يخضع لهذين العاملين : تطلع الإنسان إلى أن يأخذ بالجديد وإلى أن يكون وفياً إلى مقررات العقل وإلى يكون أن وفياً لقواعد العلم ، ورغبة الإنسان بالمحافظة على الشيء المألوف . هذا التجاذب والتناقض هو الذي أوجب على المسلم وهو يدعو إلى الله جل وعلا أن يتذرع بالصبر وأن يطيل باله ولأن يوسع صدره وأن يذكر باستمرار أن الله جل وعلا جعل قلوب عباده بين أصبعين من أصابعه وأنه يكل الهداية والإضلال إلى أحد من الناس ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وأن وظيفة الأنبياء والمرسلين فمن دونهم البلاغ ولا شيء إلا البلاغ ( إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ارجعوا إلى وقائع تستطيعون أن تضيفوها إلى هذه الحقيقة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم . عمر ، من عمر ؟ هو إنسان أشد قساوة من الصخر ، وأشد جفاءً من الحيوان ، أضلّ من حمار أهله ، عمر هذا هو في الجاهلية ، وحينما بدأت بعض طلائع المسلمين تتحرك للهجرة إلى الحبشة مرّ على امرأة منهم ، قال : أين يا أم فلان ؟ قالت : إلى أرض الله ، والله لقد قهرتمونا وضيقتم علينا . قال : صحبك الله . وكأن المرأة لمست من لهجة عمر ليناً ورقة ، فلما جاء زوجها قالت له هذا الذي قاله عمر لها . قال لها : لعلك طمعتِ في إسلامه ، إن عمر لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب . حينما يسلم حمار أبيه سوف يسلم عمر . لكن عمر أسلم وكان الشديد في أمر الله ، وأسلم وكان الرقيق على المسلمين ، وأسلم وكان يوم الخلافة يقول للمسلمين : إني أضع خدي على الأرض لصاحب الحاجة حتى تقضى حاجته . عمر بهذا الشكل أسلم ولكن بعد صراع وبعد نضال بينه وبين نوازع نفسه استمرت سنين ، النبي صلى الله عليه وسلم يوم نكب النكبة العظمى في أحد ، ورأى ما حلّ بأصحابه من القتل والتمثيل مما لم تتعوده العرب ، إن العربي يقتلك ولكن لا يمثل بجثتك أبداً ، هو رجل شريف حتى وهو يقتل ، العربي شريف ، ومع ذلك فإن أعصاب المكيين انفلتت من بين أيديهم من جرّاء هذا الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم يكتفوا بقتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه مثلوا بجثث القتلى . وحين رأى صلى الله عليه وسلم هذا المنظر المؤلم القاسي أقسم لئن أمكنه الله منهم ليمثلن بهم مثلة ما سمعت العرب بمثلها قط . ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس رئيس دولة ولا زعيم أمة ولا قائد جيش ولا تاجراً من تجار السياسة ولا أفّاقاً من هؤلاء الأفّاقين الذين يصنفون في قاموس السياسيين بين قطّاع الطرق ، محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول ثم هو بعين الله جل وعلا ، إن كلامه محسوب على(/5)
الأجيال ، وإن تصرفاته جميعاً في سجل الإنسانية ، وإن أية زلة من لسان سوف تجرّ وراءها ما لا يحصى من الخطأ والزلل . ولهذا فالله جل وعلا أنزل عليه في هذا الموقف الهائل وهو بين الآلام والأحزان والدماء والدموع ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) وبالفعل حين نتتبع تراجم رجالات الإسلام نجد أن هؤلاء الذي توعّدهم محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الذين دعا عليهم قد أسلموا جميعاً وحسن إسلامهم وكان منهم قادة الجيوش ، كان منهم خالد بن الوليد الذي أنزل الهزيمة بالمسلمين في أُحد فكان سيف الله الذي سلّه الله على أعدائه من المشركين وكان قائد المعارك المظفرة التي خاضها المسلمون على وجه العموم . وكان منهم أبو سفيان سيد البطحاء الذي فقد عينه في معركة اليرموك وهو يقاتل ويحرض المسلمين على القتال .(/6)
هذا الكلام الموجز جداً ، مسألة موقف الناس من الرسالة ليست مسألة مبنية على علم ، لكنها مبنية على ظن ، لماذا ؟ لأن الناس بطبعهم يميلون إلى المحافظة على ما ألفوه ، إن تغيير الجو قد يوجد أمام مفاجأة لا تريد أن تواجهها ، فأنت من أجل ذلك تسد أذنيك وتسد عينيك عن رؤية الشيء الجديد ، ولكن على حملة الشيء الجديد وهو هنا هذه الرسالة أن لا يستحسروا أمامها هذا الواقع الإنساني ، عليهم أن يصبروا وأن يثابروا وأن يستمروا في بث هذا العلم الجديد الذي يحملونه إلى الناس ، وأن يطيلوا الصبر ، يتركوا الناس في نزاعهم مع أنفسهم ، إن موقف المسلمين ثابتون على دينهم غير مفرطين في شيء من صغيره ولا من كبيره ، وموقف المسلمين في دعوتهم إلى الله لاجئون إليها في كل وقت وفي كل موقف ، وموقف المسلمين في رقابتهم الصارمة على أنفسهم على مقالهم على تصرفاتهم معوان خير معوان على أن تكون دولة المستقبل لهذا العلم الجديد الذي ينسخ الظن الذي كانت فيه الجاهلية . إننا نريد أن نؤكد على هذا الكلام ونؤكد عليه لماذا ؟ نؤكد عليه لأننا حقاً نعيش عصراً لا أعرف في العصور أكثر وقاحة منه ولا أكثر جرأة على مقررات العلم منه ، إنك تأخذ مسلوكاً شيوعياً قذراً جاهلاً أحمق أرعن فتراه يقول لك إن الإسلام ينافي العلم وإن جميع ما جاء من عند الله جل وعلا هباء وخرافة وإن قضايا العلم ومقررات العلم تقول خلاف ذلك . هل نسي هؤلاء الناس وأشباههم كثير وكثير أكثر من الدود هل نسي هؤلاء أن فتنة العقل البشري بالعلم مضت عليها مائة سنة ، وأن العقل البشري يوم كان يقف في القرن الثامن عشر ليدل بما وصل إليه من مخترعات ومكتشفات تصاغر الآن ووضع خده على الأرض وأن كل شمس تطلع في كل يوم تضيف إلى مجهولات الإنسانية مجهولات كثيرة يقف العلم أمامها عاجزاً ، هل نسي هؤلاء الناس ذلك ؟ هل نسي هؤلاء الناس أن مقررات المذهب الماركسي الشيوعي الوسخ أصبحت شيئاً يجب أن يُلقى في مزبلة التاريخ ؟ هل نسي هؤلاء الناس أن ما يتعاجبون به اليوم من مقررات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر أصبحت أحاديث خرافة ووهماً من الأوهام ؟ هل نسوا جميعاً أن العلماء اليوم أكثر تواضعاً مما كانوا من قبل ؟ هل نسوا جميعاً أن العلماء اليوم هم يقولون أن العلم يصف ولا يفسر ؟ هل نسي هؤلاء أن العلماء اليوم هم الذي يقولون إن العلم برمته وبجملته جملة من الحقائق والمشاهدات التي نوضع بعضها إلى جانب بعض ويستخلص منها قانون قد يُخرق وقد لا يُخرق ولكن من يحرك القانون ؟ من الذي أوجد الظاهرات ؟ ما كل هذه الظاهرات ؟ العلم يقول هذا شيء لا نعرفه . إننا في هذا العصر الذي نُواجه فيه بهذه الدعوى العريضة الوقحة نريد أن نقول للناس : خيّطوا بغير هذه المسلة . خذوا هذا الكلام ، إن العلم ليس معكم ، إن العلم مع القرآن والإسلام ، وإن ما أنتم فيه كما قال الله إنه الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً ، وإن موقفنا وهو موقف هل أقوله لعامة الناس أم أهمس به في آذان إخوتي وأحبابي وأبنائي من الشباب الذين عاهدوا الله جل وعلا على السير في طريقه والدعوة إلى سبيله ، ليكن للفريقين ، إن موقفنا تجاه هذه العجاجة المصطنعة محدد في هذه الآية ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغه من العلم ) إن الله جل وعلا في هذا الكلام الموجز كشف عن أمرين أساسيين حدد موقف الإنسان المسلم بالإعراب وكشف عن العلة التي تحرك هؤلاء الخصوم فأبان أنها إرادة الدنيا ، موقفنا نحن من حيث أننا لسنا جبارين ولسنا مسيطرين ولسنا أوصياء على الناس طبعاً ، موقفنا محدد بأن نعرض على الناس هذا الذي نحمله من أمر الله ومن علم الشريعة ومن حقائق القرآن ومقررات القرآن ( ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ونحن على هذا ماضون ، ولكن الله جل وعلا وضع في أيدينا السلاح ، السلاح الأكثر فاعلية الذي يجعلنا نلمس مكمن العلة في موقف العاندين عن أمر الله على اختلاف صنوفهم وألوانهم ، إنه إرادة الحياة الدنيا ، من يا إخوة لا يعرف أن الإسلام حق وعدل وصدق ؟ من يا إخوة لا يعرف أن قضايا الإسلام هي الحق المطلق ؟ من يا إخوة لا يعرف أن هذا الإنسان هو المنقذ الوحيد للبشرية عموماً من المأساة الرهيبة التي تتخبط فيها ؟ إن جهلتم ذلك فأعداء الإسلام وخصوم الإسلام يقرون اليوم بهذا الكلام الذي نقوله إقراراً لا شك فيه ولا شائبة ولا شبهة . ولكن بين القناعة والعمل دنيا من المشكلات تحتاج إلى الصبر الطويل وتحتاج إلى العناية البالغة ، إن القناعة تكون مستقرة في إذننا ، سلني أليس الله موجوداً حقاً ؟ أقول لك بلى . أليس الله أهلاً لأن يُعبد ويخشى ويتقى ؟ أقول لك بلى . أليس فرض الله عليك أن تصلي ؟ أقول لك بلى . فلماذا لا تصلي ؟ أقول لك متكاسل متهاون وإلى آخر هذا الكلام . سلني لماذا لا تصف قدميك مع العاملين في سبيل الله ؟ لماذا لا تأخذ طريق الله جل وعلا ؟ أعندك في الله شك فاطر(/7)
السماوات والأرض ؟ تقول لا . أعندك شك في صحة مناهج الإسلام وقدرتها وأهليتها على إسعاد البشرية ؟ أقول لك لا . إذاً لماذا ؟ أقول لك الراتب والمعيشة والخوف من السجن .. الزنزانة .. صوت الجلاد وإلى آخر هذا الكلام . فالمسألة كلها إذاً تدور أين ؟ على الدنيا وعلى إرادة الدنيا وعلى شدة الالتصاق بالدنيا ، قد يحاول الإنسان أن يغش نفسه وأن يبتدع ، والإنسان عجيب وصدقوني حينما أقول لكم إن الإنسان عجيب ، الإنسان قادر تماماً على أن يخدع نفسه بشكل لا أغرب ولا أعجب منه ، قادر على أن يسير في الطريق الخطأ ، ثم يُقنع نفسه أنه على الصواب ، قادر على أن يسير في طريق التخريب وهو يقنع نفسه أنه مصلح ، وهذا من المآسي في حياة الإنسان ، ومع هذا فنحن نتوجه إلى عموم الناس انطلاقاً من هذه الآية ، وأرى أنها يشبه أن تكون عقوبة لي من الله جل وعلا كنت أريد أن أنجز السورة الآن فتشبثت بي آخر آية ، جزء أخير من آية تشبثت بي كل هذا الوقت نحن حينما نصل إلى آخر هذه الآية الكريمة ينبغي أن نحدد أنفسنا بالآتي ، وينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن هذا الكلام الذي عرضناه الآن وعرضه الجزء الأخير من الآية ( فأعرض من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغه عن العلم ) يجب أن نعرف أن هذا الكلام كان يُعبّر بدقة وبأمانة عن الواقع المتحرك في المجتمع المكي حينما خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم . موقف المكيين الذين نفروا من دعوة الإسلام وردوها كموقف الناس اليوم الذي يحاربون الإسلام بحجة التخلف والرجعية أو بحجة عدم إمكان التطبيق بداعي أن ثمة أمماً نصرانية يمكن أن تعتصب علينا وأن تسحقنا ، وموقف الجماهير موقف الغوغاء ، هذا الكلام الذي قلته الآن والموقف الذي عرضته الآن موقف الأبالسة أي قمة المجتمع ، أما موقف الجماهير فهو موقف الغفلة والتردي في رذيلة حب الدنيا والالتصاق بالأرض ، والوفاء للطين أكثر من الوفاء لنفخة الله في هذا الإنسان . الجماهير والغوغاء كانت ترى إذا كان أبو سفيان وكان أبو جهل وكان فلان وكان فلان لا يستطيعون أن يقتنعوا بأحقية الإسلام فأين نحن من هؤلاء ؟ وهذا نحن نرى الجماهير تقوله الآن ، الغوغاء .. القمار .. عامة الناس يقولون لك إذا كان فلان الزعيم وفلان القائد وفلان الرئيس وفلان الملك ، لا يستطيعون أن يأخذوا مناهج الإسلام فأين نحن ؟ ما الذي نستطيع أن نفعل ؟ فالمواقف كما ترون متشابهة والآيات تتحرك على أرض واقعية ليست شيئأً يأتيك من فوق ولا شيء يخاطب تصوراتك وتخيلاتك ، إنما هو شيء يعبر عن واقع متحرك ، إذاً فنحن حينما نقف أمام هذا الواقع المتحرك عموماً كإخوة ، وواجب الوفاء للأخوة يتقضانا أن نقول : من ابتدأ فعليه أن يصبر ومع الصبر أن يعرف ، ومع العرض أن يتمثل بهذا الشيء الذي يقوم به ، إن أقْتل شيء بنسبة للدعوات أن يكون قولك شيئاً وفعلك شيئاً آخر ، إنه حينما يكذب الفعل القول فإن الدعوة تنتهي تماماً . فموقفنا أن نصبر وأن نعرض وأن نتمسك وأن نطمئن ، وموقف الآخرين رجاء وإهابة ودعوة ، إن الذي هم فيه من الغفلة عن الحقائق الإسلام ومقررات القرآن شيء لن يطول ، ولكن نرجو أن يساعدونا على أنفسنا ، نرجو أن يكون عندهم هذا التطلع النبيل ، هذا الحافظ الشريف الذي يكون في الإنسان حينما تُعرض عليه دعوة من الدعوات ، والله إني لقادر لو جاءني يهودي يعرض عليّ ديانته أن أنظر إليها بحرية وبأمانة ومن غير حساسيات ، فليكن موقفنا عموماً كذلك ، إننا أمام قرآن وأمام دين وأمام قضية هي نداء الله إلى الناس قاطبة ، لماذا لا ننظر إليها بجدية ؟ لماذا لا ننظر إليها بوفاء عقلي لازم متمم لكرامة الإنسان ؟ نحن نقرأ فلسفة الفلاسفة ومقررات الاقتصاديين ومناهج الساسة نقرأها بإمعان وبدراسة وبمقارنات ونتعب عليها الأيام والليالي الطويلة ، لماذا لا ننفق بعض هذا المجهود أو شيئاً شبيهاً من هذا الاهتمام ونحن ننظر إلى قضايا الإسلام ؟ إن الإسلام دينك ، اعرف هذا جيداً ، كل مسلم يساق إليه هذا الكلام ، الإسلام دينك ، ربما أنت الآن في غمرة وأنت ساهٍ ، تتصور ألا خوف على الإسلام ، ولكن المسألة بالنسبة إليك لم تصل بعد إلى اللحم الحي ، للأسف ، ربما يكون جلدك سميكاً ، ولكن ثق يا محترم أن مجرى الأيام ومجرى الحوادث يسوق إليك الأذى شئت أم أبيت ، إنه سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه بكل الصدق ولكن بفاجعة لا مثيل لها أنك فرقت في أيامك الماضية وأنه كان خيراً لك لو صففت مع إخوانك الذين يسيرون على طريق الله وأنه كان خيراً لك وأجدى لو سددت إذنيك عن دعوات إبليس هذه التي تتعاوى بها الكلاب في الشرق والغرب وأصخت السمع إلى نداء الله جل وعلا ، إنه سيأتي اليوم الذي تجد أمم الأرض فيه جميعاً تقف ضدك ، وهذا يوم ليس ببعيد ، هذا يوم قد لا يطول شهوراً وإن طال أكثر من شهور فسنة أو سنتان . سوف تكتشف من أقصى الأرض إلى أقصاها أن شعوب الأرض جميعاً تعاديك لا لأنك تعيش على(/8)
بحر من البترول ، ولا لأنك تعيش في قمة كنز من الذهب ، لا ، إنها تعاديك فقط لأنك تقول لا إله إلى الله ، إنها تعاديك من أجل الإسلام فقط لأنك مسلم ، ولهذا ترى الزرادشت واليهودي والنصراني والوثني جميعاً يتعاونون عليك ، إن النور عدو الظلمة وإن الحق عدو الباطل ، والله جل وعلا ندبك منذ القديم قال ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) كيف ترون الناس غير المؤمنين يجتمعون جميعاً ليقاتلوكم جميعاً ، كذلك أنتم فكونوا عصبة واحدة مجتمعين تقاتلون أعداء الله جل وعلا ، ومع هذا ومع هذا ومع هذا فأن أريد أن أزيد التنبيه والتكرار إننا وننحن نتجه إليكم بهذا الخطاب وإلى أمتنا المسلمة ، ليكن واضحاً أننا ندعو إلى الله على بصيرة وبينة ، وأن لنا مهمة واضحة ووظيفة محددة هي أن نجهر بهذا النداء الذي امتحننا الله جلا وعلا بأن نكون مؤتمنين عليه ، وأن ندعو الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم إلى طريق الله تبارك وتعالى ، وليس إلينا أن يهتدي الناس ، وليس إلينا أن يشقى الناس ، فذلك إلى الله جل وعلا ، ولا نشجع ولا نرضى ولا نرغب أن يقيم أحد من خلق الله جل وعلا من نفسه وصياً على عباد الله جل وعلا ، فالله جل وعلا هو الولي فقط وأن على الدعاة إلى الله أن يطيلوا الصبر وهم يسيرون في طريقهم إلى الله مع رجاءٍ لا بدّ أن نرجوه من الناس جميعاً أن يزيدوا من مشاعرهم الإنسانية وأن يعلموا أن الجهل يتنافى مع الخصائص الأولى للإنسانية ودعك ، ليكن هذا الإسلام فلسفة الثورة الفرنسية ، ليكن هذا الإسلام شيئاً من تاريخ الثورة الروسية ن ليكن هذا الإسلام بعض من مآثر الثورة الأمريكية ، ليكن أي شيء من هذا ، أنت تقرأ كل هذه الأشياء ، تقرأ تاريخها وتفاصيلها وحياة رجالاتها وتقرأ مبادئها وتحفظها وتستوعبها وتفرع عليها وتحاول أن تقيم على أساسها دولاً ونظماً ، لماذا لا تجرب الإسلام ؟ تراثك .. دينك وديعة الله عندك ، جربها مرة واحدة ، ويحك ما الذي يمسك بك ما الذي يمنعك ؟ جرب أذلك أيضاً ممنوع ؟ أممنوع عليك أن تنظر وتستعمل هذا الصندوق ؟ لا ، ولكن أنت بالتصاقك بالدنيا تنفر من هذا ، فتخفف يا أخي تخفف من هذه الأوهام ، تخفف من هذه الأثقال وشد نفسك إلى الله وأدِمْ قراءة كتاب الله وأسأل الله لنا ولكم وللمسلمين جميعاً إن شاء الله تعالى أن يغرس في قلوبنا هذا الوفاء لدينه الذي يسهل لنا صعوبات الطريق ، وإلى الأسبوع القادم نأمل لم نعد نجرؤ على القول إننا ننتهي أو لا ننتهي من السورة إنما نأمل أن ننتهي من السورة إن شاء الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/9)
تفسير سورة النجم
الجمعة 29 صفر 1397 / 18 شباط 1977
( 5 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فإننا نأمل إن شاء الله تعالى أن نأتي على ما تبقى لنا من سورة النجم ، قضينا في النظر في قضاياها وقتاً لا بأس به ، وكنا في الأسبوع الفائت قد اضطررنا إلى الوقوف عند آيات قلائل من السورة الكريمة ، وإن الذي يشفع لهذه الوقفة الطويلة عند آيات قليلة تجاوبها مع العصر ومسيس حاجة الداعين إلى الله للتعرف على ما تشير إليه وتدل عليه .
وأظن أننا بعد في الجو ، لم يتغيّر علينا منه كبير أمر ، فليس ثمة من شك في كل الذي شرحناه في الجمعة الماضية ، وفي صلة هذا الذي شرحناه باحتياجات الدعوة ، وما يشك أحد في أنه مطابق للواقع البشري غاية المطابقة ، وفي أنه يشكل أساساً طيباً جداً لاعتماد المناهج التي يسير عليها الدعاة إلى الله جل وعلا ، وأذكر أنني لفتّ نظركم في الجمعة الماضية إلى أن هذا الكلام الذي أثارته تلك الآيات القلائل ليست مقطوعة الصلة بمجرى الحياة في ذلك الزمن الذي تنزّلت في هؤلاء الآيات ، بل هي تعبّر بأمانة وصدق عن الواقع المتحرك في ذلك الحين . فليكن هذا مدخلنا إلى الحديث اليوم تكملة وتتويجاً إلى ما عُرض .
سمعتم ربنا تبارك وتعالى يُعقّب على مواقف المشركين واعتقاداتهم وتصوراتهم ، ويصفها بالوصف الذي تستحقه ولا تستحق أكثر منه ولا أقل ، إنما هي ظنون ، والظنون في باب الدينيات شيء لا يجوز البناء عليه ولا الاطمئنان إلى ما يؤدي إليه من نتائج ، ذلك أمر .
وأمر آخر هو أن هذا الموقف الذي أثاره أو وقفه المشركون من الدعوة ومن رسول الله صلوات الله عليه وآله إنما هو مبلغ القوم ومبلغ الإنسانية من العلم، وذلك نافع جداً لأنه يحدد المهمة الأولى أمام محمد عليه الصلاة والسلام ، وأمام الذين يأخذون بطريقه ، إنها طرد الجهل بالعلم وطرد الظلام بالنور ، وتلك مهمة لا يمكن لأحد أن يفكر بتخطيها بحال من الأحوال ، لأنه لو فعل سيكون بانياً على الرمل وعلى غير أساس ، ثم إن هذا الموقف الذي وقفه المشركون ويقفه أشباههم في كل زمان وفي كل مكان ليس شيئاً مقطوع الصلة بالواقع الذي يعيشه الناس ، وليس شيئاً خارجاً على قوانين الاجتماع البشري ، كما أنه ليس شيئاً في صلب الطبيعة البشرية ، وإنما هو مرض إنساني معروف ، أي علة بشرية قديمة هي إرادة الناس للدنيا ، أي تغليب المصالح العاجلة على المصالح الآجلة ، تغليب مرضاة النفس وإوراء مطامحها وإشباع شهواتها ودغدغة عواطفها على ما هو باقٍ وعلى ما هو صحيح وعلى ما هو حقيقي . إن الله عرض المسألة بهذا الشكل كشأنه جل وعلا دائماً وهو يقود المؤمنين في معركتهم الخالدة المستمرة ضد المشركين والمرجفين والمشككين حتى يسير المسلمون على أرض معروفة بالنسبة إليهم وحتى يستطيعوا أن يردوا الظاهرات إلى أسبابها وعللها الحقيقية كي لا يخطئوا فيما بعد ولا يخطئوا في تناول الأمور .
( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) بعد هذا البيان والبلاغ تأتينا صياغة ونحن نراجع سياق السورة تلفت النظر وتشد الاهتمام ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ولا بدّ من أن نخلص النظر إلى الصياغة ، إن الصياغة جاءت معقبة على تشريح حالة كانت راهنة في المجتمع المكي المشرك وهي كما قلنا حالة توجد في أي وقت وفي أي مكان حينما تستدعيها دوافعها وأسبابها ، هذه الحالة حُدد لها بعد التشريح موقف ، على المؤمنين أن يتخذوه ، والموقف المؤسس على القاعدة التي ألمحنا إليها الآن حين يكون موقف الناس منبثقاً عن حدٍ معين من العلم يتأكد بث العلم الجديد وأخذ الناس بقواعده وقوانينه ، ووقفهم مع قضاياه ، مع تجريد المؤمنين من كل عوامل الغرور التي قد تجرّ الإنسان إلى رؤية نفسه وإلى وضعها في غير محلها ، فيتصوّر الإنسان أنه وكيل الله على الناس في الأرض ، وأنه يملك عليهم من السيطرة والسلطان ما يُخوّله حق الإكراه والقسر والإجبار ، الموقف حُدد بناءً على هذه الآساس بأنه الإعراض ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلى الحياة الدنيا ) وبظني أنني ذكرت قبل اليوم ومنذ شهور أن الإسلام وأن القرآن بالذات حينما يطالعنا بهذا الطلب ـ طلب الإعراض وطلب الصبر ـ فالإسلام معلوم أنه دين القوة ودين الإنسانية الكاملة الممتلئة ، فليس معقولاً والحالة هذه أن يوطّن المؤمنين على الاستخذاء وعلى المهانة وعلى الانهزام أمام الصدمات التي لا بد أن يواجهها السائر في طريق الله جل وعلا .(/1)
والحل هو أن الله جل وعلا بالذي فطر عليه الناس والذي يعرفه جل وعلا وعلمه من الناس أن الإنسان حين يترك أمام الحقيقة عارية ووجهاً لوجه لن يطول تأبيه عليها ، ولن يطول تمرده عليها ، والحقيقة تمثل العنصر الحي في هذا الكون المتراحب العظيم ، الحقيقة تمثل جذوة الحياة ، والإنسان برعوناته وبمواقفه الخاطئة يمثل الجانب الأكثر فساداً في الكون ، ولا بد لعوامل الصلاح من أن تتغلب ولا بد من أن يقع الإنسان الخاطئ صريعاً أمام الحقيقة عندما تتكشف ساحة الصراع مجردة عن أهواء النفوس ، فقول الله جل وعلا ( فأعرض .. ) مؤسس على هذه القضية التي تتمتع بأحقية مطلقة ، بعد هذا يأتي الكلام ( ولله ما في السماوات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) أين مكان التأمل في هذه الصياغة ؟ مكان التأمل أننا حين نستعرض قرآننا المكرم نلاحظ أن موضوعات الجزاء والعقاب والثواب وما أشبه غالباً ما تتركز وتضاف إلى الدار الآخرة ، فالله جل وعلا في غالب آيات القرآن حين يتوعد ويشير إلى المصائر والنتائج يضيف ذلك إلى اليوم الآخر ، لكن في هذا الموطن من السورة جاء ذكر الجزاء غير مقرون بآخرة ولا دنيا ، جاء مطلقاً ( ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) فهل هذا الجزاء مصروف إلى الدار الآخرة أم هو جزاء ينال الخاطئين في الدنيا أم هو شيء يمسهم في الآخرة والدنيا جميعاً ؟ حينما نأخذ في اعتبارنا هذه الصياغة الموحية في القرآن الكريم ونأخذ في اعتبارنا مجرى الحياة الإنسانية البشرية نخرج باستنتاج جيد وهو أن هذه الدنيا بما يتصرف فيها الناس وما يأخذون ويعطون وبما يضطربون من شأن لا يمر فيها خطأ من غير عقوبة ، وإن عاقبة الطريق المعوج دمار وفساد ينال صاحبه في هذه الدنيا ، وحينما نرجع إلى خصائص الذات الإلهية إلى الله فنعلم أنه ليس الإله المنتقم ، وليس الإله الشرير ، وليس الإله الراغب في الدماء والدموع والآلام ، وإنما هو الإله البر الرحيم ، نضع أيدينا على قضية إنسانية في غاية الأهمية .
نحن نقول حينما نرى إنساناً يتوّرط في الأخطاء ويكررها بالرغم من النصح والتحذير نقول دع هذا الإنسان يتعلّم على حسابه ، يتعلّم من كيسه ، ماذا يعني هذا الكلام ؟ يعني أن الإنسان لا تغنيه هذه الحقائق والوفاء لها التزاماً أن يتصوّرها عقلاً ، وأن يعتنقها عقلاً ، لا بدّ من معونة مادية ، لا بدّ من أن تعلمه حوادث الدهر ، لا بدّ أن تعلمه مجريات الأيام أن الطريق الذي هو فيه باطل ، وهو طريق خطأ لا صواب فيه . فالجزاء إذاً في الدنيا لا تُراد به العقوبة لمجرد العقوبة ، بل لعل لفت نظر الإنسان هو أظهر ما يكون في تقرير هذه القضية ( ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ) في الدنيا صاحب الباطل لا يمكن أن يسلم له باطله أبداً ، لا بد من أن ينال عقابه ، لا بد أن يتعرض لنتائج الإعراض ، إن كل طريق معوج ينتهي إلى دمار في هذه الدنيا قبل أن يقف الناس لرب العالمين يوم الحساب يوم العرض الأكبر ، يوم تُعرضون لا تخفى منكم على الله خافية ( ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) .
نحن الآن في ساحة الواقع الذي كان يواجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن ندخل هذه الساحة لا بد أن نقول ما يلي على وجه الاختصار .
هذا الإسلام حينما نادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بتاتاً قضية تصورات وأخيلة ، ولا قضية عقليات ولا استنتاجات واستنباطات ، وإنما كان قضية حياة بكل ما يتفرّع من الحياة وبكل ما ينبني على الحياة ، مخطط كامل يتناول بالتعديل والتغيير والتبديل معتقدات الإنسان ، ويغير تصورات وطرائق تفكير الإنسان ، ويغير الأهداف والغايات التي يسعى إليها الإنسان ، ثم هو قبل ذلك وبعده لا يترك الناس لهذه الأمور التي قد تكون في بعض الأحيان غائبة ، وإنما يأخذ أمهات المسائل فيطبّ لها ، ويشرّع من أجلها ، فهو إذاً نظام يتناول بالتغيير بنية الناس الاجتماعية . وبطبيعة الحال فنحن ننادي بالإسلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حينما نادى بالإسلام كان مفهوماً جداً أن هذه الصورة المجتمعية التي كانت موجودة في المجتمع الجاهلي سوف تتعرض لتغييرات جذرية . من كان في القمة قد ينزل لأن يكون في أسفل السلم ، ومن كان ذا صوت وسلطان فقد يجرد من سلطانه وسوف يتخافت صوته . والصورة الاجتماعية لن تبقى على ما كانت عليه يتحكم فيها أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان وأضرابهم من زعماء الجاهلية ليبقوا في قمة المجتمع ، لأن المجتمع في بنائه الجديد لا يأذن ولا يسمح بأن تكون هذه العناصر بما تحمل من تكوين مغاير هي قمة المجتمع الجديد الوليد . إن مجتمع الإسلام بدأ يأخذ طريقه إلى التكوّن ، وبدأت تتكشّف بعض المعالم لهذا المجتمع ، وبدأ التميّز في السلوك وفي الأخلاق وفي الآفاق التي يتطلع إليها الناس ، بدأ التميز يظهر بين المجتمع الجاهلي وبين المجتمع الإسلامي الجديد .(/2)
في صورة من هذا النوع سيكون هناك احتكاك ، والاحتكاك كما قلنا يكون كلاماً وتراشقاً بالتهم ، كما يكون عراكاً وتضارباً بالأيدي ، كما يكون مقاطعة وتبرّأ من الأحباب والأصحاب . هذا الاحتكاك رأينا منه صوراً مرت معنا ، لكن هنا صورة جديدة وهي صورة في الواقع معروفة وقريبة ولا يمر يوم دون أن يلحظها الناس ، أيها الأخ لمجرد أن تبرز ويكون لك مقام في مجتمعك سوف تكون صفحة مكشوفة أمام الناس ، أنت خرجتَ من واقع كنتَ فيه ودخلتَ في واقع جديد حقق لك امتيازاً سيئاً أو غير سيئ ، هذا غير مهم ، المهم أن انفصالاً وقع بين صورتين من صور الاجتماع البشري ، لمجرد أن يحدث هذا بمراجعة سجلاتك ، كنتَ كذا فصرتَ كذا ، كان لديك كذا وصار لديك كذا ، هذا النوع من الاحتكاك ظاهرة إنسانية معروفة ومألوفة . حينما جاء الإسلام ونادى بمُثُل غير مُثُل الجاهلية ويقود الناس بأخلاق غير أخلاق الجاهلية وقع في وهْم المشركين هؤلاء التساؤلات التي لا بد أن تقع .
الإسلام بعبادة الواحد الأحد ، والجاهليون يعكفون على الأصنام ، والرجل منهم كان في الأمس يعكف على صنمه طائفاً ناحراً عابداً متمسحاً ، وهو اليوم يسب ويهين صنمه ويدين بالعبودية لله تبارك وتعالى . المجتمع المسلم ينادي بالعفة وبطهارة الخلق ، والمجتمع الجاهلي قلما يقيم وزناً لهذه الأمور ، فحينما يخرج المسلم من المجتمع الجاهلي فإن من ورائه سجلاً فقد يكون قتل أو سرق أو زنى وقد .. إلى آخره . إن هذه الصفحات التي طوتها الأيام من حياة النماذج الإسلامية التي أسلمت على يد محمد صلى الله عليه وسلم بدأت تُنشر لدى المجتمع المكي وبدأت تأخذ شكل التعيير . كل واحد يجد في نفسه الدافع حينما تخرج له فجأة لتنهاه عن الموبقات وأن في الماضي كنتَ عبداً لهذه الموبقات كل واحد سيقول لك : ما خطبك يا فلان أنت كنتَ من أصحاب هذه الأخلاق وأصحاب هذه الموبقات ، إن الله جل وعلا يكشف عن هذه الظاهرة ، حينما قال ( ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ولاحظوا اللفظة ( الحسنى ) ليس فقط الشيء الحسن ولكنه الشيء الأحسن البالغ غاية الحسن ، بماذا عرّفهم ؟ قال جل وعلا ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) لاحظتم هذا الكلام الدقيق البليغ المعجز وكيف كشف الغطاء عن هذه المعركة الدائرة بين المسلمين والمشركين في جانب من أخطر جوانبها لأنها تمس بالثقة بالإنسان الذي ينادي بالإسلام ، إنه ذكر عن الذين أحسنوا والذين سيجزيهم بالحسنى أي بالخير مما أحسنوا فيه فعرّفهم بأنهم هو الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .
حينما نفهم كبائر الإثم والفواحش ونفهم اللمم ونفهم ما تعنيه الإشارة حين يقول الله أنه أدرى بخلقه إذ أنشأهم من الأرض من طينها ، وأعلم بهم إذ هم أجنة في بطون أمهاتهم وحين نسمع الله ينهاهم عن أن يزكوا أنفسهم نجد أمامنا صورة حية واقعية تتكرر باستمرار ينفع جداً أن لا تغيب عن البال .
إن الإسلام لا يضع في اعتباره أن الإنسان لمجرد أن يؤمن يخرج عن كونه إنسان ، إنه وهو مؤمن غاية الإيمان يظل إنساناً ، الإنسان إنسان والملك ملك والشيطان شيطان ، ولا مجال للإنسان للانسلاخ من طبيعته ، الإنسان من شأنه أن ينسى أو يعصي أو يتمرد أو يتعامى عن الحقيقة أو أن يضعف أو يكبو ، أو أن يتورط في الأخطاء . ذلك شأن الإنسان ، والرسول صلى الله عليه وسلم يكشف هذه الحقيقة بصورة لا تدع لمستزيد زيادة فيقول صلى الله عليه وسلم : كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون .
إن الإسلام يشير إلى مبدأ خلقة الإنسان من أنه من هذا الطين ، فيه كل ما في الطين من كثافة وقدورة ، فيه كل ما في الطين ما يجذب إلى الأرض ويمنع الارتفاع نحو السماء ، وإن الإسلام يكشف أن هذا الإنسان ضعيف بما أشار إليه بعلم الله به وهو جنين في بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يملك لنفسه دفع ضرٍ ولا جلب نفع ، وإن الإسلام حين ينهى الناس عن أن يزكوا أنفسهم يشير إلى هذه النتائج .(/3)
لا شك أن المكيين أقاموا الموازنات ، كيف يجوز لنا أن نقول أن بلالاً الحبشي اللقيط الطريد يمكن أن يتساوى في القيمة أو يرجح على زعماء مكة ذوي النسب الصريح وذوي النسب الأصيل ؟ كيف يجوز لنا أن نقول عن صهيب الرومي إنه إنسان يتساوى وقد يزيد في المنزلة على زعماء قريش ؟ كيف نقول عن المستضعفين أنهم سواسية مع الزعماء ومع الأغنياء ؟ إن هذا كان موجوداً وهو أحد الأسلحة التي استعملت وهو سلاح ينفع بالنسبة للمغفلين والأغرار ، حينما تضع في المقياس أمامك إنساناً ضعيفاً وتضع في المقابل رجلاً من ذوي الصوت والصلة وتقارن ، فإن الذين لا يفكرون يقولون لك إن الزعماء خير حالاً وأسعد مآلاً من هؤلاء المستضعفين . ولكن الإسلام لا يقيم مقاييسه على هذه الأسس الباطلة الواهية السخيفة ، إنما معيار التفاضل ليس قائماً على الدم الذي يجري في العروق ، وليس قائماً على الأنساب والأحساب ، ولا على الثروات التي جمعت من حلال أو حرام ، ولا على الزعامات وما أشبه ذلك . إنه قائم على الفضائل الإنسانية الذاتية ، فقد تجد إنساناً غير منظور إليه في المجتمع نظرة إجلال وإكبار ولكنه صادق اللهجة عفيف النفس طاهر الضيم مستقيم الأخلاق فإنه في هذه الحالة يساوي الشيء الكثير من الزعماء والأغنياء وأكابر المجتمع الذين لا يعفّون عن موبقة من الموبقات .
مرّ رجل من الناس المستضعفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : يا رسول الله هذا حري به إن دخل ألا يؤبه له ولا يكترث به أحد وإن قال أن لا يسمع أحد إلى قوله وإن خطب ألا يُزوج . ثم مرّ رجل عليه شارة الوجاهة والزعامة ، فقال : ما تقولون بهذا ؟ فوصفوه بعكس تلك الأوصاف . قال لهم : ذاك الذي رأيتموه مهاناً وبلا قيمة خير من ملء الأرض من مثل هذا . إن المقياس في الإسلام مؤسس على الفضائل الذاتية الإنسانية وليس مؤسساً على المظاهر الجوفاء .
فلهذا بدأ المشركون يعارضون المسلمين بنماذج الزعامة الموجودة عندهم، عارض الله لهم ذلك بلونين : لون كشف عن الطبيعة البشرية بعامة وأنها طبيعة قائمة على الضعف وقائمة على النسيان والعصيان ، والله جل وعلا لا يطلب من خلقه المستحيل ولكن فارق ما بين الإنسان المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن خطّاء توّاب ، وأن غير المؤمن مصرّ لا يعرف التوبة . فالله جل وعلا ذكر الذين أحسنوا بهذا الوصف قال عنهم أنهم يجتبنون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم . ولقد دار خلاف طويل بين تراجمة القرآن حول كبائر الإثم والفواحش وحول اللمم ، ومن رأي بعض العلماء أن كبائر الإثم والفواحش هي الشرك فقط وأن ما سواها فليس من الكبائر ، ودار خلاف أيضاً لا حاجة إلى معرفته حول اللمم وحول موضع ( إلا ) هذا الاستثناء ، هل هو استثناء منقطع أم استثناء جاء على بابه ، لا حاجة لكم بهذا كله ، ولكن أُريد أن لا أذهب مع الذاهبين في الخلافات وأُحدد على ضوء معطيات اللغة فقط .
فحين نقول إن الشرك فقط هو كبائر الإثم والفواحش يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الشرك مفرد ، وأن كبائر الإثم والفواحش متعددات لأنها جاءت بصيغة الجمع ، فليس صحيحاً أن نقول إن الكبائر هي الشرك فقط . وحين نعرف معنى اللمم ما هو تنحل المشكلة ، فمن العلماء من قال إن اللمم هي صغار الذنوب مما تكفره الصلاة والصيام والصدقة ، وهي التي لم يأتِ عليها وعيد ولا تهديد ، وبعض العلماء قالوا بخلاف ذلك . وقواعد اللغة تحل المشكلة ، فما معنى اللمم في لغة العرب ؟ والقرآن على قانون العرب في كلامهم ، العرب تقول : ألمّ فلان بالمكان إذا زاره زيارة قصيرة ، إذا قام فيه فترة قصيرة ثم ارتحل عنه ، هذا الملم هو الذي ألمّ بالمكان ، ولكن حينما يطيل الإنسان إقامته في المكان لا تقول العرب ألمّ فلان في هذا المكان ، ولكن تقول أقام فيه وتوّطن فيه واستقر فيه ، فالله حين يصف الذين أحسنوا بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم يشير إلى هذه الظاهرة أو الحقيقة التي تكلمنا عنها وهي أن الإنسان قد يقع ويكبو ويخطئ ، هذا طبيعي ، ولكن الشيء غير الطبيعي بالنسبة للمؤمن أن يقيم على المعصية . إن الإقامة على المعصية تُخرج الإنسان من إيمانه الصحيح ، لكن المؤمن قد يسرق ، قد يزني وقد يقتل وقد يشرب الخمر ويتوب ، فإذا فعل الفاحشة التي هي كبيرة ثم أقلع عنها ولم يصرّ عليها فهو ممن استثنى الله جل وعلا بهذه الآية .(/4)
إن ثمة أموراً صغيرة لعلكم تستغربون هذا الكلام لكن اسمعوا ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت من امرأة ما دون الزنا . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهمّ بدخول المسجد لأداء الصلاة ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعقب على كلامه ، والرجل يلحّ والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ودخل في الصلاة وصلى الرجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد أخذت الرجل مواجيد المعصية فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بردائه وقال : يا نبي الله إني أصبت من امرأة ما دون الزنا ، كل شيء فعلته معها إلا الزنا . التفت النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : أليس صليت معنا آنفاً ؟ قال : نعم يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : فهذه بتلك إن الحسنات يذهبن السيئات . فهذا لم يفعل الكبيرة ، ولو فعل الكبيرة لأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد ، ولكن الإنسان قد يفعل الكبيرة التي توجب عقوبة وحداً ، فيستر الله عليه ولا يفضحه بين الناس ، هل يعني ذلك أن هذا الرجل أُغلقت في وجهه جميع الأبواب ، لا ، إن المهم أن يراجع الإنسان الخاطئ نفسه وأن يراجع ربه وأن يتوب من ذنبه فيكون من هؤلاء الذين ألمّوا بالمعصية إلماماً ولم يُقيموا عليها الإقامة التي تنفي عنهم هذا الإيمان .
هذه هي القضية التي عرضها الإسلام بعد أن مهّد لها بالكشف عن الطبيعة البشرية وهي قضية بالغة الأهمية ، نحن نتصور أن الإنسان المسلم معصوم من المعاصي ، لا يمكن أن يخطئ أو يزل ، لا سيما إذا رأيناه مصلياً ، وإذا ذهب وحجّ بيت الله الحرام فنحن نتصوره أنه سيعود إلينا كحمام مكة ، إن هذه التصورات الباطلة لا أساس لها ولا قيمة لها ولا وزن ، إن الإنسان يصلي ويصوم ويحج وهو في معرض المعصية ، بل هو في معرض أن يشرك بالله جل وعلا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يدعو ( يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك ) فقالت له عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يوماً : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ؟ قال لها : يا عائشة إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، إن أراد أن يقيمها أقامها ، وإن أراد أن يزيغها أزاغها .
أين تتركز أهمية هذه القضية ؟ إن وضعنا اليوم شبيه من وجوه كثيرة بالوضع الذي قابله محمد صلى الله عليه وسلم ، أيما إنسان دعا إلى الله وتحدث إلى الناس بذلك لم يتعرض إلى هذا النغم المكرور الممل ، حينما تقول لإنسان تارك للصلاة بعيد عن الله صلِ يا أخانا ، يقول : ما نفعت الصلاة فلاناً ، نحن نعرف أن فلاناً يصلي الصلوات الخمس ولكننا نعرف أنه يغش في المكيال والميزان ، ونعرف فلاناً يصلي كذلك ولكن نعرفه كذلك إذا خلا بمحارم الله جل وعلا كان ذئباً شرساً ، نحن نرى فلاناً يصلي ولكن يتعامل بالربا ، نعرف فلاناً يصلي ويصوم رمضان فإذا سمع بقدوم العيد وضع الطاس والكأس وعاد إلى الموبقات ، كل هذه الأشياء نعرفها . نقول له يا فلان أنت ملكت النصاب فحج إلى بيت الله فإن محمداً يقول : من ملك زاداً وراحلة تبلغه بيت الله الحرام ثم لم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً . يقول لك : تفضّل انظر إلى الحجاج هذا حاج وهذا حاج ... وهذا من صفته كذا وكذا ، وكل الذي يقوله الناس صحيح في الغالب ، لكن وجه الخطأ أين ؟ وجه الخطأ أننا لا نملك أن نتصور الإنسان أخذ العصمة بمجرد أن قال لا إله إلا الله ، إن عصراً لو كان له أن يُعصم من هذه الظاهرة البشرية لكان عصر النبي صلى الله عليه وسلم أحق العصور بهذا ، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين بالذات من زنى ومن شرب الخمر ومن أتى بعض الموبقات ، ولو كان العصر مبرأ من هذه لكان أحق العصور عصر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم ) وإذا كان بعض الناس الذين دخلوا في الإسلام يتحسسون من بعض الأشياء في ماضيهم فليعلموا أن الإسلام يجبّ ما قبله ، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه عمرو بن العاص رضي الله عنه لكي يسلم قال يا رسول الله : إني أشترط لنفسي قبل أن أُسلم . قال : ماذا تشترط يا عمرو ؟ قال : أن يُغفر ما سبق من ذنوبي . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمرو ألم تعلم أن الإسلام يجبّ ما قبله . كثير من الناس لهم ماضٍ ولكن هذا الماضي لا ينبغي أن يحول دون نفضي هذا الغبار كله ، والدخول في ساحة نظيفة ضمن تصورات نظيفة وضمن حياة شريفة .(/5)
نحن كلنا عانينا من هذه الأمور ، وكلنا واجهنا هذه النتائج ، إننا في السياق الدعوة إلى الله نواجَه هذه الحقائق المرّة ، وللأسف أنه من خدع الشيطان أنك حينما تدعو الناس إلى الإسلام يوحد الناس بين الإسلام وبين المسلمين توحيداً مطلقاً ، الصورة التي يخرج بها الإنسان عن الإسلام صورة هذا العاصي أو الزاني أو شارب الخمر أو ما أشبه ذلك ، هذا خطأ مبين وضلال عريض لا ينبغي أن يكون ، ومع ذلك فإن واجبنا أن نصبر عليه ، وإن واجبنا أن نوطن أنفسنا على قبول مثل هذه النماذج بصدر رحب ، كيف ؟ قبول ذلك ليس إضفاء صفة المشروعية عليها ولكن اعتبارها أمراً إنسانياً طبيعياً ، من الطبيعي أن يخطئ الإنسان ، وكل ما نريد من الإنسان إذا زلّت قدمه أن ينوب إلى الله تعالى ، فإن باب التوبة مفتوح بشكل واسع .
هذه القضية التي واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها القرآن بالشكل الذي شرحناه لكم ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى . الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ، هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) لا يقل أحد منكم أنا خير من فلان . ثم جاءت الآيات تعرض شيئاً آخر نريد أن نمرّ عليه .
يقول الله تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم ( أفرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلاً وأكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لن تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى ، وأن إلى ربك المنتهى ) أول هذا المقطع تحدثنا عنه من قبل ، ولكن الكلام عن قوله تعالى ( أم لم يُنبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) يضع أمامنا أهم الفوارق الجوهرية بين الإسلام وغيره من الدعوات الأخرى . إن الإسلام في هذه الآيات القلائل يقرر المسؤولية الفردية على الإنسان ، ولكي نعرف خطأ المجتمع البشري ولا سيما المعاصر لا بد أن نلفت النظر إلى أن جدالاً طويلاً ثار مع نشاط الدراسات الاجتماعية والنفسية والسياسية غي القرنين السابقين ، إن الخلاف دار طويلاً ومازال على أنه إذا أخطأ الإنسان فمن هو المسؤول ؟ هل المسؤول هو الإنسان بالذات أم المسؤول هو المجتمع الذي لم يهيئ سبيل الاستقامة ؟ هذا السؤال عرض للفلاسفة والمفكرين ، فمن آخذ أقصى اليمين ومن آخذ أقصى الشمال ، ولعل عصرنا الذي نحن فيه يرى أن المجتمع مسؤول عن زلل الأفراد ، يعني حينما يسرق السارق فعلى المجتمع أن يتحمل مسؤولية السرقة ، لماذا ؟ لأنه لم يوفّر القوت لهذا الإنسان كي لا يسرق ، حينما يزني الزاني فعلى المجتمع أن يتحمل المسؤولية لأنه بأعراف الضيقة وبتصوراته الفاسدة جعل التصريف الجنسي أمراً مليئاً بالمحظورات والمحرمات حتى أصبح الاعتداء على الأعراض شيئاً يجد الإنسان نفسه مضطراً لارتكابه اضطراراً يرفع المسؤولية عنه ، وهكذا قل في بقية الأخلاق .
أين انعكست هذه الأمور ؟ ارجع إلى القوانين السائدة في العالم ، وإلى القوانين السائدة عندنا نحن معاشر المسلمين ، نحن نعلن بطبيعة الحال أن السارق الذي يسرق لحاجة لا تُقطع يده ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما جيء بغلمان لحاطب بن أبي بلتعة الصحابي رضي الله عنه سرقوا ناقة لرجل ، بعد أن أمر بأن تُقطع أيديهم عاد فسألهم : ما الذي دفعكم إلى السرقة ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين إن حاطب يتعبنا ويجيعنا ، أي لا يطعمنا كما ينبغي . فاستدعى عمر حاطباً وقال له : والله لقد هممت أن أقطع يدك أنت ، ثم أمر بأن يغرم لصاحب الناقة ناقته ، وخلى عن الغلمان . وعمر هو نفسه رضي الله عنه في عام الرمادة حينما جاع الناس وأقحطوا عطّل حد السرقة .
نحن في الإسلام حينما تكون هناك مبررات حقيقية وواقعية نشعر بأن المجتمع مسؤول عنها وأن النظام السياسي مسؤول عنها نركّز المسؤولية على النظام وعلى المجتمع ونعفي صاحب الخطيئة من نتائج خطأه . ولكن في الأحوال العادية هل يجوز أن نقول ذلك ؟ لا ، فهذا غير جائز بتاتاً . قد يكون مفهوماً أن نعفو عن السارق فلا نقطع يده ، لأنه سرق لحاجة . ولكن أية حاجة تدعو الإنسان المستقيم لأن يشرب الخمر ؟ أية حاجة لأن يتعامل بالربا ؟ أية حاجة تدفع الإنسان إلى الزنا ؟ لا حاجة على الإطلاق ، ولا شيء يتحمله المجتمع من هذه الأمور .(/6)
فإذا رجعنا إلى قوانيننا السائدة اليوم ونظرنا إلى انعكاسات التفكير المعوج الذي سرى إلينا بعدوى الأفكار الأجنبية نجد أن قوانيننا لا تعاقب السارق ما لم تكن السرقة ظاهرة جلية أو مصحوبة باستعمال العنف والإكراه ، هذا واحد . وإذا نظرنا إلى قوانيننا فنحن نجد أنك إذا أمسكت بزوجتك متلبسة بالزنا مع رجل في فراش الزوجية في فراشك أنت فليس لك أن تقاضيها إذا كان الفعل ناتجاً عن تراضٍ بين الزوجة وبين هذا الذي زنت به ، وإذا أمسكت بابنتك وقد بلغت الثامنة عشرة وهي تزني فإن فعلها لا يسمّى في القوانين جريمة وإنما يسمّى قباحة ، يعني أقل من جنحة ، وإن عقوبة هذا الفعل ليس أكثر من عشر ليرات سورية يقررها القاضي على البنت الزانية برضاها ، ولكن القانون يثور إذا كان الزنا ناتجاً عن إكراه .
هذه القوانين المعوجة ، هذه الحياة الفاسدة سببها ماذا ؟ سببها إلغاء المسؤولية الفردية ، في الواقع الإنسان مسؤول عن عمله ، ولا يجوز بتاتاً أن نسحب نتائج العمل عن أي إنسان آخر ... لأننا لو سحبنا(/7)
تفسير سورة النجم
الجمعة 1 صفر 1397 / 21 كانون الثاني 1977
الحلقة ( 1 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
السور القصيرة التي تحدثنا عنها في الماضي تعد واحداً وعشرين سورة ، ونحن الآن نواجه السورة الثانية والعشرين في سياق التنزيل وهي سورة النجم ، وتعرفون مطالع سورة النجم ، وهي تبدأ ( والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ، ذو مِرّةٍ فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، أفتمارونه على ما يرى ، ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، ما زاغ البصر وما طغى ، لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) هذا المقطع الذي تفتتح به السورة هو يشكل المشكلة الضخمة في وجهنا ونحن ندرس هذه السورة ، واضح من سماعي هذا الكلام الإلهي أن هذا المقطع من السورة يشير إلى واقعة من وقائع السيرة المشهورة وهي الإسراء والمعراج ، نحن حددنا لأنفسنا مدى زمنياً ينتهي في السنة الخامسة من المبعث ، وقلنا إن الآية التي تحمل الأمر بالبلاغ العام تنتهي هذه السنة ، ونحن الآن في السورة الثاني والعشرين أي بيننا وبين نهاية المرحلة وفاقاً لترتيب سور القرآن تسع وعشرون سورة ، فمتى كانت حادثة الإسراء والمعراج ؟
حسب الترتيب المتعارف عليه بين كتّاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُبّئ على رأس الأربعين من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم ، وأنه في رأي المكثرين ظل يدعو سراً من يثق به من قومه ثلاث سنين ، ثم أُمر بالبلاغ ، ونحن أضفنا من عندنا سنتين إكراماً لخاطر أولئك الذين يتصورون سرية الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على نمط سرية الأحزاب المعروفة اليوم والمحظورة والممنوعة والتي تعتبر خارجة على القانون ، إكراماً لهؤلاء أضفنا من عندنا سنتين رجاء أن ننظر في مضامين القرآن النازلة في هذه الفترة كلها لنرى نصيب السرية من الدعوة الإسلامية في هذه الفترة ، وبعد مرور سنتين على آخر مدى وضعه أكثر كتّاب السيرة إسرافاً في تصور السرية ، فحادثة الإسراء والمعراج هل وقعت ضمن هذه المدة ؟ لا ، كما قلنا ظل النبي يدعو من يثق به وجاءه أمر الله بأن ينذر عشيرته الأقربين فجمعهم عنده وأنذرهم وأبلغهم أنه رسول من الله جل وعلا إليهم خاصة وإلى الناس عامة ، وأبان لهم مكانتهم في نفسه وشدة حرصه على سعادتهم وقال لهم : والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم . فالإنسان لا يتآمر على أهله وقومه وعشيرته ولا سيما في المنظور الجاهلي ، القبيلة هي محور الوجود الإنساني كله ، والفرد من القبيلة لا يرى لنفسه وجوداً خارج نطاق القبيلة . لكن معظم قومه ردوه كما ردته سائر قريش ، ثم أُمر بالبلاغ فبلّغ ، ثم ما كان من البلاء والإيذاء والفتنة ..
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن المسلمين بعض الذي يرونه من عنت قريش فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة إلى أرض النجاشي فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة ضمّت عدداً من رجال المسلمين وعدداً قليلاً من النساء المسلمات . كان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة .
وظل النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على أمر الله ، شديد الإنفاذ لما يريده الله تعالى منه ، يتردد على مجالس قريش وأنديتها ويلتقي بالقبائل القريبة من مكة ، ويلقى منهم مثل ما يلقى من قريش . ثم كان تآمر قريش ليس على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فحسب وليس على الذين آمنوا فحسب وإنما على بني هاشم وبني عبد المطلب جميعاً .
فقررت قريش مقاطعة بني عبد المطلب أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم على سواء ، وكان حصار الشعب الذي استمر ثلاث سنين أو أقل قليلاً . ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الشعب ، كان الوقت يقارب السنة التاسعة أو يزيد من البعثة ، ثم خرج إلى الطائف ولقي في الطائف أشد مما لقي في مكة ، يروى أن أهل الطائف حين جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا له في الطريق صفين ، فكان كلما نقل قدماً وهو يمشي كانت تأتيه الحجارة حتى أخذ الدم ينزف من قدميه صلى الله عليه وسلم ، ولما رأى ما رأى من هذا الاستقبال الشنيع رجا أشراف ثقيف قائلاً : ما دمتم فعلتم ما فعلتم فأنا أرجو أن تكتموا هذا اللقاء عن قريش ، كي لا تزداد عداءً له .(/1)
ولكن ثقيفاً قبيلة مشركة جاهلية ، وهي قبيلة منافسة لقريش ، فكما أن قريشاً سادنة بيت الله الحرام الكعبة المشرفة ، فإن ثقيف بنت لصنمها اللات بيتاً ورتبت له سدنة وكان يعظمونه كتعظيم بيت الله الحرام ، فأرادوا أن يغروا محمداً صلى الله عليه وسلم بقريش ، ويغروا قريشاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يأمنون من ذلك أن تصطرع قريش فيما بينها لتضعف ، وتضعف الكعبة من جرّاء ذلك ، ويكون لثقيف المكان الأول بين قبائل العرب وللطاغية صنمهم المنزلة الأولى بين أصنام العرب ، ولبيتهم في الطائف المكانة الأولى ، ويتحول الحج من مكة إلى الطائف . فأغروا به السفهاء والصبيان ، وسبقت هذه الأخبار محمداً صلى الله عليه وسلم إلى مكة فازدادت قريش شراسة إلى شراسة .
في هذا الأثناء أو قبلها بقليل بعد الخروج من الشعب بخمس وثلاثين ليلة توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، ولم تلبث قليلاً حتى توفي أبو طالب ، وفقد النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الوفية الصابرة المحتسبة التي كانت بلمسات حنانها تمسح متاعب النبي صلى الله عليه وسلم وتعيد السكينة والطمأنينة إلى نفسه . وبفقد أبي طالب فقد النبي صلى الله عليه وسلم شيخ القبيلة بل شيخ قريش ، حيث كانت قريش والعرب جميعاً تعظمه وتحترمه وتعرف قدره بينها . ولشدة المصاب سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام عام الحزن ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لقي من المتاعب والأهوال ما تنهد له الجبال . وتلفت النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نفسه وحيداً بين قوم تزداد شراستهم مع الأيام ، ولا يؤُذن حالهم بأن يستقر على قرار إلا أن يُقضى على هذه الدعوة وعلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم .
في هذه الأثناء كانت حادثة الإسراء والمعراج ، كالتعزية والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل هذا البلاء من جرّاء حمل هذه الرسالة ، متى كانت ؟ المبعدون جداً يقولون أنها كانت قبل ثمانية عشر شهراً من الهجرة . ونحن الآن في النصف الثاني من البعثة ، في السنة الحادية عشر للبعثة النبوية ، فنحن إذاً قد قطعنا مرحلة طويلة جداً طوت خلالها أحداثاً ما مررنا بها ، طوت وقائع ما تعرفنا عليها ، طوت خلالها أموراً نزل بها القرآن ما قرأناها حتى الآن ، فكيف التوفيق ؟ لا مجال للقول بأن هذه الفاتحة لا تتعلق بالإسراء والمعراج ، فاتحة السورة صريحة في أنها تقص شيئاً من نبأ الإسراء والمعراج على سبيل الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، كيف أن الله تعالى أسرى به من ليلته ، من فراشه من مكة حتى أتى به بيت المقدس ثم عُرج به من هناك إلى السماء وعاين من أمر الله ما عاين . ففاتحة السورة قصت هذا كله ووضعت أمام قارئ القرآن إلى آخر الزمان هذه السورة العجيبة المليئة بالتهاويل والأعاجيب التي هي بذاتها خارقة من الخوارق التي أجراها الله تعالى تسلية وتعزية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن هذا البلاء الذي رآه في مكة .
كان عليه الصلاة والسلام يتردد بين مكة والطائف وبين قبائل من قبائل العرب ليست بعيدة عن مكة ، هذا الحيز الصغير من الأرض هي التي شهدت هذا الثوران من الأحداث التي أثقلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهدّت قواه هداً لولا عناية الله جل وعلا . كيف السبيل كي يُمسح هذا كله ؟ هو أن يأخذ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في سياحة في كونه العريض في عالمه الذي لا يتناها ، ورأى محمد صلى الله عليه وسلم من ملك الله ما رأى ، واستقر في حسه ما أرادت الآيات أن تقره ، وكذلك أن تقرّ في قلوب جميع الدعاة إلى الله على آخر الزمان أن هذا الحيز الصغير الذي تضطربون فيه ، ما هو ؟ ما شأنه ؟ مكان صغير في كوكب صغير في زاوية لا يؤبه لها في كون الله العريض . والله جل وعلا يوم كلّفك يا محمد بأن تحمل للناس كلمته الأخيرة والخالدة والباقية أتراه يتركك لهؤلاء السفهاء والمعاندين ؟ من هؤلاء إلى جانب جنود الله جل وعلا ؟ ومن هم إلى جانب من أهلك الله من الأمم السابقة التي كانت ذات قوة وجبروت ؟ إذاً فلتثق بالله ، وأنت أيها الداعي إلى الله أتظن أن الله جل وعلا ليس في علمه وفي ملكه إلا هذا الحيز الضيق الصغير الذي تجد من أهله الصدّ والجحود والنكران ؟ أتظن أن الكون خلا إلا من هذه الزنزانة الضيقة التي ألقاك بها الظلمة ؟ أبداً . أنت أينما كنت في عين الله جل وعلا ، وأنت قبل وبعد حامل رسالة ليست منك ليكون أمر تدبيرها إليك ، ولكنها من الله خالق الكون كله ورب الكون كله الذي يسوس الكون كله ، فلتثق بأن الله لن يضيعك .(/2)
هذه القضية تنتمي إلى واقعة الإسراء والمعراج ، وهما في منتصف السنة الحادية عشر من البعثة النبوية . إذاً فأين نحن ؟ ونحن حددنا لأنفسنا حداً لا يتجاوز السنة الخامسة من البعثة ، هل هناك من حل للمشكلة ؟ سنحاول ويجب أن تعلموا أن المسألة مسألة ظن وليس هو غالب الظن كذلك ، وهو من المحتمل أن يتغير نتيجة الدراسة ، ولكم علي إن شاء الله أن أقول لكم ما سيستقر عليه الرأي إذا تغير هذا الذي أقول .
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآيات دعا من كان يكتب له الوحي ، وبعد الكتابة يقول لهم : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، فوضع الآيات في السور ليس اجتهاداً من الصحابة رضي الله عنهم ولكنه توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل الآيات المحشودة في أية سورة من السور فبأمر النبي صلى الله عليه وسلم وضعت في هذه السورة ، ولكن هل في تاريخ القرآن ما يشير إلى أن سور القرآن عموماً كانت تنزل كل سورة على حيالها دفعةً واحدة ؟ لا ، لنأخذ مثلاً سورة البقرة وهي أول سور القرآن وأطول سور القرآن والذي لا شك فيه أن سورة البقرة تنتمي إلى أوائل عهد الهجرة النبوية إلى المدينة ، أي أنها على الأبعد بدأ نزولها في السنة الثانية من الهجرة ، وسورة البقرة فيها آية يقال إنها آخر شيء نزل من القرآن الكريم وهو قوله جل وعلا ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت ) فيقال إن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن الكريم ، وبناء على هذا نستطيع أن نقول إن سورة البقرة استمرت في الإنزال تسع سنوات كوامل ، وهي سورة واحدة ، لكنها كانت تنزل منها الآيات فيقول رسول الله : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي تذكر فيها البقرة بعد الآية كذا وكذا حتى موضع الآية لسياق السورة يعينه رسول الله صلى عليه وسلم .
إذا فرغنا من هذا فلنطرح عل أنفسنا سؤالاً آخر ، تسمية السور ، نسمع أن هذه السورة هنا سورة البقرة ، ونسمع أن هذه السورة اسمها سورة آل عمران أو سورة بني إسرائيل ، وأن تلك سورة الكهف فلماذا ؟ لوجود واقعة تشير إليها آية أو عدد محصور من الآيات في هذه السورة بالذات ، فسورة البقرة مع أنها 286 آية وفيها أطول آيات القرآن الكريم وهي آية الدين جاءت قصة البقرة فيها في عدد محدود جداً من الآيات ومع ذلك سُميت السورة كلها باسم هذه السورة . وسورة آل عمران سميت بهذا الاسم مع أن معظمها كان يدور الحديث فيه على غزوة أحد ومعقباتها والدروس المستخلصة منها وجملة العبر والتوجيهات التي أخذ الله بها الأمة المسلمة ، فإنما سميت سورة آل عمران أو سورة بني إسرائيل لأن فاتحتها تأخذ بالحديث عن بني إسرائيل وما اختلفوا فيه من شأن عيسى صلى الله عليه وسلم . وقل مثل ذلك في جمهور السور ، لكنا نصادف في تسميات السور تسميات لا تدل على مضمون من مضامين السورة أبداً ، نحن نسمع أن هناك سورة في القرآن اسمها سورة قاف ، فقاف هو الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة وسميت السورة باسم هذا الحرف مع أنها لا تشير ـ أي هذه التسمية ـ إلى شيء من أغراض السورة وجمهور القضايا التي أثارتها السورة . فالتسمية إذن لا تحل لنا المشكلة في الشيء الذي نحن بصدده ، لكن الذي قد يكون فيه شيء من الدور باتجاه حل المشكلة هذا الزمن المتطايل التي تأخذ به السورة في النماء والاكتمال ، فقد تنزل السورة اليوم ولا تكتمل إلى بعد عدد من السنين ، ولعل سورة النجم أن تكون من هذا القبيل .
فإذا رجعنا إلى مضامين السورة نفسها أي سورة النجم فنحن نجد أن جمهور مضمون السورة بعد أن ينتهي الحديث عن إشارات إلى الإسراء والمعراج ينتمي إلى الأحداث التي وقعت أولاً في العهد المبكر من عهد النبوة ، بعد أن ينتهي الحديث عن النجم إذا هوى قسماً مشعراً بضلال العرب الذين تسرب إليهم دين الصابئة في الجاهلية وعبدت قبائل منهم الكواكب ، وكانوا يعبدون الشعر اليمانية ويعبدون غيرها من الكواكب وكانوا يتصورون حولها تصورات مما لا يمكن لنا أن نقص عليكم اليوم ، ولكن سنأتي على نبذٍ منه إن شاء الله تعالى حين نأخذ بالتعرف على ديانات العرب في الجاهلية .(/3)
بعد أن أشار الله بهوي النجم أي سقوطه ، إلى تغير هذا النجم وحدوثه ووجود قوة تمسك به إذا شاءت أن تمسك به ، وتسقطه إذا أرادت أن تسقطه ، أشارت بهذا إلى ضلال العرب أن هذا الكون المحدث المخلوق المتغير لا يستحق أن يسمى إلهاً فيقسم بهذا المعبود الجاهلي على استقامة أمر محمد وعلى رشاد محمد صلى الله عليه وسلم ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) وتشير أيضاً بعد ذلك مباشرة إلى فارق جوهري كان الحديث ينصب عليه منذ بدايات الدعوة ( وما ينطق عن الهوى ) فنحن نعرف من السور التي استعرضناها في الماضي أن هذا القرآن من أول الأمر فصل فصلاً حاسماً وأكيداً بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما هو نازل على سبيل الوحي من الله جل وعلا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضى والغضب ولكنه لا يقول إلا حقاً على كل الحالات ، ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم حريصاً غاية الحرص على أن لا يلتبس قول الله بقوله كي تضمن سلامة الوحي بأقصى ما في الطاقة البشرية من الضمانات التي يمكن أن تقدمها البشرية ، لماذا ؟ لسبب الجوهري الذي ألمحنا إليه قبل قليل وهو أن هذا القرآن ليس من عمل محمد وليس من تقوّل المخلوقين ولكنه قول الله جل وعلا ورسالته إلى الناس وكلمته الخاتمة في سجل النبوات التي أنزلها منذ آدم عليه السلام وانتهاءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن مجهودات البشر في معزل عن هذا التنزيل ، وأن رغبات البشر وما يطيقه البشر أو ما لا يطيقونه في معزل عن قضايا التنزيل وعن قضايا الوحي وعن طلبات الله جل وعلا .. ( وما ينطق عن الهوى ) أي أنه لا يقول لكم هذا الشيء الذي أمرته أن يقوله لكم عن التشهي والاتباع لما تهواه نفسه ( إن هو إلا وحي يوحى ) .
بعد الكلام عن الإسراء والمعراج يأتي النغم الذي ألفناه في السور الماضية ، التنديد والهجاء والذم واللوم والتقريع للعرب التي عبدت آلهة من دون الله جل وعلا .(/4)
الآن الثالثة الأخرى ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى ) واللات والعزى ومناة من الأصنام المشهورة التي كانت تعبدها العرب في الجاهلية والتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها وهدمت جميعاً ، أرأيتم هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة من دون الله ؟ أتخلق أو ترزق أو يسمعونكم إذ تدعون ..؟ لا ، هل المشكلة أن نعبد ؟ لا ، ليست المشكلة أن نعبد ، فإنما العبادة من حيث هي حاسة ودافع وحافز وحاجة ورغبة أصيلة في الكيان الإنساني ، ومؤرخو الحضارات الإنسانية يقولون إنه قد يمكن أن يُكتشف اليوم أو في المستقبل حضارة لا يكون فيها علم ولا فن ولا سياسة ولا اقتصاد ولا أي شيء ، ولكن من المستحيل أن توجد في الدنيا حضارة ليس فيها دين ، فالدين رافق الإنسانية منذ كانت الإنسانية . وليست المشكلة في هذا الحافز الذي يحسه كل إنسان من ضعفه وحاجته إلى العون الخارجي الذي يستمده لا من داخل ذاته ، فهذا ليس جوهر التديّن ، أن تشعر بأنك غير قادر استقلالاً أن تنشأ وتعيش ولكنك محتاج بصدق أن تمد يدك إلى قوة غيبية تعتقد أنها هي التي خلقتك وهي التي رزقتك وتشكل لك الغوث عند الأزمات والمهمات . المشكلة ليست بهذا ، فالناس قد يعبدون الأصنام فيجدون لذلك راحة في نفوسهم ، وقد يعبدون الزعماء ويجدون لذلك راحة في نفوسهم ، ويعبدون الأسلاف كما يفعل الصينيون ويجدون راحة في نفوسهم ، ويعبدون المسيح بن مريم والعزير ويجدون هذه الراحة ، وهذا هو السر في أن هؤلاء الناس الذين اتبعوا ديانات متعددة راضون ، من الخطأ أن تتصوروا أن هؤلاء الناس غير راضين عن دياناتهم ، في الحقيقة هم راضون في دياناتهم ، ما السبب ؟ لأن هذه الديانات أشبعت الحاجة الأولية التي تشكل ما يشبه رمي الحمل المبهم عن كتف الإنسان المتعب . المشكلة ليست هنا إلا عند الإنسان الذي يتحدد نظره ولا يتجاوز مواطئ قدميه ، المشكلة أن نعرف من نعبد ؟ الذي يستحق العبادة من ؟ المتغير المحدث الذي يأتي عليه الفناء أم الباقي الأزلي الذي هو الله ؟ لا شك أن الباقي هو الذي يُعبد ، والأسلاف الذين ماتوا لا يستحقون العبادة ، والأنبياء الذين ألّهتهم أقوامهم بعد أن وارتهم التراب لا يستحقون أن يُعبدوا . دعك من الأصنام التي تُنحت من الحجارة أو الأخشاب فهذه أهون شأناً من أن يُكترث بها . الذي يستحق العبادة هو الله . ولكن هل انتهت المشكلة عند هذا الحد ؟ عرفنا المعبود الحق ، ولكن المشكلة تبدأ بالتعقيد حين نعرف المعبود الحق ، إذا عرفنا المعبود الحق فأي طريق يرضي هذا المعبود الحق ؟ أنعبده وفقاً لتصوراتنا وآرائنا ورغباتنا ؟ أنعبده بجزء من كياننا بجانب من ليلنا أو نهارنا ؟ أم نعبده بما شرع وبما أراد وبما أوحى ؟ إن المسألة مسألة إرادة خالق وليست إرادة مخلوق ، لو كانت إرادة مخلوق لتحددت غاية التشريع بحياة المخلوق وبتطلعاته وبالقوى التي يتمتع بها هذا المخلوق . ولكن المسألة إرادة خالق ، وحينما يريد الخالق فعلى المخلوق أن يتلائم مع مراد الله جل وعلا ، والخالق لم يخلقك أنت وحدك أيها الإنسان ولم يخلق هذا الجيل فحسب ولا الماضين وحسب ولم يخلق الأرض فقط ، وإنما له كونه الذي تمضي فيه إرادته العليا مضياً مصمماً لا يردها أي شيء ، فإذاً على نظرك وعلى تطلعك أن يمتد امتداد نظر الخالق وإرادة الخلق جل وعلا ، فالتشريع يحفظ امتداده وديمومته وخلوده بخلود الخالق جل وعلا ، والمخلوق الذي يأخذ بهذا التشريع يستمد من الخالق القدرة على أن تتراحب آفاقه حتى يتلائم في نظره وتطلعاته مع آفاق هذا التشريع الذي لا نهاية له ، فإذاً لا يمكن أن نرضي الخالق إلا بوحيه هو بالذات ، لأنه هو فقط الذي يعبّر عن إرادة الخالق جل وعلا .
والآيات التي أثارته منْ بعدُ كلامٌ من جملة الكلام يلامس القضايا التي مررنا عليها من قبل ، تنديد بالأصنام ، يا ليتكم وقفتم عند سفاهة وطيش الصنم ، أنتم يا معاشر العرب أضفتم إلى هذه الرذيلة رذيلة أخرى لا تستقيم في ذهن ، أنتم عبدتم الكواكب والأصنام وسميتموها بأسماء الإناث ، مناة اسم أنثى ، العزى اسم أنثى وكذلك اللات ، فكل أصنامهم على نفس الأسماء لماذا ؟ العرب ككل القبائل البادية تعتمد في بقاء وجودها واكتساب أرزاقها ورد العدوان على الذكور :
خلق القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول
النساء متاع في البيت ولأعمال البيت وغير ذلك ، أما القتال فهو من عمل الرجال .(/5)
ومن هنا كان العرب فيهم هذه الخصلة ولعلها ما زالت موجودة إلى الآن لا سيما في الأرياف وفي أبناء الجاهليين من أبناء المدن أنهم حين يولد لهم الذكر يفرحون وَيُولِمُون .. وحين تولد الأنثى يقطب الوالد وجهه ويغضب ، ولقد كانت هذه المشاعر وراء الدافع الذي حمل قبائل إلى أن تئد البنات أي تدفن البنات وهن على قيد الحياة ، فالعرب من كراهتهم للأنثى سموا أصنامهم بأسماء الإناث وقالوا أن الملائكة بنات الله كما قصّ الله علينا في القرآن . فالله جل وعلا بهذا الأسلوب الساخر يقول لهم ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ، تلك إذاً قسمة ضيزى ) أي قسمة جائرة غير عادلة ، لو أنك أجريت هذه القسمة بين من هو على شاكلتك من الناس لكانت قسمة تفتقد إلى العدالة ، فكيف وهي قسمة بينك وبين الله جل وعلا ، إنك ترتكب هذه الرذيلة لضلال عقلك ، لأنه من المعلوم أن الانحراف أوله خطوة وآخره ضلال كبير .
وهكذا تمضي السيرة في عرضها لكل الأغراض التي جاءت بها منددة للمشركين فاضحة لهم أمام البشرية جمعاء . مشيرة أثناء ذلك ( أرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلاً وأكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يُجزاه الجزاء الأوفى ، وأنّ إلى ربك المنتهى ) هذه الآيات تشير إلى حادث أغلب الظن أنه ينتمي إلى حوادث الإسراء والمعراج ، للأسف نحن نعثر بين الآن والآن في كتب التفسير والتاريخ القديمة أخباراً لا تستقيم ، ومع ذلك نقول جزى الله أسلافنا كل خير فقد جمعوا ما استطاعوا من علم وعلينا أن نبحث ، عند هذه الآية ورد في كتب التفاسير أن المراد بهذا الكلام مجموعة من المشركين ، وورد على ألسنة بعض رواة السيرة ونقل صاحب الكشاف الزمخشري هذا الكلام أن الآيات تتعلق بعثمان رضي الله عنه ، مشيرة إلى أن عثمان كان ينفق في سبيل الله جل وعلا وأنه ذات يوم جاءه أخوه من الرضاعة طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال له : إن بقيت تنفق هكذا فستنهي مالك ، فأمسك عثمان عن الإنفاق ، فنزلت هؤلاء الآيات تندد بعثمان ، وظني أن عثمان أكبر من هذه الرواية بكثير فهو أجود رجل في الإسلام ، ولم يدّخر من ماله لا قبل الهجرة ولا بعدها شيئاً ، وكان يجهّز الجيش بكامله من ماله الخاص ، وأنا أقطع والله أعلم أن هذه الرواية اندست من فئة الشيعة لعنهم الله ، لأنهم كانوا يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك لا يستقيم معنا أن نقول إن هذه الآيات نزلت في شأن رجل من المشركين ، إن المسألة كما هو واضح تشير إلى شيء يتعلق داخل المجتمع المسلم ، وحين نلجأ إلى واقعة الإسراء والمعراج فنحن نلمح أنها كانت في الواقع تمحيصاً وبلاءً للمسلمين ، وأن من الناس الذين أسلموا حديثاً لم تستوعب عقولهم هذه الحادثة ، وينص كتّاب السيرة على أن بعضاً من ضعفاء الإيمان ارتدوا عن الإسلام حين سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن الإسراء والمعراج . وملخص ما تشير إليه الآيات أن رجلاً مسلماً كان ينفق على المسلمين الناشئة ، وقلنا من قبل أن المسلمين اخذوا طريقهم إلى البروز وأن احتياجاتها كثرت وأن الإسلام طلب من أبنائه بذل إمكاناتهم جميعاً لصبها في هذا المجتمع الجديد ، كان فيما يبدو من هؤلاء الذين أسلموا حديثاُ ينفق في سبيل الله ، ولا نستطيع أن نسقط من حسابنا أن مشركي قريش كانت عيونهم لا تغفل عن متابعة المسلمين وأحوالهم ، ففي دعوة الناشئة يكون كسباً كبيراً حين تصل إلى أسماع هؤلاء الناشة أن هناك من يرتد عن دينه ، ويبدو أن زعماء قريش قالوا لمن لمسوا منه اهتزازاً في الإيمان دع الإنفاق في سبيل الله ودع ما أنت فيه ونحن نحمل عنك أوزارك بعد أن قال لهم إني أخاف الله . قالوا له : نحن نحمل عنك المسؤولية يوم القيامة . فجاءت هؤلاء الآيات ( أرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلاً وأكدى ، أعنده علم الغيب فهو يرى ، أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يُجزى الجزاء الأوفى ) أن هذه المواعيد التي بذلها المشركون له كلها كذب وأن لا شيء منها سوف تعينه يوم القيامة ، لأن التَبِعَةَ يوم القيامة فردية ، وأنه لا تكسب كل نفس إلا ما عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى . (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يُحمل منها شيء ولو كان ذا قربى ) فالله جل وعلا يشير في هؤلاء الآيات إلى واقعة كانت أثناء حادثة الإسراء والمعراج ، أما ما تبقى فكله في علم الله جل وعلا ينتمي إلى الفترة التي نتحدث عنها ، أي ضمن الخمس السنوات الأولى من عمر الدعوة .
وأكتفي اليوم بما قلناه عن هذا الجزء من السورة ، ونكمل في الجمعة المقبلة بقية الحديث .(/6)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة الهمزة
الجمعة 1 رجب 1397 / 17 حزيران 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة القيامة أو من الحديث عن أهم ما أردنا أن ندير الكلام عليه ، ونواجه اليوم السورة الحادية والثلاثين في سياق التنزيل وهي سورة الهمزة ، والتي يقول الله جل وعلا فيها ( ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالاً وعدده ، يحسب أن ماله أخلده ، كلا لينبذن في الحطمة ، وما أدراك ما الحطمة ، نار الله الموقدة ، التي تطّلع على الأفئدة ، إنها عليهم مؤصدة ، في عمد ممدة ) وهي من قصار السور كما ترون ، وجاءت تحمل التهديد وبيان العاقبة لصنف معين من الكفرة الذين واجهتهم الدعوة الإسلامية في مراحلها الباكرة ، وقبل أن آخذ بالحديث عن هذه السورة الكريمة أحب أن أقف بعض الشيء لبيان أمر تقتضيه طبيعة العمل الذي نباشره ، إننا الآن مع السورة الحادية والثلاثين أي أننا مع قدر من القرآن الكريم لا بأس به .
ولقد رأيتم إن كانت أذهانكم قادرة على استحياء ما سبق أن قلناه إن السور الثلاثين الماضية أثارت مشكلات هامة ، وعرضت لقضايا ذات حساسية بالغة ، ولكي تدركوا بين طرفي الأمة الجادة والأمة اللاهية العابثة لا بد أن أستعيد لكم وجهة نظر القرآن الكريم ووجهة نظر الإسلام بعامة حول بناء الإنسان وبناء الإنسانية .
إن هذا العلم الذي بثه الإسلام في الناس قضايا وأفكار وتصورات وصور ومشاهد قيمتها اللفظية أنها كلام ، وقيمتها الفكرية أنها معتقد ، وليس أكثر ، والإسلام حين جاء والقرآن حين نزل اعتبر العلم خادماً للعمل ، واعتبر العمل ثمرة للعلم وأعطى العمل مرتبة متقدمة ، بل اعتبر العمل الوسيلة الوحيدة التي تمنح العلم هذه الحيوية المطلوبة لكي يتحول العلم إلى أداة نافعة في توجيه السلوك وبناء الشخصية وتأسيس القواعد الصحيحة التي تقوم عليها الأمم ، فقال الله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) وقال أيضاً ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) فالعلم وسيلة وليس غاية ، وأخسر الناس صفقة وأقلهم حظاً وأقلهم نصيباً من هذا الإسلام من صرف النظر عن الثمرة المطلوبة وهي العمل .
لقد كان الجيل المسلم الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم في مراحله الأولى لا يعرف من الدنيا معشار ما تعرفون ، ولا يعرف من شئون الدين إلا بعض ما تعرفون ، ولقد انقضت حياة كثير من الأصحاب رضوان الله عليهم ممن كانت لهم على الإسلام أيادٍ بيضاء وفي رقبة الإنسانية منة لا تكافأ ولا يقوم بتعويضها شيء ، كان الكثير من هؤلاء الأصحاب لا يحفظ من القرآن إلا القليل ، ولكنهم جميعاً كانوا يعملون ، ويعملون على هدي هذا الكتاب الكريم وفي ضوء توجيهات محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنتجوا للناس ذلك الجيل الخارق الذي عجز الإنسانية حتى الآن أن تُخرج من طرازهم حتى الآحاد .
لقد وفد أبو ذر رضي الله عنه إلى مكة وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحب أن يستطلع نبأه ، وأن يتعرّف على ما عنده ، فسأل عنه فدلّوه عليه ، وتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فآمن وصدق ، وطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ، لقد كان الوقت على النبي والأصحاب شديداً جداً ، كانت مكة حتى الحجارة فيها تتنزّى حقداً وضغينة على رسول الله وعلى المؤمنين ، وأبو ذر رجل من بني غفار من قطّان البادية ، وإن بني غفار كانوا من شياطين العرب في الجاهلية ، كانوا قطاع طرق ولصوص صحراء ومن فتاك العرب ، ولكنه في مكة ليس له حلف يمنعه ولا عشيرة تحميه ، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجنب هذا المؤمن الجديد شدائد العيش في مكة في تلك المراحل العصيبة ، فنصح له أن يرجع إلى قومه حتى إذا سمع أن أمر الإسلام قد استوثق وقوي جاء .
ولكن أبا ذر رفض أن يعود إلى قومه قبل أن يُسمع المكيين ما يكرهون من هذا القرآن ، فطاف على نواديهم وحلق مجتمعاتهم وأعلن لهم أنه آمن بالله جل وعلا واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم ما سمع من القرآن ، فثاروا إليه يضربونه حتى كادوا أن يأتوا على نفسه لولا أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه جاءهم فقال : يا قوم إنه من غفار وإن تجارتكم على طريق غفار والقوم كما تعلمون فجّار ، أبناء دنيا وعبيد مال ، فكفوا عن الرجل .. المسألة أن أبا ذر رضي الله عنه حين أسلم كان سادساً أو سابعاً أو أنه أسلم في أبكر مراحل الدعوة ، وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم مدة لا تزيد على الأسبوع ، وحين عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرحل رحل إلى قومه .(/1)
كم تظنون كان من القرآن مع أبي ذر ؟ في تلك الأيام كانت السور النازلات قليلة جداً ، ولنسلم أن أبا ذر رضي الله عنه حمل معه إلى قبيلته بني غفار كل هذا الذي نزل حتى تلك الساعة ، فهو لا يتجاوز خمس سور أو ستاً أو شيئاً من هذا القبيل .. ثم كم تظنون أن الغيبة طالت ؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله جل وعلا وآذان المكيين فيها وقر لا تسمع النداء وقلوبهم كهذه الصخور التي حول مكة لا ترق ولا تلين لنداء الله تعالى . وبعدها هاجر إلى المدينة ، وبعد الهجرة جاء أبو ذر إلى المدينة لم يلقَ نبيه وزعيمه ومعلمه مدة لا تقل عن عشر سنوات ، أترون هذا الصحابي الجليل رضوان الله عليه قال : إن معي من القرآن يكفي لكي أقيم به صلاتي ولكي أستحفظه بتردادي على ذهني ؟ أترون هذا الصحابي الجليل بقي كل هذه المدة المديدة وهو يتصور أن ما معه من أمر الإسلام شيء يخصه وأن إسلامه لا يعني بتاتاً أن عليه أن يزيد من رفعة نفسه وأن يمدّ من رقعة دعوته ؟
لقد كان أبو ذر حين جاء بعد الهجرة لا يقود بني غفار وحدهم أي قبيلته ، وإنما يقود معه أيضاً قبيلة أخرى هي بنو أسلم ، وهي من القبائل العربي البادية الشرسة ، أقبلوا فلما انجلى عنهم الغبار استقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم مرحباً وهاشاً وباشاً وهو يقول : غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله .
إن القضية التي أريد أن أركز عليها هي ما يلي : إن هناك علامات لا تخطئها العين تفرق بين الأجيال ، فأنت تقول عن جيل ما من أجيال الأمة إنه جيل البناء والإنتاج ، حينما تتحقق معينة ، وتقول عن جيل ما يحمل الصفات السالبة ، إنه جيل البطالة والكسل بل جيل الهدم والتخريب . إن ديناميكية الإسلام ترفض الوقوف عند نقطة محدودة تعني في نظر الإسلام بداية التحلل والانحدار ، إن هذا الصحابي لو كان يفقه الإسلام على نحو مما نفهمه عليه الآن لجاء بعد هذه السنوات الطوال يحمل على كتفيه عصاه وزوادته وحيداً فريداً ، وذلك حسبه ، ولكنه من بداية الأمر ومن أوائل الخطى في الطريق أدرك أن الإسلام دعوة نامية متقدمة تتطلب من الإنسان أن يهبها نفسه وأن يمنحها كيانه ، وأن يعيش بها ولها ، وأن يموت عليها . فحينما رأى ذلك واستقر في سويداء قلبه باشر الدعوة إلى الله في صحراء قاحلة وبين أقوام قلوبهم ليست أقل جذباً من هذه الصحراء التي تلفهم بين جنباتها وصخورها . ومع هذا وحينما دعا وحينما عمل جاء بأبرك الثمرات وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم يجر من خلفه ومعه قبيلتين كانتا تعدان من القبائل التي تعيث في الأرض فساداً ولا تعرف الصلاح أبداً .
إذاً فالمسألة بل المشكلة أنه ليست أن نعلم الكثير بل أن نعمل الكثير ، إن العمل هو الغاية المقصودة ، فإذا عدم العمل فإن العلم في هذه الحالة وبالاً على صاحبه في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فلأن الإنسان خضوعاً لشهوات نفسه يضرّ كثيراً لأن يقول ما لا يفعل فيدخل تحت قول الله جلّ اسمه ( يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وأما في الآخرة فإن من أوائل من تسعّر به النار يوم القيامة رجل آتاه الله القرآن وآتاه العلم فيأتي به الله جل وعلا فيعرّفه نعمه عليه فيعرفها ، ويقول له : ألم أعلمك ما لم تكن تعلم ؟ فيقول : بلى يا رب . فيقول له : فماذا عملت فيما علمت ؟ فيكون الجواب تحايلاً على الله ، ويردّ الله عليه : بل علمت ليقال فلان عالم وذلك هو نصيبك ، ثم يأمر به إلى النار .(/2)
ومن هنا كان من سير السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم لا يطلبون من العلم إلا هذا الذي يحتاجونه في سياق العمل . وأما ما لا يحتاجون إليه فلا يطلبونه ، لأنهم يرون أن من طلب الكثير من العلم مما لا تطيق العمل قواه فقد استكثر من حجج الله عليه ، لا أكثر ولا أقل . وما نحن الآن سلخنا من القرآن مرحلة من تاريخ الدعوة الإسلامية تعد مرحلة الأمان ، وسلخنا من القرآن قدراً لو أتيح لكثير من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان لجدّوا بين أقوامهم ولعُدّوا من العلماء وأشير إليهم بالبنان وشُدّت إليهم الرواحل تطلب ما عندهم . فأي شيء أخذناه من هذا الذي قرأناه واستعرضناه ؟ أترون في مجتمعنا الصغير هذا استطعنا أن نوسع من آفاقنا أو أن نعدّل من مسالكنا أو أن نخرج من مهازلنا ومباذلنا لنمنح حياتنا من الجدية التي ترافق الإنسان المسلم ؟ أم نحن نأتي لنسمع ولنرضى بما نسمع ؟ إن أمة الإسلام حينما قامت بلغت ما بلغت بالعدل ، ونحن حينما انحدرنا وهبطنا فإنما كان ذلك ثمرة طبيعية لنبذ العمل والتكثّر بالعلم ، وكم في الأمة الآن من علماء تتقاصر كثير من الماضين عن تحصيل هذه الكمية من العلم التي يحملونها ؟ ولكنك إذا عرضتَ عملهم على علمهم تكاد تتقيّئ ، روائحهم تزكم الأنوف ، مسالك معوجّة ونوايا مجهولة وقلوب هواء ، ولو كانوا يعرفون ما العلم ولمَ هذا العلم لكان لهم شأن آخر .
نحن أيها الإخوة محتاجون إلى أن نتذكّر هذا الكلام ، وما كنت أرغب في طيه ، وإنما هو ذكرى ليعرف كل أخ أن عليه واجباً ثقيلاً ، إن عليه أن يعمل في ظرف يقتضي العمل ، فأنا لا أعرف في كل تاريخنا الطويل مرحلة أشد خطورة على الإسلام والمسلمين من هذه المرحلة . وما من سبيل إلى أن نتغلّب على المشاكل إلا أن نعزم عزم الرجال وأن نضع ضرورة العمل أمام أعيننا وأن نعرف أن هذا الإسلام قوة تتطلب نمواً مستمر ، وأنه قوة ليست مقصورة على صاحبها ، بل ينبغي أن تعمم على الناس جميعاً
( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد ) .
وقبل أن نواجه السورة أستعيد إلى أذهانكم أعجاز السورة الماضية أي سورة القيامة ، فيما عرض الله في سورة القيامة من العوامل الصارفة عن الإيمان باليوم الآخر هذه الخليقة العجلة الموجودة لدى بني الإنسان ( كلا بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة ) ومحبة العاجلة ونبذ التفكير في الآخرة داء شديد الخطر لأنه يحدد نظرة الإنسان بإطار محدود ، وإذا حدد الإنسان نظرته بإطار محدود فقد فارق المطلق الذي يسمح للقيم العليا والأهداف النبيلة أن تتنفس وتعيش ، والإنسان ذو الهدف المحدود هو دائماً عبد للضرورات المحكومة بين طرفي البداية والنهاية في هذا الأمد المحدود ، إن الإنسان كما أراده الإسلام هو الإنسان الذي يعرف أنه خُلق للبقاء ولم يخلق للفناء ، وخُلق للوجود ، وأن وجوده في الدنيا مرحلة لا أكثر ولا أقل . وأن من وراء الحياة الخلود إما في الجنة وإما في النار ، ولكن الإنسان حينما يتغافل عن هذا ويعرف أن مداه هو هذه السنوات التي يعيشها على ظهر هذا الكوكب ثم لا شيء بعد ذلك فهو إذاً مضطر نزولاً عند ضرورات هذا التصور أن يكيّف مسالكه وخلائقه وفاقاً لما يقتضيه إشباع هذه الحاجات التي يحسها الإنسان في هذا المدى القريب .
أما مغالبة الرغبات ومصارعة الشهوات والانتصار على النفس والتضحية بالعاجل من أجل تحقيق قيم عليا ومن أجل ترقية حياة الإنسان فذلك شيء لا يفكر به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر .. هذه قضية عرضناها في السورة الماضية ، وأما هذه السورة الحادية والثلاثين وهي سورة الهمزة فهي تعرض لنا هذا النموذج المخرّب الفتاك ، ولكنها تعرضه مع تعرية للدوافع على الطريقة المعهودة في القرآن واسمعوا لتروا أن هذا القرآن لا يفهمه إلا من يستحضر بداياته ونهاياته ، إن الله يقول ( ويل لكل همزة لمزة ) والهمزة هو الذي يعيب الناس في وجوههم ، واللمزة هو الذي يطعن الناس في غيابهم ، أو هما مترادفان يتعاوران على معنى واحد ، وعلى العموم فهما تؤديان الوصف الذي ينطبق على هذا الصنف المخرب من الناس ، صنف الثرثارين المبتغين للبحث عن العيب ، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس . ليس هذا مهماً الآن وإنما المهم هو ما يلي ..(/3)
من هو الهمزة اللمزة ؟ قال ( الذي جمع مالاً وعدده ، يحسب أن ماله أخلده ) هنا كل المسألة التي تدور عليها حقائق القرآن وترجع إليها ، إن سرّ انصراف الناس عن الأخذ بتعاليم الإسلام وعن التأدب بالقرآن هو هذه المحدودية النظر ، وهو هذا الانطباع في ذهن معظم الناس ، أما ما يراد من الإنسان هو أن يشبع هذه الحاجات التي تلحّ عليه في هذه الحياة ، لقد كان هذا الدرس ضرورياً وأساسياً في العهد الذي بدأ فيه نزول القرآن ، لكنك إذا ملكت القدرة على أن تُمّرر على ذهنك صورة التاريخ البشري والحضارة البشرية برمتها فستجد هذا الدرس هو ألزم ما يكون للإنسانية اليوم ، لأن كل صوت يرتفع وكل دعاية تشاع فإنما تقوم على تزيين هذه الحياة الدنيا في عيون وعقول الناس وقلوبهم ، وأن كل الوعود التي يبذلها الساسة والزعماء والمصلحون فإنما تدور على سد جرعة البطن وإرواء شهوة الفرج وتأمين الكساء والمنزل وما أشبه ذلك ، أو تأمين الحوائج والضرورات التي يشترك فيها الإنسان وأي حيوان يدبّ على هذه الأرض . فتّش في كلام الزعماء .. دعك من العالَم غير المسلم ، هؤلاء لا كلام لنا معهم ، هم غير مسلمين ، اسمع إلى هذه النصوص التي تتزعم العالم الإسلامي فيما تذيع وفيما تعد وفيما تقطع من مواثيق ، ماذا تقول لك ؟ هل سمعتً أحداً منهم يقول يا أيها الناس اتقوا الله ؟ أو يقول إن من ورائكم يوماً يقوم فيه الناس لرب العالمين ؟ هل سمعتم أحداً يقول يا أيها الناس هبوا لنجاهد لإعلاء كلمة الله ؟ أبداً ، هذه القضايا لا تخطر لهم على بال ولا تجري منهم على لسان ، لأنهم تربية الدوائر الاستعمارية ، ولأنهم تربية المباءات الوسخة التي تمسخ الرجولة وتخرب الإنسانية .
إن هذا النموذج الذي عرضته السورة باعتباره خطراً من الأخطار ومعوقاً من المعوقات ، من هو ؟ هو ذلك الصنف الطعّان الذي لا يقرّ له القرار ولا يهدأ له بال ما دام يرى مخلوقين متصافيين ، لا بد له أن يزرع بينهم أسباب العداوة والبغضاء ، ولا بد ولا بد ولا بد مما سأقوله لكم بعد قليل ، ولكن لماذا ؟ أذلك من طبع الإنسان ؟ لا ، إن المسألة مرض ، ومرض خبيث ، إنها ردّ فعل طبيعي لحالة يعيشها الإنسان ولكنها على العموم حالة مرضية ، إن هذا كما عرّاه القرآن إنما دعاه إلى هذا السلوك العفن كونه من ذوي المال ولكن معه صفة أخرى وهي البخل الشديد الذي يجمع الحطام ويحب الحطام ، تفكروا بالصورة ( الذي جمع مالاً وعدده ) ترى أمامك صورة الإنسان الذي لا همّ له إلا أن يجمع المال من حله ومن حرمه ثم هو يصفه صفوفاً ويكدسه رزماً ، لا همّ له إلا ذلك ، خيال المال في ذهنه ليلاً ونهاراً ، وهو في كل الأحوال عبد لهذا المال ، كل شيء عنده هو هذا المال ، فإذاً فالدفاع عن هذا المال هو الهدف الذي يضعه هذا الإنسان نصب عينيه
( الذي جمع مالاً وعدده ) .
إن وجود المال يمنح بدون شك نوعاً من الضمان ، ولكن هذه الضمانة تكون موهومة في بعض الأحيان ، فكم من غني افتقر ، وكم من فقير اغتنى ، ولكن على العموم نعرف أن المال يمنح الإنسان ضمانة ضد مفاجآت المستقبل ، وهذا صحيح وهو معقول ، وإنما الشيء غير المعقول هو ما يسمح به الإنسان لنفسه وما يتولّد معه من الشعور من التواءات لا ضرورة لها في سياق هذا التفكير ، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة ( يحسب أن ماله أخلده ) كثيراً من الناس وهم يجمعون المال ويكدسونه في خزائنهم يظنون أن الدنيا دانت لهم وأن حوادث الدهر غفلت عنهم ، ويظنون أنه لا يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي تتحرك الروح في الصدر بعدما انقضت تلك السنون من عمره ، ارتكب الإنسان فيها من المظالم ما ارتكب ، وانتهك الإنسان من الحرمات ما انتهك ، يرى أنه يترك كل هذا ، وسينسى كل شيء إلا شيئاً واحداً أنه ما هو من الأرض فباقٍ على الأرض ، لا يذهب مع الإنسان إلى الدار الآخرة ، هذا الإنسان الذي يظن أن المال وسلة إلى الخلود إنسان أبله ومغفل ، وهو في الموازين الاجتماعية إنسان خاسر . والمال هنا ذُكر ولكن ليس لذاته فقط وإنما المراد به الشعور الذي يتولد عنه ، وهذا الشعور يتولد عن المال وعن غير المال ، وكل حالة أنتجت شعوراً من هذا القبيل فهي حالة خطير وتعد من معوقات الدعوة ، وتعد من الأخطار التي ينبغي أن تمحق ، لأنها تفسد على الناس دنياهم وآخرتهم .(/4)
إن الإنسان كما قلنا يمنح الإنسان الضمان وهو أيضاً يمنحه قوة ويمنحه سلطاناً ، والسلطان لا يتأتى عن المال فقط ، قد يأتي عن طرائق أخرى ، قد جمّاعاً للفكر وكبيراً في العقل ، فعقله هذا وعلمه يمنحه على الناس سلطاناً ، قد يكون الإنسان زعيماً بين قومه ، منظوراً إليه من بيت رياسة ، فتكون على قومه كلمة نافذة ، قد يكون الإنسان حاكماً على أمة يستطيع أن يتصرف بأموالها وبأنفسها ، ذلك أيضاً يمنحه قوة وقدرة وسلطاناً . إن هذه أشياء مطلوبة ومرغوبة ، ولكن من أجل ماذا ؟ من أجل تدعيم المثل العليا الكبيرة التي أنزلها الله على الأنبياء والمرسلين ، أما أن تستخدم من أجل أن اتخاذ الناس دولاً وعباد الله خولاً فذلك هو الشيء الذي لا يُطلَب أبداً إلا من هذا الصنف من الناس الذين ينصبون من أنفسهم في تاريخ البشرية خصوماً للحق ولكل صوت يدعو إلى الفضيلة .
إن هذه السورة عرضت لنا المشكلة ، مسألة الشعر بأن لا دار بعد هذه الدار ، وأن الإنسان يستطيع أن يقوم بكل ما يرغب ، وأنه مستغنٍ عن الإيمان بالله واليوم الآخر ، مسألة عرضت لنا في أول سورة من سور القرآن الكريم ، يقول الله تعالى ( إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ) فالشعور بالاستغناء سواء كان هذا الاستغناء عن طريق المال ، أو عن طريق الجاه أو السلطان يدفع الإنسان إلى الطغيان ومجاوزة الحد وأن ينسى مكانه أو منزلته .
والقضية الثانية قضية هذا النفر الذي عرض الله شأنهم في سورة القلم ، يقول الله تعالى ( فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ) فالهمز هنا مذكور ، وهذا الصنف من الناس مذكور في أوائل الدعوة ، ولكنك الآن محتاج لكي تدرك الصلات بين أوائل القرآن وأواخر القرآن تبعاً لتطور مراحل الدعوة محتاج لأن تضع الصورتين أمامك .
في الصورة الأولى التي جاءت في سورة القلم عرضت الآيات الكريمة صنفين من الناس يكثرون الحلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم له محبون وعليه مشفقون ، وهؤلاء يكثرون الحلف لأنهم يشعرون في دخيلة أنفسهم أن هذا الرسول الكريم يعرف أنهم يكذبون ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالهوان ( فلا تطع كل حلاف مهين ) ثم هم إن كانوا معك كانوا على أحسن حال معك ولكن حين تغيب عنهم لمزوك وهمزوك ( هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم ) هؤلاء الناس في مراحل الدعوة الأولى كانوا لا يواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن مباشرة لماذا ؟ أهو الاحترام ؟ لا ، وضعوا في أذهناكم أن هذه الصور صور تاريخية ، أي أنها صور مستمرة في الزمان والمكان ، ومتكررة مع كل جيل ، إنهم لا يحبون هذا النبي الكريم . والأصحاب الكرام فهموا أن هذه الصفات لو وُجدت في المجتمع لدمّرت هذا المجتمع .
وهذا الصنف من الناس جاءوا إلى النبي يجادلونه في أمر الدين ، فقال تعالى مخاطباً نبيه ( فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون ) ودوا لو تتنازل قليلاً عن هذا الموقف الصلب الذي وصفك الله إياه . لكن الإسلام دعوة ربانية إلهية لا تفهم هذه الحلول الوسط ، بل تدرك تماماً أن الإنسان المسلم لمجرد أن يترخص ويتنازل أضاع دينه وأهلك دنيا أيضاً . إن هذه الإسلام طريق مستوى معتدل ، لا يمكن أن يطعم بغيره من المبادئ والأهداف ، والذين ينادون بتطوير الإسلام وبتجديد الإسلام وبعصرنة الإسلام وبعلمنة الإسلام أناس شموا كل رائحة إلا رائحة الإسلام ، أناس عرفوا كل شيء إلا هذا الإسلام ، ولو أنهم فهموا من الإسلام شيئاً من حقائقه لعلموا أن هذا الإسلام يرفض كل شيء يفُرَض عليه من حياة الناس . المشركون كانوا يريدون هذا ، من أجل ذلك كانوا يتحاشون مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حينما يغيبون عنه يتناولون بالعيب واللمز والطعن .
إن المشركين تمسكوا في مواقفهم ، لماذا ؟ لأنهم قطعوا الأمل تماماً من أن يتجاوب الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بشيء ولو بالقليل ، وإذاً لم يبقَ شيء من المراعاة ولا للمجاملة ، ولهذا هم يلمزون ويهمزون . يحاربون الدعوة بالدعاوى والإعلام . هذا واحد .
إن الإسلام جاء ليخاطب أناساً ورجالاً وأحراراً ، لم يجئ ليخاطب الحيوانات .. وإن الرجولة تقتضي أنه حينما يرى الإنسان خطأ وانحرافاً أن يحاول تقييم الانحراف وتصحيح الخطأ بالأسلوب الصحيح الذي يرضى الله عنه . بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق . هذه طريقة الإسلام .
وأما أن تتخذ الطريقة الأخرى وهي همز الناس وعيبهم وإشاعة الفحشاء عنهم فتلك طريقة الهوام من الناس .(/5)
من أجل هذا أحببت أن ألفت نظركم إلى أن دلالة السورة الكريمة هو ما يلي : هو أن لا يكون اختلاف الرأي سبباً لتجريح الناس ، إن الإنسانية اتصفت بهذه الصفة منذ القديم ، فحينما يعجز الناس عن مواجهة الحقيقة ، ما الذي تفعله ؟ إن الإنسان عجيب ، لا يمكن أن يلقي السلاح طواعية ، إنه يخترع طرقاً أخرى ، فمن أجل ذلك فحينما يعجز أعداء الدعوة عن مواجهة فكر الدعوة يطعنون رجالات الدعوة . إن المشركين عجزوا عن إقامة الحجة على أن الوثنية خير من العبودية لله وحده . ولكن هذا لم يحملهم عن الخضوع للإسلام ، فانبروا يطعنون بالنبي صلى الله عليه وسلم .
كم حدثتنا السيرة النبوية عن رجالات من العرب ، أبو سفيان حينما وضع قضيبه على جثة حمزة اطّلع عليه أحد المشركين وقال له : أهكذا تفعل بابن عمك ؟ قال : استر علي . إن العربي في الجاهلية كان يحاذر أن يقف أي موقف يشوّه منه وقاره ورجولته . تصوروا أن هول هذا الإسلام أخرج العرب الذين هم بهذا الطبع عن كل حد معقول . كان الزعيم منهم يقلّد النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته وفي حركاته فيضحك ويضحك القوم معه . إلى هذا الحد كانوا يفعلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيهمزون ويلمزون ويعيبون .
والسورة لم تعرض هذا لكي تدافع ، وإنما عرضت لبيان المآل ، هؤلاء الذين يلمزون ويهمزون سيكون جزاؤهم الحطمة ، والحطمة صيغة يعني أن النار تحطم كل شيء يوقع فيها لشدة هذا اللهيب الذي فيها . أرأيتم كيف أن الله يصف هذه النار بأن لها تغيظ وزفير حينما ترى الكافرين ..
قارنوا بين هذه الطبائع الكريهة للمشركين وبين موقف الإسلام ، إن الإسلام كان قادراً على أن يشرّح مواقفهم تشريحاً كاملاً ، ولكن الإسلام كريم ونظيف لا يتناول أشخاصهم ، لأن أشخاصهم لا شيء ، وإنما الذي يهمنا القضية . ولكن هؤلاء المشركين ليست لهم قضية في كل الأحوال ، فمن هنا اكتفى القرآن ببيان عاقبتهم لا أقل ولا أكثر .
إن زماننا اليوم لم يخلُ من الصراع ، بل لعله أكثر من العهود السابقة ، إن تقدم العلوم واستبحار المعارف مع العداء للإسلام وضع بين يدي الناس إمكانات لا حصر لها للاستخدام في هذا الصراع ، إن وسائل الدعاوى والإعلام والإذاعة والتلفزيون والكتاب والصحف والندوات .. جعلت بين يدي الإنسانية اليوم وسائل للمكافحة تتقاصر دونها الوسائل التي كانت بين أيدي المشركين .
إن الزمن الذي نعيش فيه خطير ، ولا ينفع معه إلا الصدق مع النفس ومع الله ومع هذه الأمة ، إن المرحلة التي نجتازها اليوم لا يمكن أن نتجاوزها بنجاح إلا على سفينة الإسلام ، وما لم تأخذ بأسباب الإسلام فلا أمل لها . ومع هذا ومع قناعة جماهير الأمة بهذا فإن مراكز القوة ونفوذ السلطان ينفذون انحرافاً مقصوداً في حياة الأمة ، وهم يطبقون هذا شيئاً فشيئاً . هل سمعتم من أحد منهم قال يوماً ما : إن الله ليس موجوداً ؟ لا ، إن زعماءكم يصلون في الجمعات والأعياد . هل سمعتم أحداً يقول إن الإسلام غير مرغوب فيه ؟ لا ، إن كل أنظمتكم تتمسح بهذا الإسلام ولكن في الجانب المريض ، في الجانب الزائف ، لا يستطيعون أن يجابهوا الإسلام ، لكنهم يملكون أن يضعوا في الساحة من بدائل ، أن يطرحوا شعارات ، ويضعوا مناهج ، فإذا قامت دعوة وارتفع صوت وتحرك شعب فماذا يكون ؟ تقوم القيامة ، وهذا أمر طبيعي نعرفه ، وأنا لا أحب أن يقف أحدكم هذا الموقف ، ولكني أعتب على شعبي حينما ينساقون وراء هذه التيارات الضالة ، إننا نرحب في كل وقت بصراع الأفكار ، وإننا نعلن أن الإسلام لا يخاف من أية منازلة فكرية مع أي منهج من مناهج الدنيا ، لأن الإسلام أقوى من كل شيء .
ولكن لا بد من المخاض ، لا بد من المتاعب التي تواجه الداعين إلى الله ، إن كل السلطات القائمة في العالم الإسلامي تسلك هذا السبيل القذر الذي أشارت إليه الآية الكريمة ، أي تجريح الأشخاص ، قيل عن جمال الدين الأفغاني رحمة الله عليه إنه عميل ومخرب ، وقيل عن الإمام محمد عبده رحمة الله عليه أنه عميل للسفارة البريطانية ، وقيل عن الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله عليه إنه من أصول يهودية ، وقيل عن الحركة الإسلامية أنها حركة استعمارية . مع علم هؤلاء بأن أطهر هذه الأمة هي أيدي المسلمين ، وأن الضمانة الأكيدة لمصالح المسلمين هي أيدي المسلمين ، وأن أشد الناس خطراً على الأمة هي أيدي غير المسلمين .(/6)
إن الأساليب نفسها التي طبقت في الجاهلية القديمة ، وأرجو أن نعد لتحمل آلام المخاض على الرغم مما يحدث لنا ، ذلك ثمن لا بد أن يُدفع . ولكن نعتب على شعبنا ، آن لكم أن تعلموا أن تجريح الدعوة من وراء تجريح الأشخاص مسلك فاسد وفاشل ولا يؤدي إلى نتيجة ، من كان عنده كلام على الإسلام فليتقدم به ، فنحن بحمد الله على بينة من أمرنا . ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ) إن قرآننا يرد على كل مشكلة ويعالج كل داء ، وإن سنن نبينا صلى الله عليه وسلم حاضرة بين أيدي المسلمين يستطيعوا أن يلوحوا بالدواء الذي يشفي الإنسانية من عللها وأمراضها ومن أتعابها .
أما هذه الطريقة القذرة فليأخذ بها من يشاء ، وليقل ما يشاء أننا عملاء للاستعمار ، ولقد قالوها . أذكر لكم حين قام إنسان وسخ فاجر ودخيل على هذه الأمة في عام 1967 ، فقال إن الله خرافة يجب أن توضع في متحف التاريخ . وقلت من هذا المكان إن هذا المخلوق عليه أن يعلم أنه يتكلم في بلد مسلم ، فهو لا يتكلم في موسكو ولا في بكين ، وكان نهاية هذا المأفون هي في السجن .
فليعلم هذا أن هذا القرآن هادٍ وأنه بلسم لا يدع الإنسان في حيرة وعماء ، وانه حينما يسمع كلامات الله بإمعان وروية ويأخذ نفسه بالفهم والتدبر فسيدرك تماماً أن هذه الحيل والألاعيب لا مكان لها وأنه آن لهذه الأمة أن تستعيد زمام أمورها بين يديها .
والأمل معقود بالله جل وعلا أن يهدي هذه الأمة .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة ( ص )
الجمعة 24 ذي الحجة 1397 / 2 كانون الأول 1977
( 4 من 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
في نطاق حديثنا عن السورة السابعة والثلاثين في سياق التنزيل سورة ( ص ) تحدثنا في الجمعة الماضية ساعة وبعض الساعة ونحن نتحدث عن بعض آية عن قول الله جل وعلا في مفتتح السورة ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) وكانت الوقفة مقصودة ، وقلت لكم حينها إنني أريد أن نتعلم كيفية التعامل مع النص القرآني ، فإن الفهم المستقيم لمعاني كتاب الله جل وعلا وقضايا الإسلام يتوقف على حسن التعامل مع نصوص القرآن الكريم ، ولعلكم لاحظتم في الجمعة الماضية أنني اعتمدت قاعدة التحليل اللغوي بصورة أساسية في كل الحديث الذي كان في الجمعة الماضية ، وأنا أصدر في ذلك عن أمر يجب أن تعرفوه وأن يعرفه كل أحد من المسلمين الذين يرغبون أن يكون لهم في الدعوة إلى الله نصيب ، وأسأله تعالى أن يقسم لنا نصيبنا من هذا الشرف الذي لا يتاح إلا للصفوة التي اختصها الله جل وعلا بمحبته وبرضوانه .
والشيء الذي أصدر عنه ويجب أن تعرفوه كنت أريد أن أكون في حالة صحية تساعد على إيضاحه ، ولكن ما لا يدرك كله لا يدرك جله . إن من قصور المنهج أن نعتمد الأساس اللغوي في فهم الكتاب وحسب ، ومن الحق أن هذا ضروري ، ومن كان لا يحسن فنون كلام العرب التي نزل القرآن وفاقاً لها فليس يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئاً ، ولكن من الصحيح أيضاً أن الذي لا يملك قدرة ذوقية معينة تتيح له استشفاف فحوى الكلام وإشارات الكلام فلا يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئاً ، ومن الحق أيضاً أن هذين فقط لا يكفيان فإن الذي لا يدرك أن كل سورة من سور القرآن تمثل شخصية قائمة على حيالها لمختلف أغراضها وتعابيرها وإيحاءاتها ، وأن سور القرآن جميعاً وآيات القرآن جميعاً بينها من التناسب والارتباط ما لا يخطئه إلا قصير النظر ، إذا عرفنا هذا تبين أيضاً أن الذي ينبغي أن يتحدث في كتاب الله لا بد لها من أن يملك هذه القدرة الخاصة على استخلاص المعاني الكبيرة المتولدة عن ملاحظة التناسب بين آيات الكتاب الكريم وسور الكتاب الكريم .
وهذا كما ترون كلام يتعلق بالمنهج ، أقوله ليعرفه كل أحد ، ففي ما يبدو لي أن الله تعالى قضى ألا يضع بين يديّ إلا هذا اللسان ، ولو أنني أمتهن الكتابة لكان ذلك خيراً لي ، وهذا كلام يقال للعاتبين والطالبين والغاضبين ، لأن الذي يكتب ما يريد يستريح من هذا الشيء الذي يكتبه ويلقيه عن كاهله ولا يعود إليه إلا لماماً ، ولكن من ضُرب عليه العبئ الثقيل مثلي فإنما يعيش كل آناته معذباً ممزقاً يعيش مع الأفكار مع حركة الأفكار مع استهلاك الأعصاب مع التفكير الذي يطرأ حتى أثناء النوم ، ومن أجل ذلك أريد للإخوة أن يعرفوا أولاً حدود المنهج حتى إذا غاب الشخص المعول عليه كان بين الناس سراج يستطيعون أن يستضيئوا به ، ومن المحن القاسية أن تكون الأمة مفتقرة إلى قدرة رجل واحد .
منذ بدايات الطريق قلت إنني أرغب لكل أخ أن يعيد درس هذا الشيء الذي نقول وأن يناقش معي هذا الشيء الذي نقول ، وأن يعرف بكل جلاء وصدق أنه صاحب الفضل علي حين يناقشني في هذا الذي أقول ، ولكني أسجل أسفي وخيبة أملي وانقطاع رجائي بعد سنوات ما وجدت لا هنا ولا هناك إلا شيئاً واحداً يدل على التجمد وانعدام الفاعلية وضعف الهمة وتقاسم القوى ، ناس يريدون أن يطبعوا الأحاديث كما هي ، وناس يلحون علي أن أكتب لهم ، ولعمري إنها لخيبة وخيبة كبيرة ، فكل واحد من المسلمين يملك أن يكون خيراً مما أنا عليه ، ولماذا نعوّد أنفسنا هذا الخلق الرديء الذميم الملقي العبئ من كتف إلى كتف ، وتقوم الحصيلة ألا يستقر على كتف أحد ، إنني للمرة أخيرة أهيب بكل الإخوة أن يعطوا من ذوات أنفسهم قدراً زائداً من الاهتمام بكتاب الله جل وعلا ، وما أهوّن عليهم الطريق ، فبعد اثنتين وثلاثين سنة قضيتها في العمل الشاق المرهق الصعب لا يخرج معي إلا هذا الكلام الغفي والأفكار التي لا أرضى عنه . فالطريق صعب ولكن لست حالة أمام همم الرجال ، فأنا أستنهض همم إخوتي لكي يمنحوا قضية القرآن والإسلام أكثر مما منحوها حتى الآن لا سيما ونحن نعيش ظروفاً حساسة بالغة الحساسية خطيرة غاية الخطورة .(/1)
في النص الذي قرأناه عليكم في الجمعة الماضية من فواتح سورة صاد بقايا من ما يحتاج إلى النظر وفاقاً لقاعدة اللغة التي تحدثنا تأسيساً عليها في الجمعة الماضية ، ولكني لن أعود إليها الآن ويكفي أن أذكر لكي أخلص إلى ما بعد الفواتح ، لأن ما جاء في فواتح سورة صاد شبيه من معظم الوجوه بالذي جاء في فواتح سورة القمر السابقة النزول لسورة صاد ، سأذكركم يقول الله تعالى في فاتحة سورة القمر ( اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ، حكمة بالغة فما تغني النذر ) ثم يتجه الخطاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وأرجو أن تتمعنوا في دقائق الصياغة ( فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ، خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ، مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ) ثم يتجه الخطاب بعد ذلك إلى أقوام من الأقوام التي مضت يقتص الله نبأها وفاقاً لمحور معين شرحناه في أحاديثنا عن سورة القمر ( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ) وهكذا يتجه الخطاب إلى قوم عاد وثمود ولوط وفرعون لتلقي السورة بعد ذلك سؤالاً كبيراً على المشركين ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ، أم يقولون نحن جميع منتصر ) سؤال ذو ثلاث شعب ، هل أنتم خير من الأمم التي مضت واقتصصنا عليكم من أنبائها في هذه السورة ممن مردت على العصيان وتكذيب رسلها وأنبيائها فأحل الله بها العقوبة والنكال الأليم ؟ طبعاً لا ، لأن الخيرية في بني آدم ليست في صورة اللحم والدم ، ولكن الخيرية وصف مكتسب من تناسق الإنسان مع مجموع القوانين التي تحكم الكون برمته ، والمعبر عنها والممثلة لشرائع الله النازلة من السماء ( أم لكم براءة في الزبر ) أم أنتم تسقطون في نفس الشيء التي سقطت فيها بنو إسرائيل فقالت تعليلاً لعدم تعذيب الله إياها ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) علماً بأن الله لا يجامل ولا يحابي وليس بينه وبين أحد من خلقه سبب ولا نسب ، وإنما يتفاضلون عنده بالطاعة والتقوي والعافية ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله تعالى .
ثم الشعبة الثالثة من السؤال الكبير الذي جوبه به المشركون ( أم يقولون نحن جميع منتصر ) تلك خدعة الكثرة والسواد العظيم ، ولكن وقائع التاريخ والحوادث اليومية المشهودة ترينا أن الجمع لا يغني عن صاحبه شيئاً ، وأن البقاء مرهون للحق ، وأن الباطل إذا أرغى وأزبد فهو غثاء كغثاء السيل ، وبهذا تتضح المعاني التي دارت حولها سورة القمر . ويهمنا الفاتحة ، رأيتم كيف ركّزت على بيان أسباب من تلك التي أبداها المشركون من عدم الإيمان بالرسل .
ونأتي إلى سورة صاد متعرفين على فواتحها لننظر في الترابط بين السورتين وبين الفاتحتين وفي الاختلافات التي تتحصل من جاء الموازنة والمقارنة . في سورة صاد تفتتح هكذا ( ص والقرآن ذو الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) يعني لا منجى ، لات هي الحرف النافي لا ولكن من عادة العرب أن تلحق التاء ببعض الحروف وبعض الكلمات شداً للمعنى ، فتقول في ( ثم ) ثمت وتقول في ( رُب ) رُبت وتقول ( لا ) وتقول لات ، فهذه التاء تأتي بها العرب لتشد بها المعنى المراد والمناص هو المهرب وهو الملجأ أي أنهم هؤلاء المشركون استغاثوا وأعلنوا البراء من أوثانهم وأعلنوا التوبة ولكن لا ملجأ ولا مهرب من أمر الله حين يُقبِل ، وإن أبواب التوبة في ذلك الحين تغلق تماماً في وجوه المكذبين .(/2)
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حينما مناص ، وعجبوا ) هنا يأتي دور المقارنة بين الفاتحتين ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنه هذا لشيء يراد ) يعني إن محمداً يريد بدعوته السيادة علينا والتمكين في الأرض ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ، أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ، أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ، جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ، كذبت قبلهم قوم نوح ) إلى آخره وينطلق السياق بعد ذلك مباشرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام بأمرٍ يشبه من بعض الوجوه الأمر الذي جاء في سورة القمر ( اصبر على ما يقولون ) هناك في سورة القمر ( فتولى عنهم ) وهنا ( اصبر على ما يقولون ) إذاً فالتغاير لا بد أن تكون له حكمة ، وقارئ القرآن يظلم نفسه حين يتغاضى عن هذه الفروق التي تتبدى لأوساط الناس غير ذات أهمية ، لاحظوا في سورة القمر يقول له الله ( فتولى عنهم ) ولا نكتفي بالوقوف عند قوله ( فتولى عنهم ) وإنما نلاحظ صيغة الآية ( فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ) متى ؟ يوم يدعو الداعي هذا يكون يوم القيامة ، إذاً فالآية الكريمة نقلتنا نقلة بعيدة عبر الزمان وعبر المكان إلى الوقت المعلوم الذي ضربه الله أجلاً لقيام الساعة ، كذلك معناه هو المؤداة أنه يُطلب من النبي عليه الصلاة والسلام الإعراض عن المشركين وترك الأمر لله جل وعلا ، وهذا يتسق تماماً مع جو السورة ومع القصص التي عُرضت في سورة القمر ، بملاحظة القصص التي عرضت في سورة القمر نخرج بنتيجة : إن الله وضع أمام أنظار الناس صوراً لأمم كذبت وعصت وجاءتها الرسل والأنبياء فتولت وأعرضت ، وبغير تفصيل في الأمور التي حصلت آنذاك فإن الله جل وعلا وضع خواتيم أولئك الأقوام أمام أعيننا ليقرّ في الأذهان حقيقة ، ما هي ؟ أن الله غالب على أمره ، وأن الذين يُعرضون عن الذكر ويستمرئون طعم المعصية فإن الله جل وعلا غير غافل عنهم وسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وهذه ليس القضية كلها وللأسف فنحن نجد من آثار انطباعات من هذا النوع أن التواكل والسقوط في هاوية العجز وعدم الاهتمام بما يدور حول الناس هو السمة الغالبة على المسلمين نتيجة الفهم المغلوط والمجزوء للقضايا التي سقطت بين أيديهم وماتت لعدم قدرتهم على تحديد منهج النظر إلى كتاب الله جل وعلا بالأفاق الواسعة العريضة التي شرحناها الآن .
فيما يتعلق بالفاتحتين ، ما يقال للنبي عليه الصلاة والسلام وما يقال للأنبياء السابقين وما يقال لكل مصلح وكل داعٍ إلى صراط هدى وسبيل رشد ، فيجب ألا يستوقف اهتمام أحد ، إن هذا هو خلق الأولين كما قال الله وإن هذا هو ما طرحه الله في القرآن على صيغة تساؤل ( أتواصوا به ) كل أمة جاءها رسول قالت نفس القول ، ونحن نجد نصاً ثميناً للغاية في سورة ( فصلت ) يقول الله جل وعلا لنبيه محمد عليه صلوات الله وسلامه ( ما يقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو المغفرة وذو عقاب أليم ) فهذا الذي تراه من قومك أمر طبيعي وغاية في البساطة ، وعليه لا ينبغي أن لا تلتفت إليه ، والشيء الذي نهتم إليه الآن هو ما بعد الفواتح .(/3)
رأينا أن الله طلب في سورة القمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يعرض وأن يتولى عن المشركين وأن يكلهم إلى الله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض الذي لا يشذ عن علمه شيء بتاتاً ، ولكنا في سورة ( ص ) نلاحظ أننا نخرج من السلب إلى الإيجاب إن صحّ التعبير ولله المثل الأعلى ، إن الله حين يقول له ( اصبر على ما يقولون ) فالإعراض حالة سالبة وترك للقضية في يد الغير أي في يد الله ، لكن الصبر حالة ممارسة ومعاناة وإلا فما معنى الصبر ؟ الصبر هو الخليقة التي تتولد لدى الإنسان وهو يعالج المشقات والصعاب ، وإذاً فهو حالة إيجابية ، وإذا ذهبنا نتعرّف على ما بعد هذا الكلام نجد أنفسنا في الجانب الثاني من القضية التي طرحت سورة القمر جانبها الأول ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيدي إنه أواب ، إنا سخرنا معه الجبال يسبحن بالعشي والإشراق ، والطير محشورة كل له أواب ، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) ثم يلتفت الكلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام في عملية تنبيه شديدة ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ، إذا دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) أي غلبني وقهرني في الحجة والكلام ( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ) أي الشركاء ( ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ، يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ، وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أن نجعل المتقين كالفجار ، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) .
ارجعوا بعض الشيء إلى ما سبق أن قلناه ونحن في بدايات الحديث عن سورة ( ص ) إن سورة ( ص ) تواجه في عملية البناء الإسلامي مرحلة دقيقة ومتقدمة بالنسبة إلى المراحل التي مرت من قبل ، ولهذا فهي معنية بأن تكمل القضايا المطروحة قبلها وأن ترفع مستوى المسلمين في النظر والعمل إلى أرفع وأعلى مما كانوا عليه . إن الله جل وعلا بعد أن أمر نبيه بالصبر وهو المعالجة والمعاناة ، وبذل المجهود الواجب وانتظار النتائج المقدورة في علم الله يلفت نظر رسوله عليه الصلاة والسلام إلى داوود لحكمة ، إن قصة داوود ليست في الحقيقة قصة بني إسرائيل ، ولكنها قصة النبي ، أي أن الإيحاء والانطباع الأول الذي يخرج به قارئ هذا النص أن مجمل ما تفيده عبرة هذه القصة موجه إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام وبالتالي إلى شخص كل داعية إلى الإسلام ممن يقفو أثر رسوله صلى الله عليه وسلم ، أي من هنا تكمن أهمية القضية .
قبل أن نأخذ بالحديث عن فحوى هذه القصة يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً . من المعروف أن موسى عليه السلام بعثه الله إلى فرعون ليخرج بني إسرائيل من الظلم الفادح الذي كان ينزله فرعون فيهم ، وفعلاً جاوز الله ببني إسرائيل البحر وأحلّ ما أحلّ الله بجنوده ، وضرب الله عليهم التيه يتيهون في الأرض أربعين سنة ، ومات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل بيت المقدس ، وفي الحديث الشريف أنه حين دنا أجله قال : ربي اجعلني أنظر إلى بيت المقدس . ومات وهو يرى بيت المقدس ، ولكنه لم يدخل بيت المقدس وقبره هناك وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لو ذهب إلى هناك لأراهم قبر موسى عليه الصلاة والسلام .
بعد موسى دخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة يوشع بن نوح ، وساسهم وقسّم عليهم الأرض وفاقاً لتقسيم الأسباط في بني إسرائيل ، وبعد يوشع لم يكن عليهم ملك يسوسهم ويدبر أمرهم ، وظلوا بهذا الشكل من بعد موسى بثلاثمائة وست وخمسين سنة بالضبط ، ولا ملك لهم , وإنما يسوسهم القضاة ، وهي الفترة المعروفة في تاريخ بني إسرائيل بفترة حكم القضاة ، القضاة إما أن يكونوا أنبياء وإما أن يكونوا قضاة ويوجد أنبياء ليبلغوا هؤلاء القضاة أوامر الله تعالى .(/4)
بعد مدة استعرت الحروب بين بني إسرائيل وجيرانهم من المديانيين والفينيقيين والعمالقة والفلسطينيين ، وكانت الحروب سجالاً بينهم . في آخر هذه المرحلة وقعت حرب طاحنة بين بني إسرائيل وبين الفلسطينيين ، وكان من عادة بني إسرائيل أنهم يخرجون تابوت العهد ، وهو تابوت توضع فيه بقايا التوراة وبقايا ما تركه موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، وفي هذه الحرب حلّت الهزيمة ببني إسرائيل ، واستولى الفلسطينيون على تابوت العهد وأخذوه إلى بلدهم في أشدود قرب غزة ، وبقي هناك التابوت سبعة أشهر في يد الفلسطينيين ، وضعوا التابوت في بيت صنمهم ، وكان لهم صنم رأسه رأس إنسان وجسمه جسم سمكة ، ولكن الفلسطينيين لاحظوا أمراً غريباً ، لاحظوا أنهم في كل يوم يجدون الصنم ملقى على وجهه ، ثم ابتلاهم الله بكثرة الفئران والأوبئة والأمراض ، فرأوا أن هذا من فعل احتفاظهم بالتابوت ، فجاءوا بمركبة وشدوا عليها بقرتين ووضعوا التابوت فوق المركبة وأطلقوها باتجاه بني إسرائيل ، وذهبت البقرتان بلا قائد حتى جاءتا إلى بني إسرائيل .
هذه الفترة وهذه القصة المضطربة قبيل تملك داوود عليه السلام جاء نبؤها بتعبير رائع في القرآن الكريم في سورة البقرة ابتداءاً من الآية ( 246 وما بعدها ) بقول الله تعالى ( ألم ترَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كُتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كُتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين ، وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ) وطالوت في أدبيات العبرانيين اسمه شاول بن قيس ( قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتَ سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) والواقع أن الملائكة لم تحمل التابوت بأيديها وإنما كانت تهدي البقرتين وهما تسوقان العربة لتحمل التابوت إلى بني إسرائيل ، ولا يجوز أن يُفهم غير هذا .
( وقال لهم نبيهم إن آية ملكه ) أي علامة رضاء الله عن تمليك طالوت ( أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) وحينئذ قادهم ملكهم إلى القتال ، وابتلاهم الله بالنهر ، والمهم أم الله جل وعلا قال ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكم وعلمه مما يشاء .. ) إلى آخر الآيات . فهذا هو مبدأ ملك داوود .
نبيهم الذي كان في زمن داوود اسمه صموئيل ، تعرّف على داوود بالعلامات الموحى به وأقدمه إليه ، وتعرّف على طالوت وأقدمه إليه وجعله ملكاً على بني إسرائيل ، وحين وقعت الواقعة كان في الفلسطينيين رجل شجاع مشهور بالشجاعة اسمه جالوت وهو في الأدبيات الإسرائيلية وفي التوراة اسمه جوليات ، جالوت كان شديداً تتحاماه الأبطال ، وداوود لم يكن من جملة الجيش الذي ذهب ليقاتل جالوت والفلسطينين ، ولكن أباه أرسله لكي يستعلم له عن خبر إخوته الثلاثة الذين كانوا في الجيش ، فلما جاء إلى الجيش وجد الناس يتحامون قتال جالوت ووجد جالوت يدعو إلى المبارزة ولا يتقدم إليه أحد ، فتساءل داوود : ماذا يكون للذي يقتل جالوت ؟ قالوا إن الملك يغنيه ويزوجه ابنته ويجعل بيت أبيه حراً في بني إسرائيل ، فلما طلب المبارزة ألبسه طالوت لأمة الحرب فوجدها تعيقه عن الحركة فرماها ، من ؟ داود ، وتقدم إلى الوادي فاختار خمسة أحجار وفي يده مقلاع فوضع حجراً في المقلاع وضرب جالوت فأصابه على جبهته ورماه ، وتقدم فأخذ سيف جالوت واحتز به رأسه ، منذ ذلك الحين علا نجم داود وعظم شأنه في بني إسرائيل وأصبحت له رئاسة الجند ، وبعض خطوب لا داعي لذكرها كان ملكاً على بني إسرائيل ونبياً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام .(/5)
هذا النبي الذي خاض الغمرات وتمرس بالصعوبات في الحرب وفي السلم وعالج من التواءات نفوس بني إسرائيل ما عالج ، هو الأنموذج الذي افتتح الله به العرض أمام ناظري النبي صلى الله عليه وسلم . فماذا ؟ إن الله ذكر في الآيات التي تلوناها عليكم من سورة ( ص ) أن الله طلب من محمد صلوات الله عليه أن يتذكر داوود وأن يتذكر ما كان عليه من الملك القوي والأيدي الشديدة وأن يتذكر أيضاً ما كان عليه من العبادة والإخبات إنه أواب ، وأن يتذكر أن الذي شدّ ملكه هو الله لا غيره وأن يتذكر أنه نبي ولا كالأنبياء ، وملك ولا كالملوك . ومع هذا ففي حياة داوود سقطة ، وأقول سقطة بالمعنى المجازي ، جعلت ربنا جل وعلا يعاتبه بعنف وبشدة ، وجعلت داوود عليه السلام يستحي من ربه وتسيل دموعه باستمرار ويموت وهو يبكي على خطيئته ، ما هي هذه الخطيئة ؟ للأسف الشديد كتب التفسير تزدحم بمرويات هي من نتائج روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه وأضرابهما من مسلمة اليهود الذين دسوا على المسلمين أباطيل من أباطيل الأمم السابقة ، من جملة ما دسوا قالوا : إن داوود عليه السلام قسّم وقته أجزاءً فكان من أجزاء هذا الوقت وقت يخلو فيه في المحراب ، يغلق الباب على نفسه ويوقف الحرس والجنود ، وبعض الروايات تبالغ فتقول إنه يضع على باب مكان العبادة أربعة آلاف حارس يمنعون الناس من الدخول عليه في وقت فراغه للعبادة ، في تلك الأثناء لم يشعر داوود عليه السلام إلا وخصمان أمامه ففزع ، كيف وهو الملك المحروس ذو الجند والذي يعلم أن المؤامرات تحاك من حوله ؟ كيف تسرب هذان إلى المحراب وهو المكان المنيع الذي لا يدخله أحد وفاقاً لأوامر الملك والنبي داوود عليه السلام ؟ ليس المهم هنا الآن ، المهم أن الروايات وبعضها منسوب إلى ابن عباس ولا أراه يصح أن داوود وهو في معتكفه في المحراب تمثلت له حمامة من ذهب فلفتت نظره فلما مد يده ليقبض عليها طارت فلحق بها فلما لحق بها طارات وقعت على كوة من كوى المحراب ، شباك صغير ، فلحق بها فلما أشرف نظر في بيت مجاور إلى امرأة متعرية تغتسل والتفتت المرأة فلاحظت نظرة داوود فأسدلت شعرها على جسمها وتغطت به ، ويقال إن داوود عليه السلام علق هذه المرأة ولم يعد يستطيع الصبر عنها ، وذهب يستفسر ويسأل ، فقيل له إن هذه زوجة القائد أوريا الذي يقاتل في مكان كذا ، ودبر داوود في نفسه أمراً ، وكتب إلى قائده العام أن يقدم أوريا لكي يكون مع التابوت ، وحين يكون الفارس مع التابوت فمعنى ذلك احتمال قتله يصل إلى تسعة وتسعين بالمئة ، ولكن الله فتح عليه فأمره أن يضعه في نحر العدو ، فقتل أوريا وتزوج داوود من زوجة أوريا وعاتبه الله جلا وعلا بهذه الصورة المورّاة ، ويقال في بعض الروايات ما هو أشنع ، استدعى المرأة وزوجها غائب وعاشرها وحملت وأراد أن يداري الفضيحة فاستدعى زوجها من المعركة لكي يصيب أهله وتخلص الفضيحة ، ولكن الرجل كان قائداً مخلصاً وجندياً لا يعرف إلا الطاعة فبات على باب داوود ولم يذهب إلى أهله ، فلما اكتشف ذلك داوود أمرهم أن يقدموه في نحر العدو حتى قتل ، وثمة رواية أخرى لابن عباس حول هذا الموضوع تقص ذات القصة مسندة طبعاً إلى أهل الكتاب تقول إن داوود عليه السلام أراد في نفسه هذا الأمر فقدّم زوج المرأة في نحر العدو عدة مرات ، وكلما قدمه نحو العدو كان ينتصر ثم صرفه الله جل وعلا عن هذا الخاطر السيء بهذا العتاب الذي جاء في سورة صاد ، وما أشبه بما قيل لولا ملاحظة : إننا نستطيع الآن أن نعقد مقارنة بسيطة بين خطيئة يوسف وخطيئة داوود ، خطئية يوسف ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) فهو هم يعتلج في النفس دون أن يأخذ طريقه إلى التحقق والعمل ، ولكن في هذه الواقعة حينما نأخذ الرواية الثانية لابن عباس نجد أن داوود باشر التدبير وأخرجه إلى حيز الفعل ، وهذا لا يليق بفجار الناس ولا بساقطيهم ولا بأوباشهم ، هذا فعل الزنات والفجرة وليس فعل أنبياء الله تبارك وتعالى ، إذا رجعنا إلى المفهومات الصحيحة فنحن نجد الروايات قال بها بعض المفسرين تقول إن داوود عوتب لسبب هو أنه كان يشتهي ما في أيدي الناس فصرفه الله جل وعلا بهذه الآيات عن أن يشتهي ما في أيدي الناس ، واشتهاء ما في أيدي الناس خطيئة بالنسبة لمن كان في المركز الأول ، ويقال وهو الأشبه وهو الذي نعتمده وذهب إليه مفسرون محترمون وآخر من اطلعنا على رأيهم موافقاً لهذا أستاذنا شهيد الإسلام المرحوم سيد قطب هو أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا الجري وراء المرويات والمنقولات ، اقرأ الآيات تجد أن الخصمين حينما دخلا على داوود عليه السلام ففزع منهم فقالا له : لا تخف نحن لم نأتِ لنريد بك سوءاً ولكننا خصمان بغى بعضنا على بعض أي اعتدى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بقدر ولا تشطط يعني لا تجاوز الحد واهدنا إلى سواء الصراط يعني عظنا وعلمنا ما ينفعنا في معاشنا ومعادنا ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي(/6)
نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) هذه هي القضية أي موضوع الدعوة التي قدمت لنبي الله داوود عليه السلام ، شريكان أحدهما يملك تسع وتسعين نعجة والآخر يملك نعجة واحدة ، صاحب التسع والتسعين يريد من صاحب النعجة الواحدة أن يضع نعجته تحت يديه ليكمل بها المائة ، هذه هي قضية الدعوة وموضوعها ، ماذا كان الجواب ؟ رأساً وبغير سؤال الطرف الأخر قال داوود : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، ثم عقب على ذلك درساً آخر ( وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) هنا استذكر داوود أن الموضوع فتنة من قبل الله وابتلاه واختبار ليشده إلى الأفق الرفيع الذي ينبغي أن يظل أنبياء الله والدعاة إلى الحق السائرون على أقدام الأنبياء مرتبطين به لا يتزحزحون عنه شعرة واحدة ، إن المنطق وقواعد العدل تقضي حينما يأتيك خصمان أن لا تنطق بالحكم قبل سماع وجهة الطرف الآخر ، داوود عليه السلام سمع وجهة طرف واحد ولم يسمه وجهة الطرف الآخر ، وما يدرينا لعل المسألة يكون فيها شيء ، ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام كان يحتاط لهذا ويقول لأصحابه : إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أقضي على نحوٍ مما أسمع ، ولعل بعضكم ألحن في حجته من أخيه ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فليأخذ أو ليذر فإنما أقتطع له قطعة من النار .
إذاً ففي كثير من الأحيان تقدم إلينا الدعوة وبظاهر الأمر وقبل تقصي الحقائق ومعرفة الأسباب والدوافع ربما نقع في الخطأ في الحكم ، ولهذا عاتب الله داوود عليه السلام ، ليس هكذا يحكم الأنبياء . وسياق الآيات واضح في هذا ( وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) ، ولو أنا قرأنا الآية التي بعدها مباشرة وبإمعان لوجدنا تصديق هذا المفهوم كاملاً ، إن الله ينادي داوود ( يا داوود إن جعلناك خليفة في الأرض ) وخلافة الله في الأرض قوامة على شرعه من فوق الرغبات والشهوات ومن فوق عوامل الضيق والعصبية ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) لا تمل مع ظواهر ولا مع القرابة ولا تمل مع الصداقة ولا تمل مع أي نازع من النوازع ، إنك مؤتمن على قضية كبيرة هي قضية الحق الذي يساوي الوجود ، وسأبرز لكم الآن ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ، إذا قرأتم الآن وبعد هذا ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) أي أن الحق هو روح الوجود وأن هذا الحق تعبير عن الناموس الذي يحكم السماوات والأرض ، ما معنى الباطل في كلام العرب ؟ الباطل هو اللاشيء ، يقال بطل الأمر إذا ذهب وتلاشى ، يعني أنه مرادف العبث والعدم ، وهذا غير صحيح ، لأن العدم ضد الوجود ، ونحن نشهد الوجود ونحن جزء من الوجود ، وإذاً فلا عبث ، ونحن نرفض العبث لأننا نلاحظ هذا الكون بكل أجزائه يسير على تناسق بديع لا اختلال فيه ، وإذاً فلا باطل في الأمر ، وهذا الباطل هو الذي يوافق الظلم والقهر واستغلال الناس ، ولكن الحق هو الذي يكون ترجمة وتعبيراً حياً لناموس الله جل وعلا الذي رتّب عليه هذا الوجود برمته .
قبل أن أتعرّض لشيء آخر ، ما أنا بمتعرّض له اليوم ، أريد أن أخلص إلى عبرة . يا إخوة ، وهذا أهم شيء أريد أن أقوله لكم ، الإنسان نبياً أو صديقاً أو عالماً أو مجاهداً أو أي وصف من الأوصاف وُجد لتشمله خلافة الله في الأرض ، أي أنه مخاطب ومسؤول ، بمعنى أن عليه وجائب والتزامات تجاه نفسه وتجاه الآخرين ، والإسلام مجلود ومظلوم بين أبنائه ، إن للإسلام وجهة نظر دقيقة ، وإن من أفحش الخطأ أن نتورط فيما تورّط فيه كتابنا ومفكرونا الإسلاميون في هذا الزمن ، فنسقط في الفخ الذي يعامل الإسلام وفاقاً لمصطلحات الحياة المعاصرة ولا سيما في باب الإنسانيات ، إن تساؤلاً ظل يدور في العالم الإسلامي أن الإسلام دين فردي أو دين جماعي ، واقع الأمر أن هذا السؤال كله لا فائدة له ، إننا في الحضارة الغربية تساؤلاً من هذا القبيل تقوم عليه نظم ، في الحقيقة هناك من قال بأن الإنسان كائن فردي ، ومنهم من قال أنه كائن اجتماعي ، وبنوا على ذلك خلافاً منهجياً في الحياة ، خلاف أدى إلى أن توجد مدرسة تعطي الأولوية للمجتمع ، ومدرسة أخرى تعطي أولوية للفرد ، ومن المضحكات المبكيات على هذا الجنس البشري المنكود أن الذين اتخذوا الفرد قاعدة لمنهجهم انتهوا إلى عبودية الجماعة ، كما في الانتخابات الدول المتقدمة التي يتحكم فيها القطيع بأخيار الناس وبأشراف الناس ، وأن الدول التي اتخذت القضية الجماعية أساساً لمنهجها انتهت إلى أن تكون دولاً فردية ، كما هو الشأن في الدول الشيوعية والاشتراكية ، بالرغم من أنها تقول من أن الجماعة هي المقدّمة وأن لها الأولوية المطلقة ، انتهت إلى دكتاتورية بغيضة كدكتاتورية استالين وماو وما أشبه ذلك .(/7)
الإسلام ليس مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، الإسلام يبدأ فردياً لينتهي جماعياً ، لأنه يقول : إن قاعدة الصلاح والإصلاح تتوقف على وجود اللبنات الصالحة التي تشكل بمنطقها وبعملها وبمواقفها ونواياها تعبيراً حياً عن مُثُل الإسلام وأحداث الإسلام . وهذا لا يتم إلا بعملية قاسية من المعاناة الداخلية المستمرة المعبر عنها إسلامياً بالمحاسبة ، هذا هو منطلق الإسلام . ومن هنا نجد الله جل وعلا يقول ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فالأمر إذاً موكول إلينا ، أعود لأردّ أواخر الحديث أو أوائله ، ليست القضية كما يتركه انطباع سورة القمر ، هذا جانب واحد من الموضوع ، ولكنها تحتمل الجانبين ، إننا يجب أن تكون لدينا ثقة مطلقة بأن الله غالب على أمره ، وبأن الله لن يمكن للظلم في هذه الأرض ، لماذا ؟ لأن هذا يعني العبث والبطلان ، والله تعالى منزه عن العبث والبطلان . ولكن يجب أن نعلم أن مراد الله لا يتحقق بلمسة سحرية ولا بجند من الملائكة ينزلون ليسكنوا الأرض بدل البشرية المعذبة الخاطئة ؟ لا ، وإنما يتحقق مراد الله تعالى ببني آدم ، يعني أن البشر هم الأداة الذين يشكلون مجلى الله تبارك وتعالى ، ومن هنا كان التركيز على إصلاح النفس البشرية خطوة أولية لا غنى عنها ، هذا من جهة .
من جهة أخرى ، فما من شك أن الناس : طويل وقصير وأسود وأبيض ، والناس ذكي وبليد ومفكر وخامل الفكر ، وهناك النشيط والعاجز وبين بين ، فليس كل الناس على مستوى واحد ، لا من حيث البناء الجسمي ولا من حيث القدرات العقلية والاهتمامات الروحية . إن الله جل وعلا أناط مهمة الإصلاح البشرية للصفوة المختارة من الناس ، ولكنه رتّب عليهم واجبات . افهموا القانون ، قانون الإسلام يتحدد كالآتي : إنك كمسلم مطلوب منك أن تزيد في عمق نفسك ، أي أنك تمارس حركة داخل نفسك تستهدف تطهير الباطن وإصلاح الباطن وتهيئة هذه النفس لكي تكون على القواعد التي ترضي الله تبارك وتعالى .
من جهة أخرى ، أنت تمارس أيضاً وفي نفس الوقت حركة خارج ذاتك ، أي تأثيراً يتبيّن في مجتمعك الذي تعيش فيه ، انتبه إن تأثيرك في الخارج يتساوق تماماً على نفس النسبة التي تحققها في داخلك . حينما تكون قهاراً لنفسك ، صبوراً على الحرمان ، صبوراً على البلايا ، صبوراً على المشقات ، مرضياً لربك ، ملاحظاً لما يريده منك في كل شيء من أشيائك فإن تأثيراتك خارج ذاتك ستكون كثيرة ، ولكن في الوقت الذي تتهاون وتكسل وتتراخى ينحسر تأثيرك ، ولهذا لما كان الأنبياء عليهم السلام معرّضين وهم في غمرة العمل وفي وسط الكوارث ، ناس مبصرون في وسط قوم عمي لا ينظرون ، لما كان الأنبياء على هذه الحالة تأخذهم الآلام والأحزان من أقطارهم جميعاً ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) لما كان الأنبياء عليهم السلام بهذه المثابة كان لا بد أن يثبتهم الله جلا وعلا وأن يمنحهم الحصانة .
تمثّلت هذه الحصانة في قضية ذات جناحين : الجناح الأول هو الذي عرضته سورة القمر من حيث الإعراض عن المشركين وما يدبرون وترك الأمور لله يصرفها كما يشاء ، فإن هذا يعطينا دفعة قوة لا أكبر منها ، إن توّهم الخطر والمخاوف من قبل العدو يولّد في النفس انحساراً ، سأمثّل لكم : لو أننا سيّرنا قطعة من الجيش لتقاتل عدواً ، فنحن أمام أحد وضعين ، إما أن تكون قوتنا أكثر من قوة العدو ، وإما أن تكون قوتنا أقل من قوة العدو ، حينما تكون أكثر من قوة العدو ، أنا أتكلم عن الحالة العادية طبعاً المقطوعة الصلة بهداية الله ، حين تكون قوتنا أكثر من قوة العدو فلا شك أن عوامل الإقدام والشجاعة والجراءة متوفرة لدى قوتنا . ولكن حين تكون أقل تنعكس الآية ويكون الخصم مرهوباً للغاية ، ونتصور الكوارث والأهوال ويسكن قلوبنا خوف مجهول ، ومن هنا كان أول دروس القادة في القتال أن يحرص القائد وهو يقود جنده على أن يحطم في قلوب وعقول جنده أسطورة العدو المتفوق ، لأننا حينما نحطم هذه الأسطورة فسوف تتفجر لدينا قوى كانت مخبوءة وراء هذا التصور المقيت أي تصور قوة العدو .
فنحن إذاً والأنبياء حينما كانوا يواجهون الجموع الكثيفة يعرضون عن الله ويكذبون الأنبياء كانوا بحاجة إلى هذه الحماية التي تمثلت في ربطهم بالله وربط الكون كله بالله ، ووإقناعهم بأن الله يمهل ولكنه لا يهمل .(/8)
الجناح الآخر لهذه القضية الثبات على المبدأ دون أن يتزحزح الإنسان عن موقفه بفعل هذه التأثيرات المجتمعية التي يعيشها . إن الله عرض قضية داوود ، مسألة بسيطة جداً ، خصمان تقابلا أمامه سمع وجهة نظر واحد وأهمل وجهة الطرف الآخر ، وأصدر الحكم ، كان هذا خطأ دون ريب ، وخطأ يعاتب عليه النبي فلا يجوز أن يقع فيه ، لأن النبي يمثل الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وحينما عرض الله هذه الصورة لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان يعالج جراحاً غائرة في نفس محمد صلى الله عليه وسلم ، حين كان يضطرب في جنبات مكة يدعو أهلها إلى الله ، وهم يصرون على السخرية والإيذاء والاستكبار ، أراد الله له أن لا ينزل عن هذا الأفق العالي . ألا يوجد من وراء ذلك عبرة يا إخوة ؟ أقول : نعم . نحن كدعاة إلى الله نذرنا لذلك أنفسنا ، ونسأله الشهادة من أجل ذلك إن شاء الله ، لأنها أقصى ما يتمناه المسلم ، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد نبيك صلى الله عليه وسلم . نحن كدعاة إلى الله جل وعلا نواجه من أوطار اتلبشرية ما يعرفه كل أحد ، ولا سيما في هذه الجاهلية المستحكمة في عصرنا هذا الذي يحسبه الأغرار والمغفلون عصر العلم والمدنية ، وهو العصر الذي يشكل االدمار بالنسبة إلى البشر .
نحن كدعاة يجب علينا أن لا نتنازل عن مواقفنا التي وضعنا الله جل وعلا فيها ، وأن لا تغترنا عن ذلك فلتات العواطف التي تكون ثائرة بين جوانحنا تجاه بعض المواقف التي تصدر من خصوم الله ، لا ، يجب علينا أن نحافظ على الأفق المرتفع السامق الذي يجب أن يعيش فيه رجل الإسلام ، وأن لا نتبع الهوى ، وأن نكون عادلين مع أنفسنا ومع غيرنا ، ومع صديقنا ومع أعدائنا ، اللهم إني أسألك كلمة الحق في الرضى والغضب .
إن درس داوود درس بليغ ، لما يترتب على السقطة الهينة من آثار مدمرة تتناول حيوات الناس إلى آجال طويلة ، إن على المسلم اليوم أن يستذكر هذه الحقيقة الصغيرة الكبيرة في آن واحد ، إنه يحمل في عنقه أمانة الجنس البشري برمته ، أي إنه لا يعيش لنفسه ، ولا يعيش لأهوائه ولا لنزواته ، وإنما يعيش لله ولعباد الله ، ويعيش لهذه الرسالة .
فاللهم عونك ، فإن الأمر صعب ، وكل صعب إذا يسّره الله جل وعلا فهو يسير ، فاسألوا الله التيسير ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/9)
تفسير سورة ( ص )
الجمعة 29 ذي الحجة 1397 / 9 كانون الأول 1977
( 5 من 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
أرجو اليوم أن ألمّ بأطراف الحديث عما تبقى من سورة ) ص( ، وسأكون بذلك قد قطعت مرحلة طيبة بحمد الله تعالى ، استعرضت فيها المراحل الأولى للدعوة الإسلامية في الفترة المكية ، وأتوقع أنني سأريح نفسي فترة مناسبة بعد ذلك ، بعد أن أخذنا وعداً من أخينا الشيخ عبد القادر بأن يتحمل بعض الواجب عليه وعلى القادرين من الخدمة اللازمة لهذه الأمة في وقت عصيب للغاية يتقاضى كل قادر على العطاء أن يبذل ما عنده على الأقل لكي يبرئ ذمته أمام الله تعالى ولكي يسعى لفك رقبته من النار .
فأقول مستعيناً بالله تعالى ، إن الذي عرضناه عليكم في الجمعة الماضية على الخصوص وفيما سبقها بعامة يشير إلى أمر ذي أهمية شرحناه لكم بالتفصيل ولا مانع من أن نعيد التذكير بفكرته العامة . ولقد رأيتم أثناء تحليلنا لسورتي القمر وصاد أنهما تتعاوران على قضية واحدة وعلى إبراز درس واحد بصورة رئيسية وهو أن تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تحث المؤمنين العاملين على طريقه بأن لا يسمحوا لضغوط الأحداث ولا لمنغصات الدنيا ولا للظواهر البشعة التي تظهر من الناس استجابة رديئة لهذه الدعوة أن تنزلهم عن الأفق الرفيع الذي وضعهم فيه ربنا تبارك وتعالى ، لأن الأصل أن الإسلام لا يجوز أن يتلون بألوان الذاتيات التي تحمله ، ولا يجوز بتاتاً أن تتدخل نوازع النفس بالتحكم بقوانين الدعوة وبطرائق الدعوة ، فهناك عزل كامل بين ما نريد نحن وما يريد الله تعالى ، وفرق ما بين المؤمن كامل الإيمان والمؤمن ضعيف الإيمان ، وفرق ما بين المؤمن العارف بمرادات الله جل وعلا والمؤمن ضعيف المعرفة بهذه المرادات هو هذا ، هو أن يوطّن الإنسان نفسه لكي يكون وفياً وفاءً مطلقاً لما أراد الله تعالى ، برغم كل ما يعترضه في الطريق ، وبرغم كل ما تجيش به نفسه من المثبطات والمعوقات والمزعجات .
وذلك شيء اتضح بصورة رئيسية في الجمعة الماضية جزءاً من قصة داوود عليه السلام التي أمر الله محمداً صلوات الله عليه أن يصبر على ما يقول المشركون ، وأن يذكر داوود ، فداوود عليه السلام برغم هذا المُلك المؤيد من الله تعالى الذي آتاه الله إياه ، وبرغم مما جبله الله عليه على سنة الأنبياء من طهارة النفس وسلامة الوجدان والقدرة على تخطي الصعوبات فإن الله تعالى حفاظاً على هذه القاعدة المنتجة التي تقتضي من العامل في سبيل الله بعداً وارتفاعاً عن كل أشياء الدنيا ، إن الله كما رأيتم عاتب داوود عليه السلام عتاباً مراً ومشوباً بالتهديد حينما سمع قصة الخصمين وأذن لواحد ولم ينتظر أن يدلي الخصم الآخر بحجته ، فنطق بالحكم قبل ذلك ، فعاتبه الله جل وعلا ، وأشار إلى ما فعل بأنه الفتنة ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب فغفرنا له ذلك ) .
لكن المسألة لم تنتهِ في سياق التنزيل عند هذا الحد ، فكل شيء من هذا القبيل على سنة القرآن المعهودة لا بد أن يليها الدرس ، فالله جل وعلا بعد ذلك ذكّر داوود عليه السلام بموقعه من دين الله ، وبمسؤوليته التاريخية بالنسبة إلى رسالة الله جل وعلا ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) فأنت لستَ إنساناً من الناس العاديين ، ولكنك قيّم على دين الله ، وهذا يتقاضاك أن تنطق بلسان الله وأن تعمل بما يرضي الله ، وأن تكف عن التعجل والنزق كالذي كان منك في قصة الحكمين ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) فثمة أمران في إدارة شئون البشرية وتخليص أمور الناس ، حق وباطل وشريعة وهوى ، ولا مجال لأن يُلفّق من الشيئين شيء جديد ، فالذي يكون مع الحق يبعد بكل تأكيد عن الهوى ، والذي يتلبس بالهوى ينسلخ بكل تأكيد عن الحق .
ولهذا كان شعار المؤمنين المتقين الميل مع الحق ورفض كل دواعي الهوى ، وليس بعيداً عن أذهانكم قصة المرأة المخزومية التي سرقت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأهمّ المسلمين أمرها ، لأنها من عائلة وقبيلة لها في الشرف والرياسة جاهلية وإسلاماً نصيب موفور ، فتشاوروا فيمن يكلم رسول الله فقالوا : من يقدر على ذلك إلا أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كلمه غضب النبي عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً وقال له : يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله ؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .(/1)
فالمسألة مسألة حق ، ويوم يميل الناس عن الحق يقعون في الهوى ، والهوى كما قال الله في خاتمة الآية ( فلا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) فالمسألة ليست بالنسبة إلى داوود عليه السلام ولا بالنسبة لمحمد عليه السلام ولا بالنسبة إلى كل داعٍ إلى الله مجرد درس يُلقى ثم يسدل الستار بعد ذلك على الواقعة ، ولكن قضية تهديد مرعب يقول الله فيه ( إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) وفي قوله تعالى ( بما نسوا يوم الحساب ) إشارة إلى أن ميل الناس مع الهوى لا يكون أبداً من الناس الذين يذكرون الله والدار الآخرة ، لأن الباء هنا المتصلة بما هي باء السببية ، أي أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم هذا العذاب الشديد بسبب نسيانهم ليوم الحساب ، فحيثما وجدتَ إنساناً يترك الحق الواضح ليأخذ بأسباب الهوى تحت أية ذريعة من الذرائع فلك أن تحكم بكل اطمئنان أن هذا الإنسان نسي الله تبارك وتعالى ونسي المنقلب والمصير إليه ، أي نسي الدار الأخرة .
ثم جاءت الآيات بعد ذلك تردف بين هذه القضية والنظام الكوني برمته ، للدلالة على أن التوجيهات الربانية المتمثلة في شريعة الإسلام النازلة على ألسنة الأنبياء جميعاً هي جزء من النظام الكوني ، بمعنى أن الإخلال به يُحدث من حيث النتائج المترتبة عليه حكماً ما يترتب على اختلال الشمس أو القمر أو اختلال أي ناموس من النواميس التي تحكم هذا الكون العظيم . فكما أن هذا الاختلال يؤدي إلى انهيار كامل في النظام الكوني فكذلك الإخلال بشريعة الله جل وعلا يؤدي إلى الفساد الذي هو قرين الإخلال بالنظام ، أي أنه يلغي الحياة البشرية بإلغائه للغاية من الحياة البشرية ، وهذا هو ما يتحصل لقارئ القرآن الممعن في التفهم حين يقف عند قوله تعالى ( وما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا ) هذا مما يخطر على بال الكافرين ، ولكن المؤمنين لا يأتيهم هذا الخاطر إلى ظنهم أبداً ( فويل للذين كفروا من النار ) .
ثم لا يقتصر الدرس بعمقه وبعنفوانه عند هذا الحد ، وإنما يلفت الله تعالى الأنظار إلى أمر ذي أهمية حاسمة في مجال الصلاح والطلاح في مجال الخير والشر في مجال الاستقامة والفساد ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) هذا تساؤل يسمى في علوم اللغة سؤالاً إنكارياً ، أي أن هذا لا يكون . ماذا يُفهم من ذلك ؟ ان الله تعالى ليس فقط في الآخرة لا يسوي بين المجرم وبين المؤمن ، ولا يسوي بين التقي وبين الشقي ، وإنما أيضاً في هذه الحياة الدنيا كما جاء ذلك مصرحاً به في مواضع عدة من كتاب الله ( سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) فالشيء المعروف أن الناس صنفان : صنف شقي ومجرم ورافض لهداية الله تعالى ، وصنف مؤمن تقي مستمسك بما جاء من عند الله تبارك وتعالى . وباستعراض حياة الصنفين تبين أن الصنف المؤمن الواقف مع الأمر والنهي والوفي لشريعة الله جل وعلا يتمتع بنمط من الحياة يفتقر إليه ذلك الصنف الآخر المجرم الشقي .
فالمؤمن إنسان مطمئن النفس هادئ البال مرتاح الضمير ميسر الأمور . والشقي المجرم الكافر إنسان قلق معذب ممزق معسر الأمور . ذلك شيء يجده الإنسان بنفسه ويجده فيما حوله ، ولفت النظر إلى هذه القضية لفت نظر إلى قضية تربوية تتصل بذات الشريعة وبصميم المنهج الإسلامي ، فالذي يُعرف الآن وفي كل وقت أن الناس المؤمنين يجدون هذا الشيء في أنفسهم ويحمدون الله تعالى عليه ، فكم من مرات وجد الإنسان المؤمن نفسه أمام جدار مطبق في طريق مسدود ، وكم من مرة وجد الإنسان نفسه أمام مزعجات ومنغصات وأمام كوارث وأهوال ، وفي الحساب العقلي يتبين أن النتائج محسومة وأنها خراب ودمار ، لكن الله اللطيف الخبير الذي كتب أنه غالب على أمره والذي كتب أنه سيغلب هو ورسله والداعون إلى الحق يفرج الأمور من حيث يدري أحد ( ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ويعظم له أجره ) فهذا شيء ملحوظ . على العكس مما تلحظه في الآخرين ، فكم من إنسان استمرأ طعم الشهوة وذاق طعم نفسه واسترسل وراء الغوايات وظن أن الدنيا دانت له وأن الأمور ذُللت بين يديه وأنه لا إزعاج ولا تنغيص ولا كوارث ولا شيء من هذا القبيل ، وفجأة ترى العزيز في غاية الذلة والمهانة ، والغني الغني يتكفف الناس من الفقر والحاجة ، والشريف الشريف تراه مدفوعاً في الأبواب ، لماذا ؟ لأنها هي العاقبة التي قررها الله تعالى في هذا الكلام الذي قاله ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) .(/2)
ومن هنا تجدون الإنسان حينما يضع نفسه في طريق الإيمان ويأسر ذاته على طاقة الله تعالى وتترسخ في صميمه دعائم التقوى ومخافة الله جل وعلا يزداد مع الأيام بصيرة من أمره ووضوحاً واستقامة على طريقته لأنه يجد بركة ذلك في نفسه ، وعلى ذلك فلا داعي للنقاش حول صحة الطريق وعدم صحته طالما أن الإنسان يجد دليل ذلك ومصداق ذلك وشاهد ذلك في داخل نفسه .
بعد هذا الكلام تأتي قصة سليمان عليه السلام ، ولي وقفة قصيرة عندها ، فالله تعالى ذكر في هذه السورة فقال ( ووهبنا لداود سليمان ) وداوود حكم بني إسرائيل أربعين سنة ، وجاء سليمان ولياً للعهد ، وتولى الملك ملكاً موطد الدعائم ومشيد الأركان ، وفي زمن سليمان عليه السلام اتسعت مملكة بني إسرائيل غاية الاتساع ولم تشهد توسعاً من هذا النوع بعد هذا التاريخ أبداً . فإن ملك سليمان امتد اعتباراً من شمال الجزيرة العربية إلى أجزاء شرقية وإلى مناطق الشام وفلسطين وإلى الفرات ، والله جل وعلا شد ملكه جداً وسخر له ما سخر مما ذكر لنا في السورة الكريمة ، لكن الله جل وعلا ذكر أموراً ينبغي أن نزيل عنها الإبهام قال ( ووهبنا له سليمان نعم العبد إنه أواب ) كثير الرجوع إلى الله تعالى مستغفراً وتائباً ومنيباً ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) أي الخيل ( فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ، ردوها عليه فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ، ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ، قال ربي اغفرلي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) في هذا المجال ومرة أخرى نقول للأسف فإن كتب التفسير معظمها يجيء مشحوناً بروايات تسربت عن أهل الكتاب وأخذها المسلمون بحسن النية كحوادث تروى ، ولكن المتأخرين أدخلوها في كتب التفسير لا على أنها هي ما أراد الله بالفعل ولكن كلون من ألوان الفهم لظلال الآيات الواردة ، من هذه الأشياء التي وردت أن سليمان عليه السلام حينما أراد الله امتحانه وابتلاءه كان ملكه في خاتمه ، ومن هنا القصة الخرافية التي تشيع بين الناس عن خاتم سليمان ، وهي قصة لا أصل لها ، أنه إذا كان أراد الذهاب إلى الخلاء وضع خاتمه عند أم ولد له تسمى أمينة ، وفي مرة من المرات وضع الخاتم عند هذه المرأة ودخل بيت الخلاء ولما كان هناك جاء الشيطان متمثلاً في صورة سليمان وقال : خاتمي ، فأعطته الخاتم ، فلما أعطته الخاتم ألقى الله عليه شبه سليمان ودان له البشر ودانت له الجن ودان له الطير ، وجاء سليمان فقال للمرأة : أعطني خاتمي ، قالت : أخذته . وتنكر الناس من سليمان وذهب ، ودامت الفتنة أربعين يوماً وأصبح الناس يرجمونه بالحجارة حتى ألجأوه إلى شاطئ البحر ، وكان هناك ناس يصيدون السمك فأصبح يخدمهم ويعينهم على ما هم فيه ، وحين أراد الله جل وعلا أن يرفع عن سليمان هذه المحنة كان هؤلاء السماكون يعطونه كل يوم سمكتين كأجر ، فشق بطن إحدى السمكتين ليأكلها فوجد فيه الخاتم بعد أن طار الشيطان وألقى الخاتم في البحر ، فلبسه وعاد إليه ملكه .
هنالك حوادث أخرى أن حكماء بني إسرائيل استنكروا من الشيطان الذي ألقي عليه شبه سليمان بعض التصرفات ، فلما سألوا نساءه ، قالوا إنه لا يغتسل من جنابة ولا يمتنع عن امرأة في دورتها ، فعرفوا أنها الفتنة . نقول تعقيباً على ذلك ، إن هذا لا يقع في الأذهان ، فأنبياء الله معصومون ، ولكن بني إسرائيل في الحقيقة لا يعتقدون أن سليمان نبي من الأنبياء ، وإنما يقولون إنه ملك ، ويقولون هو ساحر ، وفي سورة البقرة حديث عن هذا الكلام ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) إلى آخر هذا الكلام , بياناً لنوع من أخطاء بني إسرائيل التي تورطوا فيها بعد سليمان عليه السلام ، نقول إن هذا لا يقع في الفهم لعصمة الأنبياء ، ولأمر آخر بالغ الأهمية ، فإذا كنا نتصور أنه من الممكن أن يتلبس الشيطان في صورة نبي من الأنبياء فأية ثقة تبقى بعد ذلك في مقالات الأنبياء ؟ أليس من الجائز أن يتلبس الشيطان بصورة موسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكلام من هذا النوع إذاً يتناول أمراً اعتقادياً لا يجوز معه الركون إلى مرويات الكذبة والجرَآء على الله وعلى أنبيائه الله من بني إسرائيل .(/3)
ولذلك نحن في حل من رفضها ابتداءاً ونعود لنسجل أسفنا لما أدخل بعض المفسرين عن حسن نية من هذه المرويات في كتب التفسير ، ويبقى السؤال : ما هي الفتنة ؟ إنه عُرض في هذه القضية أمران ، ثانيهما أقرب إلى المعقول من الآخر ويسنده المنقول كما سوف ترون . حينما نظر المفسرون في أوائل الكلام عن سليمان وما قال الله جل وعلا من حبه للخيل الجياد ( إذ عرض عليه بالعشي الصافيات الجياد ، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ، ردوها عليه فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ) في كلام العرب ما يشير إلى أن المسح يُستعمل أيضاً في الضرب بالسيف ، فقالوا : إن الفتنة كانت أن سليمان عليه السلام ككل الملوك كان عنده استعراض لقواته ، والخيل ولا سيما الجياد منها هي العدة القاهرة التي تساوي أحدث المكتشفات في عصرنا الحاضر ، فكان استعراض الخيل معجباً ومزهواً ، وظل يستعرض الخيل حتى توارت بالحجاب ، أي غابت الشمس ، ولم يكن قد صلى العصر ، فانتبه لذلك وقال : ردوها علي ، أي ردوا الخيل علي ، فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ، أي أنه عاقب الخيول بسيفه وقطع أعناقها لأنه ألهته عن الصلاة ، فهموا ذلك من قول الله ( إني أحببت الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) ولكننا لا نستطيع كأسلوب من أساليب الفهم لكتاب الله أن نطمئن اطمئناناً كاملاً وأن نثق ثقة مطلقة لتأويل من هذا القبيل لماذا ؟ للأتي : أولاً : إن المسح بالسوق والأعناق كلاماً يحتمل الكناية عن الأصل ، وكلاماً يحتمل المسح العادي على سوق الخيل والأعناق للتدليل والإعجاب ، فلما كان الكلام محتملاً سقط به الاستدلال وبطل به الاحتجاج .
والثاني ما يتأتى من فهم كلمة ( عن ) فمن الجائز لغة وهي اللغة التي نزل بها القرآن أن نفهم : إني أحببت حب الخير حتى ألهتني عن ذكر ربي . ومن الجائز أيضاً أن نفهم الآتي : إني أحببت حب الخير بسبب ذكري لربي ، ويكنى عن ذكر الله هنا عن الجهاد في سبيل الله ، أي أنني لم أحب الخيل المعبّر عنها بالخير وهي المال الكثير إلا أن الله أمرني بجهاد الأعداء وهو أمر عن أمر الله جل وعلا حتى توارت بالحجاب ، أي غابت الخيل عن الأنظار . وهذا محتمل في لغة العرب .
فالتأويل ليس قاطعاً ، وحينما نرجع إلى المرويات نجد أن الفتنة ليست هي المرادة بهذا حتى ولو غابت الشمس ولم يصلِ سليمان العصر . فنبينا محمد عليه الصلاة والسلام شُغل في غزوة الخندق عن الصلاة حتى قال : لقد شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وقبورهم ناراً . ولم يترتب على ذلك من الله عتاب . ولم يعبر عن ذلك بفتنة لأنه أمر عادي . وإذا الإنسان كان في غمرة الشغل ونسي واجباً من الواجبات فلا يعرّض للمؤاخذة ، لأن الله تجاوز عن الناس فيما نسوه ، ولكن يؤاخذ عن فعل العمد .
حينما نرجع إلى المرويات نجد البخاري ومسلم قد أخرجا في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام كانت له نساء كثيرات ، فقال يوماً : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل واحدة منها فتلد مولوداً ذكراً يشب ليقاتل في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله . فلم تحمل من السبعين إلا امرأة ، وحينما ولدت جاءت بطفلاً مشوه الخلقة وهذا هو الذي جيء به فألقي على كرسي سليمان . هل تحتاج المسألة إلى عتاب إذا لم يقل إن شاء الله ؟ أقول : نعم . فثمة حادث مشابه في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حينما سأله المشركون عن بعض المسائل ، قال سأجيبكم غداً ، ولم يقل إن شاء الله . فتلبّث الوحي وأرجف الناس أن محمداً يكذب ، لأنه قال بأنه سيخبرنا غداً ولم يخبر ، فمعنى ذلك أن ما يتحدث به عن الوحي كلام لا قيمة له وكلام مختلق .
حتى مضت خمسة عشر يوماً بالتمام فجاءه الوحي من الله تعالى ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى ربي أن يهديني لأقرب من هذا رشداً ) ثم جاءه الجواب فيما سأله المشركون .
قول الإنسان سأفعل ذلك غداً وسأقول ذلك بعد قليل دون أن يردّ ذلك إلى قدرة الله الذي بيده فقط أنفاس الإنسان وإمكانات الإنسان لون من نسيان الله تعالى ويستحق عليه الإنسان المعاتبة .
وإذاً فخطأ سليمان كان في هذا ، وبعد أن يرد النص عليها مشروحاً من النبي عليه الصلاة والسلام فلا معنى أن يذهب أي إنسان لالتماس التأويلات من أي مصدر آخر على الإطلاق .(/4)
فإذا تركنا قصة سليمان جاءتنا قصة أيوب وهو مثال الصبر ، ثم جاءتنا قصص أخرى ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطفَين الأخيار ) أي أن الله تعالى أخلصهم لنفسه وزاد التصاقهم بشرعه وجعلهم مذكورين في الدنيا إلى أن تقوم الساعة وأوجب لهم المقام المحمود يوم القيامة بخالصة ، يعني بخصلة خالصة وهي أنهم يذكرون الله جل وعلا ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ، واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار ، هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ) أي أن هذا القرآن ذكر وموعظة للناس ( جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ، وعندهم قاصرات الطرف أتراب ، هذا ما توعدون ليوم الحساب ) ثم ما جاء بعد ذلك عن أهل النار ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ، جهنم يصلونها فبئس المهاد ، هذا فليذوقوه حميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ) لماذا جاء هذا الكلام ؟ كلام يترجم عما أعده الله للصنفين يوم القيامة .
جنات عدن ونعيم مقيم للمتقين ، وعذاب مهول للكافرين .. من أين جاء العلم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر لا يتأتى العلم به من التجارب البشرية ، ومن لا استعراض حوادث التاريخ ولا من أي شيء آخر .. إنه إذاً جاء دليلاً على أن ما يتلوه محمد على الناس من عند الله تعالى .
أيضاً ( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنهم صالو النار ، قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتوه لنا فبئس القرار ، قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار ) من أين جاء العلم بهذا الجدل الذي يكون بين الرؤساء والأتباع ، وكم سيكون جدلاً مخيفاً بين الرؤساء والأغرار من الأتباع يوم القيامة ولكن في النار ، من أين جاء العلم ؟ جاء من عند الله ، إذاً فذلك دليل على دليل على أن ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إخباراً من الله وهو يُسلك في قائمة الأدلة على ربانية المصدر الذي يصدر عنه الكتاب الكريم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم أيضاً ( وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار ، أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ، إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) وما أحرى المسلم أن يقف طويلاً عند هذا الكلام ، إن ناساً كثيرين أخذتهم الدنيا وانشغلوا بالمناصب وتعززوا بالقوة الناقصة بقوة المخلوق الضعيف المغلوب ، واحتقر الناس واحتقر المؤمنين ، أذلك يذهب هباءً في كون عظيم ؟ لا ، إن هؤلاء الناس في النار والجحيم يتساءلون : ما لنا لا نرى بلالاً وعماراً وصهيباً من الناس الذين كنا نقول عنهم : من هذا وما قيمة هذا ؟ هؤلاء أشرار الناس غافلين عن أن الموازين والمعايير في شرع الله لا تقاس وفاقاً إلى ما يبتلي به الله الناس من أنواع المحن ، وإنما يقاس بالفضائل الإنسانية والكمالات البشرية .(/5)
ثم يأتي السياق بعد ذلك إلى أمر يعود على أول السورة ، إن المشركين عموماً الذين سخروا من محمد سخروا من قبله برسل الله جميعاً ، وحينما عرضنا لفاتحة سورة صاد وجدنا أن من أهم الأسباب التي حددت للمشركين مواقفهم الشائنة من أنبياء الله ترتد إلى عامل الحسد ، ومن هنا جاء كلام الله في آخر السورة ليلفت المؤمنين إلى هذه الرذيلة التي سببت شقاءً طويلاً للجنس البشري وسببت طرداً أبدياً لأبليس الذي كان من خيرة عباد الله . ( قل هو نبأ عظيم ، أنتم عنه معرضون ، ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ) الخصومة القائمة في السماء عند الله ( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) لست إلا واحداً منكم لا أعلم أكثر مما تعلمون ، وما جئت به فهو من الله وليس من عندي ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من رحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ، قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ، قال أنا خير منه خلقتني ) هذه الكلمة التي يتورّط فيها كثير من المسلمين ، أنا خير من فلان ، ويحك ما أدراك أنك خير منه ؟ إن المعول على ما هو عند الله ، لا على الثياب الجميلة ولا على الوجه البراق ولا على الصحة الفارهة ولا على الجيوب المحشوة ولا على الكراسي ولا على السلطان العظيم ولا على الجاه العريض ، إن المعول على ما عند الله ( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال فاخرج منه فإنك رجيم ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، قال ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون ، قال فإنك من النمظرين ، إلى يوم الوقت المعلوم ، قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ) يعني إبليس أستاذ الكافرين جميعاً في القديم والحديث إلى أن تقوم الساعة يقسم بعزة الله واعتراف صريح بأنه مخلوق لله وبأن الله هو الرب ، فإذاً هؤلاء الأوباش الفاسدون الساقطون الذين يتصورون اليوم أن الناس لم يخلقهم الله شر من إبليس ، طوائف الشيوعيين ومن لفّ لفهم ممن يزعمون أن الكون خُلق هكذا وأن الإنسان هو سيد نفسه ورب نفسه شر من إبليس ، فإبليس أستاذ الكل من هذا الركب الوسخ يعترض ويقسم بعزة الخالق ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ، قال فالحق والحق أقول ، لأملأنّ جهنم منك ممن تبعك منهم أجمعين ) ما الذي أفسد إبليس ؟ الحسد . ما الذي منع المكذبين في الأمم السابقة أن يصدقوا بأنبياء الله رغم وضح الحجة واستقامة الدليل في الأنفس والآفاق ؟ الحسد . ما الذي حمل أبا جهل وأضرابه على الوقوف من محمد صلى الله عليه وسلم موقف العناد والتكذيب ؟ الحسد . ( وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وجاء رجل من المشركين إلى أبي جهل فقال : يا أبا الحكم أتظن أن محمداً يكذب ؟ قال : لا ، ولكنا تزاحمنا نحن وبنو هاشم في الجاهلية فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وحملوا وحملنا فلما قالوا منا نبي أنى يكون لنا مثل ذلك . وإذاً فهو الحسد الذي صد هؤلاء المكذبين عن سماع هداية الله .
ولو أنك جئت الآن إلى واقعنا المتخبط بالرذائل لوجدت الحسد يلعب دوره المقيت في هذه الظاهرة أيضاً . أما أعرف أن فلان تقي في نفسه مستقيم في سلوكه يدعو إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ولكن أتساءل : لماذا لا أكون أنا الذي أتصدى لهذا الأمر ؟ وإذاً فأنا لا أتبع فلاناً . وهذا ليس من أخلاق المؤمنين .
والآيات التي خوتمت بها السورة آيات تلفت النظر إلى هذين الأمرين ، إلى تعليل وبيان سبب التكذيب الذي وُوجهت به الأنبياء السابقة ، والتكذيب الذي وُوجه به محمد صلى الله عليه وسلم من جهة ، وتنبيه إلى المؤمنين أن لا يسقطوا فيما سقط به فإبليس وسقط فيها من بعده جميع المكذبين الضالين من الأمم السابقة .
فالسورة خوتمت بهذه الآيات ، وهو كلام يأتي في صيغة الأمر التلقيني .. خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم ليقول شيئين انتبهوا إليهما .(/6)
( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ، إن هو إلا ذكر للعالمين ، ولتعلمن نبأه بعد حين ) الوصف الأساسي للأنبياء ومن يسيرون وراءهم في الدعوة إلى الله أنهم يأخذون الأجر على الدعوة ، وإنما يلتمسون الأجر من الله تعالى ، وجاء أحد الصالحين إلى أحد الخلفاء يأمره وينهاه ، فقيل له : سمِ ما تريد . قال له : إنك لا تقدر على ما أريد . قال وأي شيء لا أقدر عليه ؟ إن السحابة تمر وتغيب ولكني واثق من أنها ستمطر في أرضي وسيأتيني خراجها . قال : أنا أريد أن أعطيك الجنة فهل تستطيع أن تعطيني الجنة ؟ إن الإنسان المؤمن أكبر من أعراض الدنيا وأشيائها فوقها جميعاً . يطلب من الله الرحمة وهذا بيد الله وحده ، ويطلب من الله الرضا وهذا بيد الله وحده ، ويطلب من الله الجنة وهذا شيء لا يقدر عليه إلا الله . وإذاً فذلك هو وصف لازم لأنبياء الله جميعاً ، ولكل داعية إلى الله أن يتقدم إلى الله إلى الله مجرداً من أية رغبة من أي شيء من أعراض الدنيا .
والرسول صلى الله عليه وسلم أزال من أذهان المشركين أنه يريد من دعوته شيئاً ، لا أريد الجاه والسلطان ولا الأموال ولا النساء ولا أي شيء مما تتصورون ، وإنما أجري على الله .
ثم ( وما أنا من المتكلفين ) أي أنا لا أتكلف أي شيء ، وإنما أنا واحد منكم بكل بساطة ، وإنما أصدع بالحق الذي أمرني به الله تعالى .
( ولتعلمن نبأه بعد حين ) متى قال هذا الكلام ؟ قال هذا الكلام يوم كان المسلم في مكة المكرمة يتخفى في صلاته ، لأنه لو رآه المشركون وهو يصلي يؤذوه . حتى أن أحد المشركين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فأخذ جزور بني فلان ووضعها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى جاءت بنته فاطمة فأزالت الأقذار عن أبيها . أي أن المسلم كان في ذاك الزمان يُعذب ويطارد ويسفك دمه ، وبمجرد أنه يُكتشف بأنه يصلي كان هذا اللام ينزل على محمد ويقوله محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين ( لتعلمنّ نبأه بعد حين ) .
فهو إذاً قوة الحق الذي لا يُغلب ، يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام في وجه القوة الجبارة كاشفاً عن طمأنينة لا نهاية لها من أن العاقبة للتقوى ، ومن أن النصر هو للإسلام ومن أن الأحزاب حتى ولو تحزبت من كل وجه الأرض لكي تقف في هذا النور ما أفلحت .
فيا مسلمين يا من حملتم دعوة الله على رضا منكم أو كره ، يا من دعيتم لحمل دعوة رسول الله لا يغرنكم ما ترون فيه أعداء الله من سلطان ومن عز فذلك باطل ، والرجل الذي يرى نفسه غاية في القوة غاية في المنعة غاية في العز ، من ورائه الجنود والجيوش المزيفة تأتيها اللحظة التي يفتش فيها عن وسيلة لكي ينجو منها فلا يجدها . وحسبكم أنكم رأيتموا من أناس جُرّوا من أرجلهم كما تجر الكلاب وألقوا في المزابل بعد العز والسلطان ، وبقيت كلمة الله . لا يتطرق الوهم والوهن إلى قلب أحدكم ، المهم هو أن تكونوا واثقين بالله الذي ينصر المؤمنين ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) في الحياة الدنيا ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) ويوم يقوم الأشهاد يلقن الله حجتهم حتى يفيئوا برضاء الله تعالى .
ولكن الذين تتضعضع عزائمهم وتخور قواهم أمام الصدمات يحتاجون إلى دروس مطولة في الصبر على الإخلاص لله تعالى وهي ليست بالقليلة . وعسى أن يكون في استعراضنا لسورة صاد في هذه الجمعة وما سبقها دروس تفيد الأمة لكي تعرف ان نصر الله مضمون ولكن ضمن شروط ، نلخصها باختصار :
ـ ثقة لا حدّ لها بأن الباطل مهزوم ومخذول لأنه ضد القانون الذي شرعه الله تعالى في الكون .
ـ عمل موصول من أجل أن يكون الإنسان أبداً ملتصقاً بشريعة الله وفياً لأوامر الله ونواهي الله تعالى .
ـ بُعد عن الصغائر والإسفاف .
ـ إصرار على مواصلة الطريق رغم كل المثبطات والموئسات .
ـ ثقة بغير حدود بهذا النصر الذي قال الله عنه ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) .
وبعد ذلك فإن الله يغيّر بلا شك .
أسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا منتفعين نافعين ، وأسأله تعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأسأله تعالى أن ينير بنا جنبات الإنسانية التي أظلمت ، وأن يعيننا بحوله وبقوته وقدرته على تصحيح ما يكتنف الناس اليوم من شبهات وأوهام ، إنه وحده المسؤول وعليه وحده المعول .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة ص
الجمعة 8 ذي الحجة 1397 / 18 تشرين الثاني 1977
( من 5-2 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فبالرغم من حرصنا في الجمعة الماضية على أن نعطي تلخيصاً وافياً لسورة ( ص ) فإن ذلك لم يستيسر لنا لما كنا معنيين به من إبراز الفوارق بين هذه السورة والتي قبلها أعني سورة القمر ، ففي كلٍ من السورتين ذكر مفصل إلى حدٍ ما لوقائع الأنبياء مع أممها وأقوامها ، ولكن عبقرية القرآن تتجلى في كونه يسوق القصص الواحد في المواطن المتعددة لشتيت الأغراض ، فركزنا على هذه الناحية في الجمعة الماضية ولكن على حساب التلخيص اللازم لسورة ( ص ) وهي السورة التي نواجهها اليوم والذي سيكون له من بعد تفصيل بعد إجمال إن شاء الله تعالى .
ما كان من كلام في الجمعة الماضية يكفي فيما أتصور لكي يضعنا في جواء السورة ، وضمن موحياتها ، وفقط أحب أن أذكّر بأن الجانب الذي عرضته هذه السورة من حياة الأنبياء كان يهدف إلى إبراز قضية يفتقر إليها الإنسان وهو في غمرة العمل وإن كان نبياً . فالأنبياء صلوات الله عليهم هم بشر أولاً وآخراً ، أي أن حذف النوازع البشرية والتأشيرات العارضة وضغوط الأحداث أمر لا يُعقل ، وإلا لانسلخ النبي عن بشريته ولحق بعالم الملأ الأعلى وذلك لا يكون . وإزاء مظاهر الجحود والتكذيب والعناد الذي ليس له مبرر فإن أقوى النفوس وأرسخها في الإيمان ليست محصنة ضد التأثرات العارضة إلا أن يتداركها الله تعالى بعصمة منه وحفظه ، ونبينا عليه الصلاة والسلام لقي من قومه كفار مكة خلاصة ما تمخّضت عنه الطينة البشرية من رديء الأخلاق وفاسد الطباع ومنحط الشيم ، خلاصة ما وُوجه الأنبياء كلهم وُوجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبشراسة أشد وخصومة أعنف ومعارضة أعتى ، وهو بأبي وأمي بشر يحس كما نحس ويألم مثلما نألم ، وهو المفعم قلبه بالرحمة ، يكاد يعدو على نفسه بالإهلاك ألماً وحرقة أن لا يؤمن هؤلاء الناس ، وذلك شأن النفوس العظيمة ، إن الألم يعتصرها اعتصاراً حينما تبلغ من الشفافية ومن رسوخ الإيمان وقوة اليقين الدرجة التي تجعل الحق الذي تحمله كالشمس ظهوراً ويرى الناس يخبطون في التيه والعماء ويتمرغون في الوحل ، ذلك في الحقيقة شيء مؤلم .
وكل هذا مشروع وطبيعي ومتساوق مع جوهر الأحداث وجوهر الإنسان ، لكن النفوس من حيث لا تدري قد تجنح وهي وسط هذا الإعصار العنيف لتستيئس ولكي تتشوّش أمامها ساحة الرؤية ، وهنا يبدأ الخطر ، وهذا أمر منظور ، فمن أجل ذلك جاءت سورة ( ص ) لتعرض أمام أنظار رسول الله صلى الله عليه وسلم صوراً وملامح من حياة الأنبياء من قبله . إن النبي مكلّف بغرض ، بوظيفة ، مأمور بأن ينفّذ أمراً خاصاً ، ليس له فيه يدان ، ليس من كيسه ، فمن أجل هذا لا يملك أن يتصرف فيه إلا بإذن الله تعالى .
وذلك يعني منطقياً أن النبي وكل عامل في طريق الأنبياء مطلوب منه وبوضوح ومن بداية الطريق أن يكون أقوى من نوازعه ، وأكبر من مجتمعه ، وأقوى من كل ضغوط هذا المجتمع . مطلوب منه أن يبقى أبداً في هذا الأفق العالي السامق الذي وضعه الله تعالى فيه ، وأن تبقى الغاية النبيلة الكبيرة العظيمة هي التي تجتذب قواه جميعاً وتشد إليها اهتماماته جميعاً . ونحن بأيسر المراجعة لما كان حتى المرحلة التي نتحدث عنها من المشركين في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أن جدلاً طويلاً للغاية أُثير حول قضايا ذات أهمية ، لكن شيئاً ركّزت عليه سورة ( ص ) يعطينا تقديراً مناسباً لواحدة من هذه القضايا وهي قضية الرسالة .
فالمراجعة العامة لسورة ( ص ) تكشف لنا أن ثمة خيطاً واحداً ورئيسياً ينتظم كل القضايا التي عرضتها سورة ( ص ) ، هذا الخط الأساسي الرئيسي يدور حول قضية النبوة والرسالة وما يتفرّع عنها ، اسمعوا تُفتتح السورة هكذا ، وأنا أتمنى أن أكمل استعراضها اليوم لنفرغ لتفصيلاتها من بعد ( بسم الله الرحمن الرحيم ، ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) فنادوا أي استغاثوا ، إلى هنا وبلمحة خاطفة عرضت السورة الكريمة في البداية حالة الكافرين باعتبار أن هذه الحالة وصفاً ملازماً للأقوام الكافرة لا يتخلّف مع اختلاف الأزمنة والأمكنة ، فالتكذيب وما يترتب على التكذيب من تحكيم الهوى وما ينتج من تحكيم الهوى من شقاق وفرقة وتنابز ، ثم ما يتأتى من ذلك كله من تدمير وإهلاك ، ثم ما يأتي من تذكّر بعد أن يكون التذكّر قد فات وقته ، ذلك هو الطبع الملازم للكافرين عموماً .(/1)
( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ، كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص ) هذا العرض تبعه مباشرة حديث عما يختلطه ويأتفكه الأفاكون والكافرون حول موضوع النبوة ، ماذا يقولون ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) ذلك أول شيء أخذ ألباب الكفار أن يكون المنذر من البشر ، ولماذا لا يكون ملكاً ؟ بل لماذا لا يكون كما جاء على ألسنة بعض سفهاء مكة لماذا لا يجيء الله والملائكة قبيلاً ليتحدثوا مع هؤلاء المشركين ، ولو جاءهم لكفروا به .
( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) ما هو ردّ الفعل وما هي الاستجابة ؟ ( وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ) أفبعد هذه السفاهة سفاهة ؟ ولنتابع سلسلة اعتراضات المشركين ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) وهذه النقطة فيما أتصور ألقيت عليها بعض الإيضاحات في الجمعة الماضية ، خبل في العقل البشري قديم الزمن ومنذ وُجدت هذه الإنسانية لحكم قصور قواها المدركة تتصور أن هذه الخلائق التي لا تكاد تتناهى لا يمكن أن يديرها وأن يدبر أمرها إله واحد ، فليكن التدبير وما إليه صنع آلهة عديدين ، وأيضاً فإن الإنسان الفاني وهم يرون قانون الحياة أرحاماً تدفع وقبوراً تبلع إن هذا البشر الفاني بما هو مجبور عليه من فناء وقصور ونقص لا ينبغي له لأن يتطاول بأن يدعو الله المتسامي والمتعالي ، ولا أن يمد يده إلى الله ، فمن هنا نشأت فكرة الوسائط والشفعاء والشركاء وعُبّر عن ذلك بالقالة التي قالها مشركو مكة وقالها المشركون في كل وقت ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وأيضاً فإن النشأة والإلف يطبع في نفس الإنسان كراهة التغيير ، ويجعل الإنسان يتصور رياح التغيير سموماً قاتلة ، مع أن التغيير سنة الحياة ، مع أن التغيير ينبغي أن يكون نحو الأصلح باستمرار . لكن قانون الإلف جعل الناس يميلون إلى حياة الركود والجمود وينفرون من كل دعوة تدعوهم إلى نبذ المألوفات . ويرحم الله المتنبي لقد عبّر عن هذه الخليقة في الإنسان تعبيراً في غاية الدقة فيقول :
إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مرّ المذاق
فالموت نتصوره مرّاً لأننا ألفنا الحياة ، ولو أننا لم نسمح لهذا المألوف أن يتحكم فينا تحكماً بالغاً لوجدنا أن الموت أمر لا شيء فيه ، مجرد نقلة من دار إلى دار .
ولهذا فنحن نجد استجابة العرب المكيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخضع أيضاً لهذا القانون ، لقد عاش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم مئات من السنين يألفون الأصنام منصوبة في جوف البيت وعديدة تعد بالمئات ، وهم يألفون الأصنام منتشرة في البيوت وبين القبائل ، بل هم يألفون ما هو أكثر ، يألفون أن يتخذوا لهم صنماً من أي شيء يجدونه في طريقهم وهم مسافرون أيضاً . ففكرة التعدد شيء درج عليها الناس ، نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير ، وحينما ينادي رسول الله أن لا إله إلا الله فتلك دعوة عجيبة في نظر المكيين الكافرين ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) ذلك مجرد انطباع ، مجرد تفكير ، لكن هذا التفكير والانطباع يولّد موقفاً وينتج سلوكاً عبّرت عنه السورة بالآية التي هي ( وانطلق الملأ منهم ) الأشرار المتمسكون بالخرافة وبالوهم وبالضلال المبين ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا هذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ) إن أشراف المكيين أعرضوا عن رسول الله بعد مفاوضات يائسين ، عرفوا أن رسول الله لن يحيد عن دعوة الله ، وأن العرض الذي قدموه في المهادنة ومدّ الجسور والالتقاء على النقطة الوسط أن يترك لهم آلهتهم ليعبدونها ولا يتعرّض لها وأن يتركوا له إلهه يعبده ولا يتعرضون له ، هذه القضية لم تُفلح ، وفشلت فشلاً ذريعاً .
وإذاً فالمشركون أعرضوا وتواصوا فيما بينهم أن كفوا عن هذه المحاولة واصبروا على العبادة الباطلة التي ورثتموها عن الآباء والأجداد .. ( إن هذا لشيء يراد ) إن هذا الموقف المتصلّب المتشدد الذي ترونه من محمد صلى الله عليه وسلم شيء له ما بعده ، إنه يريد منكم شيئاً ، ماذا ؟ إنه يريد الزعامة فيكم ويريد الاستعلاء عليكم ، وهذه قالة الفراعنة منذ فرعون موسى ، ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك ، وإلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة ، في وجه دعوة الإسلام دائماً يرفع هذا السلاح المثلوم الفاشل ، إنهم يريدون الكبرياء في الأرض ، ويريدون الاستعلاء في الأرض ، ويا ليت الذين يقولون هذا ناس لهم من الشرف أدنى نصيب ، ومن الوطنية أقل قدر ، ومن الأمانة أقل مقدار . إن الذين يقولونه هم سرقة الشعوب وجلادو الشعوب ومحطمو الشعوب .. وذلك شيء يدعو إلى الأسف . أن تقابل الدعوة المستقيمة النيرة باتهام رجالها بأنه يريدون علواً في الأرض ، ويريدون أن يتعبّدوا الناس ، وبين أيديهم تاريخ الرسل والأنبياء ، وبين أيديهم تاريخ الإسلام كله ، يكشف لهم عن مبلغ الاحساس بثقل التبعة وضخامة الأمانة التي يحملها رجل الإسلام .(/2)
( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ) الملة الآخرة قال الكثير من المفسرين إن المراد بها وثنية العرب ، ونحن نرفض هذا القول ، فلم يُعهد في تاريخ الأديان أن الوثنية سميت ملة أو نحلة أوديناً ، والناس كلهم في الماضي والحاضر متفقون على أنه خبل بشري ولوثة في الطبع الإنساني ، أي الشرك والوثنية . والذي نميل إليه أن المراد بقوله تعالى ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) هي الملة النصرانية باعتبارها آخر النبوات ، والذي يبرر لنا بهذا الرأي أن القرآن للمرة الأولى يواجهنا بالتعريض بالنصارى ، قبل ذلك يوجد سبع وثلاثون سورة مضت لم يرد لهؤلاء القوم ذكر ، منذ الآن سوف يبدأ ذكر النصارى واليهود يتردد في أطواء القرآن المكي حتى إذا بلغنا القرآن المدني وجدنا الأبحاث القرآنية تسلط الأضواء عليهم بصورة مباشرة .
ويبرر هذا أيضاً أن النصارى الذين جاءهم عيسى صلوات الله عليه وسلامه جاءهم بالوحدانية وبالحنيفية دين إبراهيم بل دين الله تعالى الذي نادى به الأنبياء والمرسلون جميعاً من لدن آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم . هذه النصرانية التي يُفترض أن تكون أمينة على وحي السماء خرجت بعد ومن قريب لتكون دين وثنية وتعدد وشرك ، والنصارى الذين عاصرتهم الدعوة الإسلامية كانوا يقولون بآلهة ثلاثة : الأب والابن والروح القدس ، وهم متفقون على ذلك جميعاً . فالعرب يحتجون على رفض الوحدانية بالنصرانية التي ليست موحدة ، ولكن الحق لا يُحتج عليه بالباطل ، ومبرر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام هو فساد النصرانية ، ولو أن النصرانية بقيت أمينة على كلمات الله لسقط مبرر إرسال رسالة جديدة ، لأن قانون النبوات هو أن الله جل وعلا يبتعث رسولاً إلى الناس كلما اندرست معالم الديانة الماضية وطفئت مصابيح الهداية التي جاءت على يد آخر رسول كان .
ولهذا قلنا إن النصرانية هي المقصودة بقول الله تعالى ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ) هل انتهت تخرصات المشركين ؟ لا ، أيضاً ثمة نوازع تعمل ( أءلقي الذكر عليه من بيننا ) لماذا اختار الله هذا الفقير اليتيم ولم يختر واحداً من الزعماء ذوي الثراء وقواد الحروب .. ؟ فهذه مشكلة من المشكلات منشؤها الحسد ، وسوف نرى أن عجز السورة أي آخر السورة سيردّ إلى أولها حينما يتحدث الله عن أول النشأة وما كان من اختصام في الملأ الأعلى بين الله وبين إبليس حينما امتنع عن السجود لآدم ، فلُعن لعنة أبدية بسبب الحسد والكبرياء الذي يعتمل في قلوب هؤلاء الذين يقولون ( أءلقي الذكر عليه من بيننا ) لكنها حجة واهية ، هذا شيء غير صحيح ( بل هم في شك من ذكري ) فالمسألة ليست مسألة حسد وحسب وإنما هي في التحليل الأخير تعود إلى أن هؤلاء الناس شاكون في الله أصلاً ، ولو كانوا يقدرون الله حق قدره لعلموا أن المالك يتصرف في ملكه بدون قيد ، أرأيت أحداً يمنعك من أن تتصرف في قروشك التي في جيبك ؟ فكل مالك له مطلق الحق في أن يتصرف في ملكه ، فإذا كان الكون لله خلقاً ومن الله إيجاداً وله ملكاً فذلك يعني أن الله يختصّ برحمته من يشاء ويمنع فضله عمن يشاء ولا معقّب لحكمه ( بل الله يحكم ما يريد ) والناس لا خيرة لهم في ذلك ، وإذاً فالقضية قضية شك في أصل الرسالة وليست شيئاً آخر بإطلاق .
( بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ) لو نزل بساحتهم العذاب كما نزل بساحة المكذبين من قبلهم لجأروا إلى الله بالدعاء ولكن ولات حين مناص ، أي بعد فوات الأوان كما عرضت لنا أول السورة .
ثم يعرض الله عليهم ( أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ، أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ) الله هو الذي خلقكم وأوجدكم من العدم ، أفلكم ملك السماوات والأرض ؟ أنت تتصرف بين يديك في شيء قليل من حطام الدنيا ، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة ، والله يخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأنت تتصرف منها في شيء لا يُذكر . وماذا بعد ؟ فثمة السماوات والأرض والماضي والحاضر والمستقبل أتدعي أن ذلك لك ؟ تلك إحالة عقلية لا تقع في وهم واهم ، ولهذا سألهم الله ( أم لهم ملك السماوات والأرض ) لكي يعطوا من يشاءون الرسالة ويمنعوها عمن يشاءون ، وإن قالوا : نعم . فليرتقوا في الأسباب ، ليسلكوا الأسباب لتدبير أمر السماوات والأرض ، وذلك غير كائن .(/3)
ثم يأتي التطمين بعد ذلك ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) تطمين للنبي عليه الصلاة والسلام وتطمين لكل عامل في هذا الطريق المستقيم ، الأحزاب من هي ؟ الآية التي نتحدث عنها بل السورة كلها مكية ، وهي تنتمي إلى السنوات الخمس الأولى من عمر الدعوة ، ولا يراد بها الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ، وإنما يريد الله جل وعلا بالأحزاب المهزومين حكماً ، كل المكذبين الذين شهدتهم ساحة هذه الأرض ، ابتداءاً من أول الخلق إلى أن تقوم الساعة ، لو أن جند الباطل والضلال اجتمعوا على صعيد واحد ليقضوا على الحق الوليد فلن يكون لهم إلى ذلك سبيل ، لأن الحق بطبعه غلاّب ، ولكن ضمن شروطه المعروضة لهذه السورة والسور الأخرى ، إن الله جل وعلا بعد أن يفرغ في أوائل السورة التي قرأناها حتى الآن من عرض تخرصات المشركين حول الرسالة يريد أن يزيل من ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآثار السيئة التي تترتب على الموقف غير المعقول الذي وقفه المكذبون ( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد ، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب ، إن كل إلا كذّب الرسل فحق عقاب ، وما ينظر هؤلاء ) أي لا ينتظر هؤلاء ( إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، وقالوا ) أي المشركون العرب ( ربنا عجّل لنا قطنا ) أي نصيبنا من الخير والشر الذي يحدثنا عنه محمد ( قبل يوم الحساب ) وهذه قالة استهزاء وسخرية برسول الله بل بالله تبارك وتعالى .
ثم يأتي بعد ذلك حديث عن الأنبياء مقصود ، يفتتح الحديث بخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اصبر على ما يقولون ) لم يقل له : امتشق الحسام ، فالعقائد لا تُفرغ في عقول الناس بالإرهاب ولا بالقوة ، ولكن بالإقناع والأخذ بالحجة ، فالله عز وجل برأ الكون وفاقاً لسنن أودعه في هذا الوجود ، ولن يخرق هذه السنن إكراماً لخاطرك يا محمد أبداً ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لا يمكن ذلك تحت الضغط والإرهاب وبتأثير السجون والمشانق ، إن الإسلام لا يصلح له إلا بالقلوب المطمئنة والعقول الواثقة المستبصرة .
الإنسان بالطبع تكونت لديه بفعل تراكم الأحداث قناعات أخذت وضعاً لا يقبل المناقشة ، لكن ضغط الأحداث في مواجهة الحق والباطل كفيل بإيقاظ النائمين ، وتنبيه الغافلين ، وواجبك هنا أن تصبر ، أن تستأني بالطبيعة البشرية ، أن تطيل بالك وتوسع صدرك ( اصبر على ما يقولون ) ابقَ في الموضع السامق الذي وضعك الله تعالى فيه ولا تسمح لظواهر الكنود والجحود والصد والتكذيب أن تثني من عزمك ولا أن توقظ اليأس في قلبك ، ولا أن تخرّب الثقة في الطبيعة البشرية داخل نفسك .. ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيدي إنه أوّاب ) وتمضي الآيات تتحدث عن نبي الله داوود صلى الله عليه وسلم من الزاوية التي تمس واجبات النبوة والتي سنعرض لها بتفصيل في المستقبل إن شاء الله تعالى .
فإذا فرغت السورة من الحديث عن داوود عليه السلام قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أوّاب ، إذ عُرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ، ردّوا علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ) وتمضي السورة باقتصاص الجانب ذاته الذين يمسّ واجبات الرسالة من سيرة سليمان عليه السلام ، فإذا فرغت من ذلك مضت تذكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب البلاء والصبر الذي يُضرب به المثل ( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) وهؤلاء ثلاثة أنبياء ذُكروا في السورة بشيء من التفصيل لكن جاء من بعد إجمال لأنبياء ستة آخرين ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وإنهم عندنا لمن المصطفَين الأخيار ، واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌ من الأخيار ) هؤلاء الأنبياء وضعتهم السورة أو وضعت جوانب من سيرتهم وما فعلوه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن طريق الدعوة ليس شيئاً وإنما هو مشقة مستمرة وتعب موصول لا يقدر على أن يستمر به إلا الذي يحافظ على هذا الأفق البعيد الذي يعيش فيه الدعاة إلى الله ابتداءاً من الأنبياء عليهم السلام إلى الداعين إلى الله في كل زمان ومكان .(/4)
فإذا انتهت السورة من ذلك عقّبت عليه بأن ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة هذا الكلام ، فهذا ذكر فإما أن يكون الذكر هنا هو ما اقتصّ الله من سير الأنبياء وأما أن يكون القرآن كله ، هذا ذكر ولكن ستخبرنا السورة عن أمور لا يعلمها إلا الأنبياء ، لأنها بطبيعتها تنتمي إلى عالم الغيب مما لا يُفلح بالوصول إليه كل المجهود البشري ، تقصّ السورة ما أُعدّ للمتقين من النعيم والحبور ، وما أُعدّ للفجار الأشرار من النكال والوبال ( هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ، جنات عدن مفتحة لهم الأبواب .. ) ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ، جنهم يصلونها فبئس المهاد ، هذا فليذوقوه حميم وغسّاق ، وآخر من شكله أزواج ) ما أُعدّ من النار للأشقياء ، وما أُعدّ في الجنة للمتقين شيء لا يملك المنطق أن يصل إليه ، ولا تملك القدرات البشري أن تكشفه ، فالعلم به موقوف على إخبار الله جل وعلا أي على الوحي أي على النبي . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واحداً من هؤلاء الناس وكان ـ حاشاه ـ مختلقاً للنبوة ومدعياً للرسالة ما أمكن أبداً أن يخبر بحرف واحد عن أمر من أمور الآخرة .
وأيضاً فليس هذا فقط الذي ينتمي إلى عالم الغيب والذي يتوقف العلم به على معرفة النبي المعصوم ما يكون من التخاصم والتلاحي في النار بين الأتباع والمتبوعين بين الضالين والمضلين بين الرؤساء والرعاع ( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنهم صالو النار ، قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ، قالوا ربنا من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار ) هذا الكلام الذي يكون في النار يوم الحساب بين المضلين من الرؤساء والسادة والقادة وبين الأتباع ممن قبلوا أن يؤجروا عقولهم ويسخروا كل إمكاناتهم لخدمة هؤلاء المضلين أمر حتماً سيكون في النار ، وسوف يدعو بعضهم على بعض هناك وسوف يلعن بعضهم بعضاً هناك ، وسوف يطلب بعضهم لبعض زيادة العذاب وسيقول الله لهم ( لكلٍ ضعف ولكن لا تعلمون ) إن هذا أيضاً ينتمي إلى الدار الآخرة ، وليس شيئاً يستقل بعلمه آحاد من الناس وعوام الناس ، شيء لا يعلمه إلا نبي ، وحين أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إخباره مطابقاً لما جاء على ألسنة الأنبياء من قبله دلّ ذلك على أن محمداً رسول الله صادق في دعواه أنه مرسل من عند الله وأن الواجب على كل أحد أن يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بعد ذلك تأتي تعقيبات سنأتي إليها في المستقبل ، المهم أن الله جل وعلا يردّ عجز السورة على أولها ( قل إنما منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ، قل هو نبأ عظيم ) على القرآن ( أنتم عنه معرضون ، ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ) أأنا كنت موجوداً حينما جبل الله طينة آدم ثم نفخ فيه الروح ثم أمر الملائكة بالسجود له ثم عتى إبليس ثم طُرد إبليس ؟ أكنت موجوداً آنذاك ؟ كنت في عالم العدم ( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ) .
ثم ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ، قال يا لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرتَ أم كنتَ من العالين ، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال اخرج منها فإنك رجيم ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، قال فأنظرني إلى يوم يُبعثون ، قال فإنك من المنظرين ، إلى يوم الوقت المعلوم ، قال فبعزّتك ) ولاحظ أن لإبليس اللعين سبب الإغواء والإفساد منذ أن كان الناس يعترف بأن الله هو العزيز الغفار ( قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين ، إلا عبادك منهم المخلصين ، قال فالحق والحق أقول ، لأملأنّ جهنهم منك ومن تبعك منهم أجمعين ) هذه الواقعة جاءت في خواتيم السورة تتضمن معانٍ سوف نقف عند بعضها ، لكن أول إيحاء مما يتصل بالخط العام للسورة أن الذي يُخبر عما يدور في الملأ الأعلى ليس آحاد الناس وإنما النبي الذي يخبر الناس بما يخبره الملك عن الله تعالى ، وهذه قضايا لا يُقضى فيها بالظن ولا يُرجم فيها بالغيب ، ولو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان مختلقاً ومفترياً وكذاباً كما يزعمون لاستحال عليه أبداً أن يخبر بحرف واحد عن هذا .(/5)
ثم من موحياتها أيضاً ما افتتحت به هؤلاء الآيات من إشارة إلى كرامة الجنس البشري التي ينبغي أن يحافظ عليها وألا تُذل وألا تهان ، إن الله خلق الخلق فكرّمهم ، كرّم أباهم آدم عليه السلام فأسجد له ملائكته ، أسجد له الملأ الأعلى لما يعلم فيه ولما في علم الله جل وعلا من أن سيكون من ذرية هذا المجبول من الطين الأنبياء والمرسلون والشهداء والصديقون والصالحون ، فالله جلا وعلا أعلى من قيمة الإنسان ورفع من قدر الإنسان ، ولكن الإنسان للأسف وعلى مدار التاريخ يحاول باستمرار أن يذل نفسه ويحاول أن يقلل من قيمته ، وهذا شيء لا يريد له الله جل وعلا .
أفلم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :عباد الله لا تذلوا المسلمين . لأن إذلال المسلمين يقضي على الشخصية الواسعة المتفتحة المستقلة القادرة وحدها على عمارة الكون ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه . أي لا ينبغي لمن كان يؤمن بالله ويؤمن أن الله يوم خلق الله أباه آدم كرّمه بإسجاد الملائكة له ، لا ينبغي له أن يقف مواقف الذل أبداً أبداً . والنبي عليه الصلاة والسلام يكشف عن وعيد شديد بالنسبة للذين يمارسون الإذلال على عباد الله فيقول : صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما ـ أي لن يكونا موجودين في حياته الشريفة صلوات الله عليه ـ نساء كاسيات عاريات ـ كمعظم نساء هذه الأيام ـ مائلات مميلات يتخلعن في خطوهن كما تتخلع المومس الفاجرة لا يجدن ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . هذا الصنف لم يره رسول الله ، والصنف آخر : ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس . صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله لقد كنتَ بيقين ترمز بهذا إلى الإيلام والتعذيب الذي سيكون من بعد ، فالسياط يا سيدي أمرها هين لقد ابتكر الناس أساليب النفخ والكهرباء وغسل الدماغ والتصفية بالأسيد ، هؤلاء الذين يذلون الناس لن يجدوا ريح الجنة لأنهم أعداء للجنس البشري ، أعداء للجنس الذي خلقه الله ليقيم في الأرض شرعه وليُعليَ في الكون كلمته ، لا ليكون إمّعة يطير كلما طار ويمشي وراء كل مطبّل ومزمّر .
الإنسان خُلق ليكون إنساناً له استقلاله ، والنبي عليه الصلاة والسلام المؤيد بالوحي الذي يغاديه ويماسيه جبريل عليه السلام يقول الله له ( لست عليهم بمسيطر ) وسفهاء الناس يقولون : بلى نحن سوف نقولب الناس نضعهم في قوالب خاصة ونخلقهم كما نشاء لا ما يشاء الله ، وهؤلاء لا يدركون ، لأن الطبيعة البشرية المتمردة على كل ما يضادها ويعاندها سوف تعاقبهم أشنع العقاب ، هذا من موحيات هذه الآيات سنقف عندها .
فإذا ختمت السورة ختمت بهذا الكلام الموجز الذي يكشف عن طبيعة أساسية للرسالة ( قل ما أسألكم عليه أجراً ) لو ذهبتم تفتشون عن السبب الكامن وراء الفشل المتكرر في الدعوة الإسلامية منذ وجدت وإلى الآن لوجدتم شراه الأنفس وطمع الأنفس من وراء ذلك ، إن الرسول يُبتعث ويقول منذ البداية للذين يخاطبهم : مالكم لا أرب لي فيه ، جاركم لا أطلبه ، السيادة عليكم لست أريدها . أنا لا أطلب أجراً على هذا الذي جئت به وكل نبي كما تقرءون في القرآن كان يقول ( إن أجري إلا على الله ) والعمل كل عمل إذا شابته شائبة الدنيا وإرادة العلو والفساد في الأرض فقد حبط وفسد ، ولهذا كانت أخص خصائص النبوة البعد عن ابتغاء الأجر والالتماس المنفعة من الناس ، وحين لام المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر عمه أبي طالب قال له : يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .(/6)
لو أن هؤلاء المشركين جاءوا لي بملك الدنيا بل بالسماوات والأرض وما بينهما ما تركت هذا الأمر ، أنا لا أطلب الجاه ولا أطلب المال ولا أطلب الثراء ولا النساء ولا أي شيء ، وبالفعل فكل أولئك عُرض على رسول الله فرفضه رفض الكريم الأبي الشهم النبيل ، وبيّن لهم أنه لا يريد هذا كله . كان يريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم به العجم الجزية هي أن يقولوا لا إله إلا الله ، وحينما قال لهم هذا نفروا منه كما تنفر الحمر وقالوا قولتهم المعلومة ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) ( قل ما أسألكم عليه أجراً وما أنا من المتكلفين ) أي لا أدّعي ما لا أعلم وإنما أخبركم بالذي يخبرني الله جلا وعلا ، أنا واحد منكم لا أقرأ ولا أكتب ولا أحسب ، كما أنكم أميون لا تقرأون ولا تكتبون ، ولكني حين أخبركم فعن الله أخبركم ، ولهذا فلست من الذين يتكلّفون علم ما لا علم لهم به ( وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ) وهذه قضية هامة ، لأننا نواجه هنا بيان القرآن بأن الدعوة الإسلامية ليست مقصورة على العرب ، إنما هي دعوة الله إلى الناس كافة ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) هل يكفي هذا ؟ ( ولتعلمنّ نبأه بعد حين ) من الذي يجرؤ على المجازفة بإعطاء الوعد بالمراهنة على المستقبل ؟ من الذي يجرؤ على شيء من هذا في وسط العواصف الهائجة المائجة كالوضع الذي كان سائداً في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم من يستطيع أن يأخذ الورقة والقلم فيعمل حساباً للقوى والإمكانات ليقول إن العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ في كل حسابات البشر هذا غلط ، ولكن الحساب في قانون الله تعالى لا تخضع لحسابات البشر ( ولتعلمنّ نبأه بعد حين ) وعد يُقطع من الله تعالى لكنه مبطّن بالتهديد ، لتعلمنّ نبأ هذا القرآن بعد حين ، وبالفعل ما دارت الأيام والشهور والسنون حتى كان الذين يعاندون رسول الله من أخلص أتباعه ، وحتى كان الذين يكذبون بالقرآن من الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ، وحتى أصبحت البيوت التي كانت في الأمس مظلمة في الشرك مضيئة اليوم بالتوحيد ، وحتى أصبحنا ونحن اليوم في أسوء حال نسمع هذا القرآن يتردد في جنبات الأرض كلها . هذا وعد الله جل وعلا ، لكن كيف يتحقق هذا ؟ ما شرطه الأساسي ؟ ذلك ما سوف يتجلى لنا بإذن الله حينما نأخذ بالتفصيل بعد هذا الإجمال الذي حللنا فيه آيات السورة الكريمة سائلين المولى جل وعلا أن يمنحنا القوة والعون على إنجاز ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/7)
تفسير سورة ( ق )
الجمعة 5 رمضان 1397 / 19 آب 1977
( 1 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
فقد كان مقرراً أن يكون الحديث عن السورة الثالثة والثلاثين في ترتيب النزول في الجمعة الماضية ، لولا ما شغلنا آنذاك من حديث رأيناه ضرورياً حرصاً على مصالح الناس في هذا البلد وأمنهم وسلامهم ، وتذكيراً للناس بقواعد دينهم غفلوا عنها أو أغفلوها ، وها نحن اليوم نعود لنتابع السياق الذي كنا فيه .
فقد يكون ضرورياً أن نعيد إلى الأذهان بعض ملامح السورة التي سبقت هذه الوقفة التي نحن فيها . إن أحد المشاكل الخطيرة التي قررها الإسلام في بواكير الدعوة فأحدثت آثاراً بعيدة ، وتركت في الناس بلبلة شديدة ، هي تقرير الإسلام في موضوع اليوم الآخر ، لقد كان لتقرير هذه القضية أثر صاعق على كل أحلاس الشهوات والذين يتبعون الحطام ، وكدأب الناس في كل زمان ومكان يجادلون في الحق فيطيلون فيه الجدال ، ويخاصمون في الباطل فيشتدون في الخصومة وينسى الإنسان حق عقله وحق كرامته وآدميته عليه ، وهو يلج في الطغيان ويدفع بالباطل الذي لا شبهة فيه .
إن المشركين حين بادأهم القرآن بتقرير هذه القضية أبدوا دهشتهم واستغرابهم ، وليس ضرورياً أن أعيد الشوط الذي مشيناه في هذه القضية ، وإنما الضروري أن تعلموا أنه بدءاً من سورة المرسلات فإن المسألة لم تعد مسألة إنسان يصدق أو يكذب باليوم الآخر على الجملة ، إن كل موقف تنشعب عنه مواقف ، وكل قضية تُشتق منها قضايا ، كانت المسألة مسألة استغراب أن يبعث الله الموتى من بعد البلى ، فلما واجههم القرآن بتشريح الواقع البشري تشريحاً لا رحمة فيه ، وأن المسألة ليست مسألة صواب وخطأ ، وليست مسألة إمكان وعدم إمكان ، ولكن المشكلة هي مشكلة الإنسان الذي يدفعه حرصه على البقاء وما يمليه له هذا البقاء من تمتع بالشهوات الممنوعة وغير الممنوعة ، وما يجر ذلك إليه من رغبة الإنسان في أن يتجاهل باستمرار لحظة الموت ولحظة المصير إلى الله ، إن هذا هو الشيء الذي يدفع الناس إلى ارتكاب مواقف لا تتسق مع عقل ولا دين ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ، يسأل أيان يوم القيامة ) .
إن المشكلة ليست هي أن يوم القيامة ممكن أو غير ممكن ولكن المشكلة هي أن الإنسان لا يريد أن يواجَه بما يعكر عليه استمتاعه بالطيبات والشهوات والملذات التي يمارسها في هذه الحياة ، ولهذا فهو يريد أن يغمض عينيه عن هذا اليوم ، ويريد أن يسد أذنيه عن سماع نبأ هذا اليوم لكي يزيد في أجل الاستمتاع يوماً آخر إن كان ذلك ممكناً .
وهذا موقف أولي وساذج ، لكن الأمور كما قلنا يسلم بعضها إلى بعض ، ويؤدي بعضها إلى بعض ، وكل أمر حينما تضعه على بساط الواقع ليتعامل الناس معه أو ضده فلست تملك من بعد من أمره قليلاً ولا كثيراً ، إن للحوادث منطقاً لا بد أن يكتمل ، وهكذا رأينا في موضوع يوم القيامة يتسلسل الأمر من دهشة واستغراب وسخرية واستهزاء تغلف رغبة كامنة في نفوس الناس أن يطيلوا أجل الاستمتاع فيما منعهم الإسلام منه من الشهوات الضارة الممنوعة الخبيثة ، إلى موقف استبعاد أن يقدر الله تعالى على أن يعيد إلى الحياة أجساماً بليت وعظاماً فنيت .
وهكذا واجهنا فيما مضى ليس موضوع اليوم الآخر بذاته ، وإنما موضوعاً خطيراً أيضاً سيأتي بتفاصيله العديدة فيما نستقبل في المرحلة المكية وهي ما ينبغي أن تكون عليه صورة الإله المعبود في ذهن الإنسان ، إننا إذا أقررنا من حيث المبدأ أننا مخلوقات ولسنا خالقين ، أننا ولسنا أرباباً ولا آلهة ، فمن البداهة أن الكلام يتضمن وجود قوة وقدرة هي التي انبثقت عنها هذا الكون ومن ضمنه نحن . وإذاً فبمجرد الإقرار يعني التسليم بوجود الذات الإلهية ، والذات الإلهية تتقاضى أوصافاً ، فما كل قوة تستحق أن تُعبد ، إن بعض المتزعمين من الفراعنة وأشباههم فرضوا عبادتهم على الناس ، وليس هذا شريحة من التاريخ الماضي ، فإن هذه اللوثة العجيبة ما تزال تعيش بين الناس إلى اليوم ، وما يزال كثيرون من ضعاف العقول يتصورن الزعماء والقادة من طينة غير طينة البشر ، وأن الدم الذي يجري في عروقه تركيبه تختلف عن تركيب دماء سائر الناس ، لا يزال هذا موجوداً .
نقول مع ذلك فلا أحد يستطيع أن يقول إن هذا المخلوق يستحق أن يُعبَد ، فالعبادة التي تتضمن إعطاء الأوصاف التي هي أوصاف الكمال والجلال لا تنبغي إلا لله جل وعلا ، ولكن المسألة يجب من بداية الطريق أن تكون معروفة ، إن مسائل من هذا القبيل ليست شيئاً يخضع لمقاييس المنطق ولا لقضايا العقل البشري ، إنها قضية الخبر لأنها قضية الغيب . موضوع الأوصاف التي يجب أن تتصف بها الذات الإلهية ليست شيئاً يدرك بالعقل ولا ببديهة الحس ولا بمعطيات الوجدان ، لأنها قضية أعلى من ذلك ، لأنها إخبار محض من الله تعالى عما يتصف به من أوصاف الكمال والجلال .(/1)
لهذا فليس عجيباً أن نرى المجتمع الجاهلي حينما وُجه بموضوع اليوم الآخر يقف طويلاً عند وصف نرى الآن أنه لا ينبغي التنازع من حوله ، هو وصف القدرة : هل يقدر الله على الإعادة بعد الإفناء ؟ إن صفة القدرة شغلت أذهان المكيين المخاطبين بالقرآن آنذاك حيزاً وسببت لهم مشاكل لا تكاد تنتهي ، وقلت إنه ليس غريباً وليس من باب الاعتذار عن العرب المشركين فمعاذ الله أن يكون الأمر على هذه الشاكلة ، لكن الجو الإنساني العام في تلك الأوقات كان يتصور الذات الإلهية على نحو قريب مما يتصوره المكيون المشركون ، حتى أهل الكتاب تصوروا الله تعالى خلق ثم أحال اختصاصاته إلى المجامع الكنسية وإلى الأحبار والرهبان لكي تتصرف نيابة عنه ، ولعل من المظاهر التي تشعر بعدم فهم أهل الكتاب لموضوع الصفات الإلهية ما يأتيك في التوراة من أن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام ثم أدركه التعب فاستراح في اليوم السابع ، والإله الذي يتعب لا يستحق أن يسمى إلهاً ، فالمسألة لا تحمل معنى الاعتذار عن ضلالة العرب الجاهليين بقدر ما تحمل إدانة الجو العام على وجه الكرة الأرضية في ذلك الزمان .
وقف المشركون أمام القدرة واستبعدوا أن يقدر الله على الإحياء بعد الإماتة ، فجاءتنا سورة المرسلات برمتها لتثبت لنا أن قدرة الله لا تعجزها شيء ، ومن خلال إثبات أن هذه القدرة لا يعجزها شيء كانت الدلائل أيضاً تتساوق لتتوارد على إثبات ليس فقط إمكانية اليوم الآخر ، بل حتمية هذا اليوم . وانتهينا من هناك لنقف اليوم أمام طور جديد .
لنقف أمام سورة ( ق ) وهي من السور المتوسطة نوعاً ما والتي نزلت بعد سورة المرسلات والتي عالجت موضوع القدرة بصورة مباشرة وبلمسات عابرة وبإيحاءات يدركها أولو الألباب ، كما لمست جوانب أخرى لها صلتها بصفة أخرى من صفات الله تعالى هي الحكمة .
تذكرون أننا حين تحدثنا إليكم قبل عدد من الأسابيع عن سورة القيامة قلنا إن من جملة الدلائل التي ساقها الله تعالى في السورة تدليلاً على إمكانية يوم الآخر دلائل أخلاقية ، والدلائل الأخلاقية لا يمكن أن يستهان بها ، ومن الدلائل الأخلاقية التي سيقت ضرورة إقامة العدالة فليس من العدل وليس من الأخلاق أن ترتكب الإنسان جناية وجريمة ثم يفلت دون أن يناله عقاب . إننا هنا ربما رأينا العدالة المباشرة تتخلف ، أي ربما رأينا نصوص القوانين لا تطال جميع المجرمين ، ولكن لله عدالة أعلى من النص الجامد المكتوب المتحيز ، يعني المحكوم بحيز معلوم . إن لله عدالة في الدنيا وعدالة في الآخرة ، وهذا من تتويج المبدأ الأخلاقي والدليل الأخلاقي . ففي الدنيا ما يصيب المجرم من قلق أو من نقص في الجسم أو المال أو الولد أو الراحة أو الطمأنينة جزء من العقاب الذي يفرضه عقاب الله تعالى .
وما من إنسان استطاع أن يخرج من الدنيا فاراً بنتائج جرمه دون أن يتعرض لشيء من المؤاخذة والمحاسبة والاقتصاص . لكن إقامة العدل الكامل تكون يوم القيامة يوم ينصب الله الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ، هنالك يقام العدل . هذا وجه من وجوه الدلائل الأخلاقية التي سيقت بضرورة أن يكون هناك يوم يقام العدل بين الناس جميعاً ويقتص فيه للدجعاء من القرناء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن هذه الدلائل الأخلاقية تتصل بمسألة ألمحت إليها سورة ( ق )وسوف تأتي بعد ذلك مفصلة في ما سوف نستقبل من السور .
إلى جانب القدرة التي لا تتناهى .. إلى جانب السلطان الذي لا يحد .. الذي ينبغي أن يتصف به الإله فثمة وصف آخر لا بد أن يتحقق في الذات الإلهية هو وصف الحكمة ، نحن نعجب بالرجل الحكيم ، ونسمع بالحكمة حين تتلى علينا بإعجاب وشوق ، وهذا من الناس ، ونحن نكبر الحكماء إكباراً للحكمة . فإذا اتصل الأمر بالذات الإلهية فقد وجب أن يكون الله تعالى على درجة من الحكمة لا تنالها العقول ولا تطالها الأوصاف ، لا بد أن يكون الله جل وعلا حكيماً .(/2)
مما أثاره الجاهليون كما سوف ترون أشارت سورة ( ق ) إشارة موجزة إليه موضوع الرسالة ، ليس في الصميم وليس في المبدأ ، لكن في الشكل والمظهر ، حين قال محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس أرأيتم لو أخبرتكم أن جيشاً وراء هذا الوادي يريد أن يصبحكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً . قال : فإني نذير لكم بين عذاب شديد . أخبرهم أنه رسول من عند الله تعالى ، هذه مشكلة بالفعل ، وخاصة على أمة لم تشم روائح الإيمان من قبل ، ولم يأتها نبي من قبل . هنا أخذ العجب منهم كل مأخذ ، ليس بالنسبة إلى مبدأ الرسالة وجوهرها ولكن إلى شكل عارض ، هل يمكن أن يكون الرسول بشراً من جملة الناس ؟ ولماذا لا يكون الرسول ملكاً من ملائكة الله تعالى ؟ هنا يأتي ميدان الحكمة التي يجب أن يتصف بها الخالق جل وعلا . إن سوراً أخرى عرضت لهذا المشكلة وحكت وقصت تساؤل المشركين ، لماذا لم يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الناس ؟ فقال الله تعالى : ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبثنا عليهم ما يلبثون ) لو أننا أوجبنا أن يكون الرسول منا إلى الناس ملكاً لكان ضرورياً أن يكون هذا الملك بشراً من البشر كي يمكن التفاهم ويمكن التخاطب ، مع عدم اتحاد الجنس ، مع اختلاف الجوهر ، لا يمكن التفاهم . والرسالة أسلوب من أساليب الإفهام بالنسبة إلى الناس يؤديه الله جل وعلا فيضاً من رحمته تبارك وتعالى ، فإذا اختلف الجنس بين المرسل والمرسل إليه استحال التفاهم وألغيت الرسالة وسقطت كل مبررات النبوة .
إن الحكمة التي يتصف بها الخالق جل وعلا تتجلى في أنه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس ( والله أعلم حيث يجعل رسالته ) وبهذا رُدّ على المشركين هذا التساؤل الشكلي المظهري الذي لا يقدم ولا يؤخر إلا زيادة الشبه والشكوك .
تُفتتح السورة هكذا بلمحة سريعة جداً ولكنها تحتمل وقوفاً طويلاً وطويلاً للغاية ( ق والقرآن المجيد ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ، أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ) انتبهوا إلى الإيحاءات والإشارات التي حملتها فاتحة السورة ( ق والقرآن المجيد ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) خذ إليك الحرف الأول ، والذي سميت السورة باسمه ، فهي سميت سورة ( ق ) ليس لها اسم آخر ، اسأل نفسك : ما معنى قاف ؟ ولماذا سميت السورة بهذا الاسم الغريب العجيب ؟ ارجع ودقق وتأمل ، ما هذا الحرف ؟ واحد من حروف الهجاء التي يتألف منها الكلام العربي ، لكنه حرف مفرد ، له صورته في الرسم وليس له معناه في الذهن ، لأن الحروف جميعاً لا يمكن أن تؤدي معنى إلا إذا تضام بعضها إلى بعض فشكلت صورة تؤدي وتترجم عن معنى مستقر في الذهن ، وبغير هذا فالحروف المنثورة بلا نظام لا تؤدي أي معنى .
( ق والقرآن المجيد ) قسم ومقسم عليه ، والقرآن المجيد ، فهل تثير في ذهنك شيئاً هذه المقارنة أو هذا التجاوب أو هذه الصيغة من صيغ القسم ؟ اعمل فكرك واجهد نفسك يا قارئ القرآن أن تجيب نفسك عن هذا الشيء ، إن القرآن المجيد بحرف الهجاء ( ق ) يحمل معنى في غاية الخطورة ، ويحمل معنى واسعاً له صلته المباشرة بهذا السياق الذي نواجهه ابتداءً من سورة القارعة وإلى الآن ، ولكن كيف ؟ إن القسم جاء على هذا الشكل ( ق والقرآن المجيد ) فالمقسم به هو القرآن ، والقرآن معلوم أنه كلام الله المعجز المتحدى به الذي حكم الله جل وعلا ( أن لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) إن هذا القرآن منذ نزل ، نزل آية خارقة دالة على عظمة المرسل الذي هو الله جل وعلا ، وقد تنتهي المعجزات ، ولكن معجزة القرآن ستبقى إلى أبد الدهر شاهدة صدق على هذه الرسالة ، ودليلاً لا ينفذ على وجود الله تعالى ، وحجة كاملة على صحة كل ما أخبر الله به في هذا الكتاب وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . إن الله لم يجامل العرب وهم فرسان البلاغة والفصاحة والبيان ، وإنما قال بداهة وبصريح العبارة : إنكم عاجزون عن أن تأتوا ليس فقط بمثل هذا القرآن ولكن بعشر سور من هذا القرآن ، أنتم عاجزون عن الإتيان بمثلها ، بل عاجزون عن الإتيان بسورة ، بل أنتم عاجزون عن الإتيان بآية . وكانت صفعة وُجهت إلى العرب وإلى البشرية منذ بداية الدعوة ومازالت تتساقط على رؤوس المنكرين إلى اليوم ، ولم يستطع أحد ، لا من العرب ولا من غير العرب ، أن يصوغ كلاماً له حيوية هذا القرآن وأن يصوغ كلاماً له قوة وأسر هذا القرآن ، وأن يصوغ كلاماً له دقة وإحكام هذا القرآن .(/3)
التحدي قائم ، والعجز البشري قائم ، ولكن لماذا ؟ مما صيغ هذا القرآن ؟ ألسنا نقرأه كلاماً عربياً مبيناً ؟ لماذا يأتي سر وضع الحرف الهجائي ( ق ) في أول السورة وقرنها بالقسم على القرآن ؟ إن هذا القرآن الذي تحديتم به فعجزتم عن الإتيان بسورة تقارب أصغر سورة من سوره لا يتألف من شيء غريب عليكم ، إنه يتألف من ذات الحروف الهجائية التي تستعملونها في كلامكم وفي مخاطباتكم ، ولو كان الشأن شأن الحروف والتئامها لكان أي إنسان قادراً على أن يلم شتات الكلام ويؤلف منه كتاباً كمثل هذا القرآن ، ولكن نرى لا مقارنة مع كلام سائر البشر بل مقارنة مع كلام أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم حينما نقارن الحديث النبوي بالقرآن الكريم نجد الفرق واسعاً شاسعاً كالفرق بين الرب والعبد سواء بسواء ، فأين يكمن الإعجاز إذاً أين ؟ في الحرف ؟ هذا الحرف هو من جنس الحروف التي تستعملونها في الكلام ، في الترتيب ؟ إنك تقول ( قال ) كلمة تدل على القول ، وتتسرب باشتقاقاتها وأبنيتها أنت تعرف ما تفعل ، ولكن لا تجد عليها طلاوة القرآن ولا رونق القرآن . في تركيب الجمل في الأخيلة في الصور أنت تستعمل هذه الأشياء في كلامك وفي كتابتك وفي منطقك كله ، ولكن لا تصل إلى مستوى القرآن ، أين إذاً ؟ لا مجال لك ، إنه الإعجاز الذي لا يمكن أن نوقف على حقيقته برغم ما بذل العلماء قديماً وحديثاً من البحث في أسراره وقواعده ، لا يمكن .
أرأيت هذا الجسم البشري وهنا الصلة التي قلت لكم إنها سارية في الموضوع ابتداء من سورة القارعة إلى الآن ، أرأيت هذا الجسم البشري إن العلم استطاع أن يدخل الجسم البشري إلى معالم التشريح ، وأحصى بدقة متناهية العناصر التي يتألف منها الجسم البشري وقدر بدقة متناهية المقادير والتقنيات المتوافرة في الجسم البشري من كل عنصر من هذه العناصر ، ومن الممكن أن يقدم العلم هذه العناصر مأخوذة من الطبيعة نفس العناصر التي يتركب منها الجسم البشري نفس المقادير التي يتركب منها الجسم البشري نفس المثل نفس المواصفات ولكن العلم يقف عاجزاً لا يستطيع أن يبعث الروح في الخلية التي حاول أن يصنعها ولا في هذا الجسم الذي حاول أن يسويه ، إن السر هنا كالسر هناك وإذا أردتَ إلى مسألة حلاً فانظر في القرآن الكريم ، إن الله تعلى حين بدأ خلق آدم عليه السلام قال مخاطباً الملائكة ( وإذ قال ربك إني خالق بشراً من طين ) والشيء الذي أريد أن ألفت نظركم إليه هو قول الله : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) .. إن الله يقسم عملية الخلق إلى مرحلتين : عملية الخلق والتكوين ، التسوية والنفخ ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، إما التسوية فشيء معروف ، أقول : سويت العصا ، إذا أزلت ما فيها من عقد وشذبتها ، وسويت التمثال والصورة ، أي إذا أوجدت نسباً ومقاييس بينهما ، فالتسوية ضد التشويه ، والتسوية عمل مقصود نخرج هذا العمل إلى حيز يكون معه واضح الملامح .
لكن التسوية لن تستلزم أن يقع الملائكة ساجدين لهذا المخلوق ، سوي هذا التمثال من الطين ، أصبح له يدان ورجلان وبقية جسمه ، ومع ذلك لم يبلغ المرتبة التي يمكن أن يقال للملائكة : اسجدوا لهذا المخلوق . متى تأتي هذه المرحلة ؟ بعد النفخ ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) هنا يتم الإبداع والإعجاز ويستحق الإنسان بنفخة الروح هذه الكرامة على الله تعلى ، وقبل هذه النفخة فهو شيء من الأشياء ، عنصر من العناصر ، كأي شيء مبثوث على هذه الأرض . إن الحياة الإنسانية معجزة الله ، وإعجازها في هذا السر الذي تمثّل في النفخ ، أي نفخ الروح .
وكذلك هذا القرآن ( ق والقرآن المجيد ) صحيح أن هذا الكتاب مؤلف من ذات الأحرف التي تؤلف منها الكلمات ولكن ليس الأمر أن نسوي كلمات وأن نرصف جملاً ولكن الشأن في الروح السارية من وراء ذلك ، والروح السارية في القرآن هي الروح الإلهية ، فكما أن الروح السارية في الإنسان هي النفخة الإلهية ، وكما يستحق الخلق بأن يوصفوا بأنهم معجزة الخالق بالنفخة التي جعلت الروح تسري كذلك فإن معجزة القرآن بالتسوية الإلهية وبالروح المعجزة الخلاقة المبدعة التي تسري خلال كلمات هذا القرآن .(/4)
رأيتم إذاً كيف أن هذا الكلام الموجز جداً ( ق والقرآن المجيد ) تضمنت إشارة إلى اليوم الآخر ، كما تضمنت إشارة إلى القدرة غير المتناهية ، كما تضمنت إشارة إلى حكمة الله البالغة التي تمثلت في إنزال هذا القرآن قال ( والقرآن المجيد ) قسم على كلام لم يتطاول الناس منذ أن وُوجهوا بالتحدي إلى معارضته أو محاولة نقضه إلى الآن ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) أرأيتم تمام الحكمة في جعل هذا القرآن على هذا الشكل المساوق لعملية الخلق والإبداع وعملية النفخ في الروح ، إن حكمة الله تعالى في إرسال الرسل تشبه هذا الشيء بالذات ، ولذلك فلا معنى للتعجب ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) هم لم يعجبوا أن يأتي منذر من الجن أو من الملائكة ، ولكن منهم فهذه مشكلة خطيرة عندهم ، إنها مشكلة لا تستبعدوها ، مشكلة تعيش مع الناس ، إن الإنسان يستغرب أن يكون الرسول بشراً مثله ، وإذا أردتَ مثلاً له انظر لكي ترى على أية قاعدة يستند هذا التعجب : إلى أية مدينة أية بقعة يأتيها من الخارج عالم من العلماء فيقبل الناس إليه فتمتد أعناقهم إليه ويتحدثون عن خلاله ومناقبه هذا شيء واقعي ومشاهد ، لأننا جربناه آلاف المرات ، ويكون عندهم في مدينتهم منهم من يكون من ذلك العالم أفضل منه بمئات المرات ، ومع هذا يقبلون على الغريب الذي يسمعون به أول مرة ، ويحول الإلف بينهم وبين الانتفاع بالقريب الذي هو موجود عندهم في كل حين ، لو نظرت إلى القاعدة التي يستند إليها تصرف من هذا القبيل لعرفتَ أنه الحسد ، إلى الحسد ، أنا أحسدك ولا أتمنى لك الخير وأريد زوال النعمة عنك ، وحينما يأتي نظيرك في العلم أو في المهنة أو الصنعة من خارج بلدي ومن غير قومي فأنا أنتقم لصغاري ولهواني من علمك بتعظيم هذا الذي أنت خير منه ، فالمسألة تستند إلى التحاسد وإلى إنكار الفضائل التي توجد عند بعض الناس ، فإذا سحبتَ المسألة على نطاق أوسع وأشمل هان عليك أن تفهم إلى أية قاعدة يستند قول المشركين ( بل عجبوا أن جاءهم منذ منهم ) يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم ولا يريدون أن يقبلوا أن يكون هذا الإنسان خيراً منهم وأحظى عند الله ، والله تعالى كما سيأتيكم قد فصّل هذا الأمر تفصيلاً مترادفاً ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله ) فهذه هي القاعدة التي يستند إليها هذا الإنكار وهذا التعجب .
لا ترجع إلى شيء من العقل ولا إلى شيء من المنطق ، ولكنها تنبثق عن غرائز خسيسة هابطة منحطة لا تسمح لنا أن نوليها أي عناية ولا أي اهتمام .
( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) إن موضوع النبوة الذي سيأتينا بالتفصيل في المستقبل لم يثر في هذه السورة إلا في هذه الآية فقط ، وفي غير هذه الآية لم يتعرّض القرآن أبداً إلى إثارة موضوع الرسالة . لكن لنا أن نسأل الآن سؤالاً : ما العلاقة بين اليوم الآخر الذي تهتم به الآيات ابتداءً من سورة القارعة بصورة ذاتية ومباشرة وبين موضوع الرسول البشر ؟ إن العلاقة واضحة وبسيطة ، إن المشركين أنكروا على الله القدرة على الإحياء بعد الإماتة ، فمن باب أولى أن ينكروا عليه القدرة على أن يختص بشراً من البشر برسالة يؤديها إلى البشر ، فالموضوع من هذه الزاوية يتصل بوصف القدرة الذي أشارت إليها الآيات في سورة المرسلات وتشير إليه الآيات هنا ، وإن هذه المسألة التي تتصل أيضاً بسر التصرف الإلهي ، إن للتصرف الإلهي لما يجري في الكون حكم وأعاجيب لا يدركها أكثر الناس ، بل لا يدرك منها الناس إلا الأقل القليل ، أرأيت كيف ضربنا لك المثل ؟ إن القرآن مؤلف من الحروف التي نتحدث فيها ومع ذلك ففرق عظيم بين كلامنا وكلام الله في القرآن ، وإن الإنسان مؤلف من العناصر المادية الموجودة على ظهر الأرض والتي أحصيناها إحصاءً ، ومع ذلك فنحن لو جمعناها على النسب والتراكيب الموجودة في الجسم البشري لما وصلنا إلى شيء ، لا بد من النفخ ، إن التسوية شيء والنفخ شيء ، وأنت إذا بحثتَ وجدتَ من وراء ذلك حكمة الله تعالى التي تعجز الأفهام والتي تعلو على العقول .(/5)
وبعد ذلك فأنت تجد هذه الحكمة حينما تكتشف أن هذا التساؤل لا معنى له ، لأننا حينما نتعجب من إرسال رسول إلينا من أنفسنا فما الذي سيكون ؟ أمران : إما أن ينزل الله من سمائه لعيش بين الناس كما تصورت اليهود والنصارى فقالوا إن الله فدى خطايا البشر بان نزل في بطن مريم فكان جنيناً ثم ولد ثم مات على الصليب ليتحمل خطايا البشرية كلها . إما أن يكون الأمر بهذه الصورة وهو كما ترون ضلال مبين وفساد في العقل لا تدرك له غاية ، وإما أن يكون الرسول من الملائكة . أما أن ينزل الله من علياء سمائه ليخاطب كل مخلوق بحقائق الرسالة فهذا مستحيل ، إن الله تعالى حجب ذاته بحجاب العظمة والكبرياء ، ولو سفر عن ذاته لأحرقت سبحات وجهه كل شيء ، إن موسى عليه السلام أثناء المناجاة ( قال ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) أيوجد شيء أقوى من الجبال ؟ ( فلما تجلى ربه للجيل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المسلمين ) إن تواجد الإله بين العباد أمر غير متصور . يبقى الاحتمال الآخر أن يكون الرسول من غير الجنس البشري أي من الملائكة ، وقلنا من قبل إن القرآن تولى الرد بصورة مفحمة على هذا الاحتمال قال ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبثنا عليهم ما يلبثون ) لو أننا فعلاً اصطفيناه من الملائكة وقلنا له احمل الرسالة إلى الناس لكان من ضرورة تفاهمه مع الناس أن يسبغ عليه جسم البشر ، وعادت المسألة كما كانت في الأول ، عادت لبثاً جديداً لأننا ننظر أمامنا فنرى صورة بشرية ، ما يدرينا أنها من الملائكة ؟ لا ندري ، فرجعنا إلى التشكيك .
إذا كان هذان الاحتمالان غير واردين انهما غير ممكنين فماذا يبقى ؟ يبقى الاحتمال الثالث والأخير والوحيد والممكن أن يكون رسول كل قوم منهم ولا يمكن أن يكون رسول القوم من غيرهم . أرأيتم البشر ؟ أرسل إليهم رسولاً من البشر من نفس قومه يتكلم معهم بلسانهم قال تعالى ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) أن هذا بيان وبلاغ تترتب عليها نتائج ويترتب عليها هدى وضلال ، وما لم يكن ثمة ضمانات واحتياطات تضمن سلامة هذا البلاغ فنحن ننتقص من قيمة البلاغ وننتقص من قدره ، لا بد إذاً أن يكون الرسول منا ، فحين يقال ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ) نضحك ونسخر لهذه العقول التي تتصور أنها تصنع شيئاً وهي لا تصنع أي شيء ، ولو أنها أنصفت لوجدت الحق والحقيقة .
وفي الجمعة القادمة نتابع السورة .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير سورة ( ق )
الجمعة 12 رمضان 1397 / 26 آب 1977
( 2 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
فبعد الوقفة المتأنية التي وقفناها في الجمعة الماضية مع مطالع سورة ( ق ) لا أجد ضرورة تمس إلى إطالة الوقوف عند بقية أجزاء السورة ، وبحسبنا أن نلمس فيها رؤوس المسائل وأن ننظر إلى المهم منها ، فقد رأينا أن الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أخذ يتشعب ويأخذ مناحي متعددة بعد أن بلغ هذا الحجاج أطواره الجادة .
رأينا أن القضية الواحدة تسلم إلى عدد من القضايا إسلام السبب إلى النتيجة ، فقضية اليوم الآخر التي أثيرت من زمن وشغلت من اهتمام المشركين حيزاً واسعاً فأرّقتهم وأفسدت عليهم لذائذهم واستمتاعهم بهذه اللذائذ ، تتشعب هذه القضية حتى تجر إلى عدد من الأمور ، من أهمها إمكانية أن يكون الرسول المرسل إلى الناس بشراً منهم ، ومنها وهو شيء مهم أن سياق الحجاج مع المشركين أدى إلى أبحاثاً تهدف إلى تصحيح التصورات الإلهية ، وقلت إن هذا شيء مهم فالواقع أن العبد الذي لا يعرف مولاه على الوصف الحق لا يدرك عظمة هذا الإله ، وبالتالي فإن طاعته له وولاءه له لن تكون إلا ناقصة .
إن تحرير صفة القدرة التي لا يعجزها شيء أمر لا غنى عنه يتصل بالغيب وقضايا الغيب ، إن بحث القدرة وتقريرها بشمولها الذي لا يتناهى بعدم عجزها عن أي شيء ركيزة لا يُستغنى عنها من البحث في قضايا القيامة واليوم الآخر ، إن تقرير القدرة التي لا يعجزها شيء أمر لا محيص عنه إنما تثار أمام المؤمنين مشكلة شائكة كتلك المشكلة التي جرّ إليها الحديث عن يوم القيامة وهي مشكلة بعث الأجساد بعد الموت .
إنك حينما تتأكد وتقتنع بقدرة الله التي لا تتناهى ولا يعجزها شيء فلن يقودك أبداً أن تسلم بهذه الإمكانات التي بدت للمشركين مستحيلة ، ونحن نرى من أوائل سورة ( ق ) أن المشركين قالوا ( أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ) أي أتقوم القيامة وتعود الأجساد إلى ما كانت عليه بعد الموت وبعد أن تستحيل هذه الأجساد إلى تراب ؟ يردون عليه ( ذلك رجع بعيد ) والرجع هو الرجوع والبعث وقيامة يوم الآخر ، وفي قولهم ( ذلك رجع بعيد ) إشارة واضحة إلى أنهم يكذبون بإمكانية هذا اليوم ، فليسوا يريدون ـ والله أعلم ـ عودة إلى الحياة ثانية كهذه التي يتحدث عنها القرآن أمر بعيد أي أنه لن يكون إلا بعد سنين يخطئها العدّ والإحصاء ، لا ، وإنما يريدون أن ذلك مستحيل على حد ما يقول القائل هذا أمر بعيد عن التصور وعن التصديق ، وقولهم ( ذلك رجع بعيد ) معناه ذلك أمر مستحيل ، وهنا تثار المشكلة مشكلة العلم المحيط بكل شيء ، العلم الرباني ، إن القضية حين عُرضت بهذا الشكل ، عُرضت وهي تتضمن استحالة المرجع مرة أخرى استناداً إلى ماذا ؟ ولماذا يستحيل المرجع ؟ إن القضية التي استند إليها المشركون قضية ظاهرة ( أإذا متنا وكنا تراباً ) فهم يستندون في نفيهم هذا إلى حقيقة معروفة مشهودة ماثلة هي أن الإنسان حينما يأتي أجله فيموت يوضع في باطن الأرض ، فإذا أودع في باطن الأرض ، بدأت تعمل فيه عوامل التحلل والبلى فتتفرق أجزاء الجسم ، تختلط بالتراب وقد ينكشف القبر فتتفرق من الجسم أشلاء وأجزاء ، وقد تعبث الريح بهذا التراب الذي تحللت إليه خلايا الجسم فيتطاير في كل مكان ، وقد يتمزق فيكون قسم في البر وقسم في البحر وقسم تحت الثرى وشيء منه طائر في الهواء ، إن هذه الحقيقة الماثلة المشهودة أثارت في أذهان المشركين قضية صبيانية ، ونقول إنها صبيانية لأن هؤلاء ما زالوا يقيسون الرب تعالى بالعبيد ، ينسبون قوى الإله إلى قوى العبيد ، وقدرة الإله إلى قدرة العبيد ، وعلم الإله إلى علم العبيد ، وحين يكون الأمر أمر مقارنة ومقايسة على هذا المستوى ومن هذا القبيل فالأمر أضحوكة صبيان ، لأن الإله إذ يدخل ميدان المقارنات والمقايسات مع عباده فما هو بإله وليس رباً ، وبالتالي فلن تكون له الأوصاف العليا والسمات المثلى .
إنهم حين رأوا أن الإنسان إذا غاب الشيء عن حسه غاب عن علمه ، قالوا استناداً إلى هذا : إن الجسد الإنساني إذا تحلل وتفرق أجزاءه وإذا أضفت إلى هذه الواقعة المعروفة واقعة أخرى لا تقل عنها ظهوراً وبروزاً وهو أن الأمر ليس أمر جسد واحد ، وإنما هو أمر الملايين من الأجساد التي تختلط جميعاً لا تفترق منها ذرة عن ذرة في التركيب وفي الوصف والتي تذهب في أجواء السماء وعلى أديم الأرض مختلطة متناثرة لا تستطيع أن تميز منها شيء ، ولا تستطيع أن تميز منها عضواً عن عضو ، إنك حينما ترى الأمر بهذا الشكل فستكون القضية مشكلة بحق كما يزعمون .(/1)
فنعود ونؤكد إن القضية صبيانية لأنها نتيجة قياس كاذب ، قياس القدرة الإلهية الخارقة على القدرة البشرية العاجزة ، وقياس العلم الإلهي الشامل المحيط بالعلم البشري الناقص المتهافت ، ولهذا يرد الله عليهم في هذا الموطن رداً يشعرهم بتفاهة هذا التطور ، أنتم تستغربون وتستكثرون على الله أن يجمع أجزاء الجسم بعد التفرق والبلى ؟ ذلك كل ما يعجبكم من هذا ؟ لا بأس ، إذاً فاعلموا أن مشكلتكم ليست مع الله وليست مع مبدأ الإقرار بيوم القيامة ، إنما مشكلتكم في عجزكم عن إعطاء الإله الأوصاف المناسبة له ، إن مشكلتكم أنكم لا تدركون إحاطة علم الله تعالى فيما تشهدون وفيما لا تشهدون ، فيما تبصرون وفيما لا تبصرون ، فيما يقع تحت تطوركم وما يعلو ويكبر عن تصوركم ، إن الله أعلم مما تتصورون ، وصدق الله العظيم ( وما قدروا الله حق قدره ) فمشكلة الإنسانية عموماً أنها لن تستطيع أن تمنح الذات الإلهية الصفات اللائقة بها ، ولهذا قلنا في أوائل هذا الحديث إن هذه السورة وما سيتبعها من سور سوف تتناول تصحيح كثير من المفاهيم والتطورات المتعلقة بذات الإله تبارك وتعالى .
وإذاً فمشكلة هؤلاء المشركين مع صفة العلم التي يتصف بها الرب جل وعلا ، أأنتم تستكثرون أن يجمع الله الأجزاء المتفرقة بعد أن ذهبت في كل مكان ؟ أأنتم تستكثرون أن يعلم الله أين ذهبت هذه الذرة من الجسم وأين أصبحت هذه الخلية وأين راح هذا العظم ؟ فإذاً اعلموا أن علم الله على غير ما تتصورون ( قد علمنا ما تنقص الأرض مهم وعندنا كتاب حفيظ ) وإنها لصور لا شك أن البيان الإنساني يقف عاجزاً حتى عن تقريبها ، إن لك أن تتصور جهازاً يشبه أن يكون تلفزيونياً يسجل هذه المراحل المتعاقبة ولكن ببطء شديد ، هذه المراحل التي تمر على الجسم بعد أن يودع في التراب ، وبعد أن تبرد فيه حرارة الحياة ليسلم إلى برودة الموت ، وبعد أن يؤذن بالتفاعل بين هذا الجسد الذي فارقته الروح وبين عوامل التحلل الكامنة فيه وفي الأرض التي أودع فيها .
إن عوامل البلى تدبّ كالشبح غير المنظور في ظلمة الليل البهيم تحلله وتنتقص من أطرافه ، ولكن لا على هيئة منظورة ، لا على شكل محسوس ، شيئاً وراء شيء ، ولكنه النقص الذي يُرى لو أن هذا الجسم عُرض أمام جهاز بالغ الحساسية لأراك في كل لحظة شيئاً يُنتقص من هذا الجسم ، وأن عملية الانتقاص مستمرة دائبة لا تهدأ ولا تفتر ولا تتعطل حتى تأتي على الجسم كله ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ) أرأيتم من ذا الذي يستطيع أن يحدد بالضبط المراحل التي يقطعها الجسم الميت وهو منغمر في عملية التحلل والبلى ؟ من يستطيع أن يصور هذا ؟ فيعلم أين تذهب كل ذرة وأين تروح كل خلية وما يحصل لكل جزء من أجزاء هذا الجسم ، من الذي يملك أن يعرف هذا بالضبط ؟ لا أحد ، ولكن الله تعالى وهو القوة المتعالية عنك أيها الإنسان .. والبعيدة عن إحساسك المباشر .. يعلم رأي العين ماذا ينقص من جسمك في كل لحظة ، وأين يذهب هذا النقص ، فعلمه لا ينقصه شيء ، بل هو كامل وهو محيط ، فإذا كانت مثل هذه الأمور تسبب لك أيها الإنسان معضلة من المعضلات العقلية فالأمر على خلاف ذلك بالنسبة إلى الله جل وعلا .
إن علم الله لا يلحق به جهل فهو عالم بصير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما يعرج في السماء ويفعل ما يشاء . إنه يعلم أخفى ما يمكن أن تتصور ، إنك لو حررتَ صفة العلم التي يجب أن تنسب إلى الله لما شكلت هذه القضية في ذهنك مشكلة ، ودليلاً على استهانة القرآن بهذه التصورات الصبيانية المؤسسة على مقايسات حتى في مجال المقايسات البشرية لا تُعدّ شيئاً لماذا ؟ لأن هذه المقايسات خطأ في الأساس ، فالقياس المنتج والذي يصح أن يسمى قياساً علمياً هو ما تماثل ركناه من كل وجه ، المقيس والمقيس عليه ، وأنت تقيس علم الله إلى علمك وقدرة الله إلى قدرتك وهذا خطأ في القياس ، لأن الذاتين لا تتماثلان وكيف يتماثل العبد والرب وكيف يتماثل الإنسان والله ، إن القرآن كدليل على استهانته بهذه التطورات الصبيانية أعرض عن كل هذا ، فكأنه يريد أن يوقع في ذهن القارئ أن لا تكترث بهذا الهراء وبهذا السخف الذي لا محصّل له ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم وهم في أمر مريج ) .(/2)
إن المشكلة ليست أن هؤلاء يعرضون موقفاً عقلانياً يأخذ به من يصدق ويرفض من لا يكترث ، ليست المشكلة هنا ، لكنك أمام قوم مكذبين وحين تكون أمام قوم مكذبين فالقضية عضلة من العضل لا حلّ لها ، إن الإنسان يظل في حدود الإنسانية وفياّ لفكره أميناً مع عقله منطقياً مع إنسانيته ، ما دام يستطيع أن يأخذ ويعطي في حدود المعقول ، فإذا عن ذلك فالمسألة مشكلة ، إن هؤلاء لم تكن لهم قضية عقلانية يدافعون عنها ، بل لم تكن لهم قضية أصلاً ، إنهم مكذبون ، والمكذب وصفه الأساسي أنه مكذب ، لا تتحدث معه لمجرد أن تفتح فمك لتتحدث معها يقول لك أنت كذاب أنا لا أصدق ، وإذاً فما فائدة الكلام ؟ إن موقف المشركين على هذه الشاكلة موقف تكذيب في الأساس ، وموقف التكذيب لا يسمح بالنظر ويعطل قضية العقل ولهذا قال الله تعالى : ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم ) و( بل ) حرف إضراب في عرف علماء اللغة وحرف الإضراب يؤتى به ليقول لك عدِّ عن ذاك دع كل هذا الذي مر إنه لا يستحق الالتفاف ، فالذي مر لا قيمة له لأنه ليس مبنياً على أساس صحيح ، وتعال نقول لك ما هؤلاء الناس ؟ فهؤلاء مكذبون ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم ) ويقيناً إن القرآن معجز في كل شيء كما هو معجز في قضاياه ، معجز في أساليب عرضه لهذه القضايا ، وكما هو معجز في أساليب عرضه فهو معجز في دقائق وتفصيلات هذه الأساليب .. انظر إلى قوله تعالى ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) والأمر المريج هو الأمر المختلط الذي لا يستطيع الإنسان أن يستقر معه على شاكلة واحدة .
إن كلمة ( الحق ) هنا يمكن أن تحمل على القرآن وأن يكون المعنى بل كذبوا بهذا القرآن لما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقرآن حق بدون أدنى ريب ، وإن كلمة الحق هنا يمكن أن تُحمل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن الله أرسل رسوله بالحق وهو حق كذلك ، وإن كلمة الحق هنا يمكن أن تحمل على الدين عامة على هذا الإسلام الذي تضمنه القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كلمة الحق هنا يمكن أن تتضمن هنا يوم القيامة ، لأن يوم القيامة نتيجة للموت الذي يحل بكل مخلوق ، ويوم القيامة هو يوم الحق ، والموت هو الحق ، قلت لكم القرآن معجز في كل شيء ، والقرآن يأتي فيقول لك ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم ) ويترك لك المجال لكي تسرح بفكرك مع الإسلام ونبي الإسلام ومع القرآن المتضمن لشريعة الإسلام ومع يوم القيامة هذا الذي يجري الحديث من حوله ، ومع الموت هذا الذي يواجهه الإنسان ، إن كل هذه الأمور موضع تكذيب من هؤلاء ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) ومن هنا أن يتأمل الإنسان هذا المقطع الأخير وأن يطيل فيه التأمل ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) أرأيت كيف يخيّم الظلام فجأة عليك وأنت تسير في الأرض لا علامات فيها ولا دلائل ولا صوت ؟ أرأيت الحيرة التي تحسها أين تذهب ؟ إلى اليمين أم إلى الشمال أم إلى الأمام أم إلى الوراء ؟ أرأيت لو كنت في طريقك فحلّ الضباب فعمّ عليك المسالك والسبل أية حيرة تحسها ؟ إن هذا تقريب وليس تشبيهاً ولا تمثيلاً للحالة النفسية والعصبية والعقلية التي تنتج عند الإنسان حينما يفقد القدرة على ضبط اتجاهه في مسلك واحد ، إن الإنسان بالحق وليس كل مكذب مكذباً ، إن حينما تتورط في دفع الحق ورفض الحق والتكذيب بالحق فجدير بك أن تفكر وأن تطيل التفكير .. ماذا بعد الحق إلا الضلال ، وهل في الدنيا إلا هذان الشيئان ، حق يقابله باطل ، وهدى يقابله ضلال ، وعدل يقابله جور ، ونور تقابله ظلمة ، وإلى آخر ما هنالك من المتقابلات .
إن الدنيا ليس فيها إلا هذا ، فحين ترفض الحق وتدفعه وتأنف أن تقف معه وتقرّ به ، هل فكرت في المآل الذي ستنتهي إليه نفسياً وعصبياً وعقلياً وأخلاقياً ؟ ما أظن ، إن موقف التكذيب في الأصل موقف انفعالي أي أنه وليد الساعة عاطفي ، ولذلك فهو لا يسمح بطبيعته بأن يفكر الإنسان وأن يطيل التفكير . قلت إن أظهر وصف للمكذب هو مسارعته إلى التكذيب ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الناس ومن ورائه سفهاء المكيين يقولون للناس لا تصدقوه فإنه كذاب ، قبل أن يتحدث إلى الناس ، إنه يأتي إلى نادي القوم فيجلس إليهم فإذا فتح فمه ليتكلم قالوا له : تكلم أو اسكت فإنا لن نصدق بهذا الذي تقول .(/3)
إن موقف التكذيب موقف عجيب سخيف ولكن سفيه غاية السفاهة لأنه موقف يهين الإنسان ويرفض الاعتراف على ذاتية الإنسان ، ولهذا قلت لكم هذا الموقف لا يسمح بالتفكير ، ولو أن الإنسان ملك القدرة على أن يفكر بالضبط وبأناة وروية لوجد أمراً مهولاً ، إن الحق أبلج أي أنه واضح ، والباطل لجلج أي أنه شك وريب ، إن الإنسان لو فكر أنه حينما يزحزح قدميه عن قاعدة الحق فسوف تقعان لا ريب في بؤرة الباطل لأدرك أية حالة يضع نفسه فيها ، إن الوقوف مع الباطل وقوف مع بحر لجيّ من الشبه والريّب ، ويا لبؤس هذا الإنسان الذي يسمح لنفسه أن يكون أسير الريب والشكوك ، إن الله يقول ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) أي أن أمرهم كله مختلط ومضطرب ، ولكي تحاول أن تعرف بعضاً مما مردود هذه الكلمة ارجع إلى مواقف الناس في الدنيا ، إن أرباب الحق وأتباع الحق يملكون سكينة النفس وطمأنينة القلب وسلامة التفكير حتى في أدق الظروف وأحلك الأوقات ، كما يملكون هدوء الأعصاب ويملكون القدرة على التحكم والضبط في مسالكهم وأقوالهم ، يملكون القدرة على أن يكونوا أولئك الناس المتوازنين عقلياً ونفسياً وعصبياً وأخلاقياً ، وليس مهماً بعد أن يكون هؤلاء قلة كالشعرة البيضاء في جسم الثور الأسود هذا غير مهم ، المهم أن حجة الله على العالمين ناهضة وقائمة بهؤلاء الناس الذين حصّلوا من الكمال الإنساني وأماراته تتقاصر عنها همم القاصرين والقاعدين والمتكاسلين .
فإذا جئت الطرف الآخر ، جئت إلى الذين رضوا أن يكونوا مع أرباب الباطل جنوداً عوناً للفساد والخراب ، فما الذي أنت واجد ؟ إن قدرتهم على التحكم في أعصابهم معلومة ، ولذلك هم دائماً متوترو الأعصاب قابلون للثورة والفوران والاندفاع الأعمى غير المصلح ، إنهم كذلك لا يملكون تلك النفوس البريئة السليمة المعتدلة ، إنهم يرزحون تحت مجموعات بلا حق من العقد النفسية ومن الأمراض النفسية ، فهم أناس تتلون الدنيا بما فيها في أعينهم تبعاً لهذه الأمراض والعقد التي تعمل داخل نفوسهم . إنهم من جهة أخرى لا يملكون المنهج الأخلاقي الذي تستطيع أن نطمئن إليه . إن المنهج الأخلاقي المتوازن نتيجة طبيعية للأخذ بأهداه الحق ، أما أرباب الباطل فلا أخلاق لهم ، فأنتم بحاجة إلى أدلة وإلى براهين ما أظن أن كل أتباع الباطل بشتى صنوفه وصوره وألوانه بلا أخلاق ، وانظر إلى أين شئت وعلى أي مستوى شئت فستجد أن أرباب الباطل بلا أخلاق في كل زمان وفي كل مكان ، وسأضرب لكم مثلاً ك في الستينات حينما امتحن الله الأمة بسفلة وأوباش يمكن أن يكون مفهوماً أن يزل عن الأخلاق إنسان عادي ، لكن غير المفهوم أن يزل عن قانون الأخلاق رأس الأمة ، في 1964 على ما أظن شُكي إلى رئيس الدولة عندنا أن كثيراً من ضباط الجيش الذي يُعدّون لمقارعة العدو ليست لديهم أخلاق ، زنا وخمور ونساء كل ذلك مما يؤدي إلى تحطيم الروح القتالية عند الجندي ، فماذا كان جوابه ؟ قال : هذا أمر طبيعي ، إن هؤلاء الضباط من حقهم أن يعبثوا ، من حقهم أن يسكروا وأن يزنوا ، واستشهد بأبيات من الشعر . كنت أسمع هذا في الواقع وأنا في دمشق وأخذني الذهول . أنا أعرف مجتمعي وأعرف أمتي وأعرف الهوة العميقة الواسعة التي بينها وبين الخلق المستقيم ، ولكن أن يكون حتى في الرأس ، فهذا عجيب . وانزل أنت وصوّر لنفسك ما شئت وضع يدك حيث شئت طالما أنت في محاور الباطل فأنت مع فساد الأخلاق ، إذاً فلا استقامة للأخلاق ولا سلامة للنفس ولا هدوء للأعصاب ولا قدرة على التفكير المستقيم .
إن المكذبين الذين يقفون مع الباطل وهذا شيء مشهود ولا سيما في قطاع المثقفين يعرفونه ولا يجادلون فيه ولا يناقشون ، إن مسألة تغيير القناعات والولاءات وتبديل الصفوف والمعسكرات والمواقف شيء أصبح سمة بارزة من سمات إخواننا المثقفين الذين ربطوا أنفسهم بعجلة الباطل ، لو لم يكونوا مرتبطون في عجلة الباطل لعرفوا أن طريق الحق واضح مستقيم لا يقبل تغييراً ولا تبديلاً ، وأن الإنسان الوفي للحق وفيّ هنا ووفيّ له هناك ووفيّ له اليوم ووفيّ له بعد ألف عام ، لا يمكن أن يتغير موقفه ، ولا يمكن أن تغير قناعاته ، وأرباب الباطل الذين أصبحوا في أمر مريج هانت عليهم هذه التبدلات والتغيرات لأنهم لا يقفون مع قضية ولا يدافعون عن قضية وإنما يعبرون عن شهوات عن تطلعات وأطماع ، أما القضايا والمثل فكلام يقال ليكون حلية في المجالس لا أكثر ولا أقل ، ولكنك لو أتيح لك أن تفحص سلوك هؤلاء الناس لوجدت الناس يلبسون جلود الذئاب حينما تلوح بارقة من طمع يسيل لها اللعاب وتشرئبّ لها النفوس .(/4)
إن تعبير القرآن هنا تعبير دقيق ومعجز ولا يمكن أن يوفّى حقه من البيان ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم ) فكانت بذلك نتيجة واحدة ( فهم في أمر مريج ) . صوّر لنفسك ما شئتَ من نتائج هذا الشيء المريج ، على كل مستوى وعلى كل اتجاه وفي أي قطاع ستجد آثار هذا الأمر المريج واضحة ، لو أنك نظرتَ في التاريخ القديم لوجدتَ ظواهر ومظاهر هذا الوصف بارزة على معسر المشركين الذي كانوا يناوئون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بارزة على شكل حيرة واضطراب وتخلخل وعدم قدرة على المجابة والانفلات لزمام المبادرة من أيديهم ، ولوجدتَ سمات الموقف المحق في موقف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ثباتاً على الحق ووفاءً للحقيقة وصفاء للرؤية وقدرة على التفكير السليم وقدرة على أخذ النفس بأقصى ما يمكن أن تؤخذ على الكمالات الخلقية .
ومهما نظرتَ قديماً وحديثاً فأنت واجد هذا الحرب المستمرة المستعرة بين الصنفين من الناس ، صنف يقف مع الحق فهو يمثل قوة الله التي لا تقاوم وصبغة الله التي لا تُغلب ولا يمكن أن يمحوها شيء ، وقد يكون أرباب الحق كالشامة في الجسد كالشعرة البيضاء في جسد الثور الأسود ، وهم حجة الله على العالمين . أنت تجد الإنسان الواقف مع الحق الوفي معه فلا تجد معه مالاً وليس له نسباً ولا أعواناً ولا سلطاناً وإنما هو مجرد إنسان ، ومع هذا فهو مع تجرده وفرديته يفرض نفسه على الناس فرضاً بما معه من الحق وبالحق الذي يتمثل به . وتجد آخرين يتمتعون بالمال والجاه والسلطان يُخافون فيُصانعون ويُرجَون لإيصال المنافع فيُتملقون ، ومع ذلك فبمجرد أن يدير الإنسان منهم ظهره للناس يلعنونه ويطعنون به ، وهذا دليل عن ضعفه وعلى هوانه عند الناس ، لأنه يمثل الباطل الذي يعنون للهزيمة الإنسانية على ساحة التاريخ كله ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم أمر مريج ) أفليس يسوغ لنا بعد هذا البيان كله أن نوجه إلى الناس جميعاً نداءً أن يعاودوا فحص ذواتهم وقناعاتهم ومواقفهم ، وأن يعاودوا فحص ولاءاتهم وأن تنظروا إلى أي معسكر من المعسكرين ينبغي وفاءً للمعنى الإنساني أن ينحازوا ، ألم يأنِ لإخواننا ولأبنائنا أن يقفوا وقفة صادقة مع الذات لا تتحيز ولا تتردد .
أأمر الإسلام أيها الإخوة أمر ملتبس ؟ هل هو أمر مريج ؟ هل هو أمر مشكوك فيه ؟ ما أظن ، وهذا الإسلام يشهد له ألد أعداء قديماً وحديثاً بأنه الحق الذي لا تعلق فيه شائبة من باطل . فلماذا التردد ؟ إن الإسلام هو الذي يمثل الحق ، وغيره على اختلاف الصنوف يمثل الباطل ، وإنك من أجل نفسك لا من أجل الإسلام ، فالإسلام غني عنك ( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ) من أجل نفسك لا من أجل الله فالله غني عنك ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) من أجلك أنت أيها الإنسان يجب أن تعيد حساباتك وأن تقف مع الحق فذلك هو الذي يزيد بالكرامة التي قررها الله تعالى لك ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا ) فانظر عناية الله فيك ، أسجد لك ملائكته المقربين وسخر لك كونه العظيم والعريض كله ، فانظر عناية الله بك ، أفيليق بك أن تسفه نفسك بهذا الشكل ؟ ألا ينبغي لك أن تُعنى بنفسك جزءاً من العناية التي عُني الله تعالى ، إن ذلك عليك حق وواجب ، وإن من مظاهر عنايتك بنفسك أن تأطرها على الحق أطراً ، وأن تقفها مع الحق دائماً لكي تحصل على هذه الطمأنينة التي حصل عليها المسلمون ، على برد اليقين الذي يحسه المؤمنون ، على سلامة الصدر وبراءة النفس التي تسمح للمؤمنين أن يناموا هادئين وادعين .
أسأل الله تعالى لنا ولكم جميعاً أن يرزقنا القدرة على معرفة الحق واعتناق الحق والوقوف مع الحق والدفاع عن الحق والموت في سبيل الحق .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/5)
تفسير سورة ( ق )
الجمعة 26 رمضان 1397 / 9 أيلول 1977
( 4 من 4 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .. أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
نرجو اليوم أن نفرغ من سورة ( ق ) ، ولَكَم أتشوق إلى الوقت الذي أجد نفسي قد انتهيت تماماً من عرض هذه الشريحة من عمر الدعوة الإسلامية في عهدها الباكر ، إن نفسي تنازعني منذ زمن إلى الخلاص من هذه الأحاديث ، لنتفرغ لتحديد المعالم والسبل واستخلاص القواعد والمناهج مما للناس حاجة إليه اليوم ، وصحيح أن القرآن حوى هذا كله ، ولكن صحيح أيضاً أن القرآن كتاب أُنزل لذوي الألباب الذين يملكون القدرة على التفكر والتذكر ، ويملكون القدرة على صبر النفس على أشياء لعل نفوس الكثيرين لا تصبر عليها ، ولو كان الناس على سوية واحدة من التفكير ومن حيث التمثل للاستفادة من كتاب الله تعالى لكنا أغنياء عن هذا الكلام كله . ونزولاً عند حكم الضرورة نحن نتحدث ونصبر على هذه الشهور بل وأكثر من الشهور حتى تتبلور بين أيدينا قضية نعتقد أنها قضية قرآنية .
فيما يتصل بسورة ( ق ) عرفتم فيما أظن أن العمود الفقري لها هو الحديث عن اليوم الآخر وإجابة المشركين عن بعض الاستفسارات التي تتركز أيضاً حول هذه إمكانية قيام اليوم الآخر . وقد مرّ منها جانب ، الجانب الذي عرض الموضوع ، والقسم الذي أقام الدلائل مما هو في السماء ، ومما هو في الأرض ، ومما هو في جو السماء ، مما عبّر الله عنه بالماء الذي يسوقه فيحيي الأرض بعد موتها ليقول للناس ( كذلك الخروج ) أي كما يخرج النبات الحي من الأرض الهامدة كذلك يُخرج الله الموتى من قبورهم ويبث فيهم الحياة مرة أخرى لمصيرهم وليقفوا بين يدي الله تعالى موقف الحساب .
وبعد هذا كله فقد مرّ معكم حتى الآن من أساليب العرض القرآني أسلوب واضح قلما تصدر منه صورة من صور هذا الكتاب وهو الأسلوب التاريخي ، والأسلوب التاريخي أسلوب بالغ الدلالة على المقصود ، لأنه يعتمد وحدة النواميس الكونية ووحدة الجنس البشري ، فالله تعالى حينما يقص علينا أنباء من قد سبقنا من الأمم فإنما يقصها علينا من حيث جزء من هذه المسيرة الإنسانية الكبرى التي بدأت بأبي البشر آدم عليه السلام والتي نحن حلقتها الأخيرة حتى الآن ، وستكون لهذه المسيرة حلقات وحلقات .
فوحدة الإنسانية ووحدة الجنس البشري شيء يعتمد عليه القرآن اعتماداً كبيراً وكذلك رحمة للنواميس الكونية ، فالخالق العظيم جل وعلا لا يحابى جنساً على جنس ولا يقرّب لوناً ويبعد لوناً ، وليست لديه تمايزات إلا ضمن القواعد التي أنزلها على رسله كافة ، وهي تمايز الناس بالتقوى والعافية ، وعلى ذلك فما كان من بلاء حلّ بالأمم الماضية بسبب العتو والكفر والتمرد والعصيان فمعقول جداً أن يحلّ بكل من يعمل على شاكلة هذه الأقوام . إن القوانين الكونية والنواميس الاجتماعية سنن الله في الخلق واحدة ، فأية ملة في الماضي قامت ووقفت في وجه المرسلين وكفرت بأنعم الله وصدت عن سبيل الله فأصابها الله جل وعلا بعذاب وببلاء قذفاً من السماء أو خسفاً في الأرض أو مسخاً في الصور والأشكال أو إلى ذلك أخذاً بالسنين والمجاعة . وأية أمة من الأمم من غير هذه الأمة تسلك نفس الطريق وتقوم بنفس أشكال العصيان فهي لا تملك أية حصانة أن يصيبها من البلاء مثلما أصاب الأمم الماضية ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) .
فهؤلاء القرشيون الذين واجههم محمد عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الله جل وعلا وقرأ عليهم هذا القرآن بأمر ربه كذبوا وأعرضوا بل فعلوا أكثر من ذلك فشردوا وعذبوا وقتلوا أيضاً ، فهل تتصور قريش وغير قريش من الأمم المخاطبة بهذا الكلام الرباني بهذا القرآن العظيم أنها فريدة في ذاتها وأنها تحتل في ساحة قدر الله منزلة الصدارة والمحاباة والكرامة بغير استحقاق ، أبداً ، إن قريشاً لا تملك شيئاً من هذا القبيل ولهذا فبعد أن عرض الله جل وعلا دلائل النشأة الأخرى مما في السماوات من ترتيب ومحكم ودقيق و مما في الأرض من مظاهر العناية المتمثلة مما يشاهده الإنسان حساً ويشاهده عياناً سوف ينزل المطر من السماء إلى الأرض الجرز فتهتز هذه الأرض وتربت ، وتخرج نباتاً يخرج منه حب متراكب يستعمله الناس طعاماً لهم ويستعملونه علفاً لبهائمهم . كيف يخرج نفس الماء ونفس الأرض بنفس الشروط ؟ كيف تخرج بواسق النخيل التي تزيد في الحجم والمتانة والقوة على الحشائش والنباتات التي تنبت الحب أضعافاً كثيرة ؟ ثم كيف تكون هذه الأشجار البواسق ما هو عقيم لا يحمل وما يحمل الطلع المتراكب بعضه فوق بعض وكل ذلك آية الإتقان والإبداع ومظهر العناية بهذا الإنسان الجاحد المكذب ؟ وكيف ينزل المطر من السماء فتكون ضمن هذه الحياة ؟ يسوق الله ذلك كله في لوحة واحدة ليقول للناس بعد ( كذلك الخروج ) .(/1)
فما يحدث التغير في الجوانب التي تشهدونها في السماء وفي الأرض وما بين ذلك فيخرج الحي من الميت كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة للقاء ربهم جل وعلا ، ومع هذا فقريش تكذب وتعاند وتصر على العناد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم يسمع ويرى ويتألم آلماً شديداً ، والرسول الله صلى الله عليه وسلم ناله من الإيذاء ما حمله أن يتمنى ولو أمنيةً باطلة أن يتولى الله بنفسه تأديب هؤلاء العصاة ، فالله جل وعلا هنا يقول ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود ) وأصحاب الرسّ أرجح الأقاويل أنهم قوم شعيب الذين كانوا يسكنون المنطقة الشمالية من جزيرة العرب ، والرسّ في الأصل هي البئر في لغة العرب ، وهؤلاء يقال في الأخبار أن الله جل وعلا أرسل إليهم رسولاً فرموه في البئر ، أي غرقوه في البئر . ولا نعرف حتى الآن أن الرسّ اسم للبئر أو أن الرسّ فعل لإدخال مخلوق في البئر . وكما أن تعلمون أن لغة العرب لغة واسعة تحتاج إلى متابعة متواصلة حتى يدركها الواحد منا .
وفي قول الله تعالى ( وأصحاب الرسّ ) دلالة بيّنة على أن أصحاب الرسّ قوم من الناس جاءهم من عند الله رسول ، فوقفوا منه موقف العناد والتكذيب فأصابهم الله جل وعلا ببلاء وعذاب . ونحن لا نملك من أخبار أصحاب الرسّ إلا ما جاء في هذه السورة وفي موطن آخر سيأتيكم بعد حين .
المهم أن الغرض في السورة ليس تشريح قصة قوم مضوا ، ولكن الغرض بيان موقف جملة من الأقوام مع عرض النتائج التي تعرضوا لها ( كذبت قبلهم قوم نوح ) وقوم نوح معروفين ، وأصحاب الرسّ ، وثمود وهم قبائل من العرب التي بادت ، وعاد وفرعون وإخوان لوط ، أما عاد فهم الذين ذكر الله من شأنهم قبل الآن وهم أيضاً من قبائل العرب البائدة التي لا ذكر لها الآن إلا في بطون الكتب وعلى صفحات التاريخ ، وأما فرعون فهو في مصر الذي طغى في البلاد وأكثر فيها الفساد والذي جعله الله آية للمعتبرين إلى آخر الزمان حين أغرقه في اليم بعدما تبع موسى عليه السلام ، ثم نجاه ببدنه ليكون لمن خلفه آية ، وما زال جثمانه يحتل في المتاحف الأثرية حتى اليوم .
( وعاد وفرعون وإخوان لوط ) ولوط أيضاً نبي من الأنبياء الذين أرسلوا إلى قبيلة عربية ، فأخذها الله بعذاب بحيث جعل عاليها سافلها لما كانوا يفعلونه من الفواحش ما سبقهم أحد من العالمين .
وقال ( وأصحاب الأيكة وقوم تبع ) وهؤلاء أيضاً من القبائل العربية . فهذه الجملة عنت بإبراز أكبر عدد من القبائل العربية التي طغت وعتت عن أمر ربها ولم تصدق برسله ، فحلّ بها الإبادة والدمار ، وقد كان العرب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يتناقلون أخبارهم .
فكأن الله تعالى يقول لنبيه : إذا كان قومك كذبوك فقد كذبت الأمم السابقة أنبياءها ( كلٌ كذّب الرسل) ولكن ماذا يترتب على ذلك ؟ يترتب على ذلك ما قاله فيهم ( فحق وعيد ) أي أن الله تعالى أحلّ بهم العقوبات التي توعدهم بها ، فقريش هم من نسل هؤلاء الأقوام ، وعموماً فالعرب المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يعرفون الشيء الكثير عن هؤلاء الأقوام ، فهم منهم . فلماذا لا يقع على قريش من العذاب مثلما وقع بهؤلاء الأقوام السابقة التي كذّبت رسلها ؟ فهل لديهم صك من الله أن لا ينالهم شيء من العذاب ؟ إن الله تعالى إذا توعّد نفّذ وعيده ، وحال قريش من حال هؤلاء الأقوام ، فالله يمسهم بالعذاب شيئاً فشيئاً فما استكانوا وما تضرعوا كشفنا عنهم العذاب .(/2)
لكنا كما نرى أن القرآن لا يقف طويلاً عند هذه النقطة ، ليرجع إلى الدرس الأساسي فيقول ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) أفعيينا أي أعجزنا ، أتعبنا من الخلق الأول ؟ أكبر علينا خلق الإنسان أول مرة ؟ كأن القصص الماضين بين معترضتين ، يأتي السياق بعدها مباشرة إلى أساس المشكلة والقضية ، إن الإنسان المكذب لا يستوعب إمكانية الإحياء بعد الإماتة ، إمكانية الإعادة بعد الفناء وتفرق الأجزاء . فيسأل الله سؤالاً ، إنك أيها الإنسان لا تشك قطعاً أنك مخلوق وإلا فكما قال الله ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) إما أن تكون قد خلقتَ نفسك أو تكون خُلقتَ مصادفة من غير شيء ، وكلا الأمرين باطل ، لا تملك أنت أن تدعي ذلك أبداً ، وإذاً فأنت تقرّ بأنك مخلوق ، من خلقك ؟ سمه القوة العظمى أو الله أو ما تريد ، لا مشاححة في الأسماء ، المهم أن تعلم أن قوة أقوى منك وهو أكبر منك هو الذي خلقك من العدم ، إذا كنت تقرّ بأنك مخلوق في الأساس فما الذي يجعلك ترفض الخضوع لخالقك ؟ ويسأل الله : أأتعبنا الخلق الأول حتى لا نستطيع أن نعيده مرة أخرى ؟ إن كل صانع حين يبدأ بإنتاج شيء جديد فلا شك أنه يعاني شيئاً من الصعوبات ، ولكن حينما يعاود الكرة مرة ثانية فتكون المرة الثانية سهلة وليس فيها صعوبة ، وتكون المرة الثالثة أسهل وهكذا .. والإعجاز في الإبداع أي في بدء الخلق في المرة الأولى ، هذا هو الإعجاز ، وأما الذي اعتاد على صيغة الأشياء فلن يعي بها . ولهذا فمن أكبر الأخطاء العقلية أن يتصور الإنسان عجز الخالق للمرة الأولى عن الإعادة في المرة الثانية ، هذا مدلول الآية الكريمة ( أفعيينا بالخلق الأول ) أي أننا لن نتعب من الخلق ولكن المكذبين في لبث جديد ، فيصعب على أذهانهم إمكان الإعادة مرة أخرى .
ثم يذهب الله تعالى في بيان أساليب القدرة ( ولقد خلقنا الإنسان ) وهذا تقرير جازم وأن القضية ليست مطروحة للمناقشة والجدل ولكنها قضية مفروغ منها ، ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) ومن قدراتنا أن علمنا يتغلغل لا إلى الحركات الظاهرة ولا وإلى التصرفات المرئية ولكن إلى الخواطر التي لا ترى ولا تسمع والتي تجول بين هذا الكيان الإنساني ( ونعلم ما توسوس به نفسه ) ولا حظوا التعبير ( ما توسوس به نفسه ) لو قال : تحدثه به نفسه ، لكان الأمر أضعف في باب البيان عن مقدار قدرة الله تعالى ، لماذا ؟ لأن الحديث كلام مفهوم ، ولكن الوسوسة جرس غير مفهوم ، ومع هذا فالله يذكر أنه يعلم حتى هذا الهمس الخفي الذي لا يفهم مما هو موجود في أطواء النفس .
( ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) الله تعالى ليس إله فلاسفة اليونان الذين تصوروا الإله خالقاً نفض يده من الخلق تكبراً بعد أن خلقهم وفرغ منهم وسكن في عليائه لا يسمع كلامهم ولا شكاياهم ولا يجيب دعاءهم ، الله في تصور الإسلام ليس بهذا الشكل . وحين كان الأصحاب رضوان الله عليهم يسوقون برواحلهم صوب مكة أصبحوا يضجون بالدعاء ويرفعون أصواتهم بالدعاء فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم ( أي راعوا على أنفسكم شيئاً ما ) ولا تجهدوها ، إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعاً بصيراً ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته . فالله جلا وعلا قريب جداً أقرب مما يتصور الإنسان ، والله جل وعلا يقول ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ) فأثبت لنفسه المعية التي تقتضي لا القرب فقط وإنما الاتحاد والامتزاج .
( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) الإنسان يرى نفسه خالياً ، ولو أنه وعى عن الله جل وعلا لعرف أن الله وكل به من يحفظ عليه حسناته وسيئاته ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) والرقيب هو المراقب ، والعتيد هو القادر ، وليس الكلام هنا منصرفاً كما هو متبادر إلى أذهان العوام إلى ملكين جالسين على كتفي ابن آدم أحدهما اسمه رقيب والآخر اسمه عتيد ، هذا غلط ، وإنما هو مراقب لله ، وهو مراقب حاضر ، ومن أجل أنه حاضر هو عتيد ، ثم ما دام الإنسان محفوظاً من جميع الجهات بهذا الشكل ومدونة عليه أعماله صغرت أو كبرت أو حتى الوسوسة التي تكون في النفس ولا يعلمها الإنسان ، لذلك لا تستغربوا أن الإنسان تخطر في باله أشياء لا يعلمها ، ولهذا جاء في أخبار النبي عليه الصلاة والسلام : اللهم إني أستغفرك لما أعلم ولما لا أعلم وبما أنت أعلم به . فقد يصدر في الإنسان ولو من باب الصغائر ما لا يقع تحت علم الإنسان . حتى هذا مسجل ومدون عند الله تعالى ، إذا كان الأمر كذلك فهل يستطيع الإنسان أن يتابع المسيرة ، لا بأس سنأخذ بيدك ..(/3)
( وجاءت سكرة الموت بالحق ) والحق هنا هو المصير الذي سيأتيه كل مخلوق أي هو الموت ، ( وجاءت سكرة الموت بالحق فذلك ما كنتَ منه تحيد ) أي هذا الموقف وهذه الحال ما كنتَ منه تحيد ، أي هذا الموقف هو الذي كنتَ تفرّ منه ، جاءك ما كنتَ منه تهرب ولحق بك فهو الموت .
( ونُفخ في الصور ذلك اليوم الوعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) سائق يسوقها إلى الله ، وشهيد يشهد عليها بأعمالها . يمضي زمن الدجل والمراءات التي كانت في الدنيا ، ويُذعن للشهود الذين لا يكذبون .. ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) يأتي الخطاب إلى الإنسان ( لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) لقد كنتَ ليست متصوراً شيئاً من هذا القبيل ، أنت الآن ترى من أحوال القيامة ومن أوضاع اليوم الآخر ما كنتَ تسمع عنه ولكن تغفل عنه ، ولكنك الآن تراه بعدما كشفنا عنك الغطاء عن عينيك .
( وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ) نحن هنا في يوم القيامة أمام المشهد الذي يضع الإنسان أمام أعماله ، وقال قرينه لله هذا ما لدي عتيد ، هذا سجل الأعمال حاضر ، ( ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ، مناع للخير معتد مريب ، الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) هذا نداء الحق ولكن ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ، قال لا تختصموا إلي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلاّم للعبيد ) فهنا قرين ، وفي الآيات من قبل قرين ، فهل القرين هنا هو ذات القرين هناك ؟ بعض المفسرين يذهب إلى الوحدة بين القرينين ، وفي تقديري أن هذا خطأ ، وما جاء في قول الله ( وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ) إشارة إلى الملائكة التي تراقب العبد وتسجل عليه أعماله ، ولكن الإشارة إلى القرين الآخر ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ) توحي بمعنى آخر ، فالقرين الأول لا يمكن أن يطغى ، لماذا ؟ لأن وظيفته المراقبة والتسجيل وتقديم كشف الحساب لله تعالى ، وليس من وظيفته أن يطغي المخلوق البشري ، لكنه في الآيات الأخيرة يوجد غير القرين الأول ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ) فثمة جدل ونقاش بين الكائن الإنساني الذي بُعث من النفخة الأخرى وهذا القرين الآخر ، والله جل وعلا يقول ( لا تختصموا لدي ) من هنا نستطيع أن نقول أن القرين الآخر هو ما يصاحب الإنسان من الناس المضلين ورفقاء السوء والذين يزينون للناس الضلالة .. هؤلاء القرناء جاء ذكرهم كثيراً ، وعرض القرآن مواقف للحجاج والنقاش بينهم وبين قرنائهم وكيف أنه تبرّأ الذين ( اتبعوا من الذي أُتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات وما هم بخارجين من النار ) فالذي نرجح أن القرين هنا هو الذي يرافق الإنسان في الدنيا ممن يزينون لهم خلق الضلالة والفحشاء والمنكر ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ) أي تنصل من المسؤولية ( ولكن كان في ضلال بعيد ، قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) .
( ويوم نقول لجهنم هل امتلأتِ فتقول هل من مزيد ) يعني جهنم من كثرة ما دخل فيها من العصاة والمكذبين والكافرين تزدحم فيسألها الجبار جل وعلا : هل امتلأتِ ؟ فتقول : هل من مزيد ؟ أي هل بقي شيء مني يتسع لمزيد من الخلق ؟ إن جهنم من كثرة ما يُلقى بها تمتلئ ، وقد جاء في الحديث القدسي بما معناه أن الله تعالى يقول للجنة ولجهنم : لكل منكما ملؤها . أي للجنة ملؤها ممن يستحقها ، وللنار ملؤها ممن يستحقها من الكفرة والمعاندين .
( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ) لأن أصحاب الجنة يتراءون أصحاب النار ، وأصحاب النار يتراءون أصحاب الجنة ، لأن الجنة وجهنم متجاورتان ، وأصحابهما يسمع الآخر ، والله تعالى قصّ علينا أن بعض المؤمنين يطلع على أهل الجحيم .
( هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ، لهم ما يشاءون ولدينا مزيد ) هذا المشهد حينما يحق الحق وينكشف الغطاء ويرى المؤمن ما أعده الله للأتقياء من النعيم وما أعده الله للأشقياء .(/4)
بعد هذا يلتفت السياق إلى العرب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد هل من محيص ) والقرن هم الجماعة والقبيلة من الناس ، هؤلاء القرون الذين كانوا قبلكم يا معشر المكذبين كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أولاداً وأموالاً وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها أنتم وذهبوا وسافروا وجاءوا ونقبوا في البلاد ، ومعنى نقبوا في البلاد : النقب هو رأس الطريق ، تقول أخذ فلان نُقَب الطريق وأخذ القوم أنقاب الطرق أي وقفوا على أفواه الطرق ، من يأخذ فم الطريق يكون حارساً للطريق ، أي يملك الطريق برمته ، فمعنى الفعل نقّب أي أنه سلك الطرقات سلوكاً بحيث جعله خاصاً به من كثرة ما مشى فيها وسافر عليها .. فالله جل وعلا حين يقول ( فنقبوا في البلاد ) أي أنهم أكثروا السفر والحلّ والترحال إلى البلاد الواسعة فخرجوا من بلادهم لتجارات أو لصناعات أو لمعارك وحروب أو أي سبب من الأسباب ، فإذاً أنتم يا معشر قريش ماذا تعرفون من الدنيا إلا هذه البلاد الضيقة ، وحياتكم ليس فيها إلا هذا الحرم وإلا رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام وهذا كل شيء عندكم .. أما من كان قبلكم فقد طافوا الدنيا وهذا دليل على قوة هؤلاء الأقوام وعلى كبر حجم دولتهم وأنها ملكت من أسباب القوة الشيء الكثير .. ومع ذلك فقد أبادها الله .. فاغتراركم بقوتكم يا معشر قريش شيء لا وزن له . لذا جاء صيغة السؤال ( هل من محيص ) هل استطاع أحد أن يتملص من بلاء الله ؟ لا . ( إن في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد ) .
( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) هل يريد الله هنا أن يقول لنا أنه ينفي عنه التعب خلال خلق السماوات والأرض ؟ لا ، ولكن الله يريد أن يطبع في أذهاننا أن العمل يجب أن لا تكون له عواقب من التعب ، يريد أن يقول لنبيه هذا وأنه يجب أن يدركك اللغوب والتعب ، لأنك في طريق يضمن لك مرضاة الله ويضمن لك السعادة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، فينبغي لك أن لا تتعب . و( لغوب ) دلالة على جفاف الحلق الذي يكون من التعب .
( فاصبر على ما يقولون ) فإيحاءات الآية السابقة موجهة إلى محمد عليه الصلاة والسلام .. ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ، واستمع يوم ينادِ المنادِ من مكان قريب ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ) فترى أن الله حدد لنبيه عليه الصلاة والسلام مهمته في شيئين : صبره على البلاء ، وتمسكه بالعبادة ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك ) ثم ماذا ؟ ( واستمع يوم ينادِ المنادِ من مكان قريب ) والأفعال من هذا القبيل ، أي أن العرب تضع الأفعال مكان بعض ، فاستماع المنادي شيء لا يُعقل ، لأن الإنسان إذا في ذلك الوقت فإنه لا ينتفع بذلك النداء ، إذا نُفخ في الصور يسمع الخلائق النفخة لكنه السمع الذي لا ينفع ، والله تعال ساق الاستماع هنا في معرض الانتفاع والسمع ( يوم يناد المناد من مكان قريب ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ) وإذاً فالله جل وعلا يريد من الاستماع أن يكون بمعنى الانتظار والتربص . ( ذلك يوم الخرج ) أي الخروج من الأجداث .
ثم ( إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ) هذا تيئيس لكل الذين يشعرون بضيق الصدر ويتمنون أن لو أن الله بطش البطشة الكبرى ، ( إنا نحن نحيي ونميت ) أي أن الأمر أمرنا نوقع الموت ساعة نشاء ونحيي ساعة نشاء .
( يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير ، نحن أعلم بما يقولون .. ) نحن نعرف ماذا يتسلى به هؤلاء المشركون ، ولكن ( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) بعد كل هذه الرحلة وبعد عرض جميع الحجج والبراهين وبعد أن انطبعت في أذهاننا مواقف عصيبة وسفيهة من المشركين تجاه رسول الله .. بعد كل هذا يتمخّض الدري بقوله ( ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) وجبار صيغة مشتقة من الفعل ( جبر ) وجبر تحمل معنى القهر والإكراه والقسر ، ومعنى ( ما أنت عليهم بجبار ) أي لا تملك قهرهم ولا قسرهم على أن يؤمنوا لأنهم لن يؤمنوا إلا أن يشاء الله .. فأنت ليست وظيفتك أن ترغمهم على الإيمان ولستَ جباراً ولا قهاراً على الناس ، ولكن أنت مذكر ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) فالله هنا ذكّر النبي والدعاة جميعاً بهاتين الكلمتين : لستَ جباراً ولا قاهراً ، وإنما أنت مذكر .(/5)
عند هذه النقطة تنتهي السورة جميعاً وأعترف أني تجاوزت نقاطاً كثيرة ، ومع ذلك فلو أنني وقفت عند كل شيء لطال الشوط طولاً متصاعداً ، وحسبنا أن نعرف أن الشيء الأساسي لكل سورة والمدلولات الرئيسية لكل سورة . وسوف نستعين بالله تعالى على ما تبقى بين أيدينا من بقية هذا الشوط ، لعلنا أن ننتهي في القريب العاجل لنقف وإياكم إذا أراد الله وقفة الدارس المتأمل الذي يبدأ العمل الإيجابي المثمر الذي ينتج للأجيال الجديدة قواعد ومعالم يسير عليها المسلمون .
اللهم نسألك العون والمزيد من فضلك .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. والحمد لله رب العالمين .(/6)
تفسير سورة ص )
الجمعة 16 ذي الحجة 1397 / 25 تشرين الثاني 1977
( 3 من 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ... أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
سنحاول اليوم أن نلقي بعض النظرات التفصيلية على بعض ما أجملناه في الماضي ونحن نلخص مقاصد سورة ( ص ) ، ومن التلخيص الذي قمنا به في الجمعة الماضية يتضح أن فواتح السورة الكريمة تتصل أوثق اتصال للجدل الذي كان دائراً في مكة إبان فواتح الدعوة ، ويتضح أن هذا الجدل يحمل طابعه الخاص من حيث أنه لا يصدر عن نظر عقلي وليست له ضرورات منطقية ، وإنما ابتعثه وأثاره ما كان يعتمل في نفوس المشركين المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بواعث الحسد وما يولّده الحسد من ضغائن وأحقاد .
كما يتضح من مراجعة فواتح السورة أن الله جل وعلا ذكر لرسوله وللمؤمنين جملة من التلقينات التي أراد لها الله تعالى أن تحيا في المسلمين أبداً ، لكي لا يطغى ضجيج المعركة الدائرة رحاها على عوامل الثقة في المستقبل التي يريد الله تعالى أن تظل حية نيرة مشعة موجهة لمسالك المسلمين أبد الدهر . فبيّن له جل وعلا أن ما يراه أمامه من ظواهر لا عقلانية ومن وقائع بعيدة عن الإنسانية فشيء عند التأمل لا يدعو للعجب وللدهشة والاستغراب ، فتلك هي طبيعة الناس بما أنهم ينفرون من الجديد ويفرون من كل ما يرفعهم عن هاوية التقليد ، وأن أمماً مرّت على هذا الكوكب جاءتها رسل الله من قبل بالهدى والبينات وعرضت لها الدلائل الواضحات لا تحتمل أخذاً ولا رداً ، ومع ذلك أصرت على العناد واستمر مريرها في التكييف وأبان له أيضاً ـ كي لا تتزعزع ثقة المؤمنين بالطريق الذي اختاره لهم ربهم جل وعلا ـ أنه برغم أن الجو من حولهم مكفهر ، صعب مخيف موئس ، فإن هذا كله يجب أن لا يؤثر على ثقة المؤمن بغلبة الحق وانتصار العدل .
وحين قال لهم ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) فإنما أراد له أن يعلم هو والمؤمنون جميعاً أن أتباع الباطل وأحلاس الضلالة مهما تحالفوا ومهما بلغت قدرتهم على المناوأة والكيد والحرب فإن النتائج المقررة في علم الله سلفاً وهو أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين ، ولكن بعد سلسلة من البلاء والتمحيص تميز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب والمؤمن البر من الفاجر الشقي ، وحين قال له ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) فإنما أراد أن يلفت المخاطب بهذا القرآن وهو الإنسان العربي اللسان إلى ما في حرف ( ما ) في ( جند ما ) من الإبهام الذي يهوّل ويصور الصورة مضخّمة أو غير مضخّمة إلى ما يتركه هذا الحرف في ذهن السامع ، فالله تعالى كان قادراً على أن يقول له : إن جند قريش مغلوبون ، فيتناول التخصيص إطاراً محدوداً في الزمان ومحدوداً في الحجم والمكان ، ولكنه في الإبهام المتمثل في حرف ( ما ) أراد له أن يفهم وهو ابن اللسان أن الجند مطلق جند ، إذا تكاتف وقاتل الحق فهو مهزوم ، وحينما أردف هذا الحرف بكلمة الأحزاب أراد أن يترك في أذهان المؤمنين الذين يفهمون عن الله جلا وعلا معنى ما أراد ما أشارت إليه بداية السورة الكريمة ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) .
سأترك هذه النقطة الآن ، لأبدأ من البداية عسى أن أستطيع إلقاء بعض الأضواء على جملة من القضايا التي عرضتها فواتح السورة الكريمة ، ومعذرة إذا بدا الحديث مخالفاً بعض الشيء لما ألفتموه ، فنحن في تتبعنا لسياق الدعوة في طور متقدم تقدماً طيباً للغاية ، وإذاً فما يُعرض من قضايا وما يثار من مشكلات لها طبع الجدية ولها صفة الاستمرار ، ويجب أن يكون لها مداها الواسع والعميق ، وانسجاماً مع هذا فنحن مطالبون بشيء من الأناة والنظر الدقيق في صياغة آيات الله تبارك وتعالى ، لنبدأ من البداية .
إن الله تعالى يقول ( ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) وسنسلك طريقاً نرجو أن يأخذ الإخوة جميعاً أنفسهم به على ما فيه من مشقة ، ولكنه الطريق المنتج وهو الطريق الذي يعتمد حقائق اللغة وأساليب البيان وفنون القول أساساً لفهم موحيات القرآن الكريم .(/1)
حرف ( ص ) تحدثنا عنه فيما مضى ، ويأتي بعده قسم بالقرآن ووصف للقرآن وكما قلنا عن القسم في الماضي نقول عنه تكراراً إن القسم يكون على شيء عظيم الأهمية بالنسبة للمقسم وبالنسبة لما يتناوله القسم حضّاَ ودفعاً أو ردّاً ومنعاً ، وبذلك لا يصح القسم إلا بمعظّم وإلا بذي حرمة لأن المراد من القسم هو الدفع إلى عمل عظيم وتأكيد هذا الدفع أو الكف عن أمر شائن وتأكيد هذا الكف . والقسم هنا لا شك جاء لعظيم وهو القرآن الذي حوى شرائع الإسلام وهداية الله إلى الناس جميعاً إلى آخر الزمان ، فهو قسم بعظيم ، وهو أيضاً قسم على شيء عظيم وهو حالة الإنسانية حينما تنبذ هداية الله وتعرض عن تعليمات الأنبياء ، ولكن القرآن جاء هنا منصوصاً أيضاً ، فإذا عرفنا أن القسم في أساسه وفي طبيعته لا يكون إلا بما هو معظّم وبما هو مقدس عرفنا بداهة أن المقسم به وهو هنا القرآن لا يحتاج إلى إضافة أخرى توقع في الذهن أن هذا القسم وقع بشيء عظيم ، فمجرد الإتيان بصيغة القسم تُشعر بعظمة المقسم به ، فحين تضاف إلى المقسم به صفة أخرى فهي صفة مرادة بالذات لا بالتبع ، فأية هذه التي وُصف بها القرآن الكريم ؟ إنه وُصف بأنه ( ذي الذكر ) والذكر والذكرى والتذكّر وما في بابها عملية استعادة لما كان منفياً ، فلا يجوز لنا أن نقول عن عملية التعليم المبتدأ الذي لم يسبق لأحد أن تلقّنه من قبل أنه عملية تذكير ، لأن التعليم المبتدأ تثبيت معلومات لا عهد للإنسان بها من قبل ، فيستحيل ويتناقض أن نقول إن هذه العملية عملية تذكير أو ذكرى أو تذكّر أو استذكار ولكن حينما تستجيش في نفس إنسان ما دواعي الذاكرة لشيء أسقطه من حسابه كان معلوماً له من قبل فأنت في هذه الحالة فقط تمارس عملية الذكر والتذكير والذكرى والاستذكار وما في هذا الباب . فالقرآن إذاً يُحدد هنا له وصف ما أحوجُ المسلمين إلى أن يعرفوا ، وصف يتناول بنتائج تحديده جملة السلوك الذي يسلكه الإنسان وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى سواء في الدعوة العامة التي تدور على الجدل بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة أو الدعوة العنيفة التي قد تضطرّ إليها أمة الإسلام أحياناً حينما ترفع السلاح لتبليغ رقاب الجبارين من أجل أن تناط بالضمير الإنساني أمانة هذه الرسالة الإلهية السامية .
فالقرآن موصوف بأنه ذو الذكر أي صاحب الذكر وقوله تعالى ذو الذكر يعني صائب الذكر يُشعر بمزيد اختصاص بالوصف ، فحينما تقول هذا الشيء صاحبه فلان أي أن فلاناً يختص به دون غيره من المخلوقات ، فحينما نقول إن القرآن ذو الذكر أو صاحب الذكر فذلك يعني بالضبط أنه لا توجد وسيلة وسيلة أخرى لتذكير الإنسان بما نسي إلا هذا القرآن ، وهذا يحدد سبيل الهداية وإلى أن تقوم الساعة بالقرآن وينفيها بطريق اللزوم عن ما سوى القرآن .(/2)
نعود إلى الذكر فنقول لماذا وصف الله جل وعلا هنا بأنه ذو الذكر ، ذلك لأن هذا الإنسان وإن جاءته آيات الله على ألسنة الأنبياء وفي صحائف موحى بها من عند الله تبارك وتعالى فلا جديد في أصول الإيمان ولا جديد في قواعد العقيدة يفجأ بها رسل الله وأنبياؤه هؤلاء الناس ، إن الله جل وعلا ذكر لنا أن الدين هو ما فطر الله جل وعلا الناس عليه قال ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) وبعد أن بين لنا بوضوح أن الإسلام الذي هو دين الله ودين الأنبياء جميعاً الذي ارتضاه الله لخلقه هو دين الفطرة زاد لنا المسألة إيضاحاً ألقى الأضواء على جانب من جوانب هذه الجبلة وهذه الفطرة فذكر لنا في سورة الأنعام أن الله جلا وعلا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى . ففي صميم كل إنسان في صميم الكينونة البشري الجبلة الإنسانية استعداد لهذه المعرفة التي تأتي آيات الله جل وعلا لتجلو عنها الغبار فالقرآن حينما يوصف بأنه ذو الذكر وينزل على قوم مشركين لا يزيد على أن يذكر الناس بالحقيقة الأزلية الخالدة وهي أنهم في طبعهم وفي تكوينهم وفي جبلتهم وفي أعمق أعماقهم يعرفون أن الله هو الذي خلقهم ، ولقد ذكر لهم في سور عديد من هذا القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد وإذا عضتهم النوائب وادلهمت عليهم الخطوب جأروا إلى الله بالدعاء ورفعوا أصواتهم بالنداء وقال لهم ضلّ من تدعون إلا إياه ) ولكنه أيضاً ذكر تبارك وتعالى أنه حينما يكشف عنهم الضر يعودون لما نهو عنه ، فطبيعة الإنسان مكونة من النسيان ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ) ولما كان الأمر بهذه المثابة ، الإنسان مركوز في طبعه معرفة الخالق والتسليم لمرادات الخالق والطاعة لأوامر الخالق ولما كان معروفاً أن هذا الإنسان يفتقر إلى العزيمة التي تهيئ القدرة للوقوف مع الحقيقة حتى الموت ، ولما كان الإنسان مفطوراً على النسيان كانت أوضحت ذلك كله آيات الله تبارك وتعالى كان لازماً أن يكون الوصف اللازم والمصاحب دائماً لآيات الله تبارك وتعالى ولهداياته إلى الناس أنه مذكر ، وهذا ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله جل وعلا ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) .
فحين يوصف القرآن أنه ذو الذكر أي أنه الوسيلة التي تعين الإنسان إلى النفاذ إلى ما وراء المشاغل اليومية وزحمة العوارض التي تصيب الإنسان ليستذكر النشأة الأولى والجبلة الأساسية وليستذكر حقيقة الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عن باله وهي أنه جاء إلى هذا الكون بموجد أوجده في هذا الكون ، ولن يجئ من تلقاء ذاته ولن يجئ مصادفة ولا اعتباطاً . وحين تُركَز مثل هذه القضية فينبغي أن نشير إشارة خاطفة إلى انعكاساتها على التفكير البشري وعلى السلوك البشري ، إذا كان الدين برمته عملية استذكار لما نسي الإنسان وعملية بعث للعزيمة كي يقف الإنسان المتردد الخائر مع آيات الله بكل قوة وأن يأخذ بأحسنها وهي كلها أحسن إذا كان الدين بهذا الشكل فعلى صعيد الدعوة وكما تجلى ذلك واضحاً في تأديبات الله جل وعلا للمؤمنين وفي توجيهات الرسول الله صلى عليه وسلم للأمة فإن الأخذ بأسباب اللطف والليونة والحكمة والموعظة الحسنة هو القانون الذي يجب أن لا يحيد عنه الدعاة إلى الله قيد شعرة ، لأن عدا هذا القانون فنسيان لجملة أوامر الشريعة وذكرٌ لأحط ما في نفس الإنسان من حب للذات ورغبة في الشهرة والظهور والاستعلاء ، وكل ذلك يفسد على العامل في طريق الإسلام كل عمل .
وإذاً ففي صعيد الدعوة إن هذه الكلمة المفردة التي وصف القرآن بها من أنه ذو الذكر إنما تحتم على المؤمنين التمسك بهذا الجانب بالدعوة والبعد عن رعونات الأخلاق التي تلازم كثيراً من الناس بسبب نسيانهم لهذا الحقيقة الهامة من حقائق هذا الدين . ولو أننا راجعنا وقائع السيرة ووقائع حياة الأصحاب رضوان الله عليهم جميعاً ووقائع حياة الصالحين من سلفنا المبارك رحمهم الله تعالى لوجدنا صحائف حياتهم طافحة بهذه الأنماط الرائعة من الدعوة إلى الله على هدى وبينة ولكن بمنتهى المحبة وبمنتهى الطيب وبمنتهى المعرفة بحقيقة النفس البشرية وبما يثيرها ويدفعها إلى اعتماد أساليب ردود الفعل العنيفة والضارة والتي لا تجدي المسلمين نفعاً قليلاً ولا كثيراً .(/3)
وحينما نراجع مسالكنا ومسالك الأخلاف الناسين المهملين المفرطين نجد العكس تماماً ، ففي تاريخ العلم الإسلامي تاريخ الحضارة الإسلامية وحينما يؤرخ لحركة ازدهار العلم في العصر العباسي كان يقال بصورة دائمة إن مجالس الجدل والمناظرة بين العلماء كانت تعقد في عواصم العالم الإسلامي الكبرى ، ولكن كل مجلس يعقد للجدل والمناظرة ينفض عن ظهور طوائف أخرى وأحزاب جديدة . وتتساءل لماذا ؟ لأن المسلمين أهملوا هذه الحقيقة ، ظنوا أنهم يملكون أن يصبوا أدمغة الناس في قوالب معينة ليست هي بالقطع قوالب الإسلام ولكنها قوالب تأخذ ألواناً وأشكالاً وشيات الأشخاص الذين أسبغوا ذاتيتهم على هذه النماذج وعلى هذه المناهج .
وفي مجال الدعوة العنيفة وحينما يُضطر المسلمون لخوض المعارك فالله جلا وعلا حدد الأمور بمنتهى الدقة وبمنتهى الوضوح ، إن الإسلام حين يرفع السيف للقتال فليس يطلب دماء الناس وإنما يريد أن يوفر دماء الناس ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) ومحمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله كان يقول : ما يزال الرجل في فسحة من دينه حتى يغمس يده في الدم الحرام . ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله كان يقول ما من قتيل يقتل ظلماً إلى يوم القيامة إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمه لأنه أول من سن القتل . فالإسلام بهذه النصوص القواطع وبهذه التوجيهات البينات يعلن كراهته للعنف ويعلن كراهته لسفك الدماء ، ويحدد طريقه الواضحة بأنه جاء ليحفظ على الناس حيواتهم وكراماتهم ، ولم يجئ ليهدرها بحال من الأحوال .
ولكن الناس كأفراد وكعينات تعيش في المجتمع يجدون أنفسهم وبصورة دائمة تحت قهر أنظمة تسوقهم طوعاً أو كرهاً قصداً أو تغفلاً نحو مبادئ وأهداف ومقاصد وغايات لا تمت إلى سعادة البشرية المحددة بدقة في تعليمات الله وتعليمات الرسل عليهم السلام . في هذه الحالة ما العمل ؟ أنسمح للشياطين أن تعيث في الأرض فساداً ؟ أنغمض الأعين عن الظلم يحيك بالناس ؟ يضرب أبشارهم ويستصفي أموالهم ويستهلك حياتهم ؟ أنسمح لهذه البشرية أن تذهب بعيداً في دياجير الظلام أم نحمل إليها نور إلى الله ؟ بل نحمل إليها نور الله ، وحين نحمل إليها هذا النور المبين فنحن واثقون بتعليمات ديننا وبما أقرت فينا هذه التعليمات من أن الإسلام دين الفطرة أن هذه الحقيقة الباهرة لو عُرضت على الناس عرض عقل لعقل ووجدان لوجدان وقلب لقلب بالشرائط المحددة في تعليمات الإسلام الرامية إلى فتح مغاليق القلوب ، الرامية إلى إعطاء الأمثلة العالية والنماذج العالية للدعاة الراغبين في خير الناس ، للدعاة الراغبين في تقدم الناس ، للدعاة الراغبين في إسعاد الناس فإن أي قلب لا يمكن أن يغلق في وجه هذه الحقيقة ، ولكن الطواغيت تقوم لتحول بين الناس وبين التعرف على هذه الحقيقة ، وفي القرن العشرين بل في ربعه الأخير نعيش الآن عصراً نسميه عصر النور والعلم والمدنية والإنسانية والتواصل البشري ومع ذلك فإن مما يحز في النفس قدرة هذا المخلوق على الكذب على نفسه والاحتيال على ذاته ، حتى الآن إلى يوم الناس هذا برغم الإذاعة وبرغم التلفزة وبرغم اللاسلكي وبرغم المطابع وبرغم الصحافة وبرغم الأنباء التي تصل إلى أي بقعة في الأرض في حينها بالذات ، مع هذا فنحن إلى اليوم نجد طوائف كبيرة من غير المسلمين تعتقد أن الإسلام دين وحشية وهمجية ، وأن المسلمين قوم لا همّ لهم إلا فروجهم وإلا إذلال الناس وهم متعطشون للدماء ، وأن القرآن إما أن يكون نسخة محرفة من التوراة والإنجيل أو أنه على أفضل الفروض من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا النبي دجال كبير وأفّاق أثيم ، والناس الذين يقولون هذا مقتنعون بهذا القول ، لماذا ؟ لأن طواغيت وجبابرة حالوا بيننا ـ وطبعاً أنا لا أخفف من مسؤوليتنا نحن كمسلمين عن ضرورة إيصال الحقائق إلى الناس ـ ولكن الشيء الذي يبقى بعد كل حساب أنه يحال عن عمد وإصرار من قبل طواغيت الأرض بين المسلمين وبين إيصال حقائق الإسلام إلى الناس من أجل المعرفة ، لمذا كان الأمر كذلك الآن وهو من قبل أعتى وأعنف فإن على المسلمين واجباً محدداً بصورة دقيقة هو تحطيم الأسوار التي تمنع نفاذ أشعة النور إلى الناس ، فإذا تحطمت وألقى الناس السلام ورضوا أن ينظروا إلى حقائق الإسلام وقضاياه بحرية فلهم شأنهم وهم وضمائرهم لا نملك وهذا مستحيل أن نسكب الإيمان في قلوبهم بحقنة ، ذلك أمره إلى الله ( ولو شاء ربك لآمن من في كلهم الأرض جميعاً ) .(/4)
ولكننا نملك أن نجعلهم في مواجهة الحقيقة عارية بدون تزييف وبدون تضليل ، لا تزييف من قبلنا ولا تضليل من قبل الطواغيت ، هذا العمل لا بد له من خطوة عنيفة ولكنها كما رأيتم أو كما استشفيتم على الأقل مقدرة بقدرها ، إننا نعد إلى ما قلناه من أن هذه الكلمة المفردة في وصف القرآن بأنه ذو الذكر شيء بالغ الأهمية ، لأنه فوق أنه يعطينا الوصف الأساسي والحقيقة لهذا القرآن يحدد لنا مسالكنا في الدعوة إلى الله تحديداً إنسانياً فإذا انتهى هذا جئنا إلى أمر آخر .
إن الله بعد أن قال ( ص والقرآن ذي الذكر ) قال ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) اصبروا معنا على تحليل النص واسمحوا لنا أن نطلب منكم أن تبذلوا جهوداً طيبة من أجل إتقان التعامل مع نص القرآن الكريم ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) بل حرف يسمى باللغة العربية حرف إضراب ، فأنت تقول كان كذا وكذا بل ، يعني دع عنك الذي قلناه سابقاً فإن الأمر سيكون كذا وكذا ، فكأن الله جلا وعلا بعد أن وصف القرآن مقسماً عليه بأنه ذو الذكر قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : دع هذا الآن ولا تعجب ولا تذهب في العجل بعيداً ، فإن الذين كفروا في عزة وشقاق ، ما هي العزة ؟ وما هو الشقاق ؟ وما هي موحيات التعبير وأسلوب الصياغة ؟ لاحظوا أولاً أن الله لم يصف الكافرين مباشرة بالعزة والشقاق ، لأنك تصف إنسان فتقول فلان شجاع فتكون الشجاعة وصفاً ، لكن ليس من الضروري أن يكون هذا الموصوف متصفاً بالشجاعة على طول الخط ، قد يسقط في الخور وقد ينتابه الجبن في بعض اللحظات ، وتقول فلان كريم وأنت تقول هذا على ما تعهد وتلاحظ منه ، لكن ليس هذا ضرورياً دائماً ، وأيضاً أنت حينما تصف هذا الإنسان بالشجاعة أو هذا الإنسان بالكرم فذلك لا يلغي أن يكون متصفاً بجملة أخرى من الأوصاف ، وإذاً فالوصف الذي أطلقته عليه وصف واحد من جملة أوصاف أخرى عديدة ، هذا هو مدلول الوصف الملازم المباشر ، ولكن في العربية أساليب وألوان من البيان تحمل مدلولات أخرى إن الله قال هنا ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) استعمال الحرف في المفيد للظرفية يشعر بأن الكافرين ليسوا فقط يشعرون بالعزة المصطنعة والشقاق المضر المدمر ، ولكن هم مستغرقون ، إن العزة مستولية عليهم وشاملة لهم ومتضمنة إياهم ، وإن الشقاق كذلك .
فإذاً استعمال الحرف المشعر بالظرفية يوحي باستيلاء الصفات التي وصف بها الكافرون استيلاءً كاملاً عليه . والآن لننظر ما تعني العزة وماذا يعني الشقاق وما صلة العزة والشقاق بنسيان الذي لُمّح بقوله جلا وعلا ( ذي الذكر ) لأن الناس ينسونه ، إن العزة كلمة تدل على المنعة ، وهي في الناس وصف مانع من الاستسلام للغير ، تقول فلان عزيز أي أنه في منعة ولا يغالَب ، وفي نفس السورة في قصة داود مع الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب قال ( وعزني في الخطاب ) أي غلبني وقهرني ، فالعزة كما قلنا حالة مانعة من الاستسلام للغير تدل على الاعتصام بالذات ، والعزة وردت في القرآن الكريم على ثلاثة أنماط ، وردت في معرض الذم ، وصفاً للذين يشعرون بها شعوراً ذاتياً كما في هذا المجال ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) أي أنهم برفضهم الإيمان بالله جل وعلا وشعورهم أنهم أعز من أن تطالهم قوانين الخالق عزوجل فإنما يتصفون بالمعنى المرذول من معاني العزة . ووصفت العزة بمعناها الحسن على ضربيه : العزة المطلقة والتي تُستحق ابتداء وأصلاً وهي لا تكون إلا لله ، قال الله جل وعلا ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ) أي أن الكائن الوحيد الذي يغلب ولا يُغلب ويمتنع ولا يمتنع عليه شيء ويقهر ولا يُقهر هو الله فقط . ووردت في معرض مدح المؤمنين ( من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعاً ) تلك لله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، تلك للمؤمنين .(/5)
فالفارق بين شعور المؤمن بالعزة وشعور الكافر بالعزة ، أن شعور المؤمن بالعزة ليس شعوراً ذاتياً ملازماً للإنسان ولكنه شعور تبعي ناجم عن اعتصامه بالله جل وعلا ، على عكس شعور الكافر الذي لا محصل للعزة عنده إلا نفخة الغرور والكبرياء ، وعند المحاسبة يبدو أنه إنسان ضعيف مهين لا يملك دفع الضر عن نفسه ولا تحويله ، فهذا معنى العزة . ما معنى الشقاق ؟ إن الشقاق مأخوذ من كلمة شقّ ، وكلمة شقّ معناها أفرد شيئاً عن شيء ونحّى شيئاً عن شيء ، تقول مشى فلان في شق الطريق أي مشى في ناحية منه ، والمتشاقان هما اللذان يمشي كل واحد منهما في ناحية غير الناحية التي يمشي فيها صاحبه ، ولذلك ورد في كلام العرب يقال فلان شقّ عصى الطاعة بمعنى أن العرب سابقاً كانت إذا مشت وهم أبناء الصحارى يتعرضون لما في الصحارى من مخاوف وأهوال يحملون العصي في أيديهم ، فإذا كان اثنان يتلاحقان في الطريق فعصا واحدة تكفي لذب عنهم في وجه الأخطاء ، ولكنهما هما يأخذان في طريق واحد إذا افترقا وتنازعا فإن بقية الإنسانية توجب على المفترقين المتنازعين ألا ينفرد أحدهما بالعصى ، يأخذ هذا واحدة وهذا واحدة ، من هذا يتبيّن أن محصل الكلمة لغوياً أن الشقاق هو النزاع والافتراق الذي لا لقاء معه ، فإذا عرفنا أن عزة الكفار صفة موهِمة لهم أنهم في عز وغلبة ومنعة ، على عكس قوانين الوجود وعلى عكس قوانين الحضارة البشرية وعلى عكس تجربة التاريخ الإنساني ، وإذا عرفنا أن صفة الكافرين هذا النزاع الذي لا لقاء من بعده فقد آن الآن لنا أن نتساءل لماذا ؟
لماذا يكون الكفر بذاته من حيث هو كفر عاملاً أساسياً ورئيساً بل ووحيداً للتنازع والتفرق والعظمة الكاذبة والخيلاء التي لا محصل من ورائها ؟ لنرجع إلى الوراء إلى أوائل القضايا التي كنا نطرحها عليكم في هذا المكان ، إن أول شيء بدأت به آيات الكتاب الكريم هو أن الله جل وعلا برحمته وبرأفته حدد منذ البداية داء البشرية وعلل البشرية ومعايب البشرية ، إن الأمر الذي ترتد إليه جميع المعايب والأسواء اختلال ناموسي على صعيد الحياة الإنسانية ، ماذا يعني اختلال الناموس ؟ أن الإنسان حينما يكفر ينسى أصله ينسى مبدأ خلقه ينسى عبودية ، ثم يبدأ يجاذب الله تعالى رداء الكبرياء ، هذه الخلة البغيضة من أول ما عني الإسلام بعلاجه منذ بدأت آيات الله جل وعلا تتنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبمراجعةٍ لسير الأنبياء عليهم السلام نجد أن وصف كل نبي وأن هدف كل نبي كان ينصب على إعادة التوازن المفقود إلى الحياة الإنسانية المختلة ، كان ضرورياً باستمرار أن يكون الرب رباً ، يأمر فيطاع ، وأن يكون العبد عبداً يؤمر فيطيع ، فإذا اختل هذا الميزان تولدت في الحياة الإنسانية خلائق مدمرة شديدة التدمير ، حينما واجهت التجربة الدينية حياة الناس في مجتمعهم الإنساني تجلت آثار هذه الخلائق ، في أول موقف حدثنا القرآن عنه في سورة اقرأ قال : ( أرأيت الذي ينهى ، عبداً إذا صلى ) حينما رأى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد لله راكعاً وساجداً وتالياً وداعياً ، ما الذي كان يضر أبا جهل من هذا ؟ لا شيء على الإطلاق ولكن أبا جهل كان يرى أنه عظيم قريش وفرعون هذه الأمة كان يرى أن أية خليقة أو عادة أو عرف يجب أن تأخذ منه الموافقة المسبقة عليه ، يجب أن يجيزها لكي تكون نافذة كما يعتمد الرؤساء الآن القوانين والنظم بالتوقيع عليها ، فإن أبا جهل يتصور أن أي مواطن في بيئة مكة عليه أن يستجيز أبا جهل بأي شيء جديد يريد أن يأتي به ، من أين جاءه هذا ؟ لو أنه كان مؤمناً بالله لعرف أن هذا الإنسان الذي يصلي مثله هو مخلوق لله وهذا مخلوق لله ، وإذاً فلا تمايز ولا تعالي ولا افتراء ، ولكن أبا جهل غطى كفره على هذه الحقيقة ، ظن أنه رب الناس الأعلى ونسي أنه عبد فتزحزح عن قائمة العبودية ليأخذ برداء الربوبية ويرى بنفسه حق الأمر والنهي على الناس ، ويرى من واجب الناس أن يطيعوه حينما يأمر ، ومنها كانت مقالته للرسول عليه الصلاة والسلام : لئن رأيتك تفعل هذا بعد الآن لأطأنّ على عنقك .(/6)
فهذا موقف محدد من أول السورة من سور القرآن الكريم إن العزة الكاذبة التي تصرف الإنسان عن وزن نفسه وعن إعطاء نفسه قدرها الحقيقي صفة ملازمة للكفر ، لأن الكفر ينسي الإنسان حقيقة العبودية لله وأيضاً الشقاق لماذا لا بد أن يكون الشقاق دائماً ومستحكماً بين الكافرين لاحظوا إن الشقاق نتيجة وليس سبب ، بمعنى أنه تعبير عن تطلعات نفس وعن شهوات نفس وعن إرادة نفس ، أنا وأنت ننظر في قضية واحدة حينما أرى فيها رأي محدد فأنت ترى قد ترى رأياً آخر ، حينما تكون شاعراً بذاتك غاية الشعور على درجة عالية بوتيرة غير معقولة فأنت ترى أن كل جانب من جوانب الصواب في موقفي خطأ ، ولا بد أن يكون الحق معك في الجزئيات وفي التفاصيل وفي الكليات ، ولا بد أن أكون مخطأً في الصغيرة وفي الكبيرة ، هذا يأتي من أين ؟ يأتي من رؤية النفس ، يأتي من حب الإنتصار للذات ، يأتي من الأنانية البغيضة والحسد المقيت ، ولهذا رأينا سورة صاد تختم بالحديث عن تمرد إبليس عن السجود لآدم عليه السلام ، بدافع الكبرياء والحسد ، ليحذر المؤمنون هذه الخليقة .
نحن كمسلمين ليست لدينا خيارات واسعة ومفتوحة بلا نهاية ، عندنا قرآن وعندنا سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام وعندنا كليات هذا الإسلام ، فإذاً عندنا الوسائل والمهيئات التي تسمح لنا بأن ننظر إلى الأمور نظراً موزوناً بموازين الشرع ، أي بقوانين العدل والقسط بين الناس ومع الذات . ولكن الكافرين لا يملكون هذا ، لماذا ؟ لأن رفضوا بالدينونة لله تبارك وتعالى ، فلمجرد أن ترفض دينونتك لله بمجرد أن ترفض قبول العبودية لله فأنت حينئذ سوف تُستعبد لنفسك دون ريب ، ولهذا فإن الشقاق والاختلال والتخاصم والتعالي والتقاتل من صفات الكفر الملازمة له بل المحيطة به من كل جانب . انظروا إلى معسكر الشرك والضلال .. منذ أن برأ الله الناس إلى اليوم تجدون الناس لمجرد أن يتزحزحوا عن قواعد الإيمان يدخلون فوراً في متاهات الشقاق والخلاف ، في الدولة الواحدة في الأمة الواحدة في الشعب الواحد حينما لا توضع شرائع الإسلام وقواعد الشرف وتوجيهات القرآن الكريم والتعاليم الربانية موضع التطبيق فإن الثمرة التي تُقطف من جراء ذلك نزاع وشقاق لا ينتهيان بحال من الأحوال ، تلك هي ثمرة طبيعية ومهما يكن من مظهر التحزب والاجتماع الذي يكون بين الكافرين في الأمة الواحدة والكيان الواحد وفي الأمم المتعددة والكيانات المختلفة فلعلينا كمؤمنين ومسلمين ـ وهذه هي فائدة النص هنا على هذه الخليقة ـ علينا أن لا ننسى أن الشقاق واقع وإن غطت عليه ظواهر الحال ، في معركة الأحزاب حينما استطاع أبو سفيان أن يؤلف زعماء الشرك والوثنية على رسول الله وعلى المؤمنين وهاجموا المدينة وأحاطوا بها إحاطة السور على المعصم ووقع الزلزال والخوف وضاقت الأرض على المؤمنين بما رحبت بل ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أنهم مأكولون ، في هذه اللحظات الحرجة المصيرية الحاسمة أرسل الله جل وعلا جنوده من الريح وما أشبه ذلك فزلزت معسكر المشركين ، في تلك الساعة ظهرت ظاهرتان تنتميان إلى عنصر واحد هو عنصر الشقاق المستحكم في معسكرات الشرك ، جاء رجل من المشركين إلى رسول صلى الله عليه وسلم مسلماً ، في الوقت الذي كانت مظاهر الأمور جميعاً تشير إلى أن قوة الإسلام ستمحى خلال لحظات وأن رسول الله والمؤمنين سيبادون خلال لحظات ، جاء رجل يعلن إيمانه ويعلن إسلامه فاستثمر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخذيل بين المشركين والتخذيل بين المشركين وحلفائهم من اليهود داخل المدينة ، في تلك اللحظات الحرجة أيضاً وبما أن جحافل الشرك ليست بينها روابط أبدية دائمة كالربائط القائمة بين المؤمنين والتي هي روابط في الله أي الروابط المصيرية المؤبدة بما أن هذا وصف المشركين فإن أبا سفيان نسي ما أعطى من تعاهدات للقبائل التي جاءت معه ، وحين رأى أن الجو اكفهر وأن موازين القوى بدأت تميل لغير صالحه ركب ناقته وقال : يا معشر العرب إني مرتحل فمن شاء يرتحل فاليرتحل ، لم يعقد مجلساً لأركان الحرب ولم يؤخذ رأي وجوه القبائل التي جاءت بتعاقد وتحالف لكي تفتك بالنبي والمؤمنين ، وإنما كانت مبادرة ذاتية من أبي سفيان كان من نتائجها أن الله جل وعلا نثر جنده وهزم الأحزاب وحده .(/7)
ولو أنك ذهبت تلتمس هذه الظاهرة في وقائع البشرية أبداً كسلسلة مستمرة لوجدتها ظاهرة ، وحين كان الله جل وعلا يفتتح بها سورة صاد فلم يفتتح ذلك ليعلن النصر في الإسلام ليس علماً يتلقى في الأكادميات والجامعات ولكنه دين يتحرك الناس به في الحياة ، إنما هذا بذلك فوق إظهار الناصب وفوق تعرية الساحة أن يظل أمل المسلمين في النصر قائماً ، كان يقول لهم هذا الكلام ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) والجو من حولهم لا شيء فيه مما يدعو إلى الثقة ويبعث على الأمل ، وكان يقول لهم ( جند ما هنالك مغلوب من الأحزاب ) لماذا ؟ لأن هذه الأحزاب المتحزبة مهما تبلغ من كثافتها ومهما يبلغ هيلها وهيلمانها فإنها كالهباء تطير بنفخة ، ذلك لأنها تتجمع ظاهرياً ولكن قلوبها متخالفة وهم كما وصف الله جل وعلا المنافقين ( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ) فلكي يعيد الثقة إلى نبيه عليه الصلاة واسلام والمؤمنين بعاقبة الطريق الذي هم فيه قال له ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) .
ولو أن أمتنا الكريمة حاولت أن تفيد من هذين اللفظين من هذه الآية الفاذة من أوائل سورة صاد لعلمت أنها ـ وهي ذات الأعداد الهائلة والإمكانات الباذخة والتاريخ المجيد والمستقبل الواعد ـ تملك أن تغيّر مصائر البشرية وأن تفتح للحضارة الإسلامية صفحات جديدة . إن هذا هذا الكلام قيل لمحمد عليه الصلاو والسلام ولمن آمن معه من المسلمين فوعوا هذا الكلام وعرفوا أن الكفر ضعيف وأم الكافرين هباء وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وإن هذا الكلام قيل للمؤمنين فعرفوا أن معركتهم لها شرطها المسبق وهي الإخاء ، الوحدة الجامعة للمؤمنين الذين لا تفرقهم أهواء النفوس ولا تبدد طاقاتهم الشهوات والأطماع ، وانهم حينما يخوضون المعركة على هذا الأساس فإنهم منتصرون ، وأن القوة التي تناوئهم موحدون في الظاهر مختلفون في الباطن ، فكما ألهم الله رسوله والمؤمنين في الماضي أن يفقهوا عبرة هذا الدرس أسأله تبارك وتعالى أن يعيننا على أن نفقه عبرة هذا الدرس لنسعد ونعز ونتوحد ونتفق ونكون جديرين في حمل كلمة الله إلى الناس عامة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/8)
تفسير سورتي الضحى الشرح )
19 ذي الحجة 1396 / 30 كانون الأول 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد :
نُقل بالطريق الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هبت ريح أو نشأت سحابة في السماء تلوّن وجهه الشريف وأكثر الدخول والخروج وفزع إلى الصلاة والدعاء فإذا قيل له في ذلك ، قال : ( ما يدريني لعله يكون عذاباً ، فإن قوماً قد أهلكهم الله تعالى بالريح ، وإن قوماً رأوا ناشئة السحاب فقالوا هذا عارض ممطرنا فأخذهم الله بالبلاء من ذلك السحاب ) . وإن هذا الحس العميق بين الرسول صلى الله علي وسلم وما يجري في الكون يكشف عن مدى هذا الإيمان العظيم الذي كان يعمر قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويرينا إلى أي حد كان عليه الصلاة والسلام يعرف أن هذا الكون كله بين يدي الله تبارك وتعالى ، وأنه يحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ولقد كان الله سبحانه وتعالى حينما كان يمتن على العرب الذين جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الله جل وعلا يذكرهم بنعمة الأمن ، الأمن من الخوف الذي كان يلف الناس في أرجاء الأرض جميعاً ، والذي أعاذهم منه تبارك وتعالى وكان يقول لهم ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ) وما من أحد من الناس في هذه الأيام يجهل أن كوارث الطبيعة تفتك بالناس فتكاً ذريعاً وتلتهم منهم المئات والألوف ، ومن كان أغلف القلب مصمت الجنان فلن يرى في ذلك أكثر من حوادث طبيعية تجري وفاقاً لأسبابها المعروفة . ولكن الطبيعة وأحداثها والكون وما يجري فيه آية من آيات الله لهذا الإنسان ، يلفته به إلى وجوده وعظمته وقهره واقتداره ، وفي كل يوم تقريباً تسجل المراصد على الأرض انفجارات هنا وهناك تكون من نتائجها عشرات الألوف ابتلعتهم الأرض التي تشققت ، وأضعاف هذا العدد ممن شردوا من غير مأوى وتركوا للرياح والأمطار والثلوج ، ولو أنهم ذهبوا فيمن ذهب لكان أهنأ لهم بالاً ولكنهم تركوا للشقاء الطويل .
والذي لا بد أن يلفت النظر في هذا أن هذه الأشياء والظواهر مما يخوف الله بها عباده ، فالذين اتقوا يفزعون إلى ذكر الله ويرون يد البطش الإلهي قريبة جداً من الناس ، والذين لا إيمان عندهم يفيئون إلى تفسيرات لا تغني عن الكارثة حين تقع لا قليلاً ولا كثيراً ، فاتقوا الله أيها الناس واعلموا أن الله في بعض الأحيان يأخذ الناس على تخوف ، وفي بعضها الآخر يأخذهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فاتقوا الله واسألوه أن يجيركم من العذاب وأن يجنبكم مما يحل بالأمم من حولكم .
ونحن الآن في صدد سورتين ، وأحببت أن أجمل الكلام على السورتين وهما سورة ( الضحى ) وهي الحادية عشرة وسورة ( الشرح ) وهي الثانية عشرة ، أحببت أن أجمل الحديث عنهما دفعة واحدة لاتحاد الغرض في السورتين ، ولأن بعض قدماء العلماء وقرائهم كان يعتبرهما سورة واحدة ، فإذا قرأهما في الصلاة قرأهما في ركعة دون فصل ، وإذا قرأهما لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم التي هي علامة الفصل بين السور ، فهم يرون أنهما سورة واحدة لتساوق الغرض فيهما جميعاً .
يقول الله تعالى ( والضحى ، والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللآخرة خير لك من الأولى ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى ، فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ) وتبدأ سورة الشرح ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك ، فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً ، فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب ) ولا يخطئ القارئ أن يلحظ هذا التشابه في الغرض في السورتين جميعاً ، وليس مما يدعو إلى التنبيه أن نقول إن الخطاب في السورتين كلتيهما موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكاد المفسرون القدامى يتفقون إلا في النادر على أن السورتين سيقتا لتعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليته عما ألحقه المشركون به من صنوف الأذى وأنواع المضرة ، مع أغراض أخرى سنأتي عليها . لكن نحب أن نلفت النظر إلى أمر أساسي ، إن السورتين جاءتا بعد مرحلة لا بأس بها طويلة بعض الشيء ، وجاءتا ليس فقط للتعزية ، فالقرآن دون شك ليس خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خطاب للناس عامة إلى آخر الزمان ، فأغراضه وقضاياه تخاطب الناس جميعاً ولا يصح قصر شيء منها إلا ما جاء النص قاطعاً بقصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا من جهة .(/1)