*2* باب بر الوالدين والأخ الكبير والأقارب والجار والصدقة للوالدين والدعاء لهما وإجابتهما ولو في الصلاة وتقبيل أعينهما وإعانة الولد على البر وشؤم العقوق عند النزاع.
@ في المختصر "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله" لم يوجد.
@ "ما على أحدكم إذا أراد أن يصدق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين" للطبراني ضعيف ولم يذكر مسلمين.
@ "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم" وروي "من مسيرة ألف عام" وكلاهما ضعيف.
@ "رحم الله والدا أعان ولده على بره" ضعيف أو مرسل.
@ في المقاصد "الجنة تحت أقدام الأمهات" صححه الحاكم وتعقب بالاضطراب، وفي الباب عن أنس فأنكر وعن ابن عباس وضعف، ومعناه التواضع للأم سبب دخوله.
@ "إذا ترك العبد الدعاء للوالدين فإنه ينقطع عن الولد الرزق في الدنيا" لا يصح.
@ "دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبي لأمته" قال أحمد باطل.
@ "لو أدركت والدي أو أحدهما وأنا في الصلاة صلاة العشا وقد قرأت فيها فاتحة الكتاب ينادي يا محمد لأجبته لبيك" موضوع قلت أخرجه البيهقي، وفي الوجيز هو حديث طلق عن علي رضي الله عنه وفيه يس بن معاذ يروي الموضوعات قلت قال البيهقي ضعيف.
@ "من قبل بين عيني أمه كان له ستر من النار" فيه أبو مقاتل سمرقندي لا تحل الرواية عنه: قلت قال البيهقي إسناده غير قوي: حديث "شاب حضره الموت ولم يقدر على كلمة الشهادة بسبب عق أمه فشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه فرضيت فقدر عليها" لا يصح فيه داود بن إبراهيم كذاب وفائد العطار متروك قلت أخرجه البيهقي من وجه آخر عن فائد، وقال تفرد به وليس بقوي.
@ في الذيل عن علي "لو علم الله شيئا من العقوق أدنى من أف لحرمه فليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلم يدخل النار" فيه أصرم كذاب.
@ "ما من رجل له والد ينظر إليه نظر رحمة إلا كتبت له حجة مقبولة مبرورة قالوا وإن نظر إليه في اليوم مائة مرة قال نعم الله أكبر وأطيب" فيه نهشل كذاب.
@ "العبد المطيع لوالديه ولرب العالمين في عليين" في نسخة أبي هدبة عن أنس.
@ في الوجيز عن جابر "بروا تبركم أبناؤكم ومن تنصل إليه فلم يقبل لم يرد على الحوض" فيه الكديمي وضاع: قلت له شاهد عن أبي هريرة بلفظه صححه الحاكم.
@ في اللآلئ "إن العبد ليموت أبواه أو أحدهما وأنه لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتب عند الله بارا" لا أصل له فيه ضعيف وآخر صحيح لكنه مرسل كذا قال العراقي.
@ "صلوا قراباتكم ولا تجاوروهم فإن الجوار يورث بينكم الضغائن" فيه مجهول وآخر غير محفوظ الحديث.
@ في الذيل "من ضمن لي واحدا ضمنت له أربعة يصل رحمه فيحبه أهله ويوسع عليه في رزقه ويزاد في أجله ويدخل الجنة التي وعد" من نسخة عبد الله بن أحمد الموضوعة.
@ في المختصر "حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده" ضعيف.
@ "الجيران ثلاثة جار له حق وجار له حقان" إلخ. ضعيف.
@ في الذيل "ما كان ولا يكون إلى يوم القيامة مؤمن إلا وله جار يؤذيه فإن صبر على أذاه أعطي أجرا عظيما" فيه داود بن سليمان: روى عن أهل البيت نسخة موضوعة.
@ "إذا كان يوم القيامة تعلق الجار بالجار فيقول يا رب سل هذا فيم أغلق بابه دوني ومنعني طعامه" من نسخة أبي هدبة عن أنس
*2* باب حسن المعاشرة مع الناس أن يروا لك حقا مثل حقهم بلا ثقة بكل أحد فليس الخبر كالمعاينة ولا بترك عادة ومكر وطمع ولا هجر أخيه سنة فإنه كثير به بل يحكم ويرضى إن استرضي ويغضب بضده ولا يسلك فيما اتهموه ويقل زيارتهم وكلامهم إلا بما يصلح فإن الفصاحة جمال ولا يفشي سره ولا ينجح حاجته ولا شماتة بأحد فإن النسيان طبع الإنسان وأنهم كأسنان مشط ولا يخبر بسوء الظن.
@ من قول مطرف بن عبد الله وروي عن أنس مرفوعا "من حسن ظنه بالناس كثرت ندامته".
@ وعن علي من قوله "الحزم سوء الظن" وروي أيضا مرسلا مرفوعا وكلها ضعيفة وبعضها يتقوى ببعض وقد جمعته في جزء وجمعت بينها وبين (اجتنبوا كثيرا من الظن) وبين حديث "من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه".
@ "أخبر تقله" كل طرقه ضعيفة نعم شهد له ما اتفق عليه الشيخان مرفوعا.
@ "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة" الصغاني هو موضوع وكذا "الناس كأسنان المشط".
@ في المقاصد "ليس الخبر كالمعاينة" لأحمد وجماعة بزيادة "إن موسى أخبر أن قومه قد ضلوا فلم يلق الألواح فلما رأى ما أحدثوا ألقى الألواح وقد صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وعلله البعض بالتدليس وهو لا يمنع الصحة سيما وله شاهد.
@ "النسيان طبع الإنسان" لا أعرفه بهذا اللفظ.
@ "الثقة بكل أحد عجز" لا أعرفه بهذا اللفظ وما يعرف معناه لا يصح شيئا منه مرفوعا ولكن وجد في حجر مكتوب بالعبرانية.
@ "من حفر لأخيه حفيرا أوقعه الله فيه قريبا" قال شيخنا لم أجد له أصلا.(/84)
@ "من سلك مسالك التهم اتهم" الخرايطي بلفظ "من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من أساء الظن به".
@ "من استرضي فلم يرضى فهو شيطان" ليس في المرفوع بل عن الشافعي بزيادة "ومن استغضب فلم يغضب فهو حمار" نعم ورد معناه مرفوعا.
@ "ترك العادة عداوة مستفادة" لا أصل له ولكن معناه عن الشافعي.
@ "جمال الرجل فصاحة لسانه" في سنده كذلك كذاب وضعيف.
@ "الخبر الصالح يجيء به الرجل الصالح" أحمد بن منيع عن أنس، وفي الباب عن أبي هريرة.
@ القزويني حديث المصابيح في الحذر "لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة" موضوع (1)
(1) قلت في كونه موضوعا نظر أخرجه الإمام أحمد والترمذي وغربه وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري وصححه المناوي والله أعلم أبو عبد الكبير عفا عنه ربه السميع البصير السامرودي.
@ وفي الحب لله "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" موضوع.
@ في المقاصد "المرء على دين خليله" لأبي داود والترمذي وغيرهما وتوسع ابن الجوزي فأورده في الموضوعات.
@ الصغاني "المرء كثير بأخيه" موضوع وكذا "الغنى اليأس مما في أيدي الناس" وكذا "لا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل الذي ترى له" وكذا "زر غبا تزدد حبا" وفي المقاصد فيه طلحة غير قوي، وفي بعضها قال "أين كنت أمس يا أبا هريرة قال زرت أناسا من أهلي فقال قبل هذا" الحديث يعرف بطلحة وتابعه قوم مثله في الضعف وإنما يعرف من قول عبيد بن عمير وله طرق وأسانيد عن جمع من الصحابة يتقوى به الحديث وإن قال البزار ليس فيه حديث صحيح فإنه لا ينافي ما قلنا "من كتم سره ملك أمره" ليس في المرفوع ولكن معناه عن الشافعي.
@ في الوجيز "استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود" عن معاذ بن جبل وفيه سعيد بن سالم متروك، وعن ابن عباس وفيه وضاع قلت له طريق آخر عن ابن عباس بلفظ "إن لأهل النعم حسادا فاحذروهم" وسعيد لا بأس به، وفي المختصر هو ضعيف، وفي الخلاصة موضوع عند الصغاني كذا "من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه كانت النار أولى به" وكذا "رحم الله امرأ أصلح من لسانه".
@ في الذيل عن علي "أهن من أهانك وإن كان حرا قرشيا وأكرم من أكرمك وإن كان عبدا حبشيا" فيه البورقي كذاب.
@ عن عمر "دخل صلى الله عليه وسلم غيضة ومعه صاحب له فأخذ منها سواكي أراك أحدهما مستقيم والآخر معوج فأعطى صاحبه المستقيم فقالوا يا رسول الله أنت أحق بالمستقيم فقال ليس من صاحب يصاحب صاحبا ولو ساعة من نهار إلا سأله الله يوم القيامة فأحببت أن لا أستأثر عليك بشيء" فيه أحمد بن محمد كذبوه.
@ "من أخذ من وجه أخيه شيئا كانت له حسنة فإن أراه إياه كانت له حسنات" فيه عمرو بن خالد كذاب.
@ "من هجر أخاه سنة لقي الله بخطيئة قابيل بن آدم لا يمنعه شيء دون ولوج النار" فيه السكسكي أحاديثه شبه موضوعة.
@ "من أنصف الناس من نفسه ظفر بالجنة العالية ومن كان الفقر أحب إليه من الغنى فلو اجتهد عباد الحرمين أن يدركوا ما أعطي ما أدركوا" فيه السكسكي المذكور.
@ "النظر إلى وجه الإخوان على الشوق أحب إلي من ألف ركعة تطوعا" فيه البورقي كذاب.
@ "مما يصفي لك ود أخيك المسلم أن يكون له أن يكون له في غيبته أفضلها يكون في محضره" حديث باطل.
@ "استوصوا بالكهول خيرا وارحموا الشباب" فيه عثمان كذاب يضع.
*2* باب المرض من الحمي والرمد والعمى والزكام والجذام وإصابة العين ودواؤه ومن يعاد أو لا والطب والحجامة والكحل والوصية والوراثة والتلقين ولا يتمارض ولا يحفر القبر.
@ في المقاصد "المرض ينزل جملة واحدة والبرء ينزل قليلا قليلا" باطل وفيه متهم بكذب، وقال الخطيب أنه خطأ خطأ قطعا ولا يثبت فيه بوجه من الوجوه ولا عن الصحابة بل قول عروة بن الزبير، وفي اللآلئ هو كما قال.
@ في المقاصد "لا تتمارضوا فتمرضوا ولا تحفروا قبوركم فتموتوا" قال أبو حاتم منكر واشتهر على ألسنة كثير من العامة بزيادة "فتموتوا فتدخلوا النار" ولا أصل لها أصلا.
@ "المريض أنينه تسبيح وصيامه تكبير ونفسه صدقة ونومه عبادة وتقلبه من جنب إلى جنب جهاد في سبيل الله" قال شيخنا أنه ليس بثابت.
@ في الذيل "الأمراض هدايا من الله للعبد فأحب العباد إلى الله أكثرهم هدية" فيه كذاب ومتروك.
@ من بات في شكوى ليلة لم يدع فيها بالويل وإذا أصبح حمد الله تناثرت منه الذنوب كما يتناثر ورق الشجر" من نسخة أبي هدبة عن أنس.
@ "مرض ليلة فقبلها بقبولها" إلخ. فيه عيسى بن ميمون ليس بشيء قلت هو متابع:
في الوجيز عن ثوبان "إذا أصاب أحدكم الحمى" إلخ. فيه سلمة بن رجاء قلت أخرجه أحمد والترمذي من وجه ليس فيه سلمة بسند رجاله موثوقون هو على شرط الحسن.
@ في المختصر "الحمى حظ المؤمن من النار" لجماعة حسن.
@ "حمى يوم كفارة سنة" ضعيف.
@ "الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار" فيه ابن صالح مجهول.
@ "البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل بدن ما اعتاد " لم يوجد في المقاصد.(/85)
@ "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
@ "العين الرمدة لا تمس" لأبي نعيم عن أبي سعيد بلفظ "مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل العين ودواء العين ترك مسها" وهو ضعيف.
@ وعن ابن المسيب "العين نقطة فإن مسستها رتقت وإن أمسكت عنها صفت".
@ في اللآلئ "من أذهب الله بصره في الدنيا كان حقا على الله واجبا أن لا ترى عيناه نار جهنم " تفرد به وهب بن حفص كذاب، وفي الوجيز قلت له شواهد كحديث صحيح البخاري "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته بهما الجنة" وفي الباب عن عدة من الصحابة: في اللآلئ "ذهاب البصر مغفرة للذنوب وذهاب السمع مغفرة للذنوب وما نقص من القدر فعلى قدر ذلك" منكر المتن والإسناد.
@ "لا تكرهوا أربعة فإنها لأربعة لا تكرهوا الرمد فإنه يقطع عروق العمي ولا تكرهوا الزكام فإنه يقطع عروق الجذام ولا تكرهوا السعال فإنه يقطع عروق الفالج ولا تكرهوا الدماميل فإنها تقطع البرص" موضوع فيه يحيى بن زهدم راوي الموضوعات قلت قال ابن عدي أرجو أن يحيى لا بأس به والحديث أخرجه البيهقي وضعفه.
@ "ما من أحد إلا وفي رأسه عرق الجذام ينعر فإذا هاج سلط عليه الزكام" لا يصح.
@ "مر صلى الله عليه وسلم بواد المجذومين فقال أسرعوا السير فإن كان شيء يعدي فهو هذا" لا يصح.
@ وفي الوجيز "ما من أحد إلا" إلخ. عن عائشة وفيه الكديمي يضع، وعن جرير وضعه يحيى بن محمد قلت حديث عائشة للحاكم وتعقبه الذهبي بأنه موضوع.
@ في المقاصد "العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر" تفرد بوصله شعيب وحديث "العين حق" بدون الزيادة متفق عليه وزاد مسلم "ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" وللبزار بسند حسن "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالعين" وفيه عن جماعة من الصحابة وروي مرفوعا "من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره" وروي "فليدع بالبركة" وسيأتي "إن الفاتحة وآية الكرسي وتمام ثمان آيات" ذكرها للعين.
@ "إن الله تعالى لم يجعل شفاؤكم فيما حرم عليكم" موقوف على ابن مسعود ورفعه البعض والله أعلم.
@ "الحجامة تكره أول النهار ولا يرجى نفعها حتى ينقص الهلال" روي معضلا.
@ "الحجامة في نقرة الرأس تورث النسيان فتجنبوا ذلك" فيه ابن واصل اتهمه الخطيب بالوضع وقد احتجم صلى الله عليه وسلم في يافوخه لكن احتجم معمر على هامته فذهب عقله وروي مرفوعا "الحجامة في الرأس من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس".
@ في المختصر "احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم" موقوف وفي المرفوع "إن خير ما يحتجمون فيه سبع عشرة" إلخ. دون ذكر البقية.
@ "من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان دواء" ضعيف.
@ "كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة" منكر، وفي اللآلئ هو لا يصح فيه سيف ابن أخت سفيان الثوري كذاب.
@ "نهى صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء وقال من فعل ذلك أصابه بياض فلا يلومن إلا نفسه" لا يصح وقال ابن حبان موضوع لا يحل ذكر مثله إلا على الاعتبار: قلت له متابعات وقد كره أحمد الحجامة فيهما وعن بعضهم أنه أراد الحجامة في أحدهما فتذكر الحديث فامتنع ثم ظهر له ضعفه فاحتجم فأصابه البرص فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى إليه فقال إياك والاستهانة بحديثي فقال فتبت عنده فعافاني الله وابتلي بمثله آخر فنذر لئن أذهب الله ما به من البرص لم أتهاون في حديث صحيحا أو سقيما فأذهب الله عنه البرص، وفي الوجيز "الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة مضت من الشهر دواء" كذا إلخ. عن معقل بن يسار وفيه مكذبان، وعن أنس كذلك وابن عباس وفيه هرمز متروك قلت ورد عن أبي هريرة بلفظ "من احتجم لسبع عشرة في الشهر كان له شفاء من كل داء" قال الحاكم صحيح على شرط مسلم
@ "من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه مرض فلا يلومن إلا نفسه" عن أبي هريرة وفيه إسماعيل بن أبي عياش ضعيف، وفي طريقين آخرين سليمان وابن عباس كذابان وعن أنس فيه ابن زياد لا تحل الرواية عنه قلت لأبي هريرة متابعة قوية لإسماعيل ولآخرين وقد ورد عن جماعة من الصحابة وقد كره أحمد الحجامة في أحدهما.
@ عن جابر "لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء" فيه عمرو بن موسى يضع قلت له شاهد حديث أبي بكرة في النهي "عن الحجامة يوم الثلاثاء" فيه بكار بن عبد العزيز ليس بشيء قلت استشهد به البخاري في الصحيح وقال ابن معين صالح، والحديث أخرجه أبو داود وسكت عليه فهو صالح للاحتجاج به عنده وأيضا هو متابع.
@ "في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل يحتجم فيها إلا مات" فيه يحيى بن العلاء ليس بثقة قلت هو من رجال أبي داود وابن ماجه.(/86)
@ في الذيل عن ابن عباس "أكل صلى الله عليه وسلم مرا فسألناه فقال هذا الأطريقل قلنا وما الأطريقل قال أهليلج أسود وبليلج وأملج يغلى بسمن البقر ويعجن بالعسل".
*2* باب.
@ عن أبي أمامة "الشرب من فضل وضوء المؤمن فيه شفاء من سبعين داء أدناها الهم" فيه العكاشي كذاب وواضع.
@ "من خلط دواء فنفع به الناس أعطاه الله عز وجل ما أنفق في الدنيا وأعطاه نعيما في الجنة" فيه يحيى بن البكاء مجمع على ضعفه وعبد الواحد بن زيد متروك.
@ "أبى الله أن يجعل للبلاء سلطانا على بدن عبده" فيه الملطي كذاب يضع.
@ في الوجيز أنس "من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان الشكوى وكتمان المصيبة" فيه الجارود بن يزيد ليس بشيء قلت له شواهد.
@ أبو هريرة "قال الله أبتلي عبدي بالبلاء فإن لم يشكني إلى عواده أبدلته لحما" إلخ. فيه عبد الله بن سعيد متروك قلت له طريق أخرى للحاكم صححه على شرط الشيخين وقال البيهقي إسناده صحيح وقد زعم بعض الحفاظ أن مسلما أخرجه في كتابه لكني لم أجده فيه فحديث يصححه مثل هذين الإمامين وينسب إلى مسلم يليق ذكره في الموضوعات لطرق واهية من غير استقراء طرقه ولا استحضار لكلام النقاد ثم له شواهد.
@ الحسن بن علي رضي الله عنه "إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى" فيه متروكان قلت له شاهد عن ابن عباس وأنس.
@ جابر "يود أهل العافية أن لحومهم قطعت" إلخ. فيه عبد الرحمن بن عبد المعري ليس بشيء قلت أخرجه من طريقه الترمذي والبيهقي وغيرهما وقال الذهبي ما به بأس، وقال ابن عدي هو من ضعفاء يكتب حديثهم بل قيل ثقة وله شاهد عن أنس بل له سند أصلح من حديث أنس وروي عن ابن مسعود موقوفا بسند جيد ومثل هذا الوقف له حكم الرفع.
@ أبو هريرة "لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث أيام" فيه روح بن غطيف متروك قلت له شواهد.
@ أبو أمامة "إن من تمام العيادة أن تضع يدك على المريض" إلخ. فيه ثلاثة ليسوا بشيء قلت له طريق آخر وشواهد.
@ أبو هريرة "ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد وصاحب الضرس وصاحب الدمل" تفرد به مسلم بن علي قلت لم يتهم بكذب فالحديث ضعيف لا موضوع، وفي المقاصد ضعفه البيهقي وجعله من قول يحيى بن أبي كثير قال وهو الصحيح إذ رمدت عين زيد بن أرقم فعاده النبي صلى الله عليه وسلم. عيادة المريض بعد ثلاث له طرق ضعاف يتقوى بعضها ببعض ولهذا أخذ بمضمونها جماعة وعن ابن عباس "عيادة أول يوم سنة فما كان بعده فتطوع" ويحتمل أن مراده أول مرة.
@ "لا تعد من لا يعودك" في حديث طويل بسند ضعيف ويستأنس له بحديث "لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له" وروي في الضعف "عد من لا يعودك" وجمع بينهما والنهي لتأديب لا للمكافأة.
@ "من روى ميراثا عن وارثه روى الله عنه ميراثه من الجنة" لا يصح.
@ في الذيل "رأيت في المنام امرأتين واحدة تتكلم والأخرى لا تتكلم كلتاهما من أهل الجنة قلت أنت تتكلمين وهذه لا تتكلم فقالت أما أنا فأوصيت وهذه ماتت بلا وصية لا تتكلم إلى يوم القيامة" من نسخة أبي هدبة عن أنس.
@ في الوجيز "من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته" فيه يعقوب بن محمد ليس بشيء قلت تبعه إسحاق بن راهويه ووثقه الأكثر وله طريق آخر عند ابن ماجه، وفي اللآلئ لا يصح :قلت تبعه إسحاق وناهيك بجلالته وأخرجه وله شاهد عن ابن مسعود بلفظ "إن الرجل المسلم ليضع في ثلاثة عند موته خيرا فوفى الله بذلك زكاته".
@ "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله ولقنوهم عند الموت لا إله إلا الله فإن من كان أول كلامه لا إله إلا الله وآخر كلامه لا إله إلا الله ثم عاش ألف سنة لا يسأل عن ذنب واحد" موضوع فيه مجهولان ومضعف قلت أخرجه البيهقي وغربه.
@ في الوجيز وعن معاذ أنه كان صلى الله عليه وسلم يورث المسلم من الكافر" إلخ. وفيه "الإسلام يزيد وينقص" فيه محمد بن المهاجر كان يضع قلت أخرجه أبو داود من طريقين أخريين عن معاذ وكذا الحاكم وصححه وأقره الذهبي.
@ "أن فاطمة خرجت حتى دخلت على أبي بكر فكلمته في الميراث" أورده بلا إسناد وقال أن باطل قلت هذا عجب فقد وردت القصة بأسانيد صحيحة عن عائشة وأبي الطفيل وأبي هريرة.
@ ابن عباس "الخنثى يرث من مباله [لعله: عياله]" فيه كذابان قلت أحدهما متابع وله شاهد عن علي موقوفا.
*2* باب حرز آخر جمعة من رمضان وحرز أبي دجانة ورقية العقرب.
@ في المختصر "أنه صلى الله عليه وسلم تداوى غير مرة من العقرب وغيرها" للطبراني بلفظ "لدغته عقرب فغشي عليه فرقاه الناس".(/87)
@ في اللآلئ "من قال حين يمسي صلى الله على نوح وعليه السلام لم تلدغه العقرب تلك الليلة" لا يصح، وفي الوجيز فيه متروكان قلت وثقهما البعض وهما من رجال السنن وله شاهد موقوف عن خالد "قالت العقرب لنوح يا نبي الله احملني معك قال لا أنت تلدغين قال احملن ي في الفلك ولله علي أن لا ألدغ من يصلي عليك الليلة" وللترمذي محسنا مرفوعا "إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود لا تؤذينا".
@ حديث حرز أبي دجانة فيه مجاهيل قلت أخرجه البيهقي في الدلائل.
@ الصغاني "حرز أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة" موضوع.
@ وفي اللآلئ عن موسى الأنصاري "شكى أبو دجانة الأنصاري فقال يا رسول الله بينا أنا البارحة نائم إذ فتحت عيني فإذا عند رأسي شيطان فجعل يعلو ويطول فضربت بيدي إليه فإذا جلده كجلد القنفذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلك يؤذى يا أبا دجانة عامرك عامر سوء ورب الكعبة ادع لي علي بن أبي طالب فدعاه فقال يا أبا الحسن اكتب لأبي دجانة كتابا لا شيء يؤذيه من بعده فقال وما أكتب قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي العربي الأمي التهامي الأبطحي المكي المدني القرشي الهاشمي صاحب التاج والهراوة والقضيب والناقة والقرآن والقبلة صاحب قول لا إله إلا الله إلى من طرق الدار من الزوار والعمار إلا طارقا يطرق بخير أما بعد فإن لنا ولكم في الحق سعة فإن يكن عاشقا مولعا أو مؤذيا مقتحما أو فاجرا يجهر أو مدعيا محقا أو مبطلا فهذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق ورسلنا لدينا يكتبون ما تمكرون اتركوا حملة القرآن وانطلقوا إلى عبدة الأوثان إلى من اتخذ مع الله إلها آخر لا إله إلا هو رب العرش العظيم يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ثم طوى الكتاب فقال ضعه عند رأسك فوضعه فإذا هم ينادون النار النار احرقتنا بالنار والله ما أردناك ولا طلبنا أذاك ولكن زائر زارنا وطرق فارفع عنا الكتاب فقال والذي نفس محمد بيده لا أرفعه عنكم حتى استأذنه صلى الله عليه وسلم فلما أصبح أخبره صلى الله عليه وسلم فقال ارفع عنهم فإن عادوا بالسيئة فعد إليهم بالعذاب فوالذي نفس محمد بيده ما دخلت هذه الأسماء دارا ولا موضعا ولا منزلا إلا هرب إبليس وجنوده وذريته والغاوون" موضوع وإسناده مقطوع وأكثر رجاله مجهولون وليس في الصحابة من يسمى بموسى أصلا.
@ في المقاصد "لا آلاء إلا آلاؤك يا الله إنك سميع عليم محيط به علمك كعسهلون وبالحق أنزلناه وبالحق نزل" هذه ألفاظ اشتهرت، ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وبجملة بلدان، أنها حفيظة رمضان تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات وتكتب في آخر جمعة منه فجمهورهم والخطيب يخطب على المنبر وبعضهم بعد صلاة العصر وهي بدعة لا أصل لها وإن وقعت في كلام غير واحد من الأكابر لي أشعر كلام بعضهم ورودها في حديث ضعيف وكان شيخنا ينكرها جدا وهو قائم على المنبر في أثناء الخطبة.
*2* باب الموت وفضل ذكره وتردده تعالى في قبض الروح وقول إبراهيم هل يميت خليله وشدته وكونه واعظا وعلامة السعادة عن عند الموت ومجيء ملك الموت عند وصاله عليه السلام وقوله من لأمتي وتعزيته من الخضر وأن الموت قيامة وكفارة وشهادة سيما للغريب وأن الموت والتلقين وتلقي الأرواح للميت وأن فجاءته نعمة أو نقمة وجواب عمر في القبر وعرض الأعمال على الأرواح وتسبيحة القبر وتطيين القبر ومكان صغار الأموات والزيارة وزيارته عليه السلام وغسل فاطمة ولبس كفنها قبل وفاتها وموت البهائم بعد الذكر وإذا قدر موت بأرض يلجأ إليها وفضل صلاة الجنازة وكفنها وغسلها وحفر القبر.
@ في المختصر "قيل يا رسول الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم فقال نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة" لم يوجد مسندا.
@ "ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولكن لا بد له من الموت" للبخاري ولكن انفرد به خالد وهو متكلم فيه.
@ "إن ملك الموت وملك الحياة تناظرا فقال ملك الموت أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة أنا أحيي الأموات فأوحى الله إليهما كونا على عملكما وما سخرتما من الصنع وأنا المميت والمحيي لا مميت ولا محيي سواي" لم يوجد.
@ "إن إبراهيم قال لملك الموت لما جاء لقبض روحه هل رأيت محبا كره لقاء حبيبه فقال يا ملك الموت فالآن فاقبض روحي" لم يوجد.
@ "كفى بالموت واعظا" ضعيف وهو مشهور من قول الفضيل بن عياض.
@ "ذكر الموت وغصته وألمه فقال هو قدر ثلاثمائة ضربة بالسيف" مرسل ورجاله ثقات.
@ "لو أن قطرة من ألم الموت وضعت على جبال الأرض كلها لذابت" لم يوجد.
@ "إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة" فيه ضعيف جدا، وفي الذيل هو من نسخة أبي هدبة.(/88)
@ عن أنس "إن لملك الموت حربة مسمومة طرف لها بالمشرق وطرف لها بالمغرب يقطع به عروق الحياة وإن معالجته أشد من ألف ضربة سيف" إلخ. منكر.
@ وفي اللآلئ "لمعالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف" لا يصح فيه متروك وواضع وإنما يروى عن الحسن قلت له شواهد، وفي الوجيز فيه محمد بن القاسم يضع قلت ورد مرسلا عن عطاء بن يسار بسند جيد وله شواهد من مرسل الحسن والضحاك وعن علي رضي الله عنه موقوف.
@ في الذيل "إن ملك الموت لينظر في وجوه العباد كل يوم سبعين نظرة فإذا ضحك العبد بعث إليه يقول عجبا بعثت إليه لأقبض روحه وهو يضحك" من نسخة أبي هدبة وكذا "بين العبد والجنة سبع عقبات أهونها الموت قلت فما أصعبها قال الوقوف بين يدي الله إذا تعلق المظلومين بالظالمين".
@ "تعسير نزع الصبي تمحيص للوالدين" فيه أبو مقاتل كذاب.
@ "يترك الغريق يوما وليلة ويدفن" فيه سلم متروك وجبارة ضعيف.
@ "اثنتان لا تموتان الأنفحة والبيض" قال العقيلي موضوع.
@ "ما مات أحد إلا يجنب فلذلك يغسل لأنه لا تنزع روح أحد إلا خرج ماؤه الشهيد وغيره في هذا سواء" فيه نهشل كذاب.
@ وفي المختصر "لن يخرج من الدنيا حتى يعلم أين مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار" لابن أبي الدنيا والشيخين وله شاهد.
@ "ارقبوا الميت عند ثلاث إذا رشح جبينه وزرفت عيناه ويبست شفتاه فهي من رحمة الله فقد نزلت به وإذا غط غطيط المخنوق واحمر لونه وأربدت شفتاه فهو من عذاب الله فقد نزل به وأما انطلاق لسانه بكلمتي الشهادة فهو علامة الخير" ضعيف.
@ حديث "مجيء ملك الموت في أحسن صورة عند وفاته عليه السلام واستئذانه في قبضه وقوله أين خلفت جبريل قال خلفته في سماء الدنيا فأتاه جبريل وقعد عند رأسه" وهو حديث طويل في ثلاث أوراق وهو منكر.
@ حديث قوله لجبريل عند وصاله "من لأمتي وجوابه بشر يا حبيب الله قال الله تعالى حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك" وقوله "الآن طابت نفسي" ضعيف.
@ في الذيل "أغمي على النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فقال السلام عليك ادخل فقال من حوله صلى الله عليه وسلم إن كنت من المهاجرين أو من الأنصار فارجع فإنه صلى الله عليه وسلم عنك مشغول فرفع رأسه فقال من تطردون؟ تطردون داعي ربي عز وجل ادخل يا ملك الموت" إلخ. بطوله في قبضه فيه أصرم كذاب.
@ في المختصر حديث "سماع التعزية من رجل فقال أبو بكر هذا الخضر واليسع" لم يوجد ذكر اليسع، وأما الخضر فأنكره النووي ذكره في كتب الحديث لكن روى الطبراني بسند ضعيف فيه ذكر الخضر وذكره ابن أبي الدنيا والله أعلم.
@ "من مات فقد قامت قيامته" لابن أبي الدنيا ضعيف وهو من قول الفضيل بن عياض، وفي المقاصد هو للديلمي عن أنس رفعه.
@ حديث "تلقين الميت بعد الدفن" ضعفه ابن الصلاح ثم النووي وابن القاسم والعراقي وشيخنا في بعض تصانيفه وآخرون وقواه الضياء ثم شيخنا بما له في الشواهد ونسب أحمد العمل به لأهل الشام وابن العربي لأهل المدينة.
@ في المختصر حديث سعيد عن أبي أمامة في تلقين الميت الطبراني ضعيف.
@ "نفس المؤمن إذا قبضت تلقاها أهل الرحمة من عند الله كما يتلقى البشير في الدنيا يقولون انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد فيسألونه ماذا فعل فلان وماذا فعلت فلانة وهل تزوجت فلانة فإذا سألوه عن رجل مات قبله فقال مات قبلي قالوا إنا لله ذهب به إلى الهاوية" لجماعة حسن.
@ "الموت كفارة لكل مسلم" صححه وحسنه جماعة وضعفه ابن الجوزي، وفي المقاصد صححه ابن العربي، وقال العراقي ورد من طرق يبلغ بها رتبة الحسن ولم يصب ابن الجوزي في ذكره في الموضوع وتبعه الصغاني وحكم بالوضع قال شيخنا لا يتهيأ الحكم بوضعه مع هذه الطرق قال وهو مقيد بموت مخصوص إن ثبت الحديث، وفي اللآلئ لا يصح هو: قلت قد أنكره على المصنف توهين الحديث فقد صححه ابن العربي والحق إلحاقه برتبة الحسن ويفهم من بعض طرقه أن المراد بالموت الطاعون فقد كان يطلق على الطاعون في الصدر الأول.
@ "من مات مريضا فقد مات شهيدا أو وقي فتان القبر" إلخ. لا يصح قال احمد إن من مات مرابطا: قلت له طريق أخرى وشاهد غريب بلفظ "من مات مريضا أو غريبا مات شهيدا"، وفي الوجيز هو حديث أبي هريرة وفيه إبراهيم بن محمد متروك قلت وثقه الشافعي والحق أنه ليس بموضوع بل مضعف من مات مرابطا.
@ ابن عباس "موت الغربة شهادة" فيه متروكان وروي عن جابر وفيه مكذب قلت روي عن أبي هريرة بوجه أضعف بلفظ "من مات غريبا مات شهيدا" في المقاصد روي مرفوعا وله شواهد.
@ "أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالعين" رجاله ثقات.
@ "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز" صححه ابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن غريب وروي من وجوه أخر.
@ "موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر" رفعه أحمد مسند صحيح.(/89)
@ "ما المقبور في قبره إلا كالغريق المبهوت ينتظر دعوة تلحقه من أبيه أو أخيه أو صديق له فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها وأن هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار" ضعيف.
@ "كلام القبر للميت أنا بيت الفتنة والظلمة والوحدة" إلخ. ضعيف.
@ حديث "جواب عمر رضي الله عنه تعالى في قبره بقوله أو مثلي يسأل عن ربي وربوبيته أني لا أدعكما أو تقولان من ربكما" مرسل صحيح.
@ "لا تفضحوا موتاكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أولياؤكم من أهل القبور" ضعيف، وفي المقاصد سنده ضعيف.
@ "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" للطبراني والترمذي وسند كل منهما ضعيف.
@ في الذيل "إن متبعي الجنازة قد وكل بهم ملك فهم مهمومون محزونون حتى يسلم في ذلك القبر فإذا رجعوا أخذ كفا من تراب فرماه خلفهم ويقول ارجعوا لنسائكم لله ميتكم" من نسخة أبي هدبة عن أنس.
@ في الوجيز أبو الدرداء "من شيع جنازة فربع حط الله عنه أربعين كبيرة" فيه كذابان قلت له شاهدان: عن أنس.
@ في اللآلئ عن أنس "عيادة مريض أحب إلي من عبادة أربعين" أو "خمسين سنة" قلنا زدنا قال أخبراني أبو الدرداء مرفوعا "من شيع جنازة فربع حط الله عنه أربعين كبيرة" لا أصل له قلت للأخير شاهد بلفظ "من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة" لكن فيه علي بن يسارة ضعيف.
@ "إن أول ما يجازى به العبد المؤمن أن يغفر لجميع من تبع جنازته" لا يصح قلت له طرق شاهدة والله أعلم، وفي الوجيز أورده عن ابن عباس وأبي هريرة وجابر وأعل الكل: قلت أخرجه البيهقي وله طرق أخرى وشواهد.
@ في اللآلئ "شيع صلى الله عليه وسلم جنازة فلما صلى عليها دعا بثوب فبسطه على القبر وهو يقول لا تطلعوا في القبر فإنها أمانة فلعل أو عسى تحل العقد فيتجلى له وجه أسود ولعله يحل العقد فيرى في قبره حية سوداء مطوية في عنقه فإنها أمانة وعسى أن يقلبه فيعود إليه دخان من تحته فإنها أمانة" موضوع.
@ "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك" لا يصح قلت له طرق وشاهد لا يخلو عن شيء الصغاني هو موضوع، وفي الوجيز هو حديث وائلة بن الأسقع وفيه عمرو بن إسماعيل كذاب: قلت أخرجه الترمذي والبيهقي من طريقه وتابعه أمية بن القاسم عن حفص بن غياث وقال الترمذي حسن غريب وله شاهد عن عمر قوله: القزويني هو حديث المصابيح في حفظ اللسان بلفظ "فيعافيه الله" وهو موضوع، وكذا حديثه "من عزى مصابا فله مثل أجره" خلاصة موضوع: عند الصغاني ، وفي الوجيز تفرد به علي بن عاصم بن محمد بن سوقة وقد كذب قلت أخرجه الترمذي وابن ماجه بهذا الطريق وقال الترمذي أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم بهذا الحديث وقد صدق صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في منام البعض وله شواهد منها عن عمرو بن حزم "ما من مؤمن يعزي أخاه في مصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة" حسنه الترمذي وفي اللآلئ هو بلفظ "كان له مثل أجره" لا يصح قلت له شواهد وطرق وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له في الرؤيا.
@ حديث كتابة التعزية إلى معاذ بن جبل لموت ابنه لا يصح وإنما موته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه بعض الصحابة تلك الكتابة.
@ "دفن البنات من المكرمات" لا يصح.
@ لما عزي صلى الله عليه وسلم بابنته رقية قال "الحمد لله دفن البنات من المكرمات" فيه ضعاف وشيخنا يحلف بالله عز وجل ما قال صلى الله عليه وسلم من هذا شيئا قط.
@ "للمرأة ستران القبر والزوج فأيهما أفضل قال القبر" موضوع قلت له شاهد.
@ الصغاني "دفن البنات" إلخ. موضوع وفي الوجيز هو عن ابن عباس وفيه عراك بن خالد مضطرب الحديث عن عثمان بن عطاء عن أبيه وهما ضعيفان وتابعه محمد بن عبد الرحمن عن عطاء وهو ضعيف وعن ابن عمر وفيه حميد يحدث بالمناكير قلت ليس في شيء مما ذكره ما يقتضي الوضع ورجاله مختلف فيهم وإن سلم فلا إلى حد الوضع.
@ وفي المقاصد "قال "بعد التحميد حين عزي بابنته رقية" فيه إرسال ومتروك وصله ضعيف وروي "نعم الصهر القبر" فقال بعض العلماء أنه لم يظفر به بعد التفتيش.
@ وفي الفردوس بلا سند مرفوعا "نعم الكف القبر للجارية" وللطبراني مرفوعا "للمرأة ستران" إلخ. وهو ضعيف جدا ومثله ما روي مرفوعا "للنساء عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزوج عورة فإذا ماتت ستر القبر تسع عورات".
@ "أولاد المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة" صححه الحاكم وغيره على شرطهما لكن وقفه آخرون على الثوري وقيل أنه أشبه وأصله في البخاري في المعراج.
@ "إذا قضى الله لعبده أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" حسن غريب.(/90)
@ "ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء" فيه سليمان بن عيسى وهو متروك بل متهم بالكذب والوضع ولكن لم يزل عمل السلف والخلف عليه وما يروى "أن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله" لا ينافيه وهذا المروي مع أنه موقوف على سلمان الفارسي منقطع، وفي الوجيز هو حديث أبي هريرة فيه سليمان بن عيسى كذاب وتابعه داود بن الحصين متهم بالوضع قلت ورد أيضا عن علي وابن عباس وابن مسعود، وفي اللآلئ "ادفنوا" إلخ. لا يصح قال ابن حبان باطل لا أصل له قلت له شاهد والله أعلم.
@ "حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتزاورون في قبورهم" وروي "فإنهم يبعثون في أكفانهم" لا يصح قلت بل هو حسن صحيح له طرق كثيرة وشواهد.
@ حديث "غسل فاطمة رضي الله عنها ولبس كفنها قبل وفاتها واكتفاء علي بذلك بعدها" لا يصح قلت نعم هو مخالف لما روي أن عليا وأسماء غسلاها إلا أن الحكم بوضعه غير مسلم وأما جواز الغسل قبل الموت فلعله خصها أبوها صلى الله عليه وسلم به والله أعلم، وفي الوجيز روته أم سلمة وفيه من ليس بشيء وشيعيان قلت لا مدخل للثلاثة فيه فإن أحمد وابنه أخرجاه بسند رجاله ثقات إلا ابن إسحاق والأئمة قبل حديثه وأكثر ما عيب عليه التدليس ويعضد ما يروى مرسلا عن ابن عقيل وقد روي أن عليا وأسماء بنت عميس غسلاها إلا أن الحكم بالوضع غير مسلم.
@ "من غسل ميتا فستر عليه غفر له أربعين مرة ومن كفن ميتا كساه الله من سندس وإستبرق ومن حفر لميت قبرا كان كمن أسكن بيتا إلى يوم القيامة" تفرد به يوسف بن عطية وليس بشيء قلت صححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي.
@ "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم" عن أنس وفيه كذاب، وعن أبي هريرة وفيه من ليس بشيء قلت أصله ثابت من طرق أخرى وصدره في صحيح مسلم.
@ "حديث حذيفة في ضغطة القبر فيه محمد بن جابر ليس بشيء قال ابن حجر مجرد هذا لا يقتضي الوضع فإن له شواهد كثيرة لا يتسع الحال لاستيعابها قلت استوعبتها في كتابنا عن عائشة وأبي أيوب وأنس وغيرهم.
@ "حديث أنس "توفيت زينب" إلخ. في ضغطها مضطرب: قلت من قسم الضعيف لا الموضوع، قال الحقير وقد مر حديث ضغطة سعد في فضل الصحبة.
@ أبو بكر "من زار قبر أبويه أو أحدهما كل جمعة غفر له وكتب بارا" وفيه عبد الكريم بن أبي أمية ضعيف.
@ وفي اللآلئ "من زار قبر والديه" إلخ. باطل بهذا الإسناد قلت له شاهد برواية الضعفاء بلفظ "من زار قبر أبويه أو أحدهما" إلخ.، وفي المختصر شاهده معضل.
@ في اللآلئ "من زار قبر أبيه أو أمه أو عمته أو خالته أو أحد أقربائه كتب له حجة مبرورة ومن كان زائرا لهم حتى يموت زارت الملائكة قبره" لا أصل له.
@ "لا يزال الميت يسمع ما لم يطين قبره" موضوع.
@ في الذيل "من مر بالمقابر فقرأ الإخلاص إحدى وعشرين مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات" من نسخة عبد الله بن أحمد الموضوعة.
@ في اللآلئ "آجال البهائم كلها من القمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها والبقر وغير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها وليس إلى ملك الموت من ذلك شيء" موضوع، وفي الوجيز فيه الوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي ما ليس من حديثه لأنه كان يدلس التسوية فيسقط شيوخ الأوزاعي الضعفاء وإلا فهو ثقة من رجال الصحيحين، وقد ورد عن ابن عمر.
*2* باب في بعض قبور الأنبياء والأولياء.
@ في المختصر "قبر إسماعيل في الحجر" سنده ضعيف: في المقاصد ومما هو كذب باطل ما يذكر "بجبل لبنان من البقاع أنه قبر نوح عليه السلام إنما حدث في أثناء المائة السابعة" والمشهد الذي ينسب لأبي بن كعب بالجانب الشرقي من دمشق من اتفاق العلماء أنه لم يقدمها فضلا عن دفنه فيها، والمكان المنسوب لابن عمر من الجبل الذي بالمعلى لا يصح من وجه وإن اتفقوا على أنه توفي بمكة والمكان المعروف بالمشهد الحسيني من القاهرة ليس الحسين رضي الله عنه مدفونا به بالاتفاق وإنما فيه رأسه فيما ذكر بعض المصريين ونفاه بعضهم قال شيخنا والمكان المعروف بالسيدة نفيسة ابنة الحسين بن زيد فقد قال بعض أهل المعرفة أن خصوص هذا المحل الذي يزار ليس هو قبرها ولكنها في تلك البقعة بالاتفاق والمكان المعروف لعقبة بن عامر من قرافة مصر إنما هو بمنام رآه البعض بعد مدة طويلة متطاولة قلت وقد مر "إن لله ملائكة تنقل الأموات".
*2* باب الحوادث السماوية من الكسوف والمجرة والأهلة وغرة رمضان.
@ الصغاني في الحديث الطويل في كسوف القمر في كل شهر موضوع.
@ في اللآلئ هو كما قال "المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش" منكر قلت له شاهد.
@ حديث "إن العرش لمطوية بحية إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين" ابن حبان لا أصل له.(/91)
@ "ما من عبد رأى الهلال فحمد الله وأثنى عليه وقرأ الحمد سبع مرات إلا أعفاه الله من وجع العين ذلك الشهر" لا يصح فيه واضع.
@ "لا يتم شهران ستين يوما" موضوع قلت له شاهد وطريق أخرى.
@ "نحركم يوم صومكم" عن أحمد قال هو ما يدور في الأسواق بلا أصل قال العراقي هو كما قال.
@ "لا تقولوا قوس قزح فإن قزح هو الشيطان ولكن قولوا قوس الله وهو أمان لأهل الأرض" لأبي نعيم والديلمي عن ابن عباس رفعه.
@ في الذيل "يكثر الضحك في موضعين عند رؤية الهلال وعند رؤية القرد" لا يصح.
@ في الوجيز ابن عباس "أمان أهل الأرض من الغرق القوس وأمان أهل الأرض من الاختلاف الموالاة لقريش فإذا خالفتها قبيلة صاروا حزب إبليس" أعله بجماعة قلت متابعون ولصدره شاهد.
@ ابن عباس "لا تقولوا قوس قزح" إلخ. أعله بزكريا بن حكيم ضعفه أحمد وغيره قلت لكن ذكره ابن حبان في الثقات، وقد احتج النووي بهذا الحديث على كراهة أن يقال "قوس قزح وحديث المجرة أورده عن معاذ وجابر وأعلهما قلت أكثر ما حكم عليه الذهبي أن متنه ليس بصحيح وهذا صادق بضعفه وله شاهد.
*2* باب آخر الزمان وفتنه والعزلة وعلامة الساعة وأنه عليه السلام لا يؤلف والمهدي ومعنى فضله على الشيخين وأنه عيسى عليه السلام والملاحم.
@ في الذيل ما يقول العوام "أنه صلى الله عليه وسلم لا يبقى بعد وفاته للقيامة ألف سنة" قال النووي لا أصل له.
@ "من علامة الساعة انتفاخ الأهلة "بالجيم أي ارتفاعها وبالخاء واضح.
@ وللبخاري في التاريخ والطبراني "من أشراط الساعة أن يروا الهلال فيقولون ابن ليلتين وهو ابن ليلة ".
@ "لا تكره الفتنة في آخر الزمان فإنها تبير" أي تهلك المنافقين للديلمي عن علي رفعه لكن سبقت الاستعاذة من الفتن، ولذا قال ابن بطال وشيخنا أنه مردود باطل.
@ وفي الذيل "لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين" قال ابن تيمية موضوع وكذا حديث "إذا كثرت الفتن فعليكم بأطراف البرد" وهو كما قال.
@ القزويني "قوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير" موضوع وكذا "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة" موضوع.
@ وفي اللآلئ قال البغوي المتهم به عبد الكريم قلت قال ابن حجر هو ثقة وقد أخرج الحديث أحمد وأبو داود وجماعة.
@ "عند رأس مائة سنة يبعث الله ريحا باردة طيبة يقبض فيها روح كل مؤمن" باطل يكذبه الوجود قلت بل هو صحيح روي بطرق صحاح وهذه المائة قرب الساعة والمؤلف ظن أنها المائة الأولى من الهجرة، وفي الوجيز قال ابن عدي فيه بعض الضعف هذا والحديث أخرجه الحاكم وصححه وأقره الذهبي وله شواهد منها للحاكم مصححا عن عائشة رفعته "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقالت عائشة يا رسول الله أني كنت أظن حين أنزل الله ليظهره على الدين كله أن ذلك سيكون تاما فقال إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ريحا طيبة فتتوفى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل خير فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم" ومنها عن ابن عباس وعبد الله بن عمر.
@ في الذيل "ليأتين على الناس زمان ينافق بعضهم بعضا لا يسلم إلا من كان حلس [لعله: جلس] بيته" فيه النقاش متهم.
@ عن أبي الدرداء "من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله عز وجل شهيدا" فيه مجاشع يضع.
@ في اللآلئ "لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة" قال أحمد ليس بصحيح كيف وكثير من الأئمة ولد بعده.
@ "ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة" موضوع قلت له طرق وفسر الزينة في بعض الطرق بالرجال وبنور الإسلام وبهجته.
@ "إذا أتت على أمتي ثلاثمائة وثمانون سنة فقد حلت لها العزوبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال" موضوع قلت له طريق آخر.
@ "يكون في آخر الزمان خليفة لا يفضل عليه أبو بكر ولا عمر" موضوع فيه ضعيف وكذاب قلت هما بريئان فقد ورد بسند صحيح وقد تكلمت عليه وعلى تأويله في كتابنا في المهدي.
@ في الوجيز ابن مسعود "إذا أقبلت الرايات السود من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي" فيه عمر بن قيس لا شيء ولم يسمع من الحسن ولا سمع الحسن من عبيدة قلت قال ابن حجر لم يصب ابن الجوزي فقد أخرجه أحمد عن ثوبان وأبي هريرة وليس في إسناديهما متهم بالكذب.
@ الصغاني "لا مهدي إلا عيسى بن مريم" موضوع وكذا خراب البلدان المسماة كل بلدة بآفة" موضوع.
@ في الإتقان قال أحمد ثلاثة كتب ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير وهذا محمول على كتب مخصوصة فأما كتب الملاحم فجميعها كذلك وليس يصحح في الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث والله أعلم.(/92)
*2* باب أمور القيامة وعمر الدنيا من الصور وطولها على المؤمن والحشر باسم الأم وعمر الذباب وأنها في النار كالشمس والقمر في النار وأن نورها المؤمن وأن المؤمن يطفئ لهب النار وخصومة الروح والجسد وآخر من يخرج من النار وأنها مغسولة في الدنيا وأن في الجنة لسوق الصور والمغنية وتوالد أهل الجنة وطيران طائفة إلى الجنة بلا حساب والرؤية وغير ذلك.
@ في اللآلئ "عمر الدنيا سبعة أيام من أيام الآخرة قال الله تعالى (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) " موضوع قلت له شواهد ولو بأسانيد ضعاف وروي عن ابن عباس بطرق صحاح أنه قال "الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة وبعث صلى الله عليه وسلم في آخرها"، وفي المختصر "حين بعث إلى بعث إلى صاحب الصور فأهوى إلى فيه" إلخ. لم يوجد هكذا بل ورد أنه من حين ابتدئ الخلق كذلك سئل عن "طول يوم القيامة فقال والذي نفسي بيده ليخفن على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا بجماعة" بسند جيد.
@ في المقاصد "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده" له طرق كلها ضعاف وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ويعارضه ما روي بسند جيد "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم" بل وفي البخاري "فيقال هذه عذرة فلان بن فلان" نعم حديث التلقين وأنه يقال "يا ابن فلانة فإن لم يعرف اسمها فيا ابن حواء ويا ابن أمة الله" مما يستأنس به لهذا، وفي الوجيز حديث أنس "يدعى الناس" إلخ. فيه إسحاق بن إبراهيم منكر الحديث: قلت صرح ابن عدي بأن الحديث منكر فليس بموضوع وله شاهد عن ابن عباس.
@ أبو هريرة "يبعث الأنبياء وأبعث على البراق ويبعث صالح على ناقته" إلخ. دس على عبد الله بن صالح قلت أخرجه الحاكم من وجه آخر عنه وصححه على شرط مسلم.
@ في الذيل "ما اصطحب اثنان على خير ولا شر إلا حشرا عليه وتلا وإذا النفوس زوجت" هو باطل.
@ "يوم القيامة ذو حسرة وندامة" من اختلاق الطايكاني.
@ في اللآلئ "يختصم الروح والجسد يوم القيامة فيقول الجسد أنا كنت بمنزلة الجذع ملقى لا أحرك يدا ولا رجلا لولا الروح وتقول الروح أنا كنت روحا ولولا الجسد لم أستطع أن أعمل شيئا وضرب لها مثل أعمى ومقعد حمل الأعمى المقعد فدله ببصره المقعد وحمله الأعمى برجله" موضوع.
@ في المختصر "إن العبد ليسأل عن كل شيء حتى كحل عينيه وعن فتات العيش بإصبعه وعن لمسه ثوب أخيه" لم يوجد.
@ "يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعون في النار وواحد في الجنة" متفق عليه.
@ "سمعنا رجفة فقال
هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين عاما والآن انتهى إلى قعرها" لمسلم.
@ "إن نار الدنيا قد غسلت بسبعين ماء من مياه الدنيا حتى أطاقها أهل الدنيا" لابن عبد البر معناه حديث.
@ "أقصى المكث في النار في حق المؤمن سبعة آلاف سنة" سنده ضعيف للترمذي.
@ "إن آخر من يخرج من النار يعذب سبعة آلاف سنة" لم يوجد.
@ وفي الذيل "آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيسأله أهل الجنة هل بقي أحد يعذب فيقول لا فيقولون عند جهينة الخبر اليقين" هذا الحديث باطل.
@ وفي الوجيز أنس "إن عبدا في جهنم ينادي ألف سنة يا حنان ويا منان" إلخ. فيه أبو ظلال ليس بشيء: قلت أخرجه أحمد وجماعة وأبو ظلال مقارب الحديث وله شاهد من مرسل الحسن.
@ "الشمس والقمر ثوران عقيران في النار" أعله بدرست بن زياد قلت هو من رجال أبي داود ولم يضعف بكذب ولا تهمة: قيل ضعيف وقيل لا بأس به وله شاهد بلفظ "ثوران" وهو في صحيح البخاري بدون قوله "في النار".
@ "عمر الذباب أربعون يوما والذباب كله في النار إلا ذباب النحل" أورده عن أنس وابن عمر بطريقين وأعل الكل قلت قال ابن حجر في شرح البخاري ورد عن ابن عباس وابن مسعود بسندين جيدين والحديث حسن أو صحيح.
@ في المقاصد "البحر هو جهنم" لأحمد عن صفوان بن يعلى وصححه الحاكم.
@ "تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" قيل فيه من هو منكر الحديث مع أنه منقطع وأرجو أن يكون صحيحا وهو عند الحكيم.
@ "دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها النساء" ولا مكان كون هذا للابتداء وذا للانتهاء: بل لمسلم رفعه "أقل ساكني الجنة النساء" قال المذنب الظاهر أنه لا منافاة إذ في وجود النساء أكثر فيمكن كثرتهن فيهما، وأما حديث "أقل ساكني الجنة" إلخ. ففي الابتداء والله أعلم.(/93)
@ في اللآلئ "إن في الجنة لسوقا ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من النساء والرجال إن اشتهى الرجل صورة دخل فيها وإن فيها لمجمعا للحور العين يرفعن أصواتا لم يرى الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ونحن الراضيات فلا نسخط ونحن الناعمات فلا نبأس فطوبى لمن كان لنا وكنا له" لا يصح قلت له شاهد والمراد أنه تتغير صورته فيشتبه بتلك الصورة لا أنه يدخل فيها حقيقة أو أن المراد بالصورة الشكل والهيئة وأصل ذكر السوق من غير تعرض لذكر الصور في مسلم، وفي الوجيز فيه عبد الرحمن بن إسحاق متروك قلت أخرجه الترمذي وغيره، وقال ابن حجر عبد الرحمن حسن له الترمذي حديثا غير هذا مع قوله أنه تكلم فيه من قبل حفظه وصححه له الحاكم حديثا آخرا وله شاهد، وعن جابر "ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد" إلخ. أورده عن علي وجابر وأعل الكل: قلت وله شواهد عن كعب وغالب بن عبد الله.
@ في المختصر "إن الحور في الجنة يتغنين يقلن للجواري الحبيبات" إلخ. ضعيف.
@ "إن الرجل من أهل الجنة يولد له كما يشتهي يكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة" لابن ماجه محسنا مغربا.
@ حديث "طيران طائفتي الأمة إلى الجنان من غير الحساب والمرور على الصراط بسبب حيائهم من المعصية ورضاهم باليسير" لابن حبان في الضعفاء، ولمسلم، وفيه القيسي الهالك والحديث منكر مخالف للأحاديث الصحيحة.
@ "إن الله يتحلى للمؤمنين فيقول لهم سلوني فيقولون رضاك" لم يوجد.
@ في الذيل "النظر إلى وجه الله تعالى واجب لكل نبي وصديق وشهيد" فيه عمرو بن خالد متهم بالوضع.
*2* باب خاتمه في سعة رحمته وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأطفال والأولياء للمؤمن والكافر وفداء المؤمن بالكافر وأن الشفقة على الخلق حتى الطيور توجب رحمته وإثم من يقنط الناس من رحمة الله.
@ في المختصر "ما زال صلى الله عليه وسلم يسأل في أمته حتى قيل أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم" لم يوجد.
@ "سأل ربه في ذنوب أمته فقال يا رب اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساويهم غيري فأوحى الله عز وجل هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك لا أجعل حسابهم إلى غير لئلا تنظر في مساويهم أنت ولا غيرك" لم يوجد.
@ وفي الذيل "ليلة أسري بي سألت الله عز وجل فقلت إلهي وسيدي اجعل حساب أمتي على يدي لئلا يطلع على عيوبهم أحد غيري فإذا النداء من العلي يا أحمد إنهم عبادي لا أحب أن أطلعك على عيوبهم فقلت إلهي وسيدي ومولاي المذنبون من أمتي فإذا النداء من العلي يا أحمد إذا كنت أنا الرحيم وكنت أنت الشفيع فأين تبين المذنبون فقلت حسبي حسبي" فيه محمد بن أيوب كذاب.
@ "سألت الله عز وجل أن يجعل حساب أمتي إلي لئلا تفتضح عند الأمم فأوحى الله إلي يا محمد بل أنا أحاسبهم فإن كانت منهم سترتها عنك لئلا تفتضح عندك" النقاش متهم.
@ "شفاعتي للجبابرة من أمتي" فيه مأمون مشهور بالوضع.
@ "إن لله عبدا يوقف بين يديه فيؤمر به إلى الجنة فيرد فيقول الله ألم يكن لك أخ وأخاك في فيقول إلهي وسيدي فلان اليهودي آواني ونصرني فيقول الله عبدي ألا تعلم أنه لا يدخل جنتي من أشرك بي شيئا ولكن أبني له بيتا لا يصيبه من حرها ولا من بردها شيء" فيه العلاء بن هلال منكر الحديث وغيره كذلك.
@ الديلمي "لقيت والدي فسألني عن اسمي وكنيتي ونسبي وبلدي وأين أنزل منه" إلخ. هكذا مسلسلا إلى أنس رفعه ثم قال "يا أنس أكثر من الأصدقاء فإنكم شفعاء بعضكم في بعض" فيه محمد بن النضر واه ليس بثقة.
@ "أكثروا من المعارف من المؤمنين فإن لكل مؤمن شفاعة عند الله يوم القيامة" فيه أصرم كذاب.
@ حديث "المبتذلين أي الشهداء والمتقاعسين وهم الأطفال وشفاعتهم لآبائهم مع تظليلهم" فيه كذابون أربعة.
@ "السقط يثقل الله به الميزان ويكون شافعا لأبويه يوم القيامة" من نسخة أبي هدبة عن أنس:
وفي اللآلئ حديث "اجتماع الأطفال في المحشر وصياحهم لشفاعة لآبائهم" بطوله لا أصل له.
@ في الذيل "إن العبد ليقف بين الله فيطول الله وقوفه حتى يصيبه من ذلك كرب شديد فيقول يا رب ارحمني اليوم فيقول وهل رحمت شيئا من أجلي فأرحمك هات ولو عصفورا فكان الصحابة ومن بقي من سلف هؤلاء الأمة يتبايعون العصافير فيعتقونها" فيه طلحة بن زيد منكر الحديث فقال أحمد كان يضع.
@ "من علم أن الله يغفر له فهو مغفور له" اختلقه الطايكاني.
@ "لعنة الله على المنفرين ثلاثا الذين يقنطون عباد الله ورحمة الله على المتكلفين ثلاثا الذين يخبرون عباد الله بسعة مغفرة الله فيدخلهم الله الجنة إلا أني إنما بعثت مبشرا ولم أبعث مقنطا".
@ في المختصر "إن رجلا كان يقنط الناس فيشدد عليهم فيقول الله تعالى يوم القيامة اليوم أؤيسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها" للبيهقي.(/94)
@ "يأتي كل رجل من أمتي من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول هذا فدائي من النار فيقال للمسلم إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم" لم يوجد.
@ "خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطا يسوق الله به عباده إلى الجنة" لم يوجد.
@ "لو علم الكافر سعة رحمة الله ما أيس من جنته" متفق عليه.
@ "إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة بين أصناف الحيوانات" إلخ. لمسلم.
@ "الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها" متفق عليه.
@ في المقاصد "إنا عند ظن عبدي" متفق عليه.
@ "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" لمسلم وغيره.
الحمد لله على حسن الاختتام وختم الله لنا مع والدينا وأولادنا ومشايخنا وإخواننا وجميع المسلمين بالحسنى بمنه وكرمه ورحمته ورضوانه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وكان اختتام التبييض في سابع ذي القعدة شهر الله الحرام يوم الجمعة سنة ثمان وخمسين وتسعمائة نفع الله به جميع طلبة العلوم النبوية آمين.
قال الحكيم الترمذي من الحديث الذي تنكره القلوب حديث ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى (يوفون بالنذر) الآية ونذر أهل البيت صيام ثلاثة حين مرض الحسنين وصيامهم ثلاثة بعد البرء وإفطارهم بالماء القراح وإطعام الفطور للسائل مع إنشاء أرق الشعر وأفسده وليس عندهم شيء فاستقرضوا من يهودي صاعا ووقف عليهم السائل فأعطوه وصاموا على الصيام وهكذا ثلاثة أيام الظاهر من قوله وليس عندهم شيء إلى آخر قوله وهكذا ثلاثة أيام قال هذا بطوله مفتعل وارتعاشهم كالفرخ من شدة الجوع فعلم ذلك صلى الله عليه وسلم وشكى إلى ربه فنزل جبريل عليه السلام (بهل أتى على الإنسان) إلخ
ترجمة المؤلف
هو العالم الفاضل العلامة المحدث النبيه رئيس محدثي الهند محمد طاهر بن علي الصديقي الفتني نسبا وموطنا والبهرة أي التاجر شعبا.
ولد في بلدة نهرواله سنة تسعمائة وأربع عشر من الهجرة النبوية.
تلمذ أولا على أفاضل عصره وفضلاء دهره كأستاذ الزمان ملا مهته ، ومولانا الشيخ الناكوري ، والشيخ برهان الدين السمهوري ، ومولانا يد الله السوهي ، ثم عزم على الحرمين الشريفين فاستفاد من علمائهما ومشايخهما كالشيخ أبي عبيد الله الزبيدي ، والسيد عبد الله العدني ، والشيخ عبيد الله الحضرمي ، والشيخ جار الله المكي ، والعلامة الفقيه الأصولي الشيخ ابن حجر المكي مؤلف الزواجر والصواعق والفتاوى وغيرها ، والشيخ علي المدني ، والشيخ برخوردار السندي ، والشيخ أبي الحسن البكري المكي ، والفاضل التقي النقي العابد الزاهد علي بن حسام الدين الشهير بالمتقي صاحب " كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال "، وتعاطي منه فيوضات متكاثرة وفتوحات وافرة ، ثم إنه عاد إلى بلاده ، وأقام هناك ، وأفاد ، وصنف تصانيف أنيقة مفيدة فاق على فضلاء عصره ونبلاء دهره لما استوى السلطان أكبر والي دار العلوم الدهلي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة على بلاد كجرات ، واجتمع بالشيخ فربط السلطان العمامة بيده على رأس الشيخ ، وقاله على نصر الدين ، وكسر المبتدعين والسلطان المذكور فرض حكومة كجرات إلى أخيه الرضاعي مرزا عزيز بيك كوكه الملقب بالخان الأعظم فأعان الشيخ وأزال رسوم البدع ، ثم إن الخان الأعظم عزل ونصب مكانه عبد الرحيم خانخانان وكان شيعيا فاعتضده به المهدوية فحل الشيخ عمامته عن رأسه وانطلق إلى السلطان أكبر وكان هو في مستقر الخلافة أكبر آباد فتبعه جمع من المهدوية سرا فقتلوه في ما بين أجين ومالوه سنة ست وثمانين وتسعمائة قتل رحمه الله وهو إذ ذاك ابن اثنتين وسبعين سنة ثم نقل جسده إلى فتن ودفن في مقابر أسلافه رحمه الله ونور مرقده وبرد مضجعه وأدخله بحبوحة جنانه ترجم له جمع من الأفاضل كالشيخ محدث الهند العلامة عبد الحق الدهلوي صاحب اللمعات شرح المشكوة في أخبار الأخيار والسيد العلامة غلام علي البلجرامي الزبيدي صاحب « تاج العروس » و« شرح الإحياء »في « سبحة المرجان في آثار الهندوستان » وصاحب « خزينة الأصفياء وصاحب حدائق الحنيفة » [لعله: الحنفية] وغيرهم من النبلاء له رحمه الله مصنفات عديدة منها مجمع بحار الأنوار مع التكلمة [لعله: التكملة] في أربع مجلدات في غريب الحديث على نمط نهاية ابن الأثير والمغني في ضبط الرجال وكفاية في شرح الشافية لابن الحاجب في الصرف وقانون الموضوعات وتذكرة الموضوعات هذه التي نحن بصدد طبعها وختمها بقانون الموضوعات، وله تصانيف أخر كلها مشتملة على فوائد جليلة ودقائق علمية.
** تنبيه (حول اسم المؤلف) :(/95)
" فتن " - بفتح الفاء وتشديد التاء المثناة فوق مع الفتح بعده نون - معرب بين بلدة من بلاد كجرات قريبا من أحمد آباد. أجين بضم الهمزة وتشديد الجيم المفتوحة والنون بينهما ياء تحتانية ساكنة. وبوهرة معناه التاجر على ما بينه صاحب الترجمة في تصانيفه جمهور أهل الكجرات مجمعون على أنه كان من البواهين أسلم أسلافهم على يد ملا علي ومضى لإسلامهم على ما حكاه البلجرامي قريبا من ثلاثمائة سنة. مهدوية هم الذين كانوا من قومه من أتباع السيد محمد الجونفوري الذي ادعى أنه المهدي الموعود والله أعلم وعلمه أتم وأحكم وأنا العاجز الحقير الفقير إلى ربه المستجير أبو عبد الكبير محمد عبد الجليل، عفا عنه ربه السميع البصير، السامرودي، حرر في جمادى الأولى سنة 1342.(/96)
تذكير الساجد بجملة من أحكام المساجد
جمال الطاهر*
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن المساجد بيوت الله وأفنيته، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في مساجدهم، والله عز وجل في حوائجهم ، من سعى إلى هذه المساجد، وحافظ على الصلاة فيها، وتعلّق قلبه بها، فهو في ذمة الله وحفظه وكلاءته، إن دعا أُجيب، وإن سأل أُعطي، يجد فيها الهدى والنور، والعلم والعمل، يرى فيها وجوهاً طيبة، ويسمع أصواتاً خاشعة، وهي بعد ذلك زاده إلى الآخرة وسبيله إلى رضوان الله، كان سلفنا الصالح وأئمتنا المهتدون حريصين على تجلية أحكامها، وبيان آدابها، حتى يكون المسلم الذي يرتادها على نور من ربه، فيعرف ما يأتي وما يذر.
وقد سار على نهجهم أخونا الأستاذ: جمال الدين الطاهر – جمّله الله بالعلم والإيمان – فبذل جهده، واستفرغ وسعه في هذه الصفحات، وزيّنها بنقولات مهمة، وتحقيقات نافعة، أسأل الله أن يجزيه خيراً، وأن يعظم الأجر والمثوبة لكاتبها ، وطابعها، وناشرها، ومن أنفق عليها، وأن ينفعنا بما علمنا .
والحمد لله أولاً وآخراً
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
كتبه: د. عبد الحي يوسف
الأربعاء 28 ربيع الأول 1422
الموافق: 20 يونيو 2001م
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد...
فقد وضع الله تعالى أول بيت من بيوته في الأرض وأشرفها وهو المسجد الحرام؛ ليقام فيه دينه، كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين)، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام ، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً" [رواه مسلم]، فأما المسجد الأقصى فقد بناه يعقوب عليه السلام على أحد روايات التاريخ بأمر من الله عز وجل ليُستعلن له فيه ـ أي: يجهر له فيه بالعبادة ـ حين استقر به المقام في (القدس)، وجدده بعد ذلك داود عليه السلام وكمله سليمان عليه السلام [البداية والنهاية 1/196، وفتح الباري 2/408، إعلام الساجد للزركشي 30]، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل اللهَ خلالاً ثلاثة: سأل الله عز وجل حُكماً يصادف حكمه فأُوتيه، وسأل الله عز وجل مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده فأًوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألاّ يأتيه أحد لا ينهزه إلاّ الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه". واختلف الناس فيمن بنى البيت الحرام أولاً: فقيل بنته الملائكة لما روى جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال (إني جاعل في الأرض خليفة) قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)؛ فغضب عليهم فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتاً في الأرض يتعوّذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي؛ فأرضى عنه كما رضيت عنكم فبنوْا هذا البيت. وقيل بناه آدم عليه السلام كما ذُكر عن ابن جريج وابن المسيب وغيرهما أن الله أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء [تفسير القرطبي 2/120 – 121].
الباب الأول: فضل المساجد
مكانة المسجد في الإسلام :
إن مكانة المسجد في الإسلام لتظهر بجلاء في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما قال ابن كثير رحمه الله [البداية والنهاية 3/209].
وكذلك عندما واصل صلى الله عليه وسلم سيره إلى قلب المدينة كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده صلى الله عليه وسلم . ولقد وعى هذا الأمر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتموا بذلك، واعتنى الخلفاء الراشدون بها فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته أن يبنوا مسجداً جامعاً في مقر الإمارة، ويأمروا القبائل والقرى ببناء مساجد جماعة في أماكنهم. عن عثمان بن عطاء قال لما فتح عمر بن الخطاب البلد كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة [كنز العمال 8/313-314].(/1)
وكان المسجد في أول الإسلام مكان الطاعات كلها، كما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك للرجل الذي بال في المسجد: "إنما هي لذكر الله والصلاة"، وفي رواية: "إنما بنيت لذكر الله والصلاة"، [رواه البخاري]، وإن هذا الحصر يدل على أنه لا يجوز غير الصلاة والذكر في المسجد إلا بدليل، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده قبل إسلامهم، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد الحبشة في مسجده، ولعبوا فيه بحرابهم وهو ينظر إليهم، وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة إلى الإسلام [السيل الجرار 1/180].
وكانت أغلب مشورته صلى الله عليه وسلم ـ وكذا خلفاؤه من بعده ـ تقع في المسجد لأنه مقر اجتماعاتهم، وكثير من الحوادث التي شاور فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أو شاور فيها خلفاؤه من بعده لا يذكر فيها مكان للشورى ولكنها في الغالب ما كانت تقع إلا في المسجد، قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي فإن لهم مجتمعاً فيه يصلون وفيه يسايسون، وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، ولكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع" [الفتاوى الكبرى 35/39-40].
فضل بناء المساجد:
لبناء المساجد فضل عظيم؛ لما رُوي عن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) [متفق عليه]. قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "يدل على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الأرض مسجداً من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء، والتنكير في مسجد للشيوع؛ فيدخل فيه الكبير والصغير" [نيل الأوطار 2/156].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه بأصحابه رضي الله عنهم، كما فعل في خيبر، [وفاء الوفا بأخبار المصطفى للسمهودي 3/1028].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة) [رواه الإمام أحمد].
والأصل الاقتصار على الواحد إن وسع الناس، ولا يشرع بناء آخر إلا لضيق الأول ونحوه، قال القرطبي رحمه الله تعالى: "قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيُبنى حينئذ، وكذلك قالوا: لا ينبغي في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تُجْزِه، وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه" [تفسير القرطبي 8/254].
الباب الثاني: وجوب أداء الصلوات الخمس مع الجماعة
الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبة:
قال تعالى آمراً عباده بالمحافظة على صلاتهم : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين).وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)، وقال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" [متفق عليه].
بل جعل الإسلام الصلاة مما يُعصم به دم المسلم مع الشهادة والزكاة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" [متفق عليه].
وعدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتسبب في دخول العبد الجنة إذا وافى بها تامة كاملة فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل من عند الله تبارك وتعالى فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: إني فرضت على أمتك خمس صلوات، فمن وافى بهن على وضوئهن ومواقيتهن وركوعهن وسجودهن؛ كان له عندي بهن عهد أن أدخله بهن الجنة، ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئاً؛ فليس له عندي عهد، إن شئت عذبته، وإن شئت رحمته" [رواه الطبراني بإسناد صحيح وصححه الألباني].(/2)
أدلة وجوب صلاة الجماعة من الكتاب العزيز:
تضافرت أقوال أهل العلم قديماً وحديثاً على وجوب صلاة الجماعة في المساجد، دل على هذا الآيات، والأحاديث، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فأما آيات الكتاب الحكيم فقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم...) الآية. ودليلها كما قال العلماء أنها - أي الجماعة - لم تسقط عنهم حال الحرب والخوف فكيف بحال الأمن والسلامة [انظر آداب المشي إلى الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن سليمان التميمي 98].
وقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين). قال القرطبي: "(مع الراكعين) تقتضي المعية والجمعية، ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم ـ بقوله (مع الراكعين) ـ بشهود الجماعة" [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج1 ص 56].
وجوب المحافظة على الصلاة وأدائها في الجماعة من السنة:
اعلم أخي المسلم أن التهاون في الصلاة مع الجماعة في المساجد في أوقاتها معصية عظيمة، وكبيرة من الكبائر، ووسيلة إلى التهاون بها وتركها بالكلية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وفي رواية: "لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم" [متفق عليه].
وروى مسلم أن رجلاً أعمى قال: "يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد"؛ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في أن يصلي في بيته، فرخّص له، فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء قال نعم قال فأجب"، فكون الأعمى لا رخصة له في ترك الجماعة فكيف يرخص للبصير؟ قال الخطابي ـ رحمه الله ـ: "وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ندباً لكان أولى من يسعه التخلف أهل الضرورة والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم، وكان عطاء ابن أبي رباح ـ رحمه الله ـ يقول:" ليس لأحد من خلق الله في الحضر وبالقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة" [كتاب الصلاة للشيخ: عبد الملك علي الكليب 222].
وعن أن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر" [رواه أبو داود والدارقطني وصححه النووي والألباني].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" [رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح].
ذكر الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في وجوب صلاة الجماعة وعقوبة المتخلف عنها:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما بال قوم يتخلفون عن الصلاة؛ فيتخلف لتخلفهم آخرون لأن يحضروا الصلاة أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم" وقد كتب رضي الله عنه إلى الأمراء في الأمصار: "إنّ أهم أمركم عندي: الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ومن المحافظة عليها أداؤها جماعة في المساجد".
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم؛ لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق" [رواه مسلم].
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح ثم لم يجب". وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "من سمع المنادي بالصلاة ثم لم يجب لم يرِد خيراً ولم يُرَد به، إلا من عذر". وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "من سمع المنادي بالصلاة فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له".
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "من سمع المنادي بالصلاة فلم يأته؛ لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر". وقال علي رضي الله عنه: "من سمع النداء من جيران المسجد فلم يجب وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له" [آداب المشي إلى الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن سليمان التميمي 134-135].
ذكر الآثار الواردة عن التابعين ومن بعدهم في وجوب صلاة الجماعة في المساجد:
قال عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبو ثور رحمهم الله: "إن حضور الجماعة في المسجد فرض". وقال الشافعي رحمه الله: "لا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها في المسجد".
وقال الخطابي: "حضور الجماعة في المساجد واجب لأنه لو كان مسنوناً لكان أولى بالتخلف والرخصة ابن أم مكتوم وأمثاله من الضعفة".(/3)
وقال الأوزاعي رحمه الله: "لا طاعة للوالد في ترك الجمع والجماعات". وقال ابن حزم رحمه الله: "لا ذنب بعد الشرك أعظم من تأخير الصلاة عن وقتها وقتل المؤمن بغير حق" [تحذير الأمة عن التهاون بصلاة الجماعة والجمعة للشيخ: عبد العزيز بن عبد الرحمن الشثري 150].
بعض أقوال أهل العلم في وجوب صلاة الجماعة:
قال البغوي في [شرح السنة 3/349]: "ذهب غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له". قال عطاء بن أبي رباح: "ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة"، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقة لم يطعها". قال الأوزاعي: "لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات سمع النداء أو لم يسمع" [كتاب الصلاة للشيخ: عبد الملك علي الكليب ص 222].
قال الشاعر :
فوائد صلاة الجماعة:
شرع الله سبحانه وتعالى صلاة الجماعة لحكم عظيمة وفوائد جسيمة منها ـ والله أعلم ـ ما يلي:
1. اختبار العباد وامتحانهم: ليعلم الله من يمتثل أوامره ممن يعرض عنها ويستكبر.
2. التعارف والتآلف: والترابط بين المسلمين، ليكونوا كالجسد الواحد وكالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، والذي لا يصلي في المسجد لا يعرفه أهل الحي إلاّ من كان بينه وبين أحدهم مصلحة دنيوية.
3. تعليم الجاهل وتذكير الغافل: فالجاهل يرى العالم فيقتدي به والغافل يسمع الموعظة فينتفع بها.
4. ما يشعر بع المصلي في الجماعة من الخشوع، والتدبر والانتفاع بالصلاة، بخلاف من يصلي في بيته فإنه قد لا يشعر بشيئ من ذلك، بل إنّ الصلاة تثقل عليه في الغالب؛ فينقرها نقر الديك فلا ينتفع منها بشيء.
5. إغاظة أعداء الله وإرهابهم وعلى رأسهم إبليس لعنه الله ـ وجنوده ـ من شياطين الإنس والجنّ، الذين يؤرقهم أن يعود المسلمون إلى المساجد خاصة الشباب.
6. ما في الخروج للمساجد من النشاط والحركة ورياضة البدن بكثرة المشي ذهاباً وإياباً، لا سيما إن كان المسجد بعيداً، بخلاف الصلاة في البيت وما يصاحبها في الغالب من الكسل والخمول وهذا أمر مجرب.
صلاة أهل الأعذار:
يجب أن يصلي المريض قائماً في الصلاة المفروضة؛ لحديث عمران رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" [رواه ا لبخاري]، وزاد النسائي " فإن لم تستطع فمستلقياً"، ويومئ لركوعه وسجوده برأسه ما أمكنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [رواه مسلم وأحمد].
وتصح صلاة الفرض على راحلة واقفة أو سائرة خشية تأذٍ بوحل ومطر؛ لحديث يعلى بن أمية الذي رواه الترمذي وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
والمسافر يقصر الرباعية خاصةً، وإن ائتمّ المسافر بإمام غير مسافر يلزمه الإتمام فإنه يتمُّ صلاته مؤتماً به، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت أحدهما للمسافر، وترك الجمع أفضل غير جمعي عرفة ومزدلفة؛ كما رجحه الحنابلة [آداب المشي إلى الصلاة للإمام محمد بن سليمان التميمي رحمه الله].
الترغيب في الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ومسجد قباء:
وردت الآثار الصحيحة في بيان فضل الصلاة في المسجد الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس للعبادة، وكذلك الصلاة في المسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى ـ فكّ الله أسره من يد أحفاد القردة والخنازير وردّه لأهله آمين ـ وكذا الصلاة في مسجد قباء، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" [رواه أحمد وابن ماجة، وصححه الألباني]، وهذا نص واضح في فضل الصلاة فيهما.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى" [رواه أحمد وقال المنذري: رواته رواة الصحيح].
وعن أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" [رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والبيهقي والحاكم وصححه الألباني].
ترغيب الإمام في تخفيف الصلاة وبيان قدر هذا التخفيف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" [رواه الجماعة إلا ابن ماجة] .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجدِ أمه من بكائه" [رواه الجماعة إلا أبا داود] .(/4)
قال الشوكاني: "وأحاديث الباب تدل على مشروعية التخفيف للأئمة وترك التطويل؛ للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة واشتغال خاطر أم الصبي ببكائه، ويلحق بها ما كان في معناها" [نيل الأوطار 3/137].
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "صلِّ بـ(الشمس وضحاها) ونحوها من السور" [رواه أحمد وصححه الألباني].
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: "والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا"، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذ ثم قال: "إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" [رواه البخاري].
وعن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: "كان أبي قد ترك الصلاة معنا فقلت له: يا أبة مالك تركت الصلاة معنا؟ قال: إنكم تخففون، قلت: فأين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة"؟، فقال: قد سمعت ابن مسعود يقول ذلك وكان يمكث في الركوع والسجود ثلاثة أضعاف ما تصلون" [رواه الطبراني في الكبير والأوسط ووثق رجاله الهيثمي].
قال أبو عمر ابن عبد البر: "التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه، إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال. وأما الحذف والنقصان فلا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلاً يصلي فلم يتم ركوعه فقال: "ارجع فصلِّ فإنك لم تصل" وقال: "لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده"، ثم قال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أمّ قوماً على ما شرطنا من التمام" [نيل الأوطار 3/137].
الترغيب في المشي إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة:
قال تعالى: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين) وقال تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم والآخر).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين درجة؛ ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" [متفق عليه].
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح" [متفق عليه].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فرجع من رجع وعقّب من عقّب ـ الجلوس بعدها لدعاء أو ذكر ـ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حفزه النفس ـ أي: أتعبه من شدة سعيه ـ قد حسر عن ركبتيه، قال: "أبشروا هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى" [رواه ابن ماجة وقال المنذري: رجاله ثقات، وصححه الألباني].
وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشّائين في الظُلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة كلهم ضامن على الله إن عاش رُزق وكُفي، وإن مات أدخله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله" [رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" [رواه مسلم].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تطهر الرجل ثمّ مرّ إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقائد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه" [رواه أحمد و أبن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الألباني].
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن في الصُّفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق ـ موضعان بالمدينة ـ فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين ـ أي: عظيمتي السنام ـ زهراوين ـ أي بيضاوين حسنتين ـ فيأخذهما في غير إثم ولا قطع رحم؟ قلنا : كلنا يا رسول الله يحب ذلك، قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل" [ مسلم وأحمد واللفظ له ].
الدعاء عند التوجه إلى المساجد:(/5)
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وخلفي نوراً، وفي عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بَشَري نوراً"، وفي رواية لمسلم: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعظم لي نوراً".
ويسنُّ لمن أراد دخول المسجد أن يدخل برجله اليمنى ويقول: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" [رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم]. أو يقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك" [رواه أحمد وابن ماجة].
وإذا أراد الخروج خرج برجله اليسرى ويقول: "بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك" [رواه أحمد وابن ماجة].
السعي إلى المسجد بالسكينة:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع جلبة رجال فلما صلى قال: "ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" [متفق عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" [رواه الجماعة إلا الترمذي].
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ : "والحديثان يدلان على مشروعية المشي إلى الصلاة على سكينة ووقار، وكراهية الإسراع والسعي، والحكمة في ذلك ما نبّه عليه صلى الله عليه وسلم كما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة"، أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتنابه ما ينبغي للمصلي اجتنابه "[نيل الأوطار 3/135].
والحكمة في التقييد بسماع الإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصِل إليها وقد انبهر، وأسرعت أنفاسه، فيقرأ وهو في تلك الحالة؛ فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح، إلا أنه يسنّ له أيضاً عدم الإسراع لعموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أتيتم الصلاة"، لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيد الحديث بالإقامة لأنه الحامل في الغالب على الإسراع، والإسراع في المسير أو السعي الشديد لإدراك الصلاة في المسجد أو لإدراك الركوع يفوت السكينة واحترام الصلاة ويشوش على المصلين [فتح الباري 2/ 117، والقول المبين في أخطاء المصلين 185].
الترغيب في الأذان والإقامة والدعاء بينهما:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير ـ التبكير إلى الصلاة ـ لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة ـ العشاء ـ والصبح لأتوهما ولو حبواً" [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعوة بين الأذان والإقامة لا تردّ فادعوا" [رواه ابن خزيمة وصححه الألباني]. وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" [رواه الطيالسي وأبو يعلى، وصححه الألباني].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن؛ اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس الأذان بعدك. فقال: "إنه يكون بعدي ـ أو بعدكم ـ قومٌ سفلتهم مؤذنوهم" [رواه البزار والهيثمي، ورجاله كلهم موثوقون، وصححه الألباني].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" [رواه مسلم].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غُفر له ذنبه" [رواه مسلم].(/6)
ومما يجدر التنبيه عليه الخطأ الشائع عند كثير من المسلمين من تقبيل الإبهامين ومسح العينين بهما عند قول المؤذن "أشهد أنّ محمداً رسول الله" واعتمادهم في ذلك على حديث أورده أبو العباس بن أبي بكر اليماني في كتابه: [موجبات الرحمة وعزائم المغفرة] بسند فيه مجاهيل مع انقطاعه عن الخضر ـ عليه السلام ـ أنه قال: "من قال ـ حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ـ : مرحباً بحبيبي وقرّة عيني محمد بن عبد الله صلى الله عليه سلم ثم يقبّل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يرمد أبداً. قال السخاوي ـ رحمه الله ـ بعد أن أورد هذا الحديث وآخر نحوه: ولا يصح في المرفوع من كل هذا شيء [المقاصد الحسنة ص384، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم300، والسلسلة الضعيفة رقم 73].
وعن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: "أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"، قال أبو سعيد رضي الله عنه : "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [رواه البخاري].
وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أذن اثنتى عشرة سنة وجبت له الجنه وكتب له بتأذينه في كل مرة ستون حسنة وبإقامته ثلاثون حسنة" [رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني].
كراهة الخروج من المسجد بعد الآذان إلا لعذر حتى يصلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم في المسجد فنودي للصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي" [رواه أحمد].
وعن أبي الشعثاء قال: خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه فقال أبو هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" [رواه الجماعة والبخاري]، قال النووي معلقاً على هذا الحديث: "فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي فيه المكتوبة إلاّ لعذر والله أعلم" [شرح النووي على صحيح مسلم 5/157-158].
عن سعيد بن المسيب قال: يقال:"لا يخرج من المسجد بعد النداء إلاّ أحد يريد الرجوع إليه أو منافق" [أخرجه مالك في الموطأ1/162]، ومثل هذا الكلام لا يقال من جهة الرأي وقد صح أن أبا هريرة رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في المسجد ثم يخرج منه إلاّ لحاجة ثم لا يرجع إليه إلاّ منافق" [الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح كذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/5]، وهذا الخروج المكروه لمن ليس له عذر، كمن كان جنباً أو محدثاً أو حاقناً أو راعفاً، ومن يكون إماماً لمسجد آخر، وإلاّ لم يكره، ودليل ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال :"على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء وقد اغتسل" [البخاري في الصحيح] .
قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ : "وإذا أذن في الوقت كُره له أن يخرج من المسجد إلاّ أن يكون لحاجة ثم يعود" [المغني2/ 91].
الترغيب في ذكر الموت في الصلاة والخشوع:
لا شك أن ذكر الموت من أعظم أسباب زهد العبد في الدنيا الفانية، وإقباله على ربه وعلى الآخرة، لذلك يستحب للمصلي استحضار ذكر الموت في صلاته؛ حتى يقبل بقلبه على ربه، ويخشع في صلاته (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اذكر الموت في صلاتك؛ فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظنّ أنه يصلي صلاة غيرها وإياك وكل أمر يعتذر منه" [رواه الديلمي في مسند الفردوس، وحسنه الحافظ ابن حجر، وتابعه الألباني].
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز فقال: "إذا قمت في صلاتك فصلّ صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع الإياس مما في أيدي الناس" [رواه أحمد وحسنه الألباني].
الباب الثالث: بعض أحكام المساجد
وبعد بيان حكم صلاة الجماعة ندلف بإذن الله إلى بعض الآداب المتعلقة بالمساجد محاولين استقصاء ما يباح في المساجد محاولين استقصاء ما يندب في المساجد، ثم نتبعه بما يكره فيها بشيء من الإيجاز :
أولا: ما يستحب ويندب في المساجد:
ونتطرق أولاً إلى ما يباح في المساجد وما يندب في حقها؛ صيانة لها مما لا يليق، لأنها شعار الإسلام ومقر المؤمنين، وهي آداب كثيرة نحاول رغم تقصيرنا التحدث عنها بإيجاز:
إنارة المساجد:(/7)
وذلك من رفعها المأمور به بنص القرآن، ويدل لذلك ما صح عن أبي هند رضي الله عنه قال: "حمل تميم الداري من الشام إلى المدينة قناديل وزيتاً ومقطاً، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة، فأمر غلاماً له يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط ـ أي ربطها ـ وعلق القناديل، وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها فتيلاً، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر فقال: من فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها، قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فأفعل بها ما أردت، فأنكحه إياها"، وهذا يدل على عظم ما قام به هذا الصحابي الجليل، وأنّ إنارتها أمر محمود، وسنة مرضية، لإقراره صلى الله عليه وسلم، بل لم يكتف صلى الله عليه وسلم بالسكوت عن هذا الفعل إقراراً له، بل مدحه وأثنى عليه.
وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أول من أسرج المساجد تميم الداري"، قال العلماء: "ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل، ونصب الشموع ويزداد في شهر رمضان في أنوار المساجد".
تحية المسجد:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" [رواه الجماعة].
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سليكاً الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقعد فقال له: "أصليت ركعتين؟" قال: لا، قال: "قم فصل ركتين" [رواه البخاري ومسلم].
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ :"ذهب الجمهور إلى أنها سنة"، وقال النووي ـ رحمه الله ـ: "إنه إجماع المسلمين"، قال الحافظ ـ رحمه الله ـ في الفتح: "واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب"، ثم قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "وبهذا التقرير يُعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلو عن القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضايقة والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة" [نيل الأوطار 3/68]. فائدة: ذكر ابن القيم رحمه الله أن تحية المسجد الحرام الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فيه بالطواف وتعقب بأنه لم يجلس إذ التحية إنما تشرع لمن جلس [نيل الأوطار 3/70].
ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعاً: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". قال العلماء "فجعل صلى الله عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس فيه حتى يركع، وعامة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب، وذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب وهذا باطل" [انظر تفسير القرطبي 12/273].
ومن دخل المسجد والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما، وبهذا قال الحسن وابن عيينة ومكحول والشافعي واسحق وأبو ثور وابن المنذر، وقال شريح وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري ومالك والليث وأبو حنيفة يجلس ويكره له أن يركع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت وأنيت"[رواه ابن ماجة]، ولأن الركوع يشغله عن استماع الخطبة فكره كركوع غير الداخل [انظر المغني 3/192].
السترة أمام المصلى:
يستحب للمصلي أن يجعل بين يديه سترة تمنع المرور أمامه، وتكفّ بصره عما وراءها لحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولا يدع أحداً يمر بينه وبينها فإن جاء أحد يمرّ فليقاتله فإنه شيطان" [رواه أبو داود وابن ماجة]، قال الشوكاني معلقاً عليه: "فيه أن اتخاذ السترة واجب" [نيل الأوطار 3/2]، وقال أيضاً: "وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلى الندب فذاك" [السيل الجرار 1/176]، قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: "يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، سئل أحمد: يصلي الرجل إلى سترة في الحضر والسفر قال نعم مثل مؤخرة الرحل" [المغني 3/80]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر ثم اتخذها الأمراء" [رواه البخاري ومسلم].(/8)
ويرى الحنفية والمالكية أن اتخاذ السترة إنما يستحب للمصلي عند خوف مرور أحد بين يديه، فإذا أمن مرور أحد بين يديه فلا يستحب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء وليس بين يديه شيء" [رواه أحمد وأبو داود]، قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ: "وحديث ابن عباس هذا يخصص حديث أبى سعيد: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه" فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مرّ بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء" [فتح الباري1/572] قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "أقول هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة فلا وجه لتخصيص مشروعيتها بالفضاء فالأدلة أعمّ من ذلك" [السيل الجرار 1/176] .
هذا وتعتبر سترة الإمام سترة لمن خلفه [المغني 3/81]، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذافر فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة ـ ولد الضان ـ تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه" [رواه أحمد وأبو داود] .
وعن ابن عباس قال: "أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، بمنى فمررت بين يدي الصف فأرسلت الأتان ترتع ودخلت الصف، فلم ينكر ذلك علي" [رواه أحمد ورواه الجماعة].
ففي هذه الأحاديث ما يدل على جواز المرور بين يدي المأموم، وأن السترة إنما تشرع بالنسبة للإمام والمنفرد.
وقد أجاز بعض الفقهاء أن تكون السترة للمصلي خطاً على الأرض إذا لم يجد ما يجعله سترة لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصاً فإن لم يكن معه عصاً فليخط خطاً ولا يضره ما مرّ بين يديه" [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة]، قال النووي في كيفيته: "المختار ما قاله الشيخ أبو اسحق أنه إلى القبلة لقوله في الحديث "تلقاء وجهه" واختار في التهذيب أن يكون من المشرق إلى المغرب ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط، واختلف قول الشافعي فروي عنه استحبابه وروي عنه عدم ذلك وقال جمهور أصحابه باستحبابه" [نيل الأوطار 3 / 4- 5] قال ابن القيم: "وأمر المصلي أن يستتر ولو بسهم أو عصا فإن لم يجد فليخط خطاً في الأرض، قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول الخط عرضاً مثل الهلال وقال عبد الله: الخط بالطول" [زاد المعاد 1/109] .
وأجاز بعضهم أن يستتر بإنسان قال في المغني: "يستحب للمصلي أن يدنو من سترته، فإن استتر بإنسان فلا بأس لأنه يقوم مقام غيره من السترة، وقد روي عن حميد بن هلال قال رأى عمر بن الخطاب رجلاً يصلي والناس يمرون بين يديه فولاه ظهره وقال بثوبه هكذا وبسط يديه هكذا وقال: "صل ولا تعجل" وعن نافع: "كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال: ولني ظهرك" [المغني 3/85].
ثانيا: ما تنزه عنه المساجد:
وأما ما ورد النهي عنه فيما يتعلق بالمساجد فهي جملة أحكام نوجزها فيما يلي:
زخرفة المساجد:
جاء الأمر بالحث على بناء المساجد وتنظيفها وتطهيرها، فعن يعقوب بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يتتبع غبار المسجد بجريدة وكان المسجد يرش ويقمّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وكان عمر رضي الله عنه يكسو مسجد قباء بقطيفة [مصنف ابن أبي شيبة 1/398]، أما التزيين والنقش فقد اختلف فيه، فكرهه قوم وأباحه آخرون، فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى االناس في المساجد" [رواه أبو داود]. وفي رواية البخاري قال أنس رضي الله عنه: "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود النصارى"، وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار عليكم" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" [رواه أبو داود]، قال البغوي: "التشييد رفع البناء وتطويله، ومنها قوله تعالى: ( في بروج مشيدة)، وهي التي يطول بناؤها، وفي ذلك ردّ عل من حمل قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع) على رفع بنائها وهو الحقيقة، بل المراد أن تعظم فلا يذكر فيها الخنا من الأقوال، وتطييبها من الأدناس والأنجاس وألا ترفع فيها الأصوات.(/9)
واحتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) يعني تعظم، ورُوي عن عثمان رضي الله عنه أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج ـ شجر يعظم جداً لا يكاد بوجد إلا ببلاد الهند وخشبه أسود رزين لا تكاد الأرض تبليه ـ وحسّنه، قال أبو حنيفة: "لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه وذلك في زمن ولايته قبل خلافته ولم ينكر عليه أحد ذلك [تفسير القرطبي 12/267] .
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود النصارى"، قال الخطابي: لتزخرفنها: لتزيننها، وأصل الزخرف الذهب، يريد تمويه المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل، والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم، يقول: وأنتم تصيرون مثلهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة في تشييدها وتزيينها.
تنزيه القبلة عما يلهي المصلي:
ولما كان المصلي مأمور بالخشوع في صلاته، وعدم التشاغل عنها بأي شئ جاءت الأحاديث والآثار تمنع تزيين القبلة بما يلهي المصلي، ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كان قرام لعائشة رضي الله عنها قد سترت به جانب بيتها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطي عني قرامك هذا فإنه لاتزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" [رواه البخاري].
والقرام: ستر رقيق من صوف ذو ألوان، أميطي: أي أزيلي. والحديث يدل على كراهية الصلاة في الأمكنة التي فيها تصاوير، وعلى وجوب إزالة ما يشغل بال المصلي سواء كان صوراً أو غير صور والحديث يدل أيضاً على أن الصلاة لا تفسد مع وجود الصور لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقطعها ولم يعبها ولم يعدها [نيل الأوطار 2/153، وسبل السلام 1/151]، وقد تقدم كراهة زخرفة المساجد، والتصاوير من نوع ذلك.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة وأتوني بأنبجانية – كساء غليظ لا علم فيه – فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي". [أخرجه البخاري ومسلم]، قال الصنعاني: "وفي الحديث دلالة على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب" [سبل السلام 1/151]، وقال العز بن عبد السلام: "تكره الصلاة على السجادة المزخرفة الملمعة، وكذلك على الرفيعة الفائقة لأن الصلاة حال تواضع وتمسكن، ولم يزل الناس في مسجد مكة والمدينة يصلون على الأرض والرمل والحصى تواضعاً لله" [فتاوى العز بن عبد السلام ص 68].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة والصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك" [الاختيارات العلمية ص 254].
وقال المرغيناني: "وأشدها كراهة أن تكون أمام المصلي ثم من فوق رأسه ثم على يمينه ثم على شماله ثم خلفه" [انظر الهداية 1/295 مع شرح فتح القدير].
نشد الضالة:
ومما ينبغي أن تنزه عنه المساجد نشد الضالة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلاً ينشد في المسجد ضالة فليقل: لا أداها الله إليك؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا" [رواه مسلم وأحمد].
وعن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: "من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إنما بُنِيَت المساجد لما بُنِيَت له" [رواه مسلم]. قال النووي: "وفيه النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد، وقوله: "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" معناه: لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها".
الروائح الكريهة:(/10)
ومما تصان المساجد منه وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة، وذلك من تعظيمها، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عزوة تبوك: "من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يأتين المسجد"، وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليى وسلم قال: "من أكل من هذه البقلة الثوم ـ وقال مرة من أكل من البصل والثوم الكراث ـ فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" [رواه البخاري]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته: "ثم إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما في رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخاً" [رواه مسلم]. وقال القاضي: "ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشى"، وقال أيضاً: "وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها" [مسلم بشرح النووي 5/48 وشرح المسند 2/333]، وقال الشيخ الجبرين في تنبيهات على بعض الأخطاء التي يفعلها بعض المصلين في صلاتهم: "استعمال ما يسبب الروائح المنتنة المستكرهة في مشام الناس كالدخان والنارجيلة –الشيشة- مما هو أقبح من الكراث والثوم والبصل الذي تتأذى من الملائكة والمصلون فعلى المصلي أن يأتي وهو طيب الرائحة بعيداً عن تلك الخبائث" [مقال نشر في مجلة المجتمع العدد 855]، ويلحق بذلك أيضاً الحدث في المسجد وأن تخرج منه الرائحة الكريهة ففي ذلك إيذاء للآخرين وإفساد لجو المسجد وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم "أن الملائكة تصلي على الشخص الذي يأتي المسجد للصلاة فتقول: اللهم صلّ عليه اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه" [رواه مسلم]، قال النووي: "لا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد لكن الأولى اجتنابه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"" [انظر المجموع 2/175].
و إذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى منه ففي القياس أن كل من تأذى منه جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم أو كان ذا رائحة قبيحة لا تفارقه لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها.
قال أبو عمر ابن عبد البر: "وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه، واتفقوا أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده، فاستشير فيه فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم الصلاة، إذ لا سبيل مع جنونه واسطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يوماً أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول فاستدل بحديث الثوم وقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد".
البزاق في المسجد:
روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها"، وفي صحيح مسلم: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". قال القرطبي رحمه الله: "فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل وتركها غير مدفونة". وروي عن سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه تنخم ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله؛ فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: "الحمد لله الذي لم يكتب عليّ خطيئة الليلة".
وأخرج مسلم عن عبد الله بن الشخير قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى"، وهكذا إذا كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشاً بالحصر ونحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق فيكون خطيئة غير مكفرة، وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد، ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج إلى ذلك، فمن دعت حاجته إلى البصق بصق في ثوبه [السيل الجرار 1/182]، ويشير الشوكاني رحمه الله في قوله السابق إلى الحديث الصحيح المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبزقنّ قِبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه وردّ بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا".
البيع والشراء:
وتصان المساجد أيضاً عن البيع والشراء وجميع الأشغال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ـ للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر ـ: "لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له" [رواه مسلم].(/11)
وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن، كذا جاء مفسراً في حديث أنس رضي الله عنه قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فجعل يبول في المسجد؛ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، دعوه"؛ فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنمها هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" [ رواه مسلم ]. ومما يدل على هذا قول الله تعالى: (ويُذكَرَ فيها اسمُه)، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي: "إن هذه المساجد لايصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [رواه مسلم]. وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد؛ فقال: "ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟!". وكان خلف بن أيوب جالساً في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء، فقام وخرج من المسجد وأجابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا؛ فكرهت أن أتكلم اليوم. قال ابن الحاج: "ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد حال الخطبة وغيرها لأن رفع الصوت في المسجد بدعة". وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتاويه: قال الزركشي: "السنة في سائر الأذكار الإسرار إلا بالتلبية". وقال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : "حَمَل الشافعي ـ رحمه الله ـ أحاديث الجهر على من يريد التعليم".
وقال ابن الحاج: "ينبغي أن ينهى الذاكرون في جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعدها وفي غيرها من الأوقات لأنه مما يشوش بها". وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "يأتي على الناس زمان يحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة؛ فلا تجالسوهم" [حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة : 1163].
دفن الموتى في المساجد أو بناء المساجد على القبور:
قد ورد النهي من الحبيب صلى الله عليه وسلم عن دفن الموتى في المساجد أو بناء المساجد على القبور، ولا أدل على ذلك من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: إني أبرأ إلى الله منكم أن يكون لي خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" [مسلم في صحيحه والنسائي في السنن الكبرى].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" [البخاري ومسلم وغيرهما].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" [رواه أحمد وابن خزيمة في الصحيح وابن حبان في الصحيح]، وهذه الأحاديث تدل على فوائد عديدة منها: حرمة اتخاذ القبور مساجد وصرح بذلك عامة علماء الطوائف ولا ريب في القطع بتحريمه، وتتعين إزالة المساجد المبنية على القبور وهذا لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف، ولا تصح عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك [القول المبين في أخطاء المصلين لمشهور حسن سلمان 70].
وقد قال الشوكاني ـ بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج" [رواه الخمسة إلاّ ابن ماجة] ـ قال رحمه الله : "وفيه دليل على تحريم اتخاذ القبور مساجد وقد زعم بعضهم أن ذلك إنما كان في ذلك الزمان لقرب عبادة الأوثان وردّه ابن دقيق العيد" [نيل الأوطار ج4 ص90-91].
بل إن الصلاة عند القبور مكروه ولو لم يبن عليها مسجد، فإنّ كل موضع يُصلى فيه فهو مسجد وإن لم يكن هناك بناء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك بقوله: "ولا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" [رواه مسلم في صحيحه]، وقال أيضاً: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً" [أخرجه البخاري ومسلم]، أي: كما أن القبور لا يصلى عندها ولا إليها ولا عليها، فلا تجعلوا بيوتكم كذلك، قال ابن قدامة رحمه الله: وإن بنى مسجداً في المقبرة بين القبور فحكمه حكمها – أي في عدم جواز الصلاة فيه – لأنه لا يخرج بذلك عن أن يكون في المقبرة، وقد روى قتادة أن أنساً مرّ على مقبرة وهم يبنون فيها مسجداً فقال أنس: "كان يُكره أن يُبنى مسجدٌ في وسط القبور" [المغني لابن قدامة 2/474].
فإن نُبشت القبور ونقلت منها جازت الصلاة فيها لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فنُبشت [متفق عليه].(/12)
واعلم أن بعضاً من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة إلى المقبرة ليس إلاّ لكونها مظنة النجاسة، ونجاسة الأرض مانع من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أم لم تكن ، وليس ذلك كل المقصود بالنهي وإنما المقصود الأكبر بالنهي هو مظنة اتخاذها أوثاناً كما ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه من بعده من الناس" [الأم للشافعي 1/246]، بل هذه العلّة هي التي نص عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" [أخرجه مالك في الموطأ وابو نعيم في الحلية وإسناده حسن]، وأخبر أن الكفار إذا مات فيهم الرجل بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة [متفق عليه].
وهنالك أمر لا بدّ من التعرض له وهو أنه قد ذكر بعض الفقهاء أن الكراهة تتعلق بما إذا كان القبر تجاه القبلة وإلاّ فلا كراهة، والراجح أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مضطردة في كل حال سواء كان القبر أمامه أم خلفه، عن يمينه أو عن يساره فالصلاة فيها مكروهة على كل حال، ولكنّ الكراهة تشتدّ إذا كانت الصلاة إلى القبر لأن المصلي في هذه الحالة يرتكب مخالفتين الأولى: الصلاة في هذه المساجد والأخرى: الصلاة إلى القبر وهي منهي عنها مطلقاً سواء كانت في المسجد أم غير المسجد بالنص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد 187-189، والقول المبين 72].
إقامة الحدود في المسجد:
ومما ينبغي أن تنزه عنه المساجد إقامة الحدود فيها لما ورد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقام الحدود في المساجد ولا يُستقاد فيها" [رواه أحمد وأبو داود والدارقطني]، قال الشوكاني بعد إيراده لهذا الحديث: "والحديث يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي" [نيل الأوطار1/ 158].
الجهر بالقرآن في المسجد:
عن البياض رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: "إن المصلي يناجي الله عز وجل فلينظر بم يناجيه، ولا يجهر بعظكم على بعض بالقرآن" [رواه أحمد وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهر بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن حذافة لا تسمعني وأسمع ربك" [رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح].
فائدة: الكلام في المسجد:
انتشر بين الناس أن الكلام المباح ممنوع في المسجد، بناءً على أن الأصل في الجلوس في المسجد إنما هو للصلاة والتلاوة والذكر والتفكر والتدريس مع عدم رفع الصوت والتشويش على المصلين، وهذا صواب ولكن الإسلام لم يمنع الكلام المباح في المسجد ما لم يكن فيه تشويش على المصلين، وأما ما يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" فلا أصل له كما قال العراقي [انظر تخريج أحاديث الإحياء 1/136، والألباني في السلسلة الضعيفة رقم 4، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع رقم 109]، وثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتكلمون على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الجاهلية فيضحكون ويبتسم صلى الله عليه وسلم، وهذا نص في جواز التحديث في المسجد بالحديث المباح، وإن حصل فيه ضحك ونحوه. عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: "أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون يأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم" [رواه مسلم في الصحيح].
ثالثا : مسائل مختلف في جواز حدوثها في المساجد:
وهنالك أمور ورد الخلاف بين العلماء في أحكامها بين مجيز ومانع ومن أهمها :
تناشد الشعر:
مما اختلف فيه العلماء بين مجوز ومانع له في المسجد؛ تناشد الأشعار فيه، فقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة.
واختلف العلماء في تناشد الأشعار فمِن مانع مطلقاً، ومن مجيز مطلقاً. والأولى التفصيل، وهو أن ينظر إلى الشعر، فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الذب عنهما، كما كان في شعر حسّان رضي الله عنه، أو يتضمن الحض على الخير أو الوعظ والزهد في الدنيا فهو حسن في المساجد كقول القائل:(/13)
فعن سعيد بن المسيب قال: مرّ عمر رضي الله عنه في المسجد وحسّان ينشد؛ فلحظ إليه، فقال حسّان: كنت أنشد وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"؟، فقال: نعم. [ متفق عليه].
وقال ابن العربي المالكي: "لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع. وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك" [انظر تفسير القرطبي12/271]. وقال الشوكاني رحمه الله: "وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر: قد كنت أنشد وفيه – يعني المسجد – من هو خير منك، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان غالب ما يتناشدونه مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدح الإسلام وأهله وذم الكفر وأهله، وفي ذلك مصلحة ظاهرة، وبهذه الخصوصية يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به" [السيل الجرار 1/ 180]. وقد روى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر الشعر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح".
النوم في المسجد:
ومن مواضيع الخلاف أيضاً النوم في المساجد فقال البعض إن النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له جائز، لأن في البخاري: وقال أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه: "قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الصفة"، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: "كان أصحاب الصفة فقراء، والصفة موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوي إليه المساكين".
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم"، وروى نافع أن ابن عمر أخبره أنه كان ينام وهو شاب لا أهل له في المسجد النبوي وفي رواية لابن ماجة كنّا ننام كما أوردها في الفتح [فتح الباري 1/535]. وفي الموطأ وأبي داود عن صفوان ابن أمية رضي الله عنه أنه حين جاء مهاجراً إلى المدينة نام في المسجد وتوسد رداءه [جامع الأصول3/601].
وترجم البخاري: باب نوم المرأة في المسجد، وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون عنها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ جاءت الحدياة فألقته بينهم، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وكان لها خِباء في المسجد أو حفش - والخباء: خيمة من صوف أو وبر، والحِفش بكسر الحاء: بيت صغير-.
ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رباح ـ رحمه الله ـ في المسجد أربعين سنة. نقل ذلك القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره.
الخاتمة :
وختاماً نسأل الله القبول لهذا العمل وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وإن كان ثمة شكر فينبغي لله أولاً، ثم الشكر لمن ساعد وعاون في إخراج هذا الكتيب، فإن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد المتواضع وأسأل إخواني أن يعينوني بحسن النصح فطوبي لمن أهدى إليّ عيوبي فلا أدعي كمالاً ولست من أهل تلك الدعوى :
أرجو أن أكون قد وفقت لبيان ما فيه الحق والصواب، لنعمل به خاصة فيما يتعلق المساجد لقدسيتها ووجوب رفعها وتحريم إنقاص قدرها فإنها بيوت الله التي وضعها لعباده ليقوموا له فيها، ويحفظوا جنابها.
والحمد لله أولاً وآخراً.(/14)
تذكير النفوس المؤمنة بأسباب سوء وحسن الخاتمة
رئيسي :الرقائق :
الحمد لله المستحق لغاية التحميد، بشر من أطاعه بالجنة والنعيم والتخليد، وحذر من عصاه من العذاب الشديد، ثم أما بعد،،،
فإن اللحظات التي ينقلب منها العبد إلى الشقاوة أو السعادة، لجديرة بأن يتفكر المسلم في خطرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا] رواه البخاري ومسلم. أي العبرة بما يختم به عمل العبد، وما منا من أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يختم له بسوء الخاتمة.
بكى سفيان الثوري ليلة، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب فأخذ تبنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوف سوء الخاتمة، لأنه الأمر الذي يبكي عليه، ويصرف الاهتمام إليه؛ ولذلك قيل:'لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك'. وقيل:' لا تكحل عينك بنوم، حتى ترى حالك بعد اليوم'.
وهذه تذكرة لي ولإخواني المسلمين بخطر الخواتيم، حتى يستحضر العبد هذه اللحظات الحاسمة التي يختم بها للعبد في الدنيا، ويترتب عليها مصيره في الآخرة .
1ـ خطر الخواتيم: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ فَقَالَ: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا] فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا] رواه البخاري ومسلم .
قوله: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا]؛ أي لا تصلح الأعمال الصالحة، حتى يختم للعبد بعمل صالح، فيدخل جنة الله .
فالخوف من سوء الخاتمة هو الذي طيَّشَ قلوب الصديقين، وحير أفئدتهم في كل حين، ليس لهم في الدنيا راحة:
أَرْوحُ بِشَجْوٍ ثُمَّ أَغْدُو بِمِثْلِهِ وَتَحْسَبُ أَنِّي فيِ الثِّيَابِ صَحِيحُ
كم سمعنا عمن آمن، ثم كفر، وكم رأينا من استقام، ثم انحرف؛ لذلك كان كثيرًا ما يردد عليه الصلاة والسلام من دعائه: [يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
ولقد ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض من آمن، فخرجوا من النور إلى الظلمات؛ منهم عبيد الله بن جحش، ودخل في النصرانية، وارتد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام خلقٌ، فقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال ابن الجوزي:' من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه إنتباهًا لا يوصف، ويقلق قلقًا لا يُحَدُّ، ويتلهف على زمانه الماضي. ويود لو ترك حتى يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف. فالعاقل من مثل تلك الساعة، وعمل بمقتضى ذلك. فإنه يكف كف الهوى، ويبعث على الجد.
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه، كان كالأسير لها. كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح، قال لامرأته: إذا مت اليوم ففلان يغسلني، وفلان يحملني.
وقال معروف لرجل: صل بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر، لم أصل بكم العصر، فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
وذكر رجلاً رجلا بين يديه بغيبة، فجعل معروف يقول له: اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك'.
2ـ خوف السلف رضي الله عنهم من سوء الخاتمة
العبد قبل أن تخرج روحه، يبشر بالنعيم، أو العذاب، فمن بشر بالنعيم، أحب لقاء الله، واشتاق إليه، فأحب الله لقاءه، ومن بشر بالعذاب، كره لقاء الله وأشفق منه، فكره الله لقاءه، ومن هنا كان خوف السلف؛ لأنهم ينتظرون في هذه اللحظات إحدى البشارتين:
بكى أبو هريرة عند موته،وقال:' والله ما أبكى حزنًا على الدنيا، ولا جزعًا من فراقكم، ولكن أنتظر إحدى البشريين من ربي، بجنة أم بنار'.
وعن إسماعيل بن عبيد الله أن أبا مسلم قال: جئت أبا الدرداء، وهو يجود بنفسه، فقال:' ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ثم قبض'.(/1)
ولما احتضر أبو بكر بن حبيب، وكان يدرس، ويعظ، وكان نعم المؤدب، قال له أصحابه لما احتضر أوصنا، فقال: أوصيكم بثلاث: بتقوى الله ـ عز وجل ـ ومراقبته في الخلوة، واحذروا مصرعي هذا، فقد عشت إحدى وستين سنة، وما كأني رأيت الدنيا، ثم قال لبعض إخوانه انظر هل ترى جبيني يعرق؟ فقال: نعم،فقال: الحمد لله هذه علامة المؤمن- يريد بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد .- ثم بسط يده عند الموت، وقال:
هَا قدْ مَدَدْتُ يَدِي إلَيْكَ فَرُدَّهَا بِالْفَضْلِ لا بِشَمَاتةٍ الأَعْدَاءِ
وقال الشعبي: لما طعن عمر، جاء ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين،أسلمت حين كفر الناس،وجاهدت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين خذله الناس، وقتلت شهيدًا، ولم يختلف عليك اثنان، وتوفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنك راض، فقال له: أعد مقالتك، فأعاد عليه، فقال:' المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس، أو غربت، لافتديت به من هول المطلع.
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة، بكى، فقيل له في ذلك، فقال: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي، لا أدري هل يبشرني بالجنة، أو بالنار.
ولما حضرت محمد بن سيرين الوفاة، بكى فقيل له: ما يبكيك، فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
ولما حضرت الفضيل بن عياض الوفاة، غُشِيَ عليه، ثم أفاق، وقال: يا بُعْدَ سفري، وقلة زادي.
ولما حضرت الوفاة عامر بن عبد قيس بكي، فيل له: ما يبكيك، قال أبكي لقوله تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[27] } [سورة المائدة].
3ـ معنى سُوءِ الْخاتِمَةِ:
سوء الخاتمة أن يموت العبد على حالة سيئة، من كفر، أو جحود، أو شك، وهذه الداهية العظمى، والرزية الكبرى، فإن ذلك يوجب لصاحبه الخلود في العذاب، وأدنى من ذلك أن يموت، وهو متلبس بمعصية من معاصي الله، أو مُصِرٌّ عليها بقلبه، والمرء يبعث على ما مات عليه.
4ـ أسْبَابُ سُوءِ الخاتمةِ:
1ـ فساد المعتقد، والتعبد بالبدع:
فإن أهل البدع هم أكثر الناس شكًا، واضطرابًا عند الموت؛ وذلك لسوء معتقدهم، وفساد قلوبهم، ومرضها بالشبهات، والشكوك، ولا ينفع الزهد، والصلاح، وإنما ينفع الاعتقاد الصحيح، المطابق لكتاب الله، وسنة رسوله؛ لأن العقائد الدينية لا يعتد بها، إلا ما أخذت منها.
وكم ختم لكثير من البشر بالسوء بسبب ما ابتدعوا في دين الله، فهذا ابن الفارض، عمر بن علي الحموي [المتوفى سنة 632هـ]،والذي كان ينعق بالاتحاد، ويقول بحلول الله جل وعلا في مخلوقاته، وأن الرب عبدٌ، والعبد رب، عندما احتضر، نظم بيتين من الشعر، وهو في تلك الحالة، يعبر فيهما عن شقوقه وعن هلاكه، يبكي، ويقول:
إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي في الْحُبِّ عِنْدكُمُ مَا قَدْ رَأَيْتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أَيَّامِي
أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثُ أَحْلاَمِ
قال ذلك عندما عاين سخط الله، وكشف له عن حقيقة أمره، وقل أن يختم لمبتدع في دين الله بالإيمان نسأل الله السَّلامةَ،والعافية.
2ـ ومن أسباب سوء الخاتمة مخالفة الباطن للظاهر: فقد يكون العبد بظاهره يعمل بطاعة الله، ولكنه يبطن النفاق، أو الرياء، أو يكون في قلبه دسيسة من دسائس السوء؛ كالكبر، أو العجب، فيظهر ذلك عليه في آخر عمره، ويختم له به، فتكون الخسارة الأبدية، كما في قصة الذي كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلى أحسن البلاء، ولكنه لم يفعل ذلك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما جرح استعجل الموت فانتحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ]رواه البخاري ومسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم: [فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ] يدل على أن باطنه، خلاف ظاهره، ولا يمكن أن تسوء خاتمة من صلح ظاهره، وباطنه، والله أعلم.
3ـ ومن أسباب سوء الخاتمة الإصرار على المعاصي،وإلفها: قال ابن القيم:' ومن عقوباتها-أي الذنوب، والمعاصي- : أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه...- إلى أن قال-: هذا، وثَمَّ أمرٌ أخوف من ذلك، وأدهى منه، وأمر؛ وهو أن يخونه قلبه، ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة؛ كما شاهد الناس كثيرًا من المحتضرين، أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ غلبتك، ثم قضى. وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ كَيفَ الطَّرِيقُ إلى حَمَّامِ مِنْجَابِ
ثم قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تاتنا تنتنا، حتى مات.(/2)
وقيل لآخر ذلك، فقال: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ارتكبتها؟ ثم مات، ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: ما يغني عني، وما أعرف أني صليت لله صلاة؟ ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: أنا كافر بما تقول، ولم يقلها، وقضى.
وقيل لآخر ذلك، فقال: كلما أردت أن أقولها، ولساني يمسك عنها' [الداء والدواء، [141 ـ 143]].
والأمثلة كثيرة جدًا، على أن الإصرار على المعاصي من أسباب سوء الخاتمة.
وهذه بعض القصص المعاصرة، والعبر المتأخرة، نسوقها للعبرة، والعظة، ومن لم يعتبر بغيره كان عبرة لغيره، والسعيد من اعتبر بغيره والشقي من اعتبر بنفسه.
* حصل حادث مروع في طريق مكة إلى جدة، قال من حضر المشهد: فلما رأينا منظر السيارة، ومشهدها الخارجيِ، قلت أنا، ومن معي من الإخوة: ننزل، فننظر ما حال هذا الإنسان، وكيف أصبح، فلما اقتربنا من الرجل، وجدناه في النزع الأخير من حياته، ووجدنا مسجل السيارة مفتوحًا على أغانٍ غربية باطلة، فأغلقنا المسجل، ثم نظرنا إلى الرجل، وما يعانيه من سكرات الموت، فقلنا: هذه فرصة لعل الله ـ عز وجل أن يجعل على أيدينا فلاح هذا الرجل في دنياه، وآخرته، فأخذنا نقول له: يا هذا، قل: لا إله إلا الله. أتدري يا أخي ـ بماذا تكلم في آخر رمقٍ من حياته؟
ليته ما نطق، لقد قال كلمة رهيبةً عظيمةً: لقد قال ـ عياذًا بالله تعالى من ذلك ـ بكلمته العامية- فسب دين الله ثم قال: ما بدي أصلي، ولا بدي أصوم، ثم مات على ذلك.
* وهذه قصة أربعة من الشباب، كلما سمعوا ببلد يفعل فيها الفجور، طاروا إليها، فبينما هم في ليلة من الليالي، وفي ساعة متأخرة من الليل، يجاهرون الله ـ عز وجل ـ بالمعصية والفجور، بينما هم في غمرة اللهو، والمجنون إذا بأحد الأربعة، يسقط مغشيًا عليه، فيهرع إليه أصحابه الثلاثة، فيقول له أحدهم: يا أخي، قل لا إله إلا الله، فيرد الشاب ـ عياذًا بالله ـ إليك عني، زدني كأس الخمر، وتعالي يا فلانة، ثم فاضت روحه إلى الله، وهو على تلك الحال السيئة ـ نسأل الله السلامة، والعافية.
ثم كان حال الثلاثة الآخرين، لما رأوا صاحبهم، وما آل إليه أمره، أنهم أخذوا يبكون وخرجوا من المرقص تائبين، وجهزوا صاحبهم، وعادوا به إلى بلاده، ولما وصلوا المطار، فتحوا التابوت ليتأكدوا من جثته، فلما نظروا إلى وجهه، فإذا عليه كدرة، وسواد ـ عياذًا بالله.
4ـ ومن أسباب سوء الخاتمة حب الدنيا: قال يحيي بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان؛ من سكر منها، فلا يفيق إلا في عسكر الموتى، نادمًا بين الخاسرين. قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا، ومفسدًا للدين من وجوه:
أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها، وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر اللهُ.
ثانيها: أن الله لعنها، ومقتها، وأبغضها، إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله، فقد تعرض للفتنة.
ثالثها: أنه إذا أحبها صيَّرَها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله، وسائل إليه، وإليه الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة .
رابعها: أن محبتها تجعلها أكبر هم العبد؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ] رواه الترمذي.
5ـ ومن أسباب سوء الخاتمة العدول عن الاستقامة: فالاستقامة على دين الله نعمة من الله ، ومن شُكْرٍ هذه النعمة الاعتراف بها باطنًا والتحدث بها ظاهرًا، والاجتهاد في الطاعة، ودعوة الناس على دين الله ـ عز وجل ـ، فمن ترك الاستقامة، فقد كفر هذه النعمة العظيمة، ومن ذاق طعم الإيمان، وعرف طريق الرحمن، ثم تنكبه، وأعرض عنه، اختار طرق الضلال عليه، وأثر الغي على الرشاد، والضلالة على الهدى، والفجور على التقى، كان ذلك أعظم أسباب سوء الخاتمة.(/3)
6ـ ومن أسباب سوء الخاتمة تعلق القلب بغير الله: إذا تعلق القلب بغير الله محبةٍ، أو توكلاً، أو خوفًا، أو رجاءً فلا بد أن يشقى العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ...] رواه البخاري . فالقلب يشقى بإعراضه عن الله، وتلعقه بغيره؛ ولذا نهى الله أن يزداد حب العبد لابنه، وأبيه، وأخيه، وزوجته، وماله؛ فيكون أكثر من حبه لله، أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24] } [سورة التوبة].
7ـ التسويف بالتوبة، والعمل الصالح: فمن أضر الأمور على العبد أن يقول: سوف أتوب، وسوف أعمل صالحًا، وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة، والعمل الصالح، قال تعالى: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ[54]وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ[55]أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ...[56] } [سورة الزمر].
سُمِعَ بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وقال آخر عند احتضاره، سَخِرَت بي الدنيا، حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تَغُرَّنّكُمُ الحياة الدنيا، كما غرتني.. وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ[99]لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[100] } [سورة المؤمنون].
وقال تعالى: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ...[54] } [سورة سبأ]، وفسره طائفة من السلف: بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها، قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان؛ سكرة الموت، وحسرة الفوت . وقال بعض السلف: أصبحتم في أمنية ناس كثير؛ يعني أن الموتى يتمنون حياة ساعة؛ ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك.
5ـ علامات سوء الخاتمة:
منها ما يكون عند الموت، ومنها ما يكون قبل الدفن، ومنها ما يكون عند الدفن، ومنها ما يكون بعد ذلك، وقد رويت حكايات كثيرة من أحوال الناس في الدفن، وفي القبور لا يقطع بصحة جميعها، ولكن نشير إجمالاً بأنه يمكن لآحاد الناس أن يطلع على شيء من أحوال القبور في اليقظة، والمنام؛ كما أشار إلى ذلك الأئمة الأعلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:' قد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره، وهو يعذب' [مجموع الفتاوى 5/256].
وقال:' وقد انكشف لكثير من الناس ذلك، حتى سمعوا أصوات المعذبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم، يعذبون في قبورهم، في آثار كثيرة معروفة'[السابق 24/376].
وقال ابن القيم:'رؤية هذه النار في القبر؛ كرؤية الملائكة، والجن تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يريه ذلك'[ الروح [93]]. وقد ذكر كثيرٌ من العلماء جملاً مستفيضة، وحكايات غريبة لأحوال المقبورين؛ فشأنها كشأن الإسرائيليات التي لا نقطع بصدقها، ولا بكذبها، مع إرساء هذا الأصل، وهو جواز وقوعها، والله أعلم.
علامات سوء الخاتمة قبل الموت:
فبعضهم يقع عند اشتداد المرض في التسخط، والاعتراض على قضاء الله، أو الجحود، والكفر بـ:' لا إله إلا الله': أو يصرح بأنه لا يستطيع أن ينطق بكلمة التوحيد، وأنه يحال بينه، وبينها، أو يتكلم بكلام يغضب الله، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن الجوزي قال : سمعت شخصًا يقول-وقد اشتد به الألم-: ربي يظلمني، وهذه حالة إن لم ينعم فيها بالتوفيق للثبات، وإلا فالهلاك. وهذا ما كان يقلقل سفيان الثوري؛ فإنه كان يقول: أخاف أن يشتد على الأمر، فأسأل التخفيف، فلا أجاب، فأفتتن[الثبات عند الممات، لابن الجوزي[80]]. ومن علامات سوء الخاتمة: أن يموت العبد على عمل يغضب الله؛ فيكون ذلك خزيًا له، وفضيحة في الدنيا، مع ما ينتظره في خزي الآخرة، وعذابها.(/4)
قال ابن القيم: والحكايات في هذا كثيرة جدًا، فمن كان مشغولاً بالله، وبذكره، ومحبته في حال حياته؛ وجد ذلك أحوج ما هو إليه، عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته، وصحته، فيعسر عليه اشتغاله بالله، وحضوره معه عند الموت، ما لم تدركه عناية ربه، ولأجل هذا، كان جديرًا بالعاقل أن يلزم قلبه، ولسانه ذكر الله حيثما كان؛ لأجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته[طريق الهجريتين، [308ـ309].].
علامات سوء الخاتمة عند التغسيل:
قال في 'تذكرة الإخوان بخاتمة الإنسان [47-48]': ولقد حدثني عدد ممن يغسلون الموتى، من مناطق مختلفة، عن بعض ما شاهدوه أثناء التغسيل، من هذه العلامات، والغريب في الأمر أنهم يتفقون على صفات معينة، يرونها على هؤلاء الموتى،أكثر هذه الحوادث متشابهة؛ من ذلك أن الرجل الذي يموت على الخير يبدو؛ وكأنه نائم، وأما من مات على خلاف ذلك، فيظهر عليه الفزع، وخوف الموت، مع تغير في وجهه، ولقد غسلت، وشاركت في التغسيل، ورأيت بعض ذلك، والحمد لله.
حدثني أحدهم، فقال: غَسَّلْتُ رجلاً، وكان لونه مصفرًا، وفي أثناء التغسيل، أخذ لونه يتغير إلى السواد من رأسه، إلى وسطه، فلما أنهيت من التغسيل، فإذا به قد أصبح كالفحمة السوداء.
قال: وميت آخر كان وجهه أثناء التغسيل متوجهًا نحو كتفه الأيسر، فلما أرجعته نحو الكتف الأيمن؛ عاد إلى جهة اليسرى، حتى لما وضعته في قبره، ووجهته نحو القبلة انصرف وجهه عنها إلى أعلى.
وحدثني مُغَسِّلٌ آخر غَسَّلَ رجلاً لونه مصفرًا، فلما فرغوا من التغسيل اسود وجه ذلك الرجل، فقلت له: أسود مثل لحيتي؟ قال: أسود كالفحم، قال: ثم صار يخرج من عينيه دم أحمر؛ وكأنه يبكي الدم ـ والعياذ بالله ـ.
وحدثني مُغَسِّلٌ آخر، فقال: دخلت ذات مرة على بعض الإخوان، وهم يُغَسِّلُونَ ميتًا فرأيت وجهه مسودًا؛ كأنه قرص محترق، وجسمه أصفر، ومنظره مخيفًا، ثم جاء بعض أهله؛ لينظروا إليه، فلما رأوه على تلك الصورة، فروا هاربين؛ خوفًا منه'.
علامات سوء الخاتمة عند الدفن:
قال في 'تذكرة الإخوان': وأما ما ظهر عند الإنزال في القبر ـ والعياذ بالله، فحدثني أحد المغسلين، فقال: غسلت عددًا كبيرًا من الموتى لسنين طويلة، وأذكر أني وجهت أكثر من مئة ميت، كلهم صرفت وجوههم عن القبلة.
'وقال أحد الفضلاء: كنا في رحلة دعوية إلى الأردن،وفي ذات يوم، وقد صلينا الجمعة في أحد مساجد مدينة الزرقاء، وكان معنا بعض طلبة العلم، وعالمٌ من الكويت، وبينما نحن جلوس في المسجد، وقد انصرف الناس، إذا بقوم يدخلون باب المسجد بشكل غير طبيعي، وهم يصيحون: أين الشيخ؟ أين الشيخ؟، وجاءوا إلى الشيخ الكويتي، وقالوا له: يا شيخ، عندنا شابٌ، توفي صباح هذا اليوم عند طريق حادث مروري، وإننا عندما حفرنا قبره، إذا بنا نفاجأ بوجود ثعبان عظيم في القبر، ونحن الآن لم نضع الشاب، وما ندري كيف نتصرف.
يقول الراوي: فقام الشيخ، وقمنا معه، وذهبنا إلى المقبرة، ونظرنا في القبر، فوجنا فيه ثعبانًا عظيمًا قد التوى؛ رأسه في الداخل، وذنبه في الخارج، وعينه بارزة يطالع الناس. قال الراوي: فقال الشيخ دعوه، واحفروا له مكانًا آخر.
يقول: فذهبنا إلى مكان آخر بعد القبر الأول بمائتي متر تقريبًا، فحفرنا، وبينما نحن في نهايته، إذا بالثعبان يخرج، فقال الشيخ: انظروا القبر الأول، فإذا بالثعبان قد اخترق الأرض، وخرج من القبر الأول مرة أخرى. قال الشيخ: لو حفرنا ثالثًا، ورابعًا، سيخرج الثعبان فما لنا حيلة إلا أن نحاول إخراجه.
يقول الراوي: فجئنا بأسياخ، وعصى، فانحمل معنا، وخرج من القبر، وجلس على شفيره، والناس كلهم ينظرون إليه، وأصاب الناس ذعرٌ، وخوفٌ، حتى إن بعضهم حصل له إغماء، حملته سيارة الإسعاف. وحضر رجال الأمن، ومنعوا الاتصال بالقبر، إلا عن طريق العلماء، وذوي الميت.
يقول الراوي:وبينما جيء بالجنازة، وأدخلت القبر، إذا بذلك الثعبان يتحرك حركة عظيمة ثار على أثرها الغبار، ثم دخل من أسفل القبر، فهرب الذين داخل القبر من شدة الخوف، والتوى الثعبان على ذلك الميت، وبدأ من رجليه، حتى وصل رأسه، ثم اشتد عليه، فحطمه: يقول الراوي: إنا كنا نسمع تحطيم عظامه؛ كما تحطم حزمة الكرات.
يقول الراوي:ثم لما هدأت الغبرة، وسكن الأمر جئنا لننظر في القبر، وإذا الحال كما هي عليه؛ من تلوي ذلك الثعبان على الميت، وما استطعنا أن نفعل شيئًا. وقال الشيخ: اردموه فدفناه، ثم ذهبنا إلى والده، فسألناه عن حال ابنه الشاب؟ فقال: إنه كان طيبًا مطيعًا، إلا أنه كان لا يصلي ـ نعوذ بالله من سوء الختام'[ رسالة عاجلة إلى المسلمين، [46ـ50]، وقال المصنف: سمعتها من الشيخ. سعيد بن مسفر].(/5)
وقد ورد في 'تذكرة القرطبي'[1/170] قصة مشابهة، قال القرطبي:'وأخبرني صاحبنا الفقيه العالم أبو عبد الله، محمد بن أحمد القصر رحمه الله أنه توفي بعض الولاة بقسطنطينية فَحُفِر له، فلما فرغوا من الحفر، وأرادوا أن يدخلوا الميت القبر، إذا بحية سوداء داخل القبر، فهابوا أن يدخلوه فيه، فحفروا له قبرًا آخر، فإذا بتلك الحية،فلم يزالوا يحفرون له نحوًا من ثلاثين قبرًا، وإذا بتلك الحية، تتعرض لهم في القبر الذي يريدون أن يدفنوه فيه، فملا أعياهم ذلك سألوا ما يصنعون؟ فقيل لهم: ادفنوه معها، نسأل الله السلامة، والستر في الدنيا، والآخرة'.
علامات سوء الخاتمة بعد الدفن:
فمن ذلك: قصة الرجل الذي نبذه القبر في عهد النبوة: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ فَرَفَعُوهُ قَالُوا هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ فَأُعْجِبُوا بِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ فَأَصْبَحَتْ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا. رواه البخاري ومسلم .
ومن ذلك: ما ذكره ابن القيم قال: حدثني صاحبنا أبو عبد الله، محمد بن الوزير الحراني، أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان بعد غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها، وهو خمرة نار؛ مثل كوز الزجاج، والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني، وأقول: أنائمٌ أنا أم يقظان؟ ثم التفت إلى سور المدينة، وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي، وأنا مدهوش، فأتوني بطعام، فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مَكَّاسٌ قد توفي ذلك اليوم'.
6ـ أسباب حسن الخاتمة:
1ـ من أسباب حسن الخاتمة تقوى الله: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[102] } [سورة آل عمران]. فتقوى الله من أعظم أسباب حسن الخاتمة، والموت على الإسلام.
والتقوى هي أعلى درجات الإيمان، وقد وعد الله أهل الإيمان بالتثبيت في الحياة الدنيا وفي الآخرة،
فقال تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27] } [سورة إبراهيم].
كما وعد الله أهل التقوى بالمخرج من كل ضيق، فقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً[2]وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[3] } [سورة الطلاق].
ولا شك أن العبد في حال السكرات في شدة، وقد وعد الله المتقين باليسر بعد الشدة، فقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً[4] } [سورة الطلاق].
2ـ ومن أسباب حسن الخاتمة الاستقامة: قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[30] } [سورة فصلت].
فأهل الاستقامة هم الذين تنزل عليهم ملائكة الله، عند الموت بالبشارة بالجنة، والنجاة من النار، إشارة على أنهم يوفقون للخاتمة الحسنة، التي تكون سببًا في دخول الجنة، والنجاة من النار.
3ـ ومن أسباب حسن الخاتمة الصدق:(/6)
قال الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[119] } [سورة التوبة] فالصدق من أعظم أسباب حسن الخاتمة، عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ أُهَاجِرُ مَعَكَ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ: [قَسَمْتُهُ لَكَ] قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: [إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ] فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَهُوَ هُوَ] قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: [صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ] ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: [ اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ] رواه النسائي.
فالعبد إذا صدق في إيمانه، وفي أقواله، وأفعاله يوفق لحسن الخاتمة، وينال سعادة العاجلة، والآجلة.
4ـ ومن أسباب حسن الخاتمة ذكر الموت، وزيارة القبور .
5ـ ومن أسباب حسن الخاتمة حسن الظن بالله عند الموت، وعلى كل حال:
فَعَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: [لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ]رواه مسلم . وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: [كَيْفَ تَجِدُكَ] قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ] رواه الترمذي وابن ماجة.
وعن المعتمر بن سليمان، قال: قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله، وأنا حسن الظن به، وعن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
6ـ ومن أسباب حسن الخاتمة المبادرة بالتوبة، ورد المظالم:
قال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[31] } [سورة النور].
7ـ ومن أسباب حسن الخاتمة الحذر من أسباب سوء الخاتمة التي سبق ذكرها.
7ـ علامات حسن الخاتمة: إن الشارع الحكيم قد جعل علامات بينات يستدل بها على حسن الخاتمة، فأيما أمرئ مات بإحداها، كانت بشارة له، ويا لها من بشارة.
الأولى: نطقه بالشهادة عند الموت، وفيه أحاديث:
1ـ[مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه أبوداود وأحمد.
2ـ عَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَى عُمَرُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَقِيلًا فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا فُلَانٍ لَعَلَّكَ سَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ يَا أَبَا فُلَانٍ قَالَ لَا إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا مَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ إِلَّا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: [إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا أَشْرَقَ لَهَا لَوْنُهُ وَنَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ] قَالَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا هِيَ قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ تَعْلَمُ كَلِمَةً أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ طَلْحَةُ صَدَقْتَ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ.رواه ابن ماجة وأحمد .(/7)
الثانية: الموت برشح الجبين: لحديث ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّه كَانَ بِخُرَاسَانَ فَعَادَ أَخًا لَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَوَجَدَهُ بِالْمَوْتِ وَإِذَا هُوَ يَعْرَقُ جَبِينُهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَوْتُ الْمُؤْمِنِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ]رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.
الثالثة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها: لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ] رواه الترمذي وأحمد.
الرابعة: الاستشهاد في ساحة القتال: قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171] } [سورة آل عمران].
وفي ذلك أحاديث:
1ـ [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
2ـ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ قَالَ: [كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً] رواه النسائي.
الخامسة: الموت غازيًا في سبيل الله:لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ فَصَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ أَوْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ بِأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ وَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ] رواه أبوداود.
السادسة: الموت بالطاعون: عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ بِمَ مَاتَ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَتْ قُلْتُ بِالطَّاعُونِ قَالَتْ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ] رواه البخاري ومسلم.
السابعة: الموت بداء البطن:لقوله صلى الله عليه وسلم: [...وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
الثامنة: والتاسعة: الموت بالغرق، والهدم: لقوله صلى الله عليه وسلم: [...الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...] رواه البخاري ومسلم .
العاشرة: موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها:لحديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالنُّفَسَاءُ شَهِيدٌ يَجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ]رواه أحمد.
الحادية عشر، والثانية عشر: الموت بالحرق وذات الجنب: وفيه أحاديث أشهرها عن جابر بن عتيك مرفوعًا: [ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ] رواه أبوداود والنسائي ومالك وأحمد.
الثانية عشر: الموت بداء السل: لقوله صلى الله عليه وسلم: [الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ، وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ ، وَالْحَرِقُ شَهَادَةٌ ، وَالْغَرِقُ شَهَادَةٌ ، والسِّلُّ شَهَادَةٌ ، وَالبطنُ شَهَادَةٌ] رواه الطبراني في الكبير.
الرابعة عشر: الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه: لقوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه البخاري ومسلم.
الخامسة عشر: والسادسة عشر: الموت في الدفاع عن الدين والنفس:لقوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ] رواه الترمذي والنسائي وأحمد.(/8)
السابعة عشرة: الموت مرابطًا في سبيل الله: لقوله صلى الله عليه وسلم: [ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ] رواه مسلم .
الثامنة عشر: الموت على عمل صالح: لقوله صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ حَسَنٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه أحمد.
8 ـ أمثلة لحسن الخاتمة
1ـ أنس بن مالك رضي الله عنه: عن أنس بن سيرين، قال: شهدت أنس بن مالك، وحضره الممات، فجعل يقول: لقنوني: لا إله إلا الله، فلم يزل يقولها، حتى قبض رحمه الله.
2ـ مجاهد بن جبررحمه الله: قال الفضل بن دكين: مات مجاهد، وهو ساجد .
3ـ أبو بكر بن أبي مريم رحمه الله: عن يزيد بن عبد ربه، قال: عدت أبا بكر بن أبي مريم، وهو في النزع، فقلت له: رحمك الله، لو جرعت جرعة ماء؟ فقال بيده: لا. ثم جاء الليل، فقال: أذن؟ فقلت: نعم، فقطرنا في فمه قطرة ماء، ثم مات.
4ـ عبدالله بن المبارك رحمه الله: قيل: فتح عبدالله بن المبارك عينيه عند الوفاة، وضحك، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
5ـ بشر بن منصور رحمه الله :قال عبد الأعلى بن حماد البرقي: دخلت على بشر بن منصور، وهو في الموت، فرأيته مستبشرًا، فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: أخرج من بين الحاسدين، والباغين، والمغتابين، وأقدم على رب العالمين، ولا أفرح؟.
من كتاب:' تذكير النفوس المؤمنة بأسباب سوء وحسن الخاتمة' للشيخ/أحمد فريد(/9)
ترانيم موحد
...
مقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضي، وصلي الله تعالي علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه أما بعد:
فهذه (ترانيم موحد) غلب عليه نفس العلم، وحملها كف الحب. ففيها النصح والتوجيه؛ والدفاع والنصرة لمنهج الحق؛ ولحملة الدين، وحفاظ الملة، تميلها الغيرة علي مبادئنا الراشدة، وتراثنا الخالد من كتاب الله تعالي وسنه رسوله صلي الله عليه وسلم اللذين هما سر شرفنا وعزنا ونجاتنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة.
والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل
عائض القرني
10/1/1420هـ
فضل العلم
دع الهوينى لأهل العجز والكسل
وعانق الصبر وأغنم ساعة العمل
ولامس النجم في عز وفي شرف
وسابق الريح في حل ومرتحل
والله لو كنت تدري ما خلقت له
لبات قلبك بالأشجان في شغل
ولا سعدت بنوم أو لهوت بما
يلهيك عن منزل السادات والنبل
ولا رضيت بدنيا كلها ندم
سعت لكل حقير من بني السفل
فبادر العمر جد السير وا لهفي
علي ليال وأيام لنا أول
يكفيك أن رفيق العلم منزله
بين السماكين مرفوعا علي زحل
تهفو له الشمس والجوزاء تحسده
يبيت فوق حشايا الجد في قلل
استشهد الله أهل العلم فضلهم
علي جميع البرايا من بني الدول
وميز الله حتى في البهائم ما
منها يعلم في صيد وذي جهل
والهدهد اجتث بلقيسا وهدهطها
بالعلم جاء سليماناً علي عجل
ذو العلم حي ولو ذابت حشاشته
له الجلالة عن حاف ومنتعل
حتى الملائكة الأبرار تذكره
والنمل يدعو له في السهل والجبل
مداده كرم جاد الشهيد به
في حومة الهول بين البيض والأسل
أقلامه تعمر الدنيا إذا نطقت
ألواحه صحف الرضوان والأمل
كلامه درر أحكامه عبر
أفعاله أثر لله من حلل
يقضي ويمضي وكل الناس تقبله
في ساعة الجد أو في ساعة الهزل
والله لو وزنوا الدنيا بزخرفها
ما عادلت كلمة من لفظه الجزل
أو قدموها قناطيراً مقنطرة
ما وازنت حرف علم صافي النهل
مات الملوك وأهل العلم ذكرهمو
كالمسك في الناس ند عشرق جزل
لو أن عبداً حقير الأصل ممتهناً
أصك مفتولة أذناه كالثعل
ممزق الثوب عار الظهر مشفرة
كمشفر الضب والكفان في شلل
أثط أفطس قد طالت ضفائره
طعامه من رخيص البقل والدقل
وعنده من علوم الوحي لانصدعت
له القلوب وصار الكون في جزل
ووقرته ملوك الأرض وارتجفت
له المنابر في عز وفي جلل
وقربت نعله الأشراف وافتخرت
به المدائن من سهل ومن جبل
منهج الدعاة
لله الحمد ما لبي ملب وهللا
وما قام عبد بالكتاب ورتلا
وصل علي المختار من آل هاشم
مع آله والصحب أعلي وأكملا
أيا داعيا لله هاك وصيتي
عليك بتقوى الله يا صاح أولا
وكن طالباً للعلم في كل ساعة
حريصاً عليه مجملا ومفصلا
وبالحكمة أنصح لا تكن ذا شراسة
غليظاً وفظاً صاخباً متعجلا
عليك بأمر الرفق فهو محبب
وكن لا لاهي ذاكراً متبلا
وكن طيباً كالنحل يخرج طيباً
وتخرج شهداً صافياً ومعسلا
ولا تك نذلاً كالذباب مجثماً
علي كل جرح للمحاسن مغفلا
وغض عن الزلات واستر معائبا
وسامح عن التقصير وأعف تفضلا
رحيما قريباً خاشعاً ذا عزيمة
قوياً حليماً صامتاً متهللا
تقياً عفيفاً خاشعاًُ ذا عزيمة
قوياً بأمر الله للناس موئلا
ولا تنه عن شي وتأتيه ظالماً
فتستوجب المقت المعجل والقلا
وتابع رسول الله في كل خلة
فسنته أغلي وأحلي وأنبلا
وكن سلفي النهج لا رب بدعة
فمبتدع في الدين اخزي وأخذلا
وكن زاهداً فالزهد أجمل حله
قنوعاً صبوراً مخبتاً متجملا
وأوصيك بالإخلاص تنجو من الردى
كفي لك بالإخلاص أصلاً مؤصلا
وكن وسطاً في كل أمر فإنه
سبيل تراه للشريعة أسهلا
وبشر ويسر لا تعسر منفرا
وأوجز إذا حدثنا متخولا
وكن باسماً طلق المحيا مرحبا
وضيفك أكثر ثم أهلاً وسهلا
كريماً فإن الجود أعظم ملبس
تري الفسل عرياناً وإن كان مسبلا
ولا تنظر عند الشدائد صاحبا
ولو كنت ذا مجد معماً ومخولا
فما أكثر الأصحاب حين تعدهم
وتلقاهم في النائبات سبهلا
ولا تكشف في حالة الفقر والغني
فكم حاسد أو شامت رام مقتلا
كتابك أوفي الناس إن خان صاحب
فكن حلس بيت لا تضام وتبتلى
ودع أمس قد ولى فلا تذكرنه
كذاك غداً لو كان بالسعد مقبلا
وعش في حدود اليوم وانتظر الردى
بهمة شهم يقطع السير مرقلا
وإن لمست أذنيك كلمة جاهل
فلا تنتقم منه تكن أنت أجهلا
كأنك لم تسمع فما ساد سيد
بغير احتمال فاحتمل تلف أفضلا
ولا تمس إلا سالم الصدر خاليا
من الحقد والبغضاء تصبح أمثلا
فوالله ما ساد الحسود وما علا
علي الناس إلا من بني العفو منزلا
ولا تك سباباً غضوباً مخاصما
فتصبح ممقوتاً كريهاً مجندلا
لسانك قيدها ولا تطلقنها
تري كل لفظ في الكتاب مسجلا
ولا تنس يوماً يصبح الطفل أشيباً
به ويصير الصخر فيه مهلهلا
وتذهل عما أرضعت كل مرضع
وتجهض عن حمل إذا كن حملا
فو أسفي إن اصبح السعي ضائعا
وواحسرتا إن اصبح الجهد مغفلا
وويلاه إن غلت يدا كل ظالم
وأقبل يعنو في الحديد مكبلا
يقول أنا أعمي وقد كنت مبصرا
لأنك في دنياك قد كنت مهملا
أقم أيها الداعي من الحق منهجاً
ورد منهل التوحيد يكفيك منهلا(/1)
ولا تقبل الأفكار إلا بشاهد
من الوحي وأحذر لا تكن متأولا
وقف موقف الأسلاف من كل نحله
ويا صاحب البرهان كن متعقلا
ودع عنك أراء الرجال إذا خلت
من النص حتى لا تصير مضللا
وإياك والتقليد وأتبع محمداً
فسنته ترقي بك المجد والعلا
فليس سوي شرع النبي محمد
نجاة فكم ليل بطلعته انجلى
فتابعه والزم نهجه وسبيله
لتلقاه في الأخرى أغر محجلا
دع الغي واركب في سفينة أحمد
فطوفان أهل الغي جاءك مقبلا
عليك بتوقير الصحابة كلهم
هم القوم وتلقاهم أبر واعدلا
يزكهم الرحمن جل جلاله
أهل بعد هذا يطلب الناس مقولا
رضوا كلهم عن ربهم فأثابهم
رضاً واصطفاهم للشريعة جحفلا
عليهم من الرحمن خير تحية
تضوع مسكاً أوتفت قرنفلا
وجزاهم الرحمن خير جزائه
فقد عمرو بالدين ربعاً معطلا
همو بذلوا الأرواح والهول صاخب
وسيف المنايا صار نصلا مفلالا
همو قدموا أعناقهم في مواقف
لتقطع في ذات الإله وتفضلا
همو نصروا الإسلام من كل فاجر
همو بذلوا يوم المغارم ما غلا
فإن كنت لا تستطع مثل فعالهم
فلاتك عيابا لهم ومجهلا
ولا تشتري بالخلد عيشا منعما
ولا ترضي إلا أن تكون المبجلا
فدنياك لا تعدل جناح بعوضة
فتباً لها من مسكن الهم والبلا
وأوصيك بالقران أعظم ناصح
له النفع يأبي عاجلاً ومؤجلا
فرتله واطلب من إلاهك أجره
وإياك أن تغدو به متأكلا
وخذ بوصاياه وسلم بوعده
وصدقه في أخباره متأملا
فما بعده قول ولا فوقه هدى
ولا دونه رشد ولا مثله علا
تلاوته أجر وصحبته تقى
وتحكيمه فوز وترديه حلا
عليك أخانا بالحياء فإنه
كتاج غدا بالصالات مكللا
لتذكر عند الله في خير حضرة
وتشكر عند الله في صفوة الملا
وإن كثرت منك الذنوب ولم تعد
تطيق الخطايا أو ضجرت تململا
فتب توبة الأخيار مهما تراكمت
عليك ذنوب صرت منها منكلا
فربك غفار رحيم مسامح
تري عفو ذي الغفران أوفي وأجزلا
وعش حلال واقتصاد وحرة
وحاذر أديم الوجه أن يتبذلا
وإياك والإسراف واللهو والخنا
ولذ بجلال الله ربي توكلا
وما المجد إلا العلم أشرف رتبة
فلا تك في تقييده الدهر مهملا
فو الله لو تدري بأفضال نفعه
فما بت إلا فيه صباً محصلاً
هم صفوة الرحمن في الناس كلهم
سوي من أتي بالوحي غضا وأرسلا
طلابه أزكي البرية مذهبا
وحفاظه مثل النجوم تهللا
تري الكلب إن علمته حل صيده
ويحرم صيد الكلب إن عاش مهملا
وفي النمل يروي هدهد فضل علمه
أتي سليمان النبي مفضلا
دفاع عن الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالي
الحق أبلج والسيوف عواري
شحذت لأهل الرجس والأوزار
من كف صنديد إذا حمي الوغي
خاض الردي بالصارم البتار
للحق أوس آخرون وخزرج
بلقرن قومي من بني الأنصار
ولقد فجعت وزاد همي إذ أتي
خبر يفوق جلائل الأخبار
قالوا بأن سخيف عقل تافه
أهدي الأذى لمجدد الأقطار
تبت يدا هذا الحقير وأفلست
كفاه إذ يبني بجرف هار
ما ضر نور الشمس خامل
متحذلق من كل فضل عار
وضع القبول لشيخنا وإمامنا
في السهل والأنجاد والأغوار
وردت فضائله الأنام وسافرت
شهراً رسائله مع الخطار
واستقبل التاريخ فجر حضوره
والناس حيت علمه بنهار
عمرت رسائله القلوب وأبهجت
فتواه أهل البدو والحضار
ودعا له في الأرض كل موحد
من ارض أندلس إلي سنجار
وهوت على صيحاته وندائه
أوثان شرك ملاعب الكفار
سحقت به الأصنام وانتصرت به
أجيال أحمد سيد البرار
وتفتحت كل القلوب لقوله
إذ اصله مما أتي في الغار
كانت قبور الشرك يذبح عندها
ويطوف أهل الجهل بالأحجار
وتقرب القربان من أهل الهوى
وتعلق الشارات بالأشجار
حتى أتي المجدد حاملاً
نور الهدي من شرعة المختار
ما زاد في دين الرسول زيادة
كلا ولم ينقص عن المقدار
بل تابع المعصوم في تعليمه
وسقي القلوب بفيض نهر جار
ما كان صوفياً ولم يك غالياً
حاشاه من نصب ورفض طاري
كلا وما كان الخوارج صحبه
ما ذاك في ورد ولا إصدار
بل كان سنياً إماماً عالماً
حمل الهدي حبر علي الأحبار
وعلب الدليل بني جميع أصوله
من منبع القرآن والآثار
هو قامع الشرك الوبيل بسيفه
ومجدد الإسلام في الأمصار
نسف الضلالة والخرافة والهوى
والبدعة الشنعاء بالبتار
صارت محبته علامة ناصر
للدين والبغضاء للأشرار
فإذا رأيت المرء يلمز نهجه
ويعيبه بدسائس الأفكار
فأهجر مريض القلب في أهوائه
ودع الخنا لمجالس الفجار
تمت خسارة كل من كره الهدي
والله يلحقه بأهل النار
فاز الإمام محمد بمكانة
تسمو علي الجوزاء في المقدار
وله لسان الصدق في أزماننا
مسك المديح كجونة العطار
فرحت بدعوته المدائن كلها
فرح الديار بصب الأمطار
وتباشرت كل القرى بقدومه
كتباشر العباد بالأسحار
طالع رسائله ودونك علمه
واستفت قلبك فهو ذو أسرار
فإذا رأيت الصدر مشروحاً له
والقلب في فرح وفي إعمار
فاحمد إلاهك إذ هداك ولا تقل
حزت الهدى بجدارة وبدار
وكتابة التوحيد كرر درسه
ما مل من درس ومن تكرار
فهو المصفى من جميع شوائب
قد صانه من لوثة وعثار
وهو الفريد أصالة وبراعة
هتفت له الأرواح بالإكبار
وجميع ما خطت يمين إمامنا
هي غاية التحقيق للأخبار(/2)
فا الله يجزيه الذي هو أهله
ويحله في الخلد عقبي الدار
ويذل شانئه ويمحق خصمه
ويضاعف النكبات للكفار
يا رب يا من نصره متحقق
لا تبق فوق الأرض من ديار
وإذا هجا نذل إماماً بارعاً
ما ضر ليث الغاب صوت الفار
خذها قواف كالصواعق أرسلت
قد حل بالأنذال يوم دمار
إن لم يكن حسان رب قريضها
فأنا نسجت بشعره أشعاري
دفاع عن الصحابة
ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ
دع عنك لومي يا حسود وأبعد
فأنا علي نهج النبي محمد
قضيت في علم الرسول شبيبتي
ونهلت بالتعليم أعذب مورد
تابعت أصحاب الحديث كأحمد
وكمالك ومسدد بن مسرهد
وبرئت من أهل الضلال وحزبهم
أو رأي زنديق وآخر ملحد
ونبذت رأي الجهم نبذ مسافر
لحذائه والجعد عصبة معبد
لا للخوارج لست من أتباعهم
هل أرتضي نهج الغوي المفسد
فولاة أمر المسلمين نطيعهم
نأبى الخروج علي الإمام المهتدي
والمرجئون نفضت كفي منهمو
والصقر لا يأوي لبيت الهدهد
والرفض أخلعه وأخلع أهله
هم أغضبوا بالسب كل موحد
كلا ولا أرضى التصوف مشرباً
تباً لهم من فرقة لم تهتد
كثتب ابن تيمية حسوت علومها
ونسختها في القلب فعل الأمجد
ومع المجدد قد ركبت مطيتي
من نجد أشرق مثل نور الفرقد
لا تسمعن لحاسدي في قوله
والله ما صدقوا أيصدق حسدي؟
والله لو كرهت يدي أسلافنا
لقطعتها ولقلت سحقاً يا يدي
أو أن قلبي لا يحب محمداً
أحرقته بالنار لم أتردد
فأنا مع الأسلاف أقفو نهجهم
وعلي الكتاب عقيدتي وتعبدي
فعلي الرسول وآله وصحابه
مني السلام بكل حب مسعد
هم صفوة الأقوام فأعرف قدرهم
وعلي هداهم يا موفق فأهتد
واحفظ وصية أحمد في صحبه
واقطع لأجلهم لسان المفسد
عرضي لعرضهمو الفداء وإنهم
أزكي وأطهر من غمام أبرد
فالله زكاهم وشرف قدرهم
وأحلهم بالدين أعلي مقعد
شهدوا نزول الوحي بل كانوا له
نعم الحماة من البغيض الملحدد
بذلوا النفوس وأرخصوا أموالهم
في نصرة الإسلام دون تردد
ما سبهم إلا حقير تافه
نذل يشوههم بحقد أسود
لغبار أقدام الصحابة في الردى
أغلي وأعلي من جبين الأبعد
ما نال أصحاب الرسول سوي امرئ
تمت خسارته لسوء مقصد
هم كالعيون ومسها إتلافها
إياك أن تدمي العيون بمرود
من غيرهم شهد المشاهد كلها
بل من يشابههم بحسن تعبد
ويل لمن كان الصحابة خصمه
والحاكم الجبار يوم الموعد
كل الصحابة عادلون وليس في
أعراضهم ثلب لكل معربد
أنسيت قد رضي الإله عليهم
في توبة وعلي الشهادة فاشهد
فإذا سمعت بأن مخذولاً غدا
في ثلبهم فاقطع نياط المعتدي
مفتاح سبهم الموفق خالنا
أزجي التحايا للحليم الأرشد
أعني معاوية الجليل وحسبه
إذ كان كاتب وحينا ثبت اليد
ما اختار المختار إلا أنه
حبر أمين في صراط مهتد
ودعا له خير الأنام وبوركت
أيامه في ملك عدل أرغد
حتى تقي الدين قال: دعا النبي
لا أشبع الرحمن بطن الأبعد
هو من مناقبه وخير خصاله
فأضف إلي تلك المناقب واعدد
ولعمرو داهية الدواهي حبنا
مهما جري حاز الرضي بتفرد
أنعم بفاتح مصر من قوادنا
لله درك من همام أوحد
لو كان في إيمانه شك لما
ولاه خير الخلق جيش المسجد
صلي بأصحاب الرسول ولم يكن
حاشاه من أهل النفاق بمشهد
لكن بغضهم يحاول ثلبهم
بتربص وتحرش وترصد
هو كالذباب علي الجراح وهمه
وضع الأذى فعل الحقود الأنكد
حب الصحابة واجب في ديننا
هم خير قرن في الزمان الأحمد
ونكف عن أخطائهم ونعدها
أجراً لمجتهد أتي في المسند
ونصونهم من حاقد ونحوطهم
بثنائنا في كل جمع أحشد
قد جاء في نص الحديث مصححاً
الله في صحبي وصية أحمد
فبحبهم حب الرسول محقق
فأحذر تنقصهم وعنة فأبعد
هم أعمق الأقوام علماً نافعاً
وأقلهم في كلفة وتشدد
وأبرهم سعياً وأعظمهم تقي
طول المدى من منته أو مبتدي
قول أبن مسعود الصحابي ثابت
في فضلهم وإذا رويت فأسند
وعلامة السني كثرة ذكرهم
بالفضل إن الفضل تاج مسود
ثم الدعاء لهم وبث علومهم
وسلوك منهجهم برغم الحسد
وبراءة من مبغضيهم دائماً
والكره للضلال والرأي الردي
ووجوب نصرتهم علي أعدائهم
من رافض أو ناصب أو ملحد
يا لائمي في حب صحب محمد
تبت يداك وخبت يوم الموعد
نحن الفداء لهم وليت فدؤانا
أعداءهم خير بشر نفتدي
طهر لسانك من تنقصهم ولا
تسمع لنذل للغواة مقلد
واذهب مع الأسلاف في توقيرهم
لصحابة والزم هداهم تسعد
واركب سفينة نوح تنج من الردى
فالسنة الغراء حصن موحد
هو مذهب الأخيار كابن مسيب
وكمالك والشافعي وأحمد
أفتي تقي الدين فتوي عالم
في سفرة المنهاج في حرب الردي
من سبهم فالفيء عنه محرم
بل ليس من أتباعهم هو معتدي
واقرأ كلاماً في الإصابة رائعاً
وكذا أبن عبد البر إذ يشفي الصدي
وانصت إلي الذهبي في أخباره
عن فضلهم وكذا المحب وأورد
لابن الكثير فإنه ذو سنة
وعليه في نجد كلام مجدد
في لمعة والواسطية نهجنا
فعلي قواعدنا بنانك فاعقد
رتب منازلهم علي ما جاء في
تفضيلهم واحذر كلام مفند
فالراشدون أجللهم قدراً علي
ترتيبهم بخلافة وتسيد
ومبشرون بجنة فضلهمو
وكمن أتي بدراً بحسن المشهد
ولبيعة الرضوان فضل زائد
ولهل بيت المصطفي خير الندي
يا رب أنقذ صحبة من ظالم(/3)
من ينجد المظلوم إن لم تنجد
فالله يجمعنا بهم في جنة
في مقعد عند المليك مخلد
ما عائض القرني إلا خادم
لعلومهم والله ربي مقصدي
صلي الإله علي الرسول وآله
وصحابة ولكل عبد مهتدي
والحمد لله أولاً وصلي الله علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(/4)
تربية الأبناء ـ رؤية مشتركة2
إن موضوع تربية الأبناء مثار جدل ونقاش، وأيضًا مثار للخلافات بين الزوجين، إن حالات الطلاق والفشل في الزواج ترجع معظمها إلى اختلاف رؤية الزوجين في تربية الأولاد.
وبداية لا بد أن نقر مبدأ إسلامية الزواج أساسي لنجاح الزواج واستمراره وأيضًا نجاح كل من الزوجين في تربية أبنائهما.
ـ فنقول إن النجاح في الزواج أساسه في اختيار المرأة الصالحة والزوج الصالح، ونجاح الزوجين في الانصهار في بوتقة الإسلام على تربية الأولاد التربية الإسلامية المنشودة.
ـ أما الفشل في تحقيق الزواج الإسلامي وسوء اختيار المرأة وسوء اختيار الرجل فله عواقب وخيمة على البيت كله.
ـ إن أي تناقض يقع في حياة الزوجين ينعكس بشكل تلقائي ومباشر وسريع على تربية الأبناء وعلى نفوسهم.
إذن فالعامل الأساسي في تحقيق التربية الإسلامية للأبناء هو تحقيق 'إسلامية الزواج'
أخبرني ما مرجعيتك التربوية؟
ـ كل من الزوجين له فكره وعقله ونشأته ومرجعيته التي سيربى ابنه عليها ومن هذه المرجعيات.
1ـ خبراتنا المكتسبة وخبرة الآباء والأجداد.
2ـ التقاليد والعادات والأعراف.
3ـ الوسائل الإعلامية.
4ـ ما قام به الغربيون في علم النفس من دراسات متخصصة.
5ـ استشارة أهل الاختصاص.
6ـ التربية الإسلامية.
الرؤية المشتركة .. وتربية الأبناء
الزواج شركة بين اثنين ورابطة مقدسة وميثاق غليظ .. والأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع .. والأبناء هم ثمرة الزواج وقرة العين .. وعلى الزوجين إذا رزقا بالأبناء أن يكون لديهم رؤية مشتركة في طريقة تربية أبنائهم. وإلى أي مرجع تربوي من المراجع التي ذكرناها سيرجعون، والاتفاق من البداية ووجود أرضية مشتركة بينهما له أثره في علاقة الزوجين في تربية الأولاد.
ـ فنحن نربي القادة ونحن من يصنع شخصية الأبناء، فلا بد أن نتسم بالحكمة معهم والاتفاق فيما بيننا وإذابة ما نستطيع إذابته من فوارق واختلافات بين الزوجين.
ـ وإذا سألنا أنفسنا هل رزقنا الله بالأولاد لنهملهم ؟
هل رزقنا الله بالأولاد لنعذبهم ؟
هل رزقنا الله بالأولاد لنربي عندهم العقد والآلام؟
إن ثمرة الزواج هي الأبناء وهم نعمة عظيمة من الله لا بد من استشعار قيمتها وروعتها وجمالها.
ـ إن الأبناء يحتاجون إلى ـ الطعام، اللباس، والتوجيه، والتأديب، واللعب، وتعلم الآداب و و و ...، وليس بمجرد إطعام الأبناء نكون بذلك قد أدينا ما علينا تجاههم وانتهت القضية، إن الإنسان كتلة معقدة مركبة من أربعة جوانب.
جسمي ـ عقلي ـ اجتماعي ـ انفعالي
وعند التعامل مع الأبناء علينا أن نأخذ هذه الجوانب في الاعتبار.
ـ والأبناء أمانة عند الوالدين، وعلى الزوجين تعويدهم خصال الخير وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة يقول الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه في تعويد الولد خصال الخير:
ـ والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك .. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق'.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التدين أقربوه
ويبقى لنا قبل الانتهاء هذه الأسئلة:
ـ ما أثر الخلافات بين الزوجين على الأبناء؟
ـ ما أثر إهمال الزوجين أو أحدهما الأبناء؟
أولاً: الخلافات بين الزوجين أمام الأبناء:
إن الاختلافات في الحياة الزوجية أمر طبيعي، ولكن أن تكون هذه الخلافات أمام الأبناء ولا يراعي فيها حدود أدب التعامل بين الزوجين، فإن هذا غير مقبول وغير طبيعي، ومما لا شك فيه أن هذا الحال سيؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأبناء، فيتخوف الأبناء من تطور هذه الخلافات أو انتهائها بانفصال الزوجين وتفكك الأسرة وهذا كله بالطبع يؤثر على تحصيل الأبناء ومستواهم الدراسي.
وعلى الزوجين الالتزام بأدب الحوار في حال الاختلاف، فلا تعلو الأصوات أو الأيدي، فإن الأبناء حين يرون الأم تضرب أو العكس وترفع الأم صوتها على الزوج فإن هذا مما لا شك فيه له أثر على الأبناء لا يحمد عقباه.
ومما يزعزع تماسك الأسرة الصراعات أمام الأبناء فتجدهم ينقسمون إلى معسكرين أو أكثر، فتأمل حال بيت يقول الأب فيه للولد: لا تكلم أمك، وتقول الأم له: لا تكلم أباك.والولد في دوامة وتمزق نفسي والجميع يعيشون في نكد.
ثانيًا: إهمال الزوجان أو إحداهما للأبناء:
يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: 'كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها' كذلك 'الرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته'.ـ ومن نص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نفهم أن لكل من الزوج والزوجة دور وتتكامل هذه الأدوار لرعاية الأبناء وتربتهم.(/1)
أما الأب المشغول عن أولاده لأي ظرف من الظروف. والأم المشغولة عن أولادها وعن تربيتهم أيًا كان سبب انشغالها عنهم، فإنهما بذلك يضيعون الأمانة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه' [رواه النسائي].
وقد صدق أمير الشعراء حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم من تلقى له أمًا تخلت أو أبًا مشغولاً
ـ إن تربية الأبناء على قدر ما يظن الناس أنها صعبة وشاقة على قدر ما هي يسيرة هينة إذا توافرت في الأبوين مطالب:
1ـ رغبة صادقة في صلاح الأبناء تثمر انشغالاً حقيقيًا بهم.
2ـ تحديد للهدف المراد تحقيقه في الأبناء.
3ـ علم بقواعد التربية الأساسية وأساليبها لتحقيق الوصول إلى الهدف المنشود.
4ـ وقت لتنفيذ كل ما سبق.
5ـ دعاء مستمر صادق للأبناء بالطبع وليس عليهم.
وإلى حين اللقاء قريبا لكم منا أطيب التحيات
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
تربية الأبناء
أولاً: مفهوم تربية الأبناء.
ثانياً: العلاقة بين مفهوم التربية والتعليم.
ثالثاً: المسؤولية التربوية.
رابعاً: المعوقات التربوية:
1- إهمال الأسرة تربية الأبناء حتى يعتادوا الشر.
2- فقدان القدوة الحسنة في البيئة الأسرية.
3- تفويض الأمور التربوية إلى الخادمات.
4- وجود القدوة السيئة والخلطة بهم.
خامساً: كيفية بناء الجوانب الشخصية لدى الأبناء:
1- البناء العلمي.
2- البناء الاعتقادي.
3- البناء الأخلاقي.
4- البناء التعبدي.
5- البناء الاجتماعي.
6- البناء الصحي.
7- البناء الفكري.
8- البناء العملي المهني.
سادساً: الأساليب المعينة على تربية الأبناء:
1- التربية بالقدوة.
2- التربية بالترغيب والترهيب.
3- التربية بالقصة.
4- التربية بالموعظة.
5- التربية بضرب الأمثال.
سابعاً: المبادئ التربوية الهامة:
1- اقتران العلم النظري بالممارسات العملية.
2- التدرج في العملية التربوية.
3- توجيه الملكات والمواهب حسب ميول المربَّى.
4- مراعاة تكليف الطفل ما يعقله عند العملية التربوية.
5- مراعاة الفروق الفردية.
6- المتابعة والتقويم.
7- ترك المجال للولد في اللعب والترويح.
8- استخدام أسلوب التعريض عند العملية التربوية.
ثامناً: من أقوال السلف.
تاسعاً: ملحقات البحث: (قصص، أبيات شعرية، محامد، أدعية، مراجع للتوسع).
أولاً: مفهوم تربية الأبناء:
التربية لغة: مشتقة من أصول ثلاثة:
الأصل الأول: ربا يربو، بمعنى زاد ونما، ومنه قوله تعالى: {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} [الروم: 39].
الأصل الثاني: رَبّ يَرُب بوزن مدّ يمُدّ، بمعنى أصلحه، وتولّى أمره، وساسه وقام عليه.
يقال: ربّ الشيء إذا أصلحه، وربّيت القوم أي: سُستُهم.
الأصل الثالث: رَبِي يَربىَ على وزن خَفِي يَخْفَى، بمعنى نشأ وترعرع؛ وعليه قول ابن الأعرابي:
فمن يك سائلاً عني فإني بمكّة منزلي وبها ربَيْت
الأبناء لغة: جمع ابن، وأصله بنو، قال ابن فارس: "الباء والنون والواو كلمة واحدة، وهو الشيء يتولّد عن الشيء كابن الإنسان وغيره".
وتربية الأبناء: تنشئتهم وإعدادهم في جميع جوانبهم الشخصيّة وفق المنهج الإسلامي لتحقيق العبودية لله عز وجل.
لسان العرب (5/126) مادة ربا.
لسان العرب (5/95–96) مادة ربب.
لسان العرب (5/128) مادة ربا.
لسان العرب (5/128) مادة ربا.
مقاييس اللغة (1/303) مادة بنو.
الجوانب الشخصية: الجانب الإيماني، والعلمي، والفكري، والأخلاقي، والاجتماعي، والصحي، والمهني. انظر: الجوانب الأساسية لمقداد يالجن (ص 6).
ينظر: الدراسات التربوية لأحمد الغامدي (ص21)، وأصول التربية الإسلامية لخالد الحازمي (19).
ثانياً: العلاقة بين مفهوم التربية والتعليم:
التربية أعم وأشمل من التعليم؛ ذلك أن التعليم يعتني بتنمية الجانب العقلي فقط من جوانب الإنسان، وهذا الجانب يُعَدّ جزءاً من التربية التي تُعنى بتنمية جميع جوانب الإنسان.
ينظر: جوانب التربية الإسلامية الأساسية لمقداد يالجن (ص26).
رابعاً: المعوقات التربوية:
1- إهمال الأسرة تربية الأبناء حتى يعتادوا الشر:
قال ابن القيم: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً".
2- فقدان القدوة الحسنة في البيئة الأسرية:
قال القاسمي: "إذا لحظ المرء ما ينجم من التربية المنزلية يجد أنه كما يكون الأهل يكون الطفل في الغالب، فإن كانوا ذوي نظام وطباع كريمة شبّ الطفل كذلك لما علم من أنه ميّال للتقليد والمحاكاة، وإن كانوا جهلاء أغبياء وذوي خمول أو ضعف في العزيمة شبّ الطفل على ذلك".
3- تفويض الأسرة الأمور التربوية إلى الخادمات:
قال أحمد محمد جمال: "إن الشغالات يلعبن دوراً مهمًّا في حياة الأطفال النفسية فكثيراً ما يلجأن إلى تخبئة الحقائق، والسماح للأطفال بتصرفات تناقض أوامر الوالدين".
4- وجود القدوة السيئة والخلطة بهم:
قال القاسمي ناصحاً الوالدين: "ويمنع الصبيّ من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك؛ فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء".
تحفة المودود (ص139).
موعظة المؤمنين (ص204).
نساء وقضايا (ص 48).
موعظة المؤمنين (ص204).
خامساً: كيفية بناء الجوانب الشخصية لدى الأبناء:
1- البناء العلمي:
يقول ابن الجوزي ناصحاً ابنه: "فينبغي لذي الهمّة أن يترقّى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سيره وسير أصحابه والعلماء من بعدهم، ولا بدّ من معرفة ما يقيم به لسانَه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل في اللغة، والفقه أصل العلوم، والتذكير حلواؤها وأعمّها نفعاً".(/1)
والبناء العلمي يكون بالأمور التالية:
ـ التنويه بفضل العلم ومكانة العلماء، وغرس ذلك في نفوس الأبناء.
ـ تعليمهم آداب طالب العلم.
ـ تركيز الأبناء على التخصّص العلمي حسب استعداداتهم وميولهم.
ـ تعليمهم المنهجية في الطلب.
2- البناء الاعتقادي:
قال ابن قدامة: "فإذا بلغ الصبيّ فأول واجب عليه تعلّم كلمَتَي الشهادة وفهم معناهما، وينبغي أن يتعلّم الإيمانَ بالبعث والجنة والنار...".
ويكون البناء الاعتقادي بالآتي:
ـ تعليم الأبناء المسائل الإيمانية والمباحث العقدية.
ـ استخدام الأدلة العقلية والحقائق العلمية في دعم المباحث العقدية.
ـ تكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك الحسن لدى الأبناء بموجب العقيدة الصحيحة.
ـ توضيح آثار التربية الإيمانية على الفرد المسلم للأبناء.
3- البناء الأخلاقي:
قال ابن القيم: "ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره".
ويتمثل البناء الأخلاقي في الآتي:
ـ تعريف الأبناء بأهمية الأخلاق وغرسها في قلوبهم.
ـ الوقوف بهم على معالم الأخلاق وحدودها وضوابطها.
ـ تنشئة الأبناء على القيم الأخلاقية في جميع المراحل العمرية، مع استخدام كافة الأساليب التربوية في ذلك.
ـ تنمية روح الالتزام والإرادة الأخلاقية.
4- البناء التعبّدي:
قال أبو الوليد الباجي لابْنيْه موصياً لهما: "وتنقسم وصيّتي لكما قسمين: فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة؛ فأما القسم الأول فالإيمان بالله عز وجل... والتمسك بكتاب الله... وإقام الصلاة فإنها عمود الدين... ثم أداء زكاة المال لا تؤخّر عن وقتها... ثم صيام رمضان فإنه عبادة السرّ وطاعة الربّ... ثم الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً...".
ويتركز البناء التعبّدي فيما يلي:
ـ تنمية روح المحبة للعبادات بالتعريف بها وذكر فضلها وأهميتها.
ـ تنشئة الأبناء على العبادة منذ المراحل الأولى، وتدريبهم عملياً عليها بالأساليب التربوية.
ـ تحلية نفوسهم بالنيات الحسنة، وتطهيرها من النيات السيئة.
ـ تكوين الوعي الكامل لدى الأبناء بالآثار التربوية للعبادات.
5- البناء الاجتماعي:
قال القاسمي: "الوقت الذي تمضيه في أداء الواجبات الاجتماعية ليس بوقت ضائع؛ لأن حبّ الغير ومعاونته والعمل على نشر العلم وتقليل وطأة الفاقة كلها من دلائل السعادة".
والبناء الاجتماعي يكون بالآتي:
ـ تنمية روح الأخوة الإيمانية لدى الأبناء.
ـ تعريفهم بمقاصد الوحدة الإسلامية والتكافل الاجتماعي.
ـ تعليمهم الحقوق الاجتماعية، مع بيان أهميتها في بناء كيان المجتمع.
ـ تكوين شخصية اجتماعية مراعية لضوابط الخلطة الاجتماعية.
6- البناء الصّحي:
قال السعدي: "أولى الناس ببرّك وأحقّهم بمعروفك أولادك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصّاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم... فإنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم فأنت قائم بالحقّ مأجور".
ويتمثل البناء الصحي في الآتي:
ـ تعليم الأبناء الالتزام بقواعد الصحة العامة.
ـ تبصيرهم بأن الفرائض والسنن الإسلامية تساعد على صحة البدن.
ـ تعويدهم على ممارسة الرياضة البدنية وفق الضوابط الشرعية.
ـ تبصيرهم بآداب البناء الجسمي.
7- البناء الفكري:
قال السعدي: "وينبغي للوالد أن يشاور أولاده في الأمور المتعلقة بهم، ويستخرج آراءهم، ويعوّدهم على تربية أفكارهم وتنمية عقولهم".
والبناء الفكري يكون بالأمور الآتية:
ـ تعويد ذهن الأبناء على الاستنباط واستخراج المسائل العلمية من النصوص.
ـ تنميتهم على استدامة التفكير والنظر المعتبر في مخلوقات الله عز وجل.
ـ إبعاد ذهن الأبناء عن التفكير في الأمور الفاسدة.
ـ ترويض أذهانهم على تدبر وتفهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
8- البناء العملي المهني:
قال جمال الدين القاسمي: "خليق بالآباء ـ وإن كانوا في غنىً أو جاه ـ أن يربّوا أولادهم على مبدأ الاعتماد على النفس والاستقلال بأن يستعدّ في حياة والديه للعمل؛ لأن الحياة لا تقوم إلا بالحركة والسعي والعمل والتدبير".
ويتمثل البناء المهني في الآتي:
ـ تبصير الأبناء بفضل العمل وأهميته، وتنمية ذلك في نفوسهم.
ـ تعليم الأبناء أخلاقيات العمل وآدابه.
ـ تعليمهم الفنون الاقتصادية حسب رغباتهم وقدراتهم.
لفتة الكبد إلى نصيحة الولد (ص30–34).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام ليوسف القاضي ومقداد يالجن (ص282–291).
مختصر منهاج القاصدين (ص20).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص241–267).
تحفة المودود (ص146).
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص356–360).
الوصية للباجي (ص28–30).
علم النفس التربوي في الإسلام (ص306–334).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (ص16).
الحقوق الاجتماعية: كحق الوالدين، والحقوق الزوجية، وحق الجوار... الخ.
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص363–379).
بهجة قلوب الأبرار، المجموعة الكاملة: قسم الحديث (128).(/2)
ينظر: علم النفس التربوي في الإسلام (ص385–394).
الرياض الناضرة، المجموعة الكاملة: قسم الثقافة (1/415).
ينظر: جوانب التربية الإسلامية لمقداد يالجن (ص83–134).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (ص47).
ينظر: أصول التربية الإسلامية للحازمي (ص171–128).
سادساً: الأساليب المعينة على تربية الأبناء:
1- التربية بالقدوة:
قال القاسمي: "فمن أخصّ واجبات معلّميهم أن يكونوا قدوة حسنة، وأن يقوّوا فيهم ـ وهم في بدء نشأتهم ـ حبّ العمل وامتلاك النفس والصبر والثبات".
2- التربية بالترغيب والترهيب:
قال السعدي: "فالموفّق لا يزال مع أولاده في حثّ على الخير وترغيب، وزجر عن الشر وترهيب، وتربية عالية وتأديب، حتى يرى من فلاحهم ما تقرّ به عينه في الحياة، وبعد الممات".
3- التربية بالقصة:
قال منّاع القطان: "ممّا لا شكّ فيه أنّ القصة المحكمة الدقيقة تطرق السامع بشغف، وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر... ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعاً وأكثر فائدة، والمعهود حتى في حياة الطفولة أن يميلَ الطفل إلى سماع الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة... هذه الظاهرة الفطرية ينبغي للمربّين أن يفيدوا مِنها في مجالات التعليم".
4- التربية بالموعظة:
قال ابن القيم: "القابل الذي عنده نوع غفلة وتأخّر يدعَى بطريق الموعظة الحسنة".
5- التربية بضرب الأمثال:
قال عبد الرحمن النحلاوي: "فالتربية بالأمثال القرآنية والسنة النبوية طريقة تربوية قائمة بذاتها، توظّف العقل والوجدان وتربيهما... وهي طريقة ذات نتائج فعالة في حياة الفرد والجماعة، ذات أثر عميق في النفس والسلوك، وفي كيان المجتمع وتكوين علاقاتهم".
جوامع الآداب (ص23).
بهجة قلوب الأبرار، المجموعة الكاملة: قسم الحديث (ص 128).
مباحث في علوم القرآن (ص305).
مفتاح دار السعادة (ص217).
التربية بضرب الأمثال (ص10).
سابعاً: المبادئ التربوية الهامّة:
1- اقتران العلم النظري بالممارسات العملية:
قال القاسمي: "فمن أراد أن يحصل لنفسه خلقُ الجود فطريقه أن يتكلّف تعاطي فعل الجود وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلّفاً مجاهداً نفسَه حتى يصير ذلك طبعاً له".
2- التدرّج في العملية التربويّة:
قال ابن خلدون: "اعلم أن تلقينَ العلوم للمتعلّمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرّج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً".
3- توجيه الملكات والمواهب حسب ميول المربَّى:
قال ابن القيم: "ومما ينبغي أن يعتمَد حالُ الصبي وما هو مستعدّ له من الأعمال ومهيّأ له منها؛ فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدّ له لم يفلِح فيه، وفاته ما هو مهيّأ له، فإذا رآه حسنَ الفهم صحيحَ الإدراك جيّد الحفظ واعياً فهذه من علامات قبوله وتهيُّئِه للعلم... وإن رآه بخلاف ذلك من كلّ وجه وهو مستعدّ للفروسية... مكّنه من أسباب الفروسية والتمرّن عليها".
4- مراعاة تكليف الطفل ما يعقله عند العملية التربوية:
مرّ عمر بن الخطاب على امرأة وهي توقِظ ابنها لصلاة الصبح، فهو يأبى، فقال:
(دعيه، لا تعنتيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها).
5- مراعاة الفروق الفردية:
قال ابن قدامة وهو يعدّد وظائف المعلم: "ومنها: أن ينظرَ في فهم المتعلّم، ومقدار عقله، فلا يُلقي إليه ما لا يدركه فهمه، ولا يحيط به عقله".
6- المتابعة والتقويم:
قال القاسمي: "ومهما رأى فيه ـ أي: في الصبي ـ مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء... فالصّبي المستحي لا ينبغي أن يهمَل، بل يستعان على تأديبه".
7- ترك المجال للولد في اللّعب والترويح:
فعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت، ومعه عبد الله ابنه، فنهاهم، فقال الحسن: (دَعْهم، فإن اللعب ربيعهم).
8- استخدام أسلوب التعريض عند العملية التربوية:
قال القرافي وهو يعدّد صفات المربي: "أن يزجرَ المتعلّم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرّح؛ لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم".
موعظة المؤمنين (ص197).
المقدمة (1/734).
تحفة المودود (ص148).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص220).
مختصر منهاج القاصدين (ص26).
موعظة المؤمنين (ص204).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص335).
انظر: إحياء علوم الدين (2/71).
ثامناً: من أقوال السلف:
ـ قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: (يا هذا، أحسِن أدبَ ابنك، فإنّك مسؤول عنه، وهو مسؤول عن برِّك).
ـ قال سعيد بن العاص رضي الله عنه: (إذا علّمتُ ولدي القرآن وأحججته وزوّجته فقد قضيتُ حقّه، وبقي حقّي عليه).
ـ قال سفيان الثوري: "من حقّ الولد على الوالد أن يحسنَ أدبه".
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص231).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص225).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص232).
تاسعاً: ملحقات البحث:
قصص:(/3)
1- قال محمد بن عمران الضبي: سمعت أبي يحكي قال: مرّ سفيان الثوري بزياد بن كثير، وهو يصفُّ الصبيانَ للصلاة، ويقول: استووا، اعتدلوا، سوّوا مناكبكم وأقدامكم، اتّكئ على رجلك اليسرى، وانصب اليمنى، وضَع يديك على ركبتيك، ولا تسلّم حتى يسلّم الإمام من كلا الجانبين، فقام سفيان ينظر، ثم قال: "بلغني أنّ الأدب يطفئ غضب الربّ".
2- قال حسن بن علي بن حسن: دخلت مع أبي على حسن بن علي، فقال: كم لابنك هذا من سَنَة؟ قال: سبع سنين، قال: فمره بالصلاة.
3- قال رجل للأعمش: هؤلاء الأطفال حولك! قال: اسكت، هؤلاء يحفظون عليك أمر دينك.
أبيات شعرية:
ينشأ الصغير على ما كان والده ... ... إنّ الأصولَ عليها ينبت الشجر
عوّد بنيك على الآداب في الصغر
فإنما مثل الآداب تجمعها
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها ... ... كيما تقرّ بهم عيناك في الكبر
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
ولا يخاف عليها حادث العبرِ
وإنّ من أدبته في الصبا
حتى تراه مورقاً ناضراً ... ... كالعود يسقى الماء في غرسه
بعد الذي أبصرت من يبسه
قد ينفع الأدبُ الأحداث من صغر
إنّ الغصون إذا قوّمْتها اعتدلت ... ... وليس ينفع بعد الشيبة الأدبُ
ولن تلين إذا قوّمتها الخُشبُ
محامد:
1- الحمد لله ربّ العالمين، بيّن بقويم الشرع حقوق البنات والبنين، وأقام بقسطاط العدل ميزانه في العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطر الوالدين على محبة الذرية، وأبان بحكمته البالغة منهج التأديب والتربية، وأشهد أن محمداً عبده المبعوث بأجل العبادات، وأكمل الآداب، أكرم نبي ووالد، وأفضل مربٍّ وأخلص عابد، فاللهم صلّ وسلِّم وبارك على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
2- الحمد لله العظيم شأنه، العزيز سلطانه، الدائم بره وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَنّ على من يشاء بالأولاد، وجعلهم فتنة يتبين بها الشاكر الذي يقوم بتربيتهم ويصونهم عن الفساد، والمهمل الذي يتهاون بتهذيبهم فيكون عليه حسرة في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، دعانا إلى الإصلاح والتأديب والتربية والتهذيب؛ القائل: ((ما نحل والدٌ ولداً نحلاً أفضل من أدب حسن))، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أدعية:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة:127].
{رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران:138].
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
{رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
مراجع للتوسع:
كتاب العيال لابن أبي الدنيا.
الوصية لأبي الوليد الباجي.
تحفة المودود بأحكام المولود لابن قيم الجوزية.
لفتة الكبد إلى نصيحة الولد لابن الجوزي.
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب لجمال الدين القاسمي.
تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدّبو الأطفال للهيثمي.
انظر: الحلية لأبي نعيم (7/79).
انظر: العيال لابن أبي الدنيا (ص222).
انظر: الكفاية في علم الرواية (ص215).
أدب الدنيا والدين للماوردي (ص238).
جواهر الأدب للهاشمي (ص709).
جامع بيان العلم وفضله (1/86).
جواهر الأدب (ص709).(/4)
تربية الشباب - الأهداف والوسائل
المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،أما بعد: فقد كان من إيجابيات الصحوة الإسلامية اليوم أن قامت بجهد تربوي، وقدَّمت برامج لإعداد الناشئة ورعايتهم. وهو جهد متميز، وتجربة فريدة تُسجَّل لجيل الصحوة، ونتائجه التي نراها في الواقع ناطقةٌ بذلك. وهو جهد يفوق الإمكانات والطاقات العاملة فيه. ومع تميز هذا الجهد إلا أنه لا يزال يعاني من قصور ومشكلات، أفرزتها عوامل عدة، منها: 1- أنه يعتمد على فضلة أوقات المربين والمتربين؛ إذ هو يتم فيما فضل مَنْ أوقات العمل والدراسة، والنوم والراحة، والارتباطات الاجتماعية والعائلية. 2- أن الهوة الواسعة بين المتطلبات والإمكانات، وبين أعداد من يفتقرون إلى التربية وأعداد المربين، أدت إلى الاعتماد على عناصر تملك خبرة وتأهيلاً أقل مما ينبغي لمثل هذه المواقع. 3- عدم وجود برامج أُعدت بطريقة علمية لإعداد المربين وتأهيلهم، يضاف لذلك ضعف اعتناء كثير من المربين بالرفع من مستوى تأهيلهم؛ مما زاد من الممارسات المعتمدة على المحاولة والخطأ، وتعميم التجارب الشخصية المحدودة. 4- الفقر الشديد في الدراسات والكتابات التربوية التي تجمع بين الخبرة العلمية والتخصص، وتبتعد عن اللغة العلمية المتخصصة التي قد تصعب على كثير من المربين. 5- أن التجربة التربوية لجيل الصحوة تجربة فريدة، وفيها جوانب من الخصوصية أفرزت إشكالات وتساؤلات لم تكن مطروحة في الأدبيات التربوية المتخصصة، ومن ثم يصعب على المربين أن يجدوا في المكتبة التربوية ما يجيب بعمق على بعض تساؤلاتهم. 6- أن محاضن الصحوة التربوية تسير ضد التيار؛ فكثير من مجتمعات المسلمين ونظم التعليم، وأجواء المدارس، والأسر، كل ذلك في أحيان كثيرة يفسد ما يبنيه المربون. 7- أن كثيراً من المشكلات ومظاهر القصور التربوي في مجتمعات المسلمين انعكست على الأفراد، كالسطحية في التفكير، والتخلف الحضاري، وضيق الأفق، وضعف الثقة بالنفس….إلخ، مما أضاف على المربين عبئاً هائلاً، ويزيد الأمر تعقيداً أن المربين أنفسهم من أبناء هذه المجتمعات، فورثوا هذه الأمراض كغيرهم وصارت جزءاً من تفكيرهم(1) و من أبرز مظاهر هذا القصور - الذي كان نتاج تلك العوامل وغيرها-: الضعف التربوي الذي يبدو لدى فئات كثيرة، وضعف الفاعلية والإنتاجية، وغياب المبادرة، وبروز حالات التساقط والتراجع….إلخ. ومع ذلك يبقى الجهد التربوي لجيل الصحوة جهداً يستحق الإشادة، ومظاهر القصور والضعف ينبغي أن تدفعنا إلى التصحيح والإصلاح، لا إلى النقد اللاذع والاستهانة بجهود العاملين، فلأن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة. ومن ثم تجيء هذه المحاولة من الكاتب لوضع بعض الإشارات والإضاءات للمربين، علَّها تسهم في وضع لبنة في هذا البناء الشامخ بإذن الله تعالى، وقد سعيت أن يكون هذا الكتاب كافياً لما يحتاجه المربي حديث الخبرة من أهداف تربوية ووسائل تعين على تحقيقها، وتحدثت فيه بإيجاز عن الأهداف التربوية وصياغتها، ثم عن أهم خصائص المرحلة وسماتها، وبعد ذلك تناولت الأهداف التربوية مقسماً لها على مجالات رئيسة، فأذكر في كل مجال هدفاً عاماً، ثم أتبعه بوسائل عامة، ثم أختم بذكر أهداف فرعية، وأشير في ثنايا كل هدف إلى بعض الوسائل المعينة على تحقيقه، وقد تتكرر بعض الوسائل لارتباطها بأكثر من هدف، كالقدوة على سبيل المثال. وحرصت قدر الإمكان على الإيجاز وعدم الاستطراد، إلا فيما أرى أن له أهمية، كما تجاوزت الحديث عن القضايا التي أعتقد أنها بدهية بالنسبة لجمهور المخاطبين بهذا الكتاب، كالحديث عن المضامين التربوية ونحو ذلك، وسيبقى ما يحتاج إلى إجمال أو تفصيل، أو ذِكْر أو إهمال قضية نسبية تختلف فيها الآراء. ومع أن فكرة هذا الكتاب ومعظم مادته كانت لدي منذ مدة مضت، إلا أني ترددت كثيراً في إصداره، وآثرت الانتظار والتريث لأهمية مثل هذا الموضوع، وأخيراً استعنت بالله في إصداره، وكلي أمل أن يقرأه المربون بعين النقد لا بعين التلقي، وأن يتعاملوا معه على أنه رأي شخصي لا مسلمات علمية، وأنه مهما اجتهد الكاتب في تحريره والاعتناء به فلن يخرج من أسر التجارب والخبرة الشخصية المحدودة في إطار الزمان والمكان، ولن يخرج من أسر القصور البشري، فما كان فيه من حق فبتوفيق الله وعونه، وما كان من قصور فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان مما أقول. ولا أنسى هنا أن أسجل شكري وتقديري لكل الإخوة الذي تفضلوا بقراءة مسودة الكتاب ووافوني بملحوظاتهم، وعلى رأسهم الدكتور محسن المحسن أستاذ أصول التربية المساعد، والدكتور خالد العودة أستاذ أصول التربية المساعد، والدكتور عبدالله العثيم أستاذ المناهج وطرق التدريس(/1)
المساعد، والدكتور خالد بازيد استشاري الطب النفسي، والأستاذ عبدالرحمن المزروع المشرف التربوي، والأستاذ عبد الله البريدي، وغيرهم. والله أسأل أن يكون في هذا الجهد فائدة وعونٌ للمربين، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،، محمد بن عبدالله الدويش الرياض7/3/1422هـ ص ب 52960 الرياض 11573 dweesh@dweesh.com حاشية (1)( يدور اليوم في أدبيات الصحوة نقد لاذع لهذه الأمراض والمظاهر، لكن زوالها يحتاج لكسر الحلقة المفرغة، ففاقد الشيء لايعطيه، وإدراك المشكلة ليس وحده كافياً في حلها، وإن كان خطوة مهمة.) .(/2)
الفصل الأول: الأهداف التربوية إن العمل المنتج هو العمل الذي ينطلق من أهداف واضحة محددة، يعيها العاملون، ويوظفون الإمكانات والوسائل المتاحة لهم لتحقيقها. والهدف في اللغة -كما قال ابن فارس-: "الهاء والدال والفاء أصيل يدل على نصب وارتفاع، والهدف: كل شيء عظيم مرتفع، ولذلك سمي الرجل الشَّخيص الجافي: هدفاً...والهدف: الغرض...وأهدف لك الشيء: انتصب"(1) ويمكن أن نحدد مفهوم الهدف التربوي -بعيداً عن الجدل المنطقي حول أزمة التعريف- بأنه: التغير المرغوب الذي تسعى العملية التربوية إلى تحقيقه لدى الفرد أو لدى المجتمع. وثمة أمور لابد من مراعاتها ونحن نتحدث عن الأهداف: الأول: التوازن بين إهمال الأهداف والإغراق فيها؛ فالعمل دون هدف واضح محدد مدعاة للتخبط والاضطراب، ولذا قيل: إذا خرجت من منزلك بدون هدف فكل الطرق توصلك إلى المكان الذي تريد، وأولئك الذين يعملون دون أهداف واضحة تتنوع اجتهاداتهم، وتختلف طرقهم وأساليبهم بين يوم وآخر. ومع ذلك فالاعتناء بالأهداف ينبغي أن لا يؤدي إلى التحول إلى آلة، بحيث يتطلع الإنسان إلى أن يكون هناك هدف واضح ومحدد لكل عمل صغير وكبير يقوم به، وتكون كل كلمة أو توجيه قد صدرت عن تخطيط واعتبار. فالإنسان بشر يعتريه ما يعتريه، ولو استطاع الالتزام الصارم بالتخطيط في الصغيرة والكبيرة مدة محددة، فإنه لن يستطيع ذلك على المدى الأوسع. ثم إنه تخطر للمربي خواطر، وتجدُّ له قضايا، والإغراق في التحديد الدقيق المسبق والمفصل للأهداف يحول دون الاستفادة مما يجد من ذلك. فالاعتدال والوسطية سنة الله في خلقه وشرعه. الثاني: المناداة والمطالبة بتحديد الأهداف والانطلاق في العمل منها جزء من التفاعل مع تطور الحياة المعاصرة وتعقدها، وقد كان من نتاج هذا التطور نشأة علوم وتفرع تخصصات، كعلم الإدارة والتربية والاجتماع وعلم النفس، وسائر فروع العلوم الإنسانية التي لم تكن معروفة من قبل، كما كان من نتاج ذلك التفرع الدقيق في التخصصات. ومن ذلك تغير برامج طلب العلم ووسائله، الذي كان في إطار المساجد والحلق، فنشأت الجامعات بأنظمتها وبرامجها. وكما أن الأخذ بأسباب القوة المادية مطلوب اليوم، فالأخذ بهذه الأسباب التي هي من الأسباب المعنوية أمر له أهميته. الثالث: السعي للتأصيل الشرعي، والاستدلال بالنصوص الشرعية، والاهتداء بعمل النبي صلى الله عليه وسلم أمر له أهميته، بل هو مطلب لابد منه لضمان السير على المنهج الشرعي في الدعوة والتغيير، لكن مما ينبغي أن يلحظ في هذا الإطار: أ - أن من الأهداف ما يدخل تحت أصول شرعية عامة، كتقديم الأولويات، ورعاية المصالح ودرء المفاسد، وسد الذرائع….إلخ. وليس بالضرورة أن يكون لكل هدف دليل أو نص خاص. ب - من الأهداف ما أملته ظروف العصر، وأفرزه القصور التربوي السائد في مجتمعات المسلمين، وهذا لا يفتقر إلى استدلال؛ إذ هو جزء من صفات الإنسان السوي المنتج، لكن الواقع المعاصر أسهم في فقدانه. ومن الأمثلة على ذلك: تنمية المبادرة الذاتية، وكثير من الأهداف في الجانب العقلي. ج - أن كثيراً من الوسائل تدخل في إطار الأصل العام للوسائل وهو الإباحة؛ فكل وسيلة تؤدي إلى غاية دعوية مشروعة - ما لم تكن محرمة في ذاتها- فهي مباحة، وتعاطيها سائغ ، وليس شرطاً أن يكون قد ورد فيها نص يدل على مشروعيتها، والمطالب بالدليل هو من يَمنع لا من يبيح(2) د - كثيراً ما نستدل على بعض الوسائل الواردة في ثنايا هذا البحث بما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم من باب تدعيم الحديث في ذلك والتأكيد عليه، لكنه لا يعني افتقار جواز إتيان تلك الوسيلة إلى النص عليها كما سبق بيانه، وإن كانت الوسائل النبوية - ما لم تكن أملتها ظروف العصر وطبيعته - أولى وأجدى من غيرها. وظيفة الأهداف التربوية : يعد تحديد الأهداف التربوية نقطة الارتكاز والمنطلق الأساس في العمل التربوي، وتكمن أهمية الأهداف ووظيفتها فيما يلي :- 1- أنها تشكل الأساس والمنطلق في العملية التربوية كلها؛ إذ هي تعني حشد الطاقات والإمكانات للوصول لهذه الأهداف. 2- أنها تسهم في اختيار المربين وتتحكم في ذلك؛ فالمربي الناجح هو الذي يستطيع تحقيق هذه الأهداف وتحويلها إلى واقع ملموس. 3- أنها تسهم في تحديد البرامج والوسائل التربوية، فهي إنما تقام لتحقيق هذه الأهداف. 4- أنها تسهم وتتحكم في تحديد مضمون ومحتوى ما يقدم من معارف ومعلومات. 5- أنها تسهم في الاستثمار الأمثل لأوقات العاملين وجهودهم؛ فعدم وضوح الأهداف يؤدي إلى ضياع أوقات وجهود كثيرة. 6- أنها تمثل الأساس والمنطلق في تقويم العمل التربوي، فالتقويم إنما يتم بناء على مستوى ما تحقق من الأهداف(3) شروط صياغة الأهداف : حتى تؤدي الأهداف وظيفتها المرادة لابد من أن تتحقق فيها شروط عدة، ما بين شروط تحقق لها الانضباط بضوابط الشرع، وشروط في صياغتها ولغتها، ومن ذلك: 1-أن تكون مشتقة من الثوابت والأصول(/3)
الشرعية، متفقة مع منهج أهل السنة والجماعة، بمفهومه الواسع الشامل. 2- أن تراعى في أولوياتها المقاصد الشرعية؛ فتعطي كل جانب ما يستحقه دون إفراط ولا تفريط، فلا تقدم السلوك مثلاً على الاعتقاد. 3- الواقعية بحيث تكون ممكنة التطبيق، فلا تكون مثالية موغلة في الخيال. 4- لشمول بحيث تشمل الجوانب التربوية للفرد والمجتمع كلها، ولا تكون قاصرة على مجال دون غيره. 5- أن تصاغ بطريقة علمية سليمة. 6- الوضوح والدقة، بحيث لا يختلف اثنان في تفسيرها. 7- أن تكون محددة غير عائمة، وألا يشتمل الهدف على أكثر من عنصر(4) مستويات الأهداف : تقسم الأهداف التربوية إلى ثلاثة مستويات: (أعلى ومتوسط ومحدد )، ويقسمها بعض من كتب في التربية الإسلامية إلى مستويات أربع، وتبقى مستويات الأهداف مجالاً للأخذ والعطاء،لأن فيها قدرًا من النسبية ومن التقسيمات الشائعة، مايلي: 1 - الغاية العليا: وهي تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى، ويجب أن تكون هذه الغاية هي التي تحكم سائر الأهداف، بل أن تكون جميع الأهداف موصلة إليها ومحققة لها، وهي غاية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56) وعن ربيعة بن عباد قال: والله إني لأذكره يطوف على المنازل بمنى وأنا مع أبي غلام شاب ووراءه رجل حسن الوجه أحول ذو غديرتين، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قال: "أنا رسول الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً" ويقول الذي خلفه: إن هذا يدعوكم إلى أن تفارقوا دين آبائكم، وأن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلال. قال: فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب(5) . بل الدعوة لتوحيد الله وعبادته هي غاية دعوة سائر الأنبياء } وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ{ (الأنبياء:25). 2 - المستوى العام للأهداف : وهي التي تمثل الأهداف العامة لتربية الفرد والمجتمع المسلم وتكون مشتقة من الغاية وموصلة إليها. "والأهداف في هذا المستوى تفتقر إلى التحديد والواقعية، فهي عبارات عامة جداً يستريح لها القارئ فهماً وتنظيراً، ولكنه يجد صعوبة في ترجمتها لخبرات تربوية، كما أن المتربي لن يجد خطوات محددة يسير عليها، أو معالم بارزة ينتهي عندها"(6) لكنها ضرورية ولابد منها، وما يليها من الأهداف يشتق منها، ويوصل إليها، ومن أمثلة هذه الأهداف: - تحقيق البناء الإيماني في نفوس الطلاب. - رفع مستوى الصحة النفسية والاستقرار النفسي لدى الطلاب. 3 - المستوى المتوسط للأهداف : وهي الأهداف التي تختص بمرحلة دراسية أو عمرية أو مدة زمنية معينة، وهي تشتق من الأهداف العامة وتوصل إليها، وأغلب حديثنا في هذا الكتاب هو حول هذا المستوى. ومن أمثلة هذا المستوى: - تكوين الاعتزاز بالإسلام ومبادئه. - تنقية الدين من البدع والخرافات. - تعريف الطالب بقدراته وإمكاناته. 4 - المستوى المحدد للأهداف: وهي التي تكون خاصة بوحدة دراسية معينة، أو برنامج تربوي معين، وتشتق من المستوى المتوسط، وتكون أكثر تحديداً ودقة، ويجب أن تكون قابلة للقياس. ومن أمثلة هذا المستوى: - أن يستطيع الطالب تطبيق خطوات التفكير العلمي. - أن يفرق الطالب بين الركن والواجب في الصلاة. مثال يوضح مستويات الأهداف وتدرجها: ويوضح المثال الآتي تدرج الأهداف وفق المستويا ت المختلفة: فالإعداد الدعوي هدف عام اشتققنا منه أربعة أهداف متوسطة تؤدي إليه، وتحققه، ثم قمنا باختيار أحد الأهداف المتوسطة، واشتققنا منه أربعة أهداف محددة تؤدي إليه، كما يتضح من الشكل الآتي: وما سنذكره في هذا الكتاب حول الأهداف حديث عام، لا يغني المربي عن أن يضع خطة تفصيلية وأهدافاً محددة تتناسب مع طبيعة العمل الذي يقوم به، كما يتضح من الملحق. الحاشية (1) ( مقاييس اللغة 6/40.). (2) ( انظر: لقاء الباب المفتوح للشيخ ابن عثيمن (15/49)، قواعد الوسائل (317)، مجلة المشكاة (ع1) حكم التمثيل في الدعوة إلى الله). (3) (انظر: أهداف التربية الإسلامية. علي خليل أبو العينين (13-14) ). (4) ( انظر: أهداف التربية الإسلامية وغاياتها. مقداد يالجن (34-35) أهداف التربية الإسلامية. علي خليل أبو العينين (15-16). التخطيط والمتابعة بين النظرية والممارسة. طلال الغرياني (112-122).). (5) ( رواه أحمد (15597). ). (6) (علم النفس الدعوي (21). ).(/4)
الفصل الثاني: خصائص المرحلة المرحلة التي نتحدث عنها هي مرحلة الشباب، ويقع جزء كبير منها في مرحلة المراهقة، وهي مرحلة متميزة لها سماتها وخصائصها. ومن ثم فمن المهم التعريف بخصائص هذه المرحلة وسماتها، والحديث المفصل عنها يطول، لذا سنتحدث هاهنا بإيجاز عن أهم خصائص المرحلة وسماتها، وهذا لا يغني المربي عن الرجوع إلى الكتب المتخصصة للاستزادة حول هذا الموضوع. هناك أمور يشترك فيها معظم الناس وتسود في أغلب المجتمعات، وثمة صفات مرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان، إلا أن ذلك لا يعني أن المجتمعات والناس سيصبحون نسخة واحدة، فليس ما يصدق على أحدهم يصدق على سائر الناس، وهذا له صلة كبيرة بموضوع حديثنا. لذا فالعوامل المختلفة في المجتمعات تترك أثرها في حياة المراهقين، فيختلفون من عصر لآخر، ففي العصور السابقة التي كان يدخل فيها المراهق ميدان العمل في وقت مبكر، ويتزوج وهو صغير، كان المراهق أسرع نضجاً وأقل مشكلات من هذا العصر الذي تطول فيه مدة التعليم والاعتماد على الأسرة، ويتأخر الزواج وتحمل المسؤولية. وهم يختلفون من مجتمع لآخر، ويختلفون في المجتمع الواحد من بيئة لأخرى؛ فالمراهق في الريف والبادية يختلف عن المراهق في الحاضرة، والمراهق في المجتمع الصناعي يختلف عنه في المجتمع الزراعي، كما يختلف في المجتمع القبلي المترابط عنه في المجتمع المدني المعاصر الذي تقل فيه الروابط الأسرية والقبلية. ولذا فالمراهق في المجتمعات الإسلامية التي كانت تعيش صفاء الإسلام ونقاءه، لا يمكن أن يقارن بالمراهق الذي يعيش في حضارة العصر المادية التي اتسعت فيها ألوان الفساد والمؤثرات، ومن يقرأ السيرة النبوية يرى كيف كان الشباب - الذين عاشوا هذه المرحلة - في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ميادين الجهاد ونصرة الدين، ولم يكونوا يعانون من هذه المشكلات التي يعاني منها المراهق اليوم( 1). وكما يحصل الاختلاف بين المجتمعات، فهو كذلك بين الأفراد أنفسهم في المجتمع الواحد، بل في الأسرة الواحدة، ومع ذلك تبقى سمات مشتركة يلتقي فيها معظم المراهقين. مصطلح المراهقة: قال ابن فارس: "الراء والهاء والقاف أصلان متقاربان، فأحدهما: غشيان الشيء الشيء، والآخر: العجلة والتأخير. فأما الأول فقولهم رهِقه الأمر: غشيه.... قال الله جل ثناؤه: } وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ { (يونس:26). والمراهق: الغلام الذي دانى الحلم… وأرهق القوم الصلاة: أخروها حتى يدنو وقت الصلاة الأخرى. والرَّهَق: العجلة والظلم. قال الله تعالى:} فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا{ (الجن:13) والرَّهَق: عجلة في كذب وعيب" ( 2). والأصلان اللذان تدور حولهما هذه المعاني لهما صلة بهذا المصطلح. وذكر في لسان العرب معاني عدة للرهق منها: الكذب، والخفة والحِدَّة، والسفه والنُّوك، والتهمة، وغشيان المحارم وما لا خير فيه، والعجلة، والهلاك(3 ). ومعظم هذه المعاني موجودة لدى المراهق. الفرق بين المراهقة والبلوغ: البلوغ عند علماء النفس يعني "بلوغ المراهق القدرة على الإنسال، أي اكتمال الوظائف الجنسية عنده، وذلك بنمو الغدد الجنسية عند الفتى والفتاة وقدرتها على أداء وظيفتها، أما المراهقة فتشير إلى التدرج نحو النضج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي، وعلى ذلك فالبلوغ جانب واحد من جوانب المراهقة، كما أنه من الناحية الزمنية يسبقها، فهو أول دلائل دخول الطفل مرحلة المراهقة" ( 4). مراحل المراهقة: مع أن المراهقة مرحلة لها خصائصها التي تميزها عما قبلها وبعدها من المراحل، إلا أن بعض المختصين يقسمونها إلى مراحل فرعية: المراهقة المبكرة (12-14) وتقابل المرحلة الإعدادية (المتوسطة). المراهقة الوسطى (15-17) وتقابل المرحلة الثانوية. المراهقة المتأخرة (18-21) وتقابل المرحلة الجامعية، وهذا حسب التقسيم الدراسي في معظم الدول العربية ( 5). ونظراً لأننا لسنا بصدد دراسة مفصلة، سنتناول الخصائص العامة للمرحلة دون التفاصيل التي تميز مرحلة فرعية عن أخرى. وتبدو سمات المراهق في جوانب النمو الآتية: أ - النمو الجسمي: لما كانت المراهقة تعني بداية دخول الشاب عالم الرجال، ودخول الفتاة عالم النساء، فمن سنة الله في خلقه أن يتهيأ جسمه لذلك، فينمو بما يؤهله للانتقال إلى المرحلة الجديدة. ويشمل النمو الجسمي مظهرين: النمو الداخلي (الفسيولوجي)، وهو النمو في الأجهزة الداخلية غير الظاهرة للعيان، ويشمل ذلك بوجه خاص النمو في الغدد الجنسية. أما المظهر الثاني: فهو النمو العضوي، ويتمثل في نمو الأبعاد الخارجية للمراهق، فيزداد طوله ووزنه، وتبدو العلامات التي تميز الشاب عن الفتاة، فيخشن صوت الشاب، ويبدأ نمو الشعر في مواطن معينة من جسمه، وفي المقابل يبرز الثديان لدى الفتاة، وتبدو لديها مظاهر الأنوثة. ويتميز النمو الجسمي في مرحلة المراهقة بسرعته الكبيرة، وقد ينشأ عنها عدم تناسق بين أجزاء الجسم(/5)
المختلفة مما قد يسبب الحرج له، كما أن النمو الجسمي لا يسير في توازن مع سائر المظاهر، فقد يسبق النمو الجسمي النمو العقلي أو الاجتماعي: فينتظر منه مَنْ حوله أن ينتقل إلى عالم الرجال وهو لما يزال طفلاً بعد، وقد يحدث العكس فيتأخر النمو الجسمي ويُعامل على أنه طفل بينما هو يشعر أنه قد تجاوز ذلك. ب - النمو العقلي: تشهد مرحلة المراهقة الطفرة في النمو العقلي، وأبرز جوانب النمو في هذه المرحلة ما يلي: 1- اطراد نمو الذكاء، في الوقت الذي اكتمل فيه نمو المخ العضوي، ويتوقف نمو الذكاء في المتوسط عند سن الثامنة عشرة، وتصبح الفروق بعد ذلك عائدة إلى الخبرة( 6)، فلو وجهت أسئلة للذكاء لا تعتمد على الخبرة لمجموعتين، الأولى في العشرين من العمر والثانية في الثلاثين فلن تجد فرقاً. 2- بروز القدرات الخاصة، ويقصد بها: النشاط العقلي المقتصر على مجال معين، وهي متعددة، ومن أبرزها: القدرة الرياضية التي تتعلق بالتعامل مع الأرقام والمعادلات، والقدرة اللفظية، والقدرة اللغوية، والقدرة المكانية التي تتعلق بالقدرة على التعامل مع المسافات والأحجام والاتجاهات، ويشمل التغير في القدرات الخاصة في مرحلة المراهقة مايأتي: 2-1- اتضاحها فهي ضئيلة في مرحلة الطفولة، وتتضح غالباً في الخامسة عشرة. 2-2- الثبات النسبي، فلو أجري قياس لها في الخامسة عشرة، ثم في الثامنة عشرة لكانت النتائج متقاربة. 2-3- اتضاح الفروق الفردية. 2-4- اتضاح الفروق بين الجنسين، فيتميز الرجال بالتفوق في القدرات الرياضية، والمكانية، والميكانيكية، والمنطقية الاستدلالية. وتتفوق النساء في القدرات: اللغوية، وإدراك العلاقات الاجتماعية. 3- تكوُّن الاتجاهات وتبلورها، والاتجاه: موقف عقلي تجاه موضوع معين يجعله يسلك سلوكاً واحداً في المواقف المتشابهة. ومن مخاطر الاتجاهات استمرارها غالباً وصعوبة تعديلها بعد سن المراهقة، وأن الشخص يبدأ يتعامل مع المواقف من خلال هذا الاتجاه، فالذي يتعارض معه يقوم بتأويله بما يتفق مع هذا الاتجاه. ومن الأمثلة على ذلك: أن يتكون لدى الشاب من خلال مواقف عديدة اتجاه سلبي ضد المتدينين. وحين يقابل بعد ذلك أشخاصاً متدينين يتسمون بحسن الخلق واللباقة فإنه سيفسر ذلك بأن هذه الأخلاق لأجل مصالح، أو أنها مجاملة...إلخ. 4- يظهر التفكير المجرد لدى المراهق، وهذا من أبرز التغيرات العقلية، والمقصود بالتفكير المجرد: القدرة على القيام بالعمليات العقلية دون التقيد بالمحسوس، فالطفل لا يفهم إلا المحسوس، أو ما يقرب له بصورة المحسوس، فهو يفهم الحب على أنه تصرفات والده أو والدته تجاهه، أما المراهق فيفهم الحب على أنه أمر قلبي، ويفرق بين حقيقة الحب ومظاهره. ومن مظاهر التغير في التفكير لدى المراهق: 4-1- التفكير في أمور جديدة، لم يكن يفكر فيها من قبل، ومن هنا ينشأ التفكير في الكون والحياة والخلق. 4-2- إثارة أسئلة لم يكن يسألها من قبل. 4-3- المبالغة في تحليل الأمور، وقد يناقش كثيراً من الأمور التي كان يعدها مسلمات فيما مضى. 4-4- المقارنة بين الكائن والممكن، فهو يستطيع تصور واقع أفضل من الواقع الذي يعيشه، وينتقد واقعه وتصرفات الكبار، أما في مرحلة الطفولة فقد كان يأخذ الأمور على أنها مسلمات. 4-5- استخدام الرموز للتعبير عن رموز أخرى، فيستطيع أن يستخدم نظاماً رمزياً من الدرجة الثانية، ولهذا فهو يستطيع تعلم الجبر، ويفهم التعبير المجازي والصور البلاغية. 4-6- القدرة على افتراض الفروض لمشكلة معينة، واختبارها والاختيار بينها. وتؤدي قدرة المراهق على التفكير المجرد ونقص الخبرة لديه إلى مشكلتين رئيستين، الأولى: المثالية في التفكير، والثانية: الحيرة بين البدائل. 5- يصبح التعلم منطقياً لا آلياً، ويبتعد عن طريق المحاولة والخطأ. 6- تزداد القدرة على التذكر عند المراهق وتقوى حافظته، وثمة فرق بين الأطفال والمراهقين في الحفظ، فالأطفال يميلون إلى التذكر الآلي، بخلاف المراهقين فهم يميلون إلى تذكر الموضوعات التي حفظت بطريقة منطقية. 7- تزداد القابلية على إدراك مفهوم الزمن، فيتوقع المستقبل ويخطط له. 8- ينمو الانتباه في مداه ومدته ومستواه، فيستطيع المراهق استيعاب مشكلات طويلة معقدة في سهولة ويسر، ويستطيع التركيز لزمن أطول من مرحلة الطفولة. 9- تزداد القدرة على التعميم وفهم التعميمات والأفكار العامة، فهو يعمم فهماً معيناً من خلال حدث أو أحداث تمرُّ عليه. 10- يخرج من التفكير السلبي إلى التفكر الإيجابي فيبحث عن المسؤولية، ويتساءل عن نظرة الناس له، ويشعر بالهامشية حين يكون منبوذاً، وبالقيمة حين يكون مسؤولاً. ويمثل الجانب العقلي أكثر الجوانب التي يفتقر معظم المربين اليوم إلى معرفتها، وهو أكثرها غموضاً لديهم، ففئة كبيرة من المربين لا تعرف عن المراهقة إلا أنها مرحلة طيش وعناد وسفه، ومرحلةٌ تظهر فيها مشكلة الشهوة، ويجهلون هذه الجوانب المهمة. ولاشك أن(/6)
إدراك هذه الجوانب له أثره الكبير في صياغة الأهداف والبرامج التربوية، وأثره على اللغة التي ينبغي أن تسود في التعليم، وفي الحوار والإقناع. ولا ينبغي أن يتصدى امرؤ للتربية ويتحمل مسؤوليتها وهو يجهل صفات من يقوم على تربيته وخصائصه. ومرحلة تعميم التجارب الشخصية، والنظر للآخرين من خلال ما مرَّ بالشخص في مرحلة المراهقة، والمحاولة والخطأ، هذه المرحلة ينبغي أن نتجاوزها. ج - النمو الانفعالي: من أبرز سمات النمو الانفعالي لدى الشاب في مرحلة المراهقة: 1- مفهوم الذات، ويقصد به: الفكرة التي يحملها الفرد عن نفسه، فقد تكون سلبية، وقد تكون إيجابية، وهي تنشأ من ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص، وهو يبدأ في مرحلة الطفولة لكن هناك تغيرات تلحق به في مرحلة المراهقة، ومنها: 1-1- الاستقرار والتبلور، حتى يصبح تأثره بما يقوله الآخرون عنه أو ما يحدث له ضعيفاً. 1-2- الانخفاض النسبي في مفهوم الذات لدى كثير من المراهقين، بسبب التغيرات التي يحتاج إلى التكيف معها، والإحباطات التي تمرُّ به. 1-3- التغير الجذري عند بعض المراهقين، فقد يحصل لدى بعضهم تغير جذري ينعكس على سلوكه فيتحول من طالب مجد مؤدب إلى مهمل كسول مشاغب. أو العكس. ويستفاد من مفهوم الذات كثيراً في علاج بعض مشكلات المراهقين، من خلال السعي لتغييره وتعزيز الشعور الإيجابي للمراهق تجاه ذاته. ومن هنا فالإفراط كثيراً في لوم المراهق وتأنيبه وانتقاده محدود الجدوى في علاج مشكلاته، بل ربما يزيدها تعقيداً. 2- الشعور بالأنا، ذلك الكيان المستقل عن والديه، إرادة وأحاسيس ومشاعر، مما يكون له أثر في ظهور الانفعالات التالية، كما يضغط عليه بأسئلة ملحة عن ماهيته وماذا يريد؟ 3- غزارة الانفعال وقوته، فانفعالات المراهق قوية وشديدة، فهو إذا أحب أو كره بالغ في ذلك، وإذا غضب يحطم ما بيده، ويتصرف تصرفات غير متزنة. ويضعف تحكمه فيها فقد يضحك في مواقف لا يليق أن يضحك فيها. 4- التذبذب الانفعالي وتقلب المراهق بين سلوك الأطفال وتصرفات الكبار. 5- الذاتية والاعتداد بالنفس، لذا فهو يملك حساسية مفرطة لنقد الآخرين له، ويعتقد أن الآخرين ينظرون إليه دائماً، ومن ثم يبالغ في الاهتمام بمظهره. 6- تبدو ظاهرة أحلام اليقظة لدى المراهق، فينتقل فيها من عالم الواقع إلى عالم الخيال، وهي - ما لم تخرج عن حد الاعتدال - لا تمثل مشكلة. د - النمو الاجتماعي: من أهم مظاهر النمو الاجتماعي لدى المراهق: 1- الاهتمام بالمظهر الشخصي والاعتناء به. 2- تحقيق الذات والميل إلى الاستقلال الاجتماعي، والانتقال من الاعتماد على الغير إلى الاعتماد على النفس. 3- الميل إلى الأصدقاء والارتباط بهم والثقة الكبيرة بهم، ومن هنا تنشأ لدى المراهق ظاهرتان: 3-1- الظاهرة الأولى: الصديق الحميم، حيث يرتبط بأحد أصدقائه ارتباطاً قوياً، فيتحدثان سوياً، ويذهبان سوياً( 7). 3-2- الظاهرة الثانية: مجموعة الرفاق، حيث يشكل المراهقون مجموعات صداقة، وتتسم هذه المجموعة بمحدودية عددها، وشدة تماسكها، وقوة ضغطها على أفرادها. 4- الميل إلى الزعامة والإعجاب بالشخصيات اللامعة ومحاولة محاكاتها. 5- زيادة الوعي بالمسؤولية الاجتماعية، والمكانة الاجتماعية والطبقة التي ينتمي إليها( 8). حاجات المراهق: يختلف علماء النفس اختلافاً واسعاً في تصنيف حاجات المراهق وترتيبها، وجزء كبير من هذا الاختلاف أمر اصطلاحي يتعلق بالتصنيف والترتيب، ومن أبسط التصنيفات، تصنيف النغيمشي، حيث صنَّفها إلى: أ- حاجات نفسية، وتشمل: الحاجة للعبادة، الحاجة للأمن، الحاجة للقبول. ب- حاجات اجتماعية، وتشمل : الحاجة للرفقة، الحاجة للزواج، الحاجة للعمل والمسؤولية. ج- حاجات ثقافية، وتشمل: الحاجة للاستطلاع، الحاجة للهوية الثقافية. وسيأتي تناول الحاجات بشيء من التفصيل في الجانب النفسي، بمشيئة الله تعالى. المراهق والتدين: تشهد هذه المرحلة اتجاهاً قوياً لدى الشاب والفتاة نحو التدين، ويتمثل في التفكير والتأمل، وفي الاعتناء بممارسة الشعائر الدينية، وقد أثبتت ذلك دراسات نفسية عديدة، حتى في المجتمعات التي يعتبر الدين فيها أمراً هامشياً، كالمجتمعات الغربية اليوم، فكيف بالمجتمعات المتدينة؟ إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، }فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ (الروم:31). عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا. كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَّرمت عليهم ما أحللت(/7)
لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً". وبيَّن صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن العوامل الطارئة هي التي تصرف المرء عن اتباع الدين، فقال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: )فِطْرَة اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الآية ….( 9) . ولما كانت هذه المرحلة هي مرحلة التكليف الشرعي، كان من حكمة الله أن تتجه النفس فيها للتدين، وأن يقوى فيها هذا الجانب. "وإذا كان الطفل منذ نعومة أظفاره يدرك عدداً من المعاني الدينية بتأثير هذه الفطرة التي أودعه الله إياها، فإن هذا الإدراك هو شعور غير محدد، فهو يبدي عدداً من الانفعالات، ويثير جملة من الأسئلة عن الله خالق الكون…فإن المعاني الدينية تتضح أكثر عند المراهق، بسبب نضجه العقلي الذي وصل إليه، فلا تكاد المراهقة تبلغ أوجها - حوالي السادسة عشرة تقريباً - حتى تكون مستويات المراهق الإدراكية قد تفتحت وتسامت، وذكاؤه قد بلغ أوجه، كما تتحدد في هذه المرحلة اهتمامات المراهق، ويتحرر من الشطحات والخيال، ويميل إلى القراءة والاطلاع، ويصبح قادراً على التجريد وإدراك المعنويات، وتجاربه في البيت والمدرسة والمجتمع قد تنوعت، كل تلك العوامل العقلية والاجتماعية تتضافر في إيجاد وعي ديني عند المراهق، يختلف عن الاهتمام الديني عند الأطفال…والمراهق كغيره يجد في الدين أملاً مشرقاً بعد يأس مظلم، ويجد فيه أمناً من خوف، وفكراً يسد فراغه النفسي وقلقه الانفعالي، وهذا كله يدفع بالمراهق إلى المبالغة في العبادة والتعمق فيها أحياناً" ( 10). والاتجاه نحو التدين عند المراهق فرصة ينبغي الاعتناء بها واستثمارها الاستثمار الأمثل حتى تسهم في تربية الشاب وإصلاحه، وهي فرصة"يمكن أن يعاد فيها تشكيل النفس كلها إن كانت في حاجة إلى إعادة التشكيل، فإذا كانت فترة الطفولة قد أفلتت - لأي سبب من الأسباب - فستتهيأ في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها فرصتان هائلتان لإعادة التشكيل، إحداهما هذه السابقة للبلوغ، والأخرى التي تحدث في مرحلة البلوغ" ( 11). وحين ننظر إلى هذا الجانب، وننظر من زاوية أخرى في سمات المرحلة وخصائص النمو ندرك حكمة الباري جل وعلا حين اختار هذا السن للتكليف؛ فشخصية المرء بكافة جوانبها تقوده نحو الشعور بأنه دخل عالم الرجال؛ ومن ثم يعيد النظر في ذاته ويتأمل حاله؛ فيدرك الغاية من خلقه، ويسعى للالتزام بالعبودية لله عز وجل. وبعد أن تحدثنا عن سمات المرحلة وخصائصها آن لنا أن نشرع في الحديث عن الأهداف التربوية، ولنبدأ بأهمها وأولاها ألا وهو الجانب الإيماني. * * * الحاشية ( 1) إن تقرير هذه الحقيقة لا يعني أن المراهق في المجتمع المسلم المعاصر لا يعاني من مشكلات أفرزها الواقع التربوي والاجتماعي والحضارة المعاصرة. ( 2)مقاييس اللغة (2/451). ( 3) لسان العرب (10/128-131). (4 ) سيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر. ص 14. ( 5) انظر علم نفس النمو. حامد زهران (293). ( 6) روى الرامهرمزي (188) بإسناده عن الثوري رحمه الله أنه قال:"يُثغِر الغلام لسبع، ويحتلم لأربع عشرة، ويكمل عقله لعشرين، ثم هو التجارب" قال: وقد رُوِي نحو من هذا عن علي. ( 7) يفسر كثير من المربين هذه الظاهرة تفسيراً سيئاً، ويرون أنها من مظاهر العشق، ويبالغون في التعامل معها، ومع أنها قد تؤدي لشيء من ذلك، لكنها سمة طبيعية في هذه المرحلة، وليست بالضرورة مَرَضية. ( 8) تم تلخيص سمات المرحلة من المراجع الآتية: النمو في مرحلة المراهقة. محمد عماد الدين إسماعيل/ المراهقون. عبدالعزيز النغيمشي/ المراهق. نوري الحافظ/محاضرات في سيكيولوجية النمو. جامعة الزقازيق/ سيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر. عبدالرحمن العيسوي/ علم نفس النمو. حامد زهران. علم نفس المراحل العمرية.عمر المفدى. ( 9) رواه البخاري (1358) ومسلم (2658). ( 10) الشعور الديني عند المراهق. عثمان جمعة ضميرية. مجلة البيان ع37 ص59-60. ( 11) منهج التربية الإسلامية. محمد قطب 2/202.
الأهداف والوسائل(/8)
الفصل الثالث: الجانب الإيماني حين نتحدث عن الإيمان بمفهومه الشرعي فنحن نتحدث عن الدين كله بكافة جوانبه، فالإيمان شعب أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. فالتربية الإيمانية بهذا المفهوم تشمل كافة جوانب التربية، بدءاً بتصحيح الاعتقاد والصلة بالله عز وجل، وانتهاءً بغرس الآداب العامة والخاصة، وتشمل كل ما يعين على القيام بواجبات الإيمان من علم ودعوة، وإعداد للإنسان للقيام بهذه المهام. لكنها تطلق باصطلاح أخص، يشمل جوانب الصلة بالله عز وجل وتحقيق التقوى والإيمان، وهو الاصطلاح السائد في الأدبيات التربوية اليوم بديلاً لاصطلاح (التربية الروحية) الذي يمثل تأثراً بالمصطلحات النصرانية والصوفية، وقد شاع هذا الاصطلاح وغيره نتيجة للاحتكاك الفكري بطوائف شتى من أهل الملل الأخرى والفرق الضالة، ونتيجة لضعف العلم الشرعي لدى كثير ممن يكتب في التربية الإسلامية والفكر الإسلامي. قال الشيخ بكر أبو زيد: "ومعلوم أن لفظ الروحانية، وهذه البلاد فيها روحانية، وهذه المجالس فيها روحانية، وهكذا كلها مصطلحات صوفية لا عهد للشريعة بها ، فعلى المسلمين تجنبها، وإن كان لها بريق، فعند تأمل البصير لها يجدها خواء، أو تشتمل على منابذة للشريعة بوجه ما" ( 1). والأولى الالتزام بالأسماء الشرعية (الإيمان، الإسلام، الصلاح، التقوى، الإحسان، الطاعة، المعصية، الفسوق....وغير ذلك). ففي غيرها من الألفاظ الطارئة محاذير عدة منها: 1- التشبه بأهل الملل الأخرى والطوائف الضالة. 2- أن هذه الألفاظ والأسماء لا تتلقى مجردة عن دلالاتها ومعانيها، ومن ثم يتسرب الانحراف إلى المعاني بعد أن كان في الألفاظ والأسماء. 3- أن الأسماء الشرعية لها معان ودلالات لا يفي بها أي اسم أو لفظ آخر. 4- أن الأسماء الشرعية تترتب عليها أحكام دنيوية كالعدالة التي تعد شرطاً لتولي التربية والتعليم، وقبول الشهادة والرواية…إلخ، وتترتب عليها أحكام أخروية، فالبعد عنها ينشأ عنه الخلط في هذه الأحكام. وسيكون حديثنا عن الجانب الأخص في التربية الإيمانية، والفصل إنما هو لضرورة البحث، وإلا فالكائن البشري كل لا يتجزأ، والإيمان هو الأصل وهو المبتدأ وإليه المنتهى. أهمية التربية الإيمانية: تبدو أهمية التربية الإيمانية وضرورة الاعتناء بها من خلال أمور عدة، من أهمها ما يلي: الأول: الإيمان هو أفضل الأعمال: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" ( 2). وعن أبي ذر- رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله" قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: "أعلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها" ( 3). وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال( 4). الثاني: الإيمان مناط النجاة يوم القيامة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" ( 5). الثالث: تفاوت الناس يوم القيامة على أساس الإيمان: وهذا التفاوت له ميادين منها: أ - تفاضل أهل الجنة فيما بينهم؛ فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" ( 6). ب - تفاوت العصاة من الموحدين في النار؛ فعن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك -رضي الله عنه- وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم...الحديث، وفيه: فأقول يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأخرجه، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقول:(/9)
يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل" ( 7). وفي حديث الشفاعة الطويل: "...فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبيَّن لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.. " (8 ) الرابع: الإيمان هو الأساس والأصل في التربية الإسلامية، وسائر الأمور إنما هي فروع وثمرات لهذا الأصل العظيم، فالسلوك والعلم الشرعي والجهاد والدعوة والكف عن الحرمات إنما هو ثمرة ونتيجة من نتائج تحقق الإيمان. وحين نعنى بتربية الإيمان في النفوس، ويأخذ الجانب الإيماني نصيبه وحظه نختصر خطوات عدة، ونوفر الجهد في ميدان ومجال واحد. الخامس: الإيمان هو الزاد للمرء في مواجهة الشهوات التي عصفت بشباب المسلمين اليوم، وهي مسؤولة عن حالات كثيرة من الإخفاق والتراجع. السادس: قوة الإيمان هي العلاج الأنجع لكثير من المشكلات التي يشتكي منها الشباب اليوم (قسوة القلب، ضعف العناية بالعبادات، الفتور...) والاعتناء بتقوية الإيمان والتقوى في النفوس خير من التداعي لعلاج هذه الأمراض بعد وقوعها. السابع: قوة الإيمان هي أهم ما يعين المرء على الثبات على دين الله، خاصة ونحن اليوم نعاني من كثير من حالات التقهقر والتراجع؛ لذا فحين سأل هرقل أبا سفيان -رضي الله عنه- عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" ( 9). الثامن: قوة الإيمان هي أعظم حاجز بين المرء وبين مواقعة الحرام والمعاصي، قال تعالى عن الشيطان: } إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ (النحل:99). وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" ( 10)، فالذي يحول بينه وبين الوقوع في هذه المعاصي وغيرها هو الإيمان. وحتى حين يواقعها العبد فالمؤمن هو أقدر الناس على الإقلاع والتوبة }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ{ (الأعراف:201). هذه الأمور وغيرها تؤكد على المربين ضرورة إعادة النظر في مدى الاعتناء بالجانب الإيماني في تربيتهم، وأين موقعه ضمن أولوياتهم؟ والنظر السريع اليوم في واقع جيل الصحوة يدعونا إلى إعطاء الجانب الإيماني مزيداً من الرعاية والعناية. ويمكن أن يتمثل الهدف العام في الجانب الإيماني فيما يلي: الهدف العام في الجانب الإيماني: غرس الإيمان وتقويته: وهو يعني تعاهد الإيمان في نفوس الناشئة، والسعي لتنميته وزيادته. وسائل عامة في البناء الإيماني: إن الوسائل التي تعين على تحقيق التربية الإيمانية وعلى زيادة الإيمان في نفوس الناشئة لا تخفى على الشباب العاملين في الميادين التربوية، لكن نشير إلى أهمها هنا لما يرتبط في بعضها من تفصيلات ربما تكون مهمة. ومن هذه الوسائل: 1 - الاعتناء بالقرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً: القرآن الكريم له أثره العظيم في إصلاح النفوس وتزكيتها، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، لذا فقد رأينا أثر الاجتماع على تلاوة القرآن الكريم وحفظه وتدارسه لدى شباب الصحوة اليوم، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" (11 ). ونحمد الله تبارك وتعالى أن وفَّق جيل الصحوة اليوم للاعتناء بالقرآن والتربية عليه، حتى صار حفظه وإتقانه هدفاً يتطلع إليه الشاب ويصرف زهرة وقته في تحصيله، وهذا أمارة تأس(/10)
بالسلف الذين كانت لهم عناية بالغة بتعلم القرآن وحفظه. عن جندب بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة(12 ) فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً( 13). وقال ابن عبدالبر: "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضلَّ، ومن تعداه مجتهداً زلَّ، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه... " ( 14). وقال محمد بن الفضل بن محمد: سمعت جدي - يعني ابن خزيمة- يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت فلما عيدنا أذن لي. وقال الإمام النووي : "كان السلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن " ( 15). ويحكي ذلك ابن خلدون فيقول: "اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات " ( 16). ومما ينبغي أن يضاف للاعتناء بحفظ القرآن ما يلي: 1- الاعتناء بتلاوته والتلذذ بسماعه، وما أجمل أن يطلب الشباب من أحدهم حين يجتمعون في مجلس من مجالسهم أن يتلو آيات من كتاب الله عز وجل، وكذا كان يصنع عمر -رضي الله عنه-، فعن أبي سلمة أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا رأى أبا موسى -رضي الله عنه- قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى؛ فيقرأ عنده(17 ). 2- الاعتناء بالتدبر، وتعويد الشباب عليه، وتدارس معاني القرآن الكريم. 3- الاعتناء بدراسة كتب التفسير، وعلوم القرآن وأسباب النزول… وغير ذلك مما له صلة بكلام الله عز وجل. 2- التفكر في المخلوقات: لقد أرشد القرآن الكريم في مواطن عدة إلى التفكر في مخلوقات الله تعالى، والاستدلال بعظمتها على عظمة خالقها عز وجل، وجعل ذلك من صفات أهل العقل والحكمة } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ{ (آل عمران:190). والتفكر الحقيقي في مخلوقات الله يؤدي بصاحبه إلى الإيمان والتقوى واللجوء لخالقه عز وجل؛ ذلك أن آيات الله إنما يعقلها العالمون من عباده، ويتفكر فيها أولو الألباب. لذا فعلى المربي الاعتناء بهذا الجانب والاهتمام به، ومن الوسائل المحققة لذلك ما يلي: 1- دراسة آيات القرآن الكريم التي فيها الحديث عن عظمة الله عز وجل، ودراسة تفسيرها، وربطها بالواقع. 2- ربط العلوم المادية التي يدرسها الطلاب -وتتناول جانباً من عظمة خلق الله- بالإيمان، والحديث عن مظاهر عظمة هذا الخلق التي تدل على عظمة الخالق عز وجل، وألا تعرض مادة جافة. 3- حين يخرج الأب مع ابنه، أو المعلم مع تلامذته إلى الخلاء فيرى جمال المخلوقات وتناسقها فليذكرهم بالله عز وجل، وليربطهم بآياته سبحانه. 4- دراسة جوانب من نتاج العلم المعاصر التي اكتشفت حقائق تدل على عظمة خلق الله عز وجل( 18). 3 - جلسات الذكر: لقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بمجالس الوعظ والتذكير، وكان أصحابه يجدون أثر ذلك في نفوسهم، ويفتقدونه حين يغدون إلى بيوتهم ويخالطون أهليهم. عن حنظلة الأسيدي- وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات( 19). وأثنى صلى الله عليه وسلم على الذين يجتمعون على ذكر الله وطاعته، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون:(/11)
لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميدًا، وأكثر لك تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم؛ إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" ( 20). وكان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اعتناء بمجالس الذكر، كما سيأتي في الحديث عن التعاون على أداء العبادة. 4 - المواعظ: الموعظة تحرك القلوب وتثير كوامن النفوس، وكثير من العصاة والمعرضين ارتدعوا عما وقعوا فيه من فسق وفجور بسبب موعظة استمعوا إليها. لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعنى بالموعظة لأصحابه، يحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " (21 ) . وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولاً (بين الحين والآخر)، وألا تكون بصفة دائمة. عن أبي وائل قال: كان عبدالله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا(22 ). ومن المواطن التي تناسب الوعظ المواقف المؤثرة؛ فهي تهيئ النفوس، وتزيل قسوتها؛ فتكون أقرب للتأثر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين وعظ أصحابه في جنازة أحد الأنصار. ومنها رؤية المربي للتقصير والإعراض من الناس، وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم ؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه، قال: غطوا رءوسهم ولهم خنين، قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً….( 23). 5- التعاون المشروع على أداء العبادات: النفس تضعف ويصيبها الفتور والتقصير، لكن المسلم حين يرى ما عليه إخوانه الصالحون يزداد همة ونشاطاً للعمل والاجتهاد فيه، لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس وأقربهم لله تبارك وتعالى يزداد طاعة وهمة، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة( 24).قال النووي عند ذكره لفوائد هذا الحديث:"ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم" (25 ). ومن صور التعاون المشروع على أداء العبادة: أ - الأمر بها والحث عليها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: "قومي فأوتري يا عائشة" ( 26). بل خرج صلى الله عليه وسلم من بيته ذات ليلة لابنته وصهره آمراً إياهما بالصلاة والتهجد، فعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلة فقال: "ألا تصليان؟ " فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك ولم يرجع إلي شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: } وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً{ (الكهف: 54) ( 27). ويوصي صلى الله عليه وسلم بهذا التعاون بين الرجل وزوجته مثنياً على من يفعله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" ( 28). ب - الاجتماع المشروع على العبادة، كالاجتماع على(/12)
الذكر، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك؛ فعن معاذ -رضي الله عنه- أنه قال: "اجلسوا بنا نؤمن ساعة"، يعني نذكر الله تعالى( 29). وعن الأسود بن هلال قال: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه : اجلس بنا فلنؤمن ساعة ، فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه ( 30). وعن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيماناً( 31). ومن ذلك الاجتماع أحياناً على أداء النافلة وصلاة الليل، على ألا يكون راتباً ودائماً. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التطوع في جماعة فصلى معه ابن عباس، وصلى معه حذيفة، وصلى معه جابر، وصلى بأصحابه جماعة في بيت رجل من الأنصار. وبوَّب البخاري على هذا الحديث (باب صلاة النوافل جماعة)، قال ابن حجر في فوائد هذا الحديث: "وفيه ما ترجم له هنا وهو صلاة النوافل جماعة , وروى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة , فأما أن يكون مشتهراً ويجمع له الناس فلا, وهذا بناه على قاعدته في سد الذرائع لما يخشى من أن يظن من لا علم له أن ذلك فريضة" ( 32). وقيَّدنا الاجتماع بأن يكون مشروعاً حذراً من الاجتماع غير المشروع، كالاجتماع على الذكر الجماعي، أو اتخاذ صلاة النافلة جماعة هدياً راتباً وجمع الناس لها. 6 - الاعتناء بمعرفة الأسماء والصفات: إن من يقرأ كتاب الله تعالى يدرك كثرة الحديث عن الأسماء والصفات والإشارة إليها، ويرد ذلك في مواطن عدة: في الحديث عن عظمة الله تعالى وعن مخلوقاته، وعند الحديث عن الأحكام، والخوف والرجاء، والقصص والأخبار... وسائر المواطن، وكثرة إيرادها وتنوعه في القرآن يدل على عظيم أثرها. قال ابن القيم رحمه الله: "فالإيمان بالصفات ومعرفتها وإثبات حقائقها وتعلق القلب بها وشهوده لها هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، وحاديهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير له ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه".( 33) قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم، من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، ولأن ثماره أفضل الثمرات؛ فإن معرفة كل صفة من الصفات توجب حالاً عليه، وينشأ عن تلك الحال ملابسة أخلاق سنية، ومجانبة أخلاق دنية، فمن عرف سعة الرحمة أثمرت معرفته سعة الرجاء، ومن عرف شدة النعمة أثمرت معرفته شدة الخوف، وأثمر خوفه الكف عن الإثم والفسوق والعصيان، مع البكاء والأحزان والورع وحسن الانقياد والإذعان…." ( 34). ولا شك أن الإثبات للأسماء والصفات كما يليق بجلال الله وعظمته دليل على تعظيم العبد لله، وأمارة على سلامة معتقده، وأن الزلل في ذلك جسيم، ومن ثم كان الضلال في هذا الباب واسعاً، وولج فيه طوائف عدة، حمانا الله من الزيغ، ووفقنا لسلوك سبيل أهل الحق. لذا فعلى المربي الاعتناء بتدارس هذا العلم الشريف مع طلابه، وألا يكون مجرد حديث جاف، بل يربط بعظمة الله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله، ويربط ذلك بآثارها السلوكية في حياة الإنسان. 7 - تذكر الموت والدار الآخرة: إن تذكر الموت والدار الآخرة مما يدفع الإنسان للعمل الصالح، ويزيده إقبالاً على الآخرة وبعداً عن الدنيا، لذا فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تذكر الموت والدار الآخرة، ودعا إلى ذلك؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكثروا ذكر هاذم اللذات -يعني الموت-" ( 35). ومن الوسائل التي تحقق ذلك: التذكير به، والحديث عن الدار الآخرة، والاعتناء بتلاوة آيات القرآن، وقراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها الحديث عن الآخرة ووصف حال أهلها. ومن ذلك الصلاة على الجنائز وشهودها، واتباع السنة في اتباعها إلى المقبرة، وتذكر حال أهلها. ومن الوسائل التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم زيارة القبور؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي؛ فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" ( 36). وعن ابن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها …." ( 37). 8 - التنافس والتسابق في الخير: لقد أثنى الله تعالى على عباده الذين يتسابقون بالخيرات ويتنافسون فيها، فقال تبارك وتعالى:}خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ{ (المطففين:26) وقال: } وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{ (آل عمران:133) وقال: }سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ(/13)
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ{ (الحديد: 21) ووصف عباده المرسلين بهذه الصفة فقال:}إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ{ (الأنبياء: 90). وجاء في السنة الثناء على الذين يتسابقون إلى الخير ويتنافسون فيه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً"(38 ). وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى الخيرات ويتنافسون فيها؛ فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبداً( 39). 9- القدوة الحسنة: القدوة الحسنة من أهم وسائل التربية الإيمانية وأعظمها تأثيراً، لذا فمن الأمور المهمة التي ينبغي أن يتصف بها المربي: السمت والهدي الحسن، وقد كان السلف يعنون بهذا الجانب كثيراً، ويرون أن من لايتسم بذلك لاينبغي أن يؤخذ عنه العلم أو يتلقى عنه. ومن أعظم الأدلة على أهمية القدوة وتأثيرها حديث الذين وفدوا المدينة مجتابي النمار، فعن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحثَّ الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصُرَّة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" ( 40). فقد ترك هذا الموقف أثراً في نفوس الناس ودفعهم إلى الصدقة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حثهم على ذلك. ومن المواقف التي تتجلى فيها أهمية القدوة ودورها في التربية، ماحصل أثناء حفر الخندق، حين اشتكى له أصحابه صلى الله عليه وسلم الجوع فكشف عن حجرين على بطنه. "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم ببنت شفة، لأن القدوة في مثل هذا الموطن هي التي تتحدث، لقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رداءه، فإذا مقابل كل حجر يربطه الصحابي على بطنه حجرين على بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن لسان الحال يقول: إن كنتم تربطون حجراً فأنا أربط حجرين اثنين. ترى لو كان النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً على أريكته يأكل ويشرب والناس في الخندق يحفرون، في جوع وبرد شديدين، أكان هذا الأمر هيناً على النفوس؟ حتى وإن لم تنطق بكلمة" ( 41). وقد نصَّ أهل العلم على أنه حين تكون المصلحة في إظهار العمل ليقتدى به فهو أفضل، قال الحافظ ابن كثير: "وقوله "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية" (42 ). وينبغي للمربي السعي للوقوف في موقف وسط بين إهمال القدوة، وبين تكلف فعل العمل الصالح وإظهار التخشع لأجل أن يقتدى به، فهذا قد يقوده إلى الرياء، وذلك مسلك خفي. وحين تصلح حاله، وتتحقق التقوى لديه، فلن يحتاج للتكلف، بل سيكون العمل والهدي الصالح سمتاً له. 10- الاعتناء بدراسة سير السلف: إن في سير السلف وأخبارهم من العبر والقدوة الشيء الكثير، لذا فالاعتناء بها وإبرازها، وربط الناشئة بهذا الجيل ورجاله يترك أثراً له أهميته في ميدان التربية . ومما ينبغي أن يُعنى به في هذا الميدان أن أقوال وأفعال آحاد السلف ليست حجة، بل لابد أن توافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وينبغي للمربين التنبيه على هذا الجانب، ومن ذلك ما يروى أن أحدهم صلى كذا وكذا سنة الفجر بوضوء العشاء، أو كان يقوم الليل كله، أو عاقب نفسه حين وقعت في خطيئة بصيام سنة….وغير ذلك، كل هذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. لكن لا يُسوِّغ ذلك الطعن فيمن نقل عنه شيء من ذلك، بل لابد من تربية الناشئة على توقير رجالات السلف والتأدب معهم، ومع ذلك حين يرون منهم ما يخالف الحق لا يتأسون به ويعتذرون لصاحبه، والطريقة التي يعلق بها المربي على مثل هذه الروايات لها أثر كبير غير مباشر في غرس هذه النظرة وهذا المنهج في التعامل مع سير السلف وأخبارهم، الذي يجمع بين توقيرهم واحترامهم، وبين قصر التلقي على ما يؤيده الوحي والنص الشرعي. أهداف فرعية في الجانب الإيماني: 1 - تقوية تعظيم الله في النفوس: وهذا هو(/14)
الأساس الذي تتفرع منه سائر فروع الاعتقاد، وقد عاب تبارك وتعالى على أهل الزيغ والضلال أنهم لم يقدروه حق قدره فقال: } وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{ (الزمر:67). وحين يستقر تعظيم الله تبارك وتعالى في النفس، ويملك صاحبه العلم الصحيح فإنه يسلم له اعتقاده، وتنضبط حياته بشرع الله تبارك وتعالى. فالذي يعظم الله تعالى لا يقدم بين يدي قوله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يتردد في تصديق الأخبار والتزام الأوامر وترك المنهيات، ولا يتعلق قلبه بغير الله، ولا يتجه لمخلوق؛ فيصفو اعتقاده ويستقيم عمله، ويضع للمخلوقين منزلتهم التي يستحقونها. ومن الوسائل التي تعين على تحقيق ذلك: 1- الاعتناء بتلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته. 2- التفكر في مخلوقات الله عز وجل؛ فيدرك من خلال ذلك عظمة خالقها عز وجل، وقد سبق الحديث عن هاتين الوسيلتين. 3- الاعتناء بتحقيق توحيد الأسماء والصفات ومعرفة الله عز وجل وسبقت الإشارة لذلك. 4- ترك تعظيم المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم، سواء أكانوا من أهل السلطان في الدنيا، أم كانوا من الأولياء والصالحين. 2 - تحرير القلب من التعلق بغير الله: إن كثيراً من أمراض الشبهات والشهوات ترتبط بتعلق القلب بغير الله، فأولئك الذين يلجؤون للسحرة والكهنة ويصدقون المشعوذين، وأولئك الذين يسيطر عليهم التطير والتشاؤم وسائر الأساطير إنما أتوا من تعلق قلوبهم بغير الله تعالى. وأصحاب الشهوات الذين فتنوا بها كذلك، فقلوبهم قد تعلقت بها واتجهت إليها وصارت هي قبلتهم. لذا كان لابد في التربية من تنقية القلوب وتخليصها من التعلق بغير الله والتوجه لسواه، سواء كان دافع ذلك شهوة أم شبهة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبرا لهم متصرفاً بهم ; فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر; فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد; وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها . وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ; فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ; الذي لا يستطيع الخلاص منه.... وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة : امرأة أو صبياً فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين " ( 43). وقال ابن القيم رحمه الله -حول حديث "من مات لايشرك بالله شيئاً.."-: "فاعلم أن هذا النفي العام للشرك -أن لا يشرك بالله شيئاً البتة- لا يصدر من مُصر على معصية أبداً، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمُصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئاً، هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لا حظَّ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فرض ذلك واقعاً لم يلزم منه محال لذاته، فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمساً في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذُلَّ المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره من الأسباب التي توصله إلى غرضه؛ فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك، نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام، وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عُبَّاد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين، والمقصود أن من لم يشرك بالله شيئاً يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصرّاً عليها غير تائب منها، مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى" (44 ). 3 - تقوية التقوى في النفس: التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين } ولقد وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ { (النساء:131) ، وقد تكرر الأمر بتقوى الله تعالى في كتابه، ورُبطت(/15)
التقوى بأركان الإسلام وشعائره العظام، ففي الصيام يقول تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (البقرة:183) وفي الحج يقول تعالى: }وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ{ (البقرة:197). ومما يعين على تحقيق التقوى: 1 - الاعتناء بالأمر بها والحثُّ عليها، وقد كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في خطبه كثيراً ما يأمر بتقوى الله، ويتلو الآيات التي ورد فيها الأمر بذلك (آية آل عمران، وآية النساء، وآية الحشر). وحين سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق" ( 45). 2 - تدارس صفات المتقين في كتاب الله تبارك وتعالى، والسعي لتطبيقها وتمثلها. 4 - تقوية المراقبة لله تبارك وتعالى: "المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه" ( 46)، وهي منزلة عالية جعلها النبي صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب الدين، فقال في حديث جبريل المشهور: "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وعن عبد الله بن معاوية الغاضري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاث من فعلهن فقد طعم طَعْمَ الإيمان، مَنْ عبد الله وحده؛ فإنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدةً عليه كلَّ عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة، ولا الشَّرط اللائمة ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم؛ فإن الله عز وجل لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره، وزكى عبد نفسه"، فقال رجل: ما تزكية المرء نفسه يا رسول الله؟ قال: "يعلم أن الله معه حيثما كان" ( 47). ومما يعين المربي على تحقيق ذلك: 1 - الوعظ والاعتناء به؛ وإنما تعظم ثمرته حين يخرج من قلب صادق، قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك؛ فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك( 48). ب - الاعتذار عما قد يطلبه المتربي - مما فيه مخالفة لأمر الله أو تقصير- بمراقبة الله واطلاعه. ج - كثيراً ما يحدث الابن أباه أو معلمه عن بعض ما يراه من مواقف فيها مخالفة شرعية، كالغش والاحتيال ونحو ذلك، وهو في الأغلب يسوقها خبراً عادياً أثاره فيه غرابته، فيجدر أن يعلق المربي على مثل هذه المواقف بأن أولئك الذين لا يراقبون الله تعالى لو كان لديهم أحد من البشر يخافونه لما اجترؤوا على المخالفة، وبأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً بعد ذلك. د - الحذر من مراقبة الشاب بالصورة التي تجعله يترك المعصية إرضاء لمن يربيه، بل ربطه بالله عز وجل في هذا الجانب، وتنمية الرقابة الذاتية، حتى لو علم المربي بوقوع الشاب في معصية. 5 - العناية بأعمال القلوب : إن مناط النجاة يوم القيامة هو صلاح القلب واستقامته }يومَ لاينفعُ مالٌ ولابنونَ إلا مَنْ أتى الَله بقلبٍ سليمٍ{، ولذا فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن القلب هو ميدان الصلاح والفساد الحقيقي، وسائر الجسد إنما هو تبعٌ له، فقال: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (49 ). ومن ثم كانت "التربية الإسلامية تولي الاهتمام الأكبر في تقويم السلوك إلى إصلاح القلب وتثبيت الإيمان فيه، فإذا استقام السلوك الداخلي استقام تبعاً له الخارجي لا محالة، بخلاف العناية بتقويم السلوك الظاهر فقط؛ فإنه يعتبر بناء على غير أساس، وكل بناء على غير أساس عرضة للانهيار" ( 50). قال ابن رجب رحمه الله:" فأفضل الناس من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية؛ فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان" (51 ). وقال شيخ الإسلام رحمه الله:"والدين القائم بالقلب من الإيمان علماً وحالاً هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع وهي كمال الإيمان" ( 52). وقال ابن القيم رحمه الله: "ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟ وهل يمكن أحداً الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت" (53 ). 6 - العناية بالفرائض: الفرائض هي الأساس والأصل، وأعظم ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى كما أخبرنا بذلك عنه أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم فقال: فيما يرويه عن ربه: "وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه " (54 ). ومن الأمور التي ينبغي أن يعنى بها المربي: الحرص على غرس تعظيم الفرائض والاعتناء بها ورعايتها لدى من يربيهم، وضرورة تقديمها(/16)
على النوافل والتطوعات. واهتمام المربي بالفرائض والاعتناء بها لا ينبغي أن يقف عند مجرد تأكيد الإتيان بها وفعلها، بل الاعتناء بأدائها وإقامتها على الوجه الأكمل، وإتقانها وإحسانها، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيها. عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره" ( 55). ومن ذلك الاعتناء بتعليم المتربين أحكامها، والسعي لإتقانهم ما يتوقف عليه صحة الفرائض وبطلانها، ثم الاعتناء بتعليم آدابها وسننها وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. 7 - تعظيم حرمات الله واجتناب المعاصي: إن من أمارات صدق الإيمان وقوته بُعْد العبد عن معصية الله تبارك وتعالى وتعظيمه لمحارمه. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- :" إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا - قال أبو شهاب بيده فوق أنفه-" ( 56). ومن ثم كان من أهم ما ينبغي أن يعنى به المربي غرس تعظيم حرمات الله ومعاصيه في نفوس من يربيهم. ومن الوسائل التي تعينه على ذلك: أ - تذكيرهم بشأن الذنوب والمعاصي وخطورتها، وأثرها على النفس(57 ). ب - ابتعاده هو عنها، ومجانبته إياها. ج - أن يروا منه تعظيمها واستنكاف إتيانها، وتأثره حين يرى أحداً يواقعها، وهو سلوك لا يستطيع أن يتكلفه من لم يستقر تعظيم حرمات الله في قلبه. د - أن يجنبهم المواطن التي تظهر فيها المعاصي، ويعوِّدهم على هجرها إن لم يستطيعوا إنكارها؛ لذا فقد عظَّم الشرع عقوبة المجاهر بالمعصية، ونهى عن مجالسة أهل العصيان إن لم يرتدعوا عن ذلك } فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ {(النساء:140). هـ - ألا يتساهل بمجاهرة أحد بها، وأن يناصحه حين يراه وقع فيها محذراً إياه من شؤمها وأثرها. 8 - الورع واجتناب الشبهات: الورع واجتناب الشبهات طريق لتحقيق الابتعاد عن الحرام؛ لأن من يواقع الشبهات يوشك أن يواقع الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم : " الحلال بيِّن والحرام بين وبينهما مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (58 ). والذين يُعدُّون للدعوة إلى الله تعالى وتوجيه الناس يتأكد في حقهم اجتناب الشبهات والورع عنها؛ إذ هم المرآة أمام الناس ينظرون إليهم ويتأسون بهم. وهذا يفرض على المربي الاعتناء بتحقيق ذلك في نفسه، والاعتناء بإبعاد المحاضن التربوية عن كل ما فيه شبهة شرعية، أو يوحي بشيء من الاستهانة بحدود الشرع وآدابه. ومما يؤسف له أننا نرى اليوم إهمالاً للورع الشرعي، فيتساهل بعض المربين في كثير من الأمور بحجة عدم النص على تحريمها، أو أن فيها خلافاً بين أهل العلم، ومن تأمل أحوال السلف وسيرهم رأى خلاف ذلك. وثمة فرق بين سلوك الشخص في ذات نفسه، وبين البرامج التي تقدم ليتربى عليها الشباب، وينتظر منها أن تغرس الورع والتقوى في نفوسهم. وثمة فرق أيضاً بين أن يمتنع الإنسان عن أمر تورعاً وبين أن يحرمه ويُؤثِّم من فعله. 9 - العناية بالنوافل: بعد تحقيق الإتيان بالفرائض لابد من الاعتناء بالنوافل؛ إذ هي سبب لتحقيق محبة الله تعالى : "...وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه... " ( 59). كما أن بها يكمل ما انتقص من فريضة العبد "...فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة... " ( 60) . واعتناء الشاب بالنوافل والعبادة لله مما يزيده إيماناً وتقوى لله عزوجل، ومما يصلح كثيراً من أحواله. ومن الوسائل التي تعين المربي على تحقيق هذا الجانب: أ - اعتناء المربي نفسه بأداء النوافل والمحافظة عليها حتى حين يضيق به الوقت. وتطبيق المربي للسنة في أداء النوافل في المنزل مما يربي أولاده على الاعتناء بها، وهذه السنة قد غفل عنها كثير من طلبة العلم، حتى صار الناس يظنون بالذي يؤدي النوافل في البيت أنه لا يصليها. ب - توجيه المتربين وبيان منزلة النوافل وفضلها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلى الاعتناء بالنوافل، كما ورد في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- حين قصت أخته حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا التي رآها، فقال لها:" نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" فكان بَعْدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً(61 ). ووجَّه عبدالله بن عمرو للاعتناء بقيام الليل، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-(/17)
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عبدالله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل" ( 62). ج - أن يراعى في أوقات البرامج العامة التي تقدم للطلاب ترك وقت لأداء النوافل، وبيان ذلك للطلاب وحثهم عليها. د - أن يراعى المربي ذلك حين تكليفه لمن يربيه بأمر أو مهمة، فحين يطلب الأب من ابنه أداء مهمة عاجلة فليس من المستحسن أن يأمره بترك الراتبة، وحين يكون الأمر عاجلاً يوجهه إلى أن يؤديها في المنزل، أو بعد فراغه من المهمة إن كانت لا تطول. * * * الحاشية ( 1) معجم المناهي اللفظية ص 285. ( 2) رواه البخاري (26) ومسلم (83). ( 3) رواه البخاري (2518) ومسلم (84). (4 ) رواه مسلم (1885). ( 5) رواه مسلم (54). ( 6) رواه مسلم (2831) وأصله في البخاري دون موضع الشاهد. ( 7) رواه البخاري (7510). (8 ) رواه البخاري (7440) ومسلم (182). (9 ) رواه البخاري (71) ومسلم (1773). ( 10) رواه البخاري (2475) ومسلم (57). ( 11) رواه مسلم (2699). ( 12) الحَزَوَّر هو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وهو الذي قارب البلوغ (اللسان 4/187). ( 13) رواه ابن ماجه (61). ( 14) جامع بيان العلم وفضله (2/166). ( 15) المجموع (1/38). ( 16) مقدمة ابن خلدون (537-538) . ( 17) رواه الدارمي (3493) . ( 18) انظر: مفتاح دار السعادة/ النحلة تسبح الله لمحمد حسن الحمصي/ غريزة أم تقدير إلهي لشوقي أبي خليل/ العلم يدعو إلى الإيمان/شريط وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً لأحمد الدعيج. ( 19) رواه مسلم (2750). ( 20) رواه البخاري (6408) ومسلم (2689). ( 21) رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42). ( 22) رواه البخاري (70) ومسلم (2821). ( 23) متفق عليه واللفظ لمسلم (2359). ( 24) رواه البخاري (3220) ومسلم (2308). ( 25) صحيح مسلم بشرح النووي (15/75-76) . ( 26) رواه مسلم (744). ( 27) رواه البخاري (1127) ومسلم (775). ( 28) رواه أحمد (7362) وأبو داود (1308) والنسائي (1610) وابن ماجه (1336) . ( 29) رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (105). ( 30)رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (107) وأبو عبيد في الإيمان (20). ( 31)رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (104). ( 32) فتح الباري (3/79-80). ( 33) مدارج السالكين (3/350). ( 34) فتاوى العز ابن عبدالسلام 240-241. وانظر للاستزادة: مفتاح دار السعادة 2/90/ معارج القبول 1/126/ الأسماء والصفات لعمر الأشقر 18-38. ( 35) رواه أحمد (7865) والترمذي (2307) والنسائي (1824) وابن ماجه (4258). ( 36) رواه مسلم (976). ( 37) رواه مسلم (977). ( 38) رواه البخاري (615) ومسلم (437). ( 39) رواه الترمذي (3675) وأبو داود (1678) والدارمي (1660). ( 40) رواه مسلم (1017). ( 41) التربية الوقائية في الإسلام ومدى استفادة المدرسة الثانوية منها. خليل الحدري ص216-217. ( 42) تفسير ابن كثير (1/482). ( 43) مجموع الفتاوى (10/186-187). ( 44) مدارج السالكين (1/354-355). ( 45) رواه أحمد (7847) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246). ( 46) مدارج السالكين 2/68. ( 47) رواه البيهقي (4/95)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1046). ( 48) مدارج السالكين 2/68. ( 49) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). ( 50) الأهداف التربوية السلوكية عند شيخ الإسلام ابن تيمية (113). ( 51) المحجة في سير الدلجة (56). ( 52) مجموع الفتاوى (10/355). ( 53) بدائع الفوائد ( 3/710). ( 54) رواه البخاري (6502). ( 55) رواه مسلم (245). ( 56) رواه البخاري (6308). (57 ) من المراجع المفيدة في ذلك: مفتاح دار السعادة، وشعب الإيمان للبيهقي، ومدارج السالكين (منزلة التوبة). ( 58) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). ( 59) رواه البخاري (6502). ( 60) رواه الترمذي (413) وابن ماجه (1426). ( 61) رواه البخاري (1122) ومسلم (2479). ( 62) رواه البخاري (1152) ومسلم (1159).(/18)
الفصل الرابع: الجانب العلمي والعقلي إن أي تربية تتجاوز البناء العلمي الشرعي، أو تعطيه مرتبة متأخرة بين المتطلبات التربوية،هي بعيدة عن المنهج النبوي؛ ذلك أن الجيل الذي يعاني من الضعف العلمي لن يقوم بالواجبات الشرعية في نفسه كما ينبغي، فضلاً عن أن يقوم بواجب الإصلاح والدعوة للناس. ويحتاج جيل الصحوة اليوم إلى أن يعطي الجانب العلمي القدر الذي يستحقه من الأوقات والجهود، أما حين يكون نصيبه فضلة الوقت والجهد، فسوف ينشأ جيل يعاني من البنيان الهش الذي سرعان ما ينهار، أو يأخذ ذات اليمين أو الشمال. ومما ينبغي مراعاته في هذا الجانب: 1- إعطاء الجانب العلمي الاهتمام اللائق به كما سبق، دون إفراط أو تفريط. 2- الاعتناء بتعليم كافة الشباب - بغض النظر عن تخصصاتهم العلمية والعملية - الحد الأدنى من العلم الشرعي، الذي يمكنهم من فهم المسائل الشرعية العلمية، والتعامل مع مصادر المعلومات بالطريقة التي تتناسب مع مستوياتهم. 3- ينبغي أن تسعى المحاضن التربوية إلى غرس الاهتمام العلمي في نفوس الناشئة، لا أن تكون البرامج العلمية مجرد استجابة لمطالب أو ضغوط ذوي الاهتمام العلمي. 4- هذا الميدان من أكثر الميادين التي يبدو فيها تفاوت القدرات والإمكانات، ومن ثم فلابد من مراعاة ذلك واعتباره؛ إذ يغلب على كثير من المحاضن والمؤسسات التربوية إعطاء برامج موحدة لجميع الطلاب في الميدان العلمي، وهي قضية يجب أن يعاد فيها النظر. ولئن كانت هناك معوقات كثيرة ترتبط بالمؤسسات التعليمية الرسمية، فالمؤسسات التعليمية الخاصة، والمحاضن التربوية تملك من المرونة والحرية ما يعينها على تصميم برامج تراعي فيها الفروق الفردية، وتفاوت الإمكانات والقدرات وتفاوت الحرص والاهتمام العلمي، وألا تقدم لطلابها نسخة مكررة من البرامج التعليمية. 5- ينبغي أن تمتد أهدافنا لتعنى بالتربية العقلية، وألا تقف عند حدود إعطاء الجانب العلمي والمعرفي، خاصة وأن "مرحلة الشباب تعتبر أحسن فترات حياة الفرد للتربية العقلية" ( 1). فمن خلال التربية العقلية الصحيحة يمكن تهيئة الأرضية المناسبة للتلقي العلمي، ومن خلالها يملك الشاب الآلية التي تعينه على التعامل الصحيح مع المعلومات والمعارف التي يتلقاها. كما يتجاوز أثر التربية العقلية الجانب العلمي إلى سائر مجالات حياة الشاب فلها نتائج مهمة "في حياة الفرد، وفي مشاعره وقيمه وأهدافه وتعامله وتعايشه وتصرفاته" ( 2). و"عن طريق التربية العقلية يكون الفرد قادراً على إصدار أحكامه الصائبة على الأشياء، واستفادته من أخطائه وأخطاء غيره، والانتفاع بتجاربه وتجارب الآخرين، وقدرته على حل المشكلات ومواجهة المواقف"(3 ). الهدف العام في الجانب العقلي والعلمي: تقوية البناء العقلي والعلمي. ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال الوسائل الآتية: وسائل عامة في البناء العلمي والعقلي: هناك وسائل عامة تعين على تحقيق البناء العلمي والعقلي لا يمكن إدراجها تحت هدف واحد ، ومن هذه الوسائل: 1 - تطوير طرق التعليم والبرامج الثقافية: رغم تطور الفكر التربوي، وكثرة المختصين والمهتمين في هذا الجانب، فإن الطرق التقليدية في التعليم هي التي تسود اليوم في مدارسنا، وحتى التعليم الشرعي خارج نطاق التعليم الرسمي يتسم إلى حد كبير بهذه السمة. ولأجل الارتقاء بمستوى القدرات العلمية وتجاوز ما يعانيه الجيل اليوم من سطحية وضيق أفق، كان لابد من تطوير طرق التعليم، سواء من خلال الفصل الدراسي، أو من خلال الدروس العلمية والمحاضرات الثقافية والفكرية التي تقدم للناس في المسجد وخارج المسجد. ومن ملامح هذا التطوير الذي يمكن أن يسهم في الارتقاء بمستوى الشباب اليوم: 1- البعد عن الطرق الإلقائية الرتيبة، والاعتناء بالطرق الحديثة في التعليم. 2- البعد عن الطرق التي تركز على اتجاه واحد في الاتصال، ويكون دور المعلم فيها هو الملقي، ودور الطالب هو التلقي والاستماع. 3- مع أهمية الحفظ وحاجتنا إليه في العلم الشرعي، إلا أنه ينبغي ألا نعتمد عليه وحده، وألا يكون دور الطالب قاصراً على التذكر والاستدعاء فقط، بل لابد من الارتقاء إلى المستويات الأعلى منه في التحصيل (كالفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم)(4 ). فحين يُقدَّم للطالب درس في تعليم صفة الوضوء، فليطلب منه التطبيق بعد ذلك، وليُقدم المعلم لهم فيلماً يسجل فيه مواقف عدة ويطلب منهم بناء على ذلك اكتشاف الأخطاء التي وقعت في الوضوء. ومثله معلم العقيدة، حين يتناول موضوع القضاء والقدر، فليطلب من الطلاب مثلاً قراءة سورة الأنفال واستخراج ما يتعلق بهذا الركن العظيم، وليطلب منهم بيان آثار الإيمان بالقضاء والقدر على حياة المسلم، وذكر صور الانحراف والأخطاء في مفهوم القضاء والقدر لدى المسلمين اليوم. 4- تطوير أساليب التقويم وطرقه، فبدلاً من أن يكون الواجب المنزلي يتعلق بأسئلة مباشرة يبحث الطالب عن إجابتها في الكتاب يُكلف(/19)
المعلمُ الطالبَ مثلاً أن ينظر إلى المصلين الذين يقضون الصلاة، ويذكر عدداً من الأخطاء التي وقعوا فيها، وأن يقدم المعلم مقالة مكتوبة للطالب ويطلب منه نقدها وبيان ما فيها من سلبيات وإيجابيات. 5- إعطاء فرصة للطالب في تقويم ما يسمع ونقده، بل تشجيعه على ذلك ودفعه له، بدلاً من أن تكون مهمته منحصرة في السؤال عما أشكل عليه، وأحياناً يدعو المعلم لذلك بقوله، لكن غضبه وانفعاله ونقاشه الحاد لما يقوله الطالب مخالفاً لرأيه يسهم في وأد روح النقد والتقويم لدى الطالب. وينبغي مع ذلك أن يراعى الاعتدال؛ فالإفراط في ذلك قد يؤدي إلى مناقشة البدهيات والمسلَّمات، أو تخريج طلاب يجيدون فن الجدل والخصومة، أو يسيئون الأدب مع الأكابر. 2 - تطوير أساليب الخطاب ومضمونه: إن الاعتناء بمضمون ما يقدم للناشئة في الدروس العلمية والملتقيات الفكرية أمر له أهميته وأثره في بناء شخصية الطالب، ومن المقترح في ذلك: 1- الاعتناء باختيار الموضوع الذي يتحدث فيه المتحدث أو الكاتب، والبعد عن الموضوعات التقليدية التي ملَّ الناس منها وسئموها. 2- الاعتناء بمحتوى ما يقدِّم للناس، والإعداد الجيد له، وتقديم الجديد المفيد، حتى في تناول الموضوعات التي يتكرر طرقها يمكن للكاتب أو المتحدث أن يقدم الجديد في محتواها. 3- البعد عن تقديم النتائج المباشرة، والسعي للإقناع من خلال الأدلة العلمية الموضوعية، والوصول للنتائج من خلال المقدمات. 4- الاعتدال في الحماس للرأي والفكرة الشخصية، والتفريق بين الحكم الذي جاء بنص الشرع، وبين فهم فرد معين لمسألة أو نص شرعي( 5). 3 - زيادة دور الطالب في التعلم: تعتمد الاتجاهات التربوية الحديثة على تفعيل دور الطالب في التعلم والتلقي، وألا يكون دوره قاصراً على مجرد الاستماع. ومما يعين على ذلك: 1- الاعتماد على الطرق الحديثة في التعليم وعدم التركيز على الطرق الإلقائية. 2- الاعتناء بالبحوث مع مراعاة أن تكون مناسبة لمستوى الطالب، وكلما كانت قصيرة، وتتطلب الوصول إلى نتائج معينة - دون أن تعتمد على مجرد النقل والجمع- أمكن أن تؤدي دورها. 3- تعويد الطالب الوصول إلى المعلومات بنفسه من خلال السؤال والمناقشة، مع مراعاة أن يكون النقاش معيناً للوصول إلى المعلومة، دون أن يكون استظهاراً لما سبق، أو سؤالاً لا يعرف إجابته إلا من سبق له إدراك هذه المعلومة، ومن تأمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجد العناية بهذا الجانب، كما في حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار فقال: "إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم" فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم فسكت. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هي النخلة" ( 6). قال ابن حجر: "قوله : ( ووقع في نفسي ) بيَّن أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال: فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به , وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال , وأن الملغز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز باباً يدخل منه , بل كلما قرَّبه كان أوقع في نفس سامعه" (7 ) . 4 - المحافظة على الطاقة العقلية: طاقات الإنسان مهما بلغت وعظمت فهي محدودة، وذلك لا يصدق على الطاقة البدنية فحسب، فالطاقة العقلية والنفسية تحكمها السنة نفسها، وحتى تستثمر هذه الطاقة وتوظف في ميادينها المناسبة لابد من حمايتها من أن تبدد فيما لا طائل من ورائه. لذا فإشغال العقل بالتساؤل والبحث في أمور الغيب، أو بما لا فائدة فيه من أبواب العلم، أو بالتفاصيل التي لا ضرورة لها ولا حاجة، ولا يترتب عليها خير ومنفعة في دين ودنيا، هذا الإشغال سيكون على حساب أمور أخرى هي أهم وأحوج، إذا افترضنا أن هذا المتسائل أدرك من وراء تحصيله شيئاً. لذا فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه من علم لا يتحقق من ورائه نفع ولا فائدة؛ فعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها؛ أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها" ( 8). ووجَّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سؤال الله ذلك، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع" ( 9)، والدعاء يقتضي من المرء -مع الاستعانة بالله- سلوك الأسباب الموصلة إليه. و لا يقف الأمر عند حد تحصيل المرء لعلم لا ينفعه يأخذ حيزاً من ذهنه، بل يولِّد لديه اتجاهاً للتساؤل والبحث عن مثل هذه القضايا، ويصبح الانشغال بها ديدناً له. ويزداد تأكد الأمر في هذه المرحلة المهمة من العمر،(/20)
التي تعد مرحلة البناء والإعداد، وتزداد الخسارة حين تبدد هذه الطاقة فيما لا طائل وراءه. 5 - التعويد على القراءة الواسعة: تمثل القراءة عاملاً مهماً في توسيع أفق الشخص وتنمية قدراته ومهاراته، ومن ثَمَّ فغرس حُبِّ القراءة لدى الناشئة يترك أثره في نموهم العلمي والفكري. ويمكن أن يتم التعويد على حُبِّ القراءة بطرق عدة، منها: 1- الإحالة إلى أحد الكتب المهمة والشيقة عند الحديث عن قضية من القضايا، وكلما كان الكتاب متوفراً وقريباً من الطلاب كان أقرب إلى تحقق هذا الهدف. 2- وصف الكتاب والحديث عنه وطريقة مؤلفه ومزاياه. 3- المسابقات العلمية ومن أفضلها في غرس القراءة الواعية المدركة: أن يطلب من الطلاب قراءة كتاب أو جزء منه، ثم يطلب منهم الإجابة على أسئلة محددة، وذلك بعد فراغهم من قراءته، أما الأسئلة التي تُعطى سلفاً فالغالب أن يبحث الطالب عن الإجابة في الكتاب دون أن يقرأه ويستوعب ما فيه. 4- اقتراح برامج متدرجة في القراءة، وذلك بأن تحدد للطلاب فئات (أ، ب، ج، د) مثلاً، وكل مجموعة تحوي كتابين أو ثلاثة، وتكون هذه الفئات متدرجة في الصعوبة وحجم الكتاب، فحين يتم الطالب قراءة فئة (د) ينتقل إلى فئة (ج) وحين يتمها ينتقل إلى فئة (ب) وإذا أشيع روح التنافس والمسابقة في ذلك ازداد الدافع لدى الطلاب. 5- الإهداء الخاص، وذلك بأن يقدم المعلم للطالب هدية خاصة تتمثل في كتاب مناسب لمستوى تحصيله وإدراكه. 6- تخصيص أوقات للقراءة، ويمكن أن يكون ذلك في حصص الانتظار، أو في برامج الأنشطة المدرسية، فيبقى الطلاب في المكتبة وعلى كل طالب أن يختار كتاباً مناسباً ليقرأ فيه. 7- تأمين الكتب المناسبة والشيقة في المنزل والمدرسة، ومواطن تجمعات الشباب ولقاءاتهم. 8- كتاب الشهر أو كتاب الأسبوع، وهو كتاب يُختار بعناية مما يناسب مستوى الطلاب، ويُعلن عنه مع صورة غلافه، وإذا أمِّن بسعر مخفض فهذا حسن. 9- زيارة المكتبات ودور النشر ومعارض الكتب، وإطلاع الشاب على محتوياتها وحثه على الشراء. 10- فاقد الشيء لا يعطيه، فحين يكون المعلم والمربي قارئاً، ويلمس تلامذته أثر ذلك في شخصيته، ويعتادون رؤية الكتب معه، واهتمامه بها، فإنهم سينشؤون على حُبِّ القراءة. وبدون البرامج العملية التي تربط الطلاب بالقراءة وتدعوهم لها، لن يكون كثرة الحديث عن أهمية القراءة ودورها ذا أثر فاعل. 6 - الربط بالمصادر العلمية والفكرية المناسبة: يحتاج الناشئ في البداية أن يوجَّه إلى اختيار المناسب في خضم الكم الهائل المتاح من مصادر التعلم، ومن ثم فتوجيهه للكتب المناسبة، والكتَّاب المناسبين، والدوريات الموثقة الرصينة، والأشرطة العلمية الفكرية، مما يعينه على توسيع أفقه، ويسهم في تحقيق البناء العلمي والعقلي لديه بشكل أشمل. ومع الحاجة إلى الانفتاح وزيادة دائرة اتصال الشاب بالمصادر العلمية إلا أنه لا يستغني عن الإرشاد والتوجيه مما يختصر عليه خطوات كثيرة. وهذا إنما يجيده المربي الناضج الذي يتسم بسعة الاطلاع والقراءة الواسعة، أما أولئك الذين دعت الضرورة إلى الاعتماد عليهم فعليهم أن يعرفوا قدرهم، وألا يجعلوا الشباب ضحية تفكيرهم المحدود، واطلاعهم القاصر؛ فيمارسوا في حقهم الاسترقاق الفكري وقد ولدوا أحراراً. 7 - تنويع مصادر التعلم: مهما بلغت قدرات المربي وطاقاته يبقى يمثل تجربة محدودة، وهو بشر يحمل من القصور والسلبيات ما يحمله غيره من البشر. لذا كان لابد لتوسيع أفق المتربي، وتنمية قدراته، وبناء شخصيته العلمية والفكرية من فتح قنوات أخرى غير هذه، ومن ذلك: 1- تنويع قراءاته وعدم الاقتصار على شريحة معينة من الكتَّاب في إطار زمني أو مكاني محدد. 2- اتصاله الفكري واستفادته من عدد كبير من الأشخاص، من خلال استضافة بعض المتحدثين بين آونة وأخرى، وزيارتهم واللقاء معهم، وكلما تنوعت تجارب هؤلاء واتسعت خبراتهم أسهم في استفادة الطالب منهم. 3- التخلص من الممارسة غير المقبولة التي يفرضها بعض المربين-بحسن نية- من خلال طول أمد بقاء تلميذه مرتبطاً به دون سواه، وفرض حصار فكري عليه، ورفض كل مالم يرد عن قناته التي يتحكم فيها، وما أصدق مقولة الفاروق هاهنا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" وقديماً قيل : "لا تعرف خطأ أستاذك حتى تصاحب غيره". وينبغي التأكيد هاهنا على التعامل المعتدل مع مثل هذه المقترحات، وعدم التطرف في استخدامها، ومراعاة التدرج، وأن القفزات المحطمة قد تحول التلميذ الناشئ إلى أتون فوضى فكرية قبل أن يدرك، وثمة تجارب جنى أصحابها ثمرة التطرف في الانفتاح غير المتزن. إلا أن هذا التطرف والتسيب لا يعالج من خلال ممارسة الحصار والاسترقاق الفكري للأحرار من الناس. 8 - الاعتناء بطرق التعليم الفردي: توفر التربية المعاصرة نماذج من أساليب التعليم الفردي، التي يستطيع من خلالها الطالب أن يواصل التعلم بمفرده، دون الحاجة إلى معلم( 10). والاستفادة من هذه(/21)
التجارب واستثمارها، بعد تطبيعها بما يتناسب مع الأوضاع التربوية، مما يعين على الوصول إلى أهداف قد نرى أن قدراتنا تعجز عنها. والدعوة إلى استثمار طرق وأساليب التعلم الفردي لا تعني اعتبارها البديل الوحيد، فلا غنى للطالب عن الارتباط بمعلمه والاستفادة من كثير من خبراته. أهداف فرعية في البناء العلمي والعقلي: ثمة أهداف فرعية تؤدي إلى الهدف العام وهو تحقيق البناء العلمي والعقلي، وتتمثل أهم هذه الأهداف فيما يأتي: 1 - غرس الشعور بالحاجة للتعلم: قبل أن نبدأ بالتعليم أو تناول البرامج العلمية لابد من تهيئة الأرضية المناسبة لذلك، وإعداد المتربي ليقبل على العلم والتعلم، ويشعر بحاجته إليه، وأهميته له. ومما يعين على تحقيق هذا الهدف: 1- بيان فضل العلم وأهله، ومنزلته من بين سائر مايتقرب به العبد إلى ربه عز وجل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حاثاً لهم: "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" (11 ). ومن المفيد والمهم دوام التذكير بفضائل العلم وأهله بين آونة وأخرى، ودراسة بعض الكتب المفيدة في ذلك(12 ) . 2- استثمار المواقف التي يمر بها المتربي لإشعاره بالحاجة للعلم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء المسيء صلاته وصلى فقال له: "ارجع فصلِّ؛ فإنك لم تصل". فأعاده صلى الله عليه وسلم مراراً حتى أحس- رضي الله عنه - بالحاجة للتعلم فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلِّمني( 13). 3- تناول بعض الموضوعات، وتقديم بعض البرامج العلمية التي تتناول جوانب يحتاج إليها الشاب بطريقة سهلة ومشوقة، تشعره بقيمة ما تعلمه، وأهمية الإقبال على العلم الشرعي. 4- وضع برامج لتداول وتوزيع الكتب والأشرطة العلمية المناسبة لمستوى الشاب والاعتناء بسماعها( 14). 5- الاعتناء بإبراز سير العلماء ودراستها، والتركيز على أثر الجانب العلمي في شخصياتهم. 6- زيارة العلماء وطلاب العلم، وحضور مجالسهم وغشيانها، فلذلك الأثر القوي في إبراز شخصياتهم أمام الشباب، وفي تطلعهم إلى أن يسيروا على طريقهم. 2 - تعليم العلوم الضرورية: إن المسلم -بغض النظر عن موقعه في سلم الثقافة- يحتاج إلى قدر ضروري من العلوم الشرعية، يعرف بها ما يستقيم به دينه، ويسلم فيه اعتقاده، وتصح به عبادته. والشباب الذين يُعدُّون لتحمل المسؤولية والأمانة، ويهيؤون لحمل الدعوة، يحتاجون قدراً من العلوم الضرورية أكثر مما يحتاجه الآخرون. ومن ثم كان لابد من أن تعنى المحاضن التربوية بأن تقدم لأبنائها العلوم الضرورية التي لا يسع مسلم جهلها، وأن تسعى إلى تيسير هذه العلوم ليدركها ويعيها الجميع( 15). ولما كانت الدول المعاصرة اليوم تضع حداً أدنى للتعليم الإلزامي لابد أن يصل إليه كافة مواطنيها، وهو السبيل لتوحيد الأطر المرجعية، وتكوين قدر مشترك من الثقافة لأبناء هذه الدول، فنحن أولى وأحرى أن نقدم لأبنائنا الحد الأدنى من العلم الشرعي والثقافة الشرعية، ليكون قدراً مشتركاً بين جيل الصحوة، وهذا القدر الضروري لن يُحوِّل جيل الصحوة إلى طلبة علم متخصصين، بل هو يسعى إلى محو الأمية الشرعية بينهم. 3 - تحقيق الفقه في دين الله تعالى: لقد عاب الله تعالى في كتابه -في غير ما موضع- الذين لا يفقهون فقال عز وجل:} فَمَالِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً{ (النساء: 78 ( وأثنى صلى الله عليه وسلم على من فقه في الدين، وقدمه على غيره ممن لم يزد على مجرد الحفظ والجمع للنصوص، وفي كل خير. عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (16 ). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مِنْ إرادة الله الخير بالعبد أن يفقهه في الدين، فعن حميد ابن عبدالرحمن قال: سمعت معاوية - رضي الله عنه- خطيباً يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" ( 17). وأوصى طائفةٌ من أهل العلم طالب العلم بالاعتناء بالفقه، قال ابن(/22)
جماعة: " ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان، بل يعتني بالدراية أشد من عنايته بالرواية، قال الشافعي رضي الله عنه: من نظر في الحديث قويت حجته. ولأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه" ( 18). وهذا يعني ألا يركز على الحفظ وحده -مع أهميته- بل لابد من الاعتناء بتناول فقه نصوص القرآن والسنة والاستنباط منهما، والاعتناء بدراسة القواعد الشرعية ومقاصد الشريعة وفقهها، وحكمة التشريع، بالقدر الذي يتناسب مع إدراك الشاب وعقله في هذه المرحلة. 4 - تعليم مراتب العلم الشرعي: العلم ليس باباً واحداً، بل هو مراتب ودرجات، فعلوم المقاصد ليست كعلوم الوسائل، وصلب العلم وأسسه ليست كملحه ومتينه، قال الشاطبي رحمه الله: "من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم، لا من صلبه؛ ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه" ( 19). بل من العلم ما يكون وبالاً على صاحبه وغير نافع له، لذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذا العلم، فعن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" ( 20). ولا يسوغ أن يكون الشاب ضحية اهتمامات شخصية غير متزنة لأحد معلميه ومربيه، يضخم جوانب من الجزئيات، ويجيد تشقيق المسائل وتفريعها والغوص في بعض الدقائق مقابل إهمالٍ لأسس من العلم لا غنى عنها. ومرحلة الشباب فيها قدر من التطلع إلى مثل هذا والبحث عن الغرائب، فما لم توجه التوجيه الصحيح وتستثمر فإنها تصبح داء معوقاً عن المنهج السليم في طلب العلم وتلقيه. 5 - تعظيم النصوص الشرعية: النصوص الشرعية مصدر لتلقي العلم الشرعي، وتعظيمها والوقوف عندها أمارة على صدق الإيمان، وسلامة المنهج. لذا فالاعتناء بغرس هذا الجانب أمر له أهميته، ولما كان الرعيل الأول يعرفون منزلة الوحي وأثره في النفوس تألموا لفقده وانقطاعه. عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال أبو بكر -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها(21 ). ومما يعين على تحقيق هذا الجانب: 1- أن يعتني المربي بالاستدلال على ما يعرضه بنصوص الكتاب والسنة. 2- التأدب مع نصوص الكتاب والسنة حين الحديث عمَّا ظاهره التعارض من النصوص. 3- عدم الاعتراض على النصوص الشرعية بأقوال العلماء وآرائهم، والتنبيه على خطأ من يعترض عليها بمثل ذلك، ورحم الله الإمام الشافعي حين ذكر حديثاً فسأله أحد أصحابه هل تقول به، فغضب وقال: "هل رأيت في وسطي زناراً؟ هل رأيتني خرجت من كنيسة؟ إذا حدثتكم بحديث ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب". إن هذا الموقف منه رحمه الله يغرس لدى تلامذته قدراً من تعظيم النصوص والوقوف عندها، وإنك لتعجب من طائفة يعظم عليهم ردّ قول شيخ من الشيوخ، ويجتهدون في الاعتذار له، ويهون عليهم كلام الله ورسوله، فحين يعترض عليهم معترض بنص من الوحي يجيبك أحدهم أن الشيخ أعلم منا بالنصوص، ولم يخالف هذا النص إلا لدليل آخر. وأسوأ من ذلك التعصب الحزبي، واتخاذ رأي جماعة من الجماعات مذهباً فقهياً جديراً بالاتباع( 22). 4- حين يعترض التلميذ على رأي معلمه بنص شرعي، فإن كان لم يقف عليه فليتوقف عن رأيه، وإلا فليتأدب في توجيه دلالة النص. أما أولئك الذي يُغلِظُون على من يعترض عليهم بالنص فهم ينشئون تلامذتهم على الاستهانة بالنصوص وقلة تعظيمها. 6 - تحقيق التكامل العلمي: إن أسس العلوم الشرعية تمثل منظومة متكاملة، يرتبط بعضها ببعض ويكمله، فأصول الفقه لا غنى عنه لمستدل في باب الاعتقاد أو الأحكام، واللغة لا غنى عنها لكل طالب علم، وأسس علم الحديث يحتاجها كل مستدل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أيا كان مجال دراسته…إلخ. والمنتظر أن يتحقق لدى الشاب الحد الأدنى الذي لا يستغني عنه طالب للعلم من فروع العلوم الشرعية، لا أن يصبح متخصصاً وبارعاً في كل العلوم. نعم لابد من التخصص لكنه لا ينبغي أن يكون على حساب التكامل في تحصيل العلوم الشرعية الأخرى. 7 - تنمية المهارات العقلية: العقل هو الأداة التي يتم من خلالها التحصيل العلمي السليم، ومن المشكلات التي نعاني منها اليوم في تربيتنا الأسرية والمدرسية إهمال المهارات العقلية وعدم الاعتناء بها. وتبدو أهمية الاعتناء بتنمية هذه المهارات فيما يأتي: 1 - أنها ضرورية للبناء(/23)
العلمي السليم. 2 - أنها تؤثر على كافة جوانب الشخصية؛ فالمرء يستخدم المهارات العقلية في التحصيل العلمي، وفي التعليم، وفي الجوانب الاجتماعية، وفي دعوته للآخرين، وفي حواره والتعبير عن فكرته. 3 - أنها ضرورية لمن يتصدون للدعوة والتغيير في المجتمعات. وقد تعامل بعض طلبة العلم بردة فعل مع الانحراف العقدي الذي انطلق من تقديم العقل على النقل، وأدى ذلك إلى التحسس من لفظة العقل، وإلى إهمال البناء العقلي وتهميش دوره، وحين نعود إلى كتاب الله تعالى نجد تكرار استخدام لفظ العقل ومشتقاته، والدعوة إلى تحكيم العقول وعيب الذين عطلوا عقولهم وأهملوها. إننا بحاجة إلى الاعتناء بالبناء العقلي وتنمية المهارات العقلية وتوظيفها مع وضع العقل في إطاره الطبيعي، تابعاً للشرع وخاضعاً له. ومن المهارات العقلية المهمة مايأتي(23 ) : 7-1 القراءة الذكية: سبق الحديث عن القراءة وأهميتها في بناء الشخصية، وسبقت الإشارة إلى بعض الوسائل المقترحة لتنمية الرغبة في القراءة، ولارتباط هذا الحديث بالمهارة العقلية تم تأجيله إلى هنا. وحتى تكون القراءة أكثر ثمرة وأبلغ أثراً في بناء شخصية الشاب، لابد من تنمية مهارة القراءة الذكية لديه، ومما تشمله: 1 - القدرة على الاختيار المناسب لما يقرؤه. 2 - تعلم مهارات القراءة السريعة. 3 - تنمية القدرة على فهم المقروء، وبالأخص استيعاب الفكرة العامة التي يريد المؤلف إيصالها، والتفريق بين الفكرة العامة وبين الشواهد والأمثلة والتفريعات. 4 - تنمية القراءة الناقدة، التي تجعل الشاب يفكر ويقوِّم ما يقرؤه دون التلقي المجرد، وينبغي أن يلحظ هنا التدرج، ومراعاة قدرات الشاب وثقافته، وأنه يحتاج إلى مرحلة يعتاد فيها القراءة، ومرحلة يفهم فيها وتُبنى ملكاته العلمية، ومرحلة ينتقل فيها إلى القراءة الناقدة . ومن المناسب أن يوجه في بداية المرحلة إلى كتابات مناسبة وكُتَّاب مناسبين - كما سبق عند الحديث عن الربط بالمصادر العلمية والفكرية المناسبة-. لكن هناك قدر طبيعي من النقد والتقويم للأفكار يمكن أن ينمى لدى الشاب باعتدال وتدرج. وهذه المهارات يمكن أن تعلم للشاب من خلال برامج منظمة للقراءة، أما مجرد إلقاء دروس وتوجيهات حول القراءة وأساليبها فهذا محدود الجدوى والفائدة. 7-2 التعبير اللغوي السليم: التعبير اللغوي السليم مهارة مهمة تحتاج أن تبنى عند الشاب وتقوى عنده، ومما تشمله: 1 - القدرة على صياغة أفكاره والتعبير عنها تعبيراً سليماً. 2 - القدرة على استخدام اللغة الفصيحة في الحديث والبعد عن الألفاظ العامية. 3 - القدرة على استخدام المترادفات، لتهيئ له التعبير السليم بالقدر الذي يتناسب مع الموقف، فعبارة: أعتقد أني أستحق درجة أكثر من هذه الدرجة، أفضل من عبارة: لقد أخطأت في حقي يا أستاذ حين أعطيتني هذه الدرجة. ويحتاج الشاب لهذه القدرة في الحوار ودعوة الآخرين والتأثير عليهم، ومن استمع لبعض أحاديث الوعاظ والخطباء الذين يفتقدون هذه المهارة أدرك أهمية ذلك. ومن الوسائل المعينة على ذلك: 1 - إتاحة الفرصة للطلاب ليعلقوا في الدروس ويُبدوا مداخلاتهم، مع الحرص على تعويدهم على أن يكون حديثهم بلغة فصيحة. 2 - أن يرتقي المربي بأسلوبه وطريقته في حواره معهم حتى عند الحديث الفردي عن مشكلات شخصية، بدلاً من أن يكون حديثاً بلهجة عامية هابطة. 3 - تنظيم أنشطة تتيح فرصاً للشباب في الحديث الارتجالي أمام زملائهم، ويمكن أن تشمل: إلقاء خطب قصيرة، حوارات بين طالبين حول فكرة محددة...إلخ. 4 - تنظيم أنشطة تعوِّد الشاب على كتابة أفكاره، كالكتابة حول موضوع معين، أو وصف موقف، أو الحديث عن ظاهرة في المجتمع، مع مراعاة ألا يسيطر التركيز على الجانب الأدبي والبلاغي -رغم أهميته- على التعبير السليم والصحيح عن الفكرة. 7-3 الاستماع الناقد: كما أن الشاب يحتاج إلى القراءة السليمة الناقدة، فهو كذلك يحتاج إلى الاستماع السليم الناقد، بحيث يستطيع حين يستمع إلى متحدث أن يلخص الفكرة الأساسية التي أراد المتحدث إيصالها ويستطيع أن يصدر أحكاماً نقدية على ما سمع. ومن الشواهد التي تمرُّ بنا كثيراً وتعطي دلالة على افتقاد هذه المهارة، أنك حين تسأل جمهورا ممن صلى الجمعة عند خطيب معين عن موضوع خطبته وفكرتها العامة فإنهم يختلفون في تحديد ذلك، ويخلط كثير منهم بين الأفكار الفرعية والاستطرادات، وبين الموضوع الرئيس والفكرة العامة(24 ). وحتى تنمو هذه المهارة يحتاج الأمر إلى أن تتاح فرص منظمة للاستماع، من خلال: حضور خطبة، أومحاضرة عامة، استضافة أحد المتحدثين، استماع إلى شريط. ويقوم المربي بتلخيص الفكرة العامة، والإشارة إلى الأفكار الجزئية والشواهد، والتفريق بينها، وهذا ينجح أكثر في الاستماع للحديث المسجل إذ يقوم المربي بالاستماع له والإعداد المسبق حتى تكون أحكامه وتحليلاته أكثر دقة. ومن الأساليب التي يمكن أن يستخدمها المربي في التدريب على هذه(/24)
المهارة: 1 - المطالبة بالاستماع إلى شريط في المنزل، وتلخيص الفكرة العامة للموضوع والأفكار الجزئية، وإبداء الرأي عموماً في طريقة تناول الفكرة. 2 - مطالبة الطلاب بعد حضور الخطبة أو المحاضرة بذلك. 3 - إجراء مسابقات في تلخيص الفكرة المسموعة ونقدها( 25). 7-4 الاستنباط السليم: القدرة على الاستنباط والاستنتاج مهارة مهمة، تمكِّن الشاب من استخدام المعارف والمعلومات في مواقف جديدة. وثمة مجالات يمكن أن تعود على تقوية هذه المهارة، ومنها: 1 - تعويد الشاب على استنباط الفوائد والعبر من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية، مع مراعاة العمق والبعد عن الفوائد المكررة التي اعتاد الشاب عليها( 26). 2 - الاعتناء باستنباط الدروس والفوائد العملية عند دراسة السيرة النبوية والأحداث التاريخية، وسيأتي حديث مفصل عن ذلك في الجانب الدعوي. 3 - توظيف المواد الدراسية التي يتلقاها الطالب في المدرسة في تنمية القدرة على الاستنباط، كالرياضيات، والتاريخ، واللغة العربية. 4 - الاستفادة من الألعاب التعليمية؛ فكثير منها تنمي المهارات العقلية، ومن بينها مهارة الاستنباط، ويمكن للمربي أن ينظم بعض الألعاب والمسابقات التعليمية، التي تجمع بين تحصيل فوائد علمية، وتحقيق التسلية، وتنمية المهارات. 8 - تعليم أسس التفكير العلمي وطرق حل المشكلات: إن مجتمعات المسلمين اليوم تعاني من الفوضى والتخبط في طريقة التفكير، وجيل الصحوة جزء لا يتجزأ من هذه المجتمعات، يرث منها الأمراض التربوية السائدة. ومما يزيد الأمر تعقيداً في هذه المجتمعات أن المؤسسات التعليمية التي ينتظر منها الناس أن تقوم بالتربية السليمة أصبحت تركز بشكل أساس على مجرد شحن المعلومات وإعطائها بطريقة مباشرة دون بناء للشخصية العلمية، مما أسهم في تخريج جيل يفتقد البناء العقلي الصحيح. لذا كان لابد لكل مربٍّ من السعي لبناء العقلية الصحيحة لمن يتولى تربيته، ومن أهم ما ينبغي الاعتناء به: بناء أسس التفكير العلمي وطرق حل المشكلات. وتشمل خطوات التفكير العلمي: تحديد المشكلة، ثم فرض الفروض، ثم اختبارها، ثم الاختيار بينها. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم من خلال السرد التقليدي لهذه الخطوات، أو تناول موضوعات نظرية حول أسس التفكير العلمي- وإن كان ذلك خطوة لابد منها - ، ومن الوسائل المعينة على تحقيق ذلك ما يأتي: 1 - طريقة تناول المعلم للمعلومات وتقديمها للطلاب؛ فهي تسهم إلى حد كبير في بناء منهج التفكير العلمي لدى طلابه، فحين يتحدث عن ظاهرة أو مشكلة تواجه الطلاب في حياتهم اليومية، ينبغي أن يتناولها مستخدماً الخطوات المنطقية للتفكير العلمي، فيفترض الفروض ويناقشها ويختار بينها بطريقة علمية موضوعية. 2 - طريقة المعلم في الحوار والإجابة على تساؤلات تلامذته ومشكلاتهم لها دور فاعل في ذلك، فحين يأتي الطالب يشكو لمعلمه أن والده لا يأذن له بالمشاركة في حلقة القرآن التي في المسجد، فبدلاً من أن يعطيه الحل المباشر يسأله: ما الأسباب التي تظنها وراء هذا القرار؟ التلميذ: لا أدري. المعلم: افترض الأسباب الممكنة. التلميذ: تأثيرها على المستوى الدراسي، عدم ثقته بطلاب الحلقة، عدم معرفته لأهداف الحلقة. المعلم: هل تستطيع من خلال حواراتك السابقة معه أن تستنبط ما يقوي فرضية معينة؟….إلخ. 3 - التدريب على هذه المهارات أمر له أهميته، فـ"كما أن المرء لا يستطيع أن يتعلم السباحة إلا بممارستها، كذلك فإنه لا يستطيع أن يتعلم التفكير وحل المشكلات إلا بممارستها وقتاً طويلاً". ( 27) 4 - صياغة البرامج بما يسهم في إعطاء الفرصة لممارسة التفكير العلمي، سواء في المحتوى كالتقليل من الاعتماد على العطاء المعرفي المباشر، والحفظ والاستظهار وحده، أو في الوسائل وطرق التعليم والتوجيه. 5 - أن تتضمن التكاليف والواجبات التي يعطيها المعلم لطلابه ما يعين الطالب على ممارسة خطوات التفكير العلمي، دون التركيز على الأسئلة التي يبحث فيها الطالب عن الإجابة من الكتاب مباشرة، أو على بحوث يكون دور الطالب فيها النقل بطريقة القص واللصق. 9 - تنمية الاتجاهات العقلية السليمة: وتتضمن الاتجاهات العقلية التي يحتاج إليها الشاب في هذه المرحلة، ما يأتي( 28): 9-1 الحيدة والموضوعية: تعد الموضوعية والبعد عن الذاتية من أهم سمات التفكير العلمي السليم، ويمكن تعريف التفكير الموضوعي بأنه:" مجموعة الأساليب والخطوات والأدوات التي تمكننا من الوقوف على الحقيقة، والتعامل معها على ما هي عليه بعيداً عن الذاتية والمؤثرات الخارجية" ( 29). إن كثيراً من الأحكام التي نصدرها على الأشخاص والظواهر والأشياء هي أحكام ذاتية، فهي نتاج انطباع ورأي شخصي، وليس نتاج أسس ومنطلقات موضوعية. ومن أهم الوسائل المعينة على تنمية التفكير الموضوعي لدى الشاب: 1 - الاعتناء بالموضوعية فيما يقدم للشاب من معارف وأحكام على الظواهر والأشياء والأشخاص. 2 - تعويد الشاب على(/25)
التفريق بين الانطباع الشخصي الذاتي وبين الحكم الموضوعي. 3 - تكوين جو يسمح بالحوار البناء، والتعود على ضبط الحوار بالأسس الموضوعية، والبعد قدر الإمكان عند الحوارات عن إطلاق الأقوال دون مستندات علمية موضوعية. 4 - إتاحة الفرصة للشاب لسماع آراء أخرى-بما يتناسب مع قدراته ومستواه العلمي والفكري- ومناقشتها وتقويمها في ضوء أسس علمية موضوعية. 9-2 الدقة عند ممارسة الأنشطة العلمية والعقلية: من أهم الاتجاهات العقلية السليمة التي تعين على البناء العلمي: التعويد على الدقة عند تحليل الحقائق وفحص الأدلة ( 30) وإصدار الأحكام، وإطلاق التعميمات. ويشمل ذلك التمييز بين الحقائق المختلفة والتفريق بينها، والدقة عند الاستدلال، والقدرة على تمييز الأدلة الصحيحة من الباطلة، ومناقشة الأدلة. وغياب الدقة يؤدي إلى عدم الاستيعاب للفكرة، والخلط بين الحقائق والأحكام والتعميمات، والاستدلال على الحقائق بأدلة غير صحيحة. والنقاش المتأني للأفكار والأحكام التي يصدرها الشاب، وتوسيع الحوار معه فيها يزيد من قدرته وتمكنه من الدقة والتأني. 9-3 احترام آراء الآخرين وأفكارهم: من الاتجاهات العقلية السليمة التي يحتاجها الشاب؛ احترامه آراء الآخرين وأفكارهم. ومن احترام أفكار الآخرين وآرائهم: القبول بالرأي المخالف، والتعبير الموضوعي عند سياق آراء الآخرين، والفصل عند التعبير عنها بين الآراء والحكم الشخصي عليها. ومن احترامها: الاعتدال والموضوعية في نقاشها، والفصل قدر الإمكان بين الرأي والفكرة وبين صاحبها، فلا يذم الشخص نتيجة رفض فكرته أو نقدها، ولا يكون من معايير قبولها كونها فكرة فلان أو رأيه. ومن الوسائل المعينة على تحقيق ذلك:
1 - إتاحة الفرصة للشاب لسماع الآراء الأخرى، بالقدر الذي يتناسب مع نموه العلمي والفكري.
2 - تخلي المربي عن الاستبداد الفكري، والحماس لآرائه، واعتياده عرض آرائه بصورة معتدلة.
3 - مراعاة المربي لتطبيق هذه المبادئ عند عرضه أفكار الآخرين وآراءهم، وهذا من أهم العوامل وأكثرها تأثيراً، سلباً أو إيجاباً، ولذا نرى أن أولئك الذين ينشؤون في مدارس فكرية تتسم بتبني آراء متطرفة، ولا تتقبل الرأي الآخر، نرى أمثال هؤلاء يتسمون بالقسوة والفضاضة في التعامل مع آراء الآخرين.
4 - تهيئة بيئة تسمح بآراء أخرى مخالفة، والبعد عن الإصرار على رأي واحد فيما يستوعب أكثر من رأي.
10 - التخلص من معوقات التفكير السليم: ثمة معوقات عدة تحول دون التفكير السليم، وتشكل حاجزاً يشل القدرات والإمكانات العقلية ويختزلها، وفيما يلي نشير إلى أهم هذه المعوقات مراعين الإيجاز قدر الإمكان، تاركين المجال أمام المربي للتفكير في الوسائل والأساليب التي تعينه على تحقيق هذا الهدف. 10(/26)
-1التعصب: التعصب من أكبر المعوقات التي تشل التفكير وتحول دون وصوله إلى النتائج بشكل سليم، و له صور عدة، منها: 1 - التعصب لآراء الآباء والأجداد ومعتقداتهم، وهذا قد عاق كثيراً من الأمم عن الاستجابة لدعوة الأنبياء، وكان منطق هؤلاء }إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ{ (الزخرف:22). 2 - التعصب المذهبي، ومن أبرز صوره في الأمة التعصب لآراء الأئمة المتبوعين ومدارسهم الفقهية. 3 - التعصب الحزبي، وهي صورة نشأت حديثاً مع انتشار الحركات والجماعات الإسلامية، وهو من أخطر أنواع التعصب نظراً لارتباطه بالمدارس التربوية. والمؤمل من المربين المخلصين اليوم أن يكسروا هذه الحلقة المفرغة التي أضحت تدور فيها فئات واسعة من جيل الصحوة، وأن يتجاوزوا في تربيتهم التعصب الحزبي، ليبنوا لنا جيلاً يتجرد ويستعلي على الولاءات الضيقة، ويجيد التفريق بين العمل المؤسسي الذي يستثمر الطاقات ويوجهها وبين الحزبية والتعصب. 4 - التعصب للآراء والمواقف الشخصية والإصرار عليها والتمسك بها. 10-2 المبالغة والغلو: المبالغة والغلو مظهران من مظاهر فقدان الموضوعية والاعتدال في التفكير، والمبالغة لها صور عدة، منها: 1 - المبالغة في الحماس للفكرة، وإعطاؤها أكبر من حجمها( 31). 2 - القطع في الأمور الظنية( 32) ، وتحويل الآراء في المسائل الاجتهادية إلى أحكام شرعية يضلل من يخالف فيها. 3 - تضخيم الأمور وإعطاؤها أكبر من حجمها، وهذا يقع فيه بعض المربين كثيراً عند الحديث عن الأخطاء ومحاولة علاجها، فيحول الصغيرة إلى كبيرة، ويجعل وقوع الشاب في معصية من المعاصي هو الخطوة نحو الانحراف والضلال. ولاشك أن استعظام المعصية وعدم الاستخفاف بالذنب كل ذلك أمر لابد من أن يسعى المربون إلى تحقيقه، لكن مع الحذر من آثار المبالغة في ذلك، فهي تقود إلى اليأس والإحباط، بل إلى الاستسلام للانحراف(33 ). واتباع المنهج الشرعي النبوي في الجمع بين الترهيب والترغيب، والخوف والرجاء والتوازن بينهما أمر لابد من الاعتناء به واستحضاره. 10-3 التعميم الخاطئ: من الأعمال والممارسات العقلية التعميم، وهو يعني إلحاق الحكم على موقف أو ظاهرة من الظواهر بموقف آخر. ومن أبسط بدهيات التعميم اتفاق الموقفين في منطلقات الحكم وأسبابه. حين تتحدث عن العلاقة بين تعليم الوالدين والتربية الصحيحة للأطفال قد يعترض عليك معترض بأن فلاناً أميّ ومع ذلك استطاع تربية أولاده تربية صحيحة، وحين يتحدث متحدث عن مشروع أو فكرة، فقد يستشهد على جدواها وصحتها بأنه يعرف من طبقها. وهو أسلوب نمارسه كثيراً في تفكيرنا، وأسوأ صوره ما يحصل من بعض الدعاة والمتحدثين، إذ كثيراً ما يرد في أمثلتهم واستشهاداتهم تعميم لنموذج شاذ. وهذا الأسلوب يمارس نتيجة افتراض سبب واحد للظاهرة هو المؤثر فيها، وهذا يعني التلازم بين وجوده ووجودها، ويغفل كثير منا عن أن الظواهر الاجتماعية نادراً ما ترتبط بسبب واحد أو عامل واحد، بل هي ترتبط بعوامل ومؤثرات عدة، والأمر لا يقف عند هذا الحد بل هذه العوامل تختلف درجة تأثيرها في الظاهرة، بل ينتج عن تفاعل عاملين فأكثر تأثير من نوع آخر. وحتى تتضح الصورة أكثر، فإنا نفترض أن تربية الطفل تتأثر بمؤثرات منها: مستوى تعليم الوالدين، والعلاقة بينهما، وأسلوب التنشئة الذي يمارسانه، والبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الطفل، والمدرسة التي يتلقى تعليمه فيها...إلخ. فكل هذه العوامل تؤثر في تربيته، ثم إن درجة تأثير تعليم الوالدين تختلف عن درجة تأثير البيئة الاجتماعية..وهكذا، وينتج من تفاعل درجة تعليم الوالدين مع طبيعة العلاقة بينهما مؤثر آخر؛ فتأثير الأب الأمي الذي يختلف كثيراً مع زوجته، ليس كتأثير الأب المتعلم الذي يختلف مع زوجته..وهكذا. لكننا نتجاوز كل هذا التعقيد في الظاهرة ونختزله من خلال عامل واحد يبدو لنا. 10-4الالتزام بالأفكار الذائعة:( 34) يميل كثير من الناس إلى التسليم بالأفكار الذائعة والمنتشرة، ولايكلفون أنفسهم عناء التفكير فيها أو مناقشتها. وقد يعود ذلك إلى الكسل الفكري، أو إلى ضعف القدرات العقلية والفكرية، أو إلى الخوف والحذر من مخالفة الآخرين. وتسهم أجواء التسلط والاستبداد الفكري في وأد الأفكار المخالفة أو الواعدة. إن إتاحة الحرية في التفكير، وفي التعبير عن الرأي المخالف، وإعطاء آرائنا وأفكارنا حجمها وقدرها الطبيعي، وعدم تحويلها إلى أحكام وثوابت، أمرٌ يسهم في إيجاد بيئة وجيل لايحمل الأفكار لمجرد أن الآخرين قالوها أو تحمسوا لها. ومن الأمور المهمة في ذلك التفريق بين الأفكار وبين الفتاوي العلمية في النوازل، وبين الأحكام الشرعية، ووضع كل في إطاره الصحيح. 10-5 نظرية المؤامرة:( 35) يسود عند الشعوب الإسلامية، وعند المتدينين بوجه أخص الاعتقاد بنظرية المؤامرة، ويبالغون في تصور المؤامرات التي تحاك في الظلام، ويعطون الأعداء(/27)
وأصحاب القرار أكبر من حجمهم، فيتصورون أن كل صغيرة وكبيرة من تصرفاتهم محسوبة الخطوات، وأن الشغل الشاغل لهؤلاء هو حرب الإسلام وأهله. وهذا التفكير نتاج مؤثرات عدة، منها: 1 - كثرة حديث الإسلاميين عن الأعداء ومؤامراتهم، وكثرة استماع الناس لهذا الحديث. 2 - العقلية البسيطة التي تتسم بها المجتمعات الإسلامية اليوم، والتي تفهم الأحداث فهماً بسيطاً وساذجاً، فالاعتقاد بالمؤامرة يريح من افتراض خلفيات ودوافع متداخلة وراء الأحداث. 3 - ضعف الثقافة السياسية وقلة الوعي بالواقع( 36). 4 - ضعف الفاعلية وغياب فرص العمل المنتج؛ وهذا يجعل التفكير بالمؤامرة مهربا نفسياً ومخلصاً من العبء والشعور بالمسؤولية. ولاشك أن الأمة مستهدفة، وأن المسلمين محاربون، لكن حين نتكلم عن أحداث محددة ومواقف معينة ونفترض التآمر، فالواجب أن يكون منطقنا علمياً موضوعياً يستند إلى أدلة وبراهين واضحة. إن الاعتدال في عرض كيد الأعداء، والتركيز على أن الداء هو في داخلنا، والتعود على الحديث العلمي المنطقي سيعين على تخليص عقول طلابنا من التعلق بعقدة المؤامرة. 11- التدريب على أشكال التفكير السليم: مع الالتزام بالمنهج العلمي في التفكير يحتاج الشاب إلى أن يربى ويدرب على أشكال التفكير السليم( 37)، وتشمل: 11-1 النقد الذاتي بدل التبريري: ويعني الأسلوب الذي يُحمِّل فيه صاحبه نفسه المسؤولية عما يحدث له ولايرميها على كاهل الآخرين. وحتى حينما يصيبه ما يصيبه من جراء ظلم الآخرين أو تآمرهم، فإنه المسؤول في النهاية عن النهوض بنفسه، وعن التفاعل مع الموقف بما يتناسب معه، فيسيطر عليه التفكير العملي؛ فهو أمام الأمر الواقع الآن فماذا عليه أن يفعل؟!. وفي غزوة أُحد جاء التعقيب في كلام الله على الشعور الذي سيطر على المؤمنين، وجاء التأكيد بأنهم هم المسؤولون عما أصابهم }أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ (آل عمران:165) . 11-2التفكير الشامل بدل الجزئي: من أشكال التفكير السليم أن ينظر الشاب إلى الظواهر نظرة شاملة، وأن يتعامل مع الموقف من جميع جوانبه، دون أن يسيطر عليه جانب واحد أو جزئية من الجزئيات. وهذا مما نفتقده كثيراً، فتعاملنا مع الظواهر والمواقف في الأغلب تعامل جزئي، وتتحكم خلفياتنا المرجعية في اختيار محتوى ما ننظر إليه وما نهمله. ولعل الأحكام التي نصدرها على الأفراد أو الجمعيات أو المشروعات الإسلامية اليوم تمثل هذا الجانب. 11-3 التفكير التجديدي بدل التقليدي: والتفكير التجديدي هو الذي يتطلع للتجديد ويتجاوز المجالات والأنماط التقليدية. وثمة اهتمام جيد في الأوساط الدعوية اليوم بالتجديد، لكنه يحتاج إلى دعم وتسديد، وإلى توجيه صحيح وترشيد؛ فالتجديد في مواقف كثيرة يدور في قوالب نمطية، أو يتجه إلى المظاهر، وأحياناً يغيب الهدف فيتحول التجديد إلى غاية في حد ذاته. وحتى ينمو الفكر التجديدي يحتاج إلى دعم ومساندة، ويحتاج إلى أن تشجع الأفكار الجديدة، وأن يتعامل باعتدال مع ما لا يناسب منها حتى لا يؤدي إلى الإحباط والفشل. 11-4 التفكير الجماعي بدل الفردي: ويشمل ذلك التفكير في مصالح الجماعة أكثر من مصالح الفرد؛ فيفكر الشاب في مصالح الأمة، وفي مصالح مجتمعه الواسع والمحدود دون أن يقتصر تفكيره على إطاره الفردي المحدد. كما يشمل ذلك ممارسة التفكير بصورة جماعية، والاستنارة بآراء الآخرين والاستعانة بأفكارهم. وقد أرشد الله تبارك وتعالى إلى ذلك فقال: }قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ{ (سبأ:46). والتفكير الجماعي ليس مجرد إضافة أفكار الآخرين إلى فكرته بل إن النقاش المشترك، والبناء على أفكار الآخرين وتطويرها يولد فكرة جديدة لايمكن أن يوصل إليها بدون ذلك، أو بمجرد جمع الأفكار المتناثرة. ومما يسهم في ذلك تهيئة مجالات في الأجواء التربوية للنقاش والتفكير الجماعي، وتطوير الأفكار، وهذا ينمي أيضاً عند الشاب احترام أفكار الآخرين والاعتدال في التعامل معها، ومن أفضل الموضوعات التي يمكن أن تكون ميداناً للتفكير الجماعي المشترك الأساليب والتجارب الدعوية، ووسائل الخروج من المشكلات الشخصية؛ إذ طبيعة هذه المجالات ترتبط بالأفكار أكثر من ارتباطها بالحقائق والقطعيات العلمية. 11-5 التفكير السنني: من سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أن جعل أمور الناس وحياتهم تسير وفق سنن ثابتة، وحتى الخوارق والمعجزات لا تنفك عن العمل والجهد البشري، فانظر إلى قصة نوح كيف أمره الله أن يصنع السفينة ويركبها مع المؤمنين، وإلى قصة مريم كيف أمرها الله أن تهز الجذع، وإلى قصة موسى كيف أمره الله أن(/28)
يضرب بعصاه البحر، وإلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، إن هذه المواقف رغم ما فيها من خوارق فإن الله تبارك وتعالى أمر البشر أن يأخذوا بالسبب. وانظر إلى أهل الكهف كيف أن الله حفظهم بأن ناموا في كهف لا تدخله الشمس وكان يمكن أن يتم ذلك ولو ناموا في الشمس والعراء. لقد غاب هذا التفكير عن كثير من المسلمين اليوم، وربما أسهمنا في مزيد من الوأد له، وثمة عوامل تؤدي إلى الارتقاء بالتفكير السنني، منها: 1 - الاعتناء بدراسة سنن الله في خلقه، ومصادرها كثيرة ومتاحة( 38). 2 - الاعتناء بدراسة القصص القرآني دراسة عميقة، وتحليل المواقف فيها، دون الاكتفاء بالسرد أو مجرد الوعظ والحديث العام. 3 - دراسة المواقف التاريخية بدءاً بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تاريخ الأمة. 4 - عند الحديث عن النصر والتمكين للإسلام، وعن تأييد الله لعباده، لابد من التركيز على أن ذلك إنما يتم بفعل السبب وبذل الجهد. 5 - عند تناول المشكلات التي تمر بالفرد ينبغي -مع التأكيد على الإيمان والتسليم بالقضاء والقدر- التركيز على مسؤولية الفرد عما يصيبه وعن النهوض بنفسه وتجاوز المشكلات. 12 - تعليم مهارات البحث العلمي: كما أن التعليم يعطي المرء ما يحتاجه من علوم، فإن المتعلم كثيراً ما تطرأ لديه مسائل وقضايا جديدة، فلا يسوغ أن يبقى عالة على الآخرين، ولا أن يقتصر دوره على السؤال عن كل قضية تجِدُّ لديه. لذا كان من الأهداف التي ينبغي أن يعنى بها في هذا الجانب أن يُعلَّم الطالب مهارات البحث العلمي التي تتناسب مع مستواه وقدراته، فيُعلَّم كيف يبحث عن تفسير آية في كتاب الله؟ وإلى أي كتاب من كتب التفسير يتجه حين يريد معرفة سبب النزول، أو معنى له ارتباط بالإعراب، أو بكلمة غريبة؟ وكيف يبحث عن حكم أهل العلم على حديث ما بالصحة أو الضعف، وما الكتب التي تعينه على ذلك حين يكون الحديث في الأحكام، أو في الأذكار أو في الآداب؟ وكيف يعرف معنى كلمة غريبة في السنة أو في لغة العرب؟ أو يجد تعريفاً بطائفة من الطوائف المشتهرة، أو عَلَمٌ من الأعلام؟ وكيف يتعامل مع كتب الفقه والتفسير…؟ إلخ. ويُعَلَّم كيف يكتب بحثاً يتناسب مع قدراته؟ وما طريقة التعامل مع المصادر والمراجع…؟إلخ. وهذا الهدف لابد أن يتم في المكتبة، ويُركَّز في تحقيقه على التدريب العملي إلى أن يتقن الطالب هذه المهارات، وأن يقتصر في الجانب النظري قدر الإمكان على ما يعينه على الأداء العملي. ويضاف لذلك ضرورة تعلم الموضوعية في التفكير والبحث، والتفريق بين الآراء والانطباعات الشخصية، وبين الأحكام الموضوعية المستندة للدليل والبرهان. 13 - تنمية القدرة على التعلم الذاتي: مهما طالت المدة التي يقضيها الشاب في تلقيه وتعلمه فلابد أن يصل لمرحلة الفطام العلمي والفكري، واعتماده على مجرد التلقي والتفاعل مع البرامج المقدمة له غير كاف في نمو شخصيته. ومما يعين على استمراره في ميدان النمو والتحصيل: أن تُنمَّى قدرته على التحصيل الذاتي وبناء نفسه بنفسه. ويمكن أن يتم ذلك من خلال وسائل عدة، منها: 1- القراءة والتعويد عليها، وسبق الحديث عن ذلك. 2- أن تضمن الواجبات والتكاليف التي تعطى للطالب ما يعينه على التعلم الذاتي، دون أن تكون وسيلة لتقويم التحصيل فقط، ومن ذلك أن يكلف بقراءة صفحات محدودة من كتاب معين والإجابة بعد فهمها على أسئلة محددة، لا تعتمد على التذكر والاستدعاء وحده. 3- إعداد برامج ومصادر علمية تعين على التعلم الذاتي، والاستفادة من الوسائل العلمية الحديثة في تفريد التعليم: كالتعلم الإتقاني، والتعليم المبرمج…وغيرها. 14 - تنمية الإبداع والابتكار: يمثل الاعتناء بالجوانب الإبداعية والابتكارية جانباً مهماً من جوانب اهتمامات التربية المعاصرة اليوم. ولئن كانت التحديات المعاصرة تتطلب الاعتناء بتربية الجانب الإبداعي والابتكاري، فالذين يُعدون للقيام بأعباء الدعوة والإصلاح هم أحوج الناس إلى ذلك، ومن ثم فلا غنى للمربين عن الاعتناء بهذا الجانب. ومن الأمور التي تعين على تحقيق التربية الإبداعية ما يأتي: 1- تشجيع الإبداع والابتكار، ودعم الأفكار الإبداعية. 2- تطوير أساليب التعليم والعرض بما يسهم في زيادة القدرات الإبداعية والابتكارية. 3- التدريب على التفكير الإبداعي والابتكاري. 15 - ال تربية على التفكير العميق والتحليل: تعد السذاجة والسطحية في النظرة للأمور وتقويمها سمة من سمات مجتمعات المسلمين اليوم. والتربية التي تقتصر على إعطاء المعلومات والمعارف لا تتجاوز بالمتربي هذه المشكلة بل ربما أسهمت في تكريسها. ومن الوسائل التي تعين على تنمية هذا الجانب لدى المتربي: 1- العمق في شخصية المربي، فالمربي السطحي الساذج يكرس هذا النمط من التفكير لدى تلامذته، لذا لابد من الاعتناء بهذا الجانب عند تحديد معايير من يختار للتربية، وحين يُضطر إلى الاعتماد على عناصر تعاني قصوراً في ذلك فلابد أن تُتاح(/29)
الفرص للطلاب للاستفادة من غير هؤلاء المربين من خلال قنوات أخرى.
2- العمق في تناول القضايا العلمية والفكرية، والابتعاد عن التناول السطحي الساذج. * * * الحاشية ( 1) الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب. عمر الشيباني ص458. ( 2) دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. عبدالرحمن عبدالخالق الغامدي. ص271. ( 3)دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. عبدالرحمن عبدالخالق الغامدي. ص271. ( 4) انظر للاستزادة:الأهداف السلوكية لهدى محمود سالم، علم النفس الدعوي ص29فما بعدها. ( 5) هذه المسألة نعاني منها كثيراً؛ إذ نبالغ في الحماس لأراء وأفكار شخصية نسبية، ونتناولها بصورة قطعيات تتوافر عليها دلائل المعقول والمنقول، ومن شأن هذا المسلك أن يسهم في تربية جيل لا يجيد الاعتدال والإنصاف للمخالف. ( 6) رواه البخاري (72) ومسلم (2811). ( 7) فتح الباري (1/ 194). ( 8) رواه مسلم (2722). ( 9) رواه ابن ماجه (3843). ( 10) انظر على سبيل المثال: الاحتياجات الفردية وإتقان التعلم. ( 11) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وأحمد (21208) وابن ماجه (223). ( 12) من المراجع المفيدة في ذلك:جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لابن جماعة،أخلاق العلماء للآجري، المجموع شرح المهذب للنووي. ( 13) رواه البخاري (303) ومسلم (397). ( 14) المقصود بذلك ليست أشرطة الخطب والمحاضرات، إنما أشرطة الدروس العلمية، وهي مع أهميتها لا تلقى الإقبال الكافي من الشباب، مع أنها من أهم أسباب التحصيل العلمي التي تيسرت في هذا العصر. ( 15) مع أهمية هذا الجانب إلا أنه لا يحظى بالاهتمام، وهو حري بأن تتجه إليه جهود جماعية مشتركة، بدلاً من الكم غير المُرشَّد من النشرات والكتيبات والبحوث غير العملية. ( 16) رواه البخاري (79) ومسلم (2282). ( 17) رواه البخاري (71) ومسلم (1037). ( 18) تذكرة السامع والمتكلم ص 187، ومما ينبغي الاعتناء به أن الفقه في الاصطلاح الشرعي أوسع من معناه الاصطلاحي السائد اليوم والذي يعني معرفة الأحكام الشرعية الفرعية، والأصل أن لا تحمل نصوص الكتاب والسنة على اصطلاح حادث. ( 19) الموافقات 1/53. ( 20) رواه مسلم (2722). ( 21) رواه مسلم (2454). ( 22) انظر كلاماً نفيساً للشنقيطي في أضواء البيان حول تفسير قوله تعالى في سورة محمد: }أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها{. ( 23) انظر: الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب، عمر محمد التومي الشيباني. ص464. ( 24) ربما تكون بعض صور هذه المشكلة تعود إلى الخطيب نفسه الذي لا يركز على فكرته، بل ربما يعطي الاستطرادات والموضوعات الجانبية قدراً أكبر من الفكرة الرئيسة التي يريد إيصالها. ( 25) يلاحظ الاعتدال في موضوع النقد، فإن المبالغة فيه تؤدي بالشاب إلى الجرأة غير الموزونة في إصدار الأحكام على الآخرين، وإلى احتقارهم، والحرمان من الاستفادة مما لديهم. ( 26) كان للكاتب تجربة في هذا المجال أثناء تدريسه لمقرر التفسير في المعهد العلمي، فكان يطالب الطلاب باستنباط الفوائد والأحكام من الآيات، ويعزز الفوائد التي يأتي بها الطالب من خارج الكتاب، وقد واجه صعوبة في البداية إذا كانت معظم الفوائد التي يأتي بها الطلاب تقليدية وبنص الكتاب، وبعد مدة ارتقت قدرتهم على الاستنباط، وقدرتهم على نقاش المعلم في ذلك. ( 27) الوعي التربوي. جورج شهلا وآخرون. 167. ( 28) انظر كتاب: التفكير العلمي لدى طلاب التعليم العام في المملكة العربية السعودية. محمد شحات الخطيب وآخرون. ( 29) فصول في التفكير الموضوعي. عبدالكريم بكار. ص(45). ( 30) المقصود بالأدلة هنا جميع البراهين الموصلة إلى أحكام معينة، فهي أعم من الأدلة على الأحكام الشرعية. ( 31) انظر: مجلة البيان عدد (154). ( 32) انظر: من أجل انطلاقة حضارية شاملة. عبدالكريم بكار ص(64). ( 33) واجهت الكاتب مواقف ومشكلات عدة يفسرها بأنها نتيجة الغلو في التعامل مع الأخطاء، ومن ذلك حالات كثيرة من الإحباط نتيجة وقوع الشاب في العادة السرية، أو شعوره بالنفاق والازدواجية، وقد يسعى للقضاء على ذلك بالاستسلام للانحراف واختيار طريق الضلال. ( 34) انظر: البحث العلمي مفهومه وأدواته وأساليبه ص(57). ( 35) انظر: أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة للقرضاوي ص(89) وفصول في التفكير الموضوعي لبكار ص (228). ( 36) من المشكلات اليوم أن مسألة هل نكون واعين أم مغفلين تحتاج إلى نقاش أو استدلال، وأن من صفات طالب العلم أن يكون بعيداً عن الوعي بالواقع حتى لاينشغل عن العلم (أي مغفلاً ساذجاً) وأن يترك الأمور المعاصرة من سياسية واقتصادية لأهلها. ( 37) انظر: أهداف التربية الإسلامية لماجد عرسان الكيلاني (64-72). ( 38) انظر على سبيل المثال: منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد السلمي، حتى يغيروا ما بأنفسهم لجودت سعيد، من أجل انطلاقة(/30)
حضارية شاملة لعبدالكريم بكار، السنن الإلهية د.محمد الأشقر.
الفصل السادس: الجانب الخلقي والسلوكي تبدو أهمية الاعتناء بالجانب الخلقي والسلوكي من خلال أمور: الأول: أن حسن الخلق منزلة عالية في الدين، ويكفي في ذلك أن الله تبارك وتعالى عدَّه من صفات المتقين }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{ (آل عمران:133) وأثنى تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال: }وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ{ (القلم:4). وأعلت السنة النبوية من منزلة حسن الخلق، ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"( 1)، وجعل صلى الله عليه وسلم أحاسن الناس أخلاقاً أحبهم إليه وأقربهم منه مجلساً فقال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً…" ( 2)، وجعل صلى الله عليه وسلم حسن الخلق شأن خيار الأمة فقال: "إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً" ( 3). وقد عني السلف بهذا الجانب عناية تليق به، وتناوله مَنْ كَتَبَ في أدب العالم والمتعلم، وعقد طائفة من مصنفي كتب الحديث أبواباً في ذلك، بل صنَّفوا مصنفات مستقلة فيه، وكان هذا التصنيف في مرحلة مبكرة، مما يعني أنه لم يكن من باب الترف الفكري، أو من فضول العلم، بل عدُّوه مما ينبغي أن يبدأ به طالب العلم. الثاني: أن مرحلة الطفولة والشباب هي المرحلة التي تتأصل فيها الجوانب الأخلاقية والسلوكية بشكل يصعب تغييره فيما بعد، فالأخلاق الحسنة أو السيئة التي تتأصل في النفس في هذه المرحلة تصحب الإنسان في الأغلب بقيةَ عمره. الثالث: أن الحياة والأوضاع الاجتماعية المعاصرة تشهد خللاً في الميدان الخلقي والسلوكي، والمؤسسات التعليمية لا تولي هذا الجانب القدر اللائق به. الرابع: أن الخلق مرآة تنعكس فيها شخصية المرء، ويقيسه الناس بها، وكثير من الناس يجد القبول والمكانة لدى الآخرين بل ربما أعطوه فوق منزلته لخلقه الحسن، وفي المقابل كثيرٌ ممن يرفضه الناس وينفرون منه يكون الباعث على ذلك سوء خلقه، وربما كان فيه صلاح وعلم وخير. لذا فأولئك الذين يُعدَّون لقيادة الناس وتوجيههم ودعوتهم هم أول من يحتاج للتخلق بالخلق الحسن، حتى يربوا الناس على ذلك ويصبحوا قدوة لهم، وقبل ذلك حتى يقبل الناس عليهم ويسمعوا منهم، وقد امتن الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن رزقه الرحمة واللين، وأخبر أنه لو فقد ذلك لتركه الناس وأعرضوا عنه فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ { (آل عمران: 159). لهذه الاعتبارات وغيرها كان الجانب الخلقي والسلوكي ميداناً مهماً من ميادين التربية. الهدف العام في الجانب الخلقي: تنمية الأخلاق الحسنة. يعدُّ هذا الهدف عنواناً جامعاً شاملاً لجوانب التربية السلوكية والخلقية، وسائر الأهداف إنما هي فرع له وتفصيل. ولقد جاء الشرع بالحثِّ على محاسن الأخلاق والنهي عن مساوئها مطلقاً، ونصَّ على جوانب من الخلق الحسن، وجوانب من الخلق السيئ، وترك جوانب من تفصيل ذلك وضوابطه لأعراف الناس التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. فالمروءة ومعاليها من محاسن الأخلاق، بل هي مرتبطة بالعدالة وقبول الشهادة والرواية، لكن تفاصيل ما يخرم المروءة وما لا يخرمها تختلف باختلاف الزمان والمكان، والكرم خصلة كريمة محمودة باتفاق العقلاء، وقد حضَّ عليها الشرع بل ربطها بالإيمان "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، لكن أساليب الكرم وتطبيقاته تحكمها أعراف الناس من عصر لآخر. ومع أهمية تفاصيل جوانب التربية الخلقية، إلا أن ذلك لا يغني عن النظرة المجملة التي تسعى لغرس الخلق الحسن لدى المتربي في الجملة، بحيث يصبح هذا الخلق سجية له وطبيعة، ويسعى لتمثل معالي الأخلاق والبعد عن سفاسفها. وسائل للتربية الخلقية والسلوكية: تدور معظم جوانب التربية الخلقية والسلوكية حول هدف واحد هو غرس محاسن الأخلاق، وتنقية النفس من ضدِّها، وما ذُكر إنما هو تفريع وتفصيل لهذا الهدف. ومن ثم فالوسائل المعينة على تحقيق الجوانب الأخلاقية تملك قدراً من الاشتراك، ومن هذه الوسائل: 1 - القدوة الحسنة: يمثل سلوك الأب والمعلم عاملاً مهماً في بناء الجانب الخلقي، وحين لا يتمثل المربي الخلق الحسن، تكون نهاية كثير مما يقوله مع مَنْ يربيه عندما يتلفظ به. إن الأب أو المعلم الذي يكون سريع الغضب والانفعال، أو الذي يعطي المواقف أكثر مما تحتمل، لا يمكن أن ينتج جيلاً يتسم بالحلم والأناة. وكذا حين يكثر المربي من تذكير من يربيه بسلبيات الماضي(/31)
وأخطائه، فلن يغرس لديه العفو والتسامح. ومن ثم يتأكد في حق المربي مراجعة سلوكه وخلقه مراجعة هادئة بين آونة وأخرى، ويحزم مع نفسه في التخلق والتأدب بما يريد أن يغرسه لدى من يربيهم، والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقد كان المربي الأول صلى الله عليه وسلم قدوة للمربين من بعده في تعامله، يحكي ذلك عنه خادمه أنس -رضي الله عنه- حين يقول: "فخدمته في السفر والحضر ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟ "( 4). 2 - الاعتناء بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اختار الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم واصطفاه لحمل الرسالة،وها هو عبد الله بن مسعود صاحبه رضوان الله عليه يشهد على ذلك ويقول: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ"(5 ). وقد وصفه عز وجل بذلك فقال: } وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ{ (القلم:4) وقال أيضا:ً} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ { (آل عمران: 159). ويصفه أنس بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير -قال: أحسبه فطيماً- وكان إذا جاء قال:"يا أبا عمير، ما فعل النغير؟" نغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا( 6). وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن( 7). وقد اعتنى طائفة من أهل العلم بجمع شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وأُلِّفت في ذلك مؤلفات خاصة. فيجدر أن تكون هذه الموضوعات ميداناً مهماً يتدارسه الشباب ويعتنون به. وينبغي ألا يقتصر الأمر على مجرد الدراسة النظرية بل يتجاوز ذلك فيسعى المربي لاستخدام وظائف التفكير العليا، والسعي للمقارنة واستخلاص النتائج وتطبيق ذلك على الواقع. 3 - مجالسة العلماء الربانيين: العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم حملة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله، ومن ثَمَّ كان لا غنى لطالب العلم عن صحبتهم ومجالستهم والتأدب بأدبهم، وقد اعتنى السلف بذلك وأكدوا على أن مهمة العالم لا تقف عند مجرد التحديث وسماع المرويات، بل تتجاوز ذلك إلى تعلم السمت والأدب والهدي. قال ابن المبارك: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب حلماً وعلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد قال أبو العالية:"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه"( 8). وقال إبراهيم:"كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله"( 9). وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال:"يابني، اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث"(9). وقال ابن وهب: ما استفدت من أدب مالك أكثر مما استفدت من علمه. ومن ثم فلا غنى للشاب عن مجالسة أهل العلم الربانيين والاستفادة من علمهم وسمتهم وخلقهم، وحري بالمربي أن يسعى لتعزيز هذا الجانب، ومن وسائله: 1- الالتزام بحضور دروسهم ومجالسهم. 2- زيارتهم واللقاء بهم بين آونة وأخرى. 3- استقبالهم ودعوتهم لزيارة أنشطة الطلاب وبرامجهم. وحري بالذين مَنَّ الله عليهم بقدر من العلم أن يعطوا الناشئة من أوقاتهم ويحتسبوا ذلك في صالح ما يقدمون. 4 - دراسة أبواب الأدب والسلوك: لقد اعتنى السلف في مرحلة مبكرة بالآداب والسلوك، وكان من مظاهر هذه العناية: 1- تصنيف كتب خاصة بالأدب والسلوك بعامة، وبأدب طالب العلم والمعلم بخاصة، ومن ذلك: الأدب المفرد للبخاري، أخلاق العلماء للآجري، جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله لابن عبد البر، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، والفقيه والمتفقه وغيرها. 2- أن كثيراً من المصنفين في الحديث عقدوا أبواباً في كتبهم للأدب والزهد. 3- اعتبارهم الأدب والسلوك باباً من أبواب العلم يُتعلم ويُعتنى به، بل يُرحل من أجله. إن الاعتناء بهذه الدراسات، واختيار مواد مناسبة منها تعرض للناشئة في برامجهم ومناهجهم العلمية يمكن أن يسهم في بناء الجانب الخلقي وتربيته لديهم. ومن نتائج الاعتناء بهذه الدراسات ربط الناشئة بحياة السلف وكتبهم، وهو أمر تفتقده كثير من المناهج التربوية المقدمة للناشئة اليوم. 5 - الثناء على المواقف الإيجابية: كما أن نقد المظاهر السلبية مطلب تربوي يسهم في تصحيحها وتقويمها، فالثناء على(/32)
المواقف الإيجابية يسهم في تعزيزها. والثناء قد يكون ثناء على صفة أو سلوك معين، وقد يكون ثناء على فرد أو طائفة. وقد كان صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب، فمن ثنائه على الصفات قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء خير كله"( 10) . ومن ثنائه على الطوائف قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم"( 11) . ومن ثنائه على الأفراد قوله لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" ( 12) . أهداف فرعية في التربية الخلقية والسلوكية: وهذه الأهداف الفرعية تؤدي إلى تحقيق الهدف العام المتمثل في بناء الخلق الحسن: 1 - تنقية النفس من الأخلاق السيئة: إن بناء الخلق الحسن في النفس لابد أن يصاحبه تنقيتها مما ترسب لديها من الأخلاق السيئة، أو ما يسمى بـ(التخلية ثم التحلية)؛ ذلك أن الشاب قد ينشأ في بيئة يغلب عليها الخلق السيئ أو يصحب صحبة غير صالحة فيألف الخلق السيئ ويصبح جزءاً من طبيعته، ومن ثم لابد من جهد يُبذل في اقتلاع هذه الصفات وتنقية النفس منها. وحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يوصيه أوصاه بقوله: "لا تغضب" فاستقلَّ هذا الرجل هذه الوصية وكرر سؤاله، فكرر عليه النبي صلى الله عليه وسلم الوصية نفسها: "لا تغضب" ورددها مرراً (13 ). 2 - تحقيق العفة والبعد عن الفواحش: وهو هدف له أهميته وخطورته، فقد حذَّر صلى الله عليه وسلم من شأن الفواحش، وبيَّن خطورتها على الأمة، وأنها أشد الفتن التي تركها بعده، فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"( 14) . ولعظم شأن حفظ الفرج، جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما تُضمن به الجنة، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"( 15) . ويتأكد هذا الجانب والعناية به في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن وأشرعت أبوابها، وصارت وسائل الإغراء والإثارة تلاحق الشباب والفتيات في كل موطن. ولما كانت هذه المشكلة من أكثر ما يتساءل عنه المربون، رأيت أن أبسط الحديث فيها وأتوسع أكثر من غيرها. إن نقطة البداية الصحيحة في التعامل مع هذه المشكلة تتمثل في سلوك أسباب الوقاية منها قبل وقوعها، ومن أسباب الوقاية: 1- التوعية بمخاطر الانسياق وراء دواعي الشهوة المحرمة، وخطورة الفواحش وآثارها، وقد حذَّر من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حين أخبر أن هذه الفتنة من أخطر الفتن التي تواجه أمته. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أكثر ما يدخل الناس النار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: "تقوى الله وحسن الخلق"، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفم والفرج"( 16) . 2- تيسير فرص الزواج المبكر، كما أوصى بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"( 17) . وقد عُني سلف الأمة بذلك الأمر، روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً ( 18) . وفي رواية لأحمد بن منيع: وذلك قبل أن يخرج وجهي (أي يلتحي). وقال طاوس: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج ( 19) . ولقد اهتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتزويج الشباب، فكانوا يحثون الآباء على تزويج أبنائهم، فيقول عمر رضي الله عنه: "زوجوا أولادكم إذا بلغوا، ولا تحملوا آثامهم" ( 20) .وقد نادى عقلاء الغرب بالزواج المبكر ورأوا فيه حلاً للمشكلات التي يعانون منها، يقول ول ديورانت: "كان البشر في الماضي يتزوجون باكراً، وكان ذلك حلاً صحيحاً للمشكلة الجنسية، أما اليوم فقد أخذ سن الزواج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لا يتوانون عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة، فالحكومات التي ستنجح في نص القوانين التي تسهل الزواج الباكر ستكون جديرة بالتقدير؛ لأنها تكشف بذلك أعظم حل لمشكلة الجنس في عصرنا هذا". وينبغي السعي لتذليل العقبات المادية التي تقف دون الزواج، من خلال الدعم والمساعدة، وإقناع الشباب بأن الزواج لن يكون بوابة للفقر والفاقة، قال تعالى: } وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ { (النور:32). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النكاح سبب لعون الله وتوفيقه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله(/33)
"( 21) . وينبغي كذلك تذليل العقبات النفسية والاجتماعية التي قد تكون عائقاً عن المبادرة بالزواج. 3- سد الذرائع التي توصل وتقود إلى مقارفة الفاحشة، وقد عني الشرع بذلك، ومعظم آيات سورة النور تتحدث حول هذا الجانب. ومما ينبغي أن يراعى في ذلك: 3-1- التفريق بين الأبناء والبنات، وبين الأبناء مع بعضهم في المضاجع، وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم فقال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" ( 22)، وينبغي مراعاة ذلك في الدور والمدارس التي يبيت الطلاب فيها. 3-2- غض البصر، وقد أمر الله تعالى به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغض أبصارهم، ونهاهم عن إطلاقه، والنظر الحرام هو البداية الأولى، وهو الشرارة التي توقد نار الشهوة. بل إن الأعداء الذين لا يحكمهم دين ولا خلق بدؤوا يدركون أهمية غض البصر وأثره في العفة، يقول أحد العلماء الألمان: "لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم }قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...{ (النور:30)". 3-3- الابتعاد بالمتربين عن الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط والتبرج، ويتعرضون فيها للنظر الحرام، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من ذلك فقال: "إياكم والجلوس في الطرقات"، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، فقال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه" قالوا:وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ( 23). فلما كان الجلوس في الطريق سبباً للوقوع في المخالفة والمعصية نهاهم عن الجلوس في الطريق ابتداءً. 3-4- الابتعاد بهم عن المجالس التي يكثر فيها الحديث عن أمور النساء وأخبارهن، كما يجري في مجالس بعض كبار السن الذين يتساهلون كثيراً في الحديث في ذلك، وأقل ما في هذا أنه مخل بالمروءة والأدب، إن سلم صاحبه من الإثم( 24). 3-5- الابتعاد عن الخلوة بالأمرد، وقد حذَّر السلف من ذلك مع أنهم أهل الورع والتقى، ومن ذلك ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين قال: "كانوا يكرهون أن يحدَّ الرجل النظر إلى الغلام الجميل" ( 25). وروى أيضاً عن بعض التابعين: "ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه" ( 26). وروى عن الحسن بن ذكوان قال: "لا تجالسوا أولاد الأغنياء؛ فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى" ( 27). وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال:دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال: "أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً" ( 28). وقد اقتضى الواقع التربوي اليوم ضرورة مخالطة هؤلاء ومعاشرتهم، ومما يزيد المشكلة كون كثير من المربين غير متزوجين، فالدعوة إلى المنع من اللقاء بهم غير واقعية، والحاجة لمخالطتهم ينبغي ألا تشغل المربين عن مراعاة الضوابط الشرعية في معاشرتهم، والبعد قدر الإمكان عن الخلوة وما في حكمها. 3-6- إبعاد الفتيان عن التشبه بالنساء، أو المبالغة في التزين والعناية بالمظاهر، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال( 29). هذه بعض الذرائع التي يمكن أن تكون طريقاً للوقوع في هذه الشهوة المحرمة. ومهمة المربي فيها تتمثل في إبعاد هذه الذرائع عن البيئة التربوية وتنقيتها منها، و توجيه المتربين إلى البعد عنها، وإغلاق الأبواب التي تقودهم إلى الحرام. 4- إبراز النماذج والقدوات في العفة والتسامي، ومن أعظم هذه النماذج ما ذكره الله تبارك وتعالى من قصة يوسف عليه السلام، والعناية بهذه القصة ودراستها ومقارنة ذلك بالواقع وإغراءاته مما ينبغي أن يكون له نصيب مهم في المناهج والبرامج التي تقدم للشباب والفتيات اليوم. 5- تقوية الإرادة والعزيمة في النفس، والأخذ بزمامها، وتعويدها ألا يستجيب لها في كل ما تدعو إليه وتأمر به، وسيأتي الحديث عن عوامل تقوية الإرادة في الجانب النفسي بمشيئة الله. 6- تنمية دافع الحياء: والحياء له أثره الكبير في حماية صاحبه من مواقعة الرذائل، ولذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم مقولة العرب: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" مما أدركه الناس من كلام النبوة الأولى( 30). وحين اجتمع الحياء مع خشية الله لدى امرأة من المسلمين غاب عنها زوجها التزمت طريق العفة، وهاهي تعبر عن ذلك بقولها: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرّقني ألا خليل أداعبه فلولا خشية الله والحياء لحُرِّك من هذا السرير جوانبه "ومن فضل الله أن درجة الحياء تزداد لدى البالغ أكثر من المراحل السابقة؛ لتكون وقاية للشاب البالغ" (31 ). 7- إشغال الشاب بمعالي الأمور وملء اهتماماته ووقته بالأعمال الجادة المثمرة، فهي تصرف طاقته، وتشغله(/34)
عن التفكير في الشهوات، وتبعده عن مواطنها. 3 - حفظ اللسان والمنطق: لقد أعلى الشرع منزلة حفظ اللسان، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" ( 32)، قال ابن حجر رحمه الله: "فالمعنى من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام…وقال ابن بطال: دلَّ الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه, فمن وُقي شرهما وُقي أعظم الشر" ( 33). وحفظ اللسان والمنطق يشمل البعد عن الألفاظ المحرمة شرعاً، سواء كانت متعلقة بحق الله، أم بحق المخلوق كالسبِّ والشتم والسخرية، ويشمل بذاءة اللسان، والتصريح بما يستحيا منه، وهذا الأمر مما شاع للأسف واعتاده طائفة من الناس، وأهل الصلاح والتقى أولى بأن يبتعدوا عنه، فهو مظهر من مظاهر قلة الحياء، وخلق من أخلاق السوقة وأهل السوء. ومن الأدب الشرعي أن يكنى عما يستحيا منه، فجاءت التكنية في نصوص الكتاب والسنة عن الجماع بإتيان الرجل زوجته، } فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ{ (البقرة:222) "إذا أتى أحدكم أهله"، بل كنَّى العرب عما يخرج من الإنسان باسم موضعه الغالب وهو المكان المنخفض، ثم جاءت الألفاظ الشرعية بالتكنية عنه بـ(قضاء الحاجة)، ولا يأتي التصريح إلا حين الحاجة إليه لبيان حكم لا يُبين إلا به، أو لإقامة حدٍّ وحكم شرعي. وحفظ اللسان يحتاج إلى ترويض ومجاهدة للنفس، وتعويد لها على المنطق الحسن، واختيار الألفاظ والبعد عن الفحش، وهذا مما يشق ويحتاج لمجاهدة، قال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار، ويتورع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة، يطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكه في أعراض الخلق، وربما خصَّ أهل الصلاح والعلم بالله والدين والقول على الله ما لا يعلم، وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام، والقطرة من الخمر، ومثل رأس الإبرة من النجاسة؛ لا يبالي بارتكاب الحرام" ( 34). 4 - التربية على الجدية: إن من يعد للدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونصرة الدين يعد لمهمة عالية لا يقوم بها إلا الجادون الصادقون من الناس، ومن ثم كان لابد من الاعتناء بتنشئة جيل جاد يكون أهلاً لتحمل المسؤولية والقيام بتبعة نصر الدين والذبِّ عنه. ومن الأمور التي تعين على غرس الجدية: 1- أن يكون المربي شخصية جادة، يرى فيه تلامذته القدوة الحسنة والنموذج الصادق. 2- التعامل بجد مع الأمور الجادة، فالبرامج الجادة، والمقترحات والأفكار الجادة لا ينبغي أن يكون فيها مجال للهزل. 3- الانضباط في المزاح فهو البوابة للتربية الهزيلة، ومن صور الانضباط في ذلك: 3-1 قلة المزاح وعدم الإكثار منه؛ فإن من كثر كلامه كثر سقطه. 3-2 ألا يخرج المزاح عن الوقار والهيبة التي ينبغي أن يتسم بها طالب العلم، وله أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يخرجه المزاح عن وقاره وسمته. 3-3 ألا يكون المزاح في غير المواطن المناسبة له. 4- الاقتصاد في برامج الترويح والتعامل معها باعتدال( 35). 5 - التربية على العزة والشجاعة: من الصفات التي تمثل أهمية بالغة في بناء شخصية الداعية إلى الله عز وجل: العزة والشجاعة. العزة التي تدفعه إلى الاستغناء عما في أيدي الناس، أو التطلع إلى نوالهم وتوقيرهم، والشجاعة التي تدعوه إلى اتخاذ القرار المناسب حين يحتاج إليه، وتدعوه للانتصار على نفسه حين تدعوه بداعي العجز أو الهوى، ثم هي بعد ذلك تهيئ المرء للمهام العظام حين تُراد منه، من قول كلمة الحق والجهاد في سبيل الله حين ترفع الأمة رايته. ويتأكد هذا المعنى اليوم؛ إذ إن معظم مجتمعات المسلمين لا تغرس هذه المعاني في نفوس الناشئة؛ بل هي تعودهم الاستكانة والخضوع، والخوف والخور حتى من الأشباح. وهذه الأخلاق ميدان للتفريط والإفراط، ومن ثم فهي تفتقر إلى الاتزان، فالغلو في العزة يحولها إلى أنفة وكبر واعتداد بالنفس وتمسك بحظوظها، والغلو في الشجاعة يحولها إلى تهور وطيش وسفه. وقد أمر الشرع بخفض الجناح للوالدين، ووصف من نالوا منزلة حبهم لله وحبه لهم بالذلة على المؤمنين. ومما يعين على تحقيق هذا الجانب: 1- الاعتدال في أسلوب تعامل التلميذ مع أستاذه، والبعد عن الغلو في الخضوع والتعظيم، كما يفعل جهلة أهل البدع. 2- الاعتدال في العقوبة وترك الإغلاظ فيها، فكثير ممن يُقسى معه في العقوبة تنشأ لديه عقد من الخوف والخور. 3- عدم التحقير والإهانة، والبعد عن الألفاظ التي تنبئ عن قلة الاحترام والتوقير، والخطأ يعالج باعتدال، وليس مبرراً لاستخدام أساليب التحقير والمهانة؛ فإن اعتياد الشاب على سماعها من معلمه ووالده يضعف العزة لديه، ويهيئه لتقبل الهوان. 4- التعويد على تحمل المخاوف الطبيعية، وعدم المبالغة في التخوف عليه من الانفراد والخروج في المكان المظلم ونحو ذلك، كما(/35)
تفعل كثير من الأمهات. 6 - التربية على الوقار ومعالي المروءة: من شروط تحقق العدالة: البعد عما يخل بالمروءة، ومن ثم كان مما ينبغي أن يُتعاهد في الناشئ غرس معالي المروءة ورعايتها. لذا فقد اعتنى من كتب في أدب المتعلم بهذا الجانب، ذكر ابن جماعة في آداب الساكن بالمدرسة "ولا يتمشى في المدرسة، أو يرفع صوته بقراءة أو تكرار أو بحث رفعاً منكراً، أو يغلق بابه أو يفتحه بصوت…ونحو ذلك، لما في ذلك كله من إساءة الأدب على الحاضرين والحمق عليهم" ( 36). وذكر منها "ويتجنب ما يُعاب؛ كالأكل ماشياً، وكلام الهزل غالباً، والبسط بالنعل، وفرط التمطي والتمايل على الجنب والقفا، والضحك الفاحش بالقهقهة" ( 37). لذا على المربي الحرص على أن يبعد عن البيئة التربوية كل ما يخل بالمروءة، وأن يبتعد هو عن ذلك ليكون قدوة حسنة لطلابه، وأن يتدارس معهم هذه الآداب والأخلاق. 7 - التربية على السمت والهدي الحسن: كان السلف رضوان الله عليهم يعنون بالسمت والهدي والأدب، ويعدونه باباً من أبواب العلم لا ينفصل عنه. قال مالك: "إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى من قبله" ( 38). وقال إبراهيم: "كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله" ( 39) وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" (39) وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث" (39) وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: "يا بني، اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث" (39) 8 - التربية على الأدب مع الأكابر: من محاسن الأخلاق رعاية الأكابر وإنزال الناس منازلهم، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم منزلة هذا الخلق فقال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا"( 40). وارتباط الطالب مع معلمه وطول لقائه معه يقود إلى التبسط ورفع الكلفة، مما يدفع ببعضهم إلى إساءة التعامل مع الأكابر والجفاء بحقهم. ونحن بحاجة إلى أن يحضر الشاب مجالس الكبار، ويشاركهم أحاديثهم وحوارهم، وفي الوقت نفسه يرعى الأدب معهم وينزل الناس منازلهم. ومما يسهم في تحقيق هذا الجانب - بالإضافة إلى التأكيد عليه والتناول المعرفي-: 1- تنبيه الشاب بصورة مناسبة حين يتجاوز حدود الأدب مع غيره، مع مراعاة ألا يولد ذلك لديه النفرة من مجالسة الكبار ومشاركتهم أحاديثهم. 2- احتفاظ المربي بقدر من الاتزان في التعامل مع مَنْ يربيه، بحيث تبقى الصلة صلةً بين معلم وطالب، وبين أب وابنه، ولا تتحول إلى صلة زمالة وصداقة؛ فلا يفرط في المزاح، ولا يتعامل معه بما ينافي وقار الكبار. 3- عند وقوع بعض التجاوزات من الطالب ينبغي على معلمه أن يتعامل معها بطريقة مناسبة، فتقبلها يعزز هذا التصرف لديه، ويشعره بأنه تصرف مقبول، والإغلاظ معه يولد آثاراً غير حميدة، ومن ثم فتجاهل التصرف بطريقة لبقة تشعره بأن هذه الكلمة وهذا الموقف غير مناسب، وتغني عن التصريح. هذه الطريقة في التعامل مع هذه المواقف - التي كثيراً ما تقع- تسهم في وضوح الصورة بين ما ينبغي فعله مع الأكابر وما لا ينبغي. 4- أن يلمس ممن يربيه رعايته هو لهذا الجانب، بتوقير معلميه واحترامهم، والاعتراف لهم بالفضل والسابقة، ولو صار الآن زميلاً لهم، بل لو فاقهم في بعض المجالات، وهذا دأب أهل العلم الذين تربوا عليه، نراهم يقدرون شيوخهم ويلهجون بالثناء عليهم والدعاء لهم، مع أن بعضهم قد يكون ممن فاق شيخه علماً وشهرة. وأن يلمس التلميذ من معلمه الأدب مع الكبار وأهل العلم والرأي ولو خالفهم في بعض آرائهم؛ فحين يرى الطالب ذلك كله من معلمه يترك فيه أثره بإذن الله عز وجل. 9 - التربية على رعاية آداب المجالس: للمجالس آداب لابد من رعايتها والاعتناء بها، وورود هذا التوجيه في القرآن الكريم دليل على أهمية ذلك }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا{ (المجادلة11)، وورد الأمر برعايتها في السنة النبوية، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة: من قام- من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"(41 ). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه"( 42). ومهما قام المربي بتوجيه من يربيه وتعليمه آداب المجالس، فإنه ما لم يشارك في هذه المجالس، فيحضر فيها، ويقول رأيه، ويشارك في الحديث…، ما لم يُوضع أمام التجربة العملية فلن يكفي البناء المعرفي المجرد. ولذا كان الصغار والشباب يحضرون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويقتربون منه، ولم يُعدَّ ذلك سوء أدب أو مدعاة له. فقد أكل عمرو بن سلمة وهو غلام صغير في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وطاشت(/36)
يده في الصحفة، وكانت هذه المشاركة فرصة ليعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أدباً من آداب الطعام، وبقي هذا النص يستدل به المسلمون على مدى الزمان، فعنه - رضي الله عنه - قال: أكلت يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعلت آكل من نواحي الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مما يليك" (43 ). وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره، فقال: "يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ " قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه( 44)، والاستدلال بهذا النص لا يقف عند حدود حضور هذا الشاب مجلسه صلى الله عليه وسلم، بل كان عن يمينه وبجواره، ولم يعد أحد من الحاضرين ذلك من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: " وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنِّبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدباً…". ومما يعين على ذلك أيضاً تدارس آداب المجالس والتعرف عليها، والاعتناء بالمجالس التي يجلسها الطالب ولو مع زملائه وأقرانه؛ فتراعى فيها آداب المجالس ليكون ذلك سلوكاً وسمتاً لهم لا يحتاجون إلى تكلُّفه. وربما أدت الخلطة وزوال الكلفة بينهم إلى الإخلال ببعض هذه الآداب، فلا بد حينئذ من تصحيح ذلك، والتأكيد على أن الأدب لا ينبغي أن يتجاوز بحجة ذلك. 10 - التربية على الرجولة والخشونة والبعد عن الترف: إن من إفرازات الحضارة المعاصرة اليوم أن غدت بعض مجتمعات المسلمين تعاني من انتشار مظاهر الترف، مما ولَّد جيلاً من المترفين لا يطيق حياة العزيمة والجد، وهو جيل يبحث عن الراحة والكسل، ويتقاعس عن معالي الأمور. ومن ثم أصبح على التربية اليوم عبءٌ أكثر من ذي قبل، وصارت بحاجة إلى أن تجعل غرس معاني الرجولة والبعد عن حياة الترف والترهل هدفاً من أهدافها التربوية. ومن وسائل الوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه: 1- غرس مفهوم الجدية، وبيان مساوئ حياة الترف والبطالة. 2- التقليل من مظاهر الترف في البرامج المقدمة للشباب، مع مراعاة الاعتدال والتدرج في ذلك، ولتكن البداية في إيجاد فرق بين حياة الشاب في المنزل، وحياته في مثل هذه البرامج، بل الواجب على الأب أن يخفف من مظاهر الترف في تربيته لأبنائه. 3- تنظيم بعض البرامج الجادة كالرحلات والبرامج العلمية التي تعوِّد الشباب والأبناء على الجدية والرجولة، وعلى التخلي عن بعض ما اعتادوه من حياة مترفة منعمة( 45). 11 - التربية على العزيمة والبعد عن الكسل: العجز والكسل داءان ينخران في الإنسان، ويقعدان به عن مصالح دينه ودنياه، وحين يعتاده المرء يصبح سجية له؛ فتثقل نفسه، وتضعف همته، وتفوته مجالات الخير في الدنيا والآخرة، والعاجز الكسول هو الذي "لا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خُلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام راعياً مع الهمل، واستطاب لقيمات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمَّر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله" (46 ). ولسوء هذين الداءين كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منهما؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر" ( 47). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد عن العجز فقال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" ( 48). ولا بد من المبادرة بتخليص الشاب من هذه الخصلة الذميمة في وقت مبكر قبل أن تستفحل وتتحول إلى خلق يصعب اقتلاعه. ومما يعين على ذلك تعويده على الاستيقاظ المبكر، وعدم طول البقاء في الفراش، وتعويده على المبادرة إلى إنجاز الأعمال وترك التسويف، والاتزان في أوقات الراحة وترك الإطالة فيها. كما أن المرء يحتمل في حياة الجماعة ما لا يحتمله لوحده، فمعيشته أجواءً جادة مع صحبته وممارسته لأنشطة تحيي العزيمة، مما يعينه على التحمل وترك الإخلاد إلى الراحة. 12 - التربية على اغتنام الأوقات: الوقت هو عمر الإنسان وهو حياته؛ فالمرء أيام كلما مضى يوم مضى بعضه كما قال الحسن رحمه الله. والمسلمون اليوم يعانون من إهمال الوقت وتضييعه، ويديرون أوقاتهم بطريقة سيئة، وللصالحين وطلبة العلم نصيب من ذلك. إننا قد لا نبالغ إذا قلنا: إن الرجل الجاد في تعامله مع وقته ينتج أضعاف ما ينتج أقرانه، ومن ثم فالتربية التي تعنى بغرس احترام الوقت وحسن اغتنامه(/37)
ستخرج جيلاً يؤدي أضعاف ما يؤديه غيره. ومما يعين على ذلك: 1- معرفة أحوال السلف في حرصهم على أوقاتهم واغتنامهم لها، ففيها عبر عظيمة؛ فهي تعلي الهمة وتزيد العزيمة، وتجعل المرء يحتقر نفسه وجهده( 49). 2- الاستفادة من الأساليب الحديثة في إدارة الوقت والتعامل معه( 50). 3- التعويد على استغلال أوقات الانتظار، وعدم بقائه في المنزل ينتظر صاحبه وهو فارغ غير مستفيد من وقته. 4- التعويد على القراءة؛ لتصبح سجية وطبيعة له، فمن لا يقرأ يصعب عليه أن يستفيد من وقته. 5- الانضباط قدر الإمكان في المواعيد والأوقات، وتعويد الشاب على احترام أوقات غيره. 6- ترك أوقات فراغ للشاب؛ وعدم إشغاله طيلة الوقت، وتوجيهه إلى أنشطة يمكن أن يستثمر فيها وقته؛ فمن لم يكن لديه وقت فراغ يتعامل فيه بمفرده فلن يعتد على اغتنام وقته( 51). 13 - التربية على النظام في الحياة والتفكير: تسود الفوضوية اليوم في حياة المسلمين، وتسيطر على جوانب كثيرة من حياتهم، فحياة المنزل، والعلاقات الاجتماعية، والمؤسسات الإدارية…كلها تتسم بالفوضوية. ويبدو أثرها على نمط تفكيرهم، فأفكارهم تبدو غير مركزة ولا محددة، وكذا حديثهم وحوارهم. وهذه السمة العامة في المجتمع لابد أن تترك أثرها على الدعاة والمربين - كما سبق في أكثر من موضع- ومن ثَمَّ كان لابد من الاعتناء بالتربية على النظام في الحياة والتفكير. ومن وسائل تحقيق ذلك: 1- اعتناء المعلم بتنظيم أفكاره وخواطره حين يعرضها. 2- تنظيم الحوار والنقاش الذي يدار في الفصل، من خلال تركيز المعلم على تحديد جوانب الاتفاق والخلاف، وحصر دائرة النقاش، وإجادة الاستماع للآخرين….إلخ. 3- التنظيم غير المتكلف في البيئة المنزلية والمدرسية وسائر المؤسسات التربوية، ووجود أنظمة واضحة محددة يعتاد الجميع على الالتزام بها. * * * الحاشية ( 1)رواه أحمد (24492) وأبو داؤود (4798). ( 2) رواه الترمذي (2018). ( 3) رواه البخاري (6035) ومسلم (2321). ( 4) رواه البخاري (2768) ومسلم (2309). ( 5) رواه أحمد (3589). ( 6) رواه البخاري (6203) ومسلم (659). ( 7) رواه مسلم (746). ( 8)رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (409). ( 9)جامع بيان العلم وفضله(1/127). ( 10)رواه مسلم (37). ( 11)رواه البخاري (2486) ومسلم (2500). ( 12)رواه مسلم (18). ( 13)رواه البخاري(6116). ( 14)رواه البخاري (5096). ( 15)رواه البخاري(6474). (16) رواه أحمد (7847) والترمذي (2004) وابن ماجة (4246). ( 17) رواه البخاري (5066) ومسلم (1400). (18) رواه البخاري (5096). ( 19) رواه ابن أبي شيبة (4/127). ( 20) أورده ابن الجوزي في مناقب عمر (208) وانظر: بدير محمد بدير، منهج السنة النبوية في تربية الإنسان، مكتبة الدعوة الإسلامية بالمنصورة، الطبعة الثانية، 1413هـ ص(120). (21) رواه الترمذي (1655) والنسائي (3218) وابن ماجه (2518). ( 22) رواه أحمد (6650) وأبو داود (495). ( 23) رواه البخاري (6229) ومسلم (2121). ( 24) مما يؤسف له أن بعضاً من المنتسبين للصلاح والعلم الشرعي يكثر حديثهم في ذلك بصورة لا تليق. ( 25) شعب الإيمان (5395) 4/358. ( 26) شعب الإيمان (5396) 4/358. ( 27) شعب الإيمان (5397) 4/358. ( 28) شعب الإيمان (5405) 4/360. ( 29) رواه البخاري (5885). ( 30) رواه البخاري (3483). ( 31) دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. ص377. ( 32) رواه البخاري (6474). ( 33) فتح الباري (11/315) . ( 34) عدة الصابرين ص 70. ( 35) سيأتي الحديث عن الترويح بشيء من التفصيل في الجانب الاجتماعي. ( 36) تذكرة السامع والمتكلم (282). ( 37) تذكرة السامع والمتكلم (299). ( 38) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/165). ( 39) جامع بيان العلم وفضله (1/127). ( 40) رواه الترمذي (1920) وأبو داود (4943) وأحمد (6896). ( 41) رواه مسلم (2179). ( 42) رواه البخاري (6269) ومسلم (2177). ( 43) رواه البخاري (5377) ومسلم (2022). ( 44) رواه البخاري (2351) ومسلم (2030). ( 45) انظر حول موضوع الترف مجلة البيان، ع 85، 86. ( 46) مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية (1/46). ( 47) رواه البخاري (2823) ومسلم (2706). ( 48) رواه مسلم (2664). ( 49) انظر في ذلك: قيمة الزمن عند العلماء لعبد الفتاح أبي غدة. ( 50) انظر: إدارة الوقت لنادر أبي شيخه. ( 51)يعمد بعض المربين إلى إشغال معظم وقت الشاب حفاظاً عليه، ولا شك أن المقصد خير، لكن ذلك يعوده على انتظار أن يشغل الآخرون وقته، وحين يتهيأ له فراغ فقد لا يتعامل معه بصورة صحيحة، إضافة إلى أن ذلك يشغله عن القيام بواجباته المدرسية، ويعزله عن ارتباطاته الاجتماعية، وربما تضايق بعض الآباء من هذا المسلك.(/38)
الفصل السابع: الجانب الاجتماعي يشكل البناء الاجتماعي جانباً مهماً في التربية الإسلامية؛ إذ الفرد لا يمكن أن يحيا حياة سوية مستقيمة دون أن يعيش في مجتمع يلجأ إليه ويشعر بالأمان في كنفه، ومن ثم كان السجن الانفرادي عقوبة يعاقب بها المجرم، وجاء الشرع بتغريب الزاني عاماً عن بلده، كل ذلك يعطينا الدليل على قيمة المجتمع في حياة الإنسان. لذا فالتربية التي تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً منفصلاً تعد تربية قاصرة، وكان لاغنى لأي بناء تربوي أن يعنى بالجانب الاجتماعي وتنميته. كما أنه لابد لنا من الاعتناء بالجانب الاجتماعي لأننا نستهدف إخراج فئة من الشباب يكون لهم تأثير في مجتمعاتهم، ويسهمون في بنائها وتوجيهها الوجهة السليمة، وما لم يملك هؤلاء الخبرات والمهارات الاجتماعية، وما لم نضع ضمن أهدافنا الاعتناء ببناء الجانب الاجتماعي لديهم، فلن يستطيعوا تحقيق التغيير الذي تتطلع إليه مجتمعاتهم. وقدرتهم على التغيير في مجتمعاتهم والتأثير فيها لا تنتهي عند مجرد تربيتهم باعتبارهم أفراداً، ولا عند مجرد قدرتهم على الحديث والخطاب مع الآخرين، بل هو أمر فوق ذلك كله. ومن جانب آخر فالمجتمع يترك أثره على الأفراد الذين يعيشون فيه، وحين نريد تنشئة فئة من الناس تخالف بعض الاتجاهات السائدة في المجتمع فالأمر فيه من الصعوبة ما فيه، ومن ثم فلا غنى لنا عن السعي لمزيد من الإصلاح الاجتماعي والمحصلة النهائية رعاية أولادنا وشبابنا. الهدف العام في الجانب الاجتماعي: تنمية الجانب الاجتماعي. وسائل عامة في الجانب الاجتماعي: 1 - تعليم الآداب والأحكام الشرعية في الحياة الاجتماعية: جاءت أحكام الشرع شاملة لكل نواحي الحياة، وما من ميدان من ميادين الحياة إلا ولله فيه حكم يُتعبد المسلم به، "ومن مقتضيات ذلك كله أن يكون لدى المسلم علم بجملة كبيرة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالحياة الاجتماعية، كآداب الكلام والطعام والشراب، وآداب المشي والجلوس والنوم، وآداب التعامل مع الكبار والصغار والمعلم والصديق وغيرهم، وآداب الاستئذان على الوالدين، وآداب المساجد، وآداب الطريق والسيارة، والأدعية الخاصة بكل ناحية من هذه النواحي، وغير ذلك من أنماط السلوك الاجتماعي التي ينبغي على المسلم الوقوف عليها"( 1). ومن ثم لابد من الاعتناء بتعليم هذه الأحكام والآداب وتدارسها، والسعي لتطبيقها في البرامج والأنشطة التي تقدم للطلاب. 2 - الأنشطة والبرامج الترويحية: ينظر كثير من الناس إلى برامج الترويح على أنها مضيعة للوقت وإفساد له، وأن تعاطيها إنما هو من باب إتيان الضرورات. ومن زاوية أخرى فإن هذا الجانب أخذ لدى الناس أكثر من حقِّه في هذا العصر، حتى انتشرت ألوان من الترويح المحرم، وارتبط بالترويح المباح جوانب قد تخرجه إلى دائرة الحرام، أو صار طاغياً مفسداً للأوقات. ومع ذلك كله يبقى اعتناء المربين ببرامج الترويح وتنظيمهم لها أمراً له أهميته للأمور الآتية: 1- أن ممارسة الترويح كان هدياً نبوياً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا؟ قال: "إني لا أقول إلا حقاً" (2 ). 2- أن الترويح يلبي حاجة نفسية مهمة، فها هي عائشة -رضي الله عنها- تحكي عن نفسها فتقول: "كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو" ( 3). 3- أن الترويح يذهب الملل والسآمة، وينشط النفس لمعاودة العمل، لذا أوصى الغزالي مؤدب الصبيان أن يأذن لهم بالترويح فقال: "وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكُتَّاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب؛ فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً" (4 ). 4- أن الترويح له أثر مهم في تفريغ الطاقة الهائلة التي يمتلكها المراهق، لذا كثيراً ما يوصي علماء النفس عند تناولهم موضوع الشهوة الجنسية لدى المراهق بالاعتناء بالأنشطة الرياضية. 5- أن إقامة المربين للأنشطة الترويحية للشباب وتنظيمها لهم يقدم بديلاً يصرفهم عن الأنشطة الترويحية السلبية، كمشاهدة الأفلام والمسلسلات، أو التسكع في الطرقات والأسواق. كما يقدم لهم بديلاً عن ممارسة الترويح مع أصدقاء السوء، وكثير من الشباب كان سبب وقوعهم مع أصدقاء السوء ممارستهم للأنشطة الترويحية معهم. 6- أن ذلك يمكن أن يكون مُرَغِّباً للشباب في المشاركة في الأنشطة الثقافية والتربوية التي يصاحبها برامج في الترويح، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرغِّب الناس على الإسلام بما يحبونه من متاع الدنيا، عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم، أسلموا، فوالله إن(/39)
محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر. فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها( 5). 7- أن تنظيم البرامج الترويحية يمكن أن يستثمر في تحقيق بعض المعاني التربوية المهمة ومنها: 7-1 تعويد الشباب على تهذيب الألفاظ وصيانة اللسان؛ إذ الرياضة التي يمارسها الشباب اليوم تولِّد لدى أصحابها حماسة ربما أخرجتهم عن اتزانهم ووقارهم، وحين يمارسون الرياضة في الأجواء السليمة يعتادون حسن المنطق وتهذيب اللسان. وليس مقصدنا في تهذيب اللسان البعد عن الألفاظ المحرمة، فهذه قضية لا نقاش فيها هنا، بل ما هو أبعد من ذلك من حسن العبارة والحلم والهدوء اللائق بالمسلم. 7-2 تعويدهم على جعل الترويح وسيلة لا غاية، وعلى إعطائه الاهتمام الذي يتناسب معه دون إفراط وتجاوز، كما هو الحال لدى كثير من شباب المسلمين اليوم. 7-3 تعويدهم على المعاني الجماعية، وعلى العيش في إطار أخوي. 7-4 تنويع مجالات الترويح وبرامجه بحيث تشمل بعض البرامج الترويحية ذات البعد الثقافي والعلمي، وألا يقتصر الترويح على الأنشطة الرياضية وحدها( 6). 3 - إنشاء الجمعيات الاجتماعية: مع تعقد الحياة اليوم أصبحت كثير من الأعمال التي تتم بطريقة فردية يصعب أن تؤدى إلا من خلال عمل وجهد جماعي، ومن ذلك الأعمال الاجتماعية. ومن ثم فإنشاء الجمعيات الاجتماعية وإحياؤها مطلب مهم، وهو بالإضافة إلى كونه ميداناً تؤدى من خلاله الأنشطة الاجتماعية، فهو يدرب الشباب والناشئة على العمل الاجتماعي والمهارات الاجتماعية، كما يدربهم على العمل الجماعي ويعودهم عليه، و يتيح فرصة مهمة لرفع الكفاءة الإدارية والتدريب على مهارات إدارة العمل الدعوي. ويمكن للمربي أن يدفع بطلابه إلى إنشاء مثل هذه الجمعيات، وقد تكون جمعيات مصغرة تتناسب مع حجم العمل والقدرات التي يمتلكها الشباب. ومن الجمعيات التي يمكن إنشاؤها جمعيات في الحي، كجمعيات تهتم بالصدقة أو الزكاة، أو تلمس الأسر المحتاجة، أو رعاية أسر السجناء، أو توزيع فائض الأطعمة والولائم، أو إيجاد فرص عمل للعاطلين....إلخ. كما يمكن أن تنشأ جمعيات داخل المدارس، كجمعيات تهتم بأصحاب الظروف المادية الصعبة، أو جمعيات لعلاج ظاهرة التدخين أو لمساعدة الشباب الضعاف دراسياًّ...الخ. وفتح المجال أمام الشباب في مثل هذه الأعمال يمكن أن يولِّد أفكاراً وأعمالاً رائعة ربما لا يجيدها غيرهم. 4 - التعاون مع الجمعيات الخيرية: توجد جمعيات خيرية قائمة في مجتمعات المسلمين، وكثير من هذه الجمعيات تقوم أعمالها على التعاون والتبرع، وقلما تملك موظفين متفرغين. ولو قام المربون بتوجيه بعض طلابهم للعمل يوماً واحداً في الأسبوع مع هذه الجمعيات وتولي مهام محددة فيها لأنتج ذلك بإذن الله نتاجاً طيباً. ومع ما في هذا العمل من قيام بالواجب الشرعي، وأداء لجزء من رسالة الدعوة والدعاة تجاه المجتمع، فهو فرصة مهمة لتدريب الشباب على مهارات العمل الاجتماعي، ولزيادة الدافع الاجتماعي لديهم. إن مثل هؤلاء هم الذين سيتولون هذه الجمعيات والأعمال مستقبلاً، وهذه الأعمال تحتاج إلى شخص لديه الدافع والحماس للعمل، ولديه الشعور بالقدرة على الإنجاز، ويمتلك المهارات اللازمة لمثل هذا العمل. وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق بمجرد تبني الشاب لمفاهيم يحولها في المستقبل إلى عمل منتج، وما لم يبدأ بالإعداد في هذه المرحلة فسنفقد كثيراً ممن يمكن أن يكونوا عاملين منتجين، أو ستدار هذه الأعمال بأنصاف عاملين. أهداف فرعية في البناء الاجتماعي: من الأهداف الفرعية المهمة في الجانب الاجتماعي ما يلي: 1 - ربط الشاب بالرفقة الصالحة: يحرص كثير من الآباء على حماية أبنائهم من أسباب الفساد، وقد يدفعهم هذا الحرص إلى عزلهم عن الرفقة والصحبة خوفاً عليهم، وهذا مسلك غير سليم؛ ذلك أن "الرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان، وخصوصاً في مرحلة المراهقة، وبوجود الرفقة المنسجمة يتم قضاء الأوقات وتبادل الآراء والخبرات وبث الآمال، والتشارك في الأحاسيس والمشاعر…ويتعذر منع الشاب المراهق عن الرفقة أو فرض العزلة عليه، وهو أمر يصطدم مع طبع الإنسان وجبلته، ويحرمه من حاجة نفسية مهمة؛ ولذلك كان السجن الانفرادي عقاباً قاسياً؛ لأنه يعزل الإنسان عن حاجة من حاجاته المهمة، ويحرمه من الاجتماع بالناس والاختلاط بهم، وبث همومه وأحزانه وأشجانه إليهم" (7 ). لذا على الوالدين الاعتناء بهذا الجانب المهم من الجوانب التي تسهم في بناء شخصية الشاب، ويراعى في ذلك: 1- المبادرة قدر الإمكان في ربط الشاب بصحبة صالحة؛ إذ إنه حين يرتبط بغير الصالحين يصعب تخليصه منهم، وهذا يجيب على تساؤل يثيره كثير من المربين حول جدوى الارتباط الدعوي مع طلاب المرحلة الإعدادية -المتوسطة- فالمبادرة في ذلك تحميهم من الارتباط بصداقات يصعب تخلصهم منها فيما بعد، كما سبق في خصائص المرحلة. 2- ألا تُفرض عليه(/40)
الصداقة فرضاً، بل يوجَّه لها بطريقة عفوية، كاختيار المدرسة، والاتفاق مع الآباء أنفسهم، والزيارة أو الرحلات المتبادلة بين الأسر، وتكليفه بمهام مشتركة مع بعضهم، ومشاركته في الأنشطة المدرسية والمراكز الصيفية ونحوها من الميادين التي تجمع أمثال هؤلاء. 3- ينبغي أن يعتني الأب برفقة ابنه، ويحسن استقبالهم، ويشجعه على دعوتهم إلى المنزل. 4- ينبغي تجنب المعايير غير الصحيحة لاختيار الأصدقاء، ككونهم من الجيران، أو من الأقارب، أو أن الأب يعرف أسرهم وآباءهم…إلخ. وغني عن التأكيد أنه في المحاضن التربوية التي تجمع الرفقة الصالحة ينبغي أن تؤصل هذه المفاهيم لا أن تكون مجرد روابط اجتماعية. 2 - التعويد على تحمل المسؤولية: من الحاجات الملحة للشاب في هذه المرحلة: الحاجة للمسؤولية، وهي تشعره بأنه بلغ مصاف الرجال ومنزلتهم، إضافة إلى أنها تصرفه عن كثير من مظاهر العبث واللهو وتشعره أنه فوق ذلك كله، وبالإضافة إلى ذلك فالاعتناء بتنمية هذا الجانب يخدم الأمة، ويهيئ لها طاقات فاعلة ومؤهلة لأداء الأدوار الإيجابية. ومن تأمل في أحكام الشرع رأى هذا الأمر جلياً، فالشاب حين البلوغ يتحمل كافة المسؤوليات التي يتحملها الكبار، ويخاطب بكافة الأحكام والتكاليف الشرعية، "وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم في شتى المناسبات يدرب أصحابه على حمل المسؤولية؛ ليضطلعوا بأعباء القيادة من بعده، فكان يستشيرهم في كل مناسبة، وكثيراً ما يعدل عن رأيه إلى رأيهم؛ لأن في رأيهم صواباً" (8 ). ومن الأمور التي تعين المربي على تحقيق هذا الهدف: 1- بيان مفهوم البلوغ وما يترتب عليه من أحكام، وأنه يعني أن الشاب قد بلغ مبلغ الرجال. 2- الاعتناء بأخذ رأي الشاب والحوار معه، من خلال المنزل وإشراكه في القرارات المناسبة التي تتخذها الأسرة، ومن خلال الصف الدراسي، أما الأنشطة غير الصفية فتمثل ميداناً واسعاً لذلك. 3- وضع الشاب في مواطن يتحمل فيها المسؤولية، وتكليفه بمهام تشعره بذلك، كتكليفه ببعض الأعباء والمهمات الأسرية - مع مراعاة عدم الإثقال في ذلك - ومن ذلك تكليفه ببعض الأعمال المدرسية، كإدارة بعض الأنشطة المتناسبة مع قدراته( 9). 4- أن يحيل المربي ما يمكن إحالته من الأعمال التي يمارسها إلى الطلاب أنفسهم، ومن تأمل واقع كثير من المربين وجد أنهم يشغلون أنفسهم بمهام إدارية واجتماعية يمكن أن يتولاها الطلاب أنفسهم، وتفويض المربي لهذه المهام يحقق هدفين: الأول: تفرغه لمهام أكبر، وتمتعه بسعة من الوقت وهدوء بال تجعله أقرب إلى نفوس طلابه. الثاني: الاعتماد على الشباب وتحميلهم المسؤولية، وهذا ضروري في بنائهم الاجتماعي السليم. ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم رأى اعتناءه بهذا الأمر جلياً واضحاً، فقد ولَّى طائفة من الشباب من أصحابه كتابة الوحي، وقيادة السرايا والجيوش، والإمامة في الصلاة، والإمارة، وكان يرسلهم في مهام ليبلغوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وسرد الشواهد في ذلك يطول( 10). 3 - الإعداد الحياة المادية: يمثل الإعداد للحياة المادية اليوم مطلباً تربوياً مهماً، ويتأكد الاعتناء بهذا الجانب في المؤسسات والقطاعات التربوية الدعوية؛ فهي تهدف إلى تحقيق الاستقامة لدى المرء، وكثيراً ما تتجاهل الجوانب التي يحتاج إليها في حياته الدنيا، بل ربما وقفت عائقاً دونها لأجل أن يتاح وقت أطول للمتربي يتلقى من خلاله التربية في هذه المؤسسات الدعوية. ومما يؤكد أهمية هذا الأمر أن الشرع قد اعتنى بهذا الجانب، فقد ورد الأمر بطلب الرزق، عن الزبير بن العوام- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"( 11). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو - أحسبه قال إلى الجبل- فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس"( 12). وقد نهى الشرع عن سؤال الناس وتكففهم وذمَّه، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر- أو كلمة نحوها-"( 13). ويزداد تأكد هذا الأمر مع تقلص فرص العمل وصعوبتها في كثير من المجتمعات الإسلامية. وتتمثل المجالات التي يمكن للتربية أن تعتني بها لتحقيق هذا الهدف ما يلي: 1-3 تكوين الاتجاه الإيجابي نحو العمل: تعاني شرائح من مجتمعات المسلمين من اتجاهات سلبية تجاه العمل اليدوي والحرفي، أو تجاه مجالات معينة من مجالات العمل. والخطوة الأولى في التربية على قيم العمل تتمثل في تكوين الاتجاه الإيجابي وتعزيزه، فما لم يوجد الدافع فكل الخبرات والمهارات لا قيمة لها. ومن(/41)
الوسائل التي تعين على تحقيق هذا الهدف: 1ـ إبراز الجانب الشرعي والنصوص التي تحث على طلب الرزق وتحصيله، وتحث على العمل و الكسب، مع إبراز ما ورد في ذم المسألة والعيش عالة على الآخرين. 2- علاج الاتجاهات السلبية تجاه العمل الحرفي والمهني. 3- إبراز هذا الجانب في سير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ورد في القرآن عن موسى من رعيه للغنم، وكما ثبت في السنة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" فقال أصحابه: وأنت؟ فقال:"نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"( 14). 4-إبراز هذا الجانب في سير الصحابة رضوان الله عليهم وسير السلف من بعدهم، فإن مما يعوق بعض الشباب عن ذلك اعتقاد أنه يتعارض مع الصلاح والتقوى. 2-3 إكساب الخبرات: لقد تعقدت الحياة المادية اليوم، وصعبت متطلبات الحياة، فالمطالب الضرورية للحياة زادت وأصبحت في خارج القدرة المادية لكثير من الناس. فالسكن والنقل والأثاث والغذاء...الخ لم تكن مشكلة فيما مضى، وكانت متاحة للغني والفقير، أما اليوم فهي تستهلك جزءاً كبيراً من مداخيل الناس. وفرص الكسب هي الأخرى تعقدت؛ ففيما مضى كان الإنسان يعيش في مزرعته أو مع ماشيته فيتقوت منها ومن يعول، أما اليوم فمصاريف الزراعة والرعي صارت فوق طاقة الكثيرين، ناهيك عن عدم كفاية مداخيلها. ومن ثم كلما ارتقى مستوى تعليم الفرد وازدادت خبرته زادت فرص حصوله على مصدر رزقه. وبناءً عليه فإن من مسؤولية المربي فتح المجال أمام الشاب لمنحه الخبرات التي تزيد من تأهيله لفرص العمل. وهذا لا يعني أن تتحول المحاضن التربوية إلى مراكز مهنية وتدريبية، لكن مما يُنتظر منها ما يأتي: 1- تشجيع الشاب على التفوق الدراسي ومساعدته على ذلك، وتنظيم البرامج التربوية بما لا يؤثر على التحصيل الدراسي. 2- إتاحة الفرص للالتحاق ببعض الأنشطة والبرامج التدريبية التي يرغب الشاب في الالتحاق بها؛ إذ الملاحظ أن كثيراً من المربين يصرفونهم عنها، ويزهدونهم فيها. 3- استثمار الإجازات الصيفية وتخصيص جزء من الأنشطة الصيفية لتنمية هذه الجوانب، ومع وجود قدر من الاعتناء، بذلك فهو يحتاج إلى تعزيز وترشيد بحيث يكون مثمراً ومحققاً للهدف. 4- التواصل بين المؤسسات التربوية ( كحلقات التحفيظ والجمعيات الخيرية و الدعوية..) وبين الخيرين من العاملين في القطاع الخاص وبوجه أخص في الإعداد والتدريب، ومن خلال ذلك يمكن تقديم برامج خاصة وجماعية إما دعماً للأنشطة التربوية، أو تخفيضاً للتكلفة، أو لإيجاد بيئة منضبطة ومحافظة. 3-3 تنمية المثابرة والعزيمة: من أهم قيم العمل ومتطلبات نجاح العامل المثابرة والعزيمة، لذا لا نزال نرى كثيراً من الشباب حين يلتحقون بمجال من مجالات العمل سرعان ما يملون ويسأمون، أو لا يجيدون التلاؤم مع بيئة العمل، فهذا يدعو إلى الاعتناء بتنمية روح المثابرة والعزيمة لدى الشاب وتقوية هذا الجانب لديه. ولعل ما سبق تناوله عند الحديث عن العزيمة والبعد عن الكسل (في الجانب الخلقي والسلوكي ) يعين على ذلك. 4-3 تنمية تقدير المسؤولية: من المشكلات التربوية للجيل المعاصر غياب تقدير المسؤولية وتحملها؛ فالتربية المعاصرة تُعوِّد الطالب على التلقي السلبي، وعلى الاعتماد على الآخرين، ويبقى إلى أن يتجاوز العشرين من عمره وهو عالة على والديه. وهذا له أثره السلبي في تأهله للعمل، ومن ثم كان جديراً بالمربي أن يعنى بتنمية الشعور بتقدير المسؤولية لدى الشاب، من خلال تأصيل مبدأ المسؤولية في طبيعة الأنشطة التي يتلقاها ويشارك فيها، مع مراعاة أن يكون ذلك بالقدر الذي يتناسب مع قدراته وإمكاناته،وبما لا يكون منفراً ومعوقاً له عن الاستمرار في هذه الأنشطة. بالإضافة إلى تهيئة فرص عملية لتحمل المسؤولية، وقد سبق الحديث عن ذلك. 5-3 تنمية مهارات إتقان العمل: إتقان العمل يزيد من فرص النجاح في الأعمال الشخصية،كما أنه يتيح لصاحبه فرصاً أكبر في القطاعات الأهلية. ولا نزال نرى معظم الناس اليوم سواء أكانوا منتجين أم مستهلكين لخدمات وسلع معينة يتقبلون دون نقاش أعمال جنسيات معينة، ويدفعون لهم أضعاف ما يدفعونه لغيرهم؛ لأن هؤلاء اشتهروا بإتقانهم لهذه الأعمال. وتعد مرحلة الشباب مرحلة مهمة في تنمية مهارات إتقان العمل، وهو سلوك يتعلمه الشخص ويتسم به أكثر من مجرد ارتباطه بحرفة أو عمل مهني. ومن ثم فتنمية هذا السلوك لدى الشاب في دراسته، وفي ممارسته للأنشطة الثقافية والاجتماعية، كل ذلك سيترك أثره على إتقانه لعمله الوظيفي فيما بعد. ومن الوسائل المعينة على تنمية هذا الجانب: 1- مطالبة الشاب بمزيد من الإتقان فيما يقوم به وينفذه من أنشطة(15 )، ويمكن أن تكون الحوافز والمسابقات وسيلة مساعدة في ذلك. 2- تنظيم أنشطة تتطلب قدراً أكبر من الإتقان، واستثمارها فرصة للتدريب على ذلك. 3- جعل الإتقان سمة للبرامج وأنظمتها، والارتقاء بمستوى(/42)
الضبط لها؛ فهو يحول الإتقان إلى سلوك شخصي مستقر لدى الشاب. 4- التزام المربي بمراعاة ذلك فيما يقدمه من برامج وأعمال، ومن أقرب الأمثلة على ذلك الموضوعات الثقافية التي يقدمها لطلابه، فكلما لمسوا منه الاعتناء والإتقان أثَّر ذلك في اكتسابهم لهذا السلوك. 6-3 الارتقاء بالوعي الاجتماعي والاقتصادي: مما تتسم به بعض البيئات التربوية استهلاكها لوقت الشاب وعزله عن كثير مما يدور في المجتمع. وبغض النظر عن سلامة هذا الموقف أو عدم سلامته إلا أن من المهم علاج بعض الآثار الناجمة عنه. إن طائفة من الناشئة لا يزال بمعزل عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ولن يستوعبها إلا بعد جيل قادم، وربما برزت أمام الجيل القادم مشكلات أخرى. ومن ثم فنشر قدر من الوعي بهذه التغيرات، والاعتناء بتحقيق قدر من الفهم للنواحي الاقتصادية والاجتماعية أمر له أثره في إعداد الشاب للعمل والحياة المادية. 4 - تنمية مشاعر البر والصلة: إن البر والصلة من أعظم الأخلاق والمعاني الاجتماعية التي دعا إليها الشرع، بل قد كانت شعاراً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، عن عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه - قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جُرَءَاءُ عليه قومُه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحِّد الله لا يشرك به شيء" ( 16). والمربون اليوم ليسوا بحاجة إلى الاستطراد في الحديث عن أهمية هذا الجانب، وحتى الفئة المستهدفة تعيه من حيث الأصل، إلا أنها بحاجة لمزيد من الرعاية، وإلى أن تسهم المحاضن التربوية في تنمية هذا الجانب وتعزيزه لديها. ومن الوسائل المهمة التي تعين على تحقيق هذا الجانب: 1- تناوله والحديث عن أهميته والتذكير به بين آونة وأخرى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعنى بذلك مع أصحابه رضوان الله عليهم. 2- أن يكون المربي قدوة في ذلك، ويلمس تلامذته منه اعتناءه بهذا الجانب، فهو حين يعتذر عن حضوره لبعض المناسبات أو البرامج معتذراً بوالديه ورعايته لهما؛ حين يفعل ذلك يترك أثراً أعظم من أثر الكلمات والتوجيهات التي يلقيها عليهم ويعتني بها. 3- تقدير أعذار من يعتذر من الطلاب بوالديه أو صلة أقاربه، بل تشجيعه على ذلك، ويكفي في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع من المشاركة في الجهاد - حين يكون تطوعاً - دون إذن الوالدين( 17)؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: "فهل من والديك أحدٌ حي؟ " قال: نعم بل كلاهما، قال: "فتبتغي الأجر من الله؟ " قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" ( 18). 4- تشجيع الطلاب على حضور المناسبات واللقاءات العائلية والاجتماعية، ومراعاتهم في ذلك. 5 - تنمية القدرة على بناء علاقات اجتماعية ناجحة: ( 19) النجاح في بناء العلاقات الاجتماعية أمر لا غنى للداعية عنه، وهو مفتاح تأثيره على الأقربين الذين هم أولى بدعوته من سائر الناس، كما أنه لا غنى له عنه ليعيش حياته الاجتماعية، ومن ثم تبدو أهمية الاعتناء بتنمية هذه القدرة لدى الشباب. ومن وسائل تحقيق ذلك: 1- إبراز أهمية الجانب الاجتماعي والحاجة له. 2- تنمية الجانب الخلقي الذي يجعل الشاب مقبولاً من الآخرين، وقد سبق الحديث بالتفصيل عن الجانب الخلقي والسلوكي. 3- تحقيق قدر من الاندماج الاجتماعي والتخفيف من العزلة التي يعيشها كثير من الشباب الصالحين تجاه المجتمع(20 ). 4- تنمية مهارات التعامل مع الآخرين والتعويد على احترامهم. 5 - تنمية الشعور بالمسؤولية الاجتماعية: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى، وصوَّره تصويراً دقيقاً في قوله: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينةً؛ فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذَّوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولابد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونَجَّوْا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم" ( 21). إن"الفرد مرتبط ارتباطاً شديداً بمجتمعه، ومن الصعوبة التعايش بدون المجتمع أو بمعزل عنه، فالمجتمع مصدر أنسه وأمنه وسعادته، وعلى الفرد واجبات ومسؤوليات نحو مجتمعه" ( 22)كما أن له حقوقاً ينبغي على المجتمع أن يعنى بتقديمها له. ومن الأمور التي تعين على تحقيق الشعور بالمسؤولية الاجتماعية: 1- الاعتناء بإبراز النصوص والأحكام الشرعية المتعلقة بالجوانب الاجتماعية( 23)،(/43)
وهي كثيرة، ومنها على سبيل المثال: عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" (24 ). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"( 25). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"( 26). وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه"( 27). وهذه نماذج فقط، وإلا فالنصوص كثيرة في هذا المجال، وإنما استطردت هنا لتأكيد أهمية هذه الجوانب؛ فمن المربين من يهملها، ويرى أن عزل الشاب عن بيئته وإشغاله ببعض الأنشطة التربوية أو العلمية وانهماكه فيها أولى. 2- الاعتناء بتأصيل المنهج الشرعي في الخلطة والعزلة، وأن مخالطة الناس ومعايشتهم والصبر على أذاهم خير من اعتزالهم، عن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -قال: أظنه ابن عمر- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" ( 28). 3- الاعتناء ببيان الجوانب الإيجابية والمشرقة في المجتمع، والسعي للحفاظ عليها وتدعيمها، والأمر لا يعني التفاخر والوطنية الضيقة، بقدر ما يعني تعزيز المكتسبات والاعتناء بها( 29). 4- تنمية الشعور بالمسؤولية الدعوية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإسهام في حماية المجتمع من عوامل الفساد، وهذا الأمر مما يعين الشاب المسلم على العيش في المجتمعات المعاصرة اليوم، التي تعاني ألواناً من الانحراف، ويبتعد به عن الغلو والشطط والموقف السلبي من المجتمع. 5- الاعتدال في نقد الأوضاع الاجتماعية، وتوجيه ذلك فيما يحفِّز على السعي للإصلاح والتغيير؛ إذ الإفراط في النقد المجرد يورث السلبية، ويدعو الفرد للهروب من المجتمع. 6- إشراك الشاب في الأنشطة الاجتماعية، كالجمعيات الخيرية التي تعنى بالمحتاجين، والإسهام في تقديم الخدمات العامة للناس، ولعل ما نراه اليوم في موسم الحج من جهود يبذلها طائفة من الخيرين تبرعاً وإحساناً في توزيع الصدقات والمواد الغذائية على الحجاج يمثل الخلق والمنهج الشرعي. 7 - التمكين لقيم المجتمع وعاداته الإيجابية:( 30) مما يميِّز المجتمعات الإسلامية عن سائر المجتمعات الأخرى أنها تملك رصيداً متميزاً من القيم، فهي مهما بلغت في التغير والانحراف،ومهما انفتحت على المجتمعات الأخرى لا تزال تدين بالإسلام، ولا يزال كثير من أنساقها الاجتماعية يلتزم بأصل القيم الإسلامية، بغض النظر عن درجة الالتزام، وقربه وبعده عن المفاهيم الشرعية النقية. وبقدر ما تحمل الدعوة الإسلامية على عاتقها مسؤولية تغيير القيم المنحرفة في المجتمع؛ فجزء كبير من مسؤوليتها يتمثل في الحفاظ على رصيد المجتمع من القيم الإيجابية. وهذه القيم مهددة بالزوال والتلاشي ما لم يتم الحفاظ عليها وتأصيلها، ومن وسائل تأصيلها تربية الناشئة عليها. ومن هذه القيم ما تتميز به مناطق الأرياف والقبائل من محافظة وستر واعتناء بالعرض، وتماسك اجتماعي، وكرم ونخوة...الخ ومما ينبغي على المربى أن يعتني به لتحقيق هذا الهدف: 1- تعزيز هذه القيم في نفوس الشباب وتثبيتها. 2- التأصيل الشرعي لها، وخاصة ما له ارتباط بالعادات الاجتماعية والقبلية كالكرم والنخوة والغيرة؛ إذ قد يكون الدافع للالتزام به ليس دافعاً شرعياً إنما مجاراة العادة والعرف. 3- تنقية هذه القيم من الممارسات الخاطئة وتعميمها،كالأنفة والنفرة التي تصد صاحبها عن الخضوع للحق والتسليم له. 8 - تنمية روح التعاون والعمل الجماعي: إن مما يعاني منه المسلمون اليوم غلبة الفردية على كثير من مشروعاتهم وأعمالهم، وغياب روح العمل الجماعي والمؤسسي، لذا كان لا غنى للتربية عن السعي لبناء روح العمل الجماعي لدى الناشئة، ولذلك ثمرات عدة، منها: 1- أنه يحقق صفة التعاون والجماعية التي حثَّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ{ (المائدة:2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة" ( 31). 2- عدم الاصطباغ بصبغة الأفراد، ذلك أن العمل الفردي تظهر فيه بصمات صاحبه واضحة، فضعفه في جانب من(/44)
الجوانب، أو غلوه في آخر، أو إهماله في ثالث لابد أن ينعكس على العمل. 3- الاستقرار النسبي للعمل، أما العمل الفردي فيتغير بتغير اقتناعات الأفراد، ويتغير بذهاب قائد ومجيء آخر، يتغير ضعفاً وقوة، أو مضموناً واتجاهاً. 4- العمل الجماعي والمؤسسي أكثر وسطية من العمل الفردي؛ إذ هو يجمع بين كافة الطاقات والقدرات، التي تتفاوت في اتجاهاتها وآرائها الفكرية مما يسهم في اتجاه الرأي نحو التوسط غالباً، أما العمل الفردي فهو نتاج رأي فرد وتوجه فرد، وحين يتوسط في أمر يتطرف في آخر. 5- الاستفادة من كافة الطاقات والقدرات البشرية المتاحة، فهي في العمل الفردي مجرد أدوات للتنفيذ، تنتظر الإشارة والرأي المحدد من فلان، أما في العمل المؤسسي فهي طاقات تعمل وتبتكر وتسهم في صنع القرار. 6- العمل الجماعي والمؤسسي هو العمل الذي يتناسب مع تحديات الواقع اليوم؛ فالأعداء الذين يواجهون الدين يواجهونه من خلال عمل مؤسسي منظم، تدعمه مراكز أبحاث وجهات اتخاذ قرار متقدمة، فهل يمكن أن يواجه هذا الكيد بجهود فردية؟ ومن الوسائل المعينة على بناء الروح الجماعية: 1- تنظيم الأعمال الجماعية، كإعداد بحث أو تقديم ورقة عمل من طالبين فأكثر، أو القيام بمهام دعوية بصورة مشتركة. وهذه الوسيلة لها أهميتها؛ إذ هي تغرس لديهم هذه المعاني وتعلمهم إياها بالممارسة. 2- التعويد على لغة الحوار وإدارة النقاش، فالعمل الجماعي لابد فيه من اختلاف الآراء ووجهات النظر، وهذا يحتاج إلى قدرة في التعامل مع الرأي المخالف، وتقريب وجهات النظر، وهي مهارة لا يمكن أن تكتسب بدون تدريب وممارسة، ويعني ذلك أن يراعى هذا الجانب في البرامج الثقافية المقدمة للطلاب، بحيث تشتمل على ما يثير الحوار والنقاش ليعتادوا عليه. 3- إحياء مفهوم الاستشارة والاستنارة بآراء الآخرين، فذلك يعوِّد الشاب على التنازل عن رأيه، والتخلي عن التعصب له. 4- الاعتدال عند نقد الآخرين من الدعاة، أو عند نقد المشروعات والأفكار الدعوية، فشعور الشاب بخطأ أعمال الآخرين أو جهودهم، أو اختلافه معهم مما يعوقه عن مشاركتهم والعمل معهم بروح جماعية( 32). 9 - التربية على الاهتمام بأحوال المسلمين: الاهتمام بأحوال المسلمين أمر له أهميته، وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالإيمان، وأخبر أنه من صفات المؤمنين فقال: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى" ( 33). وفي رواية "المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله" ( 34). وقنت صلى الله عليه وسلم لبعض المستضعفين من أصحابه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: "اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف" ( 35). وحين أصيب طائفة من أصحابه صلى الله عليه وسلم حزن عليهم وقنت يدعو على أعدائهم فعن أنس-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من بني سليم، قال: بعث أربعين أو سبعين -يشك فيه- من القراء إلى أناس من المشركين فعرض لهم هؤلاء فقتلوهم، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فما رأيته وجد على أحد ما وجد عليهم( 36). وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً يهتم بما يصيبهم من البأس والشدة والفقر، كما سيأتي عند الحديث عن الوسائل. ويمكن أن يتم ذلك من خلال أمور عدة منها: 1 - الاهتمام بأخبار المسلمين، وعرضها أمام الناشئة، وتعريفهم بأحوالهم، وما يحصل لهم من ضراء وسراء، ولاشك أن لذلك أثره الكبير في معرفتهم بهم ابتداءً، وفي التفاعل مع قضاياهم، وينبغي أن يتبع المربي ذلك بيان الواجب والمهمة التي يمكن أن يؤديها المخاطب. وهاهو صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه بما علمه وجهلوه من أخبار إخوانهم، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" ( 37). ولعل ما تقوم به المنظمات الإسلامية اليوم من لقاءات وندوات للتعريف بهموم المسلمين وقضاياهم مما يسهم في تربية الجيل على الاهتمام بأحوال إخوانهم المسلمين. 2 - التبرع لهم ودعوة الناس لذلك حين تصيبهم فاقة أو حاجة، ولنا أسوة في النبي صلى الله عليه وسلم، فعن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر -بل كلهم من مضر- فتمَّعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من(/45)
الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: "}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { إلى آخر الآية }إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيَبًَا{ والآية التي في الحشر }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ{ تصدق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره" حتى قال: "ولو بشق تمرة" قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" ( 38). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت؛ فكلوا وادخروا وتصدقوا" ( 39). 3 - الدعاء والقنوت لهم، ودعوة الناس لذلك، وفي قنوته صلى الله عليه وسلم للمستضعفين، وعلى من قتلوا القراء دليل على ذلك. 4 - الدعوة لنصرهم والوقوف معهم كما قال تعالى:} وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْر{ (الأنفال: 72). 5 - إنشاء صندوق في المدرسة أو المنزل، أو التجمعات العائلية، يدفع فيه المشارك مساهمة شهرية ولو محدودة، تنفق في مصالح المسلمين العامة( 40) وإعطاء تقرير سنوي عن منجزات الصندوق مما يزيد هممَ المشاركين فيه ويعليها. 10 - غرس الشعور بشرف الانتماء للأمة الإسلامية: من نعمة الله تبارك وتعالى على المسلمين أن جعلهم أمة واحدة، وامتن عليهم عز وجل بأن نقلهم من حال الفرقة والصراع إلى حال الاجتماع والائتلاف، فقال } وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا{ً (آل عمران: 103). وهذه الأخوة لا تقف عند حدود هذه الأمة وحدهاـ فبعد أن ساق الله أخبار الأنبياء عقَّبَ على ذلك بقوله: }ِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً { (الأنبياء:92) فهي أخوة تجتاز حاجز الزمن لتربط جميع المؤمنين بالله برباط واحد. ومن الوسائل التي تعين على تحقيق هذا الهدف: 1- تجلية مفهوم الولاء والبراء، وأن المسلمين إخوة وأمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وأن قضية الولاء والبراء ترتبط بالعقيدة، وليست مجرد أدب من آداب السلوك. 2- دراسة التاريخ الإسلامي والاعتناء به، ودراسة سير الأنبياء والسابقين من المؤمنين؛ فذلك يقوي الشعور بوحدة الانتماء للأمة بمفهومها الواسع الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان. 3- التخلي عن النعرات الوطنية والقومية الضيقة، فهذا من أعظم ما يضعف الأخوة الإيمانية، ولهذا حكى تبارك وتعالى عن المنافقين قولهم: }يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ{(الأحزاب:13) "فنادوهم باسم الوطن المنبئ عن التسمية فيه، إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ليس لهما في قلوبهم قدر" ( 41). * * * الحاشية ( 1) أصول التربية الإسلامية. أمين أبو لاوي. (63). ( 2) رواه الترمذي (1990) وأحمد (8276). ( 3) رواه البخاري (5190). ( 4) إحياء علوم الدين 3/73. ( 5) رواه مسلم (2312). ( 6) انظر في موضوع الترويح: الترويح التربوي. لخالد العودة. ( 7) المراهقون ص (62). ( 8) سبيل الدعوة الإسلامية. محمد أمين المصري ص56. ( 9) انظر في ذلك: المراهقون ص (112-116). ( 10) انظر في ذلك: المراهقون والمنهج النبوي في دعوة الشباب. ( 11)رواه البخاري (1471). ( 12)رواه البخاري (1480) ومسلم (1042). ( 13) رواه الترمذي (2325) وأحمد (17750). ( 14) رواه البخاري (2262). ( 15) فرق بين هذا الأمر وبين ما يسلكه بعض من يصفهم الناس بالتعقيد، وهذا الصنف يبدو في بعض المديرين الذين يصرون على مستوى من المثالية، ويضخمون الشكليات، فكتابة خطاب عادي ربما تطلبت منهم التعديل مرات عدة، وهذا السلوك يجب أن يحذره المربي، فهو إن تقبله المتربون خرَّج جيلاً يعنى بالشكليات، وإن لم يتقبلوه صار اتجاههم نحو المربي سلبياً. ( 16) رواه مسلم (832). ( 17) من الأساليب الخاطئة ما يمارسه بعض المربين مع طلابهم - نتيجة الحرص على مشاركتهم في بعض البرامج - دعوته لإهمال شأن والديه، وعدم قبول اعتذاره المتعلق برعايتهما أو استئذانهما، وكأن هذا(/46)
البرنامج تتوقف عليه نصرة الدين ورفعة رايته، والقاعد عنه من المخلفين المتثاقلين للأرض. ( 18) رواه البخاري (3004) ومسلم (2549). ( 19) الأسس النفسية والاجتماعية لرعاية الشباب. عمر التومي الشيباني. ( 20) مع مراعاة الحذر من الاندماج في المجتمعات المنحرفة والسيئة. ( 21) رواه البخاري (2686). ( 22) دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. عبد الرحمن الغامدي. ص 367. ( 23) انظر: التربية الروحية والاجتماعية في الإسلام. أكرم العمري. ( 24) رواه البخاري (2989) ومسلم (1009). ( 25) رواه البخاري (1240) ومسلم (2161). ( 26) رواه البخاري (2320) ومسلم (1553). ( 27) رواه ابن ماجه (237). ( 28) رواه أحمد (22588). ( 29) بعض المجتمعات المحافظة يسود فيها لون من الثناء المبالغ فيه، وتحقير الآخرين، وكأنهم وحدهم المؤهلون لفهم الدين والتحدث باسمه. ( 30) الأسس النفسية والاجتماعية لرعاية الشباب. عمر التومي الشيباني. ( 31) رواه الترمذي (2166). ( 32) أتمنى أن نصل إلى مستوى أن ننتقد الأفكار والمواقف بحرية، ثم نفصل بينها وبين الأشخاص. ولا تزال كثير من موضوعات الخلاف بين الإسلاميين مما يقبل الرأي والرأي الآخر، وأتمنى أن يسعى المربون إلى تخليص الجيل الجديد من الروح المتشنجة في التعامل مع المخالفين لهم في الرأي. ( 33) رواه البخاري (6011) ومسلم (2586). ( 34) رواه مسلم (2586). ( 35) رواه البخاري (4598) ومسلم (675). ( 36) رواه البخاري (3170) ومسلم (677). ( 37) رواه البخاري (3757). ( 38) رواه مسلم (1017). ( 39) رواه مسلم (1971) وأصله في البخاري. ( 40) انظر: مهمات المناهج الدراسية في بناء المجتمع المسلم. محمود شوق. ص 35. ( 41) تفسير السعدي ص 608.(/47)
الفصل الثامن: الجانب النفسي يرتبط الجانب النفسي بسائر جوانب الإنسان ارتباطاً واضحاً، ويترك أثره عليها.فالانفعالات الإيجابية مثلاً " تنشط عمل القلب والتنفس، وعمل الجهاز الهضمي وجهاز المناعة. والإنسان الآمل الفرح أكثر قدرة على المبادرة والابتكار وسرعة البديهة عند القيام بالعمليات العقلية أو العلمية، ويسهل عليه التفكير والتغلب على الصعوبات التي تعترض طريقه…أما الانفعالات السلبية كالخوف والغيرة والحزن والحسد والغم والخيبة، فتؤثر بصورة سلبية على جسم ونفس الإنسان، فعمل أجهزة الجسم وأنسجته تتأثر بالانفعال السلبي وتؤثر سلبياً على صحة الإنسان؛ فتؤدي الكآبة والحزن والغم إلى إضعاف نشاط القلب وتسارع النبض في حال ضعف امتلاء الأوعية بالدم، وإلى التنفس السطحي البطيء، وإلى اضطراب هضم الطعام وجهاز المناعة والغدد. أما عن الحالة النفسية، ففي حال الكآبة والحزن يغدو الإنسان بعيداً عن الدقة غير مطابق للواقع، مما يوقع الإنسان تحت تأثير مختلف أنواع الخداع والأوهام، وتنخفض الحساسية انخفاضاً شديداً، ويغدو التفكير ضعيفاً وذاتياً، وقد يبدو أن إرادة الإنسان تصبح أقوى في حالة الغضب أو الخوف الشديد غير أن الواقع ليس كذلك، فالقرارات المتخذة في حال الانفعال تكون غالباً متسرعة وبدون تفكير" ( 1). ويكفي في أهمية الصحة النفسية وبيان أثرها على الإنسان كثرة استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن والهم، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال" (2 ). ولقد كان من نتاج الحضارة المعاصرة أن زادت مشكلات الناس النفسية وصعوباتهم، ونكتفي بهذا الشاهد من كلام أحد المختصين، حيث يقول. "إن مقدار انتشار حالات الاضطرابات النفسية والاهتمام بها في العالم يمكن أن يظهر أمامنا في مثال نأخذه من الولايات المتحدة، يذكر مؤلف كتاب: "أنماط السلوك الشاذ" أن حوالي 50% من المرضى الذين تستقبلهم المستشفيات يعانون من أحد الاضطرابات النفسية ذات الدلالة، أو أنهم بكلمة أخرى يعانون من أمراض عاطفية حادة، كان هذا هو الحال قبل ربع قرن من الزمن"( 3). فكيف به الآن؟ وهذا مما يؤكد على أهمية الاعتناء بالجانب النفسي في تربية الشباب. الهدف العام : تحقيق الاستقرار النفسي والصحة النفسية. وهذا يعني أن يكون الشاب متمتعاً بالصحة النفسية، سالماً من المشكلات والأمراض النفسية. ومن الجوانب التي تؤكد على أهمية الاعتناء بالصحة النفسية للشاب ما يأتي: 1- أنها تزيد من قدرة الشاب على فهم نفسه وإمكاناته، فلا يتعداها، وعلى تحديد طموحاته وآماله في ضوء إمكاناته، وعلى تقبل التغيرات التي تطرأ. 2- أنها تساعد على بناء اتجاهات نفسية سليمة نحو نفسه ونحو الناس والحياة، وتبعد شبح اليأس والقنوط. 3- أنها تزيد من قدرته على عقد صلات ناجحة وعلاقات طيبة. 4- أنها تزيد من قدرته على الثبات والجلد حيال الأزمات والشدائد والمشكلات ( 4). 5- تزداد أهمية هذا الجانب في حق من يتصدون للدعوة والتغيير في المجتمعات، فما لم يكونوا يملكون قدراً من الاستقرار والصحة النفسية فلن يكونوا مؤهلين للتعامل مع الناس بشكل صحيح، فضلاً عن قيادتهم وتوجيههم. ولا يعني الحديث عن أهمية الاعتناء بالجانب النفسي تحويل المحاضن التربوية إلى دور رعاية نفسية، أو أن يعيش المربي في هاجس وأوهام في مراعاته لأحوال من يربيهم، بل أن يولي هذا الجانب الاهتمام اللائق به دون إفراط أو تفريط. ومن الأمور التي تعين على تحقيق الاستقرار النفسي والصحة النفسية، وتُجنب الشاب المشكلات النفسية ما يلي: 1- تعريف الشاب بنفسه والهدف الذي وجد من أجله، وطبيعة المرحلة التي يمرُّ بها، وما وهبه الله من قدرات جسمية وعقلية ونفسية، والأسباب المعينة على تسخيرها فيما فيه سعادة الدنيا (الاستقرار النفسي) والفلاح في الآخرة. 2- تعليق الشباب بالدار الآخرة، وأنها المتاع الحقيقي، والحياة الباقية، وحين تعلو قيمة الدار الآخرة في النفوس تولد التطلع إلى معالي الأمور والاستهانة بالمصائب والمحن التي تواجه الإنسان، ويشعر أنه سينساها حين يضع أول قدمه في الجنة -جعلنا الله من أهلها- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط"( 5). عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة،(/48)
ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له"( 6). 3- إعطاء الدنيا منزلتها اللائقة بها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بذلك؛ فيُحذِّر أصحابه من الدنيا، ويبين لهم هوانها على الله؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية والناس كنفته فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به قال: "أتحبون أنه لكم؟ " قالوا:والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت، فقال: "فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" (7 ). إن ترك المربي الإسهاب في الحديث عن مُتع الدنيا وزخرفها، وتعليقه العاجل حين يأتي ذكر شيء من ذلك، والاعتناء بدراسة حقيقة الدنيا ووصفها في القرآن والسنة، إن ذلك كله يسهم في تهوين شأن الدنيا لدى الناشئة، والذي تهون لديه الدنيا لا يقلق على ما يريده من متاعها، ولا يحزن على ما يفوته منها. 4- تلمس المربي لحاجات من يربيهم ومشكلاتهم، والسعي لمعاونتهم في حلها، ويكفيهم في أحيان كثيرة شعورهم بأن هناك من يشاركهم همومهم ويشاطرهم أحزانهم، مع الحذر من الإفراط في مراعاة ذلك لدى الشاب؛ لأنه يزيد من شعوره بالمشكلة. 5- تنظيم برامج الترفيه والترويح للشباب والناشئة، مع مراعاة الاعتدال في ذلك، وقد سبق الحديث عن الترويح بالتفصيل في الجانب الاجتماعي. وسائل عامة في البناء النفسي: 1 - العدل في التعامل: العدل خلق شرعي عظيم، وعليه قامت السموات والأرض، وهو سمة للمسلم الصادق في حياته كلها، ويتأكد الأمر عند تعامل الوالد مع أولاده، أو المعلم مع تلامذته، وجاءت السنة النبوية مؤكدة وجوب العدل بين الأولاد، عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنهما- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله،قال:"أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟" قال: لا، قال:"فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فردَّ عطيته(8 ). وما ذلك إلا لأن الإخلال به ينشأ عنه مفاسد عدة من إيغار الصدور وإثارة البغضاء، بل هو مؤد إلى تكريس الأحقاد، وقد يصل الحال لدى بعضهم كما فعل إخوة يوسف حين قالوا } لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ{ (يوسف:8). وحين ينشأ الشاب في بيئة لا تلتزم بالعدل فسوف يترك ذلك أثره عليه، سواء أكان مُفضَّلاً على غيره، أم فُضِّل غيره عليه. وينشأ الإخلال بالعدل في المحاضن التربوية في حالات كثيرة؛ فيبدو من المربي اهتمام زائد ببعض الشباب لأنه يتوقع منهم أكثر من غيرهم. ومما ينبغي أن يراعيه المربي هنا: أن الاعتبارات التي يراها مسوغة لتفضيل بعض أولاده أو تلامذته على بعض قد لا تكون مقنعة لديهم، ومن ثم فلا بد أن يربط تمييز أحدهم -إن كان في تمييزه مصلحة ظاهرة - بأمور موضوعية مدركة للجميع. 2 - الاهتمام ومراعاة المشاعر: الاهتمام بالآخرين يترك أثره البارز في نفوسهم، وهو دليل على حسن خلق صاحبه وتواضعه، لذا فلا غرو أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك النصيب الأوفى، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به، عسى أن لا يكون أحدُهم رآه قط.( 9) ومن اهتمامه صلى الله عليه وسلم البالغ بأصحابه مراعاة مشاعرهم، ومن ذلك: أن الصعب بن جثامة الليثي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فردَّه عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم" ( 10). وذكر الشواهد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يضيق عنه هذا المقام، فسيرته مليئة بالشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم. ومن صور اهتمام المربي ومجالاته: سؤال الشاب عن أخباره وتفقد أحواله، والمحافظة على الموعد الذي يعطى له؛ أو الوقت الذي يصرف من أجله، والاستماع والإنصات له، وإجابة تساؤلاته بعناية. وكما أن الإهمال يترك أثره السلبي على الشاب، فالإفراط في الاهتمام به يترك أثراً من نوع آخر، فلابد من الاعتدال في ذلك. 3 - الاعتدال في رعاية الشاب: الاعتدال سنة الله تبارك وتعالى في خلقه؛ فالخلق قائم على أساس الاعتدال والتوازن، كما أنه سنة له في شرعه، فالشرع جاء بالاعتدال وهو وسط بين نقيصتين. ومن ثم فالتربية التي تخرج عن حد الاعتدال تخالف طبيعة الكائن البشري وما جبله الله عليه، وتخالف المنهج الشرعي القائم على الاعتدال والوسطية. وللخروج عن الاعتدال في(/49)
التربية صور عدة تترك أثرها السلبي في البناء النفسي، منها: الصورة الأولى: الإجحاف على النفس والمشقة عليها، وإهمال بعض الحاجات والجوانب النفسية، وهو موقف يتعرض له الشاب المقبل على الله كثيراً؛ فالشاب يتميز بالحماسة والاندفاع، فهو حين يدرك فضائل الأعمال الصالحة، أو يتوب بعد صبوة قد يشق على نفسه، ويبالغ في العبادة، ويهمل رعاية سائر مطالب النفس، ومن ثم فعلى المربي أولاً أن يعتدل في حديثه مع الشاب ودفعه للعمل الصالح حتى لا يؤدي به ذلك إلى الخروج عن الاعتدال. وعليه ثانياً: أن يوجه الشاب حين يرى منه مبالغة وخروجاً عن المنهج الشرعي في ذلك. وهو منهج اعتنى به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يوجِّه أصحابه إلى الاعتدال وينهاهم عن المشقة على النفس؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحداً منكم عملُه" قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" ( 11). وحين رأى من أحد الشباب جنوحاً إلى التشديد والغلو، دعاه وأخبره بما ينبغي عليه فعله، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه، فقال: "يا عثمان، أرغبت عن سنتي؟ " قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب. قال: "فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان؛ فإن لأهلك عليك حقّاً، وإن لضيفك عليك حقّاً، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصلِّ ونم" ( 12). ومثله قصته صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وهي مشهورة. ولقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعنون بأداء هذا الواجب تجاه إخوانهم؛ عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، قال: فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدق سلمان" (13 ). الصورة الثانية: القسوة في العقوبة: إن العقوبة أسلوب تربوي، وهو أمر لا بد منه للمتربي، وقد دعا الشرع إلى العقوبة حين يتطلب الأمر ذلك، ومن ذلك أمره تبارك وتعالى بعقوبة المرأة التي يخاف منها النشوز } وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً{ (النساء:34). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأولاد على الصلاة حين يبلغون عشر سنين. وحتى تؤتي العقوبة أثرها المراد منها دون نتائج عكسية لا بد فيها من الاعتدال، فلا تكون قاسية مبالغاً فيها بل بقدر ما يحقق المصلحة ويردع المعاقب، ولا تكون مشعرة بالغضب والكراهية وحب الانتقام، كما ينبغي ألا يكثر المربي من اللوم والتأنيب ويذكر صاحبه بذلك، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" ( 14). فمع أن هذه الأَمَة قد وقعت في ذنب عظيم وخطيئة كبيرة، إلا أن إقامة الحد كانت كافية في زجرها فلا ينبغي المبالغة والتثريب عليها. وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي في سنته العملية؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب قال: "اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: "لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان" ( 15). والإفراط في العقوبة والقسوة فيها يولد آثاراً نفسية غير محمودة، وينشئ لدى الأولاد الرغبة في الانتقام والكراهية والحقد على الآخرين، أو يولد لديهم الخضوع والذل والاستكانة( 16). الصورة الثالثة: التدليل: وهي صورة مقابلة لتلك الصورة السابقة، إذ تزداد فيها العواطف لدى المربي تجاه من يربيه، فيبالغ في مراعاة مشاعره، وإظهار العطف والشفقة عليه، وهو أمر يحصل كثيراً لدى الأمهات، ويكثر مع الولد الوحيد أو الأخير أو الذكر بين الإناث، أو ولد الزوجة الأخيرة. كما يقع ذلك من بعض المعلمين الذين لا يجيدون ضبط عواطفهم؛ فحين يعجبون بأحد الطلاب يظهر منهم اهتمام غير طبيعي تجاهه، وإفراط في(/50)
مراعاة مشاعره والتجاوب مع طلباته. ومع أن هذا اللون من الخطأ يتفق العامة والخاصة على ذمه، بل يعيِّرون الأبناء به، إلا أنه كثيراً ما يقع، فأول من يتضرر منه الشخص الذي يلقى هذه العناية الزائدة، فينشأ ضعيفاً فاقداً للثقة في نفسه، وينتظر من الآخرين أن يعاملوه بالمعاملة نفسها، وإلا اتهمهم بالقسوة والفظاظة، أو عدم معرفة قدره، وعدم محبتهم له. 4 - تدعيم الدور الاجتماعي للمدرسة: رغم أن التربويين يتفقون على أن دور المدرسة ينبغي أن لا يقف عند مجرد التلقين والعطاء المعرفي، فإن مدارسنا لا تزال تقف عند هذا الجانب، فالوقت الذي يقضيه الطالب في المدرسة وقت أكاديمي بحت، والوقت الاجتماعي يكاد يتلاشى، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك عدم ارتياح أطفالنا للذهاب إلى المدرسة، ونفرتهم منها. والمدرسة مؤسسة تربوية يفترض أن يوجد فيها من النضج والتكامل ما يؤهلها لعلاج جوانب القصور التي تحدث في التربية المنزلية وتلافيها. إن مدارسنا اليوم بحاجة إلى أن تعتني بتعزيز الدور الاجتماعي، وأن تكون ميداناً للوفاء بحاجات الطالب الاجتماعية والنفسية. وبحاجة إلى أن يشعر المعلمون أن مهمتهم لا تقف عند مجرد تدريس الكتاب المقرر للطالب، بل تتجاوز ذلك إلى مزيد من الرعاية والاهتمام التربوي، والشعور بأن المعلم ينبغي أن يكون بمثابة الوالد الحنون للطالب. 5 - تحقيق الاستقرار الأسري: الأسرة محضن مهم يجد فيه الأولاد الرعاية والعطف والحنان، ويشعرون فيها بالأمن والطمأنينة، ولذا نجد ارتباطاً واضحاً بين فقدان الاستقرار الأسري والجنوح والانحراف. وينشأ فقدان الاستقرار الأسري من حالات الطلاق، فيتشتت الأولاد بين بقائهم مع أمهم التي قد تكون بلا زوج فيعيشون حالة من التسيب والانفلات، وقد تكون مع زوج آخر فلا يجدون منه حنان الأب واهتمامه. أو يبقون مع والدهم فيفقدون حنان الأمومة وعاطفتها. وقد ينشأ ذلك من تزوج الأب زوجة أخرى وقلة بقائه مع أولاده وعدم اهتمامه بهم. وقد ينشأ من كثرة الخلاف والشجار والصراع بين الوالدين، وكثيراً ما يكون ذلك أمام الأولاد مما يقلل من شعورهم بالأمن والطمأنينة، ويعطيهم صورة سيئة عن الحياة الأسرية التي ستواجههم في المستقبل. إن هذا يحتم على الوالدين أن يفكروا كثيراً قبل الاسترسال مع خلافاتهم، وأن يدركوا أثر وضعهم الأسري على أولادهم الذين هم أغلى ما يملكون. وهو يضيف عبئاً على المربي يتمثل في تعرف حالة أسر الطلاب، والسعي قدر الإمكان لمساعدة من يحتاج منهم، وإيجاد البديل العاطفي والاجتماعي المناسب لهم، والسعي للإصلاح حين يكون المجال مناسباً. 6 - تفعيل دور الأسرة: تعاني بيوت كثير من المسلمين اليوم من قلة الوقت الذي تقضيه الأسرة مع أولادها، وقد نتج ذلك من خلال عوامل عدة، منها: 1- كثرة غياب الأب عن المنزل، وقلة الوقت الذي يقضيه مع أولاده، وهذا منع لهم من إشباع حاجات فطرية مهمة. 2- انشغال الأم عن رعاية أولادها وترك ذلك للخادمة التي لن يجدوا عندها من الرعاية والاهتمام ما يجدونه عند الأم؛ فيترك ذلك أثره على بنائهم النفسي والاجتماعي( 17). 3- طول الوقت الذي تقضيه الأسرة مع وسائل الإعلام -وبخاصة التلفزيون- مما يذهب فائدة كثير من اللقاءات والاجتماعات الأسرية، التي أصبح يسودها الصمت والإنصات لما يبثه التلفزيون، وهذا"ما دفع بعض الكتاب والمفكرين لأن يطلقوا على جهاز التلفزيون صفة (المجمع المفرق) لأنه جمع الناس أجساماً وأبداناً، ولكنه فرَّقهم أفكاراً ووجداناً ومشاعر" ( 18). 4- حياة الرخاء المادي التي اتسمت بها طائفة من بيوت المسلمين، فأصبح للشاب والفتاة غرفة مستقلة، وأصبح كثير منهم يذهب للمدرسة ويأتي مع السائق، بدلاً من الذهاب مع والده. هذه العوامل وغيرها أدت إلى تقليص الوقت الذي تقضيه الأسرة مع أولادها، مما يقلل من تلقيه لقيم الأسرة التربوية. وأدت أيضاً إلى فقدان الجو الاجتماعي الأسري، وفقدان الرعاية والاهتمام من الوالدين، مما يترك أثره البالغ على الجانب الاجتماعي والنفسي لدى الأولاد. لذا كان لابد من إعادة الاعتبار لدور الأسرة، ولابد للأبوين من مراجعة كثير من أنماط حياتهم الأسرية وتعديلها وفق ما يتيح للأولاد ميداناً يلقون فيه الرعاية والاهتمام، وتسهم الأسرة فيه في غرس القيم التربوية لديهم. 7 - تفريغ الطاقة: يحمل الإنسان طاقة هائلة في نفسه، وهذه الطاقة "طاقة حيوية محايدة تصلح للخير وتصلح للشر، تصلح للبناء وتصلح للهدم، كما يمكن أن تنفق بدداً بلا غاية ولا اتجاه، والإسلام يوجهها الوجهة الصحيحة في سبيل الخير، والمهم كذلك أنه لا يختزنها أكثر مما ينبغي، فالاختزان الطويل بلا غاية عملية مضرة بكيان الإنسان، وكثير جداً من ألوان المرض النفسي التي يتحدث عنها علم النفس التحليلي والأطباء النفسانيون مردها إلى طاقة مختزنة بلا مبرر لم تجد منصرفها الطبيعي، ولم تجد منصرفها الصحيح" ( 19). وحين نعود إلى تاريخ الأمة(/51)
نرى أن طاقة الشباب كانت تفرغ في ميادين تسهم في تربيتهم والارتقاء بهم، وهي في الوقت نفسه ميادين منتجة للأمة. ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، فكان الشباب يسابقون إلى ميادين الجهاد، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل غزوة يستعرض الجيش ليرد من لم يتأهل لذلك. وحين استقرت الدولة الإسلامية رأينا الشباب يتوجهون إلى حلق العلم ويسابقون إليها، ولذا فأنت لا تكاد تفقد في أي كتاب من كتب أدب الطلب الحديث عن السن التي يبدأ فيها السماع والحضور لمجالس العلم؛ إذ كان تسابق الصغار إليها ظاهرة بارزة في تلك المجتمعات. وكان ذلك من أبرز العوامل التي جعلت الشباب آنذاك لا يعانون من المشكلات التي يعاني منها جيل اليوم. ومن ثم لابد من أنشطة وبرامج منتجة تتناسب مع طاقة الشباب الهائلة لتسهم في توجيهها واستثمارها، وفي حمايتهم في الوقت نفسه من الانجراف والتأثر. 8 - ملء الفراغ: لقد عني الإسلام بملء الفراغ، فما من أمر نهى عنه أو حرمه إلا وأوجد البديل، فبدلاً من مجالس الخمر واللهو شرع الاجتماع على الذكر وتعلم كتاب الله، وبدلاً من أعياد الجاهلية شرعت أعياد الإسلام، وبدلاً من سماع الغناء شرع سماع القرآن( 20). ومن ذلك ملء الوقت بما ينفع ويفيد، فالشاب حين يعاني من الفراغ في وقته يصيبه الملل والسآمة، ويبحث عما ينفس به، وقد يكون البديل بوابة ومدخلاً للسوء، وكثير من الصداقات مع جلساء السوء انطلقت نتيجة المعاناة من وقت الفراغ، ومن ثم فالأنشطة التي تملأ وقت الفراغ -ولو كانت قليلة الفائدة- لمن لا يحسن الاستفادة من وقته يعتبر أمراً له أهميته ووجاهته. ومن ملء الفراغ ملء الاهتمامات، فكثيراً ما يكون الشاب يعيش اهتمامات غير جادة، ويتعلق باللهو العابث، وربما المحرم، فالأولى في تربية هؤلاء أن يعنى - بدلاً من نهيهم وصرفهم عن ذلك - بغرس الاهتمامات والقضايا الجادة لديهم، فينصرفون تلقائياً عن التعلق باللهو والعبث الفارغ. 9 - غرس الثقة بالنفس: تعتبر الثقة بالنفس جانباً له أهميته في دفع الشاب للعمل والإنتاج، كما أنها ضرورية لتجاوزه كثيراً من المشكلات التي تواجهه، ويتأكد الاعتناء بها في هذا العصر حيث إن مجتمعات المسلمين ومؤسساتهم التربوية تربي على فقد الثقة بالنفس، ومن ثم كان الاعتناء بها من أهم الضرورات التربوية. ومن الوسائل التي تعين على ذلك: 1- تضييق الفجوة بين طموحات الشاب وتطلعاته، وبين قدراته الفعلية، التي ربما أسهم بعض المربين في توسيعها؛ ذلك أن الرغبة الملحة لدى المربي في إعلاء همة من يربيه ورفع طموحه، وكثرة إيراده للنماذج المتميزة في أبواب الخير والبر، تدعو الشاب للتطلع إلى أعلى مما يطيق، وحين لا تتحقق له طموحاته يصيبه الشعور بالفشل والإحباط، وليس ذلك دعوة إلى إهمال الاعتناء بالنماذج والقدوات بل هو أمر ضروري كما سبق في أكثر من موطن، لكن الأمر يحتاج إلى حكمة في كيفية التعامل معها، وكيفية ربط الشاب بها حتى لا تقوده إلى الإحباط والفشل( 21). 2- حين يكلف الشاب بأداء عمل ما، ينبغي عدم الإسراف في مطالبته بإتقان العمل( 22)، خاصة في الأعمال التي لم يألفها ويعتد عليها بعد، بل ينبغي إقناعه أن معيار النجاح يتدرج وليس مستوى واحداً ينبغي أن يصله مرة واحدة. 3- تجنب نعته بصفات سلبية(23 )، وهذا أسلوب يمارسه كثير من الآباء، بل بعض المعلمين للأسف، فقد "يلجأ كثير من الآباء إلى انتقاد أبنائهم والسخرية والاستهزاء بهم ولمزهم ونبزهم بالألقاب، بسبب فشلهم في المواقف الاجتماعية، وتعثرهم في المناسبات، أو بسبب تخوفهم وترددهم وانسحابهم، وهذا الأسلوب لا يعالج المشكلة، بل يزيدها تعقيداً واستفحالاً؛ إذ إنه اتجاه سلبي في المعالجة، لا يعطي البديل ولا المجال ولا المعالم الضرورية لتغيير الحالة والموقف" (24 )، ومثله ما يلجأ إليه بعض المعلمين من وصف الطالب بالإهمال والكسل، أو الغباء والبلادة. 4- الحكمة في التعامل مع التجارب الفاشلة؛ فالشاب لابد أن يتعرض في البداية لتجارب يفشل فيها في تحقيق بعض أهدافه، فلا بد للمربي حينئذ من التعامل مع هذه التجارب بحكمة تمكنه من تزويده بالخبرة، بطريقة لا تؤدي لإيجاد الإحباط لديه. 5- عدم المبالغة في التدليل( 25)، وسبقت الإشارة إلى ذلك. 6- الثناء المعتدل على التجارب الناجحة؛ فهو يشعره بالقبول من الناس وثقتهم فيه، كما يوقفه على جوانب النجاح لديه؛ إذ إن كثيراً من الناس لا يدرك جوانب النجاح في نفسه، حتى يسمعه إياها الآخرون. 7- تكليفه ببعض المهام والمسؤوليات التي تتناسب مع قدرته، والتدرج في ذلك، وهذا منهج نبوي كان يرعاه النبي صلى الله عليه وسلم مع الشباب من أصحابه، وقد سبق بيان طائفة من ذلك. 8- عدم تدخل الآباء في كل صغيرة وكبيرة كما يصنع بعض الآباء؛ فـ"الأولاد الذين ينشؤون في هذا الجو يكبرون متصفين بالتردد وضعف الشخصية، وعدم القدرة على القطع برأي في موقف ما" ( 26). 10 - تحسين مفهوم(/52)
الذات: سبقت الإشارة إلى مفهوم الذات عند الحديث عن خصائص المرحلة، وأنه عبارة عن الفكرة التي يحملها الفرد عن نفسه، وأنها تنشأ من ردود أفعال الآخرين تجاه الشخص، قد تكون سلبية وقد تكون إيجابية. ورغم أن مفهوم الذات في حالات كثيرة يخالف الواقع إلا أن الشاب غالباً ما يسلك وفقه(27 ). ومن الأمثلة التي تواجه الميادين التربوية كثيراً حين يُنظر إلى أحد الشباب على أنه هازل ولا يصلح للأعمال الجادة، أو أنه لا يصلح للمجالات العلمية أو الدعوية...إلخ. فإن هذا يستقر لديه، ويعتقد في نفسه أنه فعلاً لا يصلح لهذه الميادين. وقد تكون العوامل التي أسهمت في تشكيل مفهوم الذات عوامل أسرية ومنزلية، وقد تكون مدرسية، وقد تكون نتيجة البيئة التربوية التي يعيشها، وكثيراً ما تكون مختلطة ومزيجة بين أكثر من مصدر. وحين يكون مفهوم الذات لدى الشاب سلبياً -وهذا يحصل في حالات كثيرة- فعلى المربي الاجتهاد في رفع هذا المفهوم، من خلال السعي إلى تغيير فكرة الشاب عن نفسه، وتوظيف ما يعرفه المربي من تاريخ الشاب وحياته في تغيير هذا المفهوم. أهداف فرعية في البناء النفسي: 1 - إشباع الحاجات النفسية تمثل الحاجات النفسية مطلباً ملحاً للإنسان، وبخاصة في مرحلة الشباب التي هي ميدان حديثنا. وتبدو أهمية تناول الحاجات النفسية من خلال جوانب عدة، منها: 1- أنها تعين المربي على معرفة الشاب وما يتطلع إليه ويسعى له، ومعرفة المربي بمن يربيه أمر له أهميته، ولا أدل على ذلك من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وتنوع وصاياه لهم كل حسب احتياجاته. 2- أن الحاجات تدفع صاحبها لأن يسعى لتحقيقها، ويسلك وسائل عدة لذلك، ولا يمتنع منها إلا ببديل يرى أنه أولى منها، وحين يمنع منها يترك ذلك أثره عليه. 3- يمكن استثمار كثير من الحاجات في توجيه الشاب لأنشطة مفيدة تسهم في إصلاحه وتوجيهه، كالحاجة إلى الصداقة، والاطلاع، وفهم النفس…ونحو ذلك. لذا صار من المهم أن يتعرف المربي على الحاجات النفسية للشاب في هذه المرحلة، وسوف يسهل عليه بعد ذلك بدرجة كبيرة مراعاتها والسعي لمساعدة الشاب على تحقيقها. ويختلف علماء النفس اختلافاً واسعاً في تصنيف الحاجات النفسية للشباب وترتيبها، ومن أفضل ما قدم في ذلك الدراسة التي أجراها عمر المفدى بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج، وشملت عينة الدراسة (1907) موزعة بين الطلاب والطالبات، في المرحلتين المتوسطة والثانوية في عواصم دول الخليج. لذا فإنها تعد مصدراً مهماً للمربين في هذه المنطقة لتعرف الحاجات النفسية للشاب. وخلصت الدراسة إلى تصنيف الحاجات النفسية وفقاً لما يلي: أولا:ً حاجات نفسية مهمة جدَّا للطلاب والطالبات في جميع المراحل: وتتمثل في (رضا الوالدين/ الطمأنينة الروحية/ الصداقة/الإنجاز/ الرغبة في مساعدة الغير/ الرغبة في مساعدة الآخرين/ الأمن وراحة البال/ فهم النفس-عند الطالبات فقط-) ثانياً: حاجات نفسية مهمة للطلاب والطالبات في جميع المراحل: وتتمثل في:(الرعاية من الغير/ فهم الناس/ التغيير والتنويع/ الترفيه عن النفس/ المعرفة والاطلاع/ تنمية المواهب/ الاستقلال الذاتي"عدا طلاب المرحلة المتوسطة فقد كانت متوسطة الأهمية لديهم"/ فهم النفس "عند الطلاب فقط") ثالثاً: حاجات نفسية متوسطة الأهمية لجميع الطلاب والطالبات في جميع المراحل: وتمثلت في حاجة واحدة وهي: الحصول على إعجاب الآخرين( 28). فالحاجة إلى رضا الوالدين تجعل الوالد يحرص على إشعار ابنه بالرضا عنه والثقة فيه، وقديماً قيل: رحم الله والداً أعان ولده على بره. أما الحاجة للترفيه، والتغيير والتنويع، والصداقة، وتنمية المواهب، والمعرفة والاطلاع….فهي حاجات يمكن للمربي أن يحققها من خلال البرامج العديدة التي يقدمها للشاب، فتحوي جوانب من الترفيه، وتبتعد عن الرتابة، وتشمل على فرص تبدو فيها القدرات والمواهب، وتمكِّن الشاب من تنميتها. كما ينبغي للأسرة أن تعنى بتحقيق ذلك من خلال البرامج الاجتماعية والرحلات الترويحية، وإتاحة الفرصة ليتهيأ في المنزل ما يعين الشاب على رعاية مواهبه. أما ما يتعلق بفهم النفس فينبغي للمربي أن يُعرِّف الشاب بما يحتاج إليه من طبيعة المرحلة التي يعيشها، ويجيبه على تساؤلاته الملحة حولها، حتى لا يلجأ إلى البحث عن ذلك عند أصدقائه وزملائه الذين قد لا تكون معلوماتهم صحيحة، أو موجهة الوجهة السليمة، وعلى الوالدين والمعلمين الاعتناء بمصارحة الشباب وتعريفهم بطبيعة المرحلة التي يمرون بها. أما ما يتعلق بالحاجة إلى الرغبة في مساعدة الغير ونحوها فينبغي للمربي أن يسعى لتوفير الفرص المناسبة التي تتيح للشاب تحقيق هذه الحاجة، بل توجيهها الوجهة السليمة، من خلال المشاركة في البرامج الاجتماعية، ومساعدة المحتاجين والمعوزين. وتتيح الجمعيات الخيرية، والمبرات الاجتماعية ميداناً مناسباً لذلك، كما ينبغي تعويد الشاب على مساعدة زملائه، وتعرف حاجاتهم،(/53)
والسعي للتعاون معهم في حلِّها، من خلال ما يطيقه هو، أو يكون فيه وسيطاً بينهم وبين أهل الخير والإحسان. ومما ينبغي للمربي مراعاته في التعامل مع الحاجات النفسية: 1- الاعتدال في التعامل معها والنظرة إليها، حتى لا تؤدي إلى حساسية أو دلال مفرط. 2- أن تأخذ مكانها الطبيعي، وأن يعود على إشباعها بصورة منضبطة ومعتدلة؛ فلا تسيطر عليه وتحكمه ويسعى لإشباعها على حساب الجد في وقته، فنحن نريد شباباً جادين، يعدون لحمل راية الإسلام والذبِّ عنه، لا فئة من الباحثين عن المتعة، الذين تقف اهتماماتهم عند الحياة الدنيا. 3- أن تضبط بضوابط الشرع، فلا يؤتى منها ما يخالفه. 2 - توجيه الانفعالات وضبطها: عرف علماء النفس الانفعالات بتعريفات عدة منها أنه: تغير مفاجئ يشمل الفرد كله نفساً وجسماً(29 ). ويختلف عن العاطفة بأن العاطفة: استعداد نفسي ينشأ عن تركيز مجموعة من الانفعالات حول موضوع معين، مما يكوِّن لدى الشخص اتجاهاً وجدانياً تجاه هذا الموضوع( 30). ومن أبرز الانفعالات التي تبدو في مرحلة المراهقة: الخوف، والقلق، والغضب. ويتميز المراهق بحدة انفعالاته وشدتها، وسرعة استجابته لها، إلا أن هذه الحدة تخف تدريجياً مع تقدم السن وتزايد الخبرة. ولا بد أن تبقى هذه الانفعالات لدى الشاب في هذه المرحلة، ويتمثل دور التربية تجاهها فيما يأتي: 1- فهم منشأ هذه الانفعالات والظروف المحيطة بها أو المغذية لها، سواء في البيت أو في المدرسة أو المجتمع. فالشاب الذي يعيش في أسرة غير مستقرة، أو يعامل من قبل والديه بقسوة وعنف، أو دلال مفرط، يؤثر ذلك على انفعالاته. 2- توجيه هذه الانفعالات التوجيه الحسن، وتعويده على أن يكون الخوف من الله أكثر من الخوف من المخلوقين، وغرس الشجاعة والثقة بالنفس لديه مما يعينه على التغلب على الخوف مما يواجهه، وتقوية التعلق بالدار الآخرة وإعطاء الدنيا منزلتها اللائقة بها حتى يخف القلق لديه تجاه المستقبل الدنيوي. ومثل ذلك الغضب بأن يعوِّد على أن يكون غضبه إذا انتهكت حرمات الله عز وجل، وألا يغضب للأهواء والحظوظ الشخصية. 3- الضبط والاعتدال، فزيادة الخوف والقلق قد تؤدي به إلى وسواس، أو اضطراب نفسي كالاكتئاب مثلاً، وكذا الغضب قد يقوده إلى تصرفات يندم عليها ويجني عاقبتها. وحتى الخوف الشرعي يجب أن يضبط ويعوده المربي على التوازن حتى لا يتحول إلى يأس وقنوط، وهذا يعني الاعتدال في تناول أمور الوعيد، والجمع بين الخوف والرجاء والترغيب والترهيب باعتدال، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل ذلك الغضب لله والغيرة على حرماته، فينبغي للمربي أن يغرس لديه الرفق في الإنكار، والأسلوب الحسن، والصبر وطول النفس، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في مواقف كثيرة. ومما ينبغي الاعتناء به تعويده على سلوك المنهج الشرعي في التعامل مع الغضب، وتعويده على الحلم وكظم الغيظ( 31). 3 - توجيه العواطف وضبطها: "إن العاطفة مهمة للإنسان في حياته؛ لأنها تدفع الإنسان إلى فعل الأشياء التي يتعاطف معها، وتدفعه إلى ترك الأشياء التي يكرهها بدافع داخلي، بشرط أن تكون العاطفة وراء العقل، وأن يكون العقل قائدها، وإلا ستكون تصرفات الإنسان غير معقولة تسيره العاطفة لا العقل، والعاطفة بدون العقل قد تسوق الإنسان إلى المهالك، وتجعل حياته في شقاء" ( 32). و"تربية العواطف والسمو بها ذو أهمية كبيرة في حياة المسلم بصفة عامة، والمراهق المسلم بصفة خاصة، ذلك أن العواطف تعمل على تنظيم انفعالات المراهق تنظيماً يؤدي إلى اتزان شخصيته وتكاملها، كما أن تربيتها تحقق للفرد المسلم مستوى أعلى من الصحة النفسية، كما يحقق له مستوى أعلى من التوافق والتكيف الاجتماعي، فالعواطف في جملتها تعمل على توجيه سلوك المراهق وتنظيمه نحو ما يحقق له القدر الأكبر من إشباع دوافعه الفطرية والمكتسبة بصورة يرضى عنها المجتمع المسلم" (33 ). ويحسن في بداية حديثنا عن توجيه العواطف أن نعرِّف ببعض الجوانب المتعلقة بالعواطف. أنواع العواطف: تقسم العواطف بحسب موضوعها الذي تدور حوله إلى ثلاثة أقسام: 1- عواطف تدور حول موضوعات مادية، مثل عاطفة حب الأم لابنها والأب لأولاده، والقارئ لكتاب معين. 2- عواطف تدور حول موضوعات جمعية كعاطفة المرء نحو عائلته أو حيه أو مدرسته التي تعلم فيها، أو زملائه في الجمعية أو الفصل الدراسي. 3- عواطف تدور حول موضوعات مجردة كعاطفة الميل إلى المثل العليا كالأمانة والصدق والإيثار(34 ). العاطفة السائدة: العاطفة السائدة - كما يعرِّفها علماء النفس- هي تلك العاطفة التي تكون لدى شخص ما فتسيطر على ما لديه من عواطف أخرى، وتكون مُوجِّهة لسلوكه، فقد تكون العاطفة السائدة لدى شخص ما نحو جمع المال، أو السلطة والشهرة… فتكون بقية العواطف تابعة لهذه العاطفة(35 ). ومن أهم ما يعين على تحقيق التربية العاطفية السليمة، ما يلي: 1 - غرس محبة الله ورسوله صلى(/54)
الله عليه وسلم في نفس الشاب حتى تكون هذه المحبة فوق كل شيء، حينها تكون هي السائدة والسائقة، وما بعدها تبع لها، فلا يحبُّ إلا ما يحبه الله، ولا يرضى إلا بما يرضي الله، ولا يأتي مما تريد نفسه إلا ما يُرضي الله. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" (36 ). وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ( 37). وتحقيق هذا الهدف يختصر على المربي خطوات كثيرة، ويريحه من مشكلات عدة، فحين تكون محبة الله ورسوله هي السائدة فسوف تُسيِّر بقية عواطف الإنسان. 2 - ملء الفراغ العاطفي، فالنفس لابد أن تتجه بعواطفها هنا أو هناك، ومن ثم فهي ما لم تشغل بالخير ستشغل صاحبها بغيره، ولقد راعى المنهج التربوي الشرعي هذا الجانب، فوجَّه النفس لمحبة الصالحين وذوي القربى وأهل الإحسان، وبغض أهل السوء والفساد، ورحمة من يستحق الرحمة، والإغلاظ على من يستحقه. واعتناء المربي بتحقيق هذه الجوانب لدى من يربيه يوجِّه العاطفة الوجهة السليمة، ولا يبقي فيها مكاناً للتوجه بالعواطف إلى ما يسخط الله عز وجل. 3 - إشباع الحاجة العاطفية، فالإنسان يحتاج إلى أن يجد المشاعر العاطفية الإيجابية تجاهه، ومن ثم فأولئك الذي حُرِموا حنان الوالدين، وعاشوا في أجواء تفتقد لهذا الإشباع، هؤلاء يعانون من مشكلات كثيرة في حياتهم النفسية. لذا على الأب أن يعتني بهذا الجانب، وأن يشعر أولاده بالعطف والحنان، وأن لهم في قلبه منزلة عالية، وله أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يَرحم لا يُرحم" ( 38). ولو ذهبنا نستقصي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب لضاق بنا المقام. وينبغي للمعلم كذلك أن يشعر تلامذته بالشفقة والرعاية والحنو باعتدال، دون إفراط أو تفريط. 4 - تنقية النفس من العواطف المنحرفة، وهي تكثر في هذه المرحلة؛ فقد يميل الشاب إلى حبِّ فتاة أجنبية عنه، أو عشق زميل له، ويؤدي به ذلك إلى مخالفات شرعية، وقد كثرت الشكوى من ذلك. ولا سبيل لحل هذه المشكلة إلا بتحقيق ما سبقت الإشارة إليه من محبة الله ورسوله، ومحبة الصالحين المحبة الشرعية كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم "لا يحبه إلا لله". وقد أفضنا في الحديث عن هذا الأمر في الجانب السلوكي، فليرجع إليه. 4 - الوقاية من الانحرافات والاضطرابات النفسية: كما أن المربي يحتاج إلى أن يعنى بتحقيق الصحة النفسية والاستقرار النفسي لدى الشاب، فهو كذلك بحاجة إلى الوقاية من الاضطرابات والمشكلات النفسية وحسن التعامل معها. وهذا يتطلب من المربي زيادة الوعي بالمشكلات والاضطرابات النفسية والتعرف عليها، والأمر لا يعني كما سبق أن يتحول إلى أخصائي نفسي لكن أن يملك قدراً من الثقافة النفسية التي تتناسب مع مهمته. ومما ينبغي مراعاته في ذلك: 1- تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الطب النفسي، ومنها: 1-1- النظرة السائدة لدى المربين والمتربين التي ترى أن المتدينين لا يصابون بالأمراض والمشكلات النفسية(39 ). 1-2- النظرة الأخرى التي تفسر المشكلات النفسية بنقص الإيمان والتدين، وهو وإن كان عاملاً مهماً إلا أنه ليس بالضرورة العامل الوحيد، ومثل هذا التفسير له أثره على من يصاب بمرض نفسي، فيشك في إيمانه ويبالغ في اتهام نفسه مما يزيد من معاناته. 1-3- النفرة من الطب النفسي والتخوف من التعامل معه. 2- التعريف بأبرز المشكلات والأمراض النفسية المنتشرة التي يمكن أن يواجه بها الشاب، كالاكتئاب، والوسواس القهري....إلخ 3- حسن التعامل مع الشباب والاستماع لهمومهم ومشكلاتهم والسعي لمساعدتهم بالرأي والتوجيه، مما يجعل المربي قريباً منهم يستشيرونه في مشكلاتهم وهمومهم. 4- اجتناب التعامل الخاطئ مع المشكلات النفسية الذي يزيدها تعقيداً، ومن أبرز ذلك التعامل القاسي والتأنيب لمن يصاب بالوسواس، وهي حالة تحدث في مواقف كثيرة، والبعد عن لوم المصاب بهذا المرض وكثرة تحديثه عن تلاعب الشيطان به. 5 - تهذيب الدوافع وإشباعها بالطرق المشروعة: تعرف الدوافع بتعريفات عدة، منها أنها:"حاجة ناقصة تتطلب الإشباع، ويظل الفرد متوتراً حتى تشبع هذه الحاجة بدرجة معينة.."( 40). ويقسم بعض علماء النفس الدوافع إلى ثلاثة أقسام: الأول: الدوافع العضوية، وتشمل حاجات الجسد كالنوم والطعام والشراب. الثاني: الدوافع الدنيوية وتشمل الحاجات المادية والنفسية غير المباشرة كالتملك(/55)
والانتماء والاستطلاع. الثالث: الدوافع الأخروية مثل العبادة والحاجة الإيمانية(41 ). ومما ينبغي مراعاته هنا تلافي الاصطدام بالدوافع العضوية، ومن صور ذلك: 1- عدم حرمانه من النوم حين يحتاج إليه، وترك مطالبته بأداء واجبات وأعمال مادام يعاني من الرغبة في النوم، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النافلة حين يكون المرء مدافعاً للنوم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، حلُّوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد" ( 42). وترك النبي صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة الفاضل مراعاة لهذا الأمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال:مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: "إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة" ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى( 43). 2- ألا يُمنع من الذهاب لقضاء الحاجة حين يكون محتاجاً لذلك، ويخطئ بعض المعلمين حين لا يأذن للطالب في هذه الحالة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذه الحالة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"( 44)(45 ). أما الدوافع الدنيوية فتحتاج إلى التعرف عليها وكيفية إشباعها وتهذيبها بالطرق السليمة، أما الأخروية فيجب أن تتجه العملية التربوية كلها لتحقيقها؛ إذ لا نجاة بدونها. 6 - تحقيق الحب في الله والبغض فيه: الحب عاطفة قلما يخلو منها إنسان، ومن ثم فلابد من أن تصرف في المصرف الشرعي، فهو يلبي هذه الحاجة في النفس، ويحقق فيها هذا الأمر القلبي المهم، ويصرفها عن أن تصرف في ميدان قد يجلب عليها الوبال في الدنيا والآخرة. والحب في الله تبارك وتعالى ليس أدباً من الآداب فحسب - كما يتصور بعض الناس- بل هو أمر مرتبط بالإيمان، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم شرطاً في إدراك حلاوة الإيمان ولذته، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" ( 46). وهو مع ذلك يحقق آثاراً ونتائج مهمة منها: أنه يربط الشاب بالصالحين، فحين يشعر أنه يتعبد بحبهم لله عز وجل تقوى صلته معهم وتزداد، ويحرص على معاشرتهم ولقائهم، وتحميه في المقابل من معاشرة أهل السوء والفساد. ومنها أنها تمثل ميداناً تصرف فيه الطاقة العاطفية، حتى لا تتحول إلى العشق والغرام، والتعلق بالجنس الآخر. ومنها أنها تترك أثرها في سلوك الشخص؛ فمحبته للصالحين تدعوه للاقتداء والتأسي بهم. ومن الوسائل المعينة على تحقيق الحب في الله والبغض في الله: 1- التعريف بفضائل الأخوة في الله والحب فيه، وما أعدَّه الله للمتحابين فيه في الدنيا والآخرة(47 ). 2- ربط الشاب بالقدوات الصالحة من سلف الأمة وتعريفه بهم، والاعتناء بدراسة سيرهم. 3- ربط الشاب بالقدوات المعاصرة، والصحبة الصالحة وتعريفه بهم، وترتيب البرامج والأنشطة المشتركة معهم، وسبق الحديث عن هذا الجانب وأهميته. كما ينبغي الاعتناء بتأصيل معنى الحب في الله، وأن المقصود المحبة التي من أجل الله عز وجل، والحذر من التعلق بالأشخاص لاعتبارات عاطفية، فهو يقود إلى نتائج سيئة. 7 - تقوية الإرادة: تمثل الإرادة عاملاً مهماً في شخصية الإنسان، بل هي ترتبط بالهداية والضلال، فالضلال إما أن يكون لشبهة لبست على صاحبها الحق بالباطل، أو شهوة ضعفت إرادته عن مقاومتها. لذا عقد ابن القيم رحمه الله باباً في كتابه إغاثة اللهفان بعنوان: أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركاً للحق، مريداً له، مؤثراً له على غيره. وكثير من حالات الحَوْر بعد الكَوْر لدى الشباب اليوم تنتج من ضعف الإرادة. ومن الأمور التي تعين على تقوية الإرادة: 1 - التعويد؛ فالسلوك لا يمكن أن يتحقق بمجرد قرار يتخذه الفرد في نفسه، ولا يمكن أن نغرسه في نفوس أبنائنا بمجرد توجيه أو أمر نصدره إليهم. فلا بد من تعويد وتدريب للنفس، حتى يصبح هذا السلوك سلوكاً طبيعياً للنفس تؤديه بتلقائية. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن من يتخلق بالخلق الحسن يعينه الله فيتحقق لديه هذا الخلق. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - إن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن(/56)
يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر"(48 ). ومن الأمور المهمة في ذلك التعويد على ضبط العواطف والانفعالات، وعدم الاستجابة المطلقة لها. 2 - تنمية القدرة على الحسم؛ فالتردد يمثل عائقاً مهماً من العوائق التي تحول بين الإنسان والسلوك الذي يريد؛ لذا فالذين يعتادون حسم الأمور واتخاذ القرار يجتازون عقبات يقف دونها غيرهم، ومن ثم فتعويد الشاب على اتخاذ القرار الواضح في حياته، والالتزام بما يتخذه مما يقوي إرادته. 3 - غرس الثقة في النفس؛ فنظرة الإنسان لنفسه تمثل عاملاً مهماً في حفزه على العمل ورفع همته إليه، ومن ثم كان للثقة بالنفس أثرها الفعال في قوة الإرادة، فالواثق بنفسه هو الذي يتطلع للنجاح ويتجه للعمل، خلافاً للمحبط واليائس، وسبق الحديث عن الثقة بالنفس. 4- إشعاره بالإنجاز؛ فالمواقف المتنوعة التي تمرُّ على الفرد في حياته تمثل ميداناً مهماً يقيس من خلاله نفسه ويختبرها، وتلقي بظلالها على حياته ومواقفه بعد ذلك. فالنجاح الذي يحققه يدفعه لمزيد من النجاح، ويرفع مستوى تطلعه وطموحه، ويزيده رصيداً من الثقة بإمكاناته وقدراته. وفي المقابل فالفشل يقوده إلى مواقف أخرى من الفشل، ويشعره بالإحباط وعدم الثقة بالنفس. ومن ثم فإشعاره بجوانب من النجاح في حياته، والتعامل مع الخطأ بِحكْمة مما يعزز ثقته بنفسه ويقوي إرادته. 5- الاعتدال في توجيه الخطأ؛ ذلك أن وقوع المرء في الخطأ، أو إشعاره من قبل الآخرين بذلك قد يولِّد لديه إحباطاً وشعوراً بالفشل واليأس من إصلاحه، فينتج عن ذلك أثر عكسي. ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد ذلك الهدي القويم في التعامل مع الخطأ، فهو يعتني صلى الله عليه وسلم ببيان الخطأ لمن يقع فيه حين يقتضي الموقف البيان، لكنه لا يتحول إلى نظرة ثابتة ترسخ الشعور بالفشل والإحباط لدى الواقع في الخطأ، أو تؤدي به إلى الشعور بأن هذا الخطأ أصبح أمراً ملازماً له لا يفارقه. ومن الشواهد على ذلك قصة أسامة - رضي الله عنه - حيث يرويها بنفسه فيقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم( 49). وبعد هذه الواقعة أمَّره صلى الله عليه وسلم على جيش أكبر من ذلك، ألا وهو الجيش الذي سيغزو الروم. 6- الاعتناء بالعبادات الشرعية فهي تترك أثرها في النفوس، وتمدها بالزاد الذي يعينها على السير في الحياة بالطريقة الصحيحة. * * * تم بحمد الله الحاشية(/57)
(1 ) علم النفس النبوي، قاسم هشام صباح، مؤسسة الرسالة. 144-145. ( 2) رواه البخاري (6369) ومسلم (2706). ( 3) الصحة النفسية: دراسة في سيكولوجية التكيف. نعمي الرفاعي ص23. نقلاً عن الأحمد ص37. ( 4) الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب. عمر التومي 528. ( 5) رواه مسلم (2807). ( 6) رواه الترمذي (2465) وابن ماجه (4105). ( 7) رواه مسلم (2957). (8 ) رواه البخاري (2587) ومسلم (1623). (9 ) رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر. ( 10) رواه البخاري (1825) ومسلم (1193). ( 11) رواه البخاري (6463) ومسلم (2816). ( 12) رواه أبو داود (1369). ( 13) رواه البخاري (6139). ( 14) رواه البخاري (2234) ومسلم (1703). ( 15) رواه البخاري (6777). ( 16) انظر: أصول علم النفس. أحمد عزت راجح ص 607-608. (17 ) انظر: علم النفس الدعوي ص87. وانظر أيضاَ: المؤثرات السلبية في تربية الطفل المسلم وطرق علاجها لعائشة جلال (230-239) وخطر المربيات غير المسلمات على الطفل المسلم لخالد الشنتوت. (18 ) الطفل المسلم بين منافع التلفزيون ومضاره. محمد عبد العليم مرسي. مكتبة العبيكان. 1418هـ. ص137. وانظر أيضاً: ولدك والتلفزيون لعدنان الطرشة. ( 19) منهج التربية الإسلامية (1/251). (20 ) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، وإغاثة اللهفان، ومنهج التربية الإسلامية (1/254). ( 21) انظر مجلة البيان العدد (157) مقال بعنوان: بعض مايروى عن السلف يؤدي إلى الإحباط. (22 ) التربية النفسية للطفل. عكاشة الطالبي. (88). (23 ) التربية النفسية للطفل. عكاشة الطالبي. (41). ( 24) المراهقون للنغيمشي (54). (25 )التربية النفسية للطفل. عكاشة الطالبي. (41). ( 26) أسس الصحة النفسية. عبدالعزيز القوصي. ص 176-177. ( 27) انظر علم نفس المراحل العمرية. عمر المفدى ص 322. ( 28) انظر: الحاجات النفسية للشباب ودور التربية في تلبيتها. عمر المفدى. مكتب التربية العربي لدول الخليج. وللاستزادة: إشباع الحاجات النفسية وعلاقته بالتدين. خالد السعدي. رسالة ماجستير غير منشورة. جامعة الإمام. ( 29) المدخل إلى علم النفس لعبد الله موسى، نقلاً عن: تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس للزعبلاوي.ص 275. ( 30) انظر: علم النفس أصوله وتطبيقاته التربوية. مصطفى فهمي. ص 141. ( 31) انظر في ذلك: إحياء علوم الدين، الفكر التربوي عند ابن القيم، تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس، لا تغضب لزاهر الشهري. ( 32) البيت السعيد في ضوء الإسلام ص 149. (33 ) تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس. محمد السيد الزعبلاوي. ص 307. ( 34) انظر: علم النفس أصوله وتطبيقاته التربوية. مصطفى فهمي. مكتبة الخانجي ص 146. (35 ) المصدر السابق. ص 151. ( 36) رواه البخاري (16) ومسلم (43). ( 37) رواه البخاري (15) ومسلم (44). ( 38) رواه البخاري (5997) ومسلم (2318). (39 ) انظر: مفاهيم خاطئة حول الطب النفسي. محمد الصغير. ( 40) مقدمة في الإدارة. علي عبدالوهاب. نقلاً عن علم النفس الدعوي ص 67. ( 41) علم النفس الدعوي. عبدالعزيز النغيمشي ص72. ( 42) رواه البخاري (1150) ومسلم (784). ( 43) رواه البخاري (571) ومسلم (639). ( 44) رواه مسلم (560). ( 45) انظر: علم النفس الدعوي. ( 46) رواه البخاري (16) ومسلم (43). (47 ) من المراجع المهمة في ذلك: جامع الأصول. كتاب الصحبة/ الحب في الله وحقوق الأخوة لأحمد فريد. (48 ) رواه البخاري (1469) ومسلم (1053). ( 49) رواه البخاري (4269) ومسلم (96).(/58)
المصادر والمراجع 1- إحياء علوم الدين.أبو حامد الغزالي. دار الحديث: القاهرة. 1412هـ 2- إدارة الوقت. نادر أبو شيخه. دار مجدلاوي: عمان. 1991م 3- أسس الصحة النفسية. عبد العزيز القوصي. مكتبة النهضة المصرية: القاهرة. 4- الأسس النفسية والاجتماعية لرعاية الشباب. عمر التومي الشيباني. الدار العربية للكتاب: طرابلس. ليبيا. 1987م 5- الأسماء والصفات في معتقد أهل السنة والجماعة. عمر الأشقر. دار النفائس: عمان. 1413هـ. 6- إشباع الحاجات النفسية وعلاقته بالتدين. خالد السعدي. رسالة ماجستير غير منشورة. جامعة الإمام. 7- أصحاب الأخدود. ياسر برهامي 8- أصول التربية الإسلامية. أمين أبو لاوي. توزيع دار ابن الجوزي. 1419هـ 9- أصول علم النفس. أحمد عزت راجح. بدون ناشر أو تاريخ نشر. 10- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. محمد الأمين الشنقيطي. 1403هـ 11- إعلام الموقعين عن رب العالمين. ابن قيم الجوزية. تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد. 12- إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان. ابن قيم الجوزية. المكتب الإسلامي: بيروت 1409هـ. 13- التربية الروحية والاجتماعية في الإسلام. أكرم العمري. مركز الدراسات والإعلام دار أشبيليا:الرياض.1417هـ 14- الأهداف التربوية السلوكية عند شيخ الإسلام ابن تيمية. مكتبة المنارة: مكة. 1408هـ 15- أهداف التربية الإسلامية وغاياتها. مقداد يالجن. دار الهدى: الرياض. 1409هـ 16- أهداف التربية الإسلامية. علي خليل أبو العينين. مكتبة إبراهيم حلبي:المدينة 1408هـ 17- أهداف التربية الإسلامية. ماجد عرسان الكيلاني. مؤسسة الريان: بيروت. 1419هـ 18- أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة. يوسف القرضاوي. مؤسسة الرسالة: بيروت. 1412هـ. 19- الأهداف السلوكية. مهدي محمود سالم مكتبة العبيكان. 1418هـ. 20- الإيمان. أبو عبيد القاسم بن سلاَّم. المكتب الإسلامي: بيروت. 1403هـ 21- الابتلاء والمحن في الدعوات. محمد أبو فارس. 22- الاحتياجات الفردية وإتقان التعلم. نادية عبد العظيم محمد. دار المريخ: الرياض. 1411هـ 23- الاعتصام. أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي. المكتبة التجارية: مكة المكرمة. 24- الإيمان. أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة. المكتب الإسلامي: بيروت. 1403هـ 25- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. شيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق ناصر بن عبدالكريم العقل. 1404هـ. 26- البحث العلمي مفهومه أدواته وأساليبه. ذوقان عبيدات وآخرون. دار الفكر: عمان. 1992م. 27- بدائع الفوائد. ابن القيم الجوزية، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. بدون تاريخ. 28- بناء البيت السعيد في ضوء الإسلام. مقداد يالجن. دار المريخ. 1408هـ. 29- التخطيط والمتابعة بين النظرية والممارسة. طلال الغرياني. بدون ناشر. 1412هـ. 30- تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم. ابن جماعة. رمادي للنشر. 1415هـ. 31- تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس. محمد السيد الزعبلاوي. مكتبة التوبة. 1414هـ. 32- التربية النفسية للطفل. عكاشة عبد المنان الطالبي. دار الجيل: بيروت. 1419هـ. 33- التربية الوقائية في الإسلام ومدى استفادة المدرسة الثانوية منها. خليل الحدري. جامعة أم القرى: مكة 1418هـ. 34- الترويح التربوي. خالد العودة. دار المسلم: الرياض. 1414هـ. 35- تفسير القرآن العظيم. ابن كثير. ت حسين زهران. دار الكتب العلمية. ط1. 1406هـ. 36- التفكير العلمي لدى طلاب التعليم العام في المملكة العربية السعودية. محمد شحات الخطيب وآخرون. مكتبة العبيكان: الرياض. 1418هـ. 37- التفكير العلمي. فؤاد زكريا. ذات السلاسل: الكويت. 1989م. 38- تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن. عبدالرحمن بن ناصر السعدي. 39- جامع الأصول من أحاديث الرسول. ابن الأثير. ت عبد القادر الأرناؤوط. دار الفكر. ط2. 1403هـ. 40- جامع بيان العلم وفضله. الخطيب البغدادي. دار الكتب العلمية. 41- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. ت محمود الطحان. مكتبة المعارف. 1403هـ. 42- الحاجات النفسية للشباب ودور التربية في تلبيتها. عمر المفدى. مكتب التربية العربي لدول الخليج: الرياض. 1414هـ. 43- الحب في الله وحقوق الأخوة. أحمد فريد. 44- حتى يغيروا ما بأنفسهم. جودت سعيد. مطبعة زيد بن ثابت. 1404هـ. 45- حكم التمثيل في الدعوة إلى الله. عبدالله بن محمد آل هادي. 1410هـ. 46- خطر المربيات غير المسلمات على الطفل المسلم. خالد الشنتوت. بدون ناشر. 1412هـ. 47- دور الأسرة في تربية أولادها في مرحلة البلوغ. عبد الرحمن الغامدي. دار الخريجي للنشر والتوزيع:الرياض. 1418هـ. 48- سبيل الدعوة الإسلامية. محمد أمين المصري. دار الأرقم: الكويت. 1400هـ 49- سلسلة الأحاديث الصحيحة. محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي: عمان. 1404هـ 50- سنن أبي داود. ت كمال الحوت. دار الجنان. ط1. 1409هـ. 51- سنن ابن ماجه. ت محمد فؤاد عبد(/59)
الباقي. دار الفكر. 52- سنن الترمذي. ت أحمد شاكر. دار إحياء التراث العربي. 53- سنن الدارمي. ت مصطفى البغا. دار القلم. ط1. 1412هـ. 54- سنن النسائي. ت عبد الفتاح أبو غدة. مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب. ط.1406هـ. 55- سيكولوجية المراهق المسلم المعاصر. عبد الرحمن العيسوي. دار الوثائق. 1407هـ. 56- شعب الإيمان. أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. دار الكتب العلمية: بيروت. 1410هـ 57- صحيح الجامع الصغير وزيادته. محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي: بيروت. 1406هـ. 58- صحيح سنن أبي داود. محمد ناصر الدين الألباني. مكتب التربية العربي. ط1. 1409هـ. 59- صحيح سنن ابن ماجه. محمد ناصر الدين الألباني. مكتب التربية العربي. ط2. 1408هـ. 60- صحيح سنن الترمذي. محمد ناصر الدين الألباني. مكتب التربية العربي. ط1. 1408هـ. 61- صحيح سنن النسائي. محمد ناصر الدين الألباني. مكتب التربية العربي. ط1. 1409هـ. 62- صحيح مسلم بشرح النووي. مراجعة خليل الميس. مكتبة المعارف. ط1. 1410هـ. 63- الطفل المسلم بين منافع التلفزيون ومضاره.محمد عبد العليم مرسي.مكتبة العبيكان.1418هـ. 64- عدة الصابرين. ابن قيم الجوزية. دار الكتب العلمية: بيروت. 65- علم النفس أصوله وتطبيقاته التربوية. مصطفى فهمي. مكتبة الخانجي: القاهرة. 1396هـ 66- علم النفس الدعوي. عبدالعزيز النغيمشي. دار المسلم:الرياض. 1415هـ 67- علم النفس النبوي. قاسم هشام صباح. مؤسسة الرسالة: بيروت. 1415هـ 68- علم نفس المراحل العمرية. عمر المفدى 69- علم نفس النمو. حامد عبدالسلام زهران. عالم الكتب: القاهرة. 1999م. 70- العلم يدعو إلى الإيمان. 71- غريزة أم تقدير إلهي. شوقي أبي خليل. 72- الغضب. عبدالعزيز بن محمد النغيمشي. دار المسلم: الرياض. 1415هـ. 73- فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام. مؤسسة الرسالة: بيروت. 1416هـ. 74- فتح الباري شرح صحيح البخاري. ابن حجر العسقلاني. دار الكتب العلمية. 1410هـ. 75- فصول في التفكير الموضوعي. عبدالكريم بكار. 76- الفكر التربوي عند ابن القيم. حسين الحجاجي. دار حافظ: جدة. 1408هـ 77- قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية. مصطفى بن كرامة الله مخدوم. دار أشبيليا: الرياض. 1420هـ. 78- قيمة الزمن عند العلماء.عبد الفتاح أبو غدة.مكتبة المطبوعات الإسلامية:حلب.1410هـ. 79- لاتغضب. زاهر الشهري. دار الشريف: الرياض. 1415هـ. 80- لسان العرب. ابن منظور. دار صادر. 81- اللقاء الشهري مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين. عبد الله بن محمد الطيار. دار الوطن: الرياض. 1415هـ. 82- المؤثرات السلبية في تربية الطفل المسلم وطرق علاجها.عائشة جلال.دار المجتمع. 1412هـ. 83- مجلة البيان. المنتدى الإسلامي. لندن. 84- مجلة المشكاة. تصدر عن مركز المشكاة للاستشارات الإعلامية والاجتماعية. الكويت. 85- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. الهيثمي. دار الكتاب العربي. 86- مجموع الفتاوى. شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع عبد الرحمن بن قاسم. 1389هـ. 87- المجموع شرح المهذب. النووي. دار الفكر. 88- محاضرات في سيكيولوجية النمو. جامعة الزقازيق. 89- المحجة في سير الدلجة.الحافظ ابن رجب الحنبلي. دار البشائر الإسلامية: بيروت. 1404هـ. 90- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي. الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي. ت محمد عجاج الخطيب. ط3. 1404هـ. 91- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.ابن قيم الجوزية.دار الحديث: القاهرة. 92- المراهق. نوري الحافظ. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 1990م. 93- المراهقون. عبدالعزيز النغيمشي. مطابع دار طيبة. 1411هـ. 94- مسند الإمام أحمد. الإمام أحمد بن حنبل الشيباني. ترقيم محمد عبدالسلام الشافي. دار الكتب العلمية. ط1. 1413هـ. 95- المصنف. ابن أبي شيبة. 96- معارج القبول. حافظ بن أحمد الحكمي. دار ابن القيم: الدمام. 1410هـ. 97- معالم في الطريق. سيد قطب. دار الشروق. 98- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف. مطبعة بريل بمدينة ليدن. 1967م. 99- معجم المناهي اللفظية. بكر أبو زيد. دار العاصمة: الرياض. 1417هـ. 100- معجم مقاييس اللغة. ابن فارس. دار الفكر. 101- مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي. طارق الحبيب. دار المسلم: الرياض. 1419هـ. 102- مفتاح دار السعادة. ابن قيم الجوزية. 103- مقدمة ابن خلدون. عبدالرحمن بن محمد بن خلدون. دار إحياء التراث العربي:بيروت. 1408هـ. 104- من أجل انطلاقة حضارية شاملة. عبدالكريم بكار. 105- مناقب عمر 106- مناهج الجدل في القرآن الكريم. زاهر عواض الألمعي. 107- المنهاج النبوي في دعوة الشباب. سليمان بن قاسم العيد. دار العاصمة. ط1. 1415هـ. 108- منهج التربية الإسلامية. محمد قطب. دار الشروق. ط8. 1408هـ. 109- منهج السنة النبوية في تربية الإنسان. بدير محمد بدير مكتبة الدعوة الإسلامية بالمنصورة. الطبعة الثانية. 1413هـ 110- منهج كتابة التاريخ(/60)
الإسلامي. محمد صامل السلمي. 111- مهمات المناهج الدراسية في بناء المجتمع المسلم. محمود شوق. 112- الموافقات.أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي.دار الكتب العلمية:بيروت. 1411هـ. 113- النحلة تسبح الله. محمد حسن الحمصي. 114- النمو في مرحلة المراهقة. محمد عماد الدين إسماعيل. دار القلم. 1402هـ. 115- الوعي التربوي. جورج شهلا وآخرون. 116- ولدك والتلفزيون. عدنان الطرشة. دار الكتاب والسنة. 1418هـ. 117- الطريق إلى الصحة النفسية عند ابن قيم الجوزية وعلم النفس. عبدالعزيز الأحمد. دار الفضيلة: الرياض. 1420هـ.
فصول الكتاب
المقدمة
الفصل الأول: الأهداف التربوية
الفصل الثاني: خصائص المرحلة
الفصل الثالث: الجانب الإيماني
الفصل الرابع: الجانب العلمي والعقلي
الفصل السادس: الجانب الخلقي والسلوكي
الفصل السابع: الجانب الاجتماعي
الفصل الثامن: الجانب النفسي
المصادر والمراجع(/61)
ترثي أخاها صخراً
شعر: الخنساء
قذىً بعَينِكِ أم بالعينِ iiعُوّارُ
كأنَّ عيني لذكراهُ إذا iiخطرتْ
تبكي لصخرٍ هي العَبْرى وقد iiوَلَهَتْ
تبكي خُنَاسٌ فما تنفكُّ ما iiعَمَرَتْ
تبكي خُناسٌ على صخرٍ وحُقَّ iiلها
لابدَّ من ميتةٍ في صرفها iiعِبَرٌ
قد كان فيكمْ أبو عمرو iiيسودُكُمُ
صُلبُ النحيزةِ وهّابٌ إذا iiمنعوا
وإنَّ صخراً لوالينا iiوسيّدُنا
وإنَّ صخراً لمقدام إذا ركبوا
وإنَّ صخراً لَتأتمُّ الهُداةُ iiبه
جلْدٌ جميلُ المُحيّا كاملٌ iiوَرِعٌ
حمّالُ ألويةٍ هبّاطُ iiأوديةٍ
نحَّارُ راغيةٍ ملْجاءُ iiطاغيةٍ
لم ترَهُ جارةٌ يمشي iiبساحتها
ومُطعمُ القومِ شحماً عند iiمَسغبِهم
قد كان خالصتي من كلّ ذي iiنسبٍ ... أم ذرفتْ إذ خَلتْ من أهلها iiالدارُ
فيضٌ يسيلُ على الخدينِ iiمِدرارُ
ودونَه من جديدِ التُّربِ أستارُ
لها عليه رَنينٌ وهيَ مِقتارُ
إذ رابها الدهرُ، إنّ الدهرَ iiضرّارُ
والدهرُ في صرفهِ حولٌ iiوأطوارُ
نِعمَ المُعَمَّمُ للدّاعينَ iiنصَّارُ
وفي الحروب جريءُ الصدرِ مِهصارُ
وإنَّ صخراً إذا نَشْتو iiلنحَّارُ
وإنَّ صخراً إذا جاعوا لعقّارُ
كأنّه عَلمٌ في رأسهِ iiنارُ
وللحروبِ غداةَ الرَّوعِ iiمِسْعارُ
شهّادُ أنديةٍ للجيشِ iiجَرّارٌ
فكّاكُ عانيةٍ للعظمِ iiجبّارُ
لريبةٍ حين يُخلي بيته iiالجارُ
وفي الجُدوبِ كريمُ الجَدّ iiميسارُ
فقد أُصيبَ فما للعيش iiأوطارُ(/1)
عدنان علي رضا محمد النحوي
موجز السيرة
الاسم الرباعي :
الدكتور / عدنان بن علي رضا بن محمد النحوي .
الجنسية :
سعودي .
الميلاد :
صفد ـ فلسطين ـ 23/7/1346هـ الموافق 15/1/1928م
المؤهلات العلمية :
دبلوم في التربية والتعليم و أصول التدريس من فلسطين ، وانترميديت فلسطين .
بكالوريوس في هندسة الاتصالات الكهربائية من مصر بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف الثانية .
الماجستير والدكتوراه في نفس التخصص من أمريكا .
درجة الزمالة من معهد المهندسين الكهربائيين ـ انكلترا F.I.E.E .
التدريب على اللغة الفرنسية وأجهزة الإرسال الإذاعي لمدة ستة أشهر في فرنسا .
التدريب في جامعة الملك سعود بالرياض في دراسات عليا في الهندسة الكهربائية .
العمل والخبرات العملية :
مدرس لمدة ثماني سنوات في سوريا والكويت .
مدير الإذاعة في حمص ـ سوريا .
مدير المشاريع الإذاعية في وزارة الإعلام في المملكة العربية السعودية لمدة خمسة عشر عاماً .
المستشار الفني لوكالة الأنباء الإسلامية .
المستشار الفني للحرس الوطني .
المدير العام لمؤسسة البشريات للتجارة والمقاولات .
المدير العام لدار النحوي للنشر والتوزيع .
النشاط العام :
داعية مسلم لقرابة نصف قرن . متفرّغ حالياً للدعوة الإسلامية ، للدراسات والأبحاث وتطبيقها في الواقع . حافظ خلال مسيرته على أمانة رأيه وثبات موقفه واستقامة مسيرته ، مع توافر الحجة والبينة من الكتاب والسنة .
الاتحادات والجمعيات :
عضو درجة الزمالة في معهد المهندسين الكهربائيين في انجلترا .
عضو في مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية في عمان .
عضو مؤسس لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وعضو مجلس الأمناء سابقاً ، ونائب رئيس مكتب البلاد العربية سابقاً .
عضو رابطة الأدب الحديث ـ القاهرة .
عضو الهيئة العربية العليا بفلسطين .
الأقطار التي زارها :
سوريا ، الأردن ، لبنان ، مصر ، الكويت ، قطر ، البحرين ، الإمارات العربية المتحدة ، العراق ، الهند باكستان ، ليبيا ، تونس ،الجزائر ، المغرب ،تركيا ، اليونان ، إيطاليا، ألمانيا ، سويسرا ، بلجيكا،إنجلترا ، السويد ، فرنسا ، كندا ، أمريكا .
المؤتمرات والندوات :
مؤتمرات علميّة في جنيف ، ومؤتمرات فكرية وأدبية إسلامية في أَقطارٍ متعددة من العالم الإسلامي ، وكذلك : فرنسا ، إنكلترا ، السويد ، كندا 0، الهند ، وغيرها . [التفصيلات : راجع المزيد من السيرة الذاتية] .
الدراسات المقدّمة عنه إلى مؤتمرات :
الموقف السياسي في شعر عدنان النحوي. د. موسى إبراهيم أبو دقّة ـ كلية التربية الحكومية ـ غزة مقدّم لمؤتمر قضايا الأدب والتحديات المعاصرة المنعقدة في الجامعة الإسلامية .
البناء اللغوي لنموذج من شعر الغربة الإسلامي . النموذج : ملحمة الغرباء للدكتور: عدنان علي رضا النحوي . بقلم الدكتور / سعد أبو الرضا ، قدم هذا البحث في مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة عين شمس بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية ورابطة الأدب الإسلامي في الفترة ( 24-27/4/1413هـ الموافق 20-23/10/1993م ) .
" الصورة الشعرية الإسلامية " عند الدكتور الشاعر / عدنان علي رضا النحوي . بقلم الأستاذ محمود الدغيم . وتضمن البحث ترجمةً للدكتور الشاعر/ عدنان علي رضا النحوي. وتضمن البحث إلقاء الأضواء على الصورة الإسلامية في شعره. وقدم هذا البحث في " ندوة الأدب الإسلامي " التي أقامتها رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالتعاون مع مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية والتي عقدت يوم الاثنين 22/ ربيع الأول 1415هـ - 29 /آب 1994م وذلك بضيافة مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية.
الدراسات الجامعية المقدمة عنه :
الحداثة في النقد الإسلامي المعاصر :
عدنان النحوي ناقداً / أدونيس نموذجاً. أشليح حفيظة ـ إشراف الأستاذ المقري الإدريسي أبو زيد 1991-1992م. جامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ابن أمسيك ـ شعبة اللغة العربية وآدابها .
ملحمة ربى الأقصى للدكتور عدنان علي رضا النحوي في ضوء نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني :
الباحثة : نعيمة بردوني
إشراف : سعيد الغزاوي 1992- 1993م .
جامعة الحسن الثاني ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ شعبة اللغة العربية وآدابها الدار البيضاء . لنيل الإجازة في الأدب .
قصيدة الغرباء للشاعر عدنان علي رضا النحوي :
الباحثة : ثميمونت السباعي ـ إشراف د. عبدالرحمن حوطش .
جامعة محمد الأول ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ وجدة . لنيل الإجازة في اللغة العربية وآدابها 1996-1997م . بحث لنيل الإجازة الجامعية في اللغة العربية.
الاغتراب والملحمية في شعر عدنان النحوي :
بحث لنيل الماجستير .
إعداد الطالب : عيسى بودوخة
إِشراف : د . حسن كاتب
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ـ قسنطينة ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية والدراسات القرآنية. الجزائر ـ 2001-2002م.(/1)
عدنان علي رضا النحوي ومنهجه في تحقيق قضايا عصره :
إعداد :مريم عبد الوافي ـ إشراف الأستاذة سلمى تليلاني .
1423-1424هـ ـ 2002-2003م .
جامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ المحمدية ـ شعبة الدراسات الإسلامية .بحث لنيل درجة الماجستير .
بحث لنيل درجة الماجستير عن شعر الدكتور عدنان علي رضا النحوي:
للآنسة ليلى الشبيلي. كلية التربية للبنات ـ قسم اللغة العربية منطقة جيزان المملكة العربية السعودية .
العنوان الدائم :
ص . ب : 1891 ـ الرمز البريدي : 11441
الرياض ـ المملكة العربية السعودية
الهاتف المباشر: 4913252ـ فاكس: 4939260
جوال : 054132389
البريد الإلكتروني: info@alnahwi.com
مع الداعية الأديب الشاعر الدكتور
عدنان علي رضا محمد النحوي
الإسم والنسب :
عدنان بن علي رضا بن محمد بن عبد الغني بن محمد بن عبد الغني ، ويمتد النسب بعد ذلك إلى الشيخ العالم شهاب الدين أحمد الخفاجي . وامتداد النسب بعد ذلك وشجرته فقدا بعد الخروج من فلسطين مع ما فقد من تراث العائلة كالمكتبة وغيرها . أما لقب ( النحوي ) فقد أطلقه والي عكا حين مر بها أحد أجداده قادماً من القاهرة ، متخرجاً من الأزهر ، لا يتكلَّم إلا العربية الفصحى ، فسمَّاه النحوي وولاه القضاء في صفد .
المولد والنشأة :
ولد في مدينة صفد في فلسطين في 23/7/1346هـ الموافق 15/1/1928م . ونشأ في بيت دين وعلم ، وفقه وأدب ، وعطاء وجهاد . فوالده هو المجاهد والسياسي علي رضا النحوي ، وأجداده وأعمامه علماء وقضاة ، ومفتون ورجال قانون وإدارة ، وأدباء وشعراء . فنشأ داعيتنا ينهل من هذا الجو الغني منذ طفولته ، وينهل كذلك من مكتبة آل النحوي التي تحدّث عنها ( محمد كرد علي ) في كتابه " خطط الشام " ، والتي زارها عدد من رجالات العرب من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها مثل : أحمد زكي باشا ، محمد كرد علي ، توفيق دياب ، وعدد من رجال الصحافة وآخرون . وكذلك كان ينهل من أجواء الضيوف الوافدين على عائلته من العلماء والأدباء ورجال السياسة ومن مجالسهم الغنيَّة . وفي هذا الجو نشأ نشأة الإيمان والعلم والأدب ، وتزوّد بزاد كريم ، أطلق مع الأيام مواهبه وقدرته ، فنظم الشعر سنة 1942م ، كما يظهر في دواوينه ، وبرز في حياته الدراسية والعلمية ، وجاءت مؤلفاته زاخرة بثمار ذلك الزاد وحصاد مسيرته كلها . يضاف إلى ذلك مدينة " صفد " نفسها وتاريخها العريق ، والعلماء الأفذاذ الذين ظهروا فيها مثل " صلاح الدين الصفدي " ، والجدِّ الأوَّل لآل النحوي في " صفد " : " شهاب الدين أحمد بن موسى بن خفاجا الصفدي " المتوفى فيها سنة 750هـ ، والذي له مسجد في " صفد " يُسمَّى باسمه : " جامع الخفاجي " وغيرهما من العلماء . يضاف إلى ذلك جمال مدينة " صفد " ، والمناظر الطبيعية الخلابَّة التي تحيط بها مثل جبال الجليل وأعلاها جبل الجرمق ، وجبال سوريا ولبنان المجلوة أمام العين ، وبحيرة الحولة وبحيرة طبريا ونهر الأردن والسهول المحيطة بألوانها الرائعة المختلفة المتموجة ، هذه المواقع كلها تحمل جزءاً غير يسير من عظمة تاريخ الإسلام ومعاركه الفاصلة في التاريخ ، ومن مسيرة الأنبياء والمرسلين ، في تاريخ حافل جعل فلسطين كلها ملكاً خالصاً للإسلام . منذ أقدم العصور .
هذه البيئة الغنية ، والمناظر البهيَّة ، وجمالها الساحر ، وهي تسبِّح خاشعة إلى ربها وخالقها ، تدفع الإنسان إلى النظر في آيات الله ، والتأمل في المرابع والآفاق ، فتغرس في النفس حبَّ الجمال الطاهر ، وتهب القلب صفاء الفكر والتصور ، وإذا التأمل والصفاء يبعث في القلب نهجاً جلياً في الحياة ، يقوم على صدق الرأي ووضوحه ، وقوة الفكر والتأمل ، وأمانة الكلمة والفكرة ، وثبات الموقف على الحق ، واستقامة المسيرة والنهج ، على إيمان وتوحيد بفضل من الله وهداية منه .
وقد رافقت هذه النشأة الثورات المتتابعة في فلسطين منذ مرحلة الطفولة الباكرة ، مما كان يلهب المشاعر ويمتزج مع ما كان يزوده به الأهل والبيئة ، ليكوِّن حافزاً إلى الجدّ والعمل ، وإلى التزودّ والإعداد . وساهم منذ طفولته كما ساهم أطفال فلسطين بالتصدّي للإنجليز واليهود ولو بالحجارة . ورافق هذه الثورات والأوضاع المضطربة ضرورة التنقل وعدم الاستقرار . وأورث هذا كله وعياً سياسياً مبكراً ، وفهماً واضحاً للعدوّ وأساليبه ، وإدراكاً لضعف القوة المتوافرة عند المسلمين آنذاك ، مع بقاء الأمل مشرقاً في النفس والبحث المستمر عن طريق النجاة للأمة .
ولعله كان هو وزملاؤه الأطفال أول من حمل الحجارة و " النقيفة " و " بارودة السيخ " وغيرها من أسلحة الأطفال المعروفة آنذاك في تصيد الدبابات والدراجات البريطانية ، ثم تبدأ المطاردات حتى يحتموا في أول بيت يلقونه .
لقد وهبت هذه النشأة داعيتنا زاداً غنياً نديّاً ظل يروي مسيرته كلها في مراحلها المختلفة : إيماناً وعلماً ، ونهجاً وعطاءً .
الدراسة والخبرة :(/2)
أنهى دراسته الابتدائية والثانوية بين صفد وعكا ، ثمّ اختير ليُتِمَّ دراسته في دار المعلمين بالقدس ( الكلية العربية ) ، والتي كان يُختار لها الأوائل من كل مدينة في فلسطين .
وفي دار المعلمين تعدّدت أبواب الدراسة : علوم التربية وأصول التدريس وعلم النفس ، وعلوم الرياضيات وتاريخها والفيزياء والكيمياء ، واللغة العربية وفقه اللغة ، ونحوها وصرفها ، والبلاغة والعروض ، والأدب العربيّ في عصوره المختلفة ابتداء من العصر الجاهلي ، وقليل من اللغة اللاتينية ، والمنطق ، وتاريخ اليونان والرومان بتفصيل واسع وتاريخ أوروبا ، ثم تاريخ إنكلترا بصورة موسعة ومفصلة كثيراً ، واللغة الإنكليزية وتاريخها وآدابها ومذاهبها الأدبية بصورة موسَّعة جداً .
وكان في الكلَّيَّة العربية مكتبة غنية ، فحبِّبت إليه المطالعة ، فعكف على مطالعة أهم الروايات العالمية ، وأهم الكتب الفكرية والأدبية والتاريخية ، يملأ بها وقت فراغه .
وخلال هذه السنوات درس التاريخ الإسلامي بصورة موجزة في المدارس ، التي كان يقرر مناهجها الانتداب البريطاني المحتلّ ، المكلف بإكمال خيوط المؤامرة على فلسطين . ولكن البيت والأهل كانوا يسدّون جزءاً غير قليل من هذا النقص في دراسة الإسلام في المعاهد الرسمية الحكومية .
ومن خلال هذه النشأة ومسيرة الحياة والعوامل المؤثرة كلها حفظ القرآن الكريم ودرس تفسيره وتجويده وعلومه ، ودرس السنّة من الصحاح والسنن والمسانيد ، ومصطلح الحديث . كما درس الفقه من كثير من كتبه في المذاهب المختلفة ، وأصول الفقه ، وتابع دراسة اللغة العربية وآدابها . وظلت الدراسة الجادة جزءاً رئيساً في حياته في مختلف العلوم ، تخضع إلى منهج محدَّد يمضي عليه حياته كلها ، وكذلك أُسرته وكلُّ من رغب في النهج والتزمه . ذلك هو المنهاج الفرديُّ الذي هو جزء من النهج العام الذي يدعو إليه .
ونال البكالوريوس في الهندسة الكهربائية قسم الاتصالات بدرجة جيد جداً مع مرتبة الشرف الثانية من مصر ، ودرجة الماجستير والدكتوراه في نفس الاختصاص العلمي من أمريكا ، ودرجة الزمالة من إنكلترا . كما أخذ دورات تدريبية في هذا التخصص في فرنسا لدى أكبر شركاتها المتخصصة ، ودورة تدريبية في الدراسات العليا في الهندسة الكهربائية في جامعة الملك سعود . ودرس اللغة الفرنسية في دورة عامة في جامعة بيزانسون في فرنسا .
ومع مسيرة الحياة ، كان يتابع دراسة الواقع والأحداث السياسية ، كجزء رئيس من المنهج الثابت الذي يمضي عليه في حياته . وكانت دراسة الواقع والفكر السياسي عنده تتم من خلال أهم الكتب التي تصدر باللغة العربيّة والإنكليزية ، والمجلات المتخصصة في أبحاثها ، بالإضافة إلى وسائل الإعلام المختلفة ، وبالإضافة إلى الصلات التي توفرها له بيئته وأهله ، والنشاط الذي يتبع ذلك .
ونمت هذه الدراسات وأخذت ميادين متعددة حين انطلق في الدعوة الإسلامية في باكورة شبابه ، ونمت معها الخبرة ونما الزاد من العلوم المختلفة . كما زادته مهنة التدريس ، ثم عمل في الحقل الهندسي ومسؤولياته الكبيرة ، ثم العمل في المؤسسات التي أنشأها مرحلياً ، والرحلات والسفر إلى بعض بلدان أوروبا وأمريكا وآسيا ، والندوات والمؤتمرات ، هذه كلها زادته خبرة وعلماً ، ينضم إلى ما سبق اكتسابه في مراحل مختلفة ، ليكوِّن مع الأيام تصوراً واضحاً ، ينمِّي رؤية غنيَّة .
النزوح :
النزوح الأول عن فلسطين بحدود سنة 1937م إلى دمشق ، ليلحق هو ووالدته وإخوته بوالده الذي سبق أن خرج مع أعضاء اللجنة المركزية التي تقود ثورة سنة 1936م ، اللجنة التي كان الإنكليز يطاردون رجالها لإجهاض الثورة . وكانت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي آنذاك . وكان الانتداب الفرنسي يضيق مجال التحرك على أعضاء اللجنة ، ولا يسمح لهم بالإقامة في مدينة واحدة ، مع المراقبة اليومية .
وكانت الحياة صعبة مع هذه الظروف . ولكنها سمحت لداعيتنا بالتعرّف على المجاهدين وعلى رجالات الثورة ، ومتابعة الأخبار . ولما توقفت الثورة عاد إلى صفد ، دون أن يُسْمَح لوالده بالعودة . وكان الإنكليز قد نسفوا بيتهم الكبير في وسط مدينة صفد في موقع يشرف على جبل الجرمق ومواقع جميلة أخرى . وظل فيه جدار واحد قائماً . والحجارة التي انهارت ظلت على الأرض إلى تاريخ النزوح الثاني ، شاهدة على جريمة المعتدين الظالمين . ولكن اليهود أزالوا بعد احتلالهم آثار الجريمة ، وأقاموا مكانها عمائرهم وأقام هو ووالدته وإخوته في بيت العائلة ، بيت الأجداد ، البيت الذي كان يُسمَّى " بيت القضاء " لأن أجداده القضاة كانوا يقيمون فيه . وكان يتمُّ فيه دروس دينيّة للراغبين ، دروس منهجيّة يتخرج منها الطالب ليزاول عملاً شرعياً .
وعندما سُمِح لوالده بالعودة ، انتقلت العائلة إلى مدينة عكا . وهنالك بدأ نشاطه الاجتماعي والسياسي في النوادي الثقافية ، ومع الطلاب والشباب المتعلمين ، بدأ نشاطه ونشاط إخوته كذلك .(/3)
كوّن هو وبعض الطلاب من مختلف مدن فلسطين اتحاداً للطلاب ، ليجمعوا الصفوف لمقاومة الإنكليز واليهود ، وكان من بواكير أعمالهم المظاهرة الكبيرة في القدس ، المظاهرة التي ضمت مختلف كليات القدس . وطافت المظاهرة شوارع القدس ، وانتهت في باحة المسجد الأقصى ، حيث ألقى داعيتنا خطبة في الطلاب والجماهير المحتشدة ، ونجد بعض الصور لهذه المظاهرة في كتابه " على أبواب القدس " .
وعاصر في القدس أحداثاً جساماً قامت بها الثورة آنذاك يقودها المجاهد عبد القادر الحسيني رحمه الله . وبعد التخرج توجه إلى عكا عبر طرق خطرة ، حيث كانت الثورة قد اشتعلت . وتعرّض هو ومنْ معه لحادث نجّاهم الله منه .
ومن عكا كان النزوح الثاني إلى دمشق ليرافق والدته المريضة التي توفيت بعد ذلك بسنة تقريباً يرحمها الله ، وبقى والده وأخواه في عكا ، حتى سقوط مدينة عكا ، فغادروا المدينة في اللحظات الأخيرة ، وأخذت المدن تتساقط واحدة بعد الأخرى ، والأفواج المتلاحقة من أهل فلسطين يلجؤون إلى سوريا ولبنان وغيرهما . ولم يكن يدري النازحون أنه لا عودة لهم بعد هذا النزوح ، وأن الأعداء يسيرون على خطة واضحة لديهم ينفذونها ، وأن المسلمين في الأرض لا خطة لهم . وكان من أخطر ما اكتشفه هو وغيره أن المسلمين في الأرض خارج فلسطين لا يدركون أن فلسطين هي أرضهم شأنها شأن أوطانهم ، وأنها مسؤوليَّتهم ، وأن كل مسلم محاسَب يوم القيامة عن ضياع فلسطين . كان ما يسمى بجيش الإنقاذ من كل البلاد العربية قد دخل فلسطين لينقذ فلسطين ، كما كان يقال آنذاك ، وجُرِّد أهل فلسطين من السلاح ، وسقطت المدن كأنها مدن مفتوحة إلا بقايا مقاومة ضعيفة . ولسقوط كل مدينة قصَّة ومأساة ، وحيرة وتساؤل وذهول .
وزاد احتكاك داعيتنا مع رجالات فلسطين من خلال نشاط والده علي رضا النحوي الذي كان يبذل الجهد مع إخوته لإيقاظ الأمة وتنبيهها إلى حقيقة الخطر الذي يهدّد العالم الإسلامي كله ، الخطر الذي يحمله اليهود الملتفّون كلهم حول الصهيونية والذين تدعمهم السياسة الدولية كلها .
وانتقل بعد ذلك داعيتنا إلى الكويت . وهنالك نما نشاطه السياسي والفكري ، وتحدّد اتجاهه الإسلامي بشكل واضح ناضج ، واستمر منهجه الدراسي . وكان يُلقى محاضرة كل أسبوع عن الإسلام أو العمل الإسلامي ، أو قضاياه ، مثل قضية فلسطين ، وغيرها .
ومن أجل دخول الجامعة في مصر لدراسة الهندسة لم تكن تقبل شهاداته التي مر عليها أكثر من سنتين . فتقدّم لامتحان التوجيهية الكويتية ونال المرتبة الأولى بمعدل غير مسبوق ، مما سهل دخوله الجامعة مع إعفائه من الرسوم بسبب معدّله العالي , وانتقل إلى القاهرة ودخل الجامعة وحافظ على تفوقه فيها . وتابع نشاطه الإسلامي . وفي هذه المرحلة أخذ يدرك بصورة أوضح المخاطر أمام العمل الإسلامي وأمام المسلمين جميعاً . قدّم نهجاً بالنسبة لقضية فلسطين ، ليتولاه صفٌّ واحد للمؤمنين المتقين ، لأنهم هم أول المسؤولين والمحاسبين عن فلسطين ، في الدنيا والآخرة . وهل يعقل أن يكون أحد أكثر مسؤولية من المسلمين المؤمنين المتَّقين ؟ ولكنها كان صيحة غابت وراء الآفاق ، وأجهض النهج والتصور كلُّه ، وقامت أنشطة أخرى ملأت الساحة آنذاك وطغت عليها ، ونالت الدعم كله !
وكانت هذه الفترة مليئة بالنشاط ، وكان الأمل ينمو بأن يهتدي المسلمون إلى الطريق المستقيم الأمثل لمجابهة الأحداث . وكانت الفرصة مواتية للانطلاق بصورة واعية تجمع القلوب والسواعد ، ولكن يبدو أن عوامل التمزيق كانت أقوى .
وانتقل داعيتنا بعد ذلك إلى سوريا . وبدأت حياته الزوجية مع انتقاله إلى حمص ، حيث عمل مهندساً ثم مديراً للإذاعة التي كانت في مرحلة الإنشاء . وتعرّض لمتاعب متنوعة ، كان من أهمها الغارات الجوية التي تنهال على الإذاعة مع كل انقلاب ، والتي نجاه الله منها برحمته ، ومتاعب أخرى متعددة ، وانتقل إلى السعودية حيث عمل في وزارة الإعلام في الرياض مسؤولاً عن محطات الإرسال ، ثم أنشأ أول استوديو في إذاعة الرياض افتتح في أول شهر رمضان المبارك سنة 1384هـ . ثم أصبح مسؤولاً عن المشروع الأول الكبير ، مشروع محطة إرسال الميجاواط ، ثم سائر مشاريع محطات الإرسال الإذاعي الكبيرة التي جعلت إذاعة المملكة من أقوى الإذاعات .
وأصبحت مسؤولية كبيرة لضخامة المشاريع ، ودخل مع الشركات المنفّذة في خلافات حادة في النواحي الفنية والمالية والقانونية ، وكُوِّنت من أجل ذلك لجان تحقيق رسمية ، وكانت نتيجة ذلك أن أعانه الله على حفظ المشاريع من الناحية الفنية وإجبار الشركات على إصلاح العيوب والأخطاء ، وعلى حفظ أموال الدولة ، واستعادة الدولة حقوقها المالية من الشركات . وأصبح موضع تقدير الشركات نفسها واحترامها ، لدقته العلمية وقوّته ، ولنزاهته وعدالته .(/4)
ولقد مرَّ داعيتنا من خلال ذلك بمواقف وتحديات كثيرة وكبيرة ، تحدِّيات علمية وفنية ، وقانونية ومالية ، وغير ذلك ، أمام كبار مهندسي الشركات وخبرائها الفنيين والقانونيين والماليين ، فمنَّ الله عليه بفضله ، فحقَّق نصراً كريما نال به احترام الجميع . لا مجال هنا لذكر جميع هذه المواقف والتحديات على أهميتها وطول امتدادها قرابة خمسة عشر عاماً ، إلا أننا نكتفي بذكر موقفين اثنين :
فبعد الانتهاء من إحدى المفاوضات الطويلة مع إحدى الشركات وخبرائها ، وبعد أن أقرَّت الشركة بكلِّ ما بيَّن لهم داعيتنا ما وقعوا فيه من أخطاء ومخالفات في التنفيذ ، ووافقوا على دفع التعويضات المالية للدولة وإجراء الإصلاحات اللازمة ، وبعد أن أقروا بذلك كلِّه ووقَّعوا عليه ، قام رئيس وفد الشركة المفاوض وصافحه وخاطبه بالإنكليزية ما معناه : " إننا نحترم المبادئ التي حاربتنا بها ، واعتبر شركتنا مفتوحة لك بأي وقت وبأي مركز ترغبه . أنت أهل لكلِّ احترام " .
هذا ما لِقيَه من غير المسلمين الذين كشف لهم أخطاءَهم ورفض إغراءاتهم ، ورأوا منه نهجاً سليماً ، وموقفاً صلباً . والمؤمنون أكثر وفاء ، وعند الله خيرٌ من ذلك كله إن شاء الله .
لقد كان الفضل كله لله إذ أعانه على أن يقدم الإسلام لهؤلاء بالموقف والسلوك ، والانتصار على كلِّ الإغراءات وأبواب الفتنة ، وبالثبات على الحق ، وتحمل النتائج التي كانت أوَّل الأمر إيذاء شديداً وإرهاقاً وظلماً ، ثم انقلبت إلى راحة نفسية ، وإدراك أوسع لهداية الله وفضله .
وموقف آخر : فقد رفعت لجنة فنية كُونت من ثلاثة في نفس اختصاصه الهندسي تقريراً فنياً عن المشروع المشار إليه أعلاه ، تقريراً مخالفاً لما ورد في دراساته وتقاريره الفنية . فجمعته لجنة التحقيق بهم ليدور حوار علمي على مسمع من جميع أعضاء اللجنة . وبدأ الحوار وامتدَّ حتى ظهر الحق فيما عرض من حجَّة وعلم ، فأسقِط في أيديهم واحمرَّ وجه رئيس اللجنة الفنية خجلاً ، ثم وقف وقال لم يعد من حاجة لوجودي وانسحب مع زميليه . ويقول داعيتنا عن هذه المواقف :
" هذه مواقف وتحدِّيات كان الفضل فيها لله ، فهو الذي هداني وعصمني وأعانني ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم ، بعد أن كانت الفتن والإغراءات من كلِّ لون وبكلِّ أسلوب تتدافع من كلِّ ناحية . ولا أنسى فضل المسؤولين الذين أحاطوني بالرعاية الحانية ، والدعم الحق " .
من الصعب أن توصف شدة الإيذاء الذي عانى منه ، من هنا ومن هناك ومن مصادر متعددة ، ولمدَّة طويلة نسبياً . ولكننه خرج من ذلك كله بفضل من الله : هداه الله وعصمه وحفظه ، وحسب المؤمن أن ينال ذلك .
وكان من بين مسؤولياته في وزارة الإعلام أن كان المستشار الفني لوكالة الأنباء الإسلامية . وشارك في وضع أسسها الفنية ومواصفاتها الرئيسة ، ودراسة العروض التي قدمتها شركات عالمية .
وكان هذا العمل الطويل صورة عمليّة لممارسة نهجه وإيمانه وعلمه . ولكنه كلّفه الكثير من صحته . فخرج من العمل لتُجرى له أول عمليّة مفتوحة بالقلب ، ثم الثانية ، ثم الثالثة بالبالون ، ثم السكري والربو ، وفقرات الظهر والرقبة ، والركبتان ، وغير ذلك ، ومازال تحت العلاج حتى اليوم . ويقول داعيتنا :
" ولقد كان لهذا البلد المسلم الذي أصبحت مواطناً فيه فضل عليَّ كبير . ففيه كان كلُّ عطائي الفكري والأدبي والدعوي . ومن هنا نمت خبرتي ونما علمي . ومن خلال عملي زرت عدَّة بلدان وحضرت عدَّة مؤتمرات . وأرجو أن أكون قد قدَّمت خلال إقامتي هنا ما يرضي الله سبحانه وتعالى في أكثر من ميدان . ومهما قدَّم المسلم لأمته ودينه فيظلُّ مقصِّراً في حقِّ أمَّته ودينه . الواجب كبير والمسؤولية كبيرة . "
وأصبح يقيم في السعودية مواطناً . فأقام أولاً مؤسسة البُشريات ، ثم دار النحوي للنشر والتوزيع . ولكنّ التحديات لم تتركه ، وظلَّ ماضياً على نهجه ، صابراً على ما يلاقيه ، في ميادين جديدة .
ولقد رأى أن الاعتكاف على الكتابة والتأليف ووضع خلاصة تجربته في الحياة وفي العمل الإسلامي الطويل ، أتقى وخير له في دينه ودنياه ، معتزلاً ميادين التنافس على الدنيا وزخارفها ، التنافس الدنيوي والجري اللاهث وراء زخارفها الكاذبة ، التنافس الذي مزَّق المسلمين ، وفتح فيهم ثغرات واسعة يدلف منها الأعداء ، ليلهبوا الفتنة ، ويزيدوا التمزيق ، ويوهنوا القوى .
زيارته لأقطار متعددة في العالم :
زار خلال هذه المسيرة أقطاراً متعددة في العالم من خلال نشاط علمي أو دعوي أو فكري ، أو أدبي، وحضر مؤتمرات متعدّدة . ومن أهم الأقطار التي زارها :
سويسرا ، ألمانيا ، إنكلترا ، فرنسا ، بلجيكا ، السويد ، إيطاليا ، اليونان ، كندا ، أمريكا ، الكويت ، قطر ، البحرين ، الإمارات العربية المتحدة ، العراق ، الهند ، باكستان ، تركيا ، مصر ، ليبيا ، تونس ، الجزائر ، المغرب ، وغيرها .
ميدان الدعوة الإسلاميه وميدان الحياة :(/5)
قضى في هذا الميدان قرابة نصف قرن ، ينهل ويعطي ، ولقد تعهّد أجيالاً وربى ناشئة ، واكتسب من خلال ذلك خبرة تنضم إلى دراسته في التربية وعلم النفس وممارسته التدريس ثماني سنوات ، وسائر خبراته التي عرضناها .
لا يخفى على أحد ما لاقاه العمل الإسلامي خلال هذا القرن ، وبصورة خاصة في النصف الثاني منه ، وما كان فيه من ابتلاء وتمحيص ، وعقبات ومشكلات ، وفتن ونكبات ، سواء أكان ذلك في الصف الداخلي أم من الخارج .
ولقد قدّم نصحه بصورة مستمرة من خلال دراسات وأبحاث ، مع توافر الحجة والبيّنة من الكتاب والسنة . وتكون لديه من خلال ذلك تصور واضح رأى ضرورة عرضه بصورة جادّة حازمة . فكان المنهجُ الذي يدعو إليه كلَّ مسلم وكلَّ أسرة وكلَّ جماعة : نهج يحمل النظرية العامة للدعوة الإسلامية ، والدراسات التفصيلية لبنودها وعناصرها ، والمناهج التطبيقية ، والنماذج العملية ، ليكون كلُّه نابعاً من الكتاب والسنة ، ملبياً لحاجة الواقع ، معينا للمسلم على النجاة من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة ، وعلى المساهمة في تحقيق الأهداف الربانية الثابتة في الحياة الدنيا ، والمضيّ على صراط مستقيم ، ذلك كله بمشيئة الله وفضله ، لمن صدقت نيَّته وصحَّت عزيمته .
ولقد واجه داعيتنا الدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي تحدّيات كثيرة في ميدان الحياة ، مما يمكن أن يوقع الإنسان في فتن ومحن . ولكن فضل الله كان كبيراً عليه ، حين عصمه من الدخول في أي فتنة ، أو الخروج على منهاج الله ، أو عدم ردّ الأمور صغيرها وكبيرها إلى منهاج الله . فظل خلال مسيرته كلها : صادق الرأي واضح الحجة والبينة ، أميناً في موقفه ثابتاً يرجو طاعة الله ورحمته ، مستقيماً في مسيرته على صراط مستقيم . متجاوزاً القيل والقال وترَّهات الأمور .
لقد قدَّم دراسات لمن يعنيهم الأمر عن نواحي الخلل والضعف في واقع الدعوة الإسلامية ، دون أن يلجأ إلى نشر ذلك في وسائل الإعلام ، كما فعل الكثيرون . ولقد لاقى داعيتنا من التحديات مثل ما لاقاه في ميادين أخرى ، وقد كان لدراسته صدىً طيبُ لدى المؤمنين الصادقين ، وكانت عاملاً مساعداً لتقارب النفوس والقلوب بفضل الله .
ولقد قدَّم في ميدان الدعوة الإسلامية وقضاياها وقضايا العالم الإسلامي دراسات جادَّة مفصلة في كتب بحدود خمسين كتابا ، تمثل كلها مع كتب الأدب والشعر والملاحم النهج الذي أشير إليه أعلاه . وقدَّم من خلاله نظريات متعددة مثل : النظرية العامة للدعوة الإسلامية ، نظرية المعرفة في الإسلام لتقابل نظرية المعرفة لدى الغرب ، وقانون الفطرة ، ونظرية النهج الإيماني للتفكير ، ونظرية التربية في الإسلام ومناهجها ، نظرية الوسع الصادق والوسع الكاذب ، وغيرها .
قضية فلسطين وسائر قضايا العالم الإسلامي :
لقد كان لداعيتنا د. عدنان النحوي رؤية واضحة لقضية فلسطين منذ أول شبابه ولسائر قضايا العالم الإسلامي . كان يرى أنه لا بد من الجيل المؤمن المتراص صفّاً واحداً بعيداً عن جميع مظاهر العصبيات الجاهلية التي حرمها الإسلام ، ولا بد من النهج الواعي المدروس ، والخطة الوافية الأمينة ، ولا بد من إعداد القوة كما أمر الله فذلك اقرب للتقوى وإلى طاعة الله ، وإلى أن ينزل الله نصره . وكان هناك فسحة من الوقت آنذاك . وكان المؤمنون في الأرض حشداً كافياً . ومضت السنون والمسلمون لم يعدوا العدة ولا النهج ، وأكثروا من الشعارات والتمزُّق ، حتى أخذت الفرص تضيق ، واليهود تنمو قواهم وخطَّتهم ، وعدتهم وسلاحهم ، ويزداد كسبهم على الأرض جولة بعد جولة . لقد حملت قضية فلسطين الإسلام شعاراً ، وأخذت في الميدان صورة إقليمية أو قومية ، وجاءت النتائج كما هي ظاهرة اليوم للعيان . وكان يرى في جملة ما يراه عدم قبول دولة فلسطينية مجردة من كل أسباب القوة ، وعدم جواز التنازل عن أي جزء من أرض الإسلام وبخاصَّة أرض فلسطين ، وأن قضية فلسطين وغيرها من ديار الإسلام هي مسؤولية كلِّ مسلم والأمة المسلمة كلها . ولذلك لا بد من جمع القوى وبناء الصف المؤمن الواحد كالبنيان المرصوص على أساس من منهاج الله .
نشاطه في ميدان الأدب بعامة والأدب الإسلامي بخاصة :(/6)
لقد كان الأدب من أهم ميادين نشاطه منذ صباه . وقد جمع قصائده الأولى في " ديوان الأرض المباركة " ، ثم توالت دواوينه وملاحمه الشعرية ، ثم امتدَّ نشاطه الأدبي في ما قدَّمه من دراسات ومقالات نشرتها صحف متعدِّدة ومجلات في العالم العربي الإسلامي ، وفي كتب ومؤلفات تجاوزت ثمانية دواوين شعرية ، وإحدى عشرة ملحمة ، وفق النظرية التي يعرضها للملحمة الإسلامية ، تتناول بعض قضايا العالم الإسلامي . وفي هذه الدراسات قدَّم نظرية الأدب الملتزم بالإسلام ، ونظرية النقد الذي اقترح تسميته بـ " النصح الأدبي " ، ونظرية الجمال في الإسلام ، ونظرية الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام لتفارق التصور الوثني اليوناني ، ونظرية تولد النص الأدبي ، وغير ذلك من الدراسات النامية المتطورة على أسس ثابتة راسخة وجذور ممتدَّة . وردَّ على المذاهب الأدبية الغربية : كالحداثة والبنيوية والتفكيكية والأسلوبية ، وغيرها . ودرس موضوع الشعر المتفلِّت بين النثر والتفعيلة ، وبيَّن رأيه بوضوح الحجة والبينة برفض هذا النوع من الكلام في ساحة الشعر ، فحسنُهُ نثر لا صلة له ولا نسب مع الشعر ، وذلك في عدد من كتبه : النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء ، الحداثة في منظور إيماني ، الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره ، الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ، وبيَّن خطر ذلك على اللغة العربية . وارتبطت دراساته هذه مع دراساته للمذاهب الفكرية والسياسية الغربية وردِّه عليها ، مثل : الاشتراكية والديمقراطية والراسمالية والعلمانية والعولمة وغيرها ، وبيَّن عظمة النهج الإسلامي وحاجة البشرية كلها إليه ، وإعجاز المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنَّة ولغة عربية ـ ، وقدرته على تلبية حاجة الإنسان في جميع العصور وجميع الميادين وجميع الأماكن والأحوال . ففي جميع ما كتب من مؤلفاته التي بلغت حتى الآن واحداً وثمانين كتاباً في موضوعات فكرية وفقهية وتربويَّة وسياسية وأدبية ودراسة أحداث الواقع ، كانت حجَّته وبيِّنته من الكتاب والسنَّة ، ومن الواقع الذي يردُّه إلى الكتاب والسنَّة رداً أميناً ، فجاءت كتبه تمثِّل نهجاً واحداً متماسكاً ، وفقهاً ممتدّاً يقوم على الركنين الأساسيين : المنهاج الرباني والواقع .
ولقد كان من أوائل من ساهم في نشاط الدعوة إلى الأدب الملتزم بالإسلام . فقد حضر الندوة الأولى للأدب الإسلامي في لكنو ـ الهند ـ برعاية ندوة العلماء سنة 1401هـ ، وقدَّم فيها بحثه : " الخصائص الإيمانية في الأدب الإسلامي " ، وقصيدته : " عرائس وجواهرـ هدية الشعر " . وكان من المؤسسين لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في مؤتمرها الذي عقد في لكنو ـ الهند ـ برعاية ندوة العلماء ورئيسها الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله . وقدم في هذا المؤتمر بحثه المتميز " الموضوع الأدبي وولادة النصِّ الأدبي " ، ودرَّته الشعرية عن الأدب الإسلامي " مهرجان القصيد " . وفي هذا المؤتمر وُضِع النظام الأساسي للرابطة . وأصبح داعيتنا عضواً مؤسساً وعضواً في مجلس الأمناء ، ونائب رئيس مكتب البلاد العربية . ولأسباب متعدِّدة اعتزل ذلك في وقت لاحق ، وتفرَّغ للدراسة والإنتاج ، وقدم ذخائر من الفكر والشعر .
المراكز العلمية والفكرية والأدبية :
ـ عضو بدرجة زميل في معهد المهندسيين في لندن .
ـ عضو في مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية في عمان ـ الأردن .
ـ عضو في الندوة العالمية للأدب الإسلامي ـ لكهنو ـ الهند .
ـ عضو مؤسس لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ، وعضو مجلس الأمناء ونائب رئيس مكتب البلاد العربية سابقاً .
ـ عضو رابطة الأدب الحديث في القاهرة ـ مصر .
ـ عضو الهيئة العربية العليا لفلسطين .
المؤلفات والنهج الفكري :
تبلغ مؤلفاته حتى الآن ثمانية وثمانين كتاباً ترجم بعضها إلى الإنجليزية والتركية والأوردية منها خمسة وعشرون كتاباً في الدعوة وفكرها ومناهجها ، والتربية والبناء ومنهاجه ، والفقه في الدعوة وامتداده في الحياة والإدارة ، وسبعة كتب في التوحيد وموضوعاته الإيمانية ومناهج تطبيقها ، وتسعة عشر كتباً في دراسة قضايا الواقع الفكرية وأحداثه ، وأحد عشر كتاباً في دراسة أحداث الواقع [ بما فيها الملاحم الشعرية] ، وخمسة كتب في الأدب الملتزم بالإسلام ، وثلاثة كتب في الرد على المذاهب الأدبية الغربية وسبعة دواوين شعرية واثنتا عشرة ملاحم شعرية ، وثلاثة كتب باللغة الإنكليزية .(/7)
هذه الدراسات والمؤلفات في موضوعاتها المختلفة تمثل عصارة علم المؤلف الداعية وتجربته خلال نصف قرن ، صاغها على صورة نظرية عامة للدعوة الإسلامية بمعناها العام ، تقوم على قواعد الإيمان والتوحيد ، الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، والقضية الأخطر في حياة كل إنسان ، وعلى المنهاج الرباني ، ودراسة الواقع من خلاله ، ثم تأتي بنود النظرية وعناصرها ، ونهج مفصل لبعض ميادين النشاط ، ونظام إداري ، ومناهج تطبيقية ونماذج علمية ، لفرد والجماعة والأمة .
هذا بالإضافة إلى مقالاته في معظم مجلات العالم العربي والإسلامي وصحفه ، مما يؤلف إنتاجاً فكرياً كبيراً ، بالإضافة إلى مساهماته في المؤتمرات والندوات الفكرية والأدبية والعلمية .
لقد قدم داعيتنا في دراساته موضوعات جديدة في الدعوة والفكر والأدب . وكذلك كان شعره يمثل نهجاً متماسكاً مترابطاً مع سائر ما يقدمه من موضوعات ، لتؤلف كلها منهجاً جديداً متميزاً في واقعنا اليوم ، نابعا من الكتاب والسنَّة ، ملبِّياً لحاجة الواقع .
كما كتب عنه عدد غير قليل من الأدباء والمفكرين في صحفٍ ومجلاتٍ ، وأحاديث في بعض الإذاعات ، ودراسات جامعية ، كما تحدَّث عنه مفكِّرون وأدباء في كتبهم ومؤلفاتهم . هذا علاوة على الرسائل الكثيرة التي تصل من أقطار مختلفة من القرّاء والأدباء والدعاة والمفكرين .
الدراسات المقدّمة عنه إلى مؤتمرات :
الموقف السياسي في شعر عدنان النحوي. د. موسى إبراهيم أبو دقّة ـ كلية التربية الحكومية ـ غزة مقدّم لمؤتمر قضايا الأدب والتحديات المعاصرة المنعقدة في الجامعة الإسلامية .
البناء اللغوي لنموذج من شعر الغربة الإسلامي . النموذج : ملحمة الغرباء للدكتور: عدنان علي رضا النحوي . بقلم الدكتور / سعد أبو الرضا ، قدم هذا البحث في مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة عين شمس بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية ورابطة الأدب الإسلامي في الفترة ( 24-27/4/1413هـ الموافق 20-23/10/1993م ) .
" الصورة الشعرية الإسلامية " عند الدكتور الشاعر / عدنان علي رضا النحوي . بقلم الأستاذ محمود الدغيم . وتضمن البحث ترجمةً للدكتور الشاعر/ عدنان علي رضا النحوي. وتضمن البحث إلقاء الأضواء على الصورة الإسلامية في شعره. وقدم هذا البحث في " ندوة الأدب الإسلامي " التي أقامتها رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالتعاون مع مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية والتي عقدت يوم الاثنين 22/ ربيع الأول 1415هـ - 29 /آب 1994م وذلك بضيافة مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية.
الدراسات الجامعية :
الحداثة في النقد الإسلامي المعاصر :
عدنان النحوي ناقداً / أدونيس نموذجاً. أشليح حفيظة ـ إشراف الأستاذ المقري الإدريسي أبو زيد 1991-1992م. جامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ابن أمسيك ـ شعبة اللغة العربية وآدابها .
ملحمة ربى الأقصى للدكتور عدنان علي رضا النحوي في ضوء نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني :
الباحثة : نعيمة بردوني
إشراف : سعيد الغزاوي 1992- 1993م .
جامعة الحسن الثاني ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ شعبة اللغة العربية وآدابها الدار البيضاء . لنيل الإجازة في الأدب .
قصيدة الغرباء للشاعر عدنان علي رضا النحوي :
الباحثة : ثميمونت السباعي ـ إشراف د. عبدالرحمن حوطش .
جامعة محمد الأول ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ وجدة . لنيل الإجازة في اللغة العربية وآدابها 1996-1997م . بحث لنيل الإجازة الجامعية في اللغة العربية.
الاغتراب والملحمية في شعر عدنان النحوي :
بحث لنيل الماجستير .
إعداد الطالب : عيسى بودوخة
إِشراف : د . حسن كاتب
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ـ قسنطينة ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية والدراسات القرآنية. الجزائر ـ 2001-2002م.
عدنان علي رضا النحوي ومنهجه في تحقيق قضايا عصره :
إعداد :مريم عبد الوافي ـ إشراف الأستاذة سلمى تليلاني .
1423-1424هـ ـ 2002-2003م .
جامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ المحمدية ـ شعبة الدراسات الإسلامية .بحث لنيل درجة الماجستير .
بحث لنيل درجة الماجستير عن شعر الدكتور عدنان علي رضا النحوي:
للآنسة ليلى الشبيلي. كلية التربية للبنات ـ قسم اللغة العربية منطقة جيزان المملكة العربية السعودية .
المؤتمرات والندوات الخارجية التي شارك فيها :
1. مؤتمر الترددات الإذاعية للموجة المتوسطة ـ جنيف ـ سويسرا ـ في شهري أكتوبر ونوفمبر سنة 1975م .
2. مؤتمر دراسات في الأدب الإسلامي وإنشاء الندوة العالمية للأدب الإسلامي ـ لكنهو ـ الهند ـ برعاية ندوة العلماء في لكنهو ـ المشاركة : بحث بعنوان ( خصائص الأدب الإسلامي ـ قصيدة : عرائس وجواهر ) ـ في الفترة (11ـ13) 6/1401هـ الموافق (17ـ19)4/1981م .(/8)
3. مؤتمر الأدب وإنشاء رابطة الأدب الإسلامي ـ لكهنو ـ الهند ـ برعاية ندوة العلماء في لكهنو ـ المشاركة : قصيدة : ( مهرجان القصيد ) ـ في الفترة (25ـ27)4/1406هـ الموافق (7ـ9)1/1986م .
4. مؤتمر الأدب الإسلامي ـ استانبول ـ تركيا ـ لقاء مجلس الأمناء وندوات عن الأدب الإسلامي ـ المشاركة : ملحمة القسطنطينية ( أو قصيدة : فتحان ) ـ في الفترة (14ـ23)10/1406هـ الموافق (21ـ30)6/1986م .
5. ندوة المدائح النبوية : المدائح النبوية تاريخها وأساليبها ـ أورانج أباد ـ الهند ـ المشاركة : بحث بعنوان ( الإطار الصحيح والأسلوب الأمثل لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ) ـ قصيدة في ( مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ) ـ في الفترة (26ـ28)2/1409هـ الموافق (7ـ9)10/1988م .
6. ندوة الأدب الإسلامي : دور الأدب الإسلامي في طرد الاستعمار وتحرير البلاد ـ حيدر أباد ـ الهند ـ المشاركة : بحث بنفس العنوان ـ في الفترة (8 ـ10) 3/1410هـ الموافق (7ـ9) 10/1989م
7. المؤتمر السنوي الثاني عشر لاتحاد الطلاب والعمال المسلمين في أوروبا : مبادئ أساسية في العمل الإسلامي ، وندوة شعرية ـ كولن ـ ألمانيا ـ المشاركة : بحث يحمل نفس عنوان المؤتمر ـ قصيدة ( زغردة الخيام ) وقصائد أخرى ـ في الفترة (29/11ـ4/12)1407هـ الموافق (25ـ29)7/1987م .
8. المؤتمر السنوي الرابع عشر لاتحاد الطلاب والعمال المسلمين في أوروبا : المسلمون في أوروبا كولن ـ ألمانيا ـ المشاركة بموضوع : ( أثر الحداثة في الواقع الإسلامي ) ـ في الفترة (29ـ30)12/1409هـ الموافق (29/7ـ2/8) 1989م .
9. مؤتمر الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ الدار البيضاء / المغرب ـ المشاركة بموضوع : ( الصحوة الإسلامية إلى أين ؟ ) صدر بعد ذلك في كتاب تحت نفس الاسم ـ في الفترة (7ـ9)12/1411هـ الموافق (28/30)8/1990م .
10. الملتقى الدولي الأول للفن الإسلامي ـ جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية ـ قسنطينة ، الجزائر ـ المشاركة ببحث بعنوان ( تقويم نظرية الحداثة ) ـ صدر بعد ذلك كتاب تحت نفس الاسم ـ عدد من القصائد في الندوات ـ عدة محاضرات في عدد من المدن الجزائرية ـ في الفترة (10ـ13)5/1411هـ الموافق (27ـ30) 11/1990م .
11. مؤتمر الأدب الإسلامي ، وندوة شعرية ـ جامعة عين شمس ( بالتعاون مع رابطة الجامعات الإسلامية ورابطة الأدب الإسلامي ) ـ القاهرة ، مصر ـ المشاركة ببحث عنوانه ( موقف الأدب الإسلامي من الحداثة ) ـ قصيدة سيراييفو ـ في الفترة (24ـ27)4/1413هـ الموافق (20ـ22)10/1992م .
12. مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين في باكستان ( المؤتمر الثاني ، الملتقى التاسع عشر ) المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق ـ إسلام أباد ، باكستان ـ المشاركة : بحث عنوانه ( حوار بين الشورى والديمقراطية ) ، وبحث آخر بعنوان ( الأقصى بين الفكر والسياسة ) ، مشاركة في ندوة شعرية في الفترة (25ـ28)3/1413هـ الموافق (22ـ25)9/1992م .
13. الندوة الشعرية في مركز الدراسات والبحوث الإسلامية ـ قاعة المركز الإسلامي الثقافي بجبل اللويبدة عمان ، الأردن ـ المشاركة : بقصيدة ( الغرباء ) صدر بعد ذلك كتاب( ملحمة الغرباء )ـ في يوم 23/11/1405هـ الموافق 8/8/1985م .
14. الندوة الشعرية لأفغانستان ـ الاتحاد الإسلامي للطلاب ، فرانكفورت ، ألمانيا ـ المشاركة بقصيدة ( ملحمة الجهاد الأفغاني ) صدر بعد ذلك مع قصائد أخرى في كتاب ( ملحمة الجهاد الأفغاني ) في يوم 3/2/1408هـ الموافق 26/9/1987م .
15. الندوة الشعرية لفلسطين ـ مركز حركة التحرير الفلسطيني ـ الرياض ، السعودية ـ المشاركة بقصيدة ( مَنْ فَجَّرَ الصَّمتَ العميق ) في يوم 10/7/1408هـ الموافق 27/2/1988م .
16. مهرجان فلسطينـ جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي ، دبي / رأس الخيمة / الإمارات ـ المشاركة بقصيدة ( ملحمة فلسطين ) في الندوة الشعرية في دبي ـ موضوع ( ملحمة فلسطين ) الندوة الفكرية في رأس الخيمة ، جُمِعتْ بعد ذلك كلها مع قصائد أخرى في كتاب ( ملحمة فلسطين ) ـ الفترة (1ـ2) 9/1408هـ الموافق (17ـ18)4/1988م .
17. الندوة الأدبية ، مع ندوة شعرية وحوار أدبي وفكري وسياسي ـ جمعية الإصلاح الاجتماعي ، الكويت ـ المشاركة : كلمة حول الأدب الإسلامي بعنوان ( تفاعل الأديب المسلم مع ما حوله ) ـ حوار أدبي حول ( الشعر العمودي والشعر الحر ) ، حوار فكري حول ( البيت والمرأة في الإسلام وبناء الأمة المسلمة ) الفترة (20ـ28)/7/1407هـ الموافق (20ـ8)/3/1987م .
18. الندوة الشعرية لفلسطين وأفغانستان ـ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ـ الرياض ، السعودية ـ المشاركة : جزء من ( ملحمة الأقصى ) ، قصيدة ( على أبواب كابل ) ـ في يوم 20/8/1409هـ الموافق 27/3/1989م .(/9)
19. الندوة الشعرية للانتفاضة الفلسطينية ـ وكالة رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية ـ الدوحة ، قطر ـ المشاركة :مختارات من ( ملحمة فلسطين ) و( ملحمة الأقصى) ـفي الفترة (19ـ20)/5/1410هـ الموافق (17ـ18)/12/1989م .
20. الندوة الشعرية لفلسطين ـ مكتب حركة التحرير الفلسطينية ، الرياض ، السعودية ـ المشاركة قصيدة ( أشواق النصر وحنين العودة ) ـ في يوم 12/5/1410هـ الموافق 10/12/1989م .
21. الملتقى الدولي للأدب في وجدة ـ المغرب ـ قامت به مجلة المشكاة وجامعة محمد الأول في وجدة ورابطة الأدب الإسلامي ، عنوان المؤتمر ( رسالة الأدب والشهود الحضاري ) ، المشاركة بموضوع ( رسالة الأدب بين نهجين وحضارتين ) ،وبقصيدة ( تحية إلى الملتقى الدولي للأدب الإسلامي في وجدة) ، في الفترة من (2ـ4)4/1415هـ الموافق (7ـ9)9/1994م .
22. المؤتمر الرابع عشر للرابطة الإسلامية في ستوكهولم بالسويد تحت عنوان : ( المسلمون في الغرب مقومات وتحديات ) ، المشاركة بموضوع ( لمحات عن الواقع وأضواء على طريق النجاة ) ، وبخطبة الجمعة بالعربية والإنجليزية بعنوان ( الولاء ) ومحاضرتين باللغة الإنجليزية للمسلمين والمسلمات من السويد في الفترة (21ـ23) رجب 1415هـ الموافق (23ـ25)12/1994م .
23. الندوة الشعرية في البرنامج الثقافي لأسبوع البوسنة والهرسك في مدينة الرياض تحت رعاية إمارة الرياض ، المشاركة بقصيدة ( شوق ودماء في البوسنة والهرسك) ، وبقصائد مختارة من ( ملحمة البوسنة والهرسك الجريمة الكبرى ) . يوم الثلاثاء 1 رمضان 1415هـ الموافق 31 يناير 1995م .
24. ندوة شعرية : أقامها فرع رابطة الأدب الإسلامي في عمان ـ بمناسبة وجود الدكتور عدنان النحوي بعمان : المشاركة بست قصائد : ( كل يوم قوافل تتوالى ـ زخرف وحقيقة ـ فجر موستار ـ وقفة في تاج محل ـ الفجر الدامي ـ لآلئ الشعر أوزان وقافية ) ،الأربعاء 25/4/1416هـ الموافق 20/9/1995م .
25. مؤتمر اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا : المنعقد في باريس في لوجيه تحت عنوان مقتضيات ( الانتماء إلى الإسلام ) ـ المشاركة بمحاضرة بعنوان : ( التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء إلى الإسلام ) ـ كما أقيمت للدكتور عدنان النحوي ندوة شعرية يوم الجمعة ألقى فيها ثلاث قصائد : ( زخرف وحقيقة ـ كل يوم قوافل تتوالى ـ فجر موستار ) .
26. الندوة العلمية الثالثة عشرة لرابطة الأدب الإسلامي : في مدينة حيدر أباد الهند حول ( أدب الوصايا والمواعظ ) المشاركة ببحث عنوانه ( أدب الوصايا والمواعظ ومنزلته في الإسلام وخصائصه الإيمانية والفنية ) والقصائد : ( زخرف وحقيقة ، تحية إلى حيدر أباد وجامعة دار العلوم سبيل السلام ) الفترة (20ـ22) جمادى الآخرة 1417هـ الموافق (1ـ3) نوفمبر 1996م .
27. المؤتمر التاسع عشر بعنوان ( المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق ) ـ المنعقد في إسلام أباد في باكستان ـ الفترة (22ـ25) سبتمبر 1992م .
28. الندوة الشعرية في جامعة قطر ـ الدوحة : اللجنة الثقافية في كلية الإنسانيات والنشاط الثقافي ـ كليات البنات ـ المشاركة بعدد من القصائد ـ الأربعاء 17 ذو القعدة 1414هـ الموافق 27 إبريل 1994م .
29. مؤتمر الأدب الإسلامي في خدمة الدعوة ـ الذي دعت إليه رابطة الجامعات الإسلامية وروابط الأدب الإسلامي وجامعة الأزهر ـ المنعقد في القاهرة في الفترة (26ـ28) يونيو 1999م ـ المشاركة ببحث عنوانه ( أدب الوصايا والمواعظ ) وبقصيدتين ( كوسوفا ـ رعشات تموج في شفتيا ) .
30. ندوة في رابطة الأدب الإسلامي في عمان حول : ( فكر الدكتور عدنان علي رضا النحوي في الحداثة وعمود الشعر ، والشعر الحر ، ولقاء المؤمنين ) في حوار مع الأستاذ عبد الله الطنطاوي يوم الخميس 22جمادى الأولى 1420هـ الموافق 2 سبتمبر 1999م .
31. مؤتمر الهيئة العامة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية وندوة ( تعريف المفاهيم عن الأدب الإسلامي ) ، المنعقد في القاهرة بين 6/6ـ 9/6/1423هـ الموافق 15/8ـ 18/8/2002م ، شارك ببحث بعنوان ( الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته ) وكذلك بقصيدة ( ملحمة فلسطين ) . وأجرت بعض الصحف والمجلات حوارات معه حول الأدب والفكر .
32. الندوات الأدبية والفكرية التي يحضرها بالرياض :
ـ ندوة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله : مساء كل خميس وقد امتدت أكثر من25 سنة .
ـ ندوة الوفاء : عميدها الشيخ احمد باجنيد مساء كل خميس .
ـ ندوة الشيخ عثمان الصالح : مساء الاثنين من كلّ أسبوع .
ـ ندوة مركز حمد الجاسر الثقافي : صباح كل خميس .
ـ ندوة اللواء أنور عشقي .
---
موقع الإنترنت : www.alnahwi.com
البريد الإلكتروني : info@alnahwi.com(/10)
ترجمة ما فيه بعض المخالفات الشرعية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/مسائل متفرقة
التاريخ ... 05/08/1425هـ
السؤال
أقوم حالياً بترجمة كتاب فلسفي، وورد به بعض العبارات والأفكار المنافية للتوحيد والعقيدة, فهل يجوز ترجمة مثل هذا الكتاب؟ مع الأخذ في الاعتبار عدم قدرتي على التعليق على الكتاب، وبيان ما به من أخطاء؛ لعدم سماح الكاتب بذلك.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا بد من معرفة نسبة المنافاة للتوحيد والعقيدة فيما يراد ترجمته، فإن كان الكتاب مشتملاً على أفكار مخالفة للمعلوم من الدين بالضرورة، كوحدانيته – سبحانه- والإيمان بالرسل، والكتب المنزلة، والملائكة، والجنة والنار، ونحو ذلك من أركان الإسلام والإيمان، إذا كان الأمر كذلك فلا تجوز ترجمة هذا الكتاب أو نشره، أو الإعانة على ذلك بأي صورة كانت، وإن كانت أفكار الكتاب عامتها سليمة وقليل فيها المخالفة لبعض أمور الاعتقاد كتأويل بعض صفات الله، وكذلك هذه الكتب المراد ترجمتها مفيدة للأمة في دينها أو دنياها، جاز حينئذ ترجمتها ما دام النفع فيها أكبر من الضرر، كما يوجد في كتب بعض السلف كالحافظ ابن حجر، والسخاوي، والنووي، كتأويل بعض الصفات على مذهب الأشاعرة والعز بن عبد السلام، وابن الجوزي، والوفاء بن عقيل، وغيرهم، فإن كانت أخطاء صاحب الكتاب المراد ترجمته كأخطاء هؤلاء العلماء فلا أرى بترجمته بأساً، وإن كنت أنصح لك بعدم ترجمته؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. والله أعلم.(/1)
ترجمة معاني القرآن إلى الروسية
لقد صدق الله - سبحانه - إذ يقول في محكم كتابه: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} (الصف: 8) ومصداق هذه الآية ما نراه اليوم من انتشار الإسلام - والحمد لله - في كثير من بقاع العالم، على الرغم من أن حال المسلمين اليوم ليس بالحال الذي تُرضى شفاعته، وعلى الرغم كذلك مما يكيده أعداء الإسلام ويدبرونه؛ للنيل من هذا الدين.
بالأمس كان هناك ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، الذي عانى المسلمون في ظله كثيرًا من الظلم والكبت، والحرمان من أبسط حقوقهم؛ فقد كانت ممارسة العبادة ممنوعة، وكان من يُضبط متلبسًا بذلك يُعاقب أشد العقاب، أما المساجد فقد هُدِّمت أو أُغلقت أو حُولت متاحف يقصدها طلاب السياحة ومحبو الآثار..
ولكن وبعد أن آل حال دولة الاتحاد السوفيتي إلى ما آل إليه، بدأ الناس يتنفسون الصعداء، ويمارسون عبادتهم بشيء من الحرية.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الروسية، قامت بترجمتها الدكتورة (إيمان فاليريا بوروخوفا) وتم طبع ما يقرب من مئة ألف نسخة من هذه الترجمة، ووزعت جميع نسخها داخل دولة روسيا الاتحادية.لكن مما يؤخذ على هذه الترجمة أنها تضمنت العديد من الأخطاء التي وقعت فيها المترجمة، ولم تتنبه إليها، فعسى أن تحاول استدراكها في طبعات قادمة إن شاء الله. ويُشار إلى أن المؤلفة كانت قد حصلت على تصريح من الأزهر الشريف باعتماد هذه الترجمة، واعتماد نشرها وتوزيعها. وقد موِّلت هذه الطبعة من قبل بعض رجال الأعمال في دول الإمارات والكويت والسعودية وقطر وليبيا. ومن المفيد القول في هذا السياق: إن هذه الترجمة للقرأن - بما لها وما عليها - ليست هي الترجمة الجيدة للقرآن الكريم إلى اللغة الروسية، بل الترجمة الأفضل هي ترجمة المنتخب، أو ما يسمى بالترجمة المصرية، فهذه الترجمة الأخيرة لاقت قبولاً مشهودًا لدى المسلمين من الشعب الروسي.
ومع أن عدد المسلمين اليوم في روسيا يبلغ ما يقرب من ستة ملايين نسمة، غير أن الكثير منهم لا يعرفون عن الإسلام إلا الاسم، وعلى الرغم كذلك من جهود التنصير المبذولة في تلك الديار، إلا أن الإسلام آخذ - والحمد لله - في التوسع والانتشار؛ فقد بلغ عدد المساجد في روسيا قرابة 25 ألف مسجد، بيد أن تلك المساجد لا تزال غير قادرة على القيام بدورها المنوط بها على الوجه المطلوب والمأمول؛ وهذه الترجمة الجديدة لمعاني القرآن سوف تسهم في توعية المسلمين بدينهم من جانب، كما أنها سوف تسهم في كسب مسلمين جدد في تلك البقاع.
يشار أخيراًَ إلى أن ترجمة معاني القرآن إلى اللغة الروسية هي الترجمة رقم 106 من ترجمات القرآن الكريم للعديد من لغات العالم، وقد سبقت هذه الترجمة للغة الروسية ترجمة أخرى قامت بها د. سمية عفيفي، أستاذة اللغة الروسية بجامعة عين شمس، وتمت تحت إشراف الأزهر، ووزارة الأوقاف المصرية، والمركز الأعلى للشؤون الإسلامية، ولاقت هذه الترجمة قبولاً واستحسانًا لدى الشعوب الناطقة بالروسية. وصدق الله القائل في محكم كتابه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) نسأل الله الكريم أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع راية الحق والدين، إنه خير مسؤول، وأرجى مأمول، وهو ولي الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
26/07/2003
http://www.islamweb.net المصدر :(/1)
ترجمة معاني القرآن
التبليغ وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله - سبحانه -، وقد أُمر به - صلى الله عليه وسلم - بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) وإذ كانت رسالة الإسلام رسالة عالمية، وكانت حكمة الله البالغة قد اقتضت جَعْلَ لغات الناس التي يتفاهمون بها ويتواصلون لغاتًا متعددة ومختلفة، فقد كانت الترجمة وسيلة مهمة في إيصال رسالة الإسلام إلى الناس كافة.
ولا يخفى أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، وبهذا كانت العربية وعاء هذا الدين، إلا أن هناك كثيرًا من الشعوب والحضارات - التي دخلت دين الإسلام أو دخل الإسلام إليها - لا ينطق أهلها بالعربية، ومن هنا كانت الصعوبة في فهم رسالة هذا الدين وتطبيقه التطبيق الأسلم، وهكذا كان تعدد اللغات بين شعوب العالم من المشكلات التي تواجه الدعاة والمبلغين وتقف عقبة في طريقهم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يتحدث سكان القارة الإفريقية بما يزيد عن 400 لغة، وبعض دول تلك القارة لديها ما يقرب من مائة لغة كنيجيريا وكينيا، ويقدر علماء اللغات أن عدد لغات العالم يصل إلى ما بين 2500-5000 لغة موزعة على القارات الخمس، وتقول الإحصائيات في هذا الشأن: إن حوالي ثلثي سكان العالم يتحدثون 27 لغة فقط، بينما يتحدث الثلث الآخر بقية اللغات...فإذا تأملنا حجم هذه الأرقام أدركنا حجم المشكلة وأدركنا بالتالي أهمية الترجمة، ودرجة الأهمية التي ينبغي أن تعطى لها.
وفي خضم هذه المشكلة وحاجة الشعوب الإسلامية للتعرف على دينها وقراءة كتاب ربها ظهرت بعض الجهود الفردية في ترجمة القرآن الكريم، إلا أنها افتقدت الترتيب والتخطيط فلم تؤت ثمارها المرجوة تمامًا... ومع كل ذلك فقد ساهمت هذه الجهود بشكل فعال في قطع الطريق أمام المغرضين، وسدَّت مسدًّا في هذا الدين كاد يدخل منه أعداؤه المتربصون به، كل ذلك في غياب الجهود الجماعية والرسمية التي كان ينبغي عليها أن تنهض للقيام بمثل هذه المهمة التي لا يمكن أن تكون على مستوى الأفراد فحسب.
ولا تزال تلك الشعوب تتطلع إلى اليوم الذي تُشاد فيه الهيئات الرسمية التي تتولى أمر هذه المهمة بعد أن أصبحنا نعيش في عصر المؤسسات وأصبح لكل أمر هيئة تتعهده وتقوم عليه من اقتصاد وسياحة ورياضة وغير ذلك، ونأمل أن نرى اليوم الذي توجد فيه المؤسسات والهيئات العلمية المتخصصة بترجمة القرآن الكريم إلى لغات العالم كافة، وما ذلك على الله بعزيز. {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف: 8) والحمد لله رب العالمين.
26/07/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
تزويج المعاقين والمجانين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ النكاح/الكفاءة في النكاح
التاريخ ... 22/2/1425هـ
السؤال
(1) هل يجوز زواج المعاقين والمتخلفين عقلياً؟ ولماذا؟.
(2) هل هناك شروط لتزويجهم؟ وهل تنطبق عليهم شروط الزواج؟.
(3) كيف يمكن للمعوق المتخلف عقلياً القيام بواجباته (واجباتها) الزوجية؟.
(4) هل يقبل الإسلام بذرية معوقة ومتخلفة عقلياً؟.
(5) كيف يمكن أن نتعامل مع زواج المعوقين والمتخلفين عقلياً؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
يحسن بنا قبل الجواب أن نقسم الإعاقة العقلية إلى ثلاثة مستويات: خفيفة ومتوسطة وشديدة، والذي يحدد أنواع إعاقة الأعيان المصابين بها هم أهل المعاق أنفسهم والأطباء المختصون.
أما عن جواب السؤال الأول: فنقول من كانت إعاقته العقلية (تخلفه) خفيفة أو متوسطة فيجوز زواجه بمثله أو بمن هو سليم إذا رضي وقبِل (رضيت وقبلت) بذلك ويقوم أولياؤهم بإجراء مراسيم الزواج لهم –كما نص الفقهاء على ذلك كلهم في المذاهب الفقهية- أما لماذا وكيف يزوجون والحالة هذه؟ فلأن الزواج شريعة إلهية وفطرة إنسانية قال تعالى:"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء..."[النساء: 1]، وقال تعالى:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" [الروم: 21]، وثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنن أبي داود(2050)، وسنن النسائي(3227) وابن حبان(4056) عن معقل بن يسار – رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أصبت امرأةً ذات حسب ومنصب إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، فقال: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثرٌ بكم"، فهذا نهي من النبي –صلى الله عليه وسلم- للرجل السليم عن نكاح الزوجة العقيم، ومثله المرأة السليمة من الرجل العقيم وفي لفظ:"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"، والأنبياء يوم القيامة يتكاثرون ويتفاخرون بكثرة أتباعهم؛ كما في حديث: "يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً" فيقال له: انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق ثم قيل لي انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل: هؤلاء أمتك" رواه البخاري(5705)، ومسلم(220)، فتكثير النسل في الأمة المسلمة مقصود للشارع وإن قل فيهم الفقه في الدين كما عند المتخلفين عقلياً ثم إن هؤلاء المتخلفين عقلياً، قد يكونون سبب نزول البركات والخيرات واندفاع البلايا والمصائب العظيمة عن جميع أفراد المجتمع حيث يدرون ولا يدرون، وقد جاء بالأثر "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" رواه البخاري(2896) والمتخلف العقلي -أياً كانت درجته- فهو ضعيف كما هو مشاهد ومعلوم.
جواب السؤال الثاني:
نعم تنطبق أركان الزواج وشروطه على المتخلفين عقلياً كالأسوياء، ويقوم أولياؤهم الشرعيون بإمضائها وإجرائها.
جواب السؤال الثالث:
أما كيف يمكن للمعاقين عقلياً – ذكوراً كانوا أو إناثاً- أن يقوموا بواجباتهم الزوجية فمتروك لهم هم ربما يعرفون ذلك كالأسوياء أو أكثر، لأن هذه غريزة فطرية لجميع البشر بل لكل المخلوقات، وإن قدّر وعلم وقوع بعض الممارسات غير الشرعية بينهم كعدم تجنب الوقاع في الحيض ونحوه فينبهون على عدم جوازه –إن كانوا يفهمون- وإن لم ينبهوا فلا شيء عليهم -إن شاء الله- في ذلك؛ لأن هذا حد علمهم و"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" [البقرة من الآية: 286]، أما إذا كان المتخلف عقلياً لا يحسن الصلاة والطهارة فارتكابه لمثل هذه المنهيات والمحرمات معفو عنه أصلاً؛ لعدم تكليفه شرعاً والقاعدة الشرعية تقول:(إذا سلب الله ما وهب (العقل) سقط ما وجب (عموم التكاليف)).
جواب السؤال الرابع:
أما هل يقبل الإسلام بذرية معوقة فنعم وسبق الإشارة إلى ذلك في الجواب الأول لدخولهم في مفهوم تكثير النسل بتكثير أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-، صحيح أن اعتبار الكيف في الأمة من الصلاح والنفع أهم من زيادة العدد المجردة.
هذا فيما يخص رغبة الناس الأسوياء أما في حكم الله فالأمر ليس كذلك، ثم إنه ليس لازماً وحتماً أن تزوج المعاقين عقلياً بعضهم ببعض ينتج ذرية معاقة، وإن كان هذا نسبته ظاهرة في الواقع ولكنها ليست قطعية في كل أحد، فالمشاهد أن بعض المعاقين عقلياً أنجبوا ذرية سليمة وصالحة قال الله سبحانه:"يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليمٌ قدير" [الشورى: 49-50]، ومشيئة الله سبحانه عامة للأسوياء والمتخلفين عقلياً لأنهم كلهم خلق الله وتحت إرادته وأمره.(/1)
جواب السؤال الخامس:
أرى أنه من المناسب أن يتعامل الناس (المجتمع كله) مع زواج المعاقين عقلياً كما يلي:
(1) إن كانت الإعاقة شديدة جداً ولا يمكن التعامل معها سلميا،ً كأن يُقطع أو يغلب على الظن أنها تهدد حياة المعاق ومن حوله فهذه الحالة لا يجوز شرعاً التزاوج بينهما.
(2) وإن كانت حالة المتخلف العقلي (الإعاقة) متوسطة فيمكن أن يعطى بعض العلاجات المهدئة والتي تمنع الإنجاب إذا رضي أولياء الزوجين بعد أن يقرر الأطباء المختصون أنهم سينجبون أطفالاً معاقين مثلهم أو أشد.
(3) من كانت حال تخلفه العقلي خفيفة فيعامل معاملة الأزواج الأسوياء مما يرفع معنوياته حتى يحس أنه مثل غيره من الناس، وعلى كل حال فإن زواج المتخلف عقلياً مما يخفف ضرره على نفسه وتعديه على غيره علاوة على ما قد يسببه من خير للأمة كلها بسبب الرعاية والعناية بهذه الشريحة من الناس من المجتمع.
وفق الله الجميع إلى كل خير وصلى الله على نبينا محمد.(/2)
تساؤلات حول مصطلح الوسطية *
عبد الرحمن بن عبد الخالق 14/4/1426
22/05/2005
منذ بضعة عشر عاماً فقط.. أصبح لفظ الوسطية متداولاً بصورة واسعة، واستعمله كثير ممن ينتسبون إلى الفكر الإسلامي والعلم الشرعي .
وأصبح شأنه، كشأن كثير من المصلحات، التي لا اتفاق حول مدلولها ، يعطيه كل معنى مغاير لما يعطيه الآخر .
ولما كان لفظ الوسطية يطلق ويراد به المنهج والشرعة والدين، أو يطلق ويراد به تيار مخصوص من تيارات الأمة، وأصبح لزاماً على من يستعملون هذا اللفظ الحادث أن يعلموا ماذا يريدون منه ؟ وماذا يريدون به؟
وهنا أطرح مجموعة من التساؤلات حول المصطلح الجديد في الفكر الإسلامي.
- هل الوسطية لفظ يراد به الإسلام الحق والحنيفية السمحة ؟ أم يراد به الدلالة على منحى خاص ؟
ومجموعة مخصوصة من أمة الإسلام اختاروا من عقائده ما رأوا أنه الدين الوسط ؟ واعتقاد الفرقة الناجية ؟ فيكون بذلك لفظ الوسطية كلفظ (أهل السنة والجماعة) والسلفية ونحو ذلك؟
- هل لهذه الوسطية –اليوم- مرجعية دينية يرجع إليها ؟ وتحكم على أن هذا المعتقد أو العبادة أو العمل داخل في معنى الوسطية أو خارج عنها ؟ وأين هذا المرجع.. شيخاً أو كتاباً ؟
- إذا كان لفظ الوسطية لم يمض على تداوله إلا عقد واحد من الزمان ، أصبح يتكلم فيه أصناف شتى من الناس ، وكلٌ يخرج منه بمفهوم في العقيدة والعمل غير ما يعرضه الآخر، ومنهم من بات يخصص الوسطية، فيقول:" الوسطية المستبصرة ".. مما يعني أن هناك وسطيةً عوراء، وأخرى عمياء!!
- عندما يطلق بعض الناس لفظ الوسطية، ويريدون به -حسب قولهم- "الإسلام المعتدل".. فما ملامح الإسلام الوسط ؟
وهذا يحتاج إلى بيان معنى الوسطية في العبادات والعقائد، وسيكون تصنيفاً جديداً لأهل الإسلام، يضاف للتصنيفات السابقة في مسميات الفرق والعقائد.
- أليس من الخير لأهل الإسلام أن يكتفوا بالتصنيف القديم والأسماء، التي اشتهرت من قبل وأصبح لها مدلول معلوم كأهل السنة ونحو ذلك ؟
- ستكون الوسطية جناية جديدة على أمة الإسلام، إذا أريد بها إسقاط بعض أحكامه، وإلغاء بعض تشريعاته؛ فكثير ممن يتصدون للوسطية، يجعلها إسلام بلا جهاد وإسلام بلا أمر بمعروف أو نهي عن المنكر، وبلا (قل يا أيُّها الكافرون ) وبلا (لقد كفرَ الذِّين قالوا: إن الله هو المسيحُ بن مريم).
ألا يكفينا لفظ الإسلام والإيمان، وأهل السنة وجماعة المسلمين؛ ليكون ذلك شعار لنا للمرحلة، ولكل مرحلة بدلاً من الشعارات، التي تفرق أكثر مما توحد.
________________________________________
* على هامش مؤتمر الوسطية منهج حياة(/1)
تسدُّ إذا حمَّ الحمامُ المذاهبُ
تسدُّ إذا حمَّ الحمامُ المذاهبُ وَيعيي البرايا فوتُ ما اللهُ طالبُ
و أنتَ وَما في الخلقِ منكَ معوضٌ لهمْ عوضٌ منْ كلَّ ما هوَ ذاهبُ
أرى غيرَ الأيامِ تلعبُ بالورى فلا زلتَ محروساً وَلاَ جدَّ لاعبُ
هوى كوكبٌ زهرُ الكواكبِ مذهوى ففارقَ مثواها عليهِ نوادبُ
وَلوْ لمْ يراعِ الأفقُ حقَّ جوارهِ لما شيعتهُ بالبكاءِ السحائبُ
أعبرُ بالتذكيرِ عمداً وَإنني وَما إنْ تعديتُ الكنايةَ هائبُ
وَليسَ لما أخفى إباؤكَ مظهرٌ وَليسَ لمنْ سربلته الصونَ سالبُ
وَكمْ مظهرٍ منْ فضلهِ وَهوُ مضمرٌ وَكمْ شاهدٍ منْ مجدهِ وَهوُ غائبُ
إذا ما سماءُ المجدِ لمْ يهوِ بدرها فأهونْ بأنْ تنقضَّ منها الكواكبُ
فدتْ سائرُ الأرواحِ ملكاً فداؤهُ وَطاعتهُ فرضٌ على الناسِ واجبُ
لئنْ ظفرتْ أيدي الخطوبِ ببغيةٍ فما زلتَ تفري وَالخطوبُ الضرائبُ
وَلوْ أنَّ صرفَ الدهرِ يثنى بقوةٍ لعاودَ عنْ هذا الحمى وَهوَ خائبُ
وَلوْ كانَ شخصاً صدهُ عنْ مرادهِ مؤللةٌ زرقٌ وَبيضٌ قواضبُ
وَلوْ أنهُ جيشٌ كثيرٌ عديدهُ لقارعهُ منْ كلَّ أوبٍ كتائبُ
ترى نزهةَ الأبصارِ وَهيَ مواكبٌ وَهادمةَ الأعمارِ وَهيَ مقانبُ
وَما هيَ إلاَّ عزمةٌ منكَ صدقةٌ وَلاَ الصبرُ مغلوبٌ وَلاَ الهمُّ غالبُ
وَعزمكَ قدْ أفنى حماةَ ممالكٍ تطاعنُ شزراً دونها وَتضاربُ
ممالكُ قدْ دوختها بعدَ ما صفتْ مشاربُ فيها وَاطمأنتْ مساربُ
فحزتَ مدى قدْ عاودتْ دونَ نيلهِ أمانيُّ أهلِ الأرضِ وَهيَ لواغبُ
لئنْ ناسبتكَ التركُ فرعاً وَعنصراً فما لكَ في حوزِ العلاءِ مناسبُ
تحلى زمانٌ أنتَ فيهِ محاسناً عواطلُ منهنَّ السنونَ الذواهبُ
وَأنتَ الذي ما إنْ يزالُ مظفراً إذا ما التقتْ آراؤهُ وَالنوائبُ
لقدْ كذبتْ مذْ ذدتَ عنا ظنونها فلا صدقتْ تلكَ الظنونُ الكواذبُ
أذا الفتكاتِ اللائي لوْ لمْ تبحْ بها نفوسُ العدى ما التذَّ بالماءِ شاربُ
تعزَّ بذا العزَّ الأشمَّ فإنهُ طريقٌ إلى حسمِ المساءةِ لاحبُ
وَطيبِ ثناءٍ طبقَ الأرضَ فاكتستْ مشارقها منْ عرفهِ وَالمغاربُ
بعزمكَ يا سيفَ الخلافةِ يقتدى فلا ترِ خطباً أنهُ لكَ غاصبُ
أنلنا بتركِ الهمَّ يمضي لشأنهِ منانا فكمْ نيلتْ لديكَ الرغائبُ
وَذللْ عصيَّ النومِ بالسطوةِ التي أرحتَ بها نومَ الورى وَهوُ عازبُ
وَهبنا الأسى فيما وهبتَ فإننا تهونُ علينا ما بقيتَ المصائبُ(/1)
تسعة أسباب لكظم الغيظ!
سلمان بن فهد العودة
كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه، وهناك عشرة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس:
أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.
قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)[آل عمران: 159].
وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: من الآية159].
وهؤلاء هم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم-، والسابقين الأولين؛ فكيف بمن بعدهم؟!
وكيف بمن ليس له مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الناس؛ سواء كان من العلماء أو الدعاة أو ممن لهم رياسة أو وجاهة؟!
فلا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق.
َقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لِرَجُلٍ شَتَمَه: "يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ".
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ".
وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه؛ فدعا له وأمر له بجائزة.
فلا بد من تربية النفس على الرضا، والصبر، واللين، والمسامحة؛ هي قضية أساسية، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليمًا.
وبإسناد لا بأس به عن أَبي الدَّرداءِ قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّما العلمُ بالتعلُّم، وإِنما الحِلْمُ بالتحلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشرَّ يُوقَه ُ".
فعليك أن تنظر في نفسك وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين، وتتذكر أن تحية الإسلام هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا، بل قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)[النور: من الآية61].
وأن نقولها للصبيان والصغار والكبار ومن نعرف ومن لا نعرف.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ" أخرجه البخاري ومسلم .
وعن عمار رضي الله عنه قال:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ"
لهذه التحية معان، ففيها معنى السلام: أن تسلم مني، من لساني ومن قلبي ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول ولا بفعل، وفيها الدعاء بالسلامة، وفيها الدعاء بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة… هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين.
ثانيًا: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو.
ولهذا قال بعض الحكماء: "أحسنُ المكارمِ؛ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ"، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه؛ غفر له وسامحه،(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى:43].
وقال صلى الله عليه وسلم لقريش :"مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟" قَالُوا : خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ".
وقال يوسف لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92].
ثالثًا: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام.
لَنْ يَبْلُغَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ عَظمُوا *** حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لأقْوَامِ
وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الأَلْوَانَ مُسْفِرَةً *** لا صَفْحَ ذُلٍ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلامِ
أي: لابد أن تعوِّد نفسك على أنك تسمع الشتيمة؛ فيُسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة عريضة، وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ.
وَإِنَّ الذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي *** وَبَيَن بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَا(/1)
فَإِنْ أَكَلُوا لحَمْي وَفَرْتُ لُحُومَهُم *** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيم عَلَيهِم *** ولَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
رابعًا: طلب الثواب عند الله.
إنّ جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله- سبحانه وتعالى- لها ما لها عند الله -عز وجل- من الأجر والرفعة.
فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ "، والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئًا، وأعتقد أن أي واحد يستطيع أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن يتغير الحال بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين فتفاجأ بأن بين القول والعمل بعد المشرقين.
خامسًا: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ.
وقد قال بعض الحكماء: "احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه".
وقال بعض الأدباء: "مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ".
وَقَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ:
وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ *** تُرِقُّونَ مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ
أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ *** بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ
وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي فَقَهَرْتَنِي *** هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ
وقال غيره:
سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ *** وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ
فَمَا النَّاسُ إلاّ وَاحِدٌ مِنْ ثَلاثَةٍ *** شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ
فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ *** وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لازِمُ
وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا *** أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لائِمُ
وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا *** تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ
وفي حديث خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وقد ردوه شر رد.. تقول عائشة – رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ : " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ؛ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ! فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " أخرجه البخاري ومسلم .
سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.
إن هذه العضلة التي في صدرك قابلة للتدريب والتمرين، فمرّن عضلات القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرّب أن تملأ قلبك بالمحبة!
فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعًا فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة.
فمرّن عضلات قلبك على التسامح في كل ليلة قبل أن تخلد إلى النوم، وتسلم عينيك لنومة هادئة لذيذة.
سامح كل الذين أخطؤوا في حقك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك..انهمك في دعاء صادق لله -سبحانه وتعالى- بأن يغفر الله لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم..؛ ستجد أنك أنت الرابح الأكبر.
وكما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم بضع مرات أو أكثر من عشر مرات؛ لأنك تواجه بهما الناس؛ فعليك بغسل هذا القلب الذي هو محل نظر ا لله -سبحانه وتعالى-!(/2)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) أخرجه مسلم.
فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة.
اغسل هذا القلب، وتعاهده يوميًّا؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد، والكراهية، والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيودًا تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل، ومن أن تتمتع بحياتك.
سابعًا: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم.
حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً؛ لَسَمِعْت عَشْرًا !
فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا؛ لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً !
وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الأَذَى *** وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقَا
فَتَنْدَمَ إذْ لَا تَنْفَعَنكَ نَدَامَةٌ *** كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقَا
وقال آخر :
قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ *** حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ
وبالخبرة وبالمشاهدة فإن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك, ووقتك, وقلبك؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام : "فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا"[مريم: من الآية26].
والكلام والأخذ والعطاء، والرد والمجادلة تنعكس أحيانًا على قلبك، وتضر أكثر مما تنفع.
ثامنًا: رعاية المصلحة؛ ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أخرجه البخاري.
فدل ذلك على أن رعاية المصلحة التي تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع, وتجنب المخالفة هي السيادة.
تاسعًا: حفظ المعروف السابق, والجميل السالف.
ولهذا كان الشافعي - رحمه الله- يقول: إِنَّ الْحُرَّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَ لَفْظَةً.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ ) وأمثلة ذلك كثيرة.
المصدر : الإسلام اليوم(/3)
تسونامي ومشكلة الشر والنجاة من البلاء
1\2
بقلم : د. يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
http://www.yehia-hashem.netfirms.com
يدعونا مبدأ الذاتية الإسلامية إلى تصحيح ما جرت عليه عادة المسلم في توجهه إلى ربه في طلب النجاة من البلاء ، وبخاصة في عصور التغريب ، والجهل بالمنطلقات الأساسية للإسلام.
إن الأمر يدعو إلى تجلية البدهيات والأساسيات الإسلامية ، حول هذا الموضوع ، تلك التي تاهت عنها أقدام المسلمين المعاصرين ، وهم الذين يجأرون اليوم بطلب النجاة ، وهم في واقع طلبهم هذا قد يرتكبون إثما جديدا يبعدهم عن النجاة .
إن الأمر يحتاج إلي تجلية أساسيات الموضوع وأولياته : ما هو تصور المسلم لمعنى النجاة ، وارتباط هذا المعنى بمعنى الفلاح ؟ إمكانات النجاة ؟ نجاة مَن ؟ من أي شيء ينجو ؟ ممن يطلب ؟ مقاييس النجاة التي بينها مالك النجاة وأهمية الالتزام بها عند الطلب ؟ مسئولية الأمة في النجاة ؟
وللإجابة على هذه الأسئلة لابد من معالجة إسلامية لمشكلة الخير والشر كمدخل ضروري لبحث الموضوع .
وهنا يمكن القول بأن مشكلة الخير والشر في الفكر البشري والفلسفة ما تزال هي المشكلة التي يتحصن بها الإلحاد في محاربته لعقيدة الألوهية ، بعد أن زالت تقريبا في العصر الحديث الشبهات الأخرى التي يثيرها ضد الإيمان بالله تعالى .
لقد زالت - أو تكاد - شبهات الإلحاد ضد الاعتقاد بالغيبيات بعد أن أصبحت المادة نفسها في نظر العلم الحديث شيئا غير مادي .( أنظر مقالنا بالشعب لتاريخ 17\8\4 بعنوان " العلمانية ودورها في إنشاء ديانة شمعية ميتة )
وزالت - أو تكاد - شبهات القول بكفاية القوانين التي تحكم التطور الطبيعي ، بعد ما تبين علميا أن ما يسمى " قوانين الطبيعة " ليست حتمية ، وتبين فلسفيا أن قوانين تطورها ليست ذاتية إذ هي في حاجة إلى عناية وتخطيط وقصد وإرادة لا تملك المادة الطبيعية شيئا منها.
وزالت - أو تكاد - شبهات القول بكفاية العلم التجريبي بعد ما تبين فشله في تلبية أشواق الإنسانية إلى المعرفة والقيم ، وأصبح كثير من المفكرين العصريين يعلنون : أنه ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان . وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله
لكن شبهة وجود الشر في العالم ما تزال موضع الاستغلال من أعداء الدين يقول هرمان راندال في كتابه ( تكوين العقل الحديث ج2ص 244 وما بعدها ) : ( والحقيقة أنه لا يمكن أن يوجد اعتراض علمي على تفسير مجرى الطبيعة كعملية إلهية …. والاعتراض الواحد الكبير على مثل هذا التفسير هو مشكلة الشر العريقة في القدم )
ويفسر هريرت سبنسر وجود الشر تفسيرا خيريا بنظريته الصارمة في التطور – منطلقا من إرادة الإلحاد - حيث يقول ( إن فقر العاجزين ، والمصائب التي تنصب على الغافلين ، ومجاعة العاطلين ، والضربات التي يسددها الأقوياء إلى الضعفاء .. هذه كلها تدابير طيبة بعيدة النظر ، وإنه من الصعب علينا أن نتقبل أن يأتي عامل عديم المهارة لا يستطيع التفوق رغم جهوده كلها فيلحق الفقر بصانع ماهر …. ولو نظرنا إلى هذه الأقدار القاسية غير منفصل بعضها عن بعض ، بل على ضوء مصالح الإنسانية الشاملة لرأيناها منطوية على أسمى الإحسان ) ثم يقول : ( إننا لا نعتبره عطفا حقيقيا من الأم أن تعمد إلى إرضاء طفلها بالحلوى بشكل يضر بصحته حتما ، كما أننا نعتبر ه نوعا سخيفا جدا من الرحمة ، تلك الرحمة التي تدفع الطبيب إلى ترك داء المريض يستفحل إلى درجة مميتة لئلا يؤلمه بإجراء عملية جراحية ، ويجب أن ننعت بنفس الوصف أولئك المحسنين المزيفين الذين يحاولون أن يدفعوا البؤس الحاضر فيوقعوا الأجيال المقبلة في بؤس أشد ، ويجب أن ندخل في هذه الزمرة جميع أنصار قانون حماية الفقراء ؛ إن أصدقاء المعوزين هؤلاء ينكرون تلك الضرورة القاسية التي إذا سمح لها بأن تفعل فعلها تصبح حافزا شديد الوخز للكسالى ،ولجاما قويا للمتشردين ، وإنما يدفعهم إلى إنكارها ما تسببه من عويل ونواح هنا وهناك . وهؤلاء الأشخاص بسطاء التفكير إذ يعمون عن أن المجتمع في كل النظام الطبيعي ينفي من جسمه باستمرار أفراده المرضى ، والأغبياء والكسالى المترنحين ، الكفرة !! ، إنهم إذ يعمون عن هذه الحقيقة رغم حسن نواياهم ، يقترحون القيام بتدخل في مجرى النظام الطبيعي ، من شأنه لا أن يوقف عملية التصفية فحسب ، بل أن يزيد من الفساد … وهكذا نرى هؤلاء الأشخاص الذين يرون الحكمة في التنهد ، وإظهار الحزن ،وهم يحاولون القضاء على الآلام المفيدة التي تحيط بنا ، إنما يورثون الأجيال القادمة لعنة متزايدة باستمرار ) أنظر المصدر السابق ، ترجمة جورج طعمة ج2 ص 480\ 481 ، هكذا كان الحل لمشكلة الشر عند هربرت سبنسر بعيدا عن هدي الله .(/1)
أما برتراند رسل فإنه بعد أن يجد نفسه أمام القانون الثاني للديناميكا الحرارية ، وما يدل عليه من حدوث العالم ، وما يقضي به من الإقرار بالصانع وبعد أن يرتكب حماقة التملص من حصار هذا القانون بما يشبه الهذيان ( أنظر كتابه " مجموعة عالمنا المجنون " ترجمة نظمي لوقا ص 70 ) نراه يحاول أن يستند إلى مشكلة وجود الشر في العالم لإنكار القول بوجود الله ، يقول في أسلوب انطباعي تهريجي ( بعض الناس يتعزون بفكرة أن الله إذا كان قد صنع العالم - أي بوجود الشر فيه - فقد يعيد بناءه حين يتم له الانهيار - يشير في سخرية إلى حقيقة الآخرة - وإنني - هكذا يقول - لا أرى أن عملية كريهة يمكن أن تقل كراهيتنا لها بأن نفكر في إمكانية إعادتها إلى مالا نهاية)
ومن الواضح أن رسل لم يكن جادا وهو يسوق اعتراضه على وجود العالم على هذا النحو التشاؤمي المطلق ، ذلك لأن رسل يناقض نفسه عندما يتسع أفقه إلى حدود ينظر فيها إلى العالم نظرة التفاؤل والقبول ؛ ذلك ما نجده في مواضع أخرى ، إذ يقول : ( إن العالم زاخر بشتى الأشياء : بعضها جميل ، وبعضها قبيح ، وأجزاء تبدو رديئة وأجزاء تبدو حسنة ) المصدر السابق ص 81 ، ويقول : ( إني لا أضع حدا فاصلا بين الخير والشر ، بل إني أرى أن الخير في بعض الأحيان قد ينقلب إلى شر ، والعكس طبعا صحيح .. ) المصدر السابق ص96 وهو ينعي على من يشكون من شقائهم في هذا العالم ، فيقول : ( وجملة القول أن أسباب الشقاء ترجع إلى أساس مشترك ، هو الحرمان في الصغر من لذة طبيعية ، تضخمت أهميتها مع التقدم في العمر ، وانعدام التوازن في الاتجاه النفسي مع الشعور بالضياع ) تراه يحلل نفسه فرويديا ؟؟! أنظر المصدر السابق ص 154 ، ثم إنه يقول ( فالعقل لا يمكن أن يحظر علينا السعادة ، بل إني أعتقد أن هؤلاء الذين يرجعون شقاءهم إلى فكرتهم عن الكون أشبه بمن يضعون العربة أمام الجواد ، فهم في الأصل أشقياء لسبب آخر لا يدرون ما هو ، وهذا الشقاء هو الذي يجنح بهم إلى التشبث بأوجه النقص في عالمهم ) المصدر السابق ص155 ، ثم يستعرض تشاؤم سليمان الحكيم في سفر الجامعة ، ويحلل أسبابه ، ويبطلها جميعا ، ( المصدر السابق من ص 159 إلى 164 ) ، بل إنه ليذهب إلى أبعد من ذلك إذ يقرر أن " النقص " من عوامل الحصول على السعادة ، إذ يقول : ( لابد لحصول السعادة من عنصر لا غنى عنه ، وهو شعورك أن شيئا ينقصك ويسعدك أن تحصل عليه ) المصدر السابق ص 159 ، وإذن فإن رسل ليس جادا ولا مخلصا ولا صادقا في ادعائه أن ما عليه العالم من شرور هو سبب رفضه لفكرة وجود الله ، إن الأمر كما يقول هو عنه : ( مرد هذا من غير شك إلى ضعف الشعور الديني لدي ) المصدر السابق ص 71 ، وكما يقول هو عن سير أرثر أدنجتون ( ليس من سبب يمنعه من ذلك – أي من الإيمان بوجود الله - إلا عدم حبه لهذه الفكرة ) المصدر السابق ص 69 . ونحن غير معنيين بالرد التفصيلي عليه في هذا الموضع ، ونرى فيما نذكره من النقاط العامة فيما يلي كفاية بالنسبة لجميع زوايا الموضوع .
وهنا يمكننا أن ننطلق من عدة مبادئ في مواجهة هذه الشبهة أعني شبهة الشر :
أولا : أن شعورنا بوجود الشر في العالم ناشئ من مشكلة تواجهنا من خلال نظرية المعرفة ، وليس من نظرية في الوجود ، - قارن ذلك باعتقاد المسيحية أن الإنسان شرير بطبعه : كتاب تكوين العقل الحديث لهرمان رانال ص 231 إلى 245 - وبعبارة أخرى أن هذا الشعور لا يرجع إلى إدراك موضوعي لوجود ما يسمى شرا ، ولكنه راجع إلى محدودية قدرتنا الإنسانية في المعرفة ، ذلك أن إمكانية الإنسان في مجال المعرفة محدودة بحدود ضيقة من مجال الكون والأرض والإنسان ، وإذن فليس من صلاحية هذه المعرفة أن تحكم على الصورة الكلية الشاملة ، وكما نعرف فإن المتطلع إلى صورة ما لا يمكنه الحكم عليها بالجمال أو بالقبح ، بالخير أو بالشر ، بمجرد رؤية بقعة منها في هذه الزاوية أو تلك ، ولكن عليه - إذا أراد أن يحكم عليها من خلال نظرته هو - أن ينظر إليها نظرة شاملة من جميع الزوايا ، وهو شرط لا يمكن تحقيقه من خلال المعرفة الإنسانية المستقلة ، وهنا يأتي مغزى قصة الخضر مع سيدنا موسى عليهما السلام ، حيث كان موسى عليه السلام يغير حكمه على الصورة التي تعرض له عندما يكشف له عن الجانب الخفي منها .
ثانيا : أن شعورنا بوجود الشر ناشئ من ممارسات لنا - فرديا أو اجتماعيا - خارج النظام الذي انطبع عليه نسيج العالم ، وحيث إن هذا النظام هو الذي يتيح لنا أن نجني من العالم خيره ، فإن الخروج عليه - طلبا لخير جزئي موهوم - لابد من أن يؤدي إلى إخلال بما وضع عليه هذا النظام . وكما يقول جورج باركلي - وهو رجل دين وفيلسوف إنجليزي -
( إنما يريد الله النظام محبة بنا ، لكي نستمد من التجربة توقعا مفيدا في أفعالنا المستقبلة ) . فالذي يطلب الخير من النظام بالخروج عليه يرتكب تناقضا نظريا وعمليا في آن .(/2)
ويترتب على ذلك القول بأن شعورنا بوقوع الشر _ في الدائرة الفردية - يكون في كثير من الأحيان نتيجة التناول الخاطئ بعيدا عن النظام الموضوع أصلا لخيره ، وعلى سبيل المثال فالسم موجود ، وهو خير إذا تناولته بطريقة صحيحة ، وهو شر إذا تناولته بطريقة خاطئة ، وإذن فالشر وصف لعلاقة قابلة للتغيير بين موجودين ، وليست وصفا لموجود موضوعي .
ولاضمان ضد هذا التناول الخاطئ إلا إذا تخلصنا من خير أعظم : وهو حرية الإنسان بخيريتها من ناحية ، واطراد النظام بخيريته من ناحية أخرى .فمرجع الأمر هنا إلى اختيارية الإنسان ، وخيرية هذه الاختيارية ، فالذي يطلب الخير بالحصول على هذا الضمان يطلب شرا ويرتكب تناقضا أيضا .
وما على الإنسان لكي يستفيد بإمكانات الخير في هذا النظام إلا بأن يمتثل - باختياره أيضا - لتعليمات واضع هذا النظام ، وهنا يصبح الإيمان والتسليم هو الطريق للخير .
ثالثا : وإذا وصلنا إلى هذه النقطة يصبح من الميسور إدراك خيرية ما يقع مخالفا لرغبة الإنسان سواء من خلال الرؤية الواقعية الفردية لأحداث الحياة - فقد عزيز مثلا - أو من خلال الرؤية النظامية لأحداث الطبيعة - زلزال مثلا - لأن هذا الحدث - فضلا عن جريانه في مجرى النظام بخيريته البناءة - مشمول في الرؤية الفردية وما يترتب عليها من ألم ، بانضمام ما تقرره الرؤية الدينية من تعويض لهذا الألم ، _ في الدنيا أو الآخرة أو كليهما يتحول الألم به إلى مصدر للخير، يتمنى المرء أن لو كان قد أصيب بأضعافه من قبل ، كسبب لمضاعفة التعويض والثواب .
رابعا : إنه وإن جاز لبعض المفكرين إنكار وجود الخير نظريا فإنهم مهما كانت آراؤهم النظرية .. تراهم يضمنون سلوكهم الفعلي إيمانا بالخير الذي يطلبونه لأنفسهم ، ويرجع سبب الغموض في تصور الفرد عن الخير العام في مثل هذه الحالة لا إلى عدم وجود هذا الخير العام ، ولكن إلى أن خبرتنا هي قبل كل شيء محدودة معقدة ، ونحن لا نستطيع أن نعرف الخير إلا بقدر ما نخبره ، وهناك بالتأكيد ضروب من الخير لم تحط بها خبرتنا ، ولابد هنا من نقل قضية التسليم من مجال الإيمان العملي الذاتي الساذج أو الطفولي إن صح التعبير - إلى مجال الإيمان العملي الذاتي الديني رفيع المستوى ، أي بأن يكون التسليم العملي هنا من أجل الخير الذاتي في خلاص الذات فيما بعد الموت ، من المصير الذي أعد ضمن نظام الله في الكون للخارجين على أوامره ونواهيه ، وهنا يصبح استهداف الخير الذاتي الفردي شاملا للعمل من أجل الخير العام ، من حيث إن أوامر الله ونواهيه تحرض على هذا الخير العام وتحرص عليه وتجازي عليه .
خامسا : ومن خلال القيمة الفردية للإنسان لا مفر أمامه عمليا من إيمانه بالخير ، ولو أن إنسانا رفض هذا الإيمان لاستحالت حياته ، لأن رفضا كهذا يهدم أساس حياته كله ، إذ لا يكون لها قيمة أو مبرر ، ولو أن إنسانا أكد استعداده لذلك لا بشفتيه ولكن عمليا لافتقد كل فرصة لإجراء هذا الحوار .
سادسا : ومن خلال علاقة الحب يجد الإنسان مفهوم الخير المطلق ؛ وهو وإن لم يختبر هذا المفهوم عمليا في نطاق العلاقات الإنسانية .. لكن لنا أن نتصور للحب مدارج ، فإذا كان مفهوم الخير ناقصا في مدارجه الأولى فإن هذا النقص يزول بالصعود إلى أعلى هذه المدارج في مقام الحب الإلهي .
سابعا: وكجزء من النظام واكتماله في الرؤية الشاملة ، ندرك أن النقص ليس شيئا وجوديا وإنما هو مسألة اعتبارية ، ومن ثم لا يوصف بالشرية أو الخيرية ، كما ندرك أن النقص بمضمونه الاعتباري يدل على الكمال ولا يلغيه ، كما أن وجود الحادث لا يلغي وجود المحدِث ، بل يؤكده ، وأنه لا يجوز في ميزان المنطق ، ولا في ميزان القيم أن يقوم الناقص بمراجعة أفعال الكامل أو تقييمها ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) .
ولاشيء موجود إلا وعند الله كماله ، يتم له كماله بالانخراط في نظام الله ، تحت عنايته ورعايته وطاعته ، وإذن فإن الإنسان لديه الطريق للتخلص من الشر بالاعتصام بالله والاقتدار به .
ثامنا : في إطار إدراك الإنسان لنسبيته - سواء بحسب نظرية المعرفة ، أو بحسب نظرية الوجود - عليه أن يدرك أنه ليس كيانا قائما بذاته ، وإنما هو جزء من كل هو هذا الكون
وكونه جزءا من هذا الكل ينطوي على تحقيق الخير له .
وكونه جزءا من هذا الكل يقتضي مراعاة قوانين الكل ، والانسجام مع الكل .
ومصدر شعور الإنسان بالشقاء أو الوقوع في براثن الشر .. أنه في الوقت الذي يتعامل فيه مع الكل باعتباره جزءا منه ، ليستفيد من هذه العلاقة …يرغب في أن يأخذ وضع الكائن القائم بذاته ، الذي من حقه وحده أن لا يعطي وزنا لخطوط مسيرة الكل ، ويرى فيها - إذا لم تنسجم مع إرادته - مساسا بذاته .(/3)
تاسعا : وفي نظام الله للكون يتم توظيف الحرمان للحصول على النوال ، بل نقول إنه - في نطاق محدودية الناقص ونسبيته وقوانين حصوله على المعرفة - يصبح الحرمان هو الطريق الوحيد - معرفيا - للحصول على النوال ، ذلك أن الحرمان الذي يحس به الإنسان – آدم - إنما تقرر أصلا لخيريته من حيث إنه يتم لتمكينه من الشعور بالنعيم إذ لا شعور بالنعيم بغير تجربة للحرمان .
بهذه الحقائق :
(1) خيرية النظام الكوني ، والحرية الإنسانية .
(2) جهل خبايا الخير والشر ، إلا أن يكون بكلمة ممن يملك المعرفة المطلقة والعلم الكامل وهو الله تعالى .
(3) نسبية المعرفة الإنسانية القاضية بتوظيف الحرمان من أجل إدراك النوال .
(4) انضمام التعويض والثواب الإلهي إلى موازين تقدير ما يحدث للإنسان من أحداث ، إن خيرا وإن شرا .
(5) جزئية الوجود الإنساني بالنسبة للكون ، وخيرية هذه الجزئية للإنسان ،وشرية انتقاضه على الكل الذي هو جزء منه
(6) استقرار مفهوم الخير عمليا في مواجهة الشكوك النظرية البحتة .
بهذه الحقائق تزول من الفكر البشري شبهة الشر كأساس للإلحاد .
كما تزول منه حيرته في تقدير الخير والشر .
ويستقر لديه مرجعية الله وحده في يقينية هذا التقدير .
فالله وحده - بما له من علم محيط بكل شيء ، شامل لكل شيء - ، هو وحده الذي يمكنه أن يحقق الخير لنا .
وهو وحده الذي يعلم - بكماله - طريق تكميل الناقص ، وتمكينه من إدراك الخير : بشرط التسليم له سبحانه ، وهنا بالتحديد يأتي دور البلاء .
****
وطبقا للذاتية الإسلامية فإننا نجد للبلاء موقعا في خريطة الإنسان في العالم : ويتأمل المتأملون في معنى الكارثة أو معنى الموت بين كونه - على سبيل الاختصار - : ابتلاء للصبر ، أو ابتلاء للتكفير عن السيئات ، أو ابتلاء للعقاب ، أو ابتلاء لادخار الحسنات ، أو ابتلاء للتذكير بقوانين الله في الطبيعة أو قوانينه في التاريخ ، أو ابتلاء للتذكير بجبروت الخالق ، مقارنا بألاعيب المخلوق .. ولكل نصيبه النوعي من هذا الابتلاء حسب موقعه أو مقامه عند الله . أنظر مقالنا بموقع شهود http://www.shohood.net/main.asp بتاريخ 25\2\2005
وتفصيلا لذلك نجد أنه قد :
(1) يأتي البلاء لهدف بنائي في زرع الإيمان وترقيته كلما مارسنا الإيمان ، أو توغلنا فيه .
والأنبياء مشمولون في هذا البلاء
يقول الله تعالى ( ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد ) 3- 4 البلد .
ويقول تعالى ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ) 88 التوبة
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في جوابه لمن سأله : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل ، فالأمثل ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة رواه الترمذي في سننه وقال : حسن صحيح
وفي مسند أبي داود الطيالسي بسنده عن عياض المجاشعي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : أن الله قال له : ( يا محمد إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ) .
وفي سنن ابن ماجة بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه ، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف ، فقلت يا رسول الله : ما أشدها عليك ! قال :( إنا كذلك يضعف لنا البلاء ، ويضعف لنا الأجر ) ، قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : ( الأنبياء) قلت : يا رسول الله ثم من ؟ قال : ( ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر ، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ! )
وفي مسند أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : وضع رجل يده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء يبتلى بالقمل حتى يقتله ، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيخونها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء ) *
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ) رواه ابن ماجة في سننه
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) وراه الترمذي في سننه وقال : حسن صحيح *
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض . ) رواه الترمذي في سننه(/4)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقال اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ، ثم يقال له : أي فلان هل أصابك نعيم قط ؟ فيقول : لا ، ما أصابني نعيم قط ، ويؤتى بأشد المؤمنين ضرا وبلاء فيقال : اغمسوه غمسة في الجنة فيغمس فيها غمسة ، فيقال له : أي فلان هل أصابك ضر قط أو بلاء ؟ فيقول ما أصابني قط ضر ولا بلاء . رواه ابن ماجة في سننه .وفي مسند أحمد مثله بمعناه
و في صحيح البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة ، فأعطيتها إياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، ولم تأكل منها ، ثم قامت ، فخرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، فأخبرته ، فقال : ( من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار )
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ، ثم صبره على ذلك ، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى ) رواه أبو داود في سننه .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي في سننه بسنده ، وفي مسند أحمد مثله بمعناه
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها ) رواه البخاري في صحيحه
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا في إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا : أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك ) رواه ابن ماجة في سننه .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجبت من قضاء الله عز وجل للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته ) وفي رواية أخرى : ( … إلى فيه ) رواه الإمام أحمد في مسنده
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك : فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها ) رواه الإمام أحمد في مسنده .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يتوفى لهم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته للمصيبة ) رواه الإمام أحمد في مسنده
( والحنث بلوغ الحلم وسن التكليف )
وفي صحيح البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل قال له : سألتك كيف كان قتالكم إياه ؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول ، فكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة ) .
وفي هذا السياق من سياقات البلاء يأتي قوله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثم أحيا ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل ) فكان أبو هريرة يقولهن ثلاثا أشهد بالله ، رواه البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه .
ولهذا يمكن القول بأن أعلى درجات هذا السياق ينتهي في أعلاه بصنع الإنسان الكامل في مثله الأعلى : محمد صلى الله عليه وسلم
(2) ويأتي البلاء لهدف الكشف والإظهار كلما ادعينا " الإيمان أو تفاخرنا به .
يقول الله تعالى (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) 1-3 الإنسان
ويقول تعالى : ( ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ، أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ، وهو السميع العليم ) 1-5 العنكبوت
( 3) أو يأتي البلاء لهدف وضع الإيمان في موضعه من الجدية اللازمة كلما استسهلنا الإيمان ، أو استخففنا به .
يقول تعالى: ( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ، ثم تاب الله عليهم ، ثم عموا وصموا كثير منهم ، والله بصير بما يعملون ) 71 المائدة .
ويقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) 142 آل عمران
ويقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء ، وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب ) 214 البقرة
ويقول الله تعالى :( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) 154 آل عمران *(/5)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء ، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء ) رواه البخاري في صحيحه .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد ) رواه مسلم في صحيحه
وفي صحيح البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قالت : ( هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم ، وصدقوهم وطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، حتى إذا استيأست ممن كذبهم من قومهم ، وظنوا أن أتباعهم كذبوهم ، جاءهم نصر الله . )
و في صحيح مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها ، فقال لها : ( اتقي الله واصبري ) فقالت : وما تبالي بمصيبتي ؟ فلما ذهب قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذها مثل الموت ، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين ، فقالت : يا رسول الله لم أعرفك ، فقال: ( إنما الصبر عند أول صدمة ) أو قال عند أول الصدمة .
وفي سنن النسائي بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : قال بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ نزلنا منزلا ، إذ نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة ، فاجتمعنا ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطبنا ، فقال : ( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا ، لهم وينذرهم ما يعلمه شرا لهم ، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها ، وإن آخرها سيصيبهم بلاء وأمور ينكرونها ، تجيء فتن فيدفق بعضها لبعض فتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف ، ثم تجيء ، فيقول : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف ، فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر ) .
( 4) وفي التصور الإسلامي يأتي البلاء للمسلمين عقابا :
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ، فقيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ، وبر صديقه وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ن وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القينات والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها … فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء ، أو خسفا ومسخا . ) رواه الترمذي في سننه ، وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب إلا من هذا الوجه ولا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة ، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث ، وضعفه من قبل حفظه ، وقد رواه عنه وكيع ، وغير واحد من الأئمة .
وفي سنن ابن ماجة بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم . )
ويأتي البلاء مخففا كما أخبر الرسول في قوله صلى الله عليه وسلم :
( إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، سألت ربي عز وجل ثلاثا : فأعطاني ثنتين ، ومنعني واحدة ، سألت أن لا يبتلي أمتي بالسنين ، ففعل ، وسألت أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي ) رواه الإمام أحمد في مسنده
(5) ويأتي البلاء - حسب التصور الإسلامي - عقابا ؛ غايته العفو :
ففي مسند أحمد بسنده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ( ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) وسأفسرها لك يا علي ، ( ما أصابكم) من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا ( فبما كسبت أيديكم ) ، والله تعالى أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله تعالى أحلم من أن يعود بعد عفوه .(/6)
وفي موطأ مالك بسنده عن يحيى بن سعيد أن رجلا جاءه الموت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : هنيئا له مات ، ولم يبتل بمرض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ويحك وما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض يكفر به عنه من سيئاته )
وفي مسند أحمد بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا تلا هذه الآية ( من يعمل سوءا يجز به ) قال: إنا لنجزى بكل عملنا ؟؟ هلكنا إذا !! فبلغ ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( نعم يجزى به المؤمنون في الدنيا في مصيبة ، في جسده ، فيما يؤذيه . )
(6) وقد يأتي العفو قبل وقوع البلاء :
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة، ومن أنفق على نفسه أو على أهله ، أو عاد مريضا ، أو ماز أذى عن طريق ، فهي حسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله بلاء في جسده فهو له حطة . ) رواه الإمام أحمد في مسنده
(7) ويقع البلاء مشمولا بالتعويض :
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله عز وجل الحفظة الذين يحفظونه : اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل وهو صحيح ، ما دام محبوسا في وثاقي ، ) رواه الإمام أحمد في مسنده
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة ) رواه الإمام أحمد في مسنده
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قال إذا ابتلي عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة . يريد عينيه ) رواه الإمام أحمد في مسنده .
(7) وقد تكون واقعة البلاء الواحدة عذابا ، وقد تكون رحمة ، بحسب ارتباطها بالعلاقة مع الله تعالى ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون ، فأخبرني أنه : عذاب يبعثه الله على من يشاء ، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين ؛ ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لايصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ) .
(8) ولا نتعجل البلاء :
ففي سنن الدارمي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها لا ينفك المسلمون وفيهم إذا هي نزلت من إذا قال وفق وسدد ، وإنكم إن تعجلوها تختلف بكم الأهواء فتأخذوا هكذا وهكذا ) وأشار بين يديه وعن يمينه وعن شماله
(9) ويستجيب المسلم لفطرته ، ويشجع عليها في طلب العفو: رجاء وعبادة :
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها ، وصوموا نهارها ، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا ، فيقول : ألا من مستغفر لي ، فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلى فأعافيه ، ألا كذا ألا كذا ، حتى يطلع الفجر) رواه أبو داود في سننه بسنده *
****
في ظل هذه المبادئ يتحرك المسلم بين أبعاد خيرية النظام ، وخيرية البلاء معا : بثقة ، وطمأنينة ، وتماسك ، ورباطة جأش …
يخضع في بعض الظروف للمستوى الضروري من إنسانيته ، فيتألم من نوع من البلاء …
ويرتفع في بعض الظروف للمستوى الأرقى في إنسانيته ، فيسعد لنوع من البلاء …
ولكنه في جميع ظروفه تلك : يمارس الخير ، أو يظلله الخير : إن شكر اقترب من مولاه فله أجر هو خير …
وإن صبر ارتفع في صنع ذاته ، وله أجر هو خير …
وإن جزع رجع وآب فله أجر هو خير .
ولكنه في جميع الأحوال يظل - أو ينبغي أن يظل - مرهف الحس ، شديد اليقظة ؛ لقضية الخلود : الخلود في الفلاح والثواب والخير ، والخلود في الخسران والبلاء والشر .
ويكون من شانه أن يتجاوز جميع المربعات الصغيرة في علاقات الخير ، والنجاة ، والبلاء … ليشد انتباهه إلى الخلود .
الخلود في أحدهما : خيرا أو شرا .
وهنا تسعفه مقاييس الإسلام حول هذين الأمرين . وعليه أن يتقيد بهذه المقاييس .
تلك هي قضيته الرئيسية التي تحكم مسيرة حياته كلها : دنيا ، وأخرى .
وفي هذا المعنى يأتي قوله صلى الله عليه وسلم في رواية للإمام أحمد بمسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ( مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل وهو يقول : الله إني أسألك تمام النعمة ، قال يا ابن آدم : أتدري ما تمام النعمة؟ قال دعوة دعوت بها ، أرجو بها الخير . قال : فإن تمام النعمة فوز من النار ودخول الجنة ) .
هنا - وانطلاقا من الذاتية الإسلامية - يجب إضافة مبدأ الخلود عند معالجة الموضوع .
فيصبح الهم الأكبر للمسلم الفوز بالخير الدائم ( الجنة ) .
ويصبح همه الأكبر في طلب النجاة : النجاة من الشر الدائم ( النار ) .
والله أعلم(/7)
تسوية القبر وارتفاعه
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 23/10/1425هـ
السؤال
كيف نوفق بين النهي عن ارتفاع القبر فوق الشبر، والأمر بإعادة ترابه عليه إذا كان إعادة ترابه عليه سيرتفع أكثر من الشبر.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
تحديد مقدار رفع القبر بشبر ونحوه لم يرد بنص من الشارع، وإنما هو من كلام العلماء؛ فهموه من أحاديث النهي عن البناء على القبور، والأمر بتسوية ما ارتفع منها، كحديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: ". . . لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ ". أخرجه مسلم (969). وكفعل الصحابة، رضي الله عنهم، بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فقد جاء في وصفها (أنها ليست بمُرْتَفِعَةٍ ولا وَاطِئَةٍ). وجاء في سنن أبي داود (3215)، والترمذي (1713)، وابن ماجه (1560)، والنسائي (2010)، من حديث هشام بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: "احْفِرُوا وأعمقوا وأَوْسِعُوا. . . ".
ولكن تحديد مقدار هذا العمق لم يرد فيه دليل، فلهذا اختلف في تحديده، فروي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه أوصى أن يعمق قبره قدر قامة وبسطة، وأوصى ابنه عبد الله، رضي الله عنه، أن يعمق قبره قدر قامة، ولا يزاد، واستحسن الشافعي، وأبو الخطاب الحنبلي أن يعمق القبر قدر قامة الإنسان، ورأى الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يعمق القبر قدر السرة فقط، واستحب الإمام أحمد أن يعمق القبر إلى الصدر، وكل هذه النقول والأقوال متقاربة، مبناها على مراعاة تطييب نفوس أهل الميت، وإلا فإن السعة، والعمق في القبر لا تنفع الميت، وإنما ينفعه عمله، ولهذا قال البهوتي في الروض: (وسُنَّ أنْ يُوسَّعَ ويُعمَّقَ قبرٌ بلا حدٍّ، ويَكفي ما يَمْنعُ من السِّباعِ والرَّائحةِ). ومعلوم أنه كلما زادت حفرة القبر زاد ترابها، وقد ورد النهي في سنن أبي داود (3225) والنسائي (2027) عن الزيادة على القبر: نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ أوْ يُزَادَ عَلَيْهِ.
وإذا كان تراب القبر يرد عليه، فإن ما زاد منه يكون تسنيمًا له، وقد يكون التسنيم شبرًا، أو أقل أو أكثر، حسب كثرة تراب القبر الزائد عن الدفن، وبهذا يتبين أن تحديد ارتفاع القبر بشبر أمر تقريبي لا غير. والله أعلم.(/1)
تشريع الجهاد
د. عبد العزيز القارئ 25/2/1424
27/04/2003
قال تعالى: ( أُذِنَ للذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيرِ حَقٍّ إلاَّ أَنْ يًقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَولاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضًهُمْ بِبَعضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) [ 39-41 / الحج ].
هذه الآيات الثلاث رسمت المنهج الكامل للجهاد والدعوة ففيها الكفاية والغنية لمن تدبر وكان فقيهاً:
وموضوعنا في هذا الفصل الآية الأولى، وهي أول آية نزلت في القتال كما قال غير واحد من السلف منهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقال رضي الله عنه: نزلت في محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ حين أُخرجوا من مكة(1) .
وهذه الآية نزلت في طريق الهجرة لما أَخْرجت قريشٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فقد روى الترمذي والنسائي وأحمد رضي الله عنه قال:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أَخْرَجُوا نبيَّهم إنا لله وإنا إليه راجعون لَيَهْلِكُنَّ. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير ).
قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفْتُ أنه سيكون قتال(2) .
هذا التوقيت في نزول الإذن بالقتال حكمته الكبرى أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، وكانت بادرة ذلك بيعة العقبة الثانية فإنها كانت عقدا ًسياسياً على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال تحت قيادته، وتسليم مقاليد السلطة له.
بهذه البيعة بدأت مرحلة الدولة النبوية، فكان نزول الإذن بالقتال وهو في طريقه لمقر الدولة لِتَسَلُّم السلطة.
فإذا أضفنا لهذه الحقيقةِ الحقيقةَ السابقة عليها وهي مَنْعُ النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة بمكة منعاً صارماً حاسماً من القتال مع شدة العدوان الواقع عليه وعلى أصحابه؛ فإننا نقرر بلا أي تردد أن القتال ليس من أعمال الدعوة لكنه من أعمال الدولة.
معنى هذا الكلام أنه عندما يكون أهل الدعوة في مرحلة البيان والبلاغ والتكوين؛ لا سلطة بأيديهم، ولا قوة تسندهم، ولا دولة تتولى نصرتهم وحمايتهم حتى يُبَلِّغُوا أَمْرَ ربهم، فلا يجوز أن يمارسوا القتال ولو دفاعاً عن أنفسهم ضد القهر والاضطهاد والإيذاء بل الواجب عليهم الصبر والمصابرة والدفع بالتي هي أحسن، وتحاشي الصدام المسلح . .
ولكن ليس معنى هذا أن يُسْقِطوا الجهادَ من شريعة الإسلام كما يفعله اليوم بعض ( دراويش الأعاجم )، بل يجب على أهل الدعوة بيان شريعة الجهاد، وبيان سياسة الإسلام، والبحث عن النصرة والمنعة، أي عن سلطة تنصرهم وتتبنى دعوتهم، وتتولى الإعداد للجهاد ، هذا لا يتعارض مع الصبر والكف عن القتال..
لكن لا يُتَصور في عرف الشرع قتالٌ بلا دولةٍ إسلامية، ونعني به جهادَ ( البَدْء ) أما جهاد (الدفع ) فشأنه مبني على دفع المفسدة، فلو دُفِعَتْ بغير القتال لا يَجُوز القتال، ولو كان تَرْكُ جهادِ الدفع أعظمَ مفسدةً وجب الجهاد والقتال.
كما هو حال المسلمين اليوم، هم في ضعف شديد، وتفكك بالغ ولا قيادة مؤهلة حسب شروط الشرع ، والقيادات أيضاً متنازعة، فكيف يقوم جهاد من أي نوع والحال هذه ؟
المسلمون اليوم في حالة الدفاع عن النفس، ولا يجوز أن يلجأوا إلى القتال إلا إذا ثبت أن المصلحة فيه راجحة على المفسدة، وهذا يحتاج إلى فقهاء وعلماء ربانيين يقررون ذلك..
أما جهاد البدء فلا يجوز إلا بوجود دولة إسلامية شرعية تتبنى الجهاد وتعد له الإعداد الكاف...
ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو النبراس في ذلك:
مع كفِّه عن القتال فإنه كان يبحث عن النصرة والمنعة؛ يعرض نفسه ودعوته على القبائل في الموسم؛ باحثاً عَمَّن يصدقه وينصره ويمنعه حتى يبلغ رسالة ربه (3).
فالدعوة تمر بمراحل منطقية(4) تتوافق مع طبائع الأشياء وسنن الله في الكون؛ تبدأ أول ما تبدأ سِرِّية، ثم تكون علنية، وتمر بمرحلة ( التكوين )، والعادة في سائر الدعوات أن هذه المرحلة لا يكون فيها قتال، وإلا فإنها تُسْتَأْصَلُ في مهدها؛ لأنها عادةً ما تكون ضعيفةً بلا قوةٍ تحميها وتمنعها، ثم تأتي مرحلة ( التمكين ) التي هي مرحلة ( الدولة ) .. وهنا تكون بيد الدعوة سلطة وقوة تستعملها للدفاع عن نفسها. .(/1)
هذه مراحل منطقية وليست مراحل زمنية؛ أي ليس معناها أن الدعوة تحت أي ظرف من الظروف لا بد أن تمر بهذه المراحل بالترتيب والموالاة؛ بل قد تختصر المراحل أحياناً، لأن العبرة بالحالة التي تمر بها الدعوة وأوصاف هذه الحالة، وحالةِ المدعوين وأوصافِهِم.
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استغرقت مرحلةُ التكوين فيها ثلاثَ عشرةَ سنة منها ثلاث سنوات من السرية..
لكن قد لا تستغرق دعوةٌ أخرى نفسَ المدة، بل أقلَّ منها، ودعوةٌ أخرى تستغرق أكثرَ، فإذا وَجَدتِ الدعوة في بعض الأمكنة النصرةَ والمنعةَ بعد سنتين أو ثلاث أو أقل، فهل لا بد من استغراق ثلاث عشرة سنة كما حصل لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
كلا، فإن الزمن غير مقصود هنا، وإنما المقصود حصول المنعة، فإذا حصلت منذ وقت مبكر فإن هذا يساعد أكثر على التكوين والإعداد لكن التكوين والإعداد لا بد أن يكتملا قبل الجهاد، فلا تبادر الدولة التي تبنَّتِ الدعوةَ إلى القتالِ قبلَ ذلك وإلا فسوف تفشل، لأن هذين الأمرين من الثوابت الشرعية: ( أعدوا ) قبل ( جاهدوا )، بل إن هذه المسألة من البديهيات. .
قد تستغرق الدعوة في مرحلة التكوين تسعمائة وخمسين عاماً كدعوة نوح عليه السلام، ولم تصل إلى مرحلة التمكين حتى أهلك الله أعداءها بمعجزةٍ هي ( الطوفان ).
لكن ( المعجزات ) هي من خصائص الأنبياء أولاً، ولا تأتي حتى للأنبياء إلا بعد أن يستوفوا (السنن ) الكونية ثانياً، وتسعمائة وخمسون سنة مدة ليست بالقصيرة حتى نقول إنه لم تُستوفَ فيها شروطُ ( التمكين ). .
وربما لا يأتي ( التمكين ) في الجيل الذي بدأت فيه دعوة النبي، فيلقى النبي ربه قبل ذلك. .
قال صلى الله عليه وسلم: " عُرِضت عليَّ الأمم فرأيتُ النبيَّ ومعه الرُّهَيْط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحد .. الحديث )(5).
فهل يقال في هذا النبي الذي لم يتبعه أحد إنه فشل في دعوته ؟! كلا فإن مهمة النبي الأساسية البلاغ والبيان، والبحث عن النصرة، فإن لم يجد ذلك فقد تحققت مهمته بمجرد التبليغ والبيان ( ما على الرسول إلا البلاغ ) [99/المائدة ] ( وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) [ 20/آل عمران ] نريد أن نقول: إن الذين بحثوا عن التمكين قبل التكوين أخطئوا، وإن الذين سعوا إلى الدولة الإسلامية على حساب الدعوة أخطئوا خطئاً " استراتيجياً "، والذين سعوا إلى القتال قبل ذلك كله نقول إضافةً إلى ما ذكرنا: إنهم خالفوا طبائع الأشياء .
ومثل هؤلاء وأولئك الذين ظنوا أنه يجب أن يتحقق لهم التمكين، فإن لم يتحقق أساءوا بالله الظنون، وأصابهم الفتور والإحباط، هؤلاء وقعوا في أمرين: أولهما: تزكية النفس، فإنهم يحسبون أنهم على قصورهم والخلل الذي فيهم يستحقون التمكين، والله تعالى يقول: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) [ 32/النجم ]، وثانيهما: أنهم لم يفقهوا هذه المسألة، فإنه لا يلزم أن يتحقق التمكين في نفس الجيل، قد يؤخر الله التمكين لحكمة يريدها إلى جيل قادم، كما حصل ذلك لكل نبي لم يتبعه أحد وجاء يوم القيامة وحده، مع أنه لم يقصر في أداء رسالته . .
المهمة الأساسية " الاستراتيجية " هي الدعوة، هي البيان والبلاغ وتعليم الناس دين الله، وتعليمهم شرائع الدين وآدابه حتى يعرفوا كيف يعبدون الله ، وكيف يحيون على منهج الله .
والقتال وسيلة لحماية هذه الدعوة كما دلت عليه الآية الثانية من الآيات الثلاث التي صدَّرنا بها هذا الفصل، فهل نقلب الوسيلة إلى غاية، وننشغل بها ولو أدّت إلى القضاء على الدعوة ؟!
المقالة التالية
( مفهوم الجهاد )(1)تفسير ابن كثير ( 3/ 237 ).
(2)رواه أحمد والترمذي والنسائي
وغيرهم / انظر تفسير ابن كثير ( 3/ 237 ) وحاشية الأرنؤوط على جامع الأصول (2/244 ).
(3)أحمد ( 3/ 492 ، 4 / 341 ).
(4)نقصد بالمنطقية أنها متوافقة مع المنهج ومع السنن الكونية ، فهذا الوصف يمكن أن نضع مقابله أو ضده ( الفوضوية ).
(5)مسلم في الإيمان [ج1 / ص 199 / من طبعة عبد الباقي ].(/2)
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
الأستاذ أنور الجندي
تكشفت في السنوات الأخيرة حقائق كثيرة كانت خافية وأذيعت أسرار كثيرة ظلت في طي الكتمان أعواماً وأجيالاً. وقد كان لظهور هذه الحقائق والأسرار أثرها البعيد في مجالات مختلفة وأمور كثيرة وكان أبرز هذه الوثائق "بوتوكولات صهيون" وكانت قد أصبحت كالمسلمات مما استدعى إعادة النظر فيها ومراجعتها من جديد. وكان من أبرز هذه الأمور ما اعترض تاريخ الإسلام الحديث من مواقف ارتبطت بالدولة العثمانية والصهيونية العالمية ومحاولة استيلاء اليهود على فلسطين، ففي خلال هذه الفترة من حياة الدولة العثمانية كانت المطامع المتضاربة بين الدول الغربية من ناحية والصهيونية العالمية من ناحية أخرى قد عملت على حجب كثير من الحقائق وتزييف جانب آخر منها في محاولة عاتية لتمزيق الوحدة الإسلامية للإنالة من الخلافة الإسلامية ولفتح الطريق للقوى الصهيونية إلى فلسطين وإقامة الحواجز الإقليمية العميقة بين أجزاء العالم الإسلامي وخاصة بين أقطار البلاد العربية وذلك حتى تتمكن هذه القوى الجديدة من الوثوب والسيطرة باعتبارها شريكاً للاستعمار الغربي وبديلاً عنه من خلال مطمع عقائدي يرتبط الميعاد وبتاريخ قديم لليهود متصل بها ومن خلال هذه المحاولات الواسعة زيف تاريخ الإسلام الحديث ووضعت خطط وكلمات ومصطلحات أصبحت بمثابة المسلمات التي رددتها كتب المدارس وأبحاث الجامعات ومقالات الصحف على أنها التصور الحقيقي للأمور وكلها تقول: بالسلطان الأحمر والاستعمار التركي والاستبداد العثماني والصراع بين العرب والترك والقومية الطورانية. ومن هنا نشأ تصور ما زال مطروحاً في أغلب كتب التاريخ والأدب العربي وخاصة في المناهج المدرسية والجامعية قوامه:
أن السلطان عبد الحميد كان رجلاً مستبداً ظالماً، وأنه كانت يلقى خصومه بالعشرات في الدردنيل وكانت له قوى ضخمة تشتغل بالجاسوسية وتصادر الحريات.
أن الدولة العثانية كانت دولة مستعمرة سيطرت على البلاد العربية بالقوة وجنت إليها ثمراتها وتركت تلك البلاد فقيرة ضعيفة.
أن الاتحاديين في الدولة العثمانية كانوا قوة تقدمية عصرية بينما كانت القوى الأخرى قوى رجعية متخلفة.
أن دعوة السلطان عبد الحميد إلى الوحدة الإسلامية كان قد تجاوزها الزمن وفات أوانها وأن الدعوات القومية كانت هي أسلوب العصر.
منذ أن عقد مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 م بزعامة الصحفي اليهودي هرتزل وبعد صدور كتاب الدولة اليهودية بقلمه كان قد انفتح مجال جديد للعمل في مواجهة العالم الإسلامي لشق الطريق إلى فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود بها من خلال مخطط القوى الاستعمارية التي كانت قد انطلقت منذ 1799 م إلى مصر تحت اسم الحملة الفرنسية ثم إلى الجزائر 1830 م ثم إلى مصر مرة أخرى 1882 م وإلى تونس قبل ذلك بعام واحد، وفي هذه المرحلة كان الصراع قوياً بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي في المنطقة التيس تضم الدولة العثمانية التي كانت تمثل الوحدة العربية التركية – ولكي تكتمل الصورة فإن هولندا كانت قد سبقت ذلك بوقت طويل بالاستيلاء على الملايو وجاوه وما يطلق عليه الآن إندونيسيا وكانت بريطانيا قد احتلت الهند وكانت أجزاء من الخليج قد سقطت في أيدي إسبانيا والبرتغال ثم ورثتها بريطانيا وكان هذا كله جزءاً من مخطط الاستعمار الغربي الحديث الذي تكامل في نهاية الحرب العالمية الأولى بإيقاع الصراع بين العرب والترك في المناطق الغربية (الحجاز والشام والعراق) وحلول فرنسا وإنجلترا بدلاً من الدولة العثمانية في هذه المناطق بعد معركة أدارتها إنجلترا بقيادة لورنس الذي وصف في يوم من الأيام بأنه ملك العرب غير المتوج.
كان المخطط معداً لأن تعطي فلسطين في هذا المسرح الذي مثلت عليه هذه الرواية كلها للصهيونية العالمية. وأن استيلاء بريطانيا على فلسطين عام 1948 م كان تمهيداً لأن تقع بما فيها المقدس في أيدي اليهود.
ومراجعة الأحداث تنبئ بهذا التخطيط الواسع البعيد المدى الذي بدأ منذ وقت باكر يسبق لقاء هرتزل للسلطان عبد الحميد. وهو في حقيقته صراع بين إرادتين. الإرادة الأولى: هي إرادة السلطان عبد الحميد الذي تولى الملك في سبيل الوحدة في مواجهة الاستعمار تحت اسم الجامعة الإسلامية لتعمل مع جميع مسلمي العالم خارج نطاق الدولة العثمانية ولتوحيد كل القوى والمذاهب والأقطار.(/1)
ولا ريب كانت هذه الحركة مضادة لإرادة أخرى كانت تستهدف تمزيق الدولة العثمانية نفسها وليس لتمكينها من أن تجمع إليها أقطار المسلمين الأخرى التي في خارجها ولذلك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية القوى كلها في سبيل السيطرة على البلاد الإسلامية وتقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد أن عمدت إلى إنهاكها سنوات عدة بالحروب والمؤامرات وحين باتت لقمة سائغة جاء السلطان عبد الحميد ليعقد الخناجر على مقاومة الاستعمار وذللك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية كانت ترى أن الدولة العثمانية هي مدخلها إلى فلسطين وكانت تعد العدة منذ وقت بعيد في بؤرة خطيرة داخل تركيا هي سالونيك التي كانت تتجمع فيها (الدونمة) أولئك الذين دخلوا الإسلام تقية، من يهود إسبانيا الذين هاجروا بعد خروج الحكم الإسلامي منها، والذين كانوا قد أنشأوا المحافل الماسونية لإعداد خطة الانقضاض على الدولة العثمانية. والذين استطاعوا احتواء جماعة الاتحاد والترقي والتغلغل فيها والسطرة عليها ومن ثم استطاعوا بها إقصاء السلطان عبد الحميد وإسقاط مشروعه والقيام على الدولة لتمزيقها والقضاء عليها، ولا عجب ففي ظل حكم الاتحاديين بعد إسقاط عبد الحميد منذ عام 1909 م إلى 1918 م هزمت الدولة في الحرب العالمية وسلمت طرابلس الغرب إلى بريطانيا وفتحت الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
هذه المرحلة الدقيقة الخطيرة من تاريخ الإسلام في العصر الحديث ما زالت تشوبها الشوائب وتحول قوى كثيرة دون الكشف عن حقيقتها، وما زالت الصورة التي رسمتها الصهيونية والاستعمار لها هي الصورة الرسمية القائمة في كتب المدارس والجامعات بالرغم من الحقائق الكثيرة التي تكشفت والتي أزاحت الظلم عن وجه الرجل الكريم السلطان عبد الحميد وعن موقفه.
والحق أنه ليست هناك شخصية في تاريخ الإسلام الحديث هوجمت بمثل ذلك العنف والتعسف الذي هوجم به السلطان عبد الحميد حتى كشفت الوثائق في السنوات الأخيرة ليس عن براءته بل عن بطولته ومن عجب أن أبرز النصوص التي أحقت الحق، جاءت في مذكرات هرتزل التي نشرها باللغة العربية.
ولنعد إلى حقيقة الصراع بين القوى الإسلامية بقيادة عبد الحميد وبين القوى الاستعمارية واليهودية لنعرف مدى ما حققته إسقاط عبد الحميد لإلغاء الخلافة الإسيلامية.
لكي نعرف حقيقة حركة الوحدة الإسلامية الجامعة التي قام بها عبد الحميد يجب أن نتصور بوضوح واقع الدولة العثمانية والعالم كله خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وقد بلغت الدولة العثمانية أشد مراحل الضعف وقد تجمعت الدول الغربية على وضع الخطط للقضاء عليها وتمزيقها وإذلالها. وقد كانت روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا جميعاً بالإضافة إلى البابوية تشترك في رسم هذه الخطط وفي انتزاع الأجزاء الأوروبية من الدولة واسترجاعها والاستعداد لتقسيم أجزاء العربية في الدولة وهي الشام والعراق والجزيرة العربية.(/2)
وكانت مخططات الصهيونية العالمية تركز تركيزاً شديداً على الدولة العثمانية من أجل الوصول إلى فلسطين وتحقيق حلمها في إقامة هيكل سليمان. فلما ولي السلطان عبد الحميد الحكم خليفة للمسلمين وسلطانها للدولةى العثمانية واجه الموقف على نحو يختلف عما واجهه به سلاطين آل عثمان الذين سبقوه وكانت مواجهته جادة حاسمة. كان إحساسه بالتبعية كبيراً وكان ذكاؤه وسعة فكره وإلمامه بالتيارات المختلفة بالغاً، ومن هنا فقد جرى من الأحداث في طريقها المرسوم شوطاً ثم لم يلبث أن وضع خطته المحكمة التي رأى أنها الطريق الوحيد لمواجهة الغزو الاستعماري الزاحف والذي كان قد تشكل داخل الدولة العثمانية في مؤسستين خطيرتين. إحداهما: المحافل الماسونية في سالونيك وتركيا الفتاة التي سميت بعد (الاتحاد والترقي) والتي ضمت مجموعة من المثقفين ثقافة غربية ومن أصحاب الولاء الفكري الغربي وخاصة الفرنسي ومن الذين أغروا عن طريق المستشرقين وكتاب الغرب بأنه لا سبيل أمام الدولة العثمانية لكي تصل إلى التحرر والقوة إلا بالتماس مناهج الغرب التماساً كاملاً وطرح فكرها وأسلوبها ومنهجها الإسلامي القديم والتخلص منه إلى غير رجعة، غير أن هذه الجماعة لم تستطع أن تقف وحدها فالتمست العون من المحافل الماسونية ومن ثم احتوتها الحركة الصهيونية وسيطرت عليها ووجهتها الوجهة التي ارتضتها في القضاء على الدولة العثمانية وكان السلطان عبد الحميد قد حدد هدفه في مواجهة النفوذ الغربي على هذا النحو: أن الوسيلة الأساسية لمواجهة النفوذ الاستعماري هي تجمع المسلمين في كل مكان تحت جناح الخلافة الإسلامية الذي تحمل لواءه الدولة العثمانية الجامعة في كيانها بين العرب والترك، ومن هنا كان على السلطان العثماني الذي هو خليفة المسلمين أن ينادي المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يقفوا معه في صف واحد في مواجهة النفوذ الغربي ومن هنا كانت صيحته المعروفة المشهورة التي هزت الغرب كله: "يا مسلمي العالم اتحدوا".
ومن هنا بدأ الخطر الذي واجهته الدول الأوروبية والاستعمار والبابوية والصهيونية العالمية في عنف وأخذت في التماس كل وسائل التآمر والغدر في سبيل تحطيم الخطة والقضاء على القائم بها. ولكن السلطان عبد الحميد استطاع أن يصمد لذلك وقتاً طويلاً وأنه كان قد بدأ في هذه الحرةك عام 1879 م على وجه التقريب فقد ظل يحمل هذا اللواء في قوة في مواجهة عواصف السياسة الأوروبية ثلاثين عاماً كاملة دون أن يتزلزل أو يضعف.
لم يكن السلطان عبد الحميد يملك من القووة العسكرية ما يستطيع أن يواجه به أوروبا والغرب المتجمع باسم كلمة (لا إله إلا الله) وتحت لواء قوة عارمة خشيت بأسها أوروبا وحسبت لها ألف حساب، فقد كان المسلمون الموالون للسلطان تحت النفوذ الغربي في عديد من الأقطار التي احتلتها بريطانيا وفرنسا وخاصة قارة الهند يمثلون قوة روحية ذات أهمية خطيرة. ولقد مضى السلطان في تنفيذ مخططه في قوة وسرعة، بحيث شملت الدعوة كل الآفاق الإسلامية وذاعت في كل مكان وحملت معها عملاً إيجابياً نافعاً قوامه المدارس والمنشآت في كل صقع من البلاد الإسلامية وكان قد أنشأ مدرسة للدعاة الذين سرعان ما انبثوا في كل أطراف العالم الإسلامي إلى الهند والصين وجزائر المحيط ومصر وأفريقيا وتركستان وأفغانستان وبلاد العرب وأطراف المملكة العثمانية، كما عقد مع الأمراء في شتى هذه البقاع مراسلات وعقود وعمق روابط الود والإخاء الإسلامي فيما بينهم وبين دولة الخلافة حتى قيل أنه لم يبق مسلم واحد لم يعرف طرفاً عن هذه الدعوة. وقد جعل السلطان عبد الحميد أمامه أمرين هامين:
الأول: أن يكون أهل بلاد العرب هم ساقة هذه الدعوة وحملة لوائها ومن هنا فقد اتخذ في كل قطر عربي "مشيراً" له فجمع حوله علماء وأمراء من الجزائر والشام ومكة ومنهم أبناء الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من أمراء المسلمين.
الثاني: هو إنهاء الخلاف الذي أحجبه الاستعمار بين السنة والشيعة أو بين الأتراك والفرس وقد استخدم لذلك علامة كبيراً هو السيد جمال الدين الأفغاني وأجرى صلحاً مع شاه فارس وصفي أمر الخلافات كلها.(/3)
ولم يتوقف عند هذه الحركة الفكرية وحدها إنما جعلها واجهة لعمله الكبير الذي بدأه في بناء القوة الحربية والعسكرية وتقوية جيوشه وأساطيله فقد استخدم بعثة ألمانية ولم يلبث أن أنشأ معاهد عسكرية دخلها عدد كبير من الشبان الممتازين من شباب العرب من العراق وسوريا ومصر. وقد مضت الخطة إلى غايتها المرجوة فاشتد عصب المسلمين بالترابط وتوحدت فكرتهم بالعمل الجامع، وكان دعاة الفكرة الإسلامية ينشرون ثقافة جديدة قامها مواجهة الاستعمار الغربي الزاحف والخطر الأوروبي القيصري الصهيوني جميعاً، وتركزت الآمال حول السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين وترابطت الدول الإسلامية وأهلها حول عاصمة الخلافة علت نحو بلغ غاية القوة (فكانوا يذكرون اسمه في خطب الجمعة ويدينون له بالولاء والطاعة الروحية وباسم خلافته على المسلمين كافة) وجعلهم من رعايا دول أوروبا في الهند وجزر الهند الشرقية وشمال أفريقيا، وكان السلطان على حد تعبير محمد رفعت باشا في كتابه التوجيه السياسي للفكرة العربية "يفاوض الدول الكبرى ويساومها بل يهددها أحياناً ملوحاً بسلاح الجهاد الديني، واستطاع السلطان أن يجمع تحت لواء الدعوة أبرز المسلمين في مجال الفكر والسياسة وفي مقدمتهم: خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الرفاعي الصيادي وأبناء الأمير عبد القادر الجزائري".
وأقام من العرب فرقة خاصة ضمها إلى الحرس السلطاني وولى كثير منهم مناصب رئيسية في الدولة وفي مقدمتهم أحمد عزت العابد. وكان من أكبر أعمال السلطان في هذا الصدد: إنشاء سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة وكذلك فرعها الذي يربط الحجاز وبغداد وقد وجد هذا العمل تقديراً بالغاً من المسلمين في كل مكان وتبرعوا له بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات الذهبية، فكان من أخطر المشروعات التي عجلت بالقضاء على السلطان فقد كان منذراً للغرب بتغيير إسلامي كبير. وقد استهدف في الأغلب القضاء على دسائس الإنجليز ومؤامراهم في البحر الأحمر والجزيرة العربية وكان من أخطر مواقف الحركة الإسلامية الواحدة التي دعا إليها وحمل لواءها عبد الحميد: هو معارضة أهداف الحركة الصهيونية في السيطرة على فلسطين ومواجهتها.
ومن هنا انطلقت الصحافة الأوروبية وتباعتها الصحافة العربية التي ظهرت في مصر والتي قاد حركتها خريجو الإرساليات التبشيرية، من أمثال: سليم سركيس وفارس نمر ويعقوب صروف وفرج أنطون وغيرهم الذين حملوا لواء التشهير باللواء ومعارضته وإشاعة الاتهامات المحتلفة حول شخصيته وتصويره ومعارضته وإشاعة الاتهامات المختلفة حول شخصيته وتصويره بتلك الصورة الرديئة لحساب الصهيونية العالمية التي انطلقت لإشاعة روح االكراهية والانتقاض للرجل بعد موقفه الحاسم الكريم من مطالبهم وكان أعظم ما تركز عليه هذه الحملة إثارة عوامل الفتنة بين قيادة الحركة الإسلامية وبين العناصر المختلفة في الدول العثمانية وخارجها.
وكان أقوى من هاجم حركة السلطان عبد الحميد في مصر اللورد كرومر الذي حمل على فكرة الجامعة الإسلامية حملة ضارية ودعا الدول الأوروبية في تحريض سافر إلى التجمع للوقوف في وجه هذه الدعوة وكذلك هاجمها هانوتو الفرنسي واللورد غراي ووصفوها بأنها بؤرة التعصب الديني وأنه ليس القصد منها إلا تحدي قوات الدول الغربية المسيحية وقد حملت جريدة المقطم في مصر لواء معارضة هذه الدعوة.
ولقد شهد كثيرون بأصالة هذه الحركة وقوتها وأثرها، يقول الدكتور توفيق برو: أنها كانت كرد فعل للحركة الاستعمارية الأوروبية الطاغية وأن قادتها كانوا من الدعاة المبرزين وقد أذكى نار هذا الشعور أئمة من أفاضل العلماء أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى الغلاييني ورشيد رضا الذين قاموا باستغلال هذا الشعور في سبيل سيطرة السلطان في الداخل وتقرير مكانة الدولة في الخارج.(/4)
وبعد فلقد كان السلطان عبد الحميد سياسياً قديراً وقرماً من أقرام السياسة الدولية وأولا ذلك ما استطاع أن يصمد في وجه هذه الرياح العاتية وكان قادراً على التعرف على مختلف التيارات والمؤامرات وكان يفهم أبعاد الخطر الداخلي الذي يؤججه الاستعمار والصهيونية عن طريق حزب تركيا الفتاة وكيف تسيطر عليهم الماسونية العالمية وتوجههم لصالحها كما كان يعرف نقاط الضعف في الدول الغربية وأوجه الخلاف بين بعضها البعض فيستغلها ويستفيد منها. ولست أستطيع أن أصور هذا المعنى بأعظم مما صور به جمال الدين الأفغاني: الذي التقى بالسلطان ساعات ومرات وتدارس معه شئون العالم الإسلامي ومخاطر السياسة الأوروبية ومخططاتها. وذلك بعد أن قدم إلى الآستانة قال: رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى الواسائل وأمضى العوامل كي لا تنفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية ويريها عياناً محسوساً، إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الأمم الأوروبية بأسرها. وقال: إن ما رأيته من يقظة السلطان وشدة حذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكايد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة قد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك. أ. هـ.
ولقد أكد كثيرون من المؤرخين والباحثين في إنصاف أن السلطان عبد الحميد كان آخر الحصون التي دافع بها الإسلام عن وجوده العالمي وبعد انهياره تمت مؤامرات الغرب وربيبته الصهيونية. ومن الحق أن يقال أن الحركة التي حمل لواءها السلطان عبد الحميد في تجميع المسلمين تحت لواء الخلافة كانت اتجاهاً طبيعياً وأملاً يملأ كل النفوس، ولذلك فقد حققت نجاحاً كبيراً، أزعج الاستعمار والصهيونية إزعاجاً شديداً مما استدعى العمل من جانبهم لإجهاضه والقضاء على حامل لواء الدعوة أصلاً كوسيلة للقضاء عليها وتدميرها.
في هذا الضوء يتمثل العمل الذي قامت به الصهيونية من جانبين:
أولاً: من جانب الدونمة داخل الدولة العثمانية وخاصة في محاصرة السلطان والتآمر عليه.
ثانياً: الدونمة: هي القوة اليهودية الكامنة داخل الدولة العثمانية التي اختارت مدينة سالونيك ودخلت الإسلام بعد تاريخ طويل معروف، وهي التي أنشأت المحافل الماسونية في الدولة العثمانية لهذه الغاية واتصلت بجماعة الاتحاد والترقي (وحزب تركيا الفتاة) وأفسحت له في محافلها الفرصة للعمل، وتلاقت الرغبات على التخلص من الوجه الإسلامي لتركيا، ومن السلطان عبد الحميد وكان ذلك قد بدأ يأخذ طريقه بقوة منذ أعلن السلطان عبد الحميد دعوته إلى المسلمين. وكانت قوى كثيرة تشارك اليهودية العالمية في هذا الاتجاه وقد كان السلطان عبد الحميد يعرف هذه القوى التي يواجهها في الداخل ويعرف المؤامرة التي تدبر لفكرته وله وكان يعرف أبعاد المخطط كله: فئة المثقفين الغربيين الذين سيطرت عليهم أفكار الثورة الفرنسية ربيبة المحافل الماسونية من ناحية وحركة الإرساليات الأجنبية في لبنان وثمارها المنبثة في مصر وسوريا والبلاد الإسلامية تحمل أحقادها على الإسلام والوحدة الإسلامية والمحافل الماسونية في سالونيك. وإذا كان السلطان قد عارض مدحت وحزب تركيا الفتاة فقد كان عالماً بأنهم واقعون تحت نفوذ الماسونية العالمية أداة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت وأن موقفه دون تمكين اليهود من فلسطين قد حرض كل هذ ه القوى وأمدها بإشارة الانقضاض. إن تصريحات كثيرة للسلطان عبد الحميد تكشف أنه كان عالماً بأهداف الصهيونية في هذا الوقت المبكر، ولذلك فقد كان وقوفه في وجه الاتحاديين وتركيا الفتاة وعمله على تحطيم مخططاتهم ليس نابعاً من كراهية لنهضة الدولة العثمانية ولكنه كان عمقاً في النظرة إلى الأهداف البعيدة لتدمير هذه القوة التي كانت تحمي آمال المسلمين داخل الدولة وخارجها.
ولقد صدقت نظرة السلطان عبد الحميد على الاتحاديين بعد أن دخلوا التجربة فعلاً وسيطروا على الحكم من 1909 م إلى 1918 م وما قاموا به من تسليم كامل للدولة وتبعية كاملة لمخططات الاستعمار والصهيونية مما كشف أصالة عبد الحميد وبعد نظره وجلال موقفه الحاسم في وجه النفوذ الاستعماري نفسه بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وفي نفس الوثت بمقاومة هذه التبعية التي كانت تحمل مظهراً براقاً هو الإصلاح على طريقة الغرب بينما كانت تحمل في أعماقها إيماناً بالفناء في الغرب كله، ولقد خدع المسلمون والعرب بالاتحاديين وأقاموا الأفراح وسرعان ما اكتشفوا أنهم سلموا أنفسهم إلى فك الأسد وأنيابه. إن مقدرة السلطان عبد الحميد على فهم ما يحيط به كانت مما يظن كثيرون ولكنه كان في موقف لا يستطيع معه أن يكاشف المسلمين بالأخطار التي تحيط به.(/5)
قد كان اليهود يرون في السلطنة العثمانية شبحاً مخيفاً خطراً على مستقبلهم كما يقول الدكتور محمد علي الزغبي في كتابه الماسونية في العراء، وكانت الدونمة بكل مؤسساتها وتداخلاتها أداة التنفيذ في الوقت المناسب.
ثانياً: بعد أن عقد مؤتمر بال 1897 م وكانت حركة الوحدة الإسلامية قد استحصدت، كانت وجهة نظر اليهود هي اقتحام فلسطين ولذلك فقد تركزت الخطط حول الدولة العثمانية وحول السلطان عبد الحميد في محاولة لاحتوائه ظناً منهم أنه في ظرف من الضعف وفي حالة من الاستدانة تجعله يخضع للإغراء، إغراء اليهود بالذهب وهم من قبل أصحاب العجل الذهبي، وبدأت المحاولات منذ ذلك الوقت واتخذت وسائط كثيرة وووسائل متعددة منها وساطة الإمبراطور غليوم ولقاء اليهود الثلاثة (مزارحي قراصوا – جال - ليون) ولقاء هرتزل ومعه موشي ليوي حاخام اليهود في الدولة العثمانية ولقاء السفير اليهودي غوش وهي سابقة على مقابلة اليهود الثلاثة ثم لقاء هرتزل للسلطان ولرجال قصره.
وقد عرض من خلال هذه المقابلات مشروع يرمي إلى تقديم قرض للدولة العثمانية يبلغ خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية وخمسة ملايين جنيه لخزانة السلطان الخاصة. بناء أسطول كامل للدفاع عن أراضي العلية.
وذلك في مقابل السماح لليهود بإنشاء مستعمرة صغيرة لهم قرب القدس ينزل بها أبناء جلدتهم.
وحتى لا نطيل والتفاصيل كلها موجودة والمراجع ثابته: فنوه بالرد النهائي للسلطان عبد الحميد: بلغوا الدمتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئاً عن المحاولة في هذا بالأمر (التوطن بفلسطين) فإنس لست مستعداً أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير فالبلاد ليست ملكي بل هي ملك شعبي روى ترابها بدمائه. فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب فإن الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء الإسلام.
لست مستعداً لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع بيت المقدس لليهود وخيانة الأمانة التي كلفنى المسلمون بحمياتها.
إن ديون الدولة ليست عاراً لأن غيرها من الدول الأخرى مدين مثل فرنسا.
إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة بخلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولست مستعداً أن أتحمل في التاريخ وصمة بيعها لليهود وخيانة الأمانة. وقد أورد هرتزل في مذكراته التي طبعت بالألمانية في تل أبيب عام 1924 م قصة هذه المحاولات وقال بعد فشل المحاولة الأخيرة: إن السلطان عبد الحميد الشريف الفذ الذي أخفى المسلمين والعرب منذ عام 1909 م حتى سنوات قريبة عندما ترجمت مذكرات هرتزل وكان أول من أشار إلى هذا النص الأستاذ أحمد الشقيري في دروسه في معهد الدراسات العربية بالقاهرة منذ عشر سنوات وقد ظل المسلمون والعرب خلال فترة لا تقل عن خمسين عاماً يرمون الرجل عن قوس واحدة لأن الاستعمار والصهيونية والصحف العربية التي أصدرها تلاميذ مدارس الإرساليات وخاصة في مصر (المقطم، الأهرام، الهلال، المقتطف، مجلة سركيس) وعشرات من الصحف كانت تصف عبد الحميد بالسلطان الأحمر المستبد. وقد انتقلت هذه العبارات من الصحف إلى كتب التاريخ وكتب تاريخ الأدب العربي، وما من كتاب أرخ هذه الفترة إلا احتوى على هذه العبارات التي أصبحت مسلمات بالإضافة إلى تغير آخر سنعود له من بعد وهو "الاستعمار التركي العثماني".
كانت هذه العبارات النارية التي وجهها السلطان عبد الحميد إلى هرتزل عام 1902 م إيذاناً بتلك الحملة العاتية على السلطان بعد أن تقرر إزاحته وكانت هذه الحملات التي وجهت إليه تمهيداً وإعداداً للرأي العام لهذا الغرض. ولقد جرت منذ ذلك الوقت محاولات لاغتياله وإسقاطه حتى وقع ذلك عام 1908 م بالإنقلاب الذي قام به الاتحاديون بالاشتراك مع الماسونية ممثلة في الدونمة.
ولا تزال عبارات عبد الحميد نبراساً مضيئاً وتاجاً لامعاً وشرفاً ما بعده شرف، يتوج جبينه في تاريخه المعاصر، وعند ربه، ويتردد عنه ومن حوله كل الإشاعات والشبهات والأضاليل. وقد تبين من بعد في وثائق كثيرة وانكشف الستار عن مؤامرة قلب الدولة العثمانية وإنزال عبد الحميد بالذات كخطوة أولى لتنفيذ هذه الجريمة البشعة. والمؤامرة العالمية لتحطيم الوحدة الجذرية والرابطة العضوية القائمة بين العروبة والإسلام. ولقد تحقق فعلاً لليهود وللاستعمار بإسقاط عبد الحميد كل ما كانوا يرجونه ولم تلبث الهجرة إلى فلسطين أن بدأت سافرة منذ ذلك الحين وتحقق ذلك الأمل الذي استعصى سنوات وسنوات، وكان ذلك مقدمة لاشك فيها للقضاء على الخلافة الإسلامية.(/6)
ولقد كان ضرورياً للباحث المتمهل المنصف أن يقف دائماً من تاريخ الدولة العثمانية في العصر الأخير موقف العدل والصدق وأن يفرق بين عهدين: عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1908 م تقريباً وعهد حكم الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك الوقت وظل مستمراً حتى أسلم أمره إلى الكماليين بعد الحرب العالمية الأولى. فهذه التفرقة واضحة وضرورية خاصة بالنسبة لنا في المشرق: ذلك أن سوريا ولبنان والعراق قبل ذلك تعيش في هذا الاتجاه المعارض للخلافة والسلطان بينما كانت مصر التي سقطت عنها ولاية الدولة العثمانية وسيطر عليها الاستعمار البريطاني منذ 1882 م تؤيد الخلافة والسلطان. ولقد كان لموقف حكومة الاتحاد التركي من أهل سوريا ولبنان ومحاكمة رجالهم وتعليقهم على المشانق عام 1916 م أثر نفسي يعيد في نظرتهم الكلية إلى الدولة العثمانية والحقيقة أنها يجب أن تكون قاصرة على الاتحاديين وحدهم.
ومن هنا وجب التفريق بين مرحلة السلطان عبد الحميد التي انتهت عام 1908 م وهي فترة كان موقف الدولة العثمانية فيها بالنسبة للعرب والمسلمين موقفاً كريماً، وكانت الحركة الإسلامية الواحدة من أعظم الأعمال، أما الفترة التالية التي حكم فيها الذين أسقطوا السلطان فإنها تمثل أسود صفحات الحكم التركي ولاء للصهيونية والاستعمار وضرباً للوحدة الإسلامية وإعلاء للحركة الطورانية، ومحاولة لتتريك العرب في سوريا وتعليق زعمائهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف فيها العرب من سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك نجد أنه من الضروري أن نصحح عبارة "الاستعمار التركي" أو العثماني. والواقع أن كلمة استعمار كلمة مستحدثة مرتبطة إلى حد كبير بدول مسيطرة بقوة الحديد والنار تأخذ ثروات الأمم بأبخث الأثمان لتجعلها مورداً خاماً لمصانعها ثم تعيد إلى هذه الأمم منتجاتها لتبيعها بأعلى الأسعار، وهذا النظام الاستعماري لم يكن موجوداً في هذه الفترة ولم تكن الدولة العثمانية بهذا المعنى دولة مستعمرة، كذلك فإن الأجزاء العربية التي انضمت إلى الدولة العثمانية لم تكن قد انضمت باحتلال وقسر ولكنها كانت برضاء ودعوة، فقد وجد العرب أنفسهم بعد ضعف المماليك في حاجة إلى الالتقاء تحت اسم الإسلام مع هذه الدولة الكبرى رغبة في الوحدة وحافظة على النفس. وبعد أن تعرضت سوريا ومصر لمحاولات غزو صليبي متجدد من الغرب، والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام. وقد أكد المؤرخون والباحثون إن هذا الالتقاء بالعرب والترك في ظل الدولة العثمانية قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي الذي لم يلبث أن جاء بعد ضعف الدولة العثمانية.
والواقع أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لم يتجاوزها الزمن ولقد تبين للمسلمين اليوم بعد سنوات طويلة من الدعوات الإقليمية والقومية أن الوحدة الإسلامية هي الأصل الأصيل والوجهة الصحيحة وكل الدلائل تؤكد أن المسلمين سائرون إلى طريق الوحدة الذي حطمته اليهودية والاستعمار بإسقاط عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
حاشية:
عندما عقد الملتقى الإسلامي الثامن في ولاية بجاية من جمهورية الجزائر عام 1974 م وأثار كعادته في كل عام عدداً من القضايا والمعضلات التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث وقد اشترك في الملتقى عدد كبير من الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي كما شارك فيه ممثلون للمسلمين في الهند واليابان كانت أبرز القضايا التي تناولها البحث:
وضع الأقليات والجاليات عموماً والإسلامية خصوصاً في كثير من بلدان القارات الخمس وواجب العلماء والمفكرين ورجال الإعلام نحوها.
وقد أشارت الدكتورة ليلى الصباغ من أساتذة التاريخ بجامعة دمشق إلى الدولة العثمانية إشارة ظالمة حين قالت:
أنها أشلمت البلاد العربية لقمة سائغة للاستعمار العربي.
وقد تصدى لها عدد من الباحثين الجزائريين وعرضوا لوجهة نظرهم إزاء الدولة العثمانية والدور الكبيرة الذي قامت به إزاء حماية المغرب كله من الغزو الأوروبي وتوالت المطالبة بمعرفة دور المشرق وقد تصدى كاتب هذه السطور ذللك فقال:(/7)
رغبة في تغطية قضية الدولة العثمانية نظر المشرق والعرب ومصر بالإضافة إلى وجهة النظر المغربية الجزائرية في هذه المسألة نقول: لقد تأثرنا في مصر والمشرق في كتبنا المدرسية وأبحاثنا التاريخية بوجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية، وهي وجهة خاصة للغربيين، نتيجة التوسع التركي عرفتها مناطق البلقان وغيرها في القرن التاسع عشر، وقد نقل الاستعمار البريطاني في مصر، والفرنسي في سوريا، وجهة النظر هذه إلى كتب التاريخ التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا، كما تأثر بها بعض مؤرخينا متابعة للنظرة الغربية، أو تحت تأثير الدعوات الإقليمية كالفرعونية الفينيقية وغيرها غير أن هذه النظرة تعمقت من بعد وبلغت أقصى غاياتها في تجاوز الحقيقة، على أثر ظهور الصحافة العربية التي حررها وأخرجها اللبنانيون المارون، خريجو معاهد الإرساليات، وأصحاب العداء الواضح للدولة العثمانية.
وزاد هذه النظرة عنفاً وتعصباً: تلك المحاولة الخطيرة التي طرحتها الصهيونية العالمية بعد عام 1902 م اتشويه شخصية السلطان عبد الحميد ةرميه بالاتهامات كأمثال السلطان الأحمر والمستبد العثماني وغيره، وكلها كانت محاولات أريد منها تهيئة الأذهان للقضاء عليه وانتزاعه من مكانه، وقد عاونت المقطم والأهرام والهلال والمقتطف وكلها كانت لبنانبة الأصل في هذه الحملة وكان ذلك على أثر الموقف الحاسم الذي وقفه السلطان عبد الحميد من المحاولات المتصلة التي جرت خلال الأعوام السابقة لعام 1902 م والذي أرسل فيه السلطان خطابه التاريخي إلى الصحفي اليهودي ثيودور هرتزل صاحب كتاب الدولة اليهودية ومرؤسس الصهيونية الحديثة وقد جاء في هذا الخطاب بالنص:
قولوا للدكتور هرتزل لا يتصل بي مرة أخرى، أن بلادي تفضل أن تظل مدينة على أن تسدد ديونها من ذهب اليهود، إن فلسطين هي بلاد العرب ولا أستطيع أن أفرط في شبر منها.
وكان الدكتور هرتزل قد عرض على السلطان عبد الحميد خمسين مليوناً من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصادياً.
وقد سجل هرتزل في مذكراته كيف حاول إغراء ذلك الرجل الكريم أشد إغراء ثم كشفت وثائق التاريخ من بعد كيف جرت المحاولات لقتله ثم إسقاطه وقد أغري أشد إغراء وهدد أشد تهديد ولكنه صمد صموداً مشرفاً وظل موقفه هذا محجوباً عن الصحافة وعن المدارس والجامعات وكتب التاريخ سنوا طويلة حتى ترجمت مذكرات هرتزل في السنوات الأخيرة، وظل اسم السلطان عبد الحميد يذكر في كتبنا المدرسة مشفوعاً بأبشع الاتهامات حتى أحق الله الحق وكشف ذلك الزيف الذي حاول به الاستعمار وحاولت الصهيونية إيقاع الفرقة والخلاف بين العرب في مصر والشام وبين الدولة العثمانية.
وللحقيقة فإننا يجب أن نفرق بيين عهدين في تاريخ علاقتنا بالدولة العثمانية: فترة السلطان عبد الحميد التي تنتهي عام 1908 م باستيلاء الاتحاديين تلاميذ حزب الاتحاد والترقي وإنباع الماسونية وربائب الدونمة وبين الفترة التالية التي استمرت حتى عام 1918 م وهي الفترة التي تمثل أسود صفحات العلاقة بين العرب والترك، وهي ليست من حساب الحكم التركي الإسلامي ولكنها مرحلة متقدمة لخدمة الصهيونية العالمية ونصرها وتشكيل أول محاولة لضرب الوحدة الإسلامية العربية، بإعلاء الدعوة الطورانية، ومحاولة تتريك العرب في سوريا وتعليقهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف منها العرب في سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك فإن النظرة إلى الدولة العثمانية عام 1619 م عندما انضمت الأجزاء العربية في العراق وسوريا ومصر إليها، فإنها في التحليل التاريخي الدقيق ليست سوى التقاء بين عنصرين مسلمين. وقد وجدت من جانب العرب تقبلاً صادقاً فهي ليست في حقيقتها إلا محاولة طبيعية من محاولات الالتقاء والتكامل بين أجزاء العالم الإسلامي في مواجهة الأخطار وقد جاءت هذه الوحدة الإسلامية بين العرب والترك على أثر ضعف قوى المماليك وتعرض الأجزاء العربية وخاصة الشام ومصر لتجدد الغزو الصليبي. والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها، حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة رفعت راية الإسلام خفاقة عالية. وقد أكد الباحثون أن هذا اللقاء بين العرب والأتراك قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي للمرة التالية.(/8)
ومن الحق أن يقال أن العثمانيين قد قاموا في هذه المرحلة الأولى بالأخذ بمفاهيم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشهد المؤرخون غير المتعصبين على الإسلام أو الناقمين على الدولة العثمانية بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء الأولين في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء ةإنشاء المساجد والمدارس ومن هنا جرت محاولات البحوث الاستعمارية على وصف العلاقة بين العرب والترك بأنها نوع من الاستعمار وهي ليست كذلك في الحقيقة وإنما هذه هي النظريات المدخولة التي يحاول الغزو الفكري والتبشير إذاعتها لإقرارها في الأذهان.
ولقد مرت الدولة العثمانية ككل كائن حي بمرحلة القوة ثم بمرحلة الضعف، ولكن السلطان عبد الحميد كان يعرف أساليب الاستعمار ويواجهها في دهاء وبراعة وقد شهد جمال الدين الأفغاني حين التقى به بأن عبد الحميد يدبر لأوروبا في مواجهة كل محاولة رداً وفي مقابل كل مؤامرة أمراً.
لم يكن الخلاف أذن بين العرب والترك ولكنه كان بين العرب والاتحاديين دعاة الطورانية فلنفرق دائماً بين هذه المراحل ولنعرف أنه قد نشأ في مصر والبلاد العربية الآن تيار قوي لتصحيح هذه الأخطاء على ضوء ما كشفته الوثائق من بروتوكولات صهيون أو ما نشر عن مؤامرات الماسونية على النحو الي يعيد الحقائق إلى نصابها في طريق وحدة الفكر الإسلامي المتجه إلى وحدة الفكر الإسلامي كمقدمة للوحدة الإسلامية التي هي أمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.(/9)
تصحيح المفاهيم الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو عروة حجر ضب لدخلتموه".
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنما ستنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
إن أخطر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم: خطر التغريب.
والتغريب هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الاستسلام والاحتواء والتحرك من داخل دائرة الفكر الوافد (وليس من داخل عقلية الغرب نفسه) ودائرة الفكر الوافد تختلف في إنها تحشد الشيء وضده، وتسوق المذاهب المتعارضة كلها في خضم جارف (وجودية وماركسية وليبرالية وهيبية ولا معقولية) حتى تسقط النفس الإسلامية ويسقط العقل الإسلامي صريع الخلاف والاضطراب ويتشكل بالسلبية المطلقة والعدمية.
والهدف من حملة التغريب هو إخراج المسلمين من دائرة فكرهم بما يخلق شعوراً بالنقص في نفوسهم وذلك بالتأثير في النفس والمزاج والروح الإسلامي لإخراجها جميعاً من مفاهيمها ومواريثها وفرض أعراف جديدة عليها مخالفة لها في الأصل مباينة لها في الجذور.
وفي مواجهة هذا علينا أن نعرف بأن هناك عالمين منفصلين: قد يؤثر أحدهما في الآخر ولكنهما لا يمتزجان أبداً ولا يخضع أحدهما للآخر، ولا يستوعب أحدهما الآخر ولا يحتويه، هما عالم الإسلام المتميز بطوابعه ومفاهيمه وقيمه وعالم الغرب.
والفكر الإسلامي له من جذوره العميقة وأصوله العريقة ما يجعله قادراً دوماً على التماس التجدد دون أن يفقد الأصالة.
والخطر كله يتمثل في بعض المفكرين من العرب الذين يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي ويتحركون خارج إطار الفكر الإسلامي ومن هنا تأتي أخطاؤهم ويأتي عجز نظرتهم عن أن ترى الأفق الواسع الممتد.
إن هناك منهجاً: لا هو غربي ولا هو إسلامي، وإنما هو منهج زائف صنعته اليهودية التلمودية الصهيونية وكشف عنه بروتوكولات صهيون قد أعد خصيصاً لإدخال العرب والمسلمين فيه، فإذا دخلوا أحكم عليهم كالسجن فلا يصلون إلى شيء لا إلى معطيات الفكر الغربي ولا إلى أصولهم الأصيلة وإنما يذوبون هكذا في غير ما أفق ويدورون في غير ما سماء.
إن مناهج العلوم والنفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد التي يقدمها لنا الغرب تنقصها إضافات، الأولى: طابع التكامل والجمع بين العقل والقلب والمادة والروح والدنيا والآخرة.
والثانية: الدور الطليعي الذي قام به المسلمون في بناء هذه المناهج يوم أن كانت موجهة إلى الحق وإلى الحق وحده وقبل أن يلتهمها الإلحاد ثم تستقطبها الصهيونية العالمية.
إن هناك محاولات جادة لتقديم ثلاثة مناهج للفكر الإسلامي تحتاج إلى يقظة ومواجهة:
ما يسمى علم مقارنات الأديان الذي يقوم بأحكام مسبقة إلى تفضيل الأسبق والأول وهذا يستهدف الانتقاص من الدين الجامع الخاتم وهو الإسلام.
ما يسمى علم الأنتروبولوجيا: وهو خاص بدراسة الشعوب البدائية وهدفه استخراج مفاهيم وقيم تعارض الكتب السماوية وإلعاء شأن الأساطير والسحر والتنجيم القديم وإعلاء شأن العنصرية والدماء.
ما يسمى العلوم الاجتماعية بالإضافة إلى نظرية فرويد وتستهدف إلغاء طابع الفطرة الأصيل في الأسرة ورد دوافع الإنسان إلى الجنس وإلى الطعام.
وتسيطر الصهيونية اليوم على هذه العلوم والدراسات بغية تحقيق أهدافها التي أوردتها بروتوكولات صهيون.
وتستهدف محاولات التغريب اليوم أهدافاً متعددة:
أولاً: محاولات إسقاط أسس وقيم وفرائض أساسية كالجهاد مثلا.
ثانياً: محاولات تحريف التاريخ والنصوص الإسلامية كإسقاط رحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الجزيرة العربية.
ثالثاً: محاولة إضافة أشياء ليست أصيلة كالإسرائيليات.
رابعاً: محاولة الفصل بين الأدب والفكر، واللغة والدين، والدين والمجتمع.
خامساً: محاولة تمويه القيم بإعلاء القانون الوضعي على الشريعة.
سادساً: إثارة النعرات الإقليمية والعنصرية بالدعوة إلى القوميات والتجزئة.
سابعاً: محاولة التمويه بخلط الأخلاق الإسلامية المصدر بالعادات والتقاليد التي هي من صنع المجتمع.
ثامناً: محاولة تألية العقل أو تقديس العلم أو الدعوة إلى عبادة البطولة.
إن الهدف هو الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم الاجتماعية على أساس الإسلام وذلك عن طريق تركيز التاريخ والتراث الإسلامي في سبيل تأكيد التبعية وفقدان الذاتية.
وقد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من هذا المخطط الرهيب بالفهم والعمل.
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ من التفسيرات المدخولة: ومن التحريفات والأساطير واخطاء التهاويل هو شيء واحد: هو التماس المصدر الأصيل: وهو القرآن.
هذا المصدر الثابت الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو السور المتين والحائط الصامد الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة ومن كل غزو فكري أو تحد سياسي أو استهداف اجتماعي.(/1)
ومنهج الإسلام في القرآن هو أعلى نموذج للمنهج العلمي الأصيل، فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.
إن قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تتغير من بعد ولم تجر إضافة شيء إليها فظلت قيمها الأساسية كما جاء وحي السماء (القرآن) وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن، ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام وهزيمة محاولات سيطرة الفكر الوافد أو الغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر.
وبقيت الحقائق الأساسية قائمة:
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام: إن نظرته كلية شاملة وأنه لم يجرئ الحياة بل نظر إليها نظرة جامعة متكاملة كما نظر إلى الإنسان نفسه كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
ثانياً: القرآن كتاب الله ومصدر المنهج الإسلامي، يرسم صورة شاملة للقيم الأساسية وأصول مناهج المعرفة والعلوم وسنن الحياة والكون والحضارات والمجتمعات حيث يربط البشرية والكون جميعاً بخالقها وبعثها وجزائها.
ثالثاً: الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (كان ولا يزال وسيظل) النموذج الأسمى والمثل الكامل والقائم أمام كل المجاهدين والمصلحين والنوابغ قدوة حسنة وأسوة صادقة، من نقطة حب الرسول إلى المتابعة له على طريق الحق.
وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم آثار تستهدف تحرير البحث العلمي من كل الزيوف.
"ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان:
من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل.
ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له".
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ ومن التفسيرات المدخولة: من التحريفات والأساطير وأخطاء التأويل هي شيء واحد، هي: التماس المصدر الأصيل موثقاً ثابتاً لا يأتيه الباطل من بين يدىه ولا من خلفه فهو بحق: السور المتين والحائط العالي الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة غزو فكري أو سياسي أو اجتماعي وقد رسم الإسلام في القرآن قاعدة المنهج العلمي فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.
وبهذا المنهج الأصيل نقول أنه قد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من التبعية للنظريات الغربية أو المفاهيم الوافدة وعليهم أن يفكروا بلغتهم وأن يتحركوا من داخل فكرهم وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس ودور كايم.
وعلى المسلمين أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان ولابد أن ينكسر قيد التبعية ويتحطم قيد التقليد ويتحرر الفكر الإسلامي من الدائرة المغلقة التي فرضها عليه نفوذ المنهج الغربي الوافد ولابد أن يرتبط مفهوم "التقدم" بمفهوم الأصالة ويتحرك من داخله، التقدم بمفهومه الجامع: تقدماً مادياً ومعنوياً استمداداً من المنبع الأصيل، وإن من أخطر الأخطار أن يدخل العرب والمسلمون في مواجهة مع عدوهم بمفاهيم وافدة وقيم مضللة واعتقادات وثنية ولابد أن تفتح اللغة العربية أبوابها لاستقبال العلو والتكنولوجيا بمختلف فروعها وأنواعها وهذا شرط أساسي لقيام نهضة حقيقية، فلابد أن تنصهر هذه العلوم في بوتقة اللغة التي هي فكر الأمة ووعاء ذوقها وثقافتها، ولن تستطيع أمة أن تخطو في مجال العلوم خطوة واحدة إلا إذا كانت مفاهيم العلوم داخل إطار لغتها.
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى معارضة التقليد الأجنبي، وحذر من التشبه بالآخرين وحرص على أن تظل شخصية المسلم وفكره وحضارته ومجتمعه متميزة، وأعلن لذلك حرباً لا هوادة فيها على التقليد وعلى التبعية وحكم على من تشبه بقوم بأنه قد انفصل عن أهله وأصبح من أهل القوم الآخرين. ودعا إلى إعلان التمييز بين الأمم من حيث العادات والأخلاق. وكشف الإسلام عن مدى أثر التقليد في فقدان الشخصية وأثر التبعية في عبودية الفكر والعقل. وقد أكد المؤرخون بأن التقليد في مراحل الضعف إنما يكون في جوانب الهدم والانحلال ويتركز دائماً على الانهماك في اللذات فضلاً عن أن القوى الكبرى لا تعطي للضعفاء أسرار علومها، وإنما تلهيهم بفتات الأهواء وبريق الرغبات التي من شأنها أن تحطم المقومات وتدمر النفس البشرية وتجعلها غير قادرة دائماً على معارضة هذه القوى الكبرى.
لذلك فإن الطريق الوحيد للأمم التي تحوطها الأخطار أن تظل دائماً على تعبئة ومرابطة ومن هنا فإن الذين قالوا لنا: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لم يكونوا صادقين في النصح والتوجيه.(/2)
وحين عمل الإسلام على تحرير أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، دعا إلى الحذر من الحرب النفسية التي يشنها أعداء الإسلام والتي تهدف إلى تغيير المعالم الأصيلة لعقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ومزاجنا النفسي.
ومن مفاهيم التبعية "إيجاد البديل في مواجهة الأصيل" والأمم العريقة التي تكامل فكرها لا تكون عادة في حاجة إلى مفاهيم وافدة، فإذا نظرت فيها فمن أجل أن تعرف أسلوبها وأهدافها، مع تقدير الفارق البعيد بين منهج جزئي انشطاري ومنهج متكامل جامع، بين منهج رباني يستقطب النفس الإنسانية من جميع أبعادها ومنهج بشري عاجز عن الاستمرار والدوام، ولقد رأينا كيف أن النظريات التي قدمها الغرب سرعان ما تصدعت وبان فسادها بمرور الزمن واحتاجت إلى إجراء تعديلات بعد تعديلات وهي في أغلبها تعديلات جوهرية، ذلك أن تحول الزمن واختلاف البيئات يفسد النظريات ويصيبها بالعطب والاضطراب ويكشف عن الفارق البعيد بينها وبين المناهج الربانية الثابتة ثبوت الفطرة وقد رأينا ذلك في الماركسية والفرويدية والوجودية.
ومن أخطر الأخطار أن تتخذ أمة الأسلوب الوافد أسلوباً أساسياً لها مع اختلاف المفاهيم والمضامين التي شكلت هذا المنهج في أساسه.
ولقد احتاجت بعض المجتمعات إلى وضع مناهج للحياة (أيديولوجيات) لأنها لم تجد مناهج في عقائدها، أما المسلمون بأنهم ليسوا في حاجة إلى بناء مناهج بشرية وعندهم منهج محكم من صنع العلي الخبير، الخبير بالنفس الإنسانية "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" ولقد كان من أثر انطلاقة الإنسان ليضع لنفسه منهجاً أن فسر الحياة تفسيراً مادياً، وفسر علاقات الإنسان تفسيراً حيوانياً وأباح الربا وأطلق الغريزة وفلسف ذلك كله وأرضى به النفوس الصغيرة حين خالف به فطرة البشرية وحكم الله.
إن أخطر المحاولات التي تحتاج إلى الانتباه الوافر: هي محاولة وضع الإنسان في موضع تبرير القيم الغربية باسم سماحة الإسلام وانفتاحه وقابليته للجديد ومسايرته لظروف الأمم والحضارات، ولاريب أن للإسلام قواعد كلية لا سبيل إلى النزول عنها وخاصة في مسائل الربا والحدودة(/3)
تصدير الاحتلال
د. حاكم المطيري* 26/2/1424
28/04/2003
ها قد ذهبت السَّكرة، وجاءت الفكرة ؛ ليكتشف الشعب الكويتي أنه كان ضحية تضليل إعلامي، وغسيل دماغ إسلامي، وأن شعار ( تحرير العراق ) لم يكن سوى كذبة كبرى، دفعته إلى تصديقها وتسويقها ثورة الغضب على النظام البعثي، وشهوة الانتقام من الشعب العراقي، فها هو العراق يفقد استقلاله، ويخسر سيادته؛ ليصبح تحت حكم جنرال أمريكي، ليعود الاستعمار من جديد، ولتتبخر أحلام المعارضة العراقية بإقامة حكومة وطنية انتقالية -كما يقضي الاتفاق بينها وبين الإدارة الأمريكية- بعد أن رفضت المعارضة شروط أمريكا التي تريد جعل العراق تحت نفوذها وسيطرتها، ليثبت للمعارضة -بعد فوات الأوان- أنها لم تكن سوى ورقة ضغط سياسي تم حرقها بعد أن أدت دورها، ولتكتشف أن أمريكا لم تأت بجيوشها من أجل تحرير العراق؛ لأنه أصلا لم يكن تحت الاحتلال، ولأن العالم كله لم يسمع من قبل بمصطلح تحرير الشعب من حكومته قبل هذه الحرب، ولأنه لم يسبق لأمريكا أن حررت شعبا أوربيا من حكومته؛ بل ظلت شعوب أوربا الشرقية نصف قرن ترزح تحت حكم أنظمة شيوعية استبدادية، ولم تفكر أمريكا قط بإرسال جيوشها لتحرير تلك الشعوب الأوربية المسيحية، فكيف تفعل ذلك للشعب العراقي العربي المسلم ؟!
نعم لقد ساهمنا نحن -الخليجيين- في الحملة العسكرية على العراق، غير أنها لم تكن من أجل تحريره؛ بل من أجل احتلاله من قِبل الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فالدول التي تفتقد للحرية والاستقلال لا يمكن أن تصدرهما، وكيف يمكن لدول الخليج (التي باتت تحت سيطرة الوجود العسكري الأمريكي منذ 1991 ،والتي لم تستطع -باعتراف حكوماتها- منع أمريكا من استخدام أراضيها )أن تساهم في تحرير غيرها من الدول، وهي نفسها لم تتحرر بعد ؟!
وكيف للدول (التي لم يؤخذ إذنها في هذه الحرب التي انطلقت من أراضيها، ولم تحترم أمريكا سيادتها) أن تساهم في إقامة نظام حكم مستقل، له كامل السيادة على أرض العراق؟
وكيف يمكن للدول الخليجية (التي لم تعرف الديمقراطية بعد، ولا حكم الشعب، ولا التداول السلمي للسلطة، ولا الأحزاب السياسية) أن تساهم في إقامة تعددية سياسية، وديموقراطية عراقية؟!
وكيف يمكن للشعوب الخليجية (التي سقطت تحت سيطرة الاستعمار البريطاني مدة ستين سنة وأكثر، منذ سنة 1900م إلى استقلالها -الصوري- في آخر القرن الماضي دون أي مقاومة تذكر؛ بل ولم تعرف أي حركة تحرر وطني ضد الوجود الاستعماري) أن تساهم في تحرير الشعب العراقي الذي قام بأول ثورة عربية ضد الاستعمار البريطاني سنة1920م ؟!
إن ما قامت به دول الخليج لم يكن سوى تصدير الفائض لديها من الوجود العسكري الأمريكي وقواعده التي لم تعد دول الخليج تستوعبها إلى الشعب العراقي، فليس من الأخوة العربية أن ننعم بكل هذه القواعد العسكرية التي تحيط بالخليج من الكويت إلى عمان دون إخواننا في العراق؟! وليس من المروءة أن نتمتع بكل مظاهر الحرية والاستقلال والسيادة بينما يحرم منها الشعب العراقي الشقيق ؟!
وليس من الأنصاف في شيء أن نتحمل وحدنا فاتورة هذا الاستعمار الجديد دون الشعب العراقي، الذي يجب أن يشارك في تحمل قسط من هذا الوجود العسكري، وأن يدفع فاتورته. فالنفط العراقي قادر على تحمل ذلك، فهو يعد أكبر احتياطي نفطي عالمي، وليس من الحكمة أن يظل بلا حماية أمريكية، فهذا من السفه والعبث بمقدرات الشعب العراقي وثرواته التي سيتمتع بها بعد أن يدفع فاتورة تكاليف الحرب، و قيمة كل رصاصة وقذيفة أطلقتها جيوش الحلفاء، حتى القذائف التي ذهب ضحيتها الأبرياء. وبعد أن ترهن الشركات الأمريكية النفط العراقي لمدة ثلاثين سنة ؟!
إن ما قمنا به اليوم هو تكرار لما قمنا به سنة 1916م عندما فتحنا الطريق للاستعمار البريطاني ليدخل العراق من جهة البصرة؛ ليصبح العراق تحت الاحتلال العسكري ؟
نعم لقد ساهمنا نحن -الخليجيين- جميعاً في هذه الحرب سراً وعلانية، ولم نكتف بذلك، بل استطاع بعض أنصاف المثقفين ورجال الدين المترفين أن يقيموا الأدلة على مشروعية وقانونية وأخلاقية المساهمة في تصدير الاحتلال، ومساعدة المحتل بدعوى تحرير الشعب العراقي من حكومته التي لم تكن الحكومة الدكتاتورية الوحيدة في العالم العربي الذي يعج من الخليج الخادر إلى المحيط الخاثر بهذا النوع من الحكومات الاستبدادية الإجرامية، وهو ما يعني ضرورة أن يدعو هؤلاء الليبراليون (المثقفون)، ورجال الدين (المترفون) أمريكا وبريطانيا بإكمال حملة تحرير العالم العربي من حكوماته غير الشرعية، وغير الديمقراطية، ولماذا تقف هذه الحملة عند حدود العراق فقط ؟!(/1)
لقد ظلمتنا الشعوب العربية والإسلامية، ولم تعرف نبل أهدافنا، ولا مدى حرصنا على الشعب العراقي وحريته، فما دفعنا إلى المساهمة في هذه الحملة العسكرية التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء بآلاف الصواريخ، والقنابل العنقودية، واليورانيوم المنضب؛ حتى ضاقت بهم المستشفيات باعتراف لجان الصليب الأحمر. إنما هو حرصنا على أن ينعم بالحرية مثلنا ؟!
لقد أصبح من حق كل قوى المعارضة العربية في الخارج -كالمعارضة السورية، والمصرية، والليبية، والجزائرية، والسعودية،...الخ- أن تستعين بالقوى الاستعمارية، وتحثها على غزو بلدانها، واحتلال أوطانها من أجل إسقاط حكوماتها غير الديمقراطية، وإقامة حكومات عميلة تحت حماية الجيوش الغازية. فهذا حق مشروع في ثقافتنا الخليجية الجديدة، وفتاوى الفقه الوليدة على فراش الزواج الإسلامي البروتستانتي، وفي ظل رعاية عهد الاستعمار الأمريكي الجديد لدول الخليج ؟!
لقد كان الفقهاء الحكوميون وشبه الحكوميين ومليشياتهم الدعائية يحرِّمون على الشعوب العربية الثورة على حكوماتها الاستبدادية؛ بل يحرِّمون حتى القيام بمظاهرة سلمية بدعوى أن ذلك من الخروج على السلطة، وهو كما يزعمون محظور في الشريعة الإسلامية، وأن الصبر على الظلم خير من إثارة الفتن وإراقة الدماء، فإذا بهم فجأة وبلا سابق إنذار يُجيزون لبعض فصائل المعارضة العراقية ليس فقط الثورة على النظام؛ بل والاستعانة بالجيوش الصليبية لتدمير بلد إسلامي، وقتل الآلاف من أبنائه، واحتلال أرضه بدعوى رفع الظلم عنهم ، كما فعل الطوسي وابن العلقمي عندما وقفا مع التتار بدعوى رفع الظلم عن أهل بغداد!
لقد أسهم أولئك المثقفون ورجال الدين المتفيهقون في تشكيل ثقافة جديدة ؛ تجعل من خيانة الوطن عملا شريفاً، ومن العمالة للعدو الأجنبي فعلا مشروعاً، وتجعل من (أبي رغال) قدوة، ومن ابن العلقمي إماماً ومن الطوسي حجة، ولم يعد لاستقلال الأوطان في ثقافتنا الجديدة حرمة، ولا لسيادة البلدان ذمة !!
لقد أثبتت الحوادث والأيام أننا أكثر الشعوب قابلية للخضوع للاستعمار، وأكثر ميلا للخنوع للاستبداد، وأقدرها على التأقلم معهما باسم الدين تارة، وباسم العقل والمصلحة تارة أخرى، بل وأصبحنا أمهر السماسرة والتجار في فن تصدير الاستعمار ، وأقدر رجال الأعمال على تسويق الاحتلال تحت شعار الحرية والاستقلال !.
* الأمين العام للحركة السلفية ـ الكويت(/2)
تصرف لا يؤيده شرع ولا يقره عقل سليم!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
نادينا فلم يسمع لنا نداء ونصحنا ولم تقبل لنا نصيحة، ولكننا نكرر النداء ونتابع النصيحة:
إن ما حدث ويحدث من تصرفات بعض الشباب من التفجيرات لبعض المرافق والاعتداء على العسكريين في بلد إسلامي، لا تقره شريعة الإسلام ولا تستسيغه العقول السليمة، لأن المرافق هي رِزق رَزق الله به المسلمين في بلادهم، ولأن العسكريين مسلمون، والاعتداء على كلا الأمرين هو اعتداء على ضرورتين من ضرورات الحياة التي اتفقت جميع الشرائع على حرمتها ووجوب حفظها، وتحريم الاعتداء عليها، وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
ويشتد عجبنا من صدور هذه التصرفات باسم الإسلام، فلو صدرت من قوم يعلنون الحرب على المسلمين لما كانت غريبة، لأنهم أعداء للإسلام والمسلمين، يحتلون ديارهم ويستحلون دماءهم وينتهكون أعراضهم.
أما أن تصدر من أبنائنا في بلدانهم وعلى مرافق أمتهم وعلى إخوانهم العسكريين الذي يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام، ويسهرون على أمن بلدهم، فهذا أمر منكر غريب، لا يليق صدوره من مسلم يؤمن بالله وباليوم الآخر، يفقد القائمون به الفقه في دين الله، كما يفقدون ميزان العقول السليمة، وهو قطعا ليس من الإصلاح في الأرض الذي أمر الله به، بل يدخل في الإفساد.
فشرع الله يحرم إفساد الأموال، ويشدد في تحريم قتل النفس التي حرم الله بغير حق. فاتقوا الله تعالى يا أبناءنا وإخواننا وتوبوا إلى ربكم من هذه التصرفات التي لا ندري ما أهدافكم منها؟ وما المصلحة التي تأملون تحقيقها من ورائها؟
أما قتل المسلمين سواء كانوا عسكريين أو مدنيين فلا أريد الإطالة فيه، لأن كتاب الله وسنة رسوله قد حرمت ذلك تحريما قطعيا، لا مجال للتشكيك فيه، ويكفي أن نذكر نصين أحدهما من القرآن، والثاني من السنة لمجرد التذكير بهما:
قال تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)) [النساء (93)]
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة). [البخاري ومسلم وغيرهما]
وأجمعت الأمة على ما دلت عليه النصوص، وإذا خالف بعض الناس عمله ما دلت عليه النصوص وأجمعت عليه الأمة فاعتدى على قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فليس معناه أنه يعتقد جواز ذلك، وإنما يعمله عصيانا لله وخروجا على ما يعتقد.
وإذا كان لنا من قول بعد هذا، فإنا نجزم بأن كل من تعتدون عليه بالقتل مدنيا أو عسكريا فإنه محرم الدم، لأنه مسلم، ومن الخطأ الفاحش اعتقاد أن العسكريين أو غيرهم ممن ينخرط في سلك الدولة ووظائفها يجوز استحلال دمه أو اعتقاد كفره.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_general&p=51
وإذا اعتقدتم بأنكم عندما تقصدون المنشآت دون حراسها، فاعتقادكم غير صحيح، لأن العسكريين أو غيرهم يقومون بواجبهم بحكم وظائفهم في حراسة المنشآت، ولهذا لا يحصل عدوان على منشأة مادية إلا كان مصحوبا بالعدوان على نفوس بشرية منكم ومنهم، فاتقوا الله ولا تقدموا على ما يغضبه من الاعتداء على عباده المسلمين.
أما الاعتداء على المرافق التي رزق الله بها أهل البلد، سواء كانت منشآت سكنية أو جامعية أو عسكرية أو غيرها من المباني الإدارية، أو كانت منشآت طاقة كالبترول والغاز وما له بهما تعلق، فإن حكمها حكم الاعتداء على النفوس من حيث أن كلا منهما من الضرورات التي يجب حفظها، ولا يجوز إهدارها لأنها حق لعامة الشعب المسلم.
فإذا قصدتم من العدوان عليها الإضرار بأعداء الإسلام كالأمريكان واليهود ومن ظاهرهم على المسلمين، فإن الضرر لا ينالهم إلا بعد الضرر المباشر بالمسلمين.
وكثير من المسلمين يعيشون في شعوبهم عيشة خوف وقلق وفقد للأمن، ويتمنى أعداؤنا أن تكون بلدنا كذلك، لأنهم يغيظهم استقرار سكان أي بلد مسلم، يؤدون عباداتهم وأعمالهم في أمن واطمئنان، فهل يليق بمسلم أن يحقق لهم ما يتمنون.
بل إن القلاقل إذا كثرت في أي بلد مسلم يتخذنها أعداء الإسلام ذريعة للسيطرة عليه، وبخاصة الدول الغنية بالطاقة البترولية ولدول الخليج النصيب الوافر من ذلك، لذلك ننصح إخواننا وأبنانا الشباب أن يتدبروا أعمالهم والآثار التي تترتب عليها من قتل النفوس المحرمة وهَدر دماء أنفسهم في غير ساح المعارك مع الأعداء المعتدين فعلا وهو الذين أمر الله بجهادهم ومصابرتهم والثبات أمامهم، وكذلك التأمل في إفساد أموال المسلمين.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_hadath&p=53(/1)
تضرع
شعر: أبي نواس
يا ربّ إنْ عظُمَتْ ذُنوبي كثرةً فلقدْ علمتُ بأنّ عفوكَ أعظمُ
إنْ كان لا يرجوكَ إلا محسنٌ فبمنْ يلوذُ ، ويستجيرُ المجرمُ
أدعوكَ ربّ كما أمرتَ تضرُّعاً فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرَّجا وجميلُ عفوِكَ .. ثمّ أنّيَ مسلمُ
نجوى ودعاء
إلهنا ما أعدلكْ مليكَ كلِّ من مَلَكْ
لبيكَ قد لبيتُ لكْ
لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ، لا شريكَ لكْ
ما خابَ عبدٌ سألكْ أنت له حيثُ سَلَكْ
لولاكَ يا ربِّ هلَكْ
لبيكَ إنّ الحمدَ لكْ والمُلكَ لا شريكَ لك
كلّ نبيٍّ وملكْ وكلُّ من أهلَّ لكْ
وكلّ عبدٍ سألكْ سبَّحَ أو لبَّى فلَكْ
لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ لا شريكَ لكْ
والليلِ لمّا أن حَلكْ والسّابحاتِ في الفَلَكْ
على مجاري المُنْسَلَكْ
لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ، لا شريك لكْ
اعملْ وبادرْ أجلَكْ واختم ْ بخيرٍ عملكْ
لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ.. لا شريكَ لكْ!!(/1)
تطبيق السنة بين الغلوّ و الجفاء
محمد بن عبد الله الدويش
إن مظاهر البعد عن السنة تتمثل في اتجاهين :
أولاً : التفريط والجفاء : وهذا له مظاهر نشير إلى أهمها بإيجاز :
1- عدم العناية بها : البعض من الدعاة إلى الله - عز وجل - قد أهمل هذه السنن ولم يعتنِ بها بل كثيراً ما يمتد الأمر إلى التهاون في الواجبات والمحرمات . وعندما ترى الداعية لا تكاد تفرق بينه وبين غيره في عبادته وصلاته وهديه وسَمْته ومظهره ، ولا شك أن المسلم ينبغي له أن يلتزم الإسلام من حيث الجملة ، ولا يعفيه من ذلك كونه يعيش في واقع سيئ .
2- دعوى تقسيم الإسلام إلى لب وقشور : بدأت تطل هذه الدعوى نتيجة لغيبة منهج أهل السنة والجماعة عن الساحة وفشو الجهل وقلة العلم . ويكفي في بطلان هذه الدعوى أن هذا التقسيم لا يُعرف عن سلف الأمة . كيف وقد قال - تعالى - [ ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ][الأحزاب : 36].
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محقِّرات الذنوب التي يقع فيها الكثير من هؤلاء بحجة أنها قشور أو مسائل خلافية » يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً« أخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عائشة . وأخرج أحمد بسند حسن من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : » إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم ، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها صاحبها تهلكه « . وهناك فرق بين التقسيم إلى فروع وأصول والتقسيم إلى لب وقشور .
3- الانشغال بالقضايا المعاصرة : إننا في عصر قد بلينا بأمور جسام وانحرافات خطيرة يصل بعضها إلى الردة عن دين الله - عز وجل - كما سيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك ، ولذلك قال البعض بحسن نية : لِمَ نشغل أنفسنا بهذه الأمور وندع القضايا الأهم ؟ ! ، المسلمون يُقتلون ويُذبحون وأنت منشغل بحكم الإسبال واللحية والإشارة بالسبابة في الصلاة . ونحن لا نجادل أن هناك قضايا أهم من هذه بكثير ، لكن هل يعني ذلك ترك هذه الأمور الفرعية والسخرية ممن يفعلها ؟ ولِمَ نفترض التعارض أصلاً ؟ ؛ فإن الكثير من هؤلاء تضيع عليهم أوقات كثيرة سدى ، فلا هم نصروا المستضعفين ، ولا حلوا مشاكل الأمة ، بل تجد إعراضهم وبُعدهم يمتد إلى أصول مهمة في الدين لا يُعرف تفاصيل حكم الله فيها . إن وجود هذه الانحرافات يتطلب الاهتمام بها ولا شك ، وأن تكون في قائمة اهتماماتنا ، لكن لا يعني ذلك بالضرورة ترك ما عداها ولا الانشغال بما دونها عنها .
ولما جاء عقبة بن عامر يبشر عمر بفتح بيت المقدس تلقى بُشراه ثم نظر إلى قدميه فرأى عليه خفين فسأله .. فلم يشغله اهتمامه بأمر المسلمين عن العناية بهذه القضية الفرعية . ولما دخل عليه شاب مسبل إزاره - وهو في النزع - لم يشغله ذلك عن الإنكار عليه .
ثانياً : الغلو في تطبيق السنة :
1- تتبُّع الغرائب : مما يؤسف له أن البعض يحرص على السنن الغريبة والمجهولة عند الناس ، والتعلق بالغرائب مما جبلت عليه النفوس ، أليست القصة الغريبة والحديث الغريب مما يجد رواجاً لدى الناس ويشد انتباههم أكثر من غيره ؟ ، ومن هنا تتعلق نفوس البعض ببعض الغرائب - عن الناس - فعندما يرى سنة مجهولة أو غريبة يسارع إلى المبادرة إليها والتمسك بها ، ولسنا نقف ضد إحياء السنة . إنما الغالب في هذا الأمر شهوة خفية لدى البعض قد لا يحس بها ألا وهي التعلق بالغرائب وحب مخالفة الناس ، ثم إن فعْل ذلك يعطي تميزاً لهذا الشخص وهذا من مداخل الشيطان . وإذا كان الأمر يتعلق بإحياء السنة لا غير فما بال بعض السنن المهجورة نجد القلة ممن يحييها ! إن تأليف قلوب الناس على الحق وجمع كلمتهم مطلب شرعي ؛ فقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( ما أنت محدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) .
وقال علي- رضي الله عنه- : ( حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله ؟ ! ) بل قد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم ؛ لأن قومه حديثو عهد بجاهلية ، وبعد أن بناها ابن الزبير وأعادها الحجاج لم يفتِ أحد من علماء الأمة بهدمها وبنائها مرة أخرى . وقد ترك - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، إن تأليف قلوب الناس بترك سنة أو تأجيلها أوْلى من ترك الكعبة وقتل المنافقين . ومجتمعنا يحوي عدداً من كبار السن الذي عاشوا سنين طويلة في مجتمع متدين محافظ ، فكيف بهم يفاجأون بشاب يأتيهم بما لم تأتِ به الأوائل ، يأتي ليؤذن أذاناً ما عهدوه ، أو يوتر بخمس وقد عهدوا خلاف ذلك ! .(/1)
أليس من المصلحة اتباع الحكمة والتروي في تعليم الناس السنة ؟ وأن تكون ممن يثقون بعلمه ودينه لا من حدث في سن أصغر أحفادهم . وثمَّة أثر آخر لذلك وهو أن الناس يهون عليهم التغيير بعد ذلك فقد يقبلون بداعي البدعة أو تبديل بعض شرع الله ؛ لأنهم اعتادوا الخروج عما ألفوه واعتادوه .
2- الاهتمام بها على حساب الواجبات : لا أظن أني أجاوز الحقيقة إذا قلت إن البعض ممن يعرف تفاصيل الأدلة في مثل هذه المسائل قد يخطئ في عدة أركان أو شروط أو مبطلات الصلاة ، وقد لا يفرق تفريقاً دقيقاً بين الواجب والشرط والركن ، ناهيك عما يفسد الصوم وما لا يفسده ، ومسائل المسح على الخفين ، والجبيرة ، وما يصح و ما لا يصح من العقود ، فضلاً عن أدلة هذه المسائل وتفصيلاتها ، بينما يعرف دقائق التفصيلات في هذه السنن . وقُل مثل ذلك عن شروط الشهادتين ولوازمهما ومقتضياتهما ، وأصول أهل السنة والجماعة والحد المخرج عن جماعة أهل السنة والمدخل فيها . أما أصول الفقه واللغة فلا تسأل عنهما !
3- الاهتمام بها على حساب القضايا المعاصرة : لقد ابتلينا في عصرنا الحاضر بانحرافات خطيرة عن دين الله - عز وجل - يصل بعضها إلى الكفر البواح ، كالحكم بغير ما أنزل الله ، وتشريع الأنظمة والقوانين المخالفة للشريعة ، وإباحة الربا والفواحش ، وسن الأنظمة التي تحميها وتنظمها .
والدعوة للسفور وخروج المرأة ناهيك عن العلمانية التي استحكمت خيوطها في جسد الأمة . أما الفرق الضالة فقد بدأت تنفض ركام التاريخ لتعيد أمجاد القرامطة والعُبيديين ، وتحيي ذكريات أبي طاهر وابن العلقمي ونصير الشرك والحاكم بأمره ؛ لترقص على أشلاء أهل السنة في غيبة فوارسهم . ما نصيب هذه الأمور من الاهتمام والدراسة العلمية الرصينة والنقاش والإثارة ، لا أبالغ إذا قلت إن بعض الأخيار يجهل أصول بعض هذه المسائل فضلاً عن تفاصيلها . فضلاً عن الاهتمام بها . ولا يعني هذا إهمال الأمور الفرعية - كما سبق - إنما يجب أن تُعطى قدرها من الاهتمام وتوضع الأمور في نصابها .
4- الإكثار من طرحها واثارتها : وثمَّة موقف آخر يحتاج إلى وقفة ، ذلكم أن البعض كثيراً ما يردد هذه المسائل في المجالس وكثيراً ما يقرأ فيها وينقب ويسأل عنها كل مَن لقيه ، وهذا كله على حساب ما هو أهم وأوْلى كما سبق ، أليس من وضع الأمور في نصابها أن نبحثها مرة أو مرتين بقدر ما نصل في ذلك إلى قناعة عملية ثم نشتغل بغيرها ؟ ، فهل هي كل ما نحتاجه لنقرأ فيه ونسأل عنه ونطرحه للنقاش ؟ .
5- التكلف والتشدد في تطبيقها : ما أحوجنا إلى أن نلزم أنفسنا بما فُرض فعله أو تركه ، ونتفقد أنفسنا على ذلك ثم نسعى جاهدين لتطبيق ما نستطيعه من سنن بيسر ودون تشدد أو مبالغة . لقد رأيت أكثر من شخص في موسم الحج والعمرة وقد أطلق شعر رأسه إلى منكبيه اتباعاً للسنة بزعمه وأين هو من قوله - تعالى - : [ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ ومُقَصِّرِينَ ][الفتح : 27] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : » اللهم اغفر للمحلقين ... « ، ومثله أن يجئ شخص متأخراً إلى المسجد بعد إقامة الصلاة ويدفع الناس ليصل إلى الصف الأول ، أو يضايقهم ليسوِّي الصف ! وإن مَن يسلك هذا المسلك لابد له من أن يكون ذلك على حساب الفرائض ، أو على حساب سنة أولى منها ، أو إلى الغلو والتشدد الذي قد نُهي عنه ، أو أن يطبق السنة تطبيقاً خاطئاً . سنن مهجورة أوْلى بالإحياء : ثمة فرق واضح بين السنن المهجورة والسنن المجهولة ؛ فالأولى أعم ، فكل سنة لا يعمل بها الناس فهي مهجورة ثم قد تكون مجهولة لدى الناس وقد تكون غير ذلك .
ولقد كان السلف لا يدعون ختم القرآن وتحزيبه ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم في كذا وكذا ومعظم هدْيهم التسبيع . فأين شبابنا عن التعشير بله التسبيع ، بل أين مَن يختم منهم مرتين في الشهر ، وثالثة الأثافي أن الكثير منا لا يأتي إلى المسجد إلى عند الإقامة وتراه لا يساوم على الصف الأول ، فأين انتظار الصلاة ، والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ، وقل مثل ذلك في قيام الليل وصيام النفل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح ؟ ! .
أين الحريصون على السنة والمتشددون في تطبيقها من هذه السنن ، أليست هذه السنن أولى بالإحياء وفيها ما يدعو إلى حياة القلب وصلاحه وإزالة القسوة التي نشكو منها جميعا . وثانياً أليس هذا يعطي دليلاً صادقاً للناس على صدقنا ويجعلنا - معشر طلاب العلم - قدوة للآخرين ؟ .
وأخيراً نستطيع أن نخلص إلى ما يلي :
أولاً : ضرورة العناية من الدعاة إلى الله - عز وجل - بالإسلام جملة وتفصيلاً بالسنن والواجبات بالفروع والأصول ، وأن يتميز الدعاة إلى الله عن غيرهم بالعناية بهذا الأمر .(/2)
ثانياً : ضرورة أن نحرص على نوع من السنن (المهجورة لا المجهولة) كالتبكير للصلاة والجمعة ، وقيام الليل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح ؛ لما لها من دور في إحياء القلوب وإزالة قسوتها ، ولأنها تعطي الناس الثقة بما نحن عليه .
ثالثاً : لا بد في تطبيق السنة من الحكمة والتأني وعدم مفاجأة الناس بأمور لا يعرفونها ، ومن التيسير وعدم التكلف فيها والتشدد .
رابعاً : لا يسوغ أن نكثر من بحث هذه المسائل وإثارتها على حساب ما هو أهم منها بل يكفي تأصيلها .(/3)
تطلُّعاتٌ نحوَ عملٍ سلفيٍّ معاصر *
محمد بن عبد الله الدويش 7/3/1427
05/04/2006
حقق التيار السلفيّ في هذا العصر منجزات لا تخفى على من يتأمل الواقع الدعويّ، وحين نتحدث عن العمل السلفيّ فنحن نتحدث عن تيار في الأمة، وهو أوسع من مجرد كيان عضويّ؛ فالكيانات العضويّة، سواء كانت جمعيات أو مؤسسات، لا تمثل إلا جزءًا من هذا التيار.
والحديث عن منجزات العمل السلفيّ حديث يطول، ولا تتسع له سطور هذه المقالة، فتكتفي بالإشارة لأهمها، والتي تتمثل فيما يلي، وهي:
1- إيجاد تيار دعويّ يتبنى منهج الفرقة الناجية.
2- الاعتناء بالعلم الشرعي وإحياؤه.
3- الالتزام الشرعيّ والانضباط السلوكيّ، على مستوى الأفراد والمؤسسات.
4- إحياء السنة وإماتة البدعة.
5- تعظيم النصوص الشرعية والوقوف عند حدودها.
ومهما عظمت الإنجازات وعلت، فستبقى تطلعات الأمة نحو هذا العمل عالية، وهو مطلب شرعيّ وطبيعيّ ينبغي ألاّ تعوقنا عنه المبالغة في الدفاع عن المنهج والحرص عليه، بل الحرص ينبغي أن يقود للجرأة على المراجعة والصراحة في تقويم الواقع.
وفيما يلي أهم التطلّعات المنتظرة من هذا التيار.
الأول: الجرأة على المراجعة والتقويم:
إن جهدنا لا يعدو أن يكون عملاً بشريًا ليس له عصمة؛ فالعصمة للمنهج؛ أما البشر من غير الأنبياء فليس لهم عصمة، ومن هذا المنطلق فنحن بحاجة إل مراجعة مسيرتنا في العمل السلفيّ مراجعة شاملة وكاملة، وبحاجة لتقييم دقيق وصادق، يقوم على الجرأة في نقد الذات ومراجعة النفس من أجل إصلاح الأخطاء التي تؤخّر مسيرتنا في العمل.
وحتى تحقق هذه المراجعة ثمرتها فلابد أن تكون علميّة وجادّة، دون أن تكون عفويّة، أو أن تقف عند مجرد محاسبة النفس على السلوك الشخصيّ؛ فهذه المحاسبة -وإن كانت أمرًا مطلوبًا- لكن الأمر الذي نريده ونطمح إليه أشمل وأوسع من ذلك.
إننابحاجة لتقييم ومراجعة تتيح لنا أن نسأل أنفسنا بصدق:
- ما أهدافنا التي نسعى إلى تحقيقها؟
- ما برامجنا ورؤيتنا الواضحة لتحقيق هذه الأهداف؟
- هل هذه الأهداف والبرامج تتلاءم مع التحدّيات المنوطة بهذا العمل الدعويّ؟
والجرأة على المراجعة والتقويم تدعونا إلى أن نفتّش عن أخطائنا من خلال تأمّل الذات، ومن خلال إتاحة المجال للنقد والتقويم داخل صفنا، وأن نستفيد من النقد الذي يُوجّه إلينا من خارج إطارنا، فإن من مصلحتنا أن نسمع كل كلمة تُقال بعيدًا عن خلفية صدورنا، وعن قائلها وتصنيفنا له وموقفنا منه.
حين يتحدث عنا الآخرون -ولو كانوا أعداءً- فسيحرصون على ما يقنع الناس، ومن ثم فهم أقدر وقوفًا على الأخطاء والعيوب، ولا ننكر أنهم قد يبالغون، وقد يضخّمون، وقد يكذبون، لكنهم أيضًا قد يصدقون، وهذا على فرض أن كل منتقد لنا إنما هو عدو وخصم لدود؛ فكيف وفيهم من يتفق معنا في الأصول، ويختلف معنا في بعض المواقف والتطبيقات؟
الثاني: الفصل بين المنهج وبين الكيانات العضويّة:
شهد النبي –صلى الله عليه وسلم- بالجنة لطائفة واحدة، ووصفها بوصف واضح وجليّ، وهو التزام ما كان عليه هو وأصحابه؛ فمن تحقّق فيه هذا الوصف استحقّ أن يكون من هذه الطائفة.
ومع انتشار العمل الإسلاميّ ونموه نشأت مؤسسات وتيارات وتنظيمات تتبنى المنهج السلفيّ وتدعو له، وقد كتب الله على يديها الخير الكثير لهذا المنهج.
ومع تقديرنا لجهد هذه الكيانات والمؤسسات؛ فمن الخطأ أن نحصر القضية السلفيّة في الكيان العضويّ أو الإطار المؤسسيّ الذي ننتمي إليه أيّا كان الشكل التنظيميّ أو القالب الذي تتخذه؛ فمنهج الفرقة الناجية أوسع من أن يحتويه إطار تنظيميّ أو كيان عضويّ؛ فضلاً عن أن تحتويه مدرسة محددة فكريًا داخل هذا الإطار؛ فالحق أوسع من أن يحتويه إطار ضيّق.
وفي المقابل قد توجد كيانات ينتشر في إطارها خلل في بعض الجوانب، لكن ربما نجد داخلها منْ يتسم بصفاء المعتقد وسلامته، وشدة الحرص على التزام السنة بما يفوق حرص بعض المنتمين للكيانات السلفيّة، ولا شك أن هذا الصنف أقرب إلى المنهج الذي نحمله من غيره ولو ممن ينتمون عضويًا للكيانات السلفيّة.
الثالث: التفريق بين المنهج وبين من يحمله وطريقة حمله:
لقد بيّن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن منهج الطائفة الناجية منهج معصوم، لا زيْغ فيه ولا انحراف، لكن على الرغم من هذه الشهادة النبوية؛ فإننا يجب أن نعلم أن الله –جل وعلا- قد كفل العصمة للمنهج فحسب، ولم يكفل العصمة لحملته من الأشخاص –اللهم إلا الأنبياء- وهذا يعني أننا حينما نحمل هذا المنهج فليس من المستبعد أن نقع في خطأ أو تقصير؛ لأننا غير معصومين، وهذا يعني أيضًا ألاّ نحكم على من ينتقدنا أو يخالفنا بأنه مخالف للمنهج ومنتقد له؛ فمن العدل أن نفرق بين العداء للسنة والعداء لأشخاصنا؛ فهما قضيتان منفصلتان، ولكل قضية منهما أسبابها ومنطلقاتها الخاصة.(/1)
وثمة فئة ليست بالقليلة ترفض الاستجابة للدعوة السلفيّة لا تأصلاً للبدعة فيها، ولا كرهًا للسنة؛ لكن لأنها حملتها بطريقة غير مقنعة، فمن يحمل الحق فقد لا يؤدّيه بصورة صحيحة، بل قد يؤديه بصورة تشوّهه.
إذًا فسلامة منهجنا لا تعني سلامة أشخاصنا، ولا يعني سلامة ذواتنا، ولا تعني أننا حملنا المنهج بطريقة صحيحة وسليمة؛ وهذا يقودنا إلى النقطة التالية.
الرابع: ضرورة الأخذ بأسباب النجاح:
حين نفصل بين المنهج وبين من يحمله وطريقة حمله؛ فإن هذا يقودنا إلى النظر إلى جهدنا ومشروعاتنا في نشر المنهج على أنه جهد بشريّ لا يكتسب العصمة بمجرد انتمائه للمنهج؛ فالعصمة في المنهج لا فيمن يحمله.
وهذا يقودنا إلى تحمّل مسؤوليتنا في الأخذ بأسباب النجاح الدعويّ، في كافة المراحل: تخطيطًا، وتنفيذًا، وتقويمًا، وتطويرًا، دون الاتكاء على عصمة المنهج.
وقد يُوفق في الأخذ بأسباب النجاح من لا يحمل صفاء المنهج، بينما يخلّ الآخر بهذه الأسباب، فيخفق الثاني وينجح الأول، وهذه سنّة الله في الحياة، وحينها على من يخفق أن يتحمل مسؤولية إخفاقه وفشله، لا أن ينشغل عنه تضخيم الذات واتهام المدعوّين.
الخامس: الانفتاح على الآخرين والاستفادة من التجارب الناجحة:
تمتلئ الساحة بالدعاة والعاملين للإسلام، وهم فئات وطوائف شتى ومدارس متنوعة، ولدى الكثير من هؤلاء صور متميزة من النجاح، وبالأخص في التأثير على الآخرين، والتواصل مع المجتمع.
وقد لا يخلو بعض هؤلاء الناجحين من قصور أو خلل؛ فهل هذا الخلل يوجب إهدار ما لديهم من تجارب ناجحة؟ بل هل سلامة المنهج تقتضي التخلي عن الاستفادة من هذه التجارب؟
لقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة في شأن الشيطان: "صدقك وهو كذوب" رواه البخاري (3275)، فإذا كان هذا في شأن الشيطان المطرود من رحمة الله –تعالى- فكيف بإخواننا الدعاة الذين يشاركوننا في ساحات الإصلاح والعمل الإسلاميّ؟
وحين أحاطت قريش وأحلافها في غزوة الخندق ما كان من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلاّ أن أخذ برأي سلمان الفارسي، وقد أشار عليه بحفر خندق, فجاء بمكيدة لم تصنعها العرب –كما قالت قريش-.
إن التيار السلفيّ بحاجة إلى الانفتاح على الآخرين والسماع منهم والاستفادة من تجاربهم؛ وحينها سيجد دعاةً ناجحين، ونماذج متفوّقة في العمل والأداء.
وحين يفوقنا الآخرون في استقطاب الناس أو التأثير على العصاة والفساق أو في إيقاظ الوعي في الأمة فليس مردّ ذلك التفوق عائدًا بالضرورة إلى تساهلهم، وليس مرد تخلفنا هو بالضرورة غربة الحق وأهله، وليس تقصير الآخرين مسوّغاً للتخلي عن الإفادة من تجاربهم.
السادس: إعادة النظر في أساليب التعامل مع المخالفين:
كان لأئمة السلف جهد في محاربة البدع والوقوف في وجه دعاتها، بل اقتضى المقام في أحوال عدة الإغلاظ عليهم وهجْرهم. هذا وجه.
والوجه الآخر: أنهم أرحم الخلق بالخلق، وهو ما ورثوه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الناس برّهم وفاجرهم، وهما وجهان لا يتعارضان ولا يتناقضان؛ فالرحمة والرفق هي الأصل؛ إذ الرفق ما كان في شيء إلا زانه. والإغلاظ والهجر –عقوبة- مناط استخدامهما إفضاؤهما للمصلحة الشرعية، ولا يسوغ أن يتحوّلا إلى خلق أو شعار يُوصم به أتباع المنهج السلفيّ.
كما يجب إعادة النظر في افتراض التلازم بين الغيرة على المنهج السلفيّ وبين الحرص على توسيع دائرة إخراج الناس من هذا المنهج، والسعي للحكم على الناس والتنقيب وتحليل أقوالهم لاكتشاف ما يسوّغ الحكم بإخراجهم من دائرة المنهج.
السابع: توسيع دائرة تقديم العلم الشرعيّ للناس:
لقد كان من أهم منجزات التيار السلفيّ إحياء العلم الشرعي في الأمة بعد أن كادت سوقه أن تكسد، وعلى الرغم مما قُدم من جهد في نشر العلم الشرعيّ وإحيائه فلا تزال هناك تطلّعات عدة، ومنها:
-توسيع دائرة نشر العلم الشرعيّ؛ إذ لا يليق أن تبقى الاهتمامات بهذا العلم محصورة في إطار طلبة العلم الشرعيّ؛ فالحاجة للعلم الشرعيّ حاجة عامة وإن تفاوتت درجة هذه الحاجة.
- ومطلب توسيع دائرة نشر العلم لا ينتهي بمجرد الاقتناع النظريّ، بل هو يتطلب مراجعة أدوات نشر العلم وتقديمه لتحقق الانتشار الملائم، لا أن تجمد وفق أطر محددة يُطلب من الآخرين أن يتكيّفوا معها.
الاعتناء بتبسيط العلم الشرعيّ وتقريبه لغير المختصين؛ سواء ما يتّصل بالتدريس والتعليم، أو ما يتّصل بالتأليف، أو ما يتّصل بالبرامج الإعلاميّة؛ إذ النمط السائد قد لا يلائم إلا طلبة العلم المدركين للغة العلميّة الشرعيّة المتخصصة.
- توسيع نشر العلم الشرعي داخل التيارات الإسلاميّة الأخرى؛ فلا يليق أن يبقى التيار السلفيّ يرفع وتيرة نقد الآخرين بعدم اهتمامهم بالعلم الشرعيّ، بل لا بد أن يأخذ بمسؤوليته في تقديم هذا العلم للآخرين مراعيًا ملاءمته لهم أسلوبًا ومضمونًا.
الثامن: الارتقاء بالوعي:(/2)
تضم ساحات العمل السلفيّ فئاتٍ من الصالحين الورعين الخيرين ممن لديهم علم شرعيّ، وممن يتّسمون بحسن السّمت والانضباط المنهجيّ، لكن قد نرى بعض هؤلاء يعيش خارج عصره؛ فهو لا يدرك متغيرات الواقع ولا حجم تحدّياته، ولا يملك الوعي الذي يؤهله للنجاح المرجوّ في التغيير والإصلاح.
وما لم يَعٍ القائمون على المنهج السلفيّ أنهم أمام مشروع ضخم يستهدف تغيير واقع الأمة وإصلاح واقعها، وما لم يدركوا تقصيرهم في تحصيل الوعي اللازم لإنجاح هذا المشروع، فسوف يتعثر مشروعهم الإصلاحيّ.
لقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- مثالاً حيًا للداعية الواعي بما في عصره من أحداث وتحدّيات؛ فقد قال لأصحابه حين أرادوا الهجرة للحبشة: "إن بأرضها ملكًا لا يُظلم عنده أحد" واعتنى بمتابعة الصراع الدائر بين الفرس والروم، وتمنّى المسلمون آنذاك أن ينتصر الروم؛ لأنهم أقرب للمسلمين من الفرس.
والوعي المنتظر من الدعاة إلى الله يتجاوز الإغراق في تصور المؤامرات والكيد من الأعداء إلى إدراك الموقف السياسيّ والموقف الاجتماعيّ والاقتصاديّ والفكريّ بعناصره، ومواقف كل عنصره، ونقاط الضعف والقوة، وإلى إدراك الفرص والتحدّيات والعقبات، وإلى امتلاك طاقات فرديّة ومؤسسيّة تعي الواقع وتقدّم الحلول والآراء.
التاسع: الحضور في المجتمع ومؤسّساته:
من واجب التيار السلفيّ أن يتساءل: أين موقعنا في المجتمع؟ وأين موقعنا في المؤسسات التي تمارس مهمة التوجيه، فيسمع لها الناس وينصت لها المجتمع؟
وحين نقول للآخرين: إن الإسلام هو المخرج من أزمات الحياة المعاصرة؛ فلا بد أن يرَوْا منا الاهتمام والقدرة على الاعتناء بمشكلاتهم وتقديم الحلول لها.
لقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعيش مع المجتمع في السرّاء والضرّاء، فيحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وينتصر للمظلوم، وها هو يشهد حلفًا في الجاهلية من أجل نصرة المظلوم؛ فعن عبد الرحمن بن عوف عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام؛ فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه" رواه أحمد (1658).
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يتفاعل مع قضايا المجتمع ويتصدى لعلاج مشاكله الاجتماعية، للإصلاح بين امرأة وزوجها كما في قصة بريرة ومغيث، ويعالج مشكلة اقتصاديّة كما في قصة من اجتووا المدينة، والدافة التي دفت المدينة.
والحضور الاجتماعيّ والاعتناء بمشكلات الناس الذي نتطلع إليه لا بد أن يتلاءم مع الواقع ومتغيراته؛ فالاعتناء بمشكلات الناس الاقتصاديّة على سبيل المثال ينبغي ألاّ يكون محصورًا في تقديم الزكاة والصدقة لمجموعات الفقراء والمساكين حينما يأتون بحثًا عنها، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى تقديم دراسات اقتصاديّة، ومشروعات تساهم في حل مشكلات البطالة والكساد، وحلول إسلاميّة للتنمية والتمويل ومعالجة الفقر، وإنشاء مؤسسات اقتصاديّة واستثماريّة تساهم في النهوض بمجتمعات المسلمين، وهكذا في الميدان الاجتماعيّ والصحيّ والتربويّ والسياسيّ.
العاشر: الارتقاء بالحسّ والذوق الحضاريّ:
من خلق الصالحين التواضع والتبسط؛ لكن ممارسة طائفة من المنتسبين إلى التيار السلفي أدّت إلى الظهور بمظهر لا يراعي الذوق والحسّ الحضاريّ؛ وقد يعطي ذلك رسالة للآخرين أن من مقتضيات التدين والالتزام بالمنهج التخلي عن الذوق والحسّ اللائق بمن يعيش في هذا العصر.
إن الله جميل يحبّ الجمال، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يعطي الناس صورة إيجابيّة عنه وعن أتباعه، حين ترك قتل المنافقين لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه. رواه البخاري (3518)، وحين ترك الحبشة يلعبون في المسجد معلّلاً ذلك بقوله: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة؛ إني أُرسلت بحنيفية سمحة" رواه أحمد (24334).
وهذا يتطلب منا أن نعطي الناس صورة إيجابيّة عن أشخاصنا ومؤسساتنا؛ لا رغبة في الاستعلاء والتميز، فالتميز السلبي هو مذموم أيضًا.
الحادي عشر: التلاؤم مع المرحلة الجديدة وتغيرات العولمة:
مع عصر العولمة والتغيّرات الهائلة في العالم بأسره –ونحن جزء منه نتأثر ونؤثر فيه- يبدو سؤال مهم يحتاجه التيار السلفيّ كغيره من قوى الساحة الدعويّة والفكريّة: ما تصوّرنا للتعامل مع هذا التحدي؟ وهل هيأنا أنفسنا للارتقاء بعملنا ورؤيتنا لمواجهة متغيّرات عصر العولمة: في تربيتنا لأولادنا، في تقديمنا الحق للناس، في تصوّرنا للمشكلات التي ستواجه الناس، في تقديمنا للحلول والعلاج؟ هل نملك وعيًا بواقع المجتمع بدرجة جيدة؟ هل حاولنا أن نستنتج إلى أين سيتجه مجتمعنا بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة؟ هل نعرف ما هي قوى التغير المؤثرة في المجتمع؟ وإلى أين تسير اتجاهات القوى هذه؟ وما حجم كل اتجاه؟ ما هي رؤيتنا المستقبليّة لواقع مجتمعاتنا في ظل هذه المتغيّرات؟ وما مدى رؤيتنا لما ينبغي أن نكون عليه؟(/3)
هل لدينا رؤية واضحة لمستقبل تياراتنا الدعويّة؟ وهل حاولنا أن نقرأ المستقبل بناءً على معطيات الحاضر حتى نعدّ العدة؟ إنّ مهمتنا قد كبرت وتضخّمت، ومجريات الحياة قد تعقّدت؛ فهل يليق بنا أن نتعامل مع عصر الإنترنت وثورة الاتصالات بالعقليّة نفسها التي تعاملنا بها فيما مضى؟
إن هذه التساؤلات تفرض علينا المراجعة لأهدافنا وبرامجنا وأدواتنا؛ لنتأقلم مع متغيرات العصر، وإلا فسيتجاوزنا القطار، ونفقد مواقعنا في التأثير.
إنها طموحات وتطلعات لا تعدو أن تكون رؤى شخصيّة يأمل صاحبها أن تكون مثار بحث ونقاش وتقويم ومراجعة.
________________________________________
* نقلاً عن مجلة البيان – العدد (223) – ربيع الأول 1427هـ(/4)
تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد
محمد بن الأمير الصنعاني
الأصل الأول...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد من اتخاذ الأنداد فلا يتخذون له ندا ولا يدعون معه أحدا ولا يتكلون إلا عليه ولا يفزعون في كل حال إلا إليه ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى ولا يتوصلون إليه بالشفعاء: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
وأشهد أن لا إله إلا الله ربا ومعبودا وأن محمدا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله)، وكفى بالله شهيدا. صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له في السلامة من العيوب وتطهير القلوب من اعتقاد كل شيء يشوب.
وبعد:-
فهذا (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه لما رأيته معلمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام.
وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا ولا يرى لله راكعا أو ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب ولا يهاب البعث ولا الحساب.
فوجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. فاعلم أن ههنا أصولا هي قواعد للدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:
الأصل الأول
أنه قد علم من ضرورة الدين أن كل ما في القران فهو حق لا باطل وصدق لا كذب وهدى لا ضلالة وعلم لا جهالة ويقين لا شك فيه. فهذا الأصل أصل لا يتم إسلام أحد ولا إيمانه إلا بالإقرار به. وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
الأصل الثاني...
أن رسل الله وأنبياءه ـ من أولهم إلى آخرهم ـ بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (أن لا تعبدوا إلا الله) ( أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون)، وهذه الذي تضمنه قول "لا إله إلا الله".
فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه.
الأصل الثالث...
أن التوحيد قسمان:
القسم الأول:
توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم والرازق لهم. وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع.
القسم الثاني:
توحيد العبادة ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها. فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء. ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى.
فالرسل عليهم السلام بعثوا لتقرير الأول ودعاء المشركين إلى الثاني، مثل قولهم في خطاب المشركين: (أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) 14:10، (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو) 35:3، ونهيهم عن شرك العبادة، ولذا قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) 16:36، أي قائلين لأممهم أن اعبدوا الله. فأفاد بقوله: (في كل أمة) أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلى لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بهذا.
ولهذا لم ترد الآيات فيه ـ في الغالب ـ إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو: (هل من خالق غير الله) 35:3 (أفمن يخلق كمن لا يخلق) 16:17 (أفي الله شك فاطر السموات والأرض) 6:14 (أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض) 6:14 (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) 31:11 (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات) 46:4 استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون.
وبهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمة ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى: لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما قالوه. فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم وأنهم شفعاء عند الله. قال الله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى: عما يشركون) 10:18 فجعل الله تعالى: اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟
الأصل الرابع...(/1)
أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم (ولئن سألتهم: من خلقهم ليقولن الله) 43:87، (ولئن سألتهم: من خلق السموات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم) 43:9 وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله فقل أفلا تتقون) (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون) 23:84-98.
وهذا فرعون مع غلوه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) 17:102 وقال إبليس: (إني أخاف الله رب العالمين) 59:16 وقال: (رب بما أغويتني) 17:39 وقال: (رب فأنظرني) 15:36 وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) 16:17 وبقولهم: ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) 22:73 والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه.
الأصل الخامس...
أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله، لأنه مولى أعظم النعم، وكان لذلك حقيقا بأقصى غاية الخضوع، كما في (الكشاف).
ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله التوحيد الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول (لا إله إلا الله) والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد قولها باللسان.
ومعناها:
إفراد الله بالعبادة والإلهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: (أجعل الآلهة إله واحدا إن هذا لشيء عجاب) 38:5.
إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى: جعل العبادة له أنواعا:...
فصل
إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى: جعل العبادة له أنواعا:
اعتقادية:
وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الألوهية.
ومنها اللفظية:
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر. ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية:
كالقيام والركوع والسجود في الصلاة. ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.
ومالية:
كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها.
وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا (أجئتنا لنبد الله وحده ) 7:69 أي لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله.
فلم ينكروا الله تعالى ولا قالوا إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره وأشركوا معه سواه واتخذوا له أندادا، كما قال تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) 2:22 أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له. وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". وكان يسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم "لا شريك لك" ويقول: قد افردوه جل جلاله لو تركوا قولهم "إلا شريكا هو لك". فنفس شركهم بالله تعالى: إقرار به.
قال تعالى: (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) 6:22 (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) 28:4 (قل ادعوا شركاؤكم ثم كيدون فلا تنظرون) 7:194 فنفس اتخاذ الأنداد إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة. وقد كانوا مقرين ـ كما عرفت في الأصل الرابع ـ بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده.(/2)
ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم وهو نوح عليه السلام إلى آخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم هو توحيد العبادة، ولذا تقول لهم الرسل: (ألا لا تعبدوا إلا الله)، (اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
وقد كان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده وبأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي بربوبيته للسموات والأرض وان يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة " لا إله إلا الله" معتقدين لمعناها عاملين بمقتضاها وأن لا يدعوا مع الله أحدا. وقال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) 13:14.
وقال تعالى:( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) 5:22، أي من شرط الصدق في الإيمان بالله أن لا يتوكلوا إلا عليه وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار. وأمر الله عباده أن يقولوا (إياك نعبد) ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذا معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله: (فإياي فاعبدون) 29:56 (وإياي فاتقون) 2:41 كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره ولا تتقوا غيره كما في (الكشاف).
فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى:، وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا لله تعالى والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل.
ومن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غير ذلك فقد أشرك في العبادة. وصار من تفعل له هذه الأمور إله لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا. وصار العابد بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق مشركا بالله، وإن أقر بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم غنيمة. قال الله تعالى: [في الحديث القدسي] (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به من عبد معه غيره.
فصل (2)...
فصل
إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم الأنداد من المخلوقين معه في العبادة ولا أغنى عنهم من الله شيئا وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى، فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية وأنه الخالق ولكنهم أشركوا في عبادته، جعلهم مشركين ولم يعتد بإقرارهم هذا، لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية. فمن شأن من أقر لله تعالى بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة.
فإن لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل. وقد عرفوا ذلك وهم في طبقات النار فقالوا: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين، لكنهم علموا وهم في قعر جهنم أن خلطهم الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة صيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام. قال الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) 12:106 أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان.
بل سمى الله الرياء في الطاعات شركا. مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى:، وإنما أراد طلب المنزلة بالطاعة في قلوب الناس. فالمرائي عبد الله لا غيره لكنه خلط عمله بطلب المنزلة في قلوب الناس، فلم يقبل له عبادة وسماها شركا، كما أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يقول الله تعالى: أنا أعنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركا، كما قال تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) 7:159.
فإنه أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما حملت حواء ـ وكان لا يعيش لها ولد ـ طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد حتى تسميه عبد الحرث. فسمته فعاش. وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره. فأنزل الله الآيات وسمى هذه التسمية شركا، وكان إبليس تسمى بالحرث". والقصة في الدر المنثور وغيره.
فصل (3)...(/3)
وقد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا، بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى:، إلا ما ورد في حديث فيه مقال، في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، فإنه قد أشرك مع الله غيره.
واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في الأوثان، فضلا عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا من الله تعالى من الحاجات، من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان ويكون عليه عباد الأصنام.
والنذر بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية. وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما، وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا. والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية. فإن من شرب الخمر وسماها ماء، ما شرب إلا خمرا وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية.
وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، وصدق صلى الله عليه وسلم فإنه قد أتى طوائف من الفسقة يشربون الخمر ويسمونها نبيذا.
وأول من سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس لعنه الله، فإنه قال لأبي البشر: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) [20:120] فسمى الشجرة التي نهى الله آدم عن قربانها شجرة الخلد، جذبا لطبعه إليها وهزا لنشاطه لقربانها وتدليسا عليه بالاسم الذي اخترعه. كما يسمي إخوانه المقلدون له الحشيشة بلقمة الراحة. وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلما وعدوانا أدبا، فيقولون أدب القتل وأدب السرقة وأدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب.
كما يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم "النفاعة" وفي بعضها إلى اسم "السياقة" وفي بعضها أدب المكاييل والموازين.
وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما يعرفه من شم رائحة الكتاب والسنة. وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.
وكذلك تسمية القبر مشهدا ومن يعتقدون فيه وليا لا تخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بها طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونها استلامهم لأركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها.
وكل قوم لهم رجل ينادونه. فأهل العراق والهند يدعون عبد القادر الجيلاني. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: "يا زيلعي، يا ابن العجيل". وأهل مكة وأهل الطائف: "يا ابن العباس". وأهل مصر: "يا رفاعي، يا بدوي، والسادة البكرية". وأهل الجبال: "يا أبا طير". وأهل اليمن: "يا ابن علوان".
وفي كل قريةأموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير و دفع الضر. وهذه هو بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية:
أعادوا بها معنى سواعا ومثله ... يغوث وود، بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا من سوحها من نحيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلا ... ويستلم الأركان منهن باليد
فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل له: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم! فقل له: هذه النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالى: غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدا له. ثم كذلك دعاؤهم له.
فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب.
وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء، وينادونه في الشدة والرخاء، وهو عاكف على القبائح والفضائح، ولا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالا، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشش في قلوبهم وباض فيها وفرخ، يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا.
فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [7:154]
فإن قلتَ: أيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت نعم، وقد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم.
فإن قلت هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندا والالتجاء إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركا!(/4)
قلتُ: نعم (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك والله تعالى: يقول (فصل لربك وانحر) أي: لا لغيره، كما يفيده تقديم الظرف. ويقول الله تعالى: (,إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [72:18] وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه صلى الله عليه وسلم قد سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟!
فهذه الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا، لأن فعلهم أكذبَ قولهم.
فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلتُ: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها، وهذا دال على أنهم لم يعرفوا حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا. فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة (أن لا تعبدوا إلا الله) وإخلاصها له (وما أمروا إلا لعبدوا الله مخلصين له الدين) [98:5] ومن نادى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة. فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [40:60] بعد قوله (ادعوني أستجب لكم).
فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين. قلتُ: إلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، فقالوا: يجب أولا دعاؤهم إلى التوحيد وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر، لا يغني عنهم من الله شيئا وأمهم أمثالهم وأن هذه الاعتقاد منهم فيه شرك لا يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه والتوبة منه. وإفراد التوحيد اعتقادا وعملا لله وحده.
وهذا واجب على العلماء، أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم، عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم. فإذا أبان العلماء ذلك للأئمة والملوك وجب على الأئمة والملوك بعث دعاة إلى الناس يدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين.
فإن قلتَ: الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر.
قلتُ: هذا تلبيس، فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكره أحد، وقد قال الله تعالى في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) [28:15] وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم وطلبهم منهم أمورا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المرض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباع من يعتقدون فيه قد يجعلون له حصة من الولد إن عاش ويشتروا منه الحمل في بطن أمه ليعيش ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون الأولون.
ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائية وقال هذه لسيده فلان ـ يريد صاحب القبر ـ نصف مهر ابنتي، لأني زوجتها وكنت ملكت نصفها فلانا ـ يريد صاحب القبر.
وهذه النذور بالأموال وجعل قسط للقبر كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه (تلما) في بعض الجهات اليمينة. وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) [16:56] بلا شك ولا ريب.
ثم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى: ليفصل بين العباد بالحساب حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه، أعني طلب دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما خرج معتمرا: "لا تنسنا يا أخي من دعائك".
وأمرنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين وأن نستغفر لهم في قوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [59:10] وقد قالت أم سليم رضي الله عنها: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم وهو حي. وهذا أمر متفق على جوازه. والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم وينفسوا عن حبلاهم وأن يسقوا زرعهم ويدروا ضروع مواشيهم ويحفظوها من العين ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها أحد إلا الله.(/5)
هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) [7:197] (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [7:194] فكيف يطلب الإنسان من الجماد أو من حي ـ الجماد خير منه ـ لأنه لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: (وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا..) الآية [6:136] وقال: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون). [16:56].
فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزء من المال وقصدوا قبورهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عند قبورهم وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربا إليهم.
وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم؟ لا أستبعد أن فيهم من يفعل ذلك. بل أخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيما له وعبادة، ويقسمون بأسمائهم. بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى: لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه. وهكذا كان عباد الأصنام (إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [39:45].
وفي الحديث الصحيح: "من كان حالفا فليحلف بالله أو لصمت" وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف باللات فأمره أن يقول: "لا إله إلا الله" وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامهن فإنه قد كفر بذلك، كما قررناه في سبل السلام شرح بلوغ المرام وفي منحة الغفار. فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا "لا غله إلا الله" وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ‘لا بحقها." وقال لأسامة بن زيد:"لم قتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟" وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين. قلتُ: قال صلى الله عليه وسلم " إلا بحقها" وحقها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى.
والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء.
وكذلك من جعل غير من أرسله الله نبيا، لم تنفعه كلمة الشهادة. إلا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي. فقاتلهم الصحابة وسبوهم. فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات؟ وهذا أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حرق أصحاب عبد الله ابن سبأ، وكانوا يقولون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولكنهم غلوا في علي رضي الله عنه واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأشباههم، فعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا من العصاة، فإنه حفر لهم الحفائر وأجج لهم نارا وألقاهم فيها وقال:
لما رأيت الأمر أمر منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا
وقال الشاعر في عصره:
لترم بي المنية حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا فيهم نارا ... رأيت الموت نقدا غير دين
والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير.
وقد وقع إجماع الأمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، فكيف بمن يجعل لله ندا؟
فإن قلت قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال لا إله إلا الله كما هو معروف في كتب الحديث والسير، قلتُ: لا شك أن من قال: "لا إله إلا الله" من الكفار حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصة محلم بن جثامة آية (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ..) الآية [4:94] فأمرهم الله تعالى بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن تبين التزامه لمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وإن تبين خلافه فلم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ.
وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. فإذا تبين لم تنفعه هذه الكلمة بمجردها. ولذلك لم تنفع اليهود ولا نفعت الخوارج مع ما انظم إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث. فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها لارتكابه لما يحالفها من عبادة غير الله.(/6)
فإن قلت: القبوريون وغيرهم من الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم من الأحياء يقولون نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلتُ: هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة في ما ذكرتَ، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه معتقدا، ويصنعون له ما سمعته مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك.
وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا، ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا. فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا.
فإن قلت: هذه النذور والنحائر ما حكمها؟ قلتُ: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها يسعون في جمعها لو بارتكاب كل معصية ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئا إلا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر. فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أراده ما أخرج درهما، فإن الأموال عزيزة عند أهلها. قال تعالى:: (ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) [47:36:37].
فالواجب تعريف من أخرج النذر بأنه إضاعة لماله وأنه لا ينفعه ما يخرجه ولا يدفع عنه ضررا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ويجب رده إليه. وأما القابض للنذر فإنه حرام عليه قبضه لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [:188] ولأنه تقرير للناذر على شركه وقبح اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكم الراضي بالشرك. (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية [4:48] فهو مثل حلوان الكاهن ومهر البغي، ولأنه تدليس على الناذر وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره.
فأي تقرير لمنكر أعظم من قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم؟ وأي رضا بالمعصية ابلغ من هذا؟ وأي تصيير لمنكر معروفا أعجب من هذا؟ وما كانت النذور للأصنام والأوثان إلا على هذه الأسلوب، يعتقد الناذر جلب النفع في الصنم ودفع الضرر فينذر له جزوا من ماله ويقاسمه في غلات أطيانه ويأتي به إلى سدنة الأصنام فيقبضونه منه ويوهمونه حقيقة عقيدته وكذلك يأتي بنحيرته فينحرها بباب الصنم.
وهذه الأفعال هي التي بعث الله الرسل لإزالتها ومحوها وإتلافها والنهي عنها.
فإن قلتَ: إن الناذر قد يدرك النفع ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر وبذله! قلتُ: كذلك الأصنام، قد يدرك منها ما هو أبلغ من هذا، وهو الخطاب من جوفها والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان. فإن كان هذا دليلا على حقية القبور وصحة الاعتقاد فيها فليكن دليلا على حقية الأصنام. وهذا هدم للإسلام وتشييد لأركان الأصنام.
والتحقيق أن لإبليس وجنوده من الجن والإنس أعظم العناية في إضلال العباد وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان والوسوسة في الصدور والتقام القلب بخرطومه. وكذلك يدخل أجواف الأصنام ويلقي الكلام في أسماع الأقوام. ومثله يصنعه في عقائد القبوريين. فإن الله تعالى: قد أذن له أن يجلب بخيله ورجله على بني آدم وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في الأحاديث الصحيحة "أن الشيطان يسترق السمع بالأمر الذي يحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان ـ وهم الذين يخبرون بالمغيبات ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة كذبة.
ويقصد شياطين الجن شياطين الإنس من سدنة القبور وغيرهم فيقولون: إن الولي فعل وفعل، يرغبونهم فيه ويحذرونهم منه. وترى العامة ملوك الأقطار وولاة الأمصار معززين لذلك ويولون العمال لقبض النذور وقد يتولاها من يحسنون فيه الظن من عالم أو قاض أو مفت أو شيخ صوفي، فيتم التدليس لإبليس وتقر عينه بهذا التلبيس.
فإن قلت هذا أمر عم البلاد واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد وطبق الأرض شرقا وغربا ويمنا وشاما وجنوبا وعدنا، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويسرجونها ويلقون عليها الأوراد والرياحين ويلبسونها الثياب ويصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلل والافتقار إليها.
بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلوا عن قبر أو قريب منه أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة يصنعون فيها ما ذكر أو بعض ما ذكر. ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.(/7)
قلتُ: إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قم عليه الدليل لا اتفق عليه العوام جيلا بعد جيل وقبيلا بعد قبيل، فأعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها ونسعى في هدم منارها صاردة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويعظمونه ويرحلون به إلى محل قبره ويلطخونه بترابه ويجعلونه طائفا على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه.
فنشأ على هذا الصغير وشاخ عليه الكبير ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير. بل ترى ممن يتسم بالعلم ويدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة معظما لما يعظمونه مكرما لما يكرمونه قابضا للنذور آكلا ما ينحر على القبور، فيظن العامة أن هذا دين الإسلام وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع منكر ليس دليلا على جواز ذلك المنكر.
ولنضرب لك مثلا من ذلك وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من ضرورة الدين تحريمها، قد ملأت الديار والبقاع وصارت أمرا مأنوسا لا يلج ‘نكارها إلى سمع من الأسماع وقد امتدت أيدي المكاسين في اشرف البقاع في مكة أم القرى يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام وسكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام ساكتون على الإنكار معرضون عن الإيراد والإصدار. أفيكون السكوت دليلا على حل وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
بل أضرب لك مثلا آخر. هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا، بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين.
أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف. كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.
فإن قلت يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة حيث سكتت عن إنكارها لأعظم جهالة. قلتُ: حقيقة الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر بعد عصره. وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولا باطلا وكلاما لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلا. فعلى زعمهم لا إجماع أبدا من بعد الأئمة الأربعة. فلا يرد السؤال. فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لك يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة. وعلى ما نحققه فالإجماع وقوعه محال.
فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق وصارت في كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون ولا يتم لأحد معرفة أحوالهم. فمن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين وكثرة علماء المسلمين فإنها دعوى كاذبة، كما قاله أئمة التحقيق.
ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر وما أنكروه بل سكتوا هن إنكاره لما دل سكوتهم على جوازه، فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاثة.
أولها الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته.
وثانيها الإنكار باللسان مع عدم استطاعة التغيير.
ثالثها الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان.
فإن انتفى أحدها لم ينتفِ الآخر. ومثاله: مرور فرد من أفراد علماء الدين بأحد المكاسين وهو يأخذ أموال المظلومين. فهذا الفرد من علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان لأنه يكون سخرية لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين. ولم يبق إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان. فيجب على من رأى ذلك العالم ساكتا على الإنكار مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد واللسان وأنه قد أنكر بقلبه.
فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب. فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية التي فرقت كلمة الدين وشتتت صلوات المسلمين معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين.(/8)
ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه أنه "وقع ولم ينكر فكان إجماعا"، ووجه اختلاله أن قولهم "ولم ينكر" رجم بالغيب. فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان. وأنت تشاهد في زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده "سكت فلان عن الإنكار" يقوله إما لائما أو متأسيا بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف. وكذا يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: "فعلَ فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعا" مختلا من جهتين.
الأولى: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير.
الثانية: قولهم: "فكان إجماعا" فإن الإجماع اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه.
قال بعض الملوك ـ وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت ـ مالك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.
فما كل سكوت رضى. فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه وأعراضهم تحت قوله وكلمه. فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟ فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالب ـ بك كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير.
ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجدوا قبرا قد شيد عليه البناء وسرجت عليه الشموع وفرش بالفراش الفاخر وأرخيت عليه الستور وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل وأنزل بفلان الضرر وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل. ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة. فإن ذلك في نفسه منها عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة.
فإن قلت هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال. قلت هذا جهل عظيم بحقيقة الحال. فإن هذه القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائة. ذكره في (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول.
وهذا آخر ما أردناه مما أوردناه لما عمت البلوى واتبعت الأهواء وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم ومالوا إلى ما مالت العامة إليه، وصار المنكر معروفا والمعروف منكرا، ولم نجد من الأعيان ناهيا عن ذلك ولا زاجرا.
فإن قلت: قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق من الأفعال يتسمون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون به من تلك الأمور؟ فإنها مما جلبت القلوب إلى الاعتقاد بها.
قلتُ: أما المتسمون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم ويقولونها بألسنتهم ويخرجونها عن لفظها العربي فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حلل التلبيس والتزيين. فإن إطلاق الجلالة منفردا عن إخبار عنها بقولهم ( الله الله) ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد وصار جماعة يقولون (زيد زيد) لعد ذلك استهزاء وإهانة وسخرية، ولا سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ، ثم انظر هل أتى في لفظة من الكتاب والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؟ أو الذي في الكتاب والسنة هو طلب
الذكر والتوحيد والتسبيح والتهليل، وهذه أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعيته وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده الذي من هو عن الله وعن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمته ودله في مكان سحيق. ثم قد يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى، مثل (ابن علوان) و (أحمد بن الحسين) و(عبد القادر) و(العيدروس) بل قد انتهى الحال إلى أنهم يفرون إلى أهل القبور من الظلم والجور كعلي رومان وعلي الأحمر وأشباههما وقد صان الله سبحانه وتعالى: رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكساء وأعيان الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضلال، فيجمعون أنواعا من الجهل والشرك والكفر.(/9)
فإن قلت إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة ويضيفون غليها عمل أهل الخلاعة والبطالة خوارق عادات وأمورا تظن كرامات، كطعن أنفسهم بالآلات الحادة وحملهم لمثل الحنش والحية والعقرب وأكلهم النار ومسهم غياها بالأيدي وتقلبهم فيها بالأجسام، قلت هذه أحوال شيطانيه وإنك لملبس عليك أن ظننتها كرامات للأموات أو حسنات للأحياء لما هتف هذا الضال بأسمائهم وجعلهم أندادا وشركاء لله تعالى في الخلق والأمر فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء الله تعالى.
فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكا له تعالى وندا؟ أن زعمت ذلك فقد جئت شيئا إدا، وصيرت هؤلاء الأموات مشركين وأخرجتهم وحاشاهم ذلك عن دائرة الإسلام والدين، حيث جعلتهم أندادا لله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال المشركين التابعين لكل باطل، المنغمسين في بحار الرذائل الذين لا يسجدون لله سجدة ولا يذكرون الله وحده.
فإن زعمت هذا فقد أثبت الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين وهدمت بذلك ضوابط الإسلام وقواعد الدين المبين والشرع المتين. وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين علمت أن هذه أحوال شيطانية وأفعال طاغوتية وأعمال إبليسية يبعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين، معاونة من الفريقين على إغواء العباد، وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان وهذا أمر مقطوع بوقوعه فهم الثعابين التي يشاهدها الإنسان في أيدي المجاذيب. وقد يكون ذلك من باب السحر وهو أنواع، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم الكفر بالله وإهانة ما عظمه الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه.
فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينية من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال. وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها، وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات حتى أوجس في نفسه خيفة موسى عليه السلام. وقد وصفه الله بأنه سحر عظيم. والسحر يفعل أعظم من هذا فإنه قد ذكر ابن بطوطة وغيره أنه شاهد في بلاد الهند قوما توقد لهم النار العظيمة فليبسون الثياب الرقيقة ويخوضون في تلك النار ويخرجون وثيابهم كأنها لم يمسها شيء.
بل ذكر أنه رأى أناسا عند بعض ملوك الهند أتى بولدين معه ثم قطعهما عضوا عضوا ثم رمى بكل عضو إلى جهة فرقا حتى لم ير أحد شيئا من تلك الأعضاء ثم صاح وبكى فلم يشعر الحاضرون إلا وقد نزل كل عضو على انفراده وانظم إلى الآخر حتى قام كل واحد منهما على عادته حيا سويا. ذكر هذا في رحلته، وهي رحلة بسيطة وقد اختصرت، طالعتها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، وأملاها علينا العلامة مفتي الحنفية في المدينة السيد محمد بن أسعد رحمه الله.
وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بسنده أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبه فجعل يدخل في جوف بقرة ويخرج، فرآه جندب رضي الله عنه فذهب إلى بيته فاشتمل على سيفه فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب (أتأتون السحر وأنتم تبصرون) ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه، كان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جندبا يقوم الليل ويصبح صائما، قال النصراني والله إن قوما هذا شرهم لقوم صدق. فوكل بالسجن رجلا ودخل الكوفة فسأل عن افضل أهلها فقالوا: الأشعث بن قيس، فاستضافه فرأى أبا محمد يعني الأشعث ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده وسأل: أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد الله، فوجده ينام الله ثم يصبح فيدعو بغدائه. فاستقبل القبلة فقال ربي رب جندب وديني دين جندب، وأسلم.
وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى بمغايرة في القصة، فذكر بسنده إلى الأسود أن الوليد بن عقبة كان في العراق يلعب بين يديه ساحر فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به، فيقوم صارخا فيرد إليه رأسه. فقال الناس: سبحان الله! يحي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين فما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الجل سيفه فضرب عنقه وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه! فأمر به الوليد دينارا صاحب السجن فسجنه.
بل أعجب من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي بإسناده في قصة طويلة وفيها أن امرأة تعلمت السحر من الملكين ببابل هاروت وماروت، وأنها آخذات قمحا فقالت له بعد أن ألقته في الأرض: اطلع، فطلع، فقالت: أحقل، فأحقل، ثم تركته، ثم قالت إيبس، فيبسن ثم قالت له: اطحن، فاطحن، ثم قالت له: اختبز فاختبز. وكانت لا تريد شيئا إلا كان.
والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال. والمعيار اتباع الكتاب والسنة ومخالفتهما.
انتهى ما أوردناه ولله الحمد أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
تم الكتاب والحمد لله.(/10)
تطور الفقه السياسي الإسلامي
(الحلقة الأولى) د. بسطامي محمد خير*
المقدمة: فكرة شائعة:
هناك فكرة رائجة تذهب إلى أن نصيب العلوم السياسية عند المسلمين نصيب ضئيل، وأن الفقه السياسي الإسلامي لم يتطور بالقدر الذي تطورت به بقية شُعَب الفقه الأخرى، فهو ليس غنياً غناها ولا شاملاً وافياً مثلها. فكتبه قليلةٌ نادرةٌ، ومباحثه قاصرة على مسائل محدودة. وهو في جلّته لا يفي بحاجات الدولة المعاصرة ووظائفها المتعددة.
ويعبر عن هذه الفكرة أحد الكتاب فيقول:
(من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شي من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون) [1].
وقد يبدو هذا الرأي للوهلة الأولى عل درجة كبيرة من الصحة. ومما ساعد على التسليم بهذه المقولة لدى الكثيرين بادئ الرأي أن معرفتهم بكتب الفقه السياسي لا تزيد على كتب قليلة مثل الأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وقليل غيرها. ويزداد المرء قبولاً لهذا الرأي إذا توجه بنظره إلى تاريخ الفكر السياسي في الغرب. فهناك مفكرون معروفون، وأسماء لامعة كثيرة وكتب مشهورة وقد أصبحت العلوم السياسية في الغرب منذ زمن ليس بالقليل فرعاً مستقلاً للمعرفة، وله كلياته وأقسامه، وفيه باحثون وخبراء ومتخصصون يحملون أعلى الألقاب العلمية. ونريد في الصفحات التالية أن نسبر غور هذه الفكرة ونتحقق من مدى صدقها وصحتها، وذلك بالبحث في الفقه الإسلامي عن تلك الدراسات التي يمكن تصنيفها تحت عنوان - علم السياسة - وننظر في قيمة تلك الدراسات وسعتها وعمقها وفائدتها.
موضوعات علم السياسة:
من الضروري لتحديد مكانة السياسة في العلوم الإسلامية أن نلم بالمقصود من مصطلح علم السياسة. يعرف علم السياسة عموماً بأنه علم الدولة. فهو العلم الذي يبحث في الدولة وممارساتها السياسية ومؤسساتها وأشكالها ونظمها. ومن هذا يتبين أن أهم الموضوعات في علم السياسة تشمل الدولة مقوماتها ووظائفها، وتشمل الحكومة وأنواعها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتشمل الرأي العام ومكوناته والجماعات والهيئات ذات الأثر في السلطة، كما تشمل العلاقات الدولية والقوانين التي تنظم هذه العلاقات [2].
هذه هي موضوعات علم السياسة بصفة عامة ومجملة فهل بحث الفقه الإسلامي هذه الموضوعات؟ وهل نجد مقابلاً لها في العلوم الإسلامية؟
صعوبات الدراسة:
للإجابة الدقيقة على هذا السؤال تواجه الباحث بعض المشاكل والصعاب [3].
1- أولى هذه الصعوبات، اختلاف المصطلحات: فلا شك أن المصطلحات المستعملة في علم السياسة اليوم لا وجود لها في الكتب الفقهية. فالمفهوم الحديث لكلمات مثل الدولة والحكومة والدستور والسيادة والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان، وما إليها من مصطلحات القاموس السياسي لم تكن مستخدمة ولا معروفة عند علماء الإسلام.
ومن الجهة الأخرى فإن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن المفاهيم السياسية عند المسلمين مصطلحات غريبة عن الذهن المعاصر، فمصطلحات مثل الإمامة والخلاقة والولاية، وإمارة الاستكفاء وإمارة الاستيلاء ووزارة التفويض والبيعة، والخراج والفيء والحدود والتعزير والحسبة وغيرها من المصطلحات ليست متداولة في لغة العصر، ومدلولاتها الحقيقية غامضة وتحتاج إلى شرح.
2- الصعوبة الثانية: التي تواجه الباحث أن الموضوعات التي يضمها علم السياسة اليوم لا توجد في المصنفات الإسلامية مبحوثة في موضع واحد. بل إن هذه المباحث المتناثرة في مواضع مختلفة وتحت عناوين متعددة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسير والتاريخ والأدب، ولا ريب أن الناظر في الكتب التي حاولت جمع هذه المباحث وضمها بطريقة مستقلة لا يجد النظريات السياسية مبوبة مرتبة ومفصلة، بل قد يخيل إليه أن هذه الكتب تضم كثيراً من الحشو الذي لا صلة له بالسياسة.
3- الصعوبة الثالثة: أن هذه الكتب التي أفردت للبحث في مسائل السياسة تضم مباحث لا تمت بصلة إلى ما يعرف اليوم بعلم السياسة. فهذه الكتب تشمل النظام الإداري والمالي والقضائي بجانب النظام السياسي وتتحدث عن التشريعات الجنائية والمدنية بجانب التشريعات الدستورية والسياسية.
4- الصعوبة الرابعة: أن كثيراً من المبادئ الإسلامية والمصطلحات في القرآن والسنة وكتب الفقه لا يتصور أن لها صلة بالسياسة مع أنها في واقع الأمر تقرر مبادئ سياسية هامة. ولعل أظهر مثال لذلك كلمة الشهادة نفسها. فلا إله إلا الله التي تعلو به المآذن حتى في بلاد الكفر قد لا يدور بخلد أحد أن لها علاقة بالسياسة، مع أنها في حقيقة الأمر ليست مبدأ عقائدياً فحسب بل هي قاعدة دستورية وشعار سياسي.(/1)
التصور الإسلامي للسياسة:
ومع كل هذه الصعوبات فإن البحوث المتأنية والدراسات الشاملة تظهر أن كتباً ومؤلفات إسلامية كثيرة تحوي قدراً كبيرا من المباحث السياسية. ومن الممكن تقسيم هذه الكتب إلى أربع فئات تنبع من تصور الإسلام للسياسة. ففي حين أن الفكر الغربي الحديث يفصل فصلاً تاماً بين السياسة والدين وبين السياسة والأخلاق فإن الإسلام يجعل السياسة جزءاً من الدين، ويقيم الصلة وثيقة بين الأخلاق والسياسة، وتبعاً لذلك فقد عالج الإسلام السياسة من ثلاث زوايا:
الأولى: زاوية العقيدة
والثانية: زاوية الفقه والقانون
والثالثة: زاوية الأخلاق
ولهذا فإننا نجد المباحث السياسية ضمن الدراسات العقدية، وضمن الدراسات الفقهية وضمن الدراسات الأخلاقية. وقد سجلت الدراسات التاريخية الممارسات العملية للسياسة. فهذه هي المجالات الأربعة التي ضمت المباحث السياسية في الإسلام.
ولا شك أن السياسة في أي مجتمع لها ارتباط وثيق بالمبادئ التي يؤمن بها المجتمع في تفسير ظواهر الكون ومكانة الإنسان فيه. والفلسفة السياسية هي أحد فروع الفكر السياسي في الغرب. وبمثل هذا الارتباط الوثيق بين الفلسفة والسياسة في الغرب وجدت صلة قوية بين السياسة والمبادئ العقائدية في الإسلام. بل كانت السياسة وقضية الإمامة على وجه التحديد أحد المحاور الأساسية للجدل بين الفرق الإسلامية التي ظهرت منذ منتصف القرن الأول الهجري. وهذا يفسر اهتمام رجال العقيدة والكلام والفلسفة بالسياسة وتناولهم لها في كتبهم.
وجدت السياسة عناية أيضاً عند الفقهاء، والعلاقة بين السياسة والفقه هي العلاقة ذاتها التي توجد اليوم بين السياسة والقانون. فالدستور وهو أعلى قانون في الدولة المعاصرة ما هو إلا تعبير عن المبادئ السياسية والفكر السياسي الذي تؤمن به الدولة. ولقد سعى الفقهاء لصياغة القواعد الهامة التي يقوم عليها الحكم، وتحديد وظائف الحكام ومؤهلاتهم، ووضع الحلول للمشكلات المختلفة التي نشأت من تطور الدولة الإسلامية.
أما الدراسات الأخلاقية فقد سعت لوضع قيم وآداب تحكم تصرفات رجال السلطة. وكانت هذه الدراسات تصاغ في شكل مواعظ ونصائح للخلفاء والملوك والسلاطين ومن دونهم من رجال الدولة. وهذه القيم الأخلاقية هي التي تجعل السياسة في الإسلام – في جانبها النظري على الأقل – نظيفة تقوم على الصدق والأمانة والعدل.
وتضم الدراسات التاريخية الوثائق السياسية والإدارية للدولة الإسلامية منذ تأسيسها. وهذه الوثائق تشمل الخطب والرسائل والمعاهدات، وتسجل بدقة كل نشاط سياسي في المجتمع، سواء كان صادراً من رجال الدولة أو من المعارضين لها المتمردين عليها، وسواء كان في سياسة الدولة الخارجية في السلم والحرب. فهي بذلك ذات أهمية قصوى ومصدر رئيس من مصادر الدراسات السياسية، فبجانب الوقائع التاريخية فإننا نجد المبادئ السياسية والأحكام التنظيمية.
تطور علم السياسة في الإسلام:
إن تطور علم السياسة ذو صلة وثيقة بالتاريخ السياسي. ومن الممكن تبعاً لذلك تقسيم الأطوار التي مر بها هذا العلم إلى عصور موازية للحقب التاريخية التي ينقسم إليها تاريخ الإسلام السياسي. وهي العصر النبوي، وعصر الخلافة الراشدة، والعصر الأموي، والعصر العباسي، والعصور المتأخرة، ومنها العصر العثماني، ثم العصر الحديث. فالعصر النبوي وعصر الخلافة هو دور التأسيس والتأصيل ثم يأتي في العصر الأموي والعصر العباسي دور التدوين والاجتهاد. أما العصور المتأخرة فهي عصور التقليد والنقل. وفي العصر الحديث محاولات الإحياء والبعث.
ومن الممكن دراسة تطور علم السياسة خلال هذه العصور بهذا الترتيب. ومع ما لهذه الطريقة من مزاياها في إبراز الإنجازات التي تمت في كل عصر، والإضافات التي يضيفها كل عصر إلى جهود السابقين غير أن مثل هذه الدراسة تصلح إذا كانت الدراسات السياسية علماً مستقلاً واحداً. وقد سلف القول في بيان أن هذه الدراسات مبعثرة في عدد من الكتب، وتضمها شعب مختلفة من شعب العلوم الإسلامية. ولهذا رأيت تناول كل شعبة على حدة، ودراسة تطور المباحث السياسية التي تضمها. وهذا المقال يقتصر على تطور الفقه السياسي فقط، ونمهد لذلك بأصوله في القرآن والسنة.
مبادئ القرآن السياسية :(/2)
أسس القرآن المبادئ والأصول التي تقوم عليها السياسة، وكثير من هذه الأسس قد جاء بيانها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشروعه في تأسيس دولة فيها. وليس معنى هذا خلو العهد المكي من إشارات للسياسة، فقضية الألوهية وصفاتها وخصائصها التي ما انفك القرآن يعالجها منذ نزوله هي القضية الأولى في تصور الإسلام للسياسة. ومن المعروف في تاريخ القرآن أن مبادئه لم تعلن في وثيقة واحدة في يوم واحد، بل كانت تبين في فترات متتابعة تبعاً للمشكلات التي تنشأ. ومن الصعب حقاً أن يسجل المرء تسجيلاً دقيقاً التريث الزمني لنزول الآيات التي تحوي مبادئه السياسية. وقد تكون مثل هذه المحاولة قليلة الفائدة لأن التطور التاريخي للدولة في المدينة قد سجل بالتفصيل في كتب السيرة.
ونورد فيما يلي طائفة من هذه المبادئ السياسية التي أوضحتها بعض آيات القرآن [4] مع الإشارة بقدر الإمكان إلى الظروف والمرحلة التاريخية التي نزلت فيها.
1- اختصاص الألوهية بالحاكمية:
أكدت هذا المبدأ كثير من الآيات كقوله تعالى:
أ – (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) [النساء:60].
والنص فيما يبدو من النصوص المبكرة التي نزلت في السنوات الأولى من قيام دولة المدينة، حيث كان مجتمع المدينة يتكون من اليهود والمسلمين والمشركين. وقد نزل النص يؤكد أن الحاكمية لله تعالى وحده وذلك حين تخاصم رجل من المسلمين مع رجل من اليهود وذهبا لكاهن مشرك يقضي بينهما، وكان هذا الكاهن قاضياً في الجاهلية [5].
ب - ومن النصوص المشابهة لهذا النص في دلالته وظروفه قوله تعالى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .. فأولئك هم الظالمون .. فأولئك هم الفاسقون) [المائدة:44، 45، 47].
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن حكماً لقوم يوقنون) [المائدة 50].
وهذه النصوص أيضاً نصوص مبكرة إذ أنها كانت تعقيباً على حادثة رجم الزانيين من اليهود [6] وقد كان قبل الإجلاء النهائي لليهود والذي حدث في السنة الخامسة للهجرة [7].
ج _ (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) [آل عمران:64].
وهذه الآية تبطل صفة التشريع التي كان يتمتع بها الأحبار الرهبان من دون الله، وقد ضمنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي وجهها إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها إلى الإسلام. وكان نزولها في الفترة السابقة لفتح مكة [8].
2 - منزلة الرسول التشريعية:
ونختار ثلاثة نصوص لبيان هذا المبدأ نزلت كلها في المراحل الأولى من العهد المدني.
أ – (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) [الحشر:7].
وتاريخ هذا النص يرجع إلى السنة الرابعة من الهجرة إثر غزوة بني النضير [9].
ب – (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) [النساء:115].
والحادثة التي كانت سبباً لهذا النص كانت في السنوات الأولى من العهد المدني أيضاً [10].
ج – (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) إلى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء: 64،65].
والروايات التي تذكر في سبب نزول هذا النص لا نستطيع منها أن نحدد تاريخ النص، وإن كانت الإشارة قد وردت بأن نزولها كان بعد بدر بسبب طعن أحد المسلمين في حكم قضى به الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه له بالمحاباة في حكمه [11].
3 - مبدأ الخلافة:
وردت كلمة خليفة في موضعين في القرآن الكريم:
أ – (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص:26] وهو نص من العهد المكي.
ب – (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة:30] وهو نص من العهد المدني وسورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة [12].
4 - طاعة الدولة:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء:59].
ونزل هذا النص في أحد أمراء السرايا يبين الحدود بطاعة الدولة [13].
5 - مبدأ الشورى:
وهذا المبدأ الهام نجده في نصين:
أ – (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [الشورى:38].
وهذا نص من العهد المكي حين كان المسلمون جماعة وحركة لم تصل إلى مرحلة الدولة. وقد جعل هذا النص الشورى صفة أساسية من صفات هذه الجماعة.(/3)
ب – (وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159]. وهذا النص ورد في مرحلة متأخرة، فمن المرجح أن ذلك عقب غزوة أحد التي كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة [14] لأنه في السياق الذي يعقب على حوادث هذه الغزوة. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم استشارهم أيخرج إلى أحد للقاء العدو خارج المدينة أم ينتظرهم ويقاتلهم في المدينة، فأشاروا عليه بالخروج فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فوقعت الهزيمة [15] فجاء النص يؤكد على ممارسة الشورى وإن كانت نتائجها خاطئة في بعض الأحيان.
6 - مبدأ البيعة :
البيعة عقد بين الأمة والحاكم ومن النصوص الواردة في شأنها:
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) [الممتحنة:12].
وقد كانت المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية يمتحن بهذه الشروط ويبايعن على الوفاء بها، حتى عرفت صيغة هذه البيعة باسم بيعة النساء [16].
7 - وظائف الدولة:
أ – (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج:41] وهذه الآية جزء من سياق أول آيات أنزلت بالإذن بالقتال.
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) [الحج:39] وقد جاء ذلك الإذن في بداية العهد المدني [17].
ب – (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) [الحديد:25] وهذا نص مدني.
ج – (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعِمّا يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيراً) [النساء:58]. ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة مباشرة تأمر بدفع مفاتيح الكعبة لأحد الرجال الذين أسلموا وكانت هذه المفاتيح عند أسرته في الجاهلية [18] والآية تؤكد عموماً قاعدتي العدل والأمانة في تسيير الدولة واختيار رجالها.
8 - وضع الأقليات غير المسلمة والعلاقات الدولية :
أ – (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [الممتحنة:1]. وهذا النص كان قبيل فتح مكة في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل خطاباً لكفار مكة يخبرهم باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم [19].
ب – (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة:8]. وهذا النص تابع لسياق النص السابق وجاء في ظروفه نفسها.
ج – (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم) [التوبة:28] وقد كان نزول هذه الآية في العام التاسع من الهجرة.
د – (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة:29]. وكان نزول هذه الآية عام تسع من الهجرة أيضاً.
و – (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) [التوبة:4]
(فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين)[التوبة:7] وهذه النصوص جزء من صدر سورة براءة ومن المعلوم أنها نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر ما نزل من السور.
كتب التفسير والسياسة :
وما دام القرآن هو المصدر الأول لكثير من المبادئ السياسية فإن كتب التفسير تصبح مرجعاً مهماً لبيان تلك المبادئ والتعليق عليها وبخاصة الكتب التي اهتمت بإبراز الأحكام الفقهية مثل كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للإمام القرطبي توفي 671 هـ.
نصوص الحديث السياسية :
الحديث هو المصدر الثاني من مصادر الفقه السياسي وهو بمثابة الشرح والتفصيل للمبادئ الأساسية التي جاءت في القرآن. وقد تضمنت كتب الحديث الرئيسية فصولاً مستقلة جمعت فيها نصوص الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة. وقد دونت تلك النصوص تحت عناوين مختلفة وبالنظر في هذه العناوين تتفتح لك الاتجاهات التي كانت سائدة بين المحدثين في عصور التدوين والمصطلحات المتداولة لمفهوم السياسة.
ففي بعض هذه الكتب نجد مباحث السياسة مفردة تحت عنوان الإمارة، ويبحث بعضها مسائل الإمارة والقضاء في موضع واحد، ويجعل بعضها مباحث الإمارة جزءاً من مباحث الجهاد، ويضم بعضها مباحث الإمارة مع مباحث السياسة المالية مثل الخراج، وقد اهتم بعض هذه الكتب بمسألة جزئية من فقه السياسة وأفرد له فصلاً خاصاً وعنوانا مثل البيعة.(/4)
وواضح من هذه الاتجاهات الربط بين الدولة ووظائفها فمن نظر إلى وظيفتها القضائية جعلها ضمن مباحث القضاء، ومن نظر إلى وظيفتها العسكرية جعلها ضمن مباحث الجهاد، ومن نظر إلى وظيفتها الاقتصادية جعلها ضمن مباحث الدولة المالية. وسنرى هذه الاتجاهات ذاتها هي التي كانت سائدة في الدراسات الفقهية.
فالإمام البخاري (194-256هـ) جمع أحاديث الفقه السياسي تحت عنوان الأحكام، وكلمة أحكام تعني ما يصدر من الحاكم، ويعني به البخاري الخليفة والقاضي، ولهذا ذكر هنا ما يتعلق بالخلافة وبالقضاء من أحاديث زادت على مائة حديث [20]. ولا يعني هذا أن البخاري قد جمع كل الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة في هذا الموضع. بل إننا نجد موضوعات هامة في مواضع أخرى. فالشورى مثلاً ضمها في المباحث التي جعل عنوانها (الاعتصام بالكتاب والسنة)[21].
ولصحيح البخاري عدد كبير من الشروح من أشهرها شرح ابن حجر ( - 852هـ) واسمه، فتح الباري، وشرح العيني ( -855هـ ) واسمه، عمدة القارئ، ومن المعلوم أن البخاري قد وضع عناوين كتابه بنفسه، أما الإمام مسلم (206-261هـ ) فمع أنه قد جمع الأحاديث ورتبها حسب الموضوعات غير أنه لم يعطها عناوين من عنده وقد عنونها الإمام النووي في القرن السابع الهجري، وكتب شرحاً لصحيح مسلم هو من أحسن الشروح. وقد أعطى النووي الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة عنوان ( كتاب الإمارة ) ونجد تحت هذا العنوان أحاديث خاصة بالجهاد [22].
وجعل الإمام أبو داود (202-275 هـ) في سننه فصلاً بعنوان ( كتاب الخراج والإمارة والفئ) [23] وواضح من هذا العنوان أنه يربط بين الدولة ووظيفتها الاقتصادية. وهو أحد اتجاهات السائدة في مباحث الدولة في ذلك العصر.
وممن شرح سنن أبي داود الخطابي ( -388 هـ) ويكتسب شرحه أهمية خاصة لأنه من العصور الأولى والدراسات المبكرة.
وأما في سنن الإمام الترمذي (209-279هـ ) فنجد مباحث السياسة موزعة بين أبواب الأحكام والسير والجهاد [24] أي أنها متصلة بمباحث القضاء والجهاد.
ويضع الإمام ابن ماجة ( 207-273هـ) أحاديث الإمارة ضمن أبواب الجهاد [25]. أما الإمام النسائي فيتجه اتجاهاً مختلفاً إذ يفرد في سننه كتاباً مستقلاً عن البيعة [26] ويورد تحت هذا العنوان مسائل الدولة. ونجد هذا الصنيع نفسه في مؤلف الإمام مالك ( 93-173هـ) وهو من أوائل كتب الحديث، إلا أنه لم يورد في مبحث البيعة إلا ثلاثة أحاديث فقط [27].
هذه أهم كتب الأحاديث ولم يأت ذكر لمسند الإمام أحمد ( 164- 241هـ) لأن أحاديثه لم ترتب حسب الموضوعات
ولا شك أن هناك مصنفات أخرى في الحديث تأتي في مرتبة أقل من هذه. ومن المعلوم أن في كتب الحديث قد تتكرر الأحاديث ويرد الحديث الواحد في أكثر من كتاب. ولهذا اتجهت بعض المصنفات إلى جمع الأحاديث المفرقة في أمهات هذه الكتب وللإمام ابن الأثير ( 544-606 هـ) موسوعة في هذا المجال أسمها (جامع الأصول) وقد جمع عدداً تحت مادة الخلافة في حرف الخاء.
----------
[1] الإسلام وأصول الحكم علي عبد الرازق ص 67.
[2] أنظر: المدخل إلى علم السياسة – بطرس غالي ومحمد خيري – ص 3 و 7 وانظر دائرة المعارف البريطانية مادة: علم السياسة.
[3] أنظر: نظرية الإسلام وهديه في السياسة، أبو الأعلى المودودي، ص 240.
[4] جمع الأستاذ أبو الأعلى المودودي كثيراً من هذه الآيات في كتابه الخلافة والملك.
[5] تفسير ابن كثير 1/518.
[6] تفسير ابن كثير 1/28.
[7] البداية والنهاية ابن كثير 4/166.
[8] البداية والنهاية ابن كثير 1/371.
[9] البداية والنهاية ابن كثير 4/74.
[10] هي حادثة سرقة ابن أبيرق درعاً وأخفاها عند يهودي، تفسير ابن كثير 1/550.
[11] تفسير ابن كثير 1/520.
[12] تفسير ابن كثير 1/517.
[13] تفسير ابن كثير 1/39.
[14] البداية والنهاية لابن كثير.
[15] تفسير ابن كثير 1/409.
[16] تفسير ابن كثير 4/352.
[17] تفسير ابن كثير 3/252، 262.
[18] تفسير ابن كثير 1/515.
[19] تفسير ابن كثير 4/344.
[20] فتح الباري لابن حجر 16/227.
[21] فتح الباري 17/102.
[22] أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/199.
[23] سنن أبي داود 3/180.
[24] سنن الترمذي الجزء 2 و 3.
[25] سنن ابن ماجة 2/953 – 959.
[26] سنن النسائي 7/137.
[27] الموطأ 2/982.
[28] قام أحمد عبد الرحمن البنا بترتيب مسند الإمام أحمد حسب الأبواب وأسماه الفتح الرباني وجعل فيه كتابا للخلافة والإمارة، أنظر 4/23.
مبادئ الحديث السياسية:
إن أهم الموضوعات التي تعالجها نصوص الأحاديث التي تضمنتها الكتب السابقة يمكن إجمالها فيما يلي:
[1] نظام الخلافة : (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون ) البخاري ومسلم.
[2] مسئوليات الدولة:
أ - (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) البخاري الترمذي وأبوداود.
ب - (إن شر الرِّعاء الحطمة) مسلم.(/5)
ج – (أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله تعالى وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر) رواه الترمذي.
د - (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) وأبوداود.
و - (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) البخاري ومسلم.
ز - (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً[1] فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة) مسلم.
[3] الشورى:
(شاور النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج) البخاري.
[4] صفات الخليفة:
أ - (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين) البخاري.
ب - ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) البخاري.
ج - (إن رسول الله استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين ) البخاري.
[5] اختيار الخليفة:
أ - قال عمر بن الخطاب (من بايع رجلا من غير مشورة فلا يتابع هو ولا الذي بايعه) البخاري.
ب - (من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) مسلم.
ج - ( إنا لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه) البخاري ومسلم.
د - ( لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها). البخاري ومسلم.
و - (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) مسلم.
[6] البيعة:
أ - (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى وإن لم يعطه لم يف له ) الترمذي.
ب - كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الملك بن مروان يبايعه ويقول ( أقر لك بالسمع والطاعة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت) البخاري.
[7] اختيار الوزراء ورجال الدولة:
أ - ( إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ) أبوداود.
ب - ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله) البخاري.
[8] حقوق الدولة:
أ - (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله) البخاري.
ب - (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ).
ج - (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا إن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) الجماعة إلا الموطأ.
[9] حقوق الرعايا:
أ - ( إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم ) أبوداود.
ب - خطب عمر بن الخطاب فقال في خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص :لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقتصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده، ألا أقصه ولقد رأيت رسول الله أقص من نفسه ) أبو داود.
نقد الحكومة وتغييرها:
أ - ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون إلا من كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال لا ما صلوا) مسلم.
ب – (أعيذك بالله يا كعب بن عُجرة من أمراء يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أولم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض) الترمذي.
ج - (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عجزتم إذ بعثت رجلاً فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟) أبو داود.
د - (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه من فارق الجامعة شبراً فمات فميتته جاهلية) البخاري ومسلم.
الدراسات الفقهية في السياسة:
تأتي اجتهادات الخلفاء الراشدين الأربعة في المرتبة الثالثة في مصادر الفقه السياسي بعد القرآن والسنة خاصة تلك المسائل التي أجمع عليها الصحابة في ذلك العصر. وتتسم فترة الخلفاء الراشدين بصفات مميزة مما يجعلها تشكل النموذج الذي قام عليه بناء الفقه السياسي برمته. فمن خصائص هذا العصر أن اجتهادات الخلفاء كانت تصدر بطريقة جماعية شورية مع مالهم هم أنفسهم من قدم راسخة في الفقه والعلم، كما أن تلك الاجتهادات كانت تأخذ صفة القانون الذي يحكم شئون الدولة. وبزوال عهد الخلفاء الراشدين فقدت إلى حد كبير هاتان الميزتان، فاتجه الفقه بكل شعبه بما فيها الفقه السياسي إلى التطور على يد أفراد وليس على يد هيئة تشريعية شورية، كما أن قانون الدولة لم يكن كله خاضعاً لآراء الفقهاء.(/6)
إن كثيراً من المبادئ السياسية العامة التي أرساها القرآن والسنة نجد لها تفصيلاً وشرحاً أوسع في عهد الخلفاء الراشدين، لقد تأسس في ذلك العهد نظام الخلافة، وتبلورت ممارسة الشورى في اختيار الخليفة وفي إدارة الحكم وفي التشريع. وتشكلت نظم مختلفة لتحقيق مهمة الدولة في إقامة العدل وحفظ الدين وتنفيذ غاياتها وأداء وظائفها القضائية والمالية والعسكرية. وفي الفترة التي تلت عصر الخلفاء الراشدين حدث تحول في نظام الحكم من خلافة على منهاج النبوة إلى ملكية. وشهدت تلك الفترة أيضاً نشأة الفرق المختلفة من شيعة وخوارج وغيرهم. وقد كان لهذين الحدثين أثرهما في الفقه السياسي، وقد شغل الفقه في ذلك العصر بثلاث مسائل هامة: الصورة الصحيحة لانعقاد الخلافة، وقضية البيعة، والخروج على الحاكم الفاسق الظالم. ولقد أسهم فقهاء التابعين ببيان وجهة النظر الصحيحة في هذه المشكلات. ومن أشهر من تصدى لذلك الحسن البصري ( توفي 110هـ) وسعيد بن المسيب توفي ( 92هـ) وسعيد بن جبير توفي(95هـ)[2]، ويأتي في قمة هؤلاء عمر بن عبد العزيز الذي أعادت إصلاحاته في نظام الخلافة إلى عهدها الراشد وأصبحت إصلاحاته مصدراً تشريعياً للفقه السياسي فيما بعد.
ومع هذه الجهود فقد ظلت مسائل الفقه السياسي منثورة حتى عهد أئمة الفقه الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، حيث بدأ الفقه كله طوراً جديداً، طور التدوين والتبويب والترتيب.
ونلحظ في تدوين الفقه السياسي اتجاهات أربعة:[3]
الاتجاه الأول: المزج بين مباحث الدولة وبين إحدى شعب الفقه الأخرى ذات الصلة بالدولة ويمثل هذا الاتجاه كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف ( 113 -182هـ) أكبر تلاميذ أبو حنيفة، وقد زاوج بين مباحث الخلافة ومباحث موارد الدولة المالية.
الاتجاه الثاني: بحث مسائل الفقه السياسي ضمن مباحث الفقه العام وتمثل هذا الاتجاه مدونات المذاهب الفقهية الكبيرة ومن أوائل هذه المدونات كتاب الأم للشافعي ( توفي 204هـ)
الاتجاه الثالث: أفرد الفقه السياسي بالتأليف ومن أول الكتب في ذلك كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي ( توفي 450هـ) وقد اشتمل على كل النظم الخاصة بالدولة من سياسية ومالية وقضائية وعسكرية.
الاتجاه الرابع: بحث موضوع بعينه من موضوعات الفقه السياسي ومن أوائل الكتب في ذلك كتاب الأموال لمؤلفه أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224هـ) والكتاب في النظام المالي للدولة.
وفيما يلي قائمة بأهم المؤلفات القديمة في الفقه السياسي مرتبة حسب وفاة مؤلفيها:
[1] الخراج – أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ( ت 182هـ )
[2] السير الكبير – محمد بن الحسن الشيباني ( ت 189 هـ)
[3] الخراج – يحى بن آدم القرشي (ت 204 هـ)
[4] الأموال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)
[5] الأحكام السلطانية – علي بن محمد بن حبيب الماوردي (ت 450هـ)
[6] قوانين الوزارة – الماوردي (ت 450هـ)
[7] أدب القاضي – الماوردي (ت 450 هـ)
[8] غياث الأمم – أبو المعالي الجويني إمام الحرمين ( ت 478هـ)
[9] نهاية الرتبة في طلب الحسبة – الشيزري (ت 589هـ)
[10] العقد الفريد للملك السعيد – محمد بن طلحة القرشي (ت 652هـ)
[11] السياسة الشرعية – ابن تيمية (ت 728هـ)
[12] الحسبة في الإسلام – ابن تيمية (ت 727 هـ)
[13] معالم القربة في أحكام الحسبة – ابن الأخوة (ت 729هـ)
[14] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية – ابن القيم (ت 751هـ)
[15] أحكام أهل الذمة – ابن القيم (ت 751هـ)
[16] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – ابن فرحون المالكي (ت 799هـ)
[17] تحرير الإسلام في تدبير أهل الإسلام – عزالدين بن جماعة (ت 819 هـ)
[18] معين الحكام فيما تردد بين الخصمين من الأحكام (ت 824 هـ)
[18] لسان الحكام في معرفة الأحكام – ابن الشحنة (ت 882 هـ)
ولا شك أن هذه الكتب كما يتضح من عناوين بعضها ليست قاصرة على النظام السياسي ولكنها اتجهت إلى الكتب المتخصصة في موضوعات ذات صلة بالنظام السياسي مثل النظام المالي أو النظام القضائي.
أشهر رجال الفقه وآثارهم :
[1] أبو يوسف وكتابه الخراج [4]:
هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، من سلالة أحد الصحابة، ولد عام 113 من الهجرة وتوفي عن سبع وستين سنة عام 182 هجرية. وكان موطنه الكوفة مركزاً علمياً مرموقاً، وقد تلقى العلم على أكابر أساتذة عصره، وكان من أنجب تلاميذ أبو حنيفة وأعلمهم وأكبرهم، وقام بتدوين فقهه ونشر مذهبه، وتولى القضاء في دولة بني العباس، واستحدث له هارون الرشيد منصب قاضي القضاة فاشتهر بحسن السيرة والعدل في قضائه، وكانت أهم أعماله في هذا المجال أنه استطاع توحيد الأمة على قانون واحد هو الفقه الحنفي وقضى على الفوضى القانونية التي كانت سائدة بسبب تأثيرات أهواء الحكام. ولما كان تعيين القضاة بيده فقد استطاع أن يختار قضاة صالحين من مدرسته الفقهية.(/7)
والكتاب الذي نحن بصدده هو كتابه (الخراج)[5] وكلمة خراج المقصود بها ضريبة الأرض ولكن أبو يوسف يستعملها هنا استعمالا عاما، وهو المعنى الشائع في ذلك العصر ويعني به إيرادات الدولة المالية ولكنه في الحقيقة يبحث كافة أمور الدولة تقريباً. وقد ألفه أبو يوسف بتكليف من الخليفة هارون الرشيد وهو بذلك يكتسب أهمية خاصة إذ هو بمثابة قانون يصدره قاضي القضاة للعمل به في كافة أقاليم الدولة.
وإذا تركنا جانباً موضوعاته الأخرى فإن أهم المبادئ التي يقدمها في تصوره للدولة ونظامها بطريقة موجزة هي:[6]
1 - يضع أبو يوسف حكومات الخلافة الراشدة نماذج تحتذى ويستدل بسوابقها القانونية ولا يعتد أبداً بنهج حكام بني أمية وبني العباس. وبهذا المبدأ يلغي عادات ومعاملات الحكومات التي لا تتفق مع الشريعة.
2 - يثبت أن للمسلمين نقد حكامهم نقداً حراً، وأن حرية النقد هذه خير للشعب والحكومة على السواء، وأن من حق المسلمين محاسبة الحاكم وسؤاله عن حقوقهم التي شرعها لهم الشارع ومساءلته عن أموالهم التي ائتمنوه عليها.
3 - يدعو إلى التزام المشروعية في نفقات خزانة الدولة - بيت المال - وينهى الحكام عن استخدام أموال الدولة في أغراضهم الشخصية وصرفها بغير وجه حق ويبين نظام الضرائب المشروعة.
4 - ويقرر مبادئ معاملة الأقليات غير المسلمة في الدولة - أهل الذمة- إذ أن المعاملة السخية النظيفة جعلت النصارى في عهد عمر أوفياء مخلصين للدولة ضد الرومان أبناء دينهم.
5 - يقول للرشيد أنه حرم عليه استعمال الظالمين والخائنين في حكومته ويعيد عليه النصح بأن يستوثق من أخلاق من يختارهم للعمل مثلما يستوثق من كفاءتهم وأن يبعث وراءهم من يحاسبهم إذا انحرفوا.
6 - ويقول عن القضاء أن واجبه الإنصاف وينبغي ألا يؤخذ أحد بشبهة، ويشير بضرورة إجراء تحقيق فيمن أودعوا السجون بلا اتهام ثابت، كما قدم مقترحات هامة في إصلاح نظام السجون.
(وقصارى القول أن الاقتراحات القانونية التي اقترحها أبو يوسف على حاكم مطلق السلطة بصفته وزير العدل وقاضي القضاة في حكومته إذا طابقناها على التصور الإسلامي الصحيح تبدو ناقصة من نواحٍ عديدة، ولكن هذا لا يعني أن تصور أبو يوسف للدولة هو ما جاء في تلك المقترحات، وإنما الحق أن ذلك هو مبلغ ما كان يتوقعه في الدولة العباسية. وبصفته مفكراًَ عملياً فلم يكن يرمي إلى مجرد تقديم خطة نظرية إنما كان يريد إعداد خطة قانونية أقل ما فيها أنها تحوي الجوهر المطلوب للدولة الإسلامية ويمكن إلى جانب هذا تنفيذها في تلك الظروف)[7].
[1] الشيباني وكتابه (السير الكبير) [8]:
هو محمد بن الحسن الشيباني، ولد بواسط عام 132 هجرية، ونشأ بالكوفة وتتلمذ على أبي حنيفة، وكان لأبي حنيفة أثر كبير في تكوين ثقافته. واشتهرت مكانته العلمية حتى أنه ليعد ثاني أصحاب أبي حنيفة بعد أبي يوسف. تولى من المناصب الحكومية منصب القضاء مرتين وتوفي عام 189 هجرية.
وأكبر مآثر الشيباني أمران: الأول: كثرة إنتاجه الفقهي بل كان أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجاً ونشر بذلك المذهب الحنفي. الثاني: يعتبر كتابه المبسوط من أول المدونات الفقهية الشاملة. ولقد ألفت المدونات الفقهية التالية اقتفاء لأثره واتباعاً له.
ويعتبر كتابه السير الكبير من أجمع ما ألف في ما ألف في موضوعه منذ عهد مبكر. وكلمة سير هي جمع سيرة وهي من المصطلح الإسلامي لفقه العلاقات بين المسلمين وغيرهم في الحرب والسلم. ولقد كان المصدر الأول لهذا الفقه هو سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومغازيهم ومن هنا نشأ المصطلح. ولقد كانت مواد كتاب السير الكبير الأولية قد أملاها الإمام أبو حنيفة على تلاميذه ونقلها عنه الشيباني وصاغها صياغة أولى في كتابه السير الصغير ثم عاد ونقحها وزاد فيها زيادة كبيرة فكانت كتابه السير الكبير. وقد تناول في كتابه هذا مبادئ الإسلام في الأمور التالية:
1 - تنظيم العلاقة مع غير المسلمين في حالة السلم. وتشمل هذه ثلاث فئات: الأقليات غير المسلمة داخل الدولة الإسلامية، سواء كانت إقامتها دائمة ( أهل الذمة) أو مؤقتة (المستأمنون) الأقليات المسلمة خارج الدولة.
2 - تنظيم الحروب الخارجية وإدارتها وقواعد القتال وأثرها في الأموال والأشخاص ( الأسرى والغنائم ) وطرق إنهاء الحرب والآثار المترتبة على إنهائها.
3 - الحروب الداخلية وتشمل قتال المتمردين (البغاة) والمرتدين.
وبهذا الشمول فإن الكتاب يعتبر أول كتاب في العلاقات الدولية. وقد شرح الكتاب الإمام السرخسي -من فقهاء الحنفية في القرن الخامس الهجري[9].
[3] أبو عبيد القاسم وكتابه الأموال:[10](/8)
هو أبو عبيد القاسم بن سلام من المؤلفين الأوائل في الفقه السياسي. وكتابه الأموال من أحسن ما صنف في نظام الدولة وقد كان أبو عبيد نابغاً في القراءات والتفسير والحديث. واشتهر بكتابه غريب الحديث الذي مكث في تأليفه وتنقيحه أربعين سنة. تقلد من المناصب الحكومية قضاء طرسوس وتوفي بمكة في أثناء الحج عام 224 هجرية.
ويبحث كتاب الأموال في موارد الدولة المالية وأوجه صرفها. وميزة الكتاب أنه بجانب موضوعه الرئسي قد جمع كثيرا من الأحاديث والآثار وكثيرا من الرسائل والمعاهدات فكان بذلك سجلاً وثائقياً لهذه الفترة المبكرة من صدر الإسلام. ولا يكاد كتاب في الفقه السياسي جاء من بعده إلا ويقتبس منه.
[4] الماوردي وآثاره:[11]
من أشهر كتب الفقه السياسي ( الأحكام السلطانية ) الإمام الماوردي. وقد كان الماوردي إمام الشافعية في عصره، واسمه الكامل علي بن محمد بن حبيب. ولد في البصرة عام 364 هجرية، وفيها تلقى العلم، وأتم تحصيله في بغداد، تقلد القضاء في عدة مناطق حتى وصل منصب قاضي القضاة، وكان ذا خلق ودين وله علاقة وطيدة مع الخليفة ورجال الدولة في زمانه. وكان الخليفة يثق فيه وجعله سفيراً بينه وبين بني بويه وبينه وبين السلاجقة، وكانت بيد هؤلاء مراكز القوة في الدولة، ولقد أهلته ثقافته العالية ووظائفه المتعددة واتصاله برجال السلطة عن قرب وخبراته السياسية للكتابة في الفقه السياسي. وله مؤلفات في كثير من العلوم وله من الكتب السياسية أربعة كتب:
1 - الأحكام السلطانية.
2 - قوانين الوزارة.
3 - نصيحة الملوك.
4 - تسهيل النظر وتعجيل الظفر (في سياسة الملك).
وقد نال كتاب الأحكام السلطانية شهرة واسعة وهو يعد بحق أول من جمع مسائل الفقه السياسي المنثورة في مواضع متفرقة في كتاب واحد. ويقول عن ذلك في مقدمة كتابه:
(لما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير أفردت لها كتاباً)[12].
وقد ألف الكتاب بأمر من خليفة العصر فالكتاب بذلك ليس كتاب فقه نظري بل هو موجه للسلطة الحاكمة للعمل به وتنفيذه.
يبدأ الكتاب بإعطاء تعريف للإمامة والمؤهلات المطلوبة لتقلد هذا المنصب الهام، والطرق الصحيحة لانعقاد الإمامة، ثم يبين واجبات الدولة وواجبات الشعب نحوها والأمور التي تؤدي إلى عزل الإمام. وبعد أن يعطي تعريفاً لكل من الوزارة والإمارة يتحدث عن أنواع الوزارة والإمارة وسلطات كل نوع والمؤهلات المطلوبة لتوليها، ثم ينتقل لمناقشة المهام التفصيلية لأجهزة الدولة المالية والقضائية والعسكرية.
وعموماً يمكن إجمال تقديم الكتاب في النقاط التالية:
أ - بما أن الكتاب قد ألف في القرن الخامس الهجري وقد تأصلت المذاهب الفقهية وتمايزت فإن الكتاب يعتبر جمعاً ونقلاً لأراء الفقهاء وتلخيصاً لنظرياتهم في مسائل السياسة. ولا يظهر فيه اجتهاد خاص الماوردي.
ب - حاول الماوردي استيعاب الآراء الفقهية، وقد أشار في مواطن عديدة إلى من اقتبس منهم. وقد كان منهجه في منهج الدراسة المقارنة، فلم يقتصر على ذكر مذهب واحد بل تعرض لكل المذاهب وقارن بينها. وكان يذكر أيضاً أدلة الآراء من القرآن والسنة وآراء الصحابة والتابعين وأعمال الخلفاء السابقين.
ج - سعى المؤلف لضم كل الموضوعات في مؤلف واحد، ولقد اضطره ذلك إلى صياغة عباراته صياغة موجزة وذكر الأدلة ذكرا مختصراً.
د - ألف الكتاب أواخر الدولة العباسية حين بلغت الخلافة غاية الضعف، واتسعت الهوة بين النظرية الإسلامية الصحيحة للدولة وبين الواقع، ومع العرض النظري لنظام الدولة عالج الماوردي مشكلات عصره، فنجده يناقش شرعية الخلافة الاسمية التي فقدت نفوذها وانتقلت سلطاتها إلى نائب أو هيئة، وقد كانت تلك حال الخلافة في تلك الآونة. فقد استبد بنو بويه الرافضة بالأمر من دون الخليفة العباسي وكان ألعوبة في أيديهم لا سلطة له. وكذلك أيضاً ناقش شرعية ما أسماه (إمارة الاستيلاء)[13] وقد كان كثير من حكام أقاليم في الدولة قد استولوا على الحكم بالقوة وفرضوا على الخليفة الاعتراف بحكمهم. وإذا كان قد انتهى إلى إجازة هذين الوضعين حتى اتهم بمحاولة البحث عن المسوغات الشرعية للأوضاع الظالمة فمما لا ريب فيه أنه لم ينظر إلى تلك الأوضاع على إلا أنها أوضاع استثنائية وما كتبه عنها وما كتبه عن شرعيتها لا يتجاوز أن يكون أحكاما اضطرارية.
والكتاب الثاني من كتب الماوردي السياسية هو كتابه ( قوانين الوزارة ) وهذه رسالة هامة تبحث في موضوع متخصص من موضوعات الفقه السياسي. فقد بحث المؤلف فيها كل ما يتصل بالوزارة من فقه، ابتداء من تعريف الوزارة وأنواعها، ومؤهلات الوزراء إلى علاقتهم برئيسهم ووظائفهم وما يعينهم من سياسة للقيام بهذه الوظائف. وانتهى في هذه الرسالة إلى أن أهم غايات الوزارة تحقيق الهداف التالية: (دين متبع، سلطان قاهر، عدل شامل، أمن عام، وخصب دائم)(/9)
أما كتابا الماوردي الآخران (نصيحة الملوك) و (تسهيل الظفر) فهما كتب الآداب والأخلاق السياسية ولا تدخل في نطاق الفقه. وسيأتي الحديث عنهما في موضعه.
[5] أبويعلى وكتابه (الأحكام السلطانية)[14]:
من الكتب المشهورة في الفقه السياسي كتاب آخر بعنوان (الأحكام السلطانية) ومؤلفه هو يعلى محمد بن الحسين الفراء عالم العراق في عصره ولد في بغداد عام 380 هـ، وبها نشأ ونهل من منابع شتى ونبغ فيه حتى صار شيخ الحنابلة في أيامه. وألف مصنفات عديدة وبخاصة في الفقه الحنفي وأصول الفقه ولكن أكثر مصنفاته مفقود.
وقد عاصر المؤلف الماوردي إذ توفي بعده بثمانية أعوام وكتابه الأحكام السلطانية يشابه كتاب الماوردي إلى درجة كبيرة فهو يشاركه في العنوان وفي التبويب والترتيب بل ويتطابق الكتابان أحياناً في النص. ولعل الفرق الوحيد بين الكتابين هو أن كتاب أبي يعلى اقتصر على بيان وجهة النظر الحنبلية، أما الماوردي فقد كان كتابه دراسة فقهية مقارنة.
وهذا التشابه بين الكتابين يدفع إلى التساؤل أيهما الأصيل؟ وليس من السهل الإجابة على هذا السؤال. فلا أحد يعرف تأريخ تأليف الكتابين، ويميل الظن إلى اعتبار كتاب الماوردي هو الأسبق[15] ومهما يكن الأمر فالكتابان يمثلان اتجاهاً واحداً وقد مهدا السبيل لكتاب آخر هام وهو كتاب الجويني.
[1] إبرة.
[2] انظر الخلافة في الفكر الإسلامي د. مصطفى حلمي ص 293 وما بعدها.
[3] أنظر من أصول الفكر السياسي الإسلامي محمد فتحي عثمان ص 32 وما بعدها.
[4] البداية والنهاية ابن كثير ج 10 ص 180، تاريخ التراث العربي فؤاد سيزكين 2/94.
[5] لكتاب الخراج شرح مطبوع بعنوان الرتاج ألفه عبد العزيز بن محمد الرحبي.
[6] الخلافة والملك – المودودي ص 192 وما بعدها.
[7] الخلافة والملك – أبو الأعلى المودودي ص 201.
[8] البداية والنهاية ابن كثير 10/202، وتاريخ التراث العربي سيزكين 2/52.
[9] طبع الشرح في خمس مجلدات كبرى.
[10] طبقات الشافعية - السبكي 5/267 - مقدمة قوانين الوزارة للماوردي ص 5 وما بعدها.
[11] له كتاب في التفسير وكتاب ضخم في الفقه بعنوان الحاوي وكتاب أدب الدنيا والدين.
[12] الأحكام السلطانية ص 3.
[13] المصدر نفسه.
[14] القاضي أبو يعلى الفراء، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ص 516 وما بعدها.
[15] حقق الكتاب د. فؤاد عبد المنعم ود. مصطفى حلمي وكبعته دار الدعوة سنة 1979م.(/10)
تعابير منامية أم أخبار شيطانية؟
عبد الله بن مرزوق القرشي 4/4/1423
15/06/2002
قال شيخ الإسلام : " الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه ".(1)
تمهيد :
يناقش المقال ما شاع ،وانتشر من أخبار بين الناس في صورة تعابير منامية ، ولهذه التعابير علامات تميزها عن غيرها منها : الاختلاف بين الرؤيا ،والتعبير ،وعلامات أخرى ستذكر في المقال إن شاء الله .
المقصود من المقال:
هو البحث في هذه الأخبار هل هي من قبيل التعابير المنامية أم من قبيل الأخبار الشيطانية. وليس من مقصود المقال الحكم على الأشخاص والأعيان ،فإن لهذا شروطاً ،وموانع يبحث فيها أهل العلم والخبرة . عند حكمهم على الأشخاص ، لا سيما وأن هذا الأمر قد يشتبه على الصالحين ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله–"وذاك الذي جاء كان شيطاناً ؛ قال:أنا المسيح ،ولم يكن هو المسيح نفسه،ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين(2).
السبب الباعث لكتابة المقال :
أ- أن فيها أخباراً مستقبلية . وهذه الأخبار إما عن طريق التعبير المنامي الشرعي ، وإما عن طريق الشياطين . ولا بد من التمييز بينهما؛ فالإخبار عن المستقبل عن طريق التعابير المنامية أمر مشروع ،والإخبار عن طريق الشياطين كهانة ممنوعة(3)وهو أمر خطير يوجب التنبيه عليه.
ب-أن هذه الحالة شاعت واشتهرت وتعلق الناس بها فوجب البحث والبيان.
إلى أولئك الصالحين وطلبة العلم ، ممن عرفه الناس مدافعاً عن هؤلاء المعبرين ،ومجادلاً عنهم في المجالس والبحوث والمناقشات ، إلى هؤلاء الأحباب ،وغيرهم أبعث هذه الكلمة ، أرجو أن يقرؤوها ،ويتدبروها ،فإن رأوا حقاً فهو أحق أن يتبع ، وإن رأوا باطلاً ردوه على صاحبه بالأدلة.
أيها الإخوة :
نحن أولاً لا نناقش في أصل الرؤى ،وتعبيرها فهي باقية بقاء هذا الدين .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات" . قالوا : وما المبشرات ؟ قال :" الرؤيا الصالحة" . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن ناساً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر ، وأن أناساً أروها في العشر الأواخر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"التمسوها في السبع الأواخر " . وعن ابن عمر قال : إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ،وأنا غلام حديث السن وبيتي المسجد قبل أن أنكح ، فقلت في نفسي : لو كان فيك خيرٌ لرأيت مثل ما يرى هؤلاء .. الحديث . وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : كان رسول الله يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه :"هل رأى أحد منكم من رؤيا؟" قال : فيقص عليه ما شاء الله أن يقص .. الحديث " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، "(4)
قال ابن أبي جمرة: معنى كون رؤيا المؤمن في آخر الزمان لا تكاد تكذب أنها تقع غالباً على الوجه الذي لا يحتاج إلى تعبير فلا يدخلها الكذب ، بخلاف ما قبل ذلك فإنها قد يخفى تأويلها فيعبرها العابر فلا تقع كما قال فيصدق دخول الكذب فيها بهذا الاعتبار "(5).
فليس لأحد في الرؤيا كلام إلا أن يكون كلاماً في ضوابط ومعايير ينبغي أن ترعى مستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وحال النبي صلى الله عليه وسلم معها ، هذه حدود الكلام في الرؤى والتعبير(6) لكن حديثي هنا عن شيء آخر غير ذلك ، وهو الحفاظ على المعبرين الصادقين من أن يدخل فيهم غيرهم ممن ليسوا من التعبير في قبيل أو دبير وإنما هي شياطين تخبرهم عن :1-أحوال الرائي. 2- أمور في المستقبل تصدق حيناً وتكذب أحايين كثيرة، عن هذه الطائفة بالذات ستكون هذه الكلمة ، وقبل أن أبدأ أذكر إخواني بأن انشغالهم بتثبيت الرؤى والتعابير ، والدفاع عن هذا الجزء من ديننا الحنيف ، لا ينبغي أن يشغلهم عن حماية جناب التوحيد ، وحفظ الأمة من تلاعب الشياطين ولا بد لنا من ضابط معلوم تتميز به التعابير المنامية من الأخبار الشيطانية. علم بذل صاحبها أم جهله.
وها أنا أسوق أربعة أمور تجعلني أجزم أن هذه الطائفة ممن ستذكر خصائصها ليسوا معبرين في شيء :(/1)
أولاً : إذا نظرنا في الرؤى الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتعابيرها : وجدنا أن هناك علاقة ظاهرة بين الرؤيا والتعبير ، نعم لا يصيب في التعبير إلا أهله ، ولكن إذا ذكر المعبر تعبيره لا حظ الناس –كل الناس- العلاقة الظاهرة بين الرؤيا والتعبير. خذ مثلاً تعبير النبي الكريم يوسف عليه السلام : (أحد عشر كوكباً .. أخوته )،(إني أراني أعصر خمراً ..فيسقي ربه خمراً) ، (أحمل فوق رأسي خبزاً .. تأكل الطير من رأسه) ، (سبع بقرات سمان .. تزرعون سبع سنين دأباً ) وهكذا ..سمت ظاهر ، ما خالفه أوجب ريبة في النفوس ، وللسمت الظاهر قوة في الاستدلال ، وقطع للحجة ؛ فماذا ستقول لأصحاب التفسير الباطني أحسن من أن سمت تفسيرهم وصفته الظاهرة مخالفة أتم المخالفة للسمت العام في تفسير الصحابة ممن شهدوا التنزيل رضي الله عنهم أجمعين.
فلا تحقرن هذه العلامة ؛ فإنها منجية لك من مهالك كثيرة.. فأخبروني كيف يعرف الناس الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة ؟ حيرة بالغة ، وشك كبير ، سيتبدد جميعاً حين تسمع علامة هذه الفرقة من رسول الهدى" كلها في النار إلا واحدة،وهي الجماعة"(7) وهي من كان على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا سمتهم وهذه صفتهم الظاهرة يعرفها الجاهل والعالم ، والذكي والبليد فتأمل.
وماذا نفهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الحسنة من الله ، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب ، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان ،وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً ، فإنها لن تضره "(8) . ألا يدل هذا على أن هناك علاقة ؟ وإلا فكيف سيمتثل الرائي هذا الحديث ؟! . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي – في حديث جابر عند مسلم- عن إخباره بتلاعب الشيطان به ، كيف يصح النهي ،والرجل لا يدري عن أي علاقة بين الرؤيا والتعبير ؟! أترى أن التعابير التي أخبر بها يوسف – ذلك النبي الكريم- الذي امتن الله عليه: (ولنعمله من تأويل الأحاديث ) جاءت متناسبة مع الرؤى : مصادفة ؟ وهكذا تعبير محمد صلى الله عليه وسلم جاءت متناسبة مع الرؤى : اتفاقاً ؟! أم أن المناسبة بين الرؤى ،والتعبير إحدى خصائص التعبير المنامي التي لا يجوز تجاوزها (9).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- " ولهذا كان مدار تأويل الرؤيا على معرفة القياس والاعتبار "(10)وقال في موضع آخر :" وهذا غالب ما يرى ، ويسمع في المنام ، فإنه يحتاج إلى تأول ،وهو بمنزلة الاستعارة والأمثال المضروبة" (11)
ثانياً : وأيضاً راجع النظرة في الرؤى الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتعبيرها إنك سترى صفة أخرى فهي غالباً لا تذكر التفصيلات الدقيقة جداً ، تعبير ظاهر ليس فيه تفصيل دقيق جداً مع بلوغ أصحابها الغاية في القدرة على التعبير.
أما هؤلاء فإنهم يفصلون تفصيلاً دقيقاً جداً ، خلافاً لما عهدناه في تعابير الكتاب والسنة ، وهو كما ترى خلاف في السمت العام ، والصفة الظاهرة يوجب ريبة في النفوس .
ثالثاً : اعترف بعضهم عند خاصته ( وهذا ثابت عنهم ) : أنه يرى شيئاً ويسمع شيئاً يخبر به – ويسميه تعبيراً – ولو كان هذا موجوداً في المعبرين السابقين لنقل إلينا نقلاً مستفيضاً ،فهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، كما لو " قال رجل من أهل الجمعة إن الخطيب ضربه رجل بالسيف ،فقتله وهو يخطب على المنبر ، ولم يذكر هذا باقي أهل الجمعة ، جزمنا بأن ذلك كاذب ؛ لان تواطؤهم على كتمان مثل هذا الأمر مستحيل عادة ، ومن هنا قالوا : ما نقل آحاداً مع توفر الدواعي إلى نقله تواتراً حكم ببطلانه"(12)
قال شيخ الإسلام : " كما يستدل بعدم النقل (لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، وما توجب الشريعة نقله ، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه)على أنه لم يكن "(13).
أفيعقل أن يوسف عليه السلام ،والمعبرين من قبله ،ومن بعده ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ،ومن عبر بعده كانوا يرون صورة التعابير أمامهم أو يسمعون التعبير بآذانهم ولا ينقل إلينا مع تشوف الناس للتعبير ، وكثرة سؤال الناس لهم :من أين لك هذا؟ فيجيبونهم: بأن الأول قال كذا وكذا فكان تعبيره كذا وكذا ..
أما الثاني فقال : كذا .. ولا يذكرون شيئاً يرونه أو يسمعونه (14) .وبهذا نعلم أن المعبرين السابقين لم يكونوا يرون شيئاً أو يسمعون شيئاً ؛ فعدم النقل هنا هو بمثابة نقل العدم .(/2)
أما أصحاب الجن والشياطين فقد قال شيخ الإسلام : "وإذا سئل الشيخ المخدوم عن أمر غائب : إما سرقة ، وإما شخص مات وطلب فيقول الشيخ وطلب منه أن يخبر بحاله ، أو علة في النساء .. أو غير ذلك فإن الجني قد يمثل ذلك ، فيريه صورة المسروق فيقول الشيخ : ذهب لكم كذا وكذا ، ثم إن كان صاحب المال معظما ً وأراد أن يدله على سرقته ، مثّل له الشيخ الذي أخذه أو المكان الذي فيه المال ،فيذهبون إليه،فيجدونه كما قال "(15). وقال أيضاً : "ولقد أخبر بعض الشيوخ الذي كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة فقال : يرونني الجن شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج ، ويمثلون له فيه ما يطلب من الإخبار به قال : فأخبر الناس به "(16) . وقال : " والجني إذا أراد أن يري قرينه أموراً غائبة سأل عنها ، مثّلها له . فإذا سئل عن المسروق ، أراه شكل ذلك المال . وإذا سئل عن شخص ،أراه صورته . ونحو ذلك"(17).
ومما وقع لبعض هذه الطائفة أنه يقول للمتصل به وهو يسرد رؤياه : استمر إن استمررت ذكرت اسمك . وحضرت مجمعاً عاماً لأحدهم يعبر فيه ، فأقحم في تعبيراته كلمةً عن الجوال لم تُفْهم عنه ، واستمر في تعبيره ثم قال بعد ذلك : وصاحب الرؤيا السابقة فاتحاً جواله يُسْمِعُ زوجته الآن . فما علاقة ذلك بالرؤيا غير أنه سمع خبراُ وبلغه : " ورب مبلغ أوعى من سامع" وقد " وعينا" نحن أن ذلك من الشياطين . فلو كان لها علاقة بالرؤيا لذكر ذلك مباشرة ، أمّا أن ينبه بطريقة غامضة ، ثم يعرف أنه لا يزال فاتحاً جواله فيشهر به .فهذه أخبار شيطانية لا تعابير منامية.
ولو سألت أحدهم في تعبيراته : من أين لك هذا؟ لقال : سر المهنة ،فإن صارحك قال : هكذا رأيت ، أو هكذا سمعت ، فهو ناقل لا غير.
رابعاً : المسلك الشخصي لبعضهم ، فمن عرف بعضهم عرف شيئاً منكراً ، من الإسفاف في القول والعمل ، وأفعالاً أخرى ينبو القلب عنها . هذا فضلاً عما ثبت عن بعضهم من الكذب الصراح البواح ،وقد جلست في مجلس انعقد لأجل خبر نشره أحد هؤلاء المعبرين في أحد الصالحين وثبت في المجلس كذبه في هذا الخبر (مع أخبار استفاضت عنه كذب فيها ، إذا جمعت النظري مع نظيره أيقنت بأنه كذاب دجال ) والله يقول :(هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، تنزل على كل أفاك أثيم ، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون).
فيا أخوة الإسلام : هبوا لي شيئاً يمنع الكهان والمشعوذين من أن يخرجوا من بيوتهم في صورة معبرين .يا أهل التوحيد والعقيدة : بينوا لي علامة أميز بها بين المعبر حقاً ومن تتلاعب به الشياطين .إذا كان كل ما تقدم لا يقدح في أخبار هذه الطائفة فلا أدري ما هي أخبار الشياطين إذن ؟! إن الأمة بحاجة إلى أن تحمى من تلاعب الشياطين ؛ يحضر الناس المجامع الدينية ، والمخيمات الدعوية فيجدون هؤلاء في صورة معبرين ، والناس لا تملك ما تميز به بين الصادق والكاذب ، والمعبر والكاهن . فأين أهل العلم والغيرة على دين الله وأمة الإسلام؟
أما من أصر على قبول هذه الطائفة فلا ضير..طريق قصير آمن ، لكل كاهن ، يحميه من مطاردة رجال الحسبة والهيئات:اخرج من بيتك حسن الهندام، وانشر كهانتك بين الناس في صورة معبر "خطير" يخبر الرائي عن اسم أبيه ولون سيارته وحادث وقع لسيارته بغير علمه ،وكتاب قرأه واشتغل به، ومسجد يسعىإمامته(18) .. بهذه الطريقة ستسلم من الملاحقة ، وتحظى بالجاه والتقدير ، ولن يستطيعوا تمييزك من بين المعبرين.
وختاماً :
فإن أحسنهم حالاً من كانت الشياطين تأتيه ولا يدري ، وهو صالح في نفسه ، لا يعلم عليه كذب أو فجور ، قال شيخ الإسلام بن تيمية يرحمه الله :" ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى ،وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولايةالله تعالى"(19).
وهذا أنصحه بأن يكف عما يسميه تعبيراً ، فإنها من وحي الشيطان ،فإن لم يكف عن ذلك ،فدين الله ،وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل أحد.
وهناك شبهة يكررها بعض طلبة العلم : ولو كانت جناً ؟ فإن استخدام الجن جائز على قول بعض أهل العلم .وأقول :
1- ميز هؤلاء أولاً ،فإما معبر ،وإما مستخدم للجن ، ولكلٍ بابٌ وجواب.
2- فإن قلت معبراً : فقد ثبت لنا مما سبق خلاف ذلك . وقد سلمت لنا "جدلاً " أنه ليس معبراً ،فإن قولك " ولو كانت جناً ؟" معناه الضمني سلمت لكم أنه غير معبر ، وأن ذلك عن طريق الشياطين ، فاستخدام الجن جائز.
3- وإن قلت مستخدماً للجن : فلو سلمنا بصحة هذا القول المجوز لذلك ،فليس صاحبنا من هذا الباب ، فإنه يخبر عن المستقبل . ولم يقل أحد من أئمة الإسلام بان استخدام الجن في الإخبار عن المستقبل جائز، وإنما هي الكهانة بعينها .
وهناك شبهة أخرى يقول صاحبها:هؤلاء يصدقهم الواقع .
والجواب:(/3)
أ- إن كنت تريد ما يخبرون به من أمور غائبة عن بعض الناس وهي ليست من أمور الغيب المطلق. فهذا القدر يشتركون فيه مع من تخبره الجن والشياطين،وقد ذكرت كلام شيخ الإسلام قريباً" فيذهبون إليه فيجدونه كما قال " . وقال الشيخ أيضاً : " وقد رأيت من هؤلاء شيوخاً يسجعون أساجيع كأساجيع الكهان ، ويكون كثير منها صدقاً " .(20).وعليه فليس في هذا علامة تثبت صدقهم وبراءتهم من الشياطين.
ب- ويدخل هنا أيضاً ما يكون متعلقاً بأمور وقعت في الحاضر مثل قول بعضهم : " سيحفظ ابنك الصحيحين " ،وقد تحدث الابن مع غيره في هذا . أو قول بعضهم" قدمت على ترقية وستأتيك " ،وقد قبلت الترقية ،ووقع عليها المسؤول في الدائرة الحكومية ،فإن هذا يمكن أن تسمعه الشياطين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إليه فيخرج فيرى الناس يتحدثون به ، فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس"(21) .
ج- وإن كنت تريد ما يخبرون به من أمور المستقبل المحض الذي لا يتعلق بأمور وقعت في الحاضر . فقد كفينا المؤونة ولله الحمد ، فقد اختاروا لنا أخباراً أخذوها "هم" من بين أخبراهم ، على أنها أحسن ما عندهم ؛فأقسموا عليها ، ومن ذلك ما أخبر به بعضهم من أنه سيقع حدث عظيم في اليوم الثامن من شهر الله المحرم لعام 1423 وجاء الثامن، والثامن عشر ،والثامن والعشرون ،ولم نسمع بشيء ! هذه أوثق أخبارهم المستقبلية ،ولذلك أقسم عليها أيماناً مغلظة . أو ما أخبر به أحدهم من الصلاة في القدس في 2/2/2002م ( قبل أن يزاد عليها سنتان ) وجاء التاريخ وما جاء خبره . أما صدقهم في بعض هذه الأخبار فهي كمثل أخبار الكهان يصدق الواحدة فتحفظ عنه ويكذب تسعاً وتسعين كذبة فلا تحفظ .
ويعترض بعضهم على العلاقة بين الرؤيا والتعبير بقول الله :"ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون" ، يقول ما علاقة هذا برؤيا الملك ؟ والجواب : لو سلمنا بعدم العلاقة فيصح الاعتراض لو قلنا بالمطابقة ولم نقل بذلك ، وإنما قلنا بالعلاقة الظاهرة بمعنى أنك إذا وضعت الرؤيا في جانب والتعبير في جانب آخر وجدت علاقة ( وليس مطابقة ) ظاهرة . مع أنا لا نسلم بعدم العلاقة قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي :" وأما قوله (ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) أي يحصل للناس فيه غيث مغيث ، تعيد الأرض خصبها ، ويزول عنها جدبها، وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع؛ فدل القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها ، ويرفع جدبها ؛ ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقى في الأرض من آثار الخضر والنوابت و الزروع ونحوه لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم ، وهذا ظاهر جداً أخذه من رؤيا الملك . ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى ،مع وضوحه ، بل قالوا :لعل يوسف عليه السلام جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون(22).الأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد ، وأيضاً من السياق . فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحاً لرؤيا الملك "(23).
وهنا أقول: ماذا نحكم على صنيع طائفة خالفت سمت المعبرين في:
1-العلاقة بين الرؤيا والتعبير .
2-عدم التحديد الدقيق جداً في تعابيرهم .
3-التفريق بين الرؤيا وحديث النفس وتلاعب الشياطين .
4-عدم رؤيتهم للتعابير أمامهم وسماعهم لها بآذانهم .
ووافق ( الصنيع ) أصحاب الجن والشياطين في :
1- رؤيتهم لأشياء مكتوبة أو ممثلة ، وسماعهم لأصوات وأخبار ( حتى إن بعضهم يسمع أحياناً : قل:...".
2- التحديد الدقيق جداً .
3- المسلك الشخصي لبعضهم .
إذا حكمت لهؤلاء بأنهم معبرون فلن تستطيع التفريق بين المعبر الصادق ، وبين الكاهن الذي اتخذ طريقة جديدة في كهانته ، وهي عدم إخباره بشيء من الكهانة حتى يسمع منك رؤيا تقصها عليه، أياً كانت الرؤيا، ولو كانت مخالفة تماماً لما سيخبرك به ، وربما سمعت عنك ، أو سمعت عني أني أصبحت معبراً "خطيراً " لمجرد أني أصبحت أرى صورة أمامي ، وأسمع صوتاً بأذني حين أسمع الرؤيا !.
ويا عز الشياطين وبهجتها إذا بلغت أخبارها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،وانتشرت أنباؤها في شباب الإسلام وشيوخه بواسطة هذه الطائفة . هزيمة منكرة لنا أمة الإسلام في فلسطين على أيدي أولياء الشياطين" اليهود" وهزيمة منكرة في جزيرة العرب ومهد الإسلام على أيدي شيوخ اليهود " الشياطين " إن احتفلت الأمة بأخبارها الحاضرة وأنبائها المستقبلة .. فاللهم سلم سلم.(/4)
هذا ما تبين لي من أحوال القوم إن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأً فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان ، وقد عرضتها على بعض الأكابر من المتخصصين في العقيدة وغيرها ، فوافقوني على ذلك وأشاروا علي بنشرها(24) ولولا ذلك ما تجرأت على هذا الموضوع الخطير . فليتق الله رجل يصر على هذه الطريقة ، أو يدافع عنهم ، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ، واعلم " انك لن تدع شيئاً ( شهرة ، أو مالاً ، أو جاهاً ، أو رأياً قلته وتبين لك خلافه) لله عز وجل إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه"(25).
اللهم اعصمنا من مضلات الفتن ،اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. ربنا من أراد هذه الأمة بسوء أو لبس عليها دينها فافضحه في عقر داره، واكشف عواره ، واهدنا إلى دينك القويم وصراطك المستقيم . والله اعلم.
ويبقى السؤال لمن لم يقتنع بذلك:
هات ضابطاً معلوماً أميز به بين التعابير المنامية، وأخبار الشياطين ؟
وتذكر أن السؤال ليس في التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وإنما هو في التفريق بين التعابير المنامية والأخبار الشيطانية.
(1) النبوات (2/831). وقد استفدت كثيراً فيما يتعلق بالجان من كتاب "فتح المنان " جمع مشهور حسن آل سلمان فجزاه الله خيراً .
(2) الفتاوى (13/94).
(3) ولا يلزم أن يكون صاحبه كاهناً .
(4) انظر هذه الأحاديث وغيرها في صحيح البخاري ، وأحاديث الرؤى مشهورة منشورة في كتب السنة ولله الحمد.
(5) فتح الباري (12/424).
(6) ومن هذا الباب ما نشر في موقع الاسلام اليوم بعنوان : "الأحلام ومصير الأمة " لفضيلة الشيخ سامي بن عبد العزيز الماجد
(7) رواه أحمد في المسند (4/102) .وأبو داود في كتاب السنة (4597) والحاكم (1/128).
(8) رواه ا لبخاري (مع الفتح 449)وهذا لفظه . ومسلم (4/1772).
(9) ولاشك أن جميع خصائص التعبير المنامي موجودة في تأويلات الكتاب والسنة.
(10) بغية المرتاد (1/316) تحقيق موسى الدويش.
(11) الفتاوى (11/637)
(12) مذكرة أصول الفقه ، للعلامة محمد الأمين الشنقيطي ، تحقيق العربي(178)
(13) الفتاوى (11/342)
(14) ولا يقبل هنا ما ينقل عن ابن سيرين من الخبر والخبرين ، ونحن نعلم أنه من أكثر من كذب عليه في هذا الباب ، ونحن قد كذبنا الرجل الذي أخبر بقصة الخطيب لأنه خبر واحد في شيء لا يحتمل التفرد.
(15) الفتاوى (13/95)
(16) الفتاوى (11/309)
(17) النبوات (2/1053)
(18) وقد وقع لبعض السابقين شيء من ذلك كما ذكر ابن رجب أن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي قد برع في معرفة تعبير الرؤيا، فكان الناس يتحيرون منه إذا عبر الرؤيا؛ لما يخبر الرائي بأمور جرت له ، فربما أخبر باسمه وبلده ومنزله . وكان جماعة من العلماء يقولون : إن له رئياً من الجن . ذيل طبقات الحنابلة(2/236) .أفادني إياه الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف حفظه الله.
(19) الفتاوى (11/202)
(20) النبوات (2/1046)
(21) الفتاوى 13/89)
(22) وتأمل – حين خفي الربط على هؤلاء المفسرين – كيف عزو هذه الفقرة إلى وحي خاص من عند الله . فماذا سيقول المفسرون لو اطلعوا على تعبيرات القوم ، وهي لا تبت بصلة للرؤيا .إنه وحي خاص غير أنه ليس من عند الله .
(23) فوائد مستنبطة من قصة يوسف للسعدي(25)
(24) ولم أستأذنهم في نشر أسمائهم.
(25) رواه احمد في مسند أبي قتادة ، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (10603).(/5)
تعال معي إلى طريق الجنة
التاريخ : 24/12/2005
الكاتب : د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه ... الزوار : 5204
< tr>
الجنة شيء عظيم..
ومغنم كبير..
وسلعة غالية..
وهي روح وريحان..
ذكرها يريح القلب، وينشر في المكان عطرا..
ذكرت في القرآن كثيرا، وذكر معها طرائقها، وعدا يعد الله بها من أحسن عملا، يسلي الحزين، ويحط عن المهموم، ويرغب النافر، ويذكر الناسي:
• فأول طرائق الجنة وأعظمها: الإيمان بالله تعالى ورسوله، قال سبحانه:
- { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}.
- قال عليه الصلاة والسلام:( لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) [رواه مسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول، وأنه لايدخل الجنة إلا المؤمنون 1/107].
فمن أراد الجنة: فليشهد الشهادتين، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت متى استطاع سبيلا، ويؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خير وشره، وأعلى ذلك كله شهادة أن لا إله إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام:
- ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله). رواه البخاري
- وفي حديث عتبان: ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ). رواه البخاري
• ومن طرائق الجنة: الجهاد في سبيل الله بالمال، والنفس. قال تعالى:
- { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفرلكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومسكن طيبة في جنات عدن}.
• والإحسان إلى الخلق، بالصدقة على الفقراء والمساكين، في الرخاء والشدة، وكظم الغيظ والعفو عن أذاهم، وحسن الحال مع الله تعالى، بذكره والاستغفار والتوبة بعد الذنب، من طرائق الجنة، قال تعالى:
- {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين* الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
• وجل القلب ورقته إذا ذكر الله تعالى والتوكل عليه مع الصلاة والزكاة يدخل الجنة، قال تعالى:
- { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}.
• قيام الليل والاستغفار بالأسحار من طرائق دخول الجنة، قال تعالى:
- { إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون).
• ومما يدخل الجنة القسط والعدل والعفة، والرحمة بكل قريب ومسلم ، قال عليه الصلاة والسلام:
- (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال) رواه مسلم
• والتواضع من طرائق دخول الجنة، قال:
- ( ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره). رواه البخاري
- وقال : ( أهل الجنة الضعفاء المغلوبون)، أحمد .
- وعند مسلم:( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)، أي في ضعفها، ومعنى الحديث أن الكبر منتف من قلوبهم، واللين والرحمة والتواضع صفتهم، ليس فيهم الجبروت ولا الظلم، بل فيهم الخير والتسامح والمغفرة والعفو والصفح وحسن الظن.
• وثناء الناس بالخير كذلك من طرائق الجنة. قال عليه السلام:
- ( أهل الجنة من ملأ أذنيه من ثناء الناس خيرا وهو يسمع) رواه ابن ماجة، وعند البخاري: ( من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة)، فإن الناس لا يثنون على إنسان بالخير إلا وهو في الغالب كذلك، وقد ذكر ابن تيمية عن طائفة أن الشهادة لمعين بالجنة تجوز إذا انتشر الثناء عليه بالخير والإيمان، بشرط أن يموت على ذلك. [الفتاوى 11/518]
• ومن طرائق الجنة: إفشاء السلام. قال عليه الصلاة والسلام:
- ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على عمل إذا فعلتموه تحاببتم؟، أفشوا السلام بينكم). [رواه مسلم] فإفشاء السلام يورث المحبة، والمحبة تورث الإيمان، والإيمان هو سبب دخول الجنة.
• ومن طرائق دخول الجنة: صدق الحديث. قال صلى الله عليه وسلم:
- ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة) رواه أحمد
• كذلك من الطرائق: كفالة اليتميم. قال عليه الصلاة والسلام:
- ( أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة) رواه أحمد
• ومن الطرائق: البكاء من خشية الله تعال. قال صلى الله عليه وسلم وسلم:(/1)
- ( عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى). رواه الضياء في المختارة
• ومن طرائق دخول الجنة: الأذان ثنتي عشرة سنة. قال عليه الصلاة والسلام:
- ( من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة).صحيح الجامع رقم 6002
• وزيارة الرجل الرجل في الله وطاعة الزوج من الطرائق، قال صلى الله عليه وسلم:
- ( ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والصديق في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله في الجنة. ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود الولود، العؤود، التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يدك، لا أذوق غمضا حتى ترضى )الدارقطني صحيح الجامع رقم 2604(العَئود: التي تعود على زوجها بالنفع) [فيض القدير3/106]
• ومما يدخل الجنة قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال عليه الصلاة والسلام:
- ( ألا أدلك على باب من أبواب الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله ) رواه أحمد صحيح الجامع 2610.
• ومن ذلك ما جاء عن رسول الله أنه قال:
- ( ألا أدلك على سيد الاستغفار ؟ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأعترف بذنوبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لا يقولها أحد حين يمسي، فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح إلا وجبت له الجنة، ولا يقولها حين يصبح، فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي إلا وجبت له الجنة) رواه الترمذي.
• وحفظ الفرج من الزنى واللواط يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:
- ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). البخاري
* * *
• إن طرق البر الموصلة إلى الجنة كثيرة، تند عن الحصر، فكل أعمال البر موصلة إلى الجنة:
- { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}.
- {ما تفعلوا من خير يعلمه الله}.
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يهلث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له).
- وفي رواية أن الذي فعلت ذلك: امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، رواه البخاري.
- قال عليه الصلاة والسلام: ( رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين) رواه مسلم.
فالجنة أقرب إلى الإنسان من شراك نعله، لكنها حفت بالمكاره، والشياطين تصرف العباد عنها، وتلهيهم عن أجورها وفضلها، وتضلهم عن طريقها، مع أن طريقها سهل يسير، ليس فيه عوج ولا مشقة، بل على طاقة النفس: { لايكلف الله نفسا إلا وسعها}..
فالرحمة بأنفسنا، فوالله لا يدخل النار بعد ذلك إلا شقي.
* * *
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه(/2)
تعالوا إلى كلمة سواء
17/3/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين… وبعد :
فقد وقعت في بلادنا خلال الأيام الماضية أحداث جسام، ومصائب عظام، وفتن تدع الحليم حيرانا، حيث تم الإعلان عن اكتشاف أسلحة وذخائر معدّة للتفجير، ثم انطلق الإعلام لايلوي على شيء، اتهاماً وسخرية وتصفية حسابات، ثم كانت ثالثة الأثافي حيث وقعت تلك التفجيرات التي هزت القلوب قبل الأجسام، وتسارعت الأحداث بشكل ينذر بخطر عظيم :
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قومي
يكون وراءها فتن عظام
وانطلقت الأصوات هنا وهناك لعلاج ماحدث، وتدارك الأمر قبل فوات الأوان، واختلط الحق بالباطل، وتكلم المحق والمبطل، والصادق والكاذب، والعالم والجاهل، والسيد والرويبضة، كل يدعي الإصلاح، ويبحث عن المخرج، فأصبح الناس في هرج ومرج، تفوق آثاره تلك الإنفجارات المدمرة، وانطلاقاً من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم كتبت هذه الكلمات ناصحاً ومشفقاً ومبيناً، دون أن أجامل أحداً، أو أكتم حقاً، فالوقت وقت الجد، ولانجاة إلا بالصدق، وقول الحق ولوكان مراً:
أولا: موقفي من هذه الأعمال، وتلك التفجيرات ليس وليد الساعة، ولاحديث اليوم، وليس ردة فعل قد يشوبها شيء من التعجل وعدم الاتزان، بل هو موقف أعلنته مراراً وتكراراً، قبل أكثر من عشر سنوات، وبينت أن هذا ليس هو طريق الإصلاح، وأؤكد هذا مرة أخرى فأقول عن هذه التفجيرات، وماتركته من آثار أنه عمل محرم، حيث ذهبت ضحيته أنفس بريئة، وانتهكت فيه حرمات مصونة، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة:32) وقال سبحانه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)، وقد ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال كما روى جابر – رضي الله عنه – : "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" رواه مسلم . وفساد مثل هذه الأعمال أمر ظاهر بيِّن وجلي، ولاينفع في هذا المقام، ومثل هذه الأفعال التأويلات الفاسدة، ولا التعميمات الجائرة، فهل أضل الخوارج إلا مثل ذلك، ولايمكن أن يتم الإصلاح عن طريق الإفساد، فإن الله لايصلح عمل المفسدين.
ثانياً: اتهام الأبرياء، والأخذ بالظن والتخمين، ورمي المؤمنين بما لم يعملوا، وبهتهم بما لم يفعلوا، ظلم عظيم وإثم مبين، وعاقبته وخيمة، وآثاره أليمة في الدنيا والآخرة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15) ولن يغني عنك من الله شيئاً أن تقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور:16).
واتهام الأبرياء أذىً ومنكراً، كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58)، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:112).(/1)
فحذار حذار من اتهام مسلم بريء دون بينة أو برهان، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: من الآية111) فأمسك عليك لسانك، والسلامة لايعدلها شيء، كيف ولم يقبض على فاعل، ولم تعلن جهة مسؤوليتها عما حدث، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: من الآية164) و (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر:38) ولذا فليكن الحديث عن الفعل لاعن الفاعل، حتى نتبين ونتثبت التزاماً بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6) وكما أن دماء المسلمين محرمة فأعراضهم مصونة، كما في حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.
وكما جاء الإسلام بحفظ الدين والنفس والمال فقد جاء بحفظ العرض، فهذه فتنة نجاك الله منها، فلا تقع فيها بقلبك أو لسانك، والزم منهج السلف في السلامة من الفتن.
ثالثاً: العدل قديم لايبطله شيء، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وأمر الله به عباده، وأنزله في كتبه وبعث به رسله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29) (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90) وقد أمر الله بالعدل مع المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المسجد الحرام وصدوهم عن المسجد الحرام فقال سبحانه: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2) وقال سبحانه: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8) وقد رأيت في كثير مما كتب وقيل اختلال هذا الركن العظيم، والبعض يفعل ذلك باسم الإصلاح، ودفع الظلم، وهو إفساد وظلم وشنئان والله لايصلح عمل المفسدين.
ومن مقتضيات العدل نصرة المظلوم، كما قال صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" .
وضد العدل الظلم، وقد حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً كما في الحديث القدسي "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا" .
فوطنوا أنفسكم على العدل، والتزموا به في الغضب والرضا، وحذار من الظلم، فإن عاقبة الظلم وخيمة، واتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
رابعاً : ليس من حق كل أحد أن ينصب نفسه مفتياً وقاضياً، وحاكماً، فلكل أحد مجاله واختصاصه، وهذه الأمور العظيمة لو كانت في عهد عمر – رضي الله عنه – لجمع لها أهل بدر، وقد رأينا في وسائل الإعلام العجب العجاب، واختلاط الذهب بالتراب، فالكل يفتي ويحكم ويقضي، حتى رأينا سفلة القوم، وأراذل الناس يدلون بدلوهم، وتتصدر أقوالهم الصحف والإذاعات، وهنا تكلم الرويضة كما بيّن الصادق المصدوق، والمنهج الحق ترك الأمور لأهلها، وإعادة الحق إلى نصابه، التزاماً بقوله سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) وقوله سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59) وقوله سبحانه: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: من الآية43) وقد كان الصحابة والتابعون يُسألون في أقل من ذلك فيقول قائلهم لاأدري، أو يقول اذهب إلى غيري فهو أعلم مني، ولو جاء مهندس وكتب وصفة لمريض لفزع الناس وأنكروا، فما بال شؤون الشرع وحقوق الناس ودماؤهم وأعراضهم أصبحت لكل غاد ورائح.
فيازمن العجائب أما آن لك أن ترحل، ويامدّعي الفروسية أما آن لك أن تترجل، فالأمر جدّ، والخطب عظيم: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ () وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ () يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41) ، "فأمسك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".(/2)
خامساً: لاشك أن لما حدث أسباباً ودوافعاً، وواجبنا جميعاً معالجة الأمر بحكمة وبصيرة، دون انفعال أو ردود أفعال، والأمر يحتاج إلى روية وبعد نظر، مع العدل والإنصاف، ودراسة الأمر دراسة موضوعية تُبنى على الحقائق والوقائع والثوابت، لا على الظن والحدس والتخمين، فضلاً عن اتهام الناس أو المؤسسات، أو الهيئات، فهذا لن يزيد النار إلا اشتعالاً، ولا النفوس إلا احتقاناً، ومن ثم يكون الانفجار المدوي الذي لن يسلم منه أحد، ومن هنا فإن مارأيناه من معالجة الأمر من قبل بعض من تصدى لذلك كان وبالاً، وشراً مستطيراً، وبخاصة أولئك المنافقين الذين سارعوا إلى اتهام العلماء والدعاة والصالحين، وثنّوا بمناهج التعليم التي خرَّجت رجالاً شهد لهم القاصي والداني، والعدو والصديق، طوال عقود مضت، وأزمنة خلت، وثلَّثوا بمنهج أهل السنة والجماعة الذي سار عليه أئمة الدعوة، وقامت عليه هذه الدولة قبل أكثر من ثلاثمائة سنة، وطفقوا يرددون أقوال أسيادهم من أهل الكتاب، وساروا على نهج أسلافهم من منافقي الأمس (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية4).
وإذا ترك الأمر لهؤلاء، كما هو الآن، يقولون مايشاؤون، ويتهمون من يريدون، يزعمون الإصلاح وهم المفسدون (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12، 13).
فإن استمر الأمر على ذلك، فإن الأمر جدّ خطير، وستكون الفتن التي تأكل الأخضر واليابس، فإن الناس دون دينهم وعقيدتهم، وهناك ينفلت الزمام، ويتسع الخرق على الراقع، وعندئذ لاينفع الندم، ولا البكاء على الأطلال.
فحري بأولي الأمر، وأولى الأحلام والنهى، ومن استأمنهم الله على دين الناس وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم أن يوقفوا هؤلاء السفهاء عند حدهم، ويردعوهم عن غيهم، وإلا كان الهلاك والفساد والبوار، كما حذَّر العزيز الجبار (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16) وأي فساد أعظم من العبث بدين الله، والاستهزاء بالسنة، ولمز المؤمنين والصالحين (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: من الآية65، 66) اللهم هل بلّغت؟ اللهم فاشهد ( ربنا لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء منا).
سادساً : الجهاد ماض إلى قيام الساعة ، كما أخبر بذلك الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقال – صلى الله عليه وسلم: "لاتزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لايضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك" رواه مسلم.
فالجهاد ماض إلى يوم القيامة بعز عزيز، أو بذل ذليل، ومن مظاهر الفتنة الوقوع في أعراض المجاهدين، أو الطعن في الجهاد، أو النيل منه، أو تحميل أي خطأ يعمل باسم الجهاد عليه، وفي المقابل هناك من يرتكب أعمالاً يسفك فيها الدماء، وينتهك الحرمات باسم الجهاد، والجهاد منه بريء.
فالجهاد ليس عبثاً لكل غاد ورائح، وليس كل من ادعي الجهاد يسلَّم له، ولو يعطى الناس بدعاواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم.
فالجهاد في سبيل الله له شروطه وموانعه وضوابطه، وقد بيَّنه الله في كتابه، وفصَّله محمد –صلى الله عليه وسلم– فيما ترك لنا من سنته، وجلَّى العلماء أصوله ومنطلقاته. وهناك جهاد الطلب، وجهاد الدفع، ولكل منهما دوافعه وضوابطه ومبرراته.
فالحذر الحذر من العبث بالجهاد، طعناً ولمزاً، فتلك صفات المنافقين، فإذا رأيت من أطلق لسانه في الجهاد أو المجاهدين فاعلم أن في قلبه مرض، (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) (المائدة: من الآية41)، وكذلك حذار من تبرير مايفعله بعض المتعجلين باسم الجهاد، وماذلك إلا من التأويل الفاسد، وقصور العلم والفقه في الدين، وعدم مراعاة قواعد المصالح والمفاسد، والمقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج فاسدة، نعوذ بالله من الفتن ماظهر منها ومابطن.(/3)
سابعاً : إن من أسباب حلول سخط الله، ونزول عقابه،المعاصي والذنوب، والبعد عن شرع الله، وانتهاك الحرمات، وارتكاب الموبقات فما نزل بلاء إلاّ بذنب، وما رفع إلاّ بتوبة، والمجتمع الذي يرى المعصية فلا ينكرها، والذنب فلا يستقبحه، حري بأن يصاب بالبلاء والمحن والفتن، كما حل ببلاد كثيرة من بلاد المسلمين لما صدوا عن سبيل الله، وأعرضوا عن ذكره، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:47)، (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص: من الآية59).
والسلامة من المعاصي والذنوب، والأخذ على أيدي السفهاء، والقيام بواجب الإصلاح منقذ من عذاب الله، وأليم عقابه قال سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117).
وصلاح بعض الأفراد دون القيام بواجب الإصلاح لايمنع من عقاب الله، كما في الحديث الصحيح: (أنهلك وفينا الصالحون، قال صلى الله عليه وسلم: "نعم ، إذا كثر الخبث".
وهذا الأمر الذي غفل عنه كثير من الناس -حتى بعض الصالحين- من أعظم أسباب ماحدث وكان، ونسأل الله ألاّيؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ثامناً: الأمن مطلب شرعي، ومنّة إلهية، ونفحة ربَّانية، امتن الله به على عباده في مواضع كثيرة من كتابه كما قال سبحانه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:3، 4)، والمحافظة على الأمن مسؤولية الجميع حكاماً ومحكومين، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، والأمن ليس هو أمن الأجسام فحسب، بل هو أمن العقول والأبدان، وسدّ منافذ الشرّ، وأعظم سبب لحفظ الأمن هو الإيمان بالله، وتطبيق شرعه، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله، والبعد عن الظلم العام والخاص، وعمدة ذلك هو التوحيد وخلوصه، وتنقية المجتمع مما يضاده، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
والمحافظة على الأمن عبادة نتقرب بها إلى الله، كيف والضرورات الخمس كلها، تدل عليه وتقتضيه.
في ظل الأمن تعمر المساجد وتقام الصلوات، وتحفظ الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وينشر الخير، ويعم الرخاء، وتقام الحدود، وتنشر الدعوة، وتطبق شريعة الله، وإذا اختل الأمن كانت الفوضى، وحكم اللصوص وقطاع الطرق، قال حذيفة رضي الله عنه: "فابتلينا حتى جعل الرجل منا لايصلي إلا سراً" رواه مسلم ويقول سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).
فلنكن كلنا جنوداً في حفظ الأمن، أمن العقول والقلوب، وأمن الأجساد والأعراض، ولتحقيق ذلك لابد أن نبدأ في تطبيق شرع الله في أنفسنا وفي بيوتنا ومجتمعنا. وإلاّ فلنحذر من ذلك المثل (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).
والأمن كلي لايتجزأ، فمن أخذ ببعضه وترك بعضاً فعاقبته إلى خسار وبوار (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(الحج: من الآية18).
تاسعاً: وفي هذه المرحلة العصيبة يتأكد الأخذ بمنهج الوسطية، وتربية الأمة عليه، فهو المنهج الذي اختاره الله للأمة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143) وهو المنهج الذي سار عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم– وصحابته الكرام، والقرون المفضلة، إنه المنهج الوسط، منهج الخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110)، إنه منهج الاعتدال واليسر والتوازن، وسط بين الغلو والجفاء، بين الإفراط والتفريط، وليس هو منهج التنازل، والتساهل والإفراط، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.(/4)
وفي ضوء هذا المنطلق والأصل العظيم نبيّن أصول التوحيد وفروعه، مبدأ الولاء والبراء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
فواجب العلماء والدعاة والمربين والآباء أن يربو الأمة على هذا المنهج – منهج الوسطية والتيسير "إنما بعثتم ميسرين" وقال –صلى الله عليه وسلم– :"يسّرا ولاتعسّرا"، وأن يبعدوا الأمة عن المناهج المنحرفة، التي تضاد منهج أهل السنة والجماعة مناهج الغلو أو الجفاء، ومناهج الإفراط أو التفريط (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).
وبعد :
فإن الأمر أكبر من أن يحصر في كلمات أو صفحات محدودة، وإنما يحتاج إلى وقفة جادة، وبرامج مدروسة، تتجاوز ردود الأفعال، وتسخير الفرص لهذا أو ذاك، فمصلحة الأمة فوق مصلحة الأفراد أو الهيئات والمؤسسات، ولذا لابد أن يتنادى المخلصون إلى كلمة سواء، ويجتمعوا ويعتصموا بحبل الله ولايتفرقوا، وأن تكون الشورى وسيلتهم، والمنهج الحق بغيتهم، وتخليص الأمة من عدوها هدفهم، وإقامة شرع الله غايتهم، فإن فعلوا ذلك كان الفلاح والأمن والرغد، وإلاّ فلا يلوموا إلا أنفسهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:96-99).
فخذوا الأمر بجدّ، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه، وتضرّعوا بين يديه (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال: من الآية33).
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن يجعل الدائرة عليهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،(/5)
تعامل الأنبياء مع الواقع محمد الحبر يوسف*
التعامل مع الواقع القائم أمر لازم وواجب لا مناص عنه لكل من أراد أن يؤثر في هذا الواقع سلبا أو إيجابا، ولما كانت مهمة الأنبياء عليهم الصلاة إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإصلاح أحوال العباد، لتستقيم حياتهم بعد ذلك على سنن الحق والفضيلة، كان لابد أن يكون لهم منهج واضح يرفد المصلحين في كل زمان ومكان بمنهج الحق الذي يجب أن يلتزموه في تعاملهم مع واقع الشعوب المنحرفة عن الصراط، وأول ما يلفت النظر في هذا أن الله جل وعلا بعث كل نبي في قومه خاصة إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه بُعث للناس عامة قال تعالى: (وإلى عادٍ أخاهم هودا)، (وإلى ثمود أخاهم صالحاً)، (وإلى مدين أخاهم شعيباً)، وقال سبحانه: ( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون)، و قال سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم).
والحكمة في اختيار الرسول من بيئته ليكلم الناس بلسانهم فيه دلالة واضحة على أهمية خلق جسور من الصلات النفسية والمعرفية مع المخاطبين، فالغريب الطارئ على أي مجتمع من المجتمعات لن يستطيع ـ مهما أوتي من قوة الملاحظة وحدة الذكاء ـ أن يستوعب واقع ذلك المجتمع استيعاباً يمكنه من النفاذ إلى قلوب أهله، وغالباً ما تعترض سبيله حواجز التشكك في سيرته لأنه مجهول الماضي، وقد أمر الله نبيه أن يقول للكافرين: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في قومه تشهد بصدقه وأمانته مع الناس فما كان له كما قال هرقل لأبي سفيان أن يدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على الله، وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: ثم بعث فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته.
إن التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يطلعنا على أنه صلوات الله عليه وسلامه كان أعظم الناس إحاطة بواقعه، وأعرفهم بمداخله ومخارجه، وأقدرهم على التأثير فيه، لقد علمتنا السيرة المباركة كيف يمكن للداعية أن يستفيد من معرفته بطبائع مجتمعه، وعادات قومه، ومؤثرات بيئته وهو يدعو إلى الله ويدل عليه، روى الإمام أحمد في المسند عن أبي أمامه الباهلي أن فتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه فقالوا له مه مه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادن فدنا منه قريبا فجلس ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحبه لأمك-يعني الزنا- قال لا جعلني الله فداء ك فقال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم أفتحبه لابنتك قال لا يا رسول الله جعلني الله فداءك قال ولا الناس يحبونه لبناتهم حتى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخت والخالة والعمة ثم وضع رسول الله يده على صدر الفتى ودعا له بقوله (اللهم اغفر ذنبه وحصن فرجه وطهر قلبه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) العبرة في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من معرفته بقيم المجتمع الذي يستقبح الزنا ويعده عارا، ووظف هذه المعرفة في إقناع الشاب بقبح ما همّ به. ثم إن عبرة هذه القصة ليست في المثال الحرفي المذكور ولكنها في الأسلوب والمنهج الذي سلكه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه لأن الداعية الذي يقيم في مجتمع لا يرى الزنا عيبا ـ كأوربا مثلا ـ ربما لا يسعفه المثال الحرفي في بيان الحكمة من تحريم الزنا ولكنه إن استفاد من المنهج الذي قرره الحديث فإنه سيجد نفسه أمام حشد هائل من الحجج الأخرى التي يستطيع أن يوردها وقد تكون حججا طبية أو اجتماعية أو نفسية.
لقد علمتنا أحداث السيرة ووقائعها أن الداعية الحصيف هو الذي يفقه طبائع النفوس ومداخلها وما يلائمها ويناسبها، ففي صلح الحديبية كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يفاوض قريشا وهو على معرفة كاملة بطبائع القوم وعاداتهم فإنه لما أشرف الحليس بن علقمة ليفاوض نيابة عن قريش قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه لما راءه قادما من بعيد: (هذا الحليس بن علقمة وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له)، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال (سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت) فرجع إلى أصحابه فقال (رأيت البدن قد أشعرت وقلدت، وما أرى أن يصدوا عن البيت) وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب مع من جاء قبل الحليس (بديل بن ورقاء وعروة بن مسعود) ولا مع من جاء بعده (مركز بن حصن وسهيل بن عمرو)، ومن حكم العرب: لكل مقام مقال.
وخلاصة القول في هذا أن الداعية الذي يريد أن يؤثر في واقعه لابد له من استيعاب شامل لذلك الواقع ومكوناته وسائر ما يتصل به، وآفة كثير من إخواننا الدعاة في هذا الجانب أنهم وقعوا في إحدى ثلاث:
إما في إهمال دراسة الواقع وحسن فهمه وتصوره.
أو في الاستجابة إلى ضغط الواقع والرضا ببعض ما فيه من صور الانحراف.
أو في معاداة الواقع ومفاصلته جملة وتفصيلا دون تمييز بين خيره وشره.(/1)
الملحظ الثاني في تعامل الأنبياء مع الواقع هو ربط الدعوة بهموم الناس ومشكلاتهم وأقضيتهم، إن الأنبياء جميعا جاؤوا إلى أممهم بالدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقال سبحانه: (وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) ولكن ما من أحد منهم إلا وواجه قومه بما انحرفوا فيه، وسعى لأن يربط دعوته للتوحيد بالدعوة إلى إصلاح الواقع، فشعيب عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله ودعاهم في الوقت ذاته إلى إصلاح الفساد الاقتصادي المتمثل في التطفيف وبخس الناس فقال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، ولوط عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد، ودعاهم في الوقت ذاته إلى إصلاح الانحراف الخلقي الذي عرفوا به، وأنكر عليهم ما هم عليه من الفاحشة: (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد في العالمين) ورسالة موسى إلى فرعون كانت دعوة إلى التوحيد الخالص ونهيا عن الاستكبار وفساد الحكم (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم).
إذاً فواجب الدعاة إلى الله في كل مجتمع أن يخاطبوا الناس بما يهمهم، وأن يتلمسوا مشاكلهم وحاجاتهم لأن هذا هو الذي يؤثر فيهم وتبلغه أفهامهم، أما الخطاب بالمعاني المجردة أو اجترار مشاكل لا وجود لها في الواقع، أو تضخيم المشكلات الصغيرة على حساب القضايا الكبيرة كل ذلك من الأخطاء التي يجب أن تراجع في مناهجنا الدعوية.
الملحظ الثالث في تعامل الأنبياء مع الواقع هو تأكيدهم لحقيقة أن الاستقامة على أمر الله لن تكون سببا في الفوز بالآخرة فحسب، وإنما يعود خيرها على حياة الناس في معاشهم وواقع حياتهم، قال نوح لقومه: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا). وقال هود لقومه: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين)، وقال سبحانه(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
إن هذه الحقيقة القرآنية –حقيقة أن الاستقامة تجلب خيري الدنيا والآخرة-لابد لها أن تكون شاخصة في أحاديث الدعاة، فالإسلام لن يكون يوما خصما على رفاهية الشعوب وتحضرها فضلا عن أمنها وسلامتها، كيف وقد كان من مقاصد دعوة الرسل إصلاح الأرض وإعمارها بالخير ونشرالأمن في ربوعها؛ (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا)، إن أعداء الله يريدون أن يصوروا للعالم ـ بعد أن رأوا تقدم الإسلام ـ أن هذا الدين شبح يوشك أن ينقض على حضارات الشعوب لتعود البشرية إلى ظلام الماضي وكهنوت رجال الدين، إن هذا الإفك المفترى يحتاج من الدعاة إلى الله أن يقولوا للعالم إن إيمانكم بربكم وعبادتكم إياه ستجلب لكم الطمأنينة والسعادة في العاجل والآجل، وقد قال موسى لقومه: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).(/2)
تعاون الدعاة وأثره في المجتمع
رئيسي :الدعوة :الخميس 19 جمادى الآخرة 1425هـ - 5 أغسطس
منزلة الدعوة إلى الله:
لا شكَّ أن الدعوة إلى الله لها مرتبة عظيمة في شريعة الله، ومن المهم أن نعلم أن الله إذا صدّر الأمر بالقول إلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن ذلك يقتضي عناية خاصة فيما وقع فيه هذا القول،
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[108]}[سورة يوسف]. فالنبي صلى الله عليه وسلّم، كإخوانه من سائر النبيين والمرسلين، تبوءوا هذا المقام العظيم، وهو مقام الدعوة إلى الله لكنها دعوة على بصيرة، ولابد من هذه البصائر الثلاث:البصيرة فيما يدعون إليه، والبصيرة في حال المدعو، والبصيرة في أسلوب الدعوة، وإذا تمت هذه الأمور الثلاثة؛ صارت الدعوة دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وإذا اختل منها واحد؛ نقص من كمالها بقدر ما اختل من هذه الأمور الثلاثة، يقول تعالى في هذه الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
من خصائص الداعية:
1- البصيرة بحال المدعو:فكل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه لابد أن يكون داعية إلى الله، بحاله ومقاله، ولابُدَّ أن يكون أيضًا داعية إلى الله على بصيرة بحال من يدعوهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لمّا بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: [إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ]رواه البخاري ومسلم. وأخبره بحالهم؛ ليكون مستعدًّا لملاقاتهم حتى ينزل كل إنسان منزلته، ولا ريب أنَّ كل عاقل يعلم الفرق بين دعوة الجاهل، ودعوة المعاند؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[46]}[سورة العنكبوت].فالذين ظلموا لا نجادلهم بالتي هي أحسن، وإنما نجادلهم بما يليق بحالهم، وظلمهم.
2- البصيرة بأسلوب الدعوة:ولابُدَّ أن يكون الداعية عالمًا بأسلوب الدعوة، وكيف يدعو الناس وهذا أمرٌ مهم جدًّا، بالنسبة للدُّعاة: كيف يدعون الناس؟ هل يدعون الناس بالعنف، والشدِّة، والقدح فيما هم عليه، وسب ما ينتهجونه؟! أو يدعون الناس باللين والرفق، وتحسين ما يدعونهم إليه دون أن يقبوحهم فيما هم عليه من منهج وسلوك؟
ننظر.. ماذا يقول الله لجميع المؤمنين:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[108]}[سورة الأنعام]. ونحن نعلم أن سب آلهة المشركين أمرٌ مطلوب؛ لأنها آلهة باطلة، وسبّ الباطل، وبيان منزلته للناس أمرٌ مطلوب لابد منه ولكن إذا كان يترتب على ذلك مفسدة أكبر، مع إمكان زوال الباطل بدون هذه المفسدة، فإن الله يقول: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ .}. ومعلوم أنهم إذا سبُّوا الله، فإنهم يسبونه عدوًا بغير علم، بل نعلم أن الله عزَّ وجلَّ منزه عن كل عيب، ونحن إذا سببنا آلهتهم، فقد سببناها بحق، ومع ذلك نهى الله عزَّ وجلَّ عن هذا الحقِّ؛ خوفًا من هذا الباطل العادي؛ لأنه شر.
وبناءً على ذلك: فإذا رأى الداعية شخصًا على أمرٍ يرى هذا الداعية أنه باطل، وصاحبه يرى أنه حق، فليس من طريق الدعوة التي أرشد الله إليها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلّم أن يقدح فيما هو عليه، من مذهب أو نحلة؛ لأن ذلك ينفره، وربما يؤدي إلى أن يسب ما أنت عليه من الحق؛ لأنك سببت ما هو عليه من الباطل الذي يعتقده حقًّا، ولكن الطريق: أن أبين له الحق، وأشرحه له؛ لأن كثيرًا من الناس، ولا سيما المقلدون، قد يخفى عليهم نور الحق؛ بما غشيهم من الهوى والتقليد، لذلك أقول: يبين الحق ويوضح، ولا شك أن الحق تقبله الفطر السليمة؛ لأنه دين الله وشرعه فلابد أن يؤثر هذا الحق. أن يؤثر في المدعو.. لا أقول: إنه يؤثر في الحال، لكن قد يؤثر ولو بعد حين، قد يفكر هذا المدعو فيما دُعِيَ إليه، مرةً بعد أخرى حتى يتبين له الحق.
أمثلة على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته:(/1)
فالمهم أن الداعية لابد أن يكون ذا بصيرة في الأسلوب الذي يدعو إليه الناس؛ لأن هذا أمر مهم بالنسبة لقبول الدعوة ورفضها، ولا يخفى علينا ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلّم في كيفية الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، لا يخفى علينا قصة الأعرابي الذي جاء فبال في طائفة من المسجد فزجره الناس وأنكروا عليه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: [دَعُوهُ وَلَا تُزْرِمُوهُ] رواه البخاري ومسلم. فلما فرغ من بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بما تزول به هذه المفسدة، وهي أن يصب عليه ذنوبٌ من ماء، أي: دلو أو شبهه، ثم دعا الأعرابيّ، وقال له: [إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ] أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتأمل هذه الدعوة إلى الحق بهذا الأسلوب: ماذا تتصور من حال هذا الأعرابي الذي دعاه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى تعظيم المساجد بهذا الأسلوب الليّن السهل، إنك لن تتصور إلاَّ أن هذا الأعرابي سيقبل وسيطمئن وسيرتاح، وسيجد الفرق بين ما قام به الصحابة رضي الله عنهم من الزجر، وما قام به النبي صلى الله عليه وسلّم من التعليم الهادئ، الذي ينشرح فيه الصدر، ويطمئن به القلب
3- تخلق الداعية بما يدعو إليه: ومما يجب على الداعية أيضًا: أن يكون أول من يتخلق بما يدعو إليه، فحال الداعية إذا كانت مخالفة لدعوته، لا شكَّ أنه مؤثر في دعوته في ألاَّ تقبل، فإن الناس ينظرون إلى الدعاة غير نظرهم إلى سائر الناس، إذا رأوا الداعية يدعو إلى شيء، ولكنه لا يقوم به، فسيكون عندهم شك فيما دعا إليه، أهو حق أو باطل؟! لأنه سيقول المدعو: إذا كان حقًّا فلماذا لا يفعله، وحينئذٍ يقل قبول الناس له مع ما يلحقه من الإثم العظيم في كونه يدعو ولكنه لا يفعل، يقول الله تعالى منكرًا على بني إسرائيل: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة]. فليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالبر وينسى نفسه؛ لأنه إذا كان برًّا، فليكن هو أول من يدعو إليه، هو أول من ينفذه، هو أول من يقوم به، حتى يكون داعية للناس بمقاله وبحاله
4- أن يكون بصيرًا بما يدعو اليه:و هذا مما يجب على الداعية، فلا يتكلم إلاَّ بما يعلم أنه الحق، أو بما يغلب على ظنه أنه الحق- إذا كان هذا الشيء الذي يدعو إليه مما يسوغ فيه الظن- أما أن يدعو بجهل؛ فإنه يهدم أكثر مما يبني، مع أنه آثم إثمًا كبيرًا، يقول الله سبحانه:{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36]}[سورة الإسراء]. لا تتبع شيئًا لا علم لك به؛ لأنك مسؤول ويقول عزَّ وجلَّ:{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[33]}[سورة الأعراف].
من مفاسد جهل بعض الدعاة:
ونحن نسمع عن بعض الدعاة، أنهم يدعون إلى أمر يجانبون فيه الصواب، و يغلب على ظننا أنهم لم يدعو إلى هذا الشيء عن علم واختيار منهم له ولكنه عن جهل، فيحصل بذلك مفسدتان عظيمتان:
المفسدة الأولى: قبول هذا الباطل الذي دعا إليه هذا الداعية، عن غير علم.
المفسدة الثانية: رد الحق المبني على العلم، كما نشاهد أو نسمع عن بعض الناس في تحريم أشياء ليس لديهم برهان من الله على تحريمها، أو إيجاب أشياء ليس عندهم فيها برهان من الله على إيجابها، فإذا سمع العامّة هذا الداعية يقول بهذا- وهم يحسنون الظن به- رَدّوا الحق الذي عند غيره، وقبلوا هذا الباطل.
والذي أريد أن أؤكد عليه: هو أنه يجب على الداعية أن يكون بصيرًا في دين الله، حتى لا يدعو إلى منكر وهو لا يعلم، أو يحذّر من معروف وهو لا يعلم، والحمد لله الشيء الذي لا تدعو إليه اليوم وتؤجله إلى الغد بعد أن تتأمل في النصوص والأدلة خيرٌ لك من أن تتعجل وتقول فيما لا تعلم.(/2)
5- أن يكون صبورًا: على ما يناله من أذى قولي أو فعلي؛ لأن الداعية إلى الخير، لابد أن يكون له أضداد، يكرهون ما يدعو إليه، كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[31]}[سورة الفرقان]. فكل نبي له عدو من المجرمين، لا من أجل شخصه، ولكن من أجل نبوته، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث ويرسل، كان عند قريش الصادق الأمين، ولمّا بعث بشريعة الله؛ صار عندهم الكذَّاب، الساحر، الشاعر، الكاهن، المجنون، إلى آخر ما يلقبونه به من ألقاب السوء، يقول الله :{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا[31]}[سورة الفرقان]. لماذا العداوة: لشخصه، أو لنبوته؟ لنبوته فكل من أخذ بمنهاج النبي؛ فلابد أن يكون له عدو من المجرمين، وإذا كان له عدو، فلابد أن يحرص هذا العدوّ على إيذائه بكل ما يستطيع، من قول أو فعل، ولكن على الداعية أن يصبر، ويحتسب، ويؤمل ويرجو نصر الله والعاقبة الحميدة.
6- لا ينبغي أن يكون داعية لشخصه، بل يجب أن يكون داعية إلى الله: فلا يهمه أن ينتصر، أو أن يقبل قوله في حياته، أو بعد مماته، المهم أن ما يدعو إليه من الحق يكون مقبولاً لدى الناس، سواء في حياته، أو بعد موته، صحيح أن الإنسان يُسر وينشط إذا قبل الحق الذي يدعو إليه في حياته، لكن إذا قُدِّر أن الله ابتلاه بعدم القبول المباشر، أو السريع، فليصبر وليحتسب، وما دام يعلم أنه على الحق، فليثبت عليه، وتكون العاقبة له، خلافًا لبعض الدعاة، الذين إذا سمعوا قولاً يؤذيهم، أو فُعِلَ فيهم فِعْلٌ يؤذيهم، نكصوا، أو ترددوا، أو شكّوا فيما هم عليه، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ[94]}[سورة يونس].
الداعية إذا لم يجد قبولاً حاضرًا ربما ينكص على عقبيه، أو يتشكك ويتردد، هل هو على حق، أو ليس على حق؟! ولكن الله سبحانه قد بيَّن الحق، وجعل للحق منارًا معلومًا، فإذا علمت أنك على حق؛ فاثبت، وإن سمعت ما تكره، أو رأيت ما تكره، فاصبر فإن العاقبة للمتقين.
7- ومن آداب الدعاة التي يجب أن يكونوا عليها:تعاونهم فيما بينهم: ولا يكن همّ الواحد منهم أن يقبل قوله ويُقدم على غيره، بل يكن همّ الداعية أن تُقبل الدعوة، سواء صدرت منه، أو صدرت من غيره، ما دُمتَ تريد أن تعلو كلمة الله، فلا يهمنك أن تكون من قِبَلكِ، أو من قِبَلِ غيرك، صحيح أن الإنسان يحب أن يكون الخير على يده، لكن لا يكره أن يكون الخير على يد غيره، بل يجب أن يحب أن تعلو كلمة الله، سواء على يده، أو يد غيره، وإذا بنى اتجاهه على هذا؛ فسوف يعاون غيره في الدعوة إلى الله، وإن تقدَّم قَبُول الناس لغيره على قبولهم إياه.
تعاون وتشاور ..لا استئثار:
الواجب على الدعاة أن يكونوا يدًا واحدة: يتعاونون، ويتشاورون فيما بينهم، وينطلقون انطلاقًا واحدًا، ويقومون لله مثنى، وثلاث، ورباع، وإذا كنَّا نرى أن دعاة الشرّ والسوء يجتمعون ويتحدون ويخططون، فلماذا لا يعمل الدعاة هذا العمل، حتى يرشد بعضهم بعضًا فيما يخطئ فيه الآخر من علم، أو وسيلة دعوة، أو ما أشبهه ذلك؟!
ونحن إذا نظرنا إلى نصوص الكتاب والسنة؛ وجدنا أنَّ الله تعالى وصف المؤمنين بأوصاف تدل على أنهم متحدون متعاونون، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[71] } [سورة التوبة].
وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [104] وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]} [سورة آل عمران].
آفات خفية:
إنَّ الشيطان يلقي في قلب الداعية شيئًا من كراهة داعية مثله إذا نجح في دعوته، لا يحب أن يكون مثله في نجاح الدعوة، بل يكره أن يتقدم هذا في النجاح، وقبول الناس له، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير الحسد: إنَّ الحسد أن تكره نعمة الله على غيرك، وإن كان معروفًا عند العلماء أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، بل نقول: الحسد كراهة نعمة الله على غيرك، سواء تمنيت زوالها أم لم تتمنَ.(/3)
فأنت أيها الإنسان يجب عليك أن تعاون أخاك الداعية في دعوته، حتى وإن تقدم عليك ونجح في دعوته، ما دمت تريد أن تكون كلمة الله هي العُليا..واعلموا أن دُعاة الشر يحبون أن يتفرق دُعاة الخير؛ لأنهم يعلمون أن اتحادهم وتعاونهم سبب لنجاحهم، وأن تفرقهم سبب لفشلهم، قال الله تعالى:{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]} [سورة الأنفال].
آداب التنبيه على خطأ الغير:
ولا ريب أن كل واحدٍ منا معرّض للخطأ، فإذا رأينا من أحدنا خطأً؛ فلنتعاون على إزالة هذا الخطأ بالاتصال به، وبيان هذا الخطأ، وقد يكون الخطأ خطأً في ظننا، ولكنه في الواقع ليس بخطأ، فيبين لنا هذا خطأنا في ظننا أنه خطأ، أما أن نأخذ من خطئه سببًا للقدح فيه، والتنفير عنه، فإن هذا ليس من سمات المؤمنين، فضلاً عن كونه من سمات الدعاة إلى الله.
من أخطاء بعض الدعاة:
وبعض الدعاة يعامل إخوانه الدعاة هذه المعاملة: يجد أن غيره إذا خالفه، فهو على باطل، وهو الذي على الحق، كأنما يوحى إليه. ولا شكَّ أن هذا المنهج منهجٌ غير سديد، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد خطأ غيره، وأنَّ الصواب معه في أمورٍ تقبل الاجتهاد؛ لأنه إذا اعتقد ذلك فكأنما تنصّب منصب النبوة والرسالة والعصمة، فالخطأ جائز على غيرك، هو جائز عليك، والصواب الذي تدّعيه لنفسك يدّعيه غيرك، وقد يكون الصواب مع غيرك، والخطأ معك، ومن ثَمَّ صار بعض الشباب الآن ينتمي إلى طائفةٍ معيَّنة، أو إلى عالمٍ معيّن ينتصر له، ويأخذ بقوله، سواء كان صوابًا أم خطأً، وهذا في الواقع مما يشتت الأمة، ويضعف العزيمة، ويجعل هؤلاء الشباب المقبل على الله محلّ هزء وسخرية لأهل الشر والسوء.
وحدة الكلمة وأدب الخلاف:
فالواجب علينا أن نكون كما وصفنا الله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[52]}[سورة المؤمنون]. وأن تكون كلمتنا واحدة، ولست أقول: إنه يجب أن يكون قولنا واحدًا بمعنى ألاَّ يقع بيننا خلاف فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لأن هذا أمرٌ لا يمكن، لكن أقول: إنه إذا وقع بيننا خلافٌ فيما يسوغ فيه الخلاف، يجب ألاَّ يؤدي هنا إلى اختلاف القلوب، بل تكون القلوب واحدة، والموالاة بيننا قائمة، والمحبة ثابتة، ولو اختلفنا فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
فالذي أرجوه من إخوتي الدعاة ألاَّ يجعلوا هذه الأمور التي يقع فيها الاختلاف السائغ الذي يُسوِّغه الاجتهاد، ألاَّ يجعلوها سببًا للفرقة والتحزب، وتضليل بعضهم بعضًا؛ لأن ذلك مما يضعف منصبهم أمام أعدائهم، وأنتم تعلمون أن هناك أعداءً يتربصون الدوائر بالدعاة إلى الخير، ولكن من كان الله معه؛ فله العاقبة، وهو المنصور في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[51]}[سورة غافر].
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أنصار دينه، والدعاة إليه على بصيرة، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
من محاضرة:' تعاون الدعاة وأثره في المجتمع' للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله(/4)
تعاون الصهيونية مع الشيوعية والمأسونية
جاء في بروتوكولات حكماء صهيون:(3)ط4, بيروت ص116 النص الآتي:
( إننا نقصد أن نظهر كما لو كنا المحررين للعمال، جئنا لنحررهم من هذا الظلم، حينما ننصحهم بأن يلتحقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين، والفوضويين والشيوعيين ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها، متظاهرين بأننا نساعد العمال طبقاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للإنسانية وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية).
الخلافات السائدة بين المسلمين والتي يستغلها اليهود:
جاء في البروتوكول (5) ص122:
( لقد بذرنا الخلاف بين كل واحد وغيره في جميع أغراض الأميين الشخصية والقومية، بنشر التعصبات الدينية والقبلية خلال عشرين قرناً.
ومن هذا كله تتقرر حقيقة هي أن كل حكومة منفردة لن تجد لها سنداً من جاراتها حين تدعوها إلى مساعدتها ضدنا لأن كل واحد منها ستظن أن أي عمل ضدنا هو نكبة على كيانها الذاتي).
التحدي الحضاري الغربي والشرقي
شخصية الإسلام المتميزة
لابد من التفريق بين العلوم الذاتية ( وهي التي تنبع من ذات الأمة وخصائصها وعقيدتها..) والعلوم الإنسانية ( وهي التي تعطي ثمرة، ونتيجة لكل قائم بها دون تفريق بين مسلم وكافر..) مثل الطب.
لابد من التفريق بين ما هو نافع من العلوم الإنسانية والمخترعات والصناعات وبين ما هو مرض نتج عن انحراف، ووباء، وتفسخ وامتزاج بالحضارة المادية حتى ظنه الأغبياء لأول وهلة أنه حضارة وهو في الحقيقة احتضار.
ـ الحصانة بالإيمان القوى، والمعرفة المستوعبة الواعية، والفكر الناصع: ذلك هو الضمان القوي لإبعاد الشباب عن الانجراف وراء الانحراف في حضارة الغرب والشرق.
فالغرب الذي يسبح في غمرة من التمدن والترف يعاني من القلق والضيعة والتمزق النفسي بسبب الحرمان من العقيدة السليمة، وفقدان الثقة بالكنيسة والصراع في سبيل المساواة بين الجنسين، وانعدام روابط المجتمع والأسرة الواحدة، والانطلاق في الشهوة بدون حدود، فالمجتمع الغربي ملك وسيلة اللذة الجسمية، وفقد مقومات الإنسان الروحية في الدنيا والآخرة.
ـ إن الإسلام وحده، بشخصيته المتميزة هو الذي حفظ المسلمين الهنود أن ينصهروا أو يذوبوا في المجتمع الهندي الذي يختلف معه في عقيدته بالرغم من أن عدده أضعاف أضعاف المسلمين.
ـ والإسلام وحده بشخصيته المتميزة هو الذي حمل المسلمين على مقاومة الاستعمار في الجزائر وليبيا وسوريا والمغرب والعراق وغيرها، فقد كان يحس أبناء هذه الأقطار بخطورة الاستعمار على دينه وعقيدته وحضارته، ووجدت الأمة حينها دعاة إصلاح أيقظوا فيها جذوة الإيمان.
ـ إن الإسلام اليوم كذلك –وهو دين الله الخالد- ما تزال جذوره مكينة، وما تزال شجرة الإيمان به تؤتي ثمرتها، وسيظل العامل الوحيد في حماية هذه الأمة، من الضعف والخور والذوبان، والقعود عن حماية الحق والدعوة إلى الخير، وسيظل شباب هذه الأمة درعها الواقي ما داموا متمسكين بالعقدية الصحيحة، متزودين بالعلم النافع، مستنيرين بالبصيرة النيرة، مدركين لكيد الأعداء ومكرهم وما يراد بهم، وما داموا معتزين بدينهم معتصمين به.
ـ إن من أعظم الأساليب التي اتخذها أعداء الإسلام لمواجهة المسلمين وهزيمتهم ومسخ شخصيتهم وإضعافهم، وجعل عقيدتهم هشة هزيلة، وتفكك روابطهم:
هو ما قاموا به من تخطيط ماكر لغزو المسلمين فكرياً حيث يتحقق لهم بذلك ما يريدون، فقد كفوا أيديهم عن قتال المسلمين واتجهوا إلى هذه الأساليب البالغة الخطورة وهي التي نشاهدها اليوم في سوق الأمة المسلمة إلى حيث لا تدري، فقد استطاع العدو أن ينفذ بنفسه أو بمن يسير في ركابه من المخدوعين والمستغربين والمتنكرين لدينهم وعقيدتهم، استطاعوا أن ينفذوا بذلك إلى مصادر التوجيه والتعليم، حتى يتم لهم غرس ما يريدونه من أفكار دخيلة، ومبادئ مستوردة وإبعاد عن الدين، وعن فضيلة الخلق الإسلامي، وأن يشغلوه في حيرة الشك والشبهة، وهذه الأمور نرجوا أن يكون الشباب في غاية الوعي والإدراك لها وأن يحصن نفسه وعقيدته من السقوط في هذه الحمأة، حتى يكون أهلاً لتحقيق ما يراد منه، ولا داء رسالته كمسلم واع قوي الإيمان، وحتى لا يصبح لعبة في أيدي الأعداء الذين خدعوا كثيراً من الشباب واستهووهم بزيف شعاراتهم المضللة.
إن الشباب المسلم حينما يسأل عن الطريق الصحيح الذي يوصل إلى مرضاة الله سبحانه، فإنما ذلك دليل على الرغبة الصادقة في سلوك طريق الخير والسعادة عندما يرى كثرة الطرق القائمة اليوم، وتشعب الدعوات المتباينة .
ولا ريب في أن طريق الحق واحدة، وأن ما عداها طرق ضلال على رأس كل منها شيطان كما جاء في الحديث الشريف على صاحبه وآله الصلاة والسلام، وطريق السعادة هي الطريق التي تنير بهديها السالك حتى يصل إلى شاطئ الأمان.(/1)
ـ ومفتاح الخير أمام شبابنا أن يعرف ما هي مهمته في هذه الحياة؟ ولماذا خلق؟ وما هي الأمانة والمسئولية التي أنيطت به، وما الذي يترتب على القيام بالمسئولية أو إهمالها من جزاء في الدنيا والآخرة.
ـ إن على شبابنا أن يؤمن بأن دين الله عز وجل هو الدين الحق، وأنه طريق الهداية للإنسان وأن ينطلق في حياته مهتدياً بهذا الدين، لا بحكم هوى، ولا يسير وراء دعوة تتناقض في قليل أو كثير مع مبادئ هذا الدين وأن يكون في مجتمعه الإسلامي عضواً نافعاً يشع بالخير لأمته، ويسعى جاهداً لتحقيق كل مصلحة يقدر عليها من أجل إسعاد المسلمين وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير، وأن يقيم شخصيته على التوازن الكامل فلا يطغى فيه جانب على جانب، أن يسعى إلى بناء شخصيته الإسلامية جسماً وعلماً وفكراً وعقيدةً وخلقاً، وأن يقف عند حدود الله عز وجل ويقيم دينه وشرعه.
وأن يحكم شريعة الله في كل قضاياه مع كمال الخضوع والاستسلام والرضا، وأن يكون شديد العزوف عن كل ما فيه سخط الله سبحانه وإن كان فيه تفويت مصلحة على نفسه وأن يسارع إلى مرضاة الله عز وجل مهما كانت مشقة الأمر وكلفته ففي ذلك سعادة كبيرة في الدنيا والآخرة.
ـ وعلى الشباب أن يكون شديد اليقظة لكل ما هو وافد غريب على عقيدتهم ومجتمعهم وتاريخهم وقيمهم وفكرهم، فالأمة الإسلامية لها خصائصها التي تتميز بها في دينها وتاريخها وحضارتها وأسلوب حياتها، ولها أسلوبها الخاص في معالجة مشكلاتها ومن الغباء المنتهي أن نستجلب أساليب أعدائنا في حل المشكلات، وقد فشلت في إيجاد الطمأنينة والسكينة في مجتمعاتهم لأنها من صنع أيديهم القاصرة، ومن تفكير عقولهم التي لا تثبت على رأي؛ فكيف يمكن أن تكون حلاً لنا نحن المسلمين؟ إن أساليب الغرب وأنماط حياته إذا ما نقلت إلى بيئتنا فإنما يراد تقويض بنيانها، وتدمير أمتنا التي تتمثل في شبابها، ثم تصبح الأمة بعد ذلك في حالة خنوع واستسلام لعدوها.
إن على الشباب أن يكونوا على معرفة تامة لكل أساليب الأعداء سواء ما كتب منها في:
(بروتوكولات حكما صهيون)، أو (الغارة على العالم الإسلامي) أو (الاستشراق والمستشرقون) أو (التبشير والاستعمار) أو نحوها من أساليب الكيد المكثفة، برجالها ومالها، وتفكيرها، وتسخيرها بعض أبناء المسلمين ومؤتمراتها وهيئاتها، ومؤسساتها ونواديها، ومناهجها وإعلامها وشعاراتها.
ـ أما الفتاة المسلمة فإن عليها مسئولية، فهي تحمل رسالة عظيمة، فالمرأة مصدر خير عظيم، أو خطر جسيم، فهي إن أدركت واجبها ومهمتها في هذه الحياة المهمة التي تتفق مع بنيتها وطبيعتها وفطرتها، وما أعدت له، وقامت بهذا الواجب الذي رسمه لها دينها العظيم، ساهمت مساهمة كبيرة في إسعاد المجتمع، والمحافظة على توازنه وترابطه والحفاظ عليه من التمزق والانهيار، والتدمير، وإذا ما تعلمت الفتاة المسلمة فإن الفرض في حقها أن يزيدها العلم تواضعاً وحشمة واستقامة، ومعرفة لواجبها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها من بناء الأسرة المسلمة داخل بيتها وإيجاد البيت المسلم المثالي، وتربية الرجال بالإيمان القوي والخلق المتين وذلك أعظم خدمة تقدمها المرأة لمجتمعها ودينها وأمتها.
أما إذا انحرفت المرأة عن هذا الواجب وتنكبت الطريق، وتنكرت لهدى الله عز وجل، وأصبحت لعبة في أيدي السفهاء وكرة في أقدام الشهوانيين، يتخذون منها وسيلة للفتنة، وتعطيل المجتمع من منابع الخير، ويسعون – بتضليلهم لها- إلى إشقائها وضياعها، وإلى انفراط حبل الأسرة بتعطيل البيت والفرار من القيام بالواجب فيه، فإن المرأة بذلك تصبح أداة هدم وشقاء، ومصدر خطير جسيم على نفسها وعلى الشباب وعلى المجتمع، وعلى مستقبل الأمة من حيث لا تدري.
إن على الفتاة المسلمة الحريصة على نفسها وعقيدتها وأمتها أن تختار الزوج الصالح وأن تحسن الاختيار، وأن لا يكون اختيارها على أساس نزوة الشهوة، أو العاطفة، أو النظرة العابرة، بل على الدقة والتمحيص والمشورة لأهل الخير والصالحين من أهلها، حتى تضمن لنفسها عيشاً كريماً في ظل رجل صالح يقودها إلى الخير ويحميها من الشرور العادية عليها.
مبررات البعث الإسلامي من جديد:
1- الإلحاد المنظم.
2- الأحزاب الكافرة المنتشرة والبارزة في المجتمعات تحت رعاية الحكومات.
3- التضليل للشعوب من قبل الحكام، ومحاولة طمس الحقائق، وتغيير وجه الحق ومحاولة الإقناع بما هو باطل أنه حق.
4- الكبت على الشعوب وإبعادها عن ممارسة حقها في الكلمة الصادقة والوقوف في وجه الباطل، وإحياء الفضائل.
5- تعذيب المؤمنين الصادقين من الدعاة إلى الله والمصلحين الذين يحاولون أن يأخذوا بأيدي الحاكم والمحكوم إلى الجادة، والذين يحاربون الغزو الإلحادي والفكري والعسكري والاقتصادي.(/2)
6- رفع الشعارات البراقة لمخادعة الأمة، ووضع بدائل من الوسائل التي تغرق الأمة في اللهو واللعب: الكرة، الأغنية، التمثيلية الساقطة، ومحاولة نشر وسائل الفساد وتسخير بعض إمكانيات الأمة في خدمة الحكام عن طريق طمس معالم العقيدة والأخلاق ودعوة المرأة إلى التبرج والخروج من منزلها بدون مبرر والاختلاط المزري، والدعوة كذلك إلى الاستغراب بالتنكر لتقاليد البيئة الإسلامية عن طريق الرمي بالرجعية والتخلف والكهنوت وغير ذلك.(/3)
تعدد الزوجات أم تعدد الخليلات
مفكرة الإسلام: ما زلنا أمام مشكلة من المشاكل الزوجية السلوكية, ألا وهي انحراف الزوج, أو الخيانة الزوجية, ونحن نرى أن الرجل إذا طلب الزواج بأخرى, أو تطلع إلى غير زوجته التي في بيته؛ فإنه فعلاً يكون في حاجة حقيقية للزواج الثاني.
فأيهما أكرم بأخلاق الرجال: الزواج بأخرى أم الوقوع في الفاحشة ؟
أيهما أفضل لدين الرجل: الزواج الثاني أم مصاحبة الثانية ؟
وقد تتصور المرأة أن التعدد إجحاف في حق ذاتها, وحط من شخصيتها, وإلغاء لاستقلالها, وأنه يسلبها كثير من الاحترام والتملك, وهذا تصور صحيح من زاوية المرأة الفرد, ولكنه في ذات الوقت تصور يلقي بعدوانه الصارخ على جنس المرأة عموماً, حين تفتش بعض النساء اللائي حُرمن الزوج أو فقدنه عن زوج آخر فلا يجدن .
والإسلام حين يشرع, وحين يبيح أمراًَ ينظر إلى مصلحة العموم ويقدمها على مصلحة الذات جلباًَ للمنافع العامة ودرءاً للمفاسد الهالكة, وهو في هذه الحالة يتفق والمنطق السليم والعقل الحكيم.
وما دليل الإباحة ؟
أباح الإسلام التعدد بنص قوله تعالى في سورة النساء: ' وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ' [النساء / 3].
فهذه الإباحة هي الحد الأقصى, فلا تجوز الزيادة على الأربع, بهذا قال المفسرون والفقهاء وأجمعت الأمة الإسلام على ذلك. وكان من يدخل في الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أكثر من أربع زوجات, يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإبقاء أربع, ومفارقة الباقيات.
ومن نافلة القول نقول إن هناك سبع حالات تستدعي التعدد لا محالة وهى:
1- حالات المطلقة.
2- الأرملة.
3- العانس.
4-العقيم.
5- طبيعة الرجل وقدرته الجنسية.
6- ظروف الحرب وما ينتج عنها من نقص عدد الرجال.
7- تشير التقارير إلى أن عدد النساء في السنوات القادمة سيكون ضعف عدد الرجال .
وما المشكلة ... إذن ؟
لله الحكمة البالغة في كل قول وفعل, فإباحة تعدد الزوجات ليس استهانة بالمرأة, ولا حطاً من شأنها وقدرها, إنما هو لمصلحة المرأة والرجل والمجتمع.
والمشكلة هنا ليست في شرع الله, وإنما في الأخطاء الشخصية والفردية التي تقع من الأفراد, وبالتالي لا ننسب إلى شرع الله الخطأ والظلم, وإنما ما يحدث من مآسي ومشاكل من وراء تعدد الزوجات يرجع إلى فشل الزوج في إحداث التوازن بين الطرفين, إن الدين لا يضيره إساءة بعض المسلمين في استغلال رخصة التعدد دون عدل, فالإسلام يعُلو ولا يُعلى عليه, وهو الميزان والضابط, فمن وافقه كان على حق, ومن خالفه فهو المخطأ وعليه أن يراجع نفسه, وعلاج الظلم الذي يحدث من البعض إذا تزوج بأخرى لا يكون بمنع ما أباحه الله عز وجل, إنما يكون بالتعليم والتربية والتفقة في أحكام الدين.
لقد سمعنا الكثير من القصص العجيبة والمآسي التي تظهر التعدد بصورة منفرة, فمن البعض من أساء وتعدى وظلم, ففي الوقت الذي أراد فيه الرجل أن يقيم سنة التعدد, ذهب يضيع الفرائض ويضيع نفسه ومن يعول.
فمن الناس من اعتدى على حق زوجته التي تزوج عليها, وأضاع أولادها, وحرمهم من الميراث, ومنهم من ضعف عن القيام بالنفقة عليهن, وعجز عن تربية الأولاد والنظر في مصلحهم, ومنهم من سارع بتطليق واحدة من نسائه خلاصاً من المشاكل فيصيبها بمضرة وأذى, ومنهم من سلك مسالك الاغاظة والكيد لإحدى نسائه, ومقارنتها بالأخرى وغير ذلك من صور الإضرار.
مباح ولكن بشروط
التعدد مع كونه مباحاً فله شروط وهي:
1- الشرط الأول: العدل .
2- الشرط الثاني: القدرة على الإنفاق .
الشرط الأول:
قال تعالى: ' فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ' [ النساء / 3 ] فقد أفادت الآية الكريمة أن العدل شرط لإباحة التعدد, فإذا خاف الرجل عدم العدل بين نسائه؛ كان محظوراً عليه الزواج بأكثر من واحدة, ولزمه الاقتصار على واحدة, وهذا يتعلق بالعدل الواجب المستطاع كالنفقة والسُكنى والمبيت, أما ما لا يملكه الإنسان كالميل القلبي تجاه زوجة من زوجاته فلا يدخل في ذلك. وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: ' ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ' [ النساء / 129 ] .
الشرط الثاني:
القدرة على الإنفاق: قال تعالى: ' ذلك أدنى ألا تعولوا ' [ النساء / 3] قال ابن القيم رحمه الله في كتابه' عدة الصابرين ': [أي لا تجوروا وتظلموا], وفسره الشافعي رحمه الله: [أي تكثر عيالكم], والقول الأول هو الأرجح ويقول صلى الله عليه وسلم: ' يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر, وأحفظ للفرج, فمن لم يستطع, فعليه بالصوم فإنه له وجاء '(/1)
فإذا لم يستطع مؤونة الزواج لم يجز له, مع أنه زواجه الأول فمن باب أولى أن لا يجوز له الزواج بالثانية وعنده زوجة, والإقدام على الزواج بثانية مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأولى عمل يتسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير, بل من أنواع الظلم, والظلم غير جائز.
وخلاصة القول: أن الإسلام أباح التعدد لمصلحة المرأة والرجل والمجتمع, بنظرة واقعية عامة وشاملة, ولانتشال المرأة من براثن الانحراف والغواية, أو من حبائل الكآبة والكبت والحرمان, وذلك في ظروف لا يستقيم معها سوى التعدد, وفي حالات لا تقبل إلا التعدد حلاً ومخرجاً, فضلاً عن شروط العدالة والإنصاف, والقدرة على الإنفاق التي فرضها الإسلام علي الرجل في هذه الحالة, فإذا انتفى هذان الشرطان فلا تعدد, والمرأة التي يقع عليها الضرر من زواج الرجل بثانية, فلها الفسخ وطلب الطلاق ' فلا ضرر ولا ضرار ' .
إن تعدد الزوجات بمثابة الدواء والعلاج لأمراض كثيرة, وهو أمر مباح ويُسن إذا حسنت النوايا وروعيت فيه الضوابط الشرعية, وقد ينقلب حراماً إذا ما خاف الإنسان الجور وعدم العدل, أو جرى الاشتراط اللفظي أو العرفي بمنع التعدد عند العقد, وقد يكون حلاً ناجحاً لمشكلة الخيانة الزوجية التي نحن بصددها
وفقنا الله وإياكم إلى ما فيه خيرنا وخير الأسرة المسلمة إن شاء الله.(/2)
تعدد الزوجات..شروط وضوابط
فتوى (13 ) ماذا عن رخصة الزواج من أربع نسوة وسوء استخدامها؟
كان الناس قبل الإسلام يتزوجون من شاءوا من النساء بغير قيد ولا شرط، حتى جاء الإسلام فوضع لهذا التعدد حداً وشرط له شرطاً.
فأما الحد فجعل أقصى العدد أربعاً لا يزاد عليهن بحال: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" [النساء: 3]، ولما أسلم رجل من ثقيف ومعه عشرة نسوة، أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، ويطلق الباقي( ).
وأما الشرط، فيتمثل في ثقة الرجل في نفسه بالعدل، وإلا حرم عليه الزواج بالمرأة الأخرى: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة "[النساء: 3].
وهذا إلى جوار توافر الشروط الأخرى لأي زواج، مثل: القدرة على الإنفاق، والقدرة على الإحصان.
وإنما أباح الإسلام ذلك؛ لأنه دين واقعي، لا يحلّق في مثاليات حالمة، ويترك مشكلات الحياة دون علاج مقدور عليه. فالزواج الثاني قد يحل مشكلة عند الرجل الذي لا تنجب امرأته، أو تطول عندها فترة الحيض، وهو قوي الشهوة، أو يصيبها المرض، ويستمر معها، ولا يريد أن يطلقها، إلى غير ذلك.
وقد يحل مشكلة عند المرأة الأرملة التي يموت زوجها ولا تطمع في الزواج من شاب لا زوجة له، ومثلها المطلقة وهي شابة، وخصوصاً لو كان لها طفل أو أكثر.
وقد يحل مشكلة عند المجتمع كله، عندما يزيد عدد النساء الصالحات للزواج عن عدد الرجال القادرين على النكاح، وهذا قائم باستمرار، ويزداد تفاقماً بعد الحروب ونحوها.
فماذا نفعل بالعدد الفائض من النساء؟ إنها واحدة من ثلاث:
1. إما أن يقضين العمر كله محرومات من حياة الزوجية والأمومة، وهذا ظلم لهن.
2. وإما أن يشبعن غرائزهن من وراء ظهر الدين والأخلاق، وهذا ضياع لهن.
3. وإما أن يقبلن الزواج من رجل متزوج قادر على النفقة والإحصان، واثق بالعدل، وهذا هو الحل المناسب.
أما سوء استعمال هذه الرخصة أو هذا الحق، فكم من حقوق يساء استخدامها، ويتعسف في استعمالها، ولا يؤدي ذلك إلى إسقاطها وإلغائها. الزواج الأول نفسه كم يساء استخدامه، فهل نلغيه؟ الحرية كم يساء استخدامها، فهل نلغيها؟ الانتخابات يساء استخدامها، فهل نلغيها؟ السلطة.. أياً كانت يساء استخدامها، فهل نلغيها وندع الحياة فوضى؟
إن الأولى – بدل أن ننادي بإلغاء الحق – أن نضع الضوابط لاستخدامه، ونعاقب من يسئ في ذلك، قدر ما نستطيع.
[القرار 4 / 4]
المجلس الأوروبى للإفتاء(/1)
تعدد الزوجات..وحقوق الإنسان (1/2)
صالح بن عبدالرحمن الحصيِّن 6/6/1424
04/08/2003
قال الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...) [النساء:3].
هذه الآية واحدة من بضع آيات في سورة النساء جاءت لحماية حقوق اليتامى ذكوراً وإناثاً.
وفرض قيام المجتمع لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكْفُل العدل في اليتامى بإيفائهم حقوقهم على المجتمع أو على أفراد معينين فيه.
والنصّ الكريم مؤلف ـ كما قال الإمام القرطبي في تفسيره ـ من جزأين؛ شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) وجوابه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
وأوَّل ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ لهذا السؤال: ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟
ا هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى ـ أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم ـ وتعدد الزوجات؟
كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟
في الإجابة عن هذا السؤال وعند الرجوع إلى التفسير بالمأثور، نرى أنَّ الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة وبيان سبب نزولها أربعة أقوال للسلف مختلفة، ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأنَّ القول بأنَّ آية معينة نزلت في كذا قد يعني أنَّ هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها، ولا يعني أنَّها لا تشمل وضعاً آخر.
والمقصود بـ(اليتامى) في الآية في ثلاثة أقوال من الأقوال الأربعة: الذكور والإناث.
وفي تفسير القرآن ينبغي الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفين، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ من حيث اللغة ولا تتعارض مع أحكام الشرع.
ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجرَّدة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعدد الزوجات، ولا شكَّ أنَّ الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية وأكيد وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع، وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي:
لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بمجرَّد إيجاد (دور أيتام) كافية لاستيعاب أعدادهم:
أولاً: لأنَّ لدُور الأيتام سلبيات كثيرة لا يبرر التسامح تجاهها إلا قيام الضرورة لوجود (دُور الأيتام) وعدم البديل لها.
وثانياً: لأنَّ لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقلّ في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أنَّ هذه الحاجات في الغالب تُلبَّى عندما تتزوج أمُّ اليتيم فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل وجوّ أسريّ بديل وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى إنه يحرَّم عليه شرعاً الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
وقد تنبَّهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوُجد مثلاً تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني، سواء كان أعزب أو متزوجاً، بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته؛ حماية للزوجة ولأولادها، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية الروسية، ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام، عدم قيام الحاجة الظاهرة لإنشاء دُور الأيتام.
وصار همّ دُور الأيتام القليلة ـ التي أنشأها المحسنون بحماس ـ أن تتصيَّد الأيتام تصيّداً.
والواقع يظهر أنَّ أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوَّج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات.
في مثل هذه المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية، أي ذات أولاد.
وبالعكس فإنَّ المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى إنَّه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرَّماً بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية.
معنى ما تقدَّم أنَّ شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوَّجت فاء ظلّ الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجوّ الأسري كأيّ أطفال عاديين لم يُصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه).(/1)
وما تقدَّم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإنَّ المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس ولا مطلقات ولا أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن. وسيعمل هذا القانون الطبيعي ـ ولا بدّ ـ عمله، فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل.
ولعلَّ هذا ما تشير له الآية الكريمة (ذلك أدنى أن لا تعولوا...)، فتعدد الزوجات ـ في النظر المتعمق ـ يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات، تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف بقدر لا يُتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً، حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنَّه ولد للأسرة عبء مالي إضافي يتمثَّل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سنّ الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتتحدد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب. أعرف أخاً من جنوب الهند كان موسراً، ولكنه انتهى مفلساً بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون الهنود وحدهم ـ وبحكم تأثرهم بالعادات الهندوكية السائدة ـ توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم؛ هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات.
نماذج غير عربية
ومن الطبيعي أنَّ المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج؛ فإنَّها تحت سلطان شبح الخوف من فقده سوف تصبر على ظلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبتها إياه بحقوقها قبله، ولن تستطيع القوانين البشرية مهما كانت كفايتها وفعاليتها مقاومة عمل القوانين الطبيعية.
ومن يتابع الصحف اليومية الهندية وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات أو حرقهن من قبل أزواجهن وأسر أزواجهن بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجها (الجهيز)، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب.
وهذا الوضع (في الهند) له ـ ولا شكّ ـ صلة بمشكلة وأد البنات، وإجهاضهن في الهند، كما تحدَّث عن ذلك موقع (bbc.new) و(بي سي أون لاين) في 7/12/2000م، وذكر صراحة أنَّ وأد البنات مشكلة قائمة في الهند لمدة طويلة، حيث تستمد مبررها من العادات المرتبطة بمهور الزواج، التي تجعل المرأة ذات بعد اقتصادي، وقد طلبت الهيئات الطبية في الهند المساعدة الدولية لمنع مليونين من حالات الإجهاض تتم في الهند سنوياً بسبب اكتشاف أنَّ الجنين أُنثى.
لقد اكتُشف تناقص نسبة الإناث إلى عدد الذكور في الهند منذ مطلع القرن العشرين، ولكنه في السنوات الأخيرة تنامى النقص في نسبة الإناث للذكور بصفة دراماتيكية.
النموذج الأفريقي
وعلى العكس؛ فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العشّ الزوجي مشرّعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيراً قبل أن يقدم على ظلمها أو انتقاص حقوقها أو حريتها؛ لأنَّه يعلم أنَّه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصّدة أمامها، إنَّ قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف.
إذا صحَّ ما سبق؛ فإنَّ من المنطقي توقع أن تنخفض نسبة الطلاق في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات، هناك سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات؛ يرجع إلى الرجل (وهو بحكم الطبيعة وبصرف النظر عن جنسه أو ثقافته أو مكانه أو زمانه) يميل غالباً إلى (التعدد) لن يجد نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد).
وإذا كان الرجل كحقيقة واقعة يميل غالباً إلى التعدد؛ فإنَّ تشريعاً للتعدد ـ كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه ـ يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها ـ كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع ـ محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق ثمرة التعدد، أو محتاجة لتشريع قوانين (غير كاملة وغير مضمونة النفاذ والفعالية) لحماية حقوقها وحقوق أولادها.
وبعد هذا؛ فإنَّ لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالاً آخر للقول، ملخصه:
إنَّ رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم ـ أو من أهم ـ القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظرياً، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي).(/2)
يشهد لذلك أنَّه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والتخلف، جاءت النظرية الحديثة باعتماد معيار مدى رعاية الدولة لحقوق الإنسان؛ لقياس درجتها في سلم التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك اعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلم عن البلدان الأوربية الأخرى.
الغرب وفرنسا كنموذج
كانت فرنسا أول دولة أوربية تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان عام 1789م، وفي دستورها عام 1946م أكدت تلك الحقوق، وأضافت إليها حقوقاً أخرى كحقّ العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحقّ الإضراب. ولكن للمرأة حقوقاً هي أهمّ لديها، أو يجب أن تكون أهمّ لديها من حقّ الإضراب، أو الانضمام إلى الاتحادات أو حتى العمل، وأعني بذلك حقّ المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته الراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية.
ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أنَّ علم النفس عندما دخل المعاملات والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين، أثبت أنَّ غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريزة الجوع ومن غريزة الجنس.
أمَّا بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة؛ فتظهر عندما نتذكر أنَّ الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة، (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [الأعراف:189]، (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم:19] ولفظ "ليسكن"، "لتسكنوا" يحمل معاني واسعة تشمل الشعور بالراحة والمتعة والأمن والسلام، وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وربما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج؛ فإنه يكون مصدراً للسعادة لا يمكن أن يعوّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدراً لها.
وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدراً كبيراً من الشعور بالاكتفاء، الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية، أقول: بالنسبة لأهمية ذلك للمرأة؛ فإنَّ الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء أنَّ ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية، مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظلّ الشعور بعدم الاكتفاء، وأنَّ شيئاً ـ غير معين ـ ينقصها في حياتها يلازم مثل هذه المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تدرك في عقلها الواعي أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة، ولو كانت هي التي اختارت هذا الحرمان.
فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجو الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة، إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة؛ فإنَّ أية دولة أو مجتمع يحدد ويضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها.
وقد وضح فيما سبق أنَّ معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (كما هو في النظام الإسلامي) يحدد حتماً ويضيّق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسِّر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟
تعدد الزوجات.. وحقوق الإنسان (2/2)
صالح بن عبد الرحمن الحصيِّن * 13/6/1424
11/08/2003
اختتم الكاتب مقاله في الحلقة السابقة عند سؤاله المطروح: كيف نفسِّر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟ ونستمر مع الحلقة الثانية والأخيرة من هذا المقال للإجابة على هذا السؤال، فيقول:
للإجابة عن هذا السؤال نلاحظ أمرين:
الأول:يتعلق بالمجتمعات والدول الغربية، ومن المناسب ذكر قصة معبرة لها دلالتها، فحينما أصدر البرلمان الإنجليزي القانون المشهور بإباحة العلاقات الجنسية الشاذة كان هذا الحديث موضوع حديث بيني وبين أحد الأصدقاء، وقد علق بقوله: "ولكن ستمضي خمسون سنة قبل أن يصدر البرلمان الإنجليزي قانوناً بإباحة تعدد الزواج" لم يكن صديقي مبالغاً، فقد مضى حتى الآن على تعليقه أكثر من خمس وثلاثين سنة!. إنَّ ضمير المجتمع في أوربا يسهل عليه أن يقبل وجود علاقات جنسية خارج نطاق الزواج حتى لو كانت شاذة تحت تأثير قبوله لفكر الحرية الجنسية، أما (تابو) تعدد الزوجات فلا يزال جزءًا ثابتاً في الموروث الثقافي الأوربي (Cuiture) ، وبعبارة أخرى جزءًا من المعنى القانوني الغامض لعبارة: النظام العام والآداب العامة في المجتمعات الغربية.(/3)
وإذا استحضرنا أنَّ الديانة المسيحية ـ بشكلها الأوربي ـ عنصر هام من عناصر الموروث الثقافي الأوربي، واستحضرنا نظرة هذه الديانة للزواج بحدّ ذاته، سهل علينا فهم النظرة السلبية للثقافة الأوربية إلى نظام تعدد الزوجات.
والموروثات الثقافية ـ كما هو معروف ـ لا تخضع دائماً للمنطق ولا للمحاكمة العقلية، ولكن على كل حال فهذه النظرة لها في المجتمعات الغربية ـ كما رأينا ـ مبررات مفهومة، وإن كانت غير صحيحة.
أمَّا في العالم الإسلامي حيث صدرت قوانين في العراق وتركيا وتونس تحرِّم وتجرم تعدد الزوجات، فإنه يصعب أن توجد لهذه القوانين مبررات مفهومة، إذ إنه حتى فكرة النظام العام والآداب العامة، لا يمكن أن تكون أساساً لهذه القوانين، والموروث الثقافي في هذه البلدان -فضلاً عن أحكام الشريعة- لا يمكن أن يكون مصدراً لهذه القوانين، بل إنَّه ضدها.
وإذاً، فما هو التفسير لصدور هذه القوانين في العالم الإسلامي؟
الجواب:إذا استثنينا الانتهازية السياسية، النزق الطائش في تصور العلمانية، والهوى الجامح في التفلت من أحكام الإسلام؛ فإنَّه يمكن القول بأنَّ الدافع لإصدار تلك القوانين، الخضوع اللاواعي لسلطان الثقافة (Cuiture)، والانبهار بألفاظ الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، دون أن يوجد تحديد واضح لمفاهيمها في الذهن.
وفي المقابل تعوَّد الغرب على إطلاق ألفاظ وعبارات لها إيحاءات وظلال فكرية مكروهة مثل: الحريم، واستعباد الرجل للمرأة وتسخيرها لمتعته، والحياة المهينة للمرأة، كما تعوَّد ببغاوات الشرق على ترديد هذه الألفاظ والعبارات.
وليس أدلّ على طغيان سلطان الثقافة الغربية على عقل المسلم في هذا المجال من أنَّه حتى المدافعون عن الإسلام من الكتاب الإسلاميين لم يستطيعوا التخلص من هذا الطغيان، فنجدهم يدافعون عن نظام تعدد الزوجات بصفة اعتذارية، وكأنهم قد اقتنعوا بأنَّ هذا النظام غير مرغوب فيه، وأنَّهم يودّون أنه لم يوجد في تشريع الإسلام. أما وقد وُجد؛ فلا حيلة لهم إلا التماس المبررات الاعتذارية لوجوده، فهم يسلمون من حيث المبدأ بصحة النظرة السلبية لهذا النظام كنظام اجتماعي، ثم يبررون وجوده في الإسلام بأنَّه نظام استثنائي، وأنَّه في طريق الانقراض عن حياة المسلمين، وأنَّه مبرر فقط في ظروف معينة، ثم يحاولون حصر هذه الظروف التي تقوم بها الحاجة الفعلية أو الضرورة لأن يتزوَّج الرجل على زوجته.
وفضلاً عن أنَّه لا يوجد أساس علمي شرعي لاعتبار نظام تعدد الزوجات (كما هو منظَّم في الإسلام) نظاماً استثنائياً لا يمكن أن يتسامح الإسلام تجاهه إلا في ظلّ الظروف وضمن الشروط الواقعية التي تجعله حاجة معتبرة (في تقديرهم)، إذ إنه لا النصوص الثابتة ولا تطبيقها من قبل الرعيل الأول من الصحابة والتابعين يشهد لذلك، فضلاً عن ذلك؛ فإنَّه إذا صحَّ ما أوردته ـ فيما سبق ـ من حجج عقلية لإثبات أنَّ نظام تعدد الزوجات في ذاته نظام يحقق المصلحة العامة للمجتمع، فقد كان ينبغي لهؤلاء الكتَّاب أن يعتبروه نظاماً اجتماعياً صالحاً حقيقاً بأن يعتزَّ به ولا يعتذر عنه، وأن يكون همهم تشجيعه والدعوة إلى إشاعته، بدلاً من التنفير عنه، على أنَّه في الحالات التي لا يكون الدافع فيها وراء القوانين المحرمة لتعدد الزوجات في العالم الإسلامي اتباع ما تهوى الأنفس، فإنَّ الدافع لها اتباع الظن والخضوع للأوهام، بدلاً من البناء على الحقائق وإجراء المحاكمة العقلية للأمور قبل الحكم عليها، ولو حكم المشرعون لتلك القوانين العقل؛ لأبصروا التناقض العجيب بين تحريم تعدد الزوجات، وإباحة صور من علاقات المتزوجين بنساء خارج نطاق الزوجية، علاقات تشبه العلاقة الزوجية في كل شيء إلا في عدم وجود الإجراء الشكلي لعقد الزواج، والذي كان سيحمي حقوق المرأة وحقوق ثمرة علاقتها بالرجل من الأولاد.
ويبرز التناقض عندما يقدم الشخص للمحاكمة بتهمة ارتكابه لجريمة تعدد الزوجات، فتبرئه المحكمة إذا عجز الإدعاء العام عن إثبات وجود عقد زواج شرعي في الحالة، بحيث يقوم الدليل على أنَّ الحالة حالة زواج يمنعه القانون، وليست حالة زنا يبيحها القانون!.
المشرّعون لتلك القوانين يقولون (إنَّما نحن مصلحون) غايتنا حماية حقوق المرأة وكرامتها وحريتها، ولا (يشعرون) أنَّ هذه القوانين تهيئ لهم الظروف الطبيعية لحرمان المرأة من حقوقها ولتحديد حريتها واستلاب كرامتها، وما كانت القوانين البشرية أبداً قادرة على مغالبة القوانين الطبيعية وإلغاء آثارها، لا سيما في مجتمع تتسم فيه الأجهزة المسؤولة عن تنفيذ القوانين بالعجز والتخلف والفساد، كما هو الحال في أغلب المجتمعات فيما يسمى العالم الإسلامي.(/4)
إنَّ الوهم السائد بأنَّ نظام تعدد الزوجات نظام اجتماعي سيئ وضد مصلحة المجتمع، وقد اخترعه الرجل استجابة لهواه ومتعته، وأنَّه مظهر لاستعلاء الرجل على المرأة، منتقص لحقوقها مهين لكرامتها وسبب لشقائها، والإلحاح على تكرار هذه الأحكام على نظام تعدد الزوجات في الندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام، كل ذلك أوجد لدى الكتّاب الإسلاميين المعاصرين الوحشة تجاه نظام تعدد الزوجات المحكوم بقيود الشرع وضوابطه، دون محاولة منهم للقيام لله، والتفكير والاختبار الموضوعي الحيادي لهذه الأحكام المسبقة على النظام، وتحديد ما إذا كانت هذه الأحكام نتيجة الأفكار الشائعة السائدة في أذهان الناس وعلى ألسنتهم أو نتيجة للمحاكمة الفعلية، والبحث عن المصالح في ضوء الواقع وتجارب الأمم، وعدم الانسياق مع الهوى والعاطفة والشعارات الخادعة.
ومعلوم أنَّ شيوع الفكرة وسيادتها ولو كانت وهمية، يعطيها من إمكانية الإيمان بها واليقين ما لا تحظى به ـ في كثير من الأحيان ـ الحقائق، بل يجعلها من المسلّمات البديهية التي لا تقبل المراجعة أو التشكيك. ونتيجة لما سبقت الإشارة إليه؛ رأينا الكتابات المعاصرة في الدفاع عن الإسلام تنساق مع الأفكار الوهمية الشائعة عن تعدد الزوجات، فتعتبره من حيث المبدأ غير مرغوب فيه، وإنَّما يكون مشروعاً على وجه الاستثناء، وحيث توجد ظروف معينة تجعله استجابة لحاجة حقيقية وفعلية تبرر الاستثناء، وأنَّه لا ينبغي أن يكون الدافع إليه الرغبة الطبيعية للرجل في الاستمتاع، وحسب علمي القاصر فإنَّه لا يوجد من نصوص الشرع ما يسند هذا الاتجاه، وهدي الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ـ كما يشهد التاريخ الصادق ـ على خلافه.
وإذا صحَّ ما أطلت الجدال فيه والاحتجاج عليه من أنَّ هذا النظام ـ كما رسمه الشرع الحكيم ـ نظام اجتماعي صالح، ليس فقط لأنَّ أي بديل عنه ـ في ضوء دراسة الواقع ـ ضار بالمجتمع عامل على فساده؛ بل لأنَّه يحقق مصلحة المرأة مثل ما يحقق مصلحة الرجل أو أكثر، ويضمن للمرأة من العدل والحرية والوفاء بحقوقها الطبيعية ما يفوت عليها في ظلّ أنظمة تمنع تعدد الزوجات كما ينظمه الإسلام.
إذا صحَّ ما ذكر فإنَّ هذا النظام سوف يحقق آثاره النافعة بصرف النظر عن دوافع الرجل للزواج، وهذا تماماً مثل الزواج بحدّ ذاته، فهو نظام اجتماعي صالح، بصرف النظر عن العامل النفسي الذي دفع الرجل للزواج، إذا لم يكن هذا العامل النفسي عاملاً سيئاً.
إنَّ نظام تعدد الزوجات ـ كأي نظام اجتماعي صالح ـ له بلا شك سلبياته، وبعض هذه السلبيات راجع إلى طبيعته، ولكنها حينئذٍ لا توجب إلغاءه، إلا لو كانت ترجح على إيجابياته، وهذا غير واقع، وبعضها راجع إلى إساءة استعمال البشر، وهذه أيضاً لا تعالج بإلغاء النظام، وإنَّما بالعمل على حمل الإنسان المسلم على عدم إساءة استعمال النظام.
وبناءً على ما تقدم؛ فإنَّه ليس من العدل أن يُترك الناس للأوهام والأفكار الخرافية حول تعدد الزوجات، ويكون الواجب أن يكشف عن أعينهم غشاوتها، وأن يُوعوا بالحقائق عن هذا النظام. وإذا كانت وسائل الدعوة عاجزة عن القيام بدور فاعل في هذا المجال؛ فإنَّ الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم مسؤولة عن تضمينها مناهج التعليم ما يميز بين الأوهام والحقائق، في هذا النظام وغيره من الأنظمة الاجتماعية.
وعوداً للكلام على الآية الكريمة المصدَّر بها هذا المقال، وفي ضوء ما سبق؛ فإنَّه يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1 ـ هذه الآية هي الآية الوحيدة التي تدلّ بنصّها على مشروعية تعدد الزوجات، أمَّا النصّ الوارد في الآية الأخرى (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء:23] في سياق تعداد المحرَّمات في الزواج؛ فلا يدلّ بالنص على التعدد، وإنما بمفهوم المخالفة، وكذلك النص الوارد في الآية الأخرى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) [النساء:129] فإنَّما يدل على مشروعية التعدد بالإشارة.
2 ـ ورد في التعبير عن العدل بثلاثة ألفاظ (أن لا تقسطوا)، (أن لا تعدلوا)، (أن لا تعولوا)، والإقساط والعدل وعدم العول متقاربة في المعنى، على أنَّه ينبغي التمييز في المعنى بين العدل في الأشخاص، والعدل بين الأشخاص؛ فالعدل في الأشخاص يعني إيفاءهم حقوقهم، والعدل بين الأشخاص يعني التسوية بينهم.
والعدل المشروط لإباحة تعدد الزوجات في الآية الكريمة -كما يدلّ كلام المفسرين- يعني الأمرين: وجود العزم على التسوية في المعاملة بين الزوجات، ووجود الظنّ الغالب بقدرة الزوج على ذلك، ثم وجود العزم على الوفاء بما لكلّ من الزوجات من حقوق الزوجية، ووجود الظنّ الغالب لدى الزوج بقدرته على ذلك.(/5)
3 ـ كما رأينا؛ فإنَّ نظام تعدد الزوجات في الإسلام صورة مختلفة عن نظام تعدد الزوجات في أي دين آخر، أو ثقافة أخرى، وإذا كان أيّ نظام اجتماعي له سلبياته ولا بد؛ فإنَّ النظام الإسلامي يتفادى ما أمكن تلك السلبيات، فيشترط فيه العدل في الزوجات، ثم العدل بين الزوجات حين يكون ذلك ممكناً بحكم الطبيعة البشرية، ثم لا يسمح به حين يؤثر سلباً على غاية مصلحية يهتم بها الإسلام وهي صلة الرحم، فيمنع أن يكون بين الزوجات نوع معين من القرابة كما بين المرأة وأختها، أو المرأة وخالتها، ثم هو بعد ذلك يحدد العدد، فلا يجيز التعدد لأكثر من أربع، والزيادة عن أربع من خصائص نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وقد كشف التاريخ والواقع العملي عن حكمة مهمة من حِكَم هذه الخصيصة، ذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يبلغ نبوته، ويهدي بهداية الله عن طريق القول والعمل، فهو مثال ونموذج للأمة، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وهو شاهد على أمته، وموجب هذه الشهادة أن تكون بينة واضحة ودليلاً ظاهراً على مشروعية الفعل، وأنَّ تطبيق ما أنزل الله من الهدى ممكن، وكيفية هذا التطبيق، ولا يتم ذلك على كماله إلا بأن يكون لدى الأمة علم تفصيلي بحياته -صلى الله عليه وسلم- العامة والخاصة، وذلك يوجب أن يوجد عدد كاف يضمن به البلاغ، ولا إشكال في شؤون الحياة العامة، أمَّا الحياة الخاصة فلا يمكن أن يبلغ هديه فيها إلا عن طريق الزوجات، وإذا كان النقلة عدداً قليلاً فقد ينسى الناقل أو لا يرى أنَّ الأمر من الأمور التي يجب نقلها، أو يخطئ في النقل، وهذه العوارض تعرض لمن ينقل عنه في سلسلة الإسناد. وقد كشف التاريخ أنَّه بسبب وجود هذا العدد من الزوجات الذي اختاره الله لنبيه أمكن أن تعرف الأمة كل تفاصيل ودقائق حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- الخاصة، حتى إنَّ المسلم العادي بعد أربعة عشر قرناً يعرف عن تفاصيل الحياة الخاصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه.
4 ـ قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) قيد غير مراد، فلا يعني أنه إن لم يخف الأفراد أو المجتمع الإقساط في الأيتام فلا يجوز لهم تعدد الزوجات، وإنما يستفاد منه الإشارة إلى أنَّ تعدد الزوجات بديل صالح يوفر الوقاية من ظلم اليتامى وعدم إيفائهم حقوقهم.
5 ـ المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان بأنَّ شيوع تعدد الزوجات في المجتمع يعطي المرأة الفرصة في الزواج مهما كانت الصعوبات والعوائق التي تقف في طريقها إلى الزواج، وبذلك تتوفر الحماية الاجتماعية لأمّ اليتامى وأولادها، ويتأثر مركز المرأة الاجتماعي إيجابياً، فنكون أقدر على الحفاظ على حقوقها وحريتها وضمان معاملتها بالعدل، وعموم لفظ الآية يتضمَّن أنَّ نظام تعدد الزوجات عامل فاعل في العدل في اليتامى، وإذا كان اسم الإشارة (ذلك أدنى أن لا تعولوا) راجعاً إلى كلّ ما سبقه، فذلك يعني أنَّ هذا النظام عامل فاعل للعدل في النساء من حيث الجملة.
6 ـ المنطق الصحيح والواقع العملي يشهدان أنَّ المجتمع أو القانون الذي يعارض تعدد الزوجات، يحدد فرصة المرأة في الزواج، فيحدد بالتالي فرصتها في أن تكون أماً، وأن يكون لها زوج تسكن إليه ويسكن إليها، وتنمو بينهما المودة والرحمة، ويكون لها بيت تؤدي فيه وظائفها الطبيعية كامرأة، وكلّ هذه الأمور حاجات أساسية وحقوق للمرأة أهمّ لديها وفي واقع الحياة من عدد من الحقوق التي تضمَّنتها وثيقة حقوق الإنسان.
فتحديد فرصة المرأة في الحصول على هذه الحاجات الأساسية بالحدّ من تعدد الزوجات انتهاك واضح لحقوقها - كإنسان-.
7 ـ عند التأمل والاحتكام للنظر المنطقي والعقلي، يظهر جلياً أنَّ نظرة الغرب إلى نظام تعدد الزوجات (كما هو في الإسلام)، أساسها التصورات الناتجة عن الموروثات الثقافية، وليس أساسها المنطق والمحاكمة العقلية، أو اعتبارات المصلحة الاجتماعية العملية. والنظرة السلبية لهذا النظام لدى بعض المسلمين المعاصرين ناشئة فقط عن التأثر بالتصورات الغربية، والانخداع بتحقير الغرب لهذا النظام عند المسلمين، وعيبهم به.
8 ـ بحكم طبائع الأشياء، فإن لنظام تعدد الزوجات ـ كأي نظام اجتماعي آخر ـ سلبيات، ويحدث أحياناً كثيرة أن يُساء استعماله، ولكن هذا شأن أي نظام اجتماعي صالح، والعلاج ليس بهدم النظام وإنَّما بمعالجة السلبيات والعمل على تقليلها، ومكافحة إساءة الاستعمال.
وبالله التوفيق.
تعدد الزوجات..وحقوق الإنسان (1/2)
صالح بن عبدالرحمن الحصيِّن 6/6/1424
04/08/2003
قال الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...) [النساء:3].
هذه الآية واحدة من بضع آيات في سورة النساء جاءت لحماية حقوق اليتامى ذكوراً وإناثاً.(/6)
وفرض قيام المجتمع لهم بالعدل، والتحذير من الإخلال بذلك، والهداية إلى الوسائل التي تكْفُل العدل في اليتامى بإيفائهم حقوقهم على المجتمع أو على أفراد معينين فيه.
والنصّ الكريم مؤلف ـ كما قال الإمام القرطبي في تفسيره ـ من جزأين؛ شرط هو: (إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) وجوابه: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
وأوَّل ما يتبادر إلى ذهن السامع والقارئ لهذا السؤال: ما هي العلاقة بين الشرط والجواب؟
ا هي العلاقة بين الإقساط في اليتامى ـ أي العدل فيهم بإعطائهم حقوقهم ـ وتعدد الزوجات؟
كيف يكون تشريع تعدد الزوجات مقتضياً وموجباً للعدل في اليتامى؟
في الإجابة عن هذا السؤال وعند الرجوع إلى التفسير بالمأثور، نرى أنَّ الإمام ابن جرير رحمه الله أورد في تفسير هذه الآية الكريمة وبيان سبب نزولها أربعة أقوال للسلف مختلفة، ولكن اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتضاد، وهي في هذا الاختلاف محكومة بالقاعدة المعروفة: أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأنَّ القول بأنَّ آية معينة نزلت في كذا قد يعني أنَّ هذا الوضع يشمله معنى الآية المعينة وحكمها، ولا يعني أنَّها لا تشمل وضعاً آخر.
والمقصود بـ(اليتامى) في الآية في ثلاثة أقوال من الأقوال الأربعة: الذكور والإناث.
وفي تفسير القرآن ينبغي الحذر من التجاوز عن التفسير بالمأثور أو ما اختاره أئمة التفسير المعروفين، ولكن ذلك لا يمنع عند تدبر القرآن من استلهام معان يمكن أن يتناولها اللفظ من حيث اللغة ولا تتعارض مع أحكام الشرع.
ومن هذا المنطلق ربما تكون الدلالة اللفظية المجرَّدة للنص الكريم مشيرة إلى الحكمة من تشريع تعدد الزوجات، ولا شكَّ أنَّ الواقع العملي يثبت وجود علاقة قوية وأكيد وظاهرة بين وجود تعدد الزوجات في المجتمع، وضمان حقوق اليتامى بوجه عام، توضيح ذلك فيما يلي:
لا يستطيع المجتمع أن يقوم بما فرضه الله عليه من الوفاء بحقوق اليتامى بمجرَّد إيجاد (دور أيتام) كافية لاستيعاب أعدادهم:
أولاً: لأنَّ لدُور الأيتام سلبيات كثيرة لا يبرر التسامح تجاهها إلا قيام الضرورة لوجود (دُور الأيتام) وعدم البديل لها.
وثانياً: لأنَّ لليتيم حاجات تتجاوز حاجة الجسم من الأكل واللباس والمأوى؛ حاجات عاطفية ونفسية وتربوية لا تقلّ في أهميتها عن الحاجات الجسمية، والواقع العملي وأحكام الشرع (الإسلامي) تظهر أنَّ هذه الحاجات في الغالب تُلبَّى عندما تتزوج أمُّ اليتيم فيكون لليتيم في هذه الحالة أب بديل وجوّ أسريّ بديل وإخوة وأخوات من أمه، وتكون علاقة زوج الأم بربيبه أو ربيبته (أولاد الأم من الزوج السابق) مشابهة في الغالب لعلاقته بأولاده لصلبه، حتى إنه يحرَّم عليه شرعاً الزواج بربيبته، كما يحرم عليه الزواج من ابنته.
وقد تنبَّهت بعض الشعوب بفطرتها إلى هذا الأمر، فوُجد مثلاً تقليد لدى القبائل الأفغانية يلتزم فيه الأفغاني، سواء كان أعزب أو متزوجاً، بالزواج من أرملة قريبه بعد وفاته؛ حماية للزوجة ولأولادها، ولذلك كان مما يلفت النظر أثناء الحرب الأفغانية الروسية، ومع وجود الأعداد الهائلة من الأيتام، عدم قيام الحاجة الظاهرة لإنشاء دُور الأيتام.
وصار همّ دُور الأيتام القليلة ـ التي أنشأها المحسنون بحماس ـ أن تتصيَّد الأيتام تصيّداً.
والواقع يظهر أنَّ أمّ الأيتام في الغالب لا تتزوَّج إلا في مجتمع يكون فيه الطلب على النساء كثيراً والعرض قليلاً، وهذا الوضع لا يتحقق عادة إلا في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات.
في مثل هذه المجتمع وحده تتاح فرصة الزواج لكل امرأة مهما كان لديها من موانع الرغبة فيها كزوجة؛ مثل أن تكون أرملة مصبية، أي ذات أولاد.
وبالعكس فإنَّ المجتمعات التي لا يشيع فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيها فرصة الأرامل في الزواج، حتى إنَّه مع مرور الوقت يصبح زواج الأرملة عيباً أو محرَّماً بحكم التقليد، كما هو الحال في القارة الهندية.
معنى ما تقدَّم أنَّ شيوع تعدد الزوجات في مجتمع ما، يجعل الطلب على النساء في ذلك المجتمع كبيراً، فحتى الأرملة ذات الأيتام سوف تجد الرجل المناسب الذي يرغب في زواجها، فإذا تزوَّجت فاء ظلّ الأب البديل على أولادها اليتامى ونعموا بالجوّ الأسري كأيّ أطفال عاديين لم يُصابوا بفقد أبيهم، وبذلك يتحقق في هذا المجتمع الوفاء لليتيم بحقوقه، أو كما جاء في الآية الكريمة (الإقساط فيه).(/7)
وما تقدَّم يشير إلى معنى أوسع للحكمة من تشريع تعدد الزوجات، فكما شاهدنا، فإنَّ المجتمع الذي يشيع فيه تعدد الزوجات يعمل فيه قانون العرض والطلب (وهو قانون طبيعي) عمله في أي مجال آخر، فتتاح فيه الفرصة للزواج لكل امرأة، فلا يبقى فيه عوانس ولا مطلقات ولا أرامل فقدن الأمل في الزواج بعد فقد أزواجهن. وسيعمل هذا القانون الطبيعي ـ ولا بدّ ـ عمله، فيؤثر إيجابياً وبصورة ظاهرة على قيمة المرأة في المجتمع، وبالتالي على حريتها، واستيفائها حقوقها، وأن تؤتى ما كتب الله لها، وأن تعامل من قبل الرجل والمجتمع بالعدل.
ولعلَّ هذا ما تشير له الآية الكريمة (ذلك أدنى أن لا تعولوا...)، فتعدد الزوجات ـ في النظر المتعمق ـ يحمي المرأة من الظلم وانتقاص الحق، وهذا مشاهد في الواقع العملي، فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) حيث يشيع تعدد الزوجات، تتمتع بمركز اجتماعي، وحرية، وقدرة على التصرف بقدر لا يُتاح للمرأة في القارة الهندية مثلاً، حيث تسود عادة وحدة الزوجة، ففي هذه المجتمعات الأخيرة تولد المرأة ومعها شعور أسرتها بأنَّه ولد للأسرة عبء مالي إضافي يتمثَّل في الثمن الباهظ لشراء زوجها عندما تبلغ سنّ الزواج، إذ على الأب أن يدفع (الجهيز) وتتحدد قيمة (الجهيز) في الغالب بمدى القدرة المالية للأب. أعرف أخاً من جنوب الهند كان موسراً، ولكنه انتهى مفلساً بعد أن دفع (الجهيز) لتزويج بناته التسع، والمسلمون الهنود وحدهم ـ وبحكم تأثرهم بالعادات الهندوكية السائدة ـ توجد عندهم مشكلة تستأثر بقدر كبير من همومهم؛ هي مشكلة تزويج البنات الفقيرات.
نماذج غير عربية
ومن الطبيعي أنَّ المرأة الهندية عندما تنجح في الحصول على الزوج؛ فإنَّها تحت سلطان شبح الخوف من فقده سوف تصبر على ظلمه، وسوف تتغاضى عن مطالبتها إياه بحقوقها قبله، ولن تستطيع القوانين البشرية مهما كانت كفايتها وفعاليتها مقاومة عمل القوانين الطبيعية.
ومن يتابع الصحف اليومية الهندية وأخبار ما تنشره عن مآسي انتحار الزوجات أو حرقهن من قبل أزواجهن وأسر أزواجهن بسبب عجز الزوجة عن الوفاء بالتزامها بثمن زواجها (الجهيز)، سوف يرى صورة من صور الظلم الناشئ عن تدني قيمتها بتأثير القانون الطبيعي للعرض والطلب.
وهذا الوضع (في الهند) له ـ ولا شكّ ـ صلة بمشكلة وأد البنات، وإجهاضهن في الهند، كما تحدَّث عن ذلك موقع (bbc.new) و(بي سي أون لاين) في 7/12/2000م، وذكر صراحة أنَّ وأد البنات مشكلة قائمة في الهند لمدة طويلة، حيث تستمد مبررها من العادات المرتبطة بمهور الزواج، التي تجعل المرأة ذات بعد اقتصادي، وقد طلبت الهيئات الطبية في الهند المساعدة الدولية لمنع مليونين من حالات الإجهاض تتم في الهند سنوياً بسبب اكتشاف أنَّ الجنين أُنثى.
لقد اكتُشف تناقص نسبة الإناث إلى عدد الذكور في الهند منذ مطلع القرن العشرين، ولكنه في السنوات الأخيرة تنامى النقص في نسبة الإناث للذكور بصفة دراماتيكية.
النموذج الأفريقي
وعلى العكس؛ فالمرأة الإفريقية (جنوب الصحراء) عندما تبلغ سن الزواج تستقبلها أبواب العشّ الزوجي مشرّعة، وتدخلها مرفوعة الرأس كريمة، سوف يتردد زوجها كثيراً قبل أن يقدم على ظلمها أو انتقاص حقوقها أو حريتها؛ لأنَّه يعلم أنَّه إذا فارقها فلن تكون أبواب الزواج من جديد موصّدة أمامها، إنَّ قانون العرض والطلب قد رفع قيمتها وأعطاها القدرة على التصرف والاختيار، وسيكون زوجها أمام علة فاعلة وسبب واقعي لمعاشرتها بالمعروف.
إذا صحَّ ما سبق؛ فإنَّ من المنطقي توقع أن تنخفض نسبة الطلاق في مجتمع يشيع فيه تعدد الزوجات، هناك سبب إضافي لتدني نسبة الطلاق في مجتمع تعدد الزوجات؛ يرجع إلى الرجل (وهو بحكم الطبيعة وبصرف النظر عن جنسه أو ثقافته أو مكانه أو زمانه) يميل غالباً إلى (التعدد) لن يجد نفسه (في مجتمع التعدد) في ظروف تحمله على الطلاق، بسبب رغبته في التعدد (كما يحصل في مجتمع عدم التعدد).
وإذا كان الرجل كحقيقة واقعة يميل غالباً إلى التعدد؛ فإنَّ تشريعاً للتعدد ـ كالتشريع الإسلامي بقيوده وضوابطه ـ يضمن البديل العادل للمرأة، ولا يجعلها ـ كما هو الواقع في المجتمعات التي تنكر التعدد المشروع ـ محرومة من الحماية لحقوقها وحقوق ثمرة التعدد، أو محتاجة لتشريع قوانين (غير كاملة وغير مضمونة النفاذ والفعالية) لحماية حقوقها وحقوق أولادها.
وبعد هذا؛ فإنَّ لصلة تعدد الزوجات (في الحدود وبالقيود التي يرسمها التشريع الإسلامي) بالعدل في جانب المرأة بالنسبة لمفاهيم الحضارة المعاصرة مجالاً آخر للقول، ملخصه:
إنَّ رعاية حقوق الإنسان وحمايتها أهم ـ أو من أهم ـ القيم الخلقية في الحضارة المعاصرة (على الأقل نظرياً، وبصرف النظر عن التطبيق الواقعي).(/8)
يشهد لذلك أنَّه عندما ظهر إخفاق المعيار الاقتصادي في تصنيف البلدان والدول من حيث التقدم والتخلف، جاءت النظرية الحديثة باعتماد معيار مدى رعاية الدولة لحقوق الإنسان؛ لقياس درجتها في سلم التقدم والحضارة، ونتيجة لذلك اعتبرت البلدان الاسكندنافية متقدمة في هذا السلم عن البلدان الأوربية الأخرى.
الغرب وفرنسا كنموذج
كانت فرنسا أول دولة أوربية تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان عام 1789م، وفي دستورها عام 1946م أكدت تلك الحقوق، وأضافت إليها حقوقاً أخرى كحقّ العمل، وحق الانضمام إلى الاتحادات، وحقّ الإضراب. ولكن للمرأة حقوقاً هي أهمّ لديها، أو يجب أن تكون أهمّ لديها من حقّ الإضراب، أو الانضمام إلى الاتحادات أو حتى العمل، وأعني بذلك حقّ المرأة في الأمومة، وفي الزواج، وفي أن يكون لها بيت تكون مليكته الراعية فيه، وتؤدي فيه وظائفها الطبيعية.
ووجه أهمية الأمومة للمرأة يتضح من أنَّ علم النفس عندما دخل المعاملات والمختبرات على يد علماء النفس السلوكيين، أثبت أنَّ غريزة الأمومة أقوى لدى الأنثى من غريزة الجوع ومن غريزة الجنس.
أمَّا بالنسبة لأهمية الزواج للمرأة؛ فتظهر عندما نتذكر أنَّ الهدف الذي رسمه القرآن الكريم للزواج أن يسكن الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، وأن يكون بينهما المودة والرحمة، (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [الأعراف:189]، (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم:19] ولفظ "ليسكن"، "لتسكنوا" يحمل معاني واسعة تشمل الشعور بالراحة والمتعة والأمن والسلام، وما يشبه شعور الطفل عندما تحضنه أمه، وهذا اللفظ بما يحمل من معان لا مرادف له في العربية، وربما لا يوجد له مرادف في اللغات الأخرى، وإذا تحقق هذا الهدف للزواج؛ فإنه يكون مصدراً للسعادة لا يمكن أن يعوّض بأي أمر آخر اعتاد الناس أن يعتبروه مصدراً لها.
وأما بالنسبة لأهمية وجود المكان والجو الأسري الذي تمارس فيه المرأة وظائفها التقليدية التي تتناغم مع طبيعتها ومشاعرها ومواهبها وإحساسها بالجمال، وهو ما يعطي المرأة قدراً كبيراً من الشعور بالاكتفاء، الذي هو بدوره أمر ضروري للصحة النفسية، أقول: بالنسبة لأهمية ذلك للمرأة؛ فإنَّ الأمر لا يحتاج إلى تدليل أو إفاضة في الإيضاح. وفي رأي أحد الخبراء أنَّ ظاهرة ظهور بعض أعراض الاختلال النفسي لدى المرأة الخليجية، مثل حالات الاكتئاب والقلق والشعور بعدم الاكتفاء راجع إلى تخلي المرأة الخليجية عن ممارسة وظائفها التقليدية في البيت بإسنادها إلى الخادمة، وبذلك يظلّ الشعور بعدم الاكتفاء، وأنَّ شيئاً ـ غير معين ـ ينقصها في حياتها يلازم مثل هذه المرأة في تفكيرها اللاشعوري، ولا تدرك في عقلها الواعي أن ما ينقصها هو حرمانها من ممارسة الوظائف التقليدية للمرأة، ولو كانت هي التي اختارت هذا الحرمان.
فإذا كانت حقوق المرأة في الأمومة، والزواج، وتمتعها بالجو الأسري الذي تمارس فيه الوظائف التقليدية للمرأة، إذا كانت هذه الحقوق بهذه الأهمية للمرأة؛ فإنَّ أية دولة أو مجتمع يحدد ويضيّق فرصتها في الحصول على هذه الحقوق لا يمكن أن يدعي العدل في جانب المرأة، ولا العمل لصالحها وسعادتها.
وقد وضح فيما سبق أنَّ معارضة الدولة والمجتمع لتعدد الزوجات (كما هو في النظام الإسلامي) يحدد حتماً ويضيّق بصورة جدية الفرصة أمام المرأة للحصول على تلك الحقوق، وإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفسِّر الصورة السلبية لدى الحضارة المعاصرة لنظام تعدد الزوجات؟(/9)
تعدد القراءات القرآنية هل مرده إلى تجرد المصاحف من النقط والشكل ؟
ذهب فريق من المستشرقين إلى أن اختلاف القراءات القرآنية مرجعه إلى تجرد المصاحف من النقط والحركات التشكيلية التي تُضْبَط بها الكلمات؛ يقول المستشرق جولد زيهر: " وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة، تبعاً لاختلاف النقاط، واختلاف الحركات، وهذا يؤدي بدوره إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وإلى اختلاف دلالتها...".
وقد تلقف هذه الشبه بعض المنبهرين بالغرب، والسائرين على دربه، من غير أن يكلفوا أنفسهم مشقة الرجوع إلى أصحاب الشأن في هذا العلم، لمعرفة حقيقة الأمر في هذه المسألة.
ولبيان زيف هذه الشبهة وتهافتها نقول: إن هذه الشبهة قائمة في أساسها على مغالطة واضحة، ومخالفة للواقع، وبيان ذلك ما قرره أصحاب الاختصاص من أن الرواية والتلقي والسماع هي الأصل الذي تثبت به القراءة، ويثبت به رسمها، وليس العكس، فالقراءات بإجماع المسلمين لم تثبت بالاجتهاد والرأي، بل تثبت بالسماع والتلقي، هذا أولاً.
ثم من المقرر أيضًا أنه لم يكن للرسم العثماني دور في تعدد وجوه القراءات وتنوعها، بل كان الرسم العثماني وسيلة لحفظ القراءات الثابتة، إذ إن تلك الوجوه المختلفة لم يكن مرجعها إلا إلى سبب واحد، وهو التلقي عن رسول الخلق أجمعين.
وقد نبَّه علماء هذه الأمة منذ وقت مبكر على هذه الحقيقة، وأصَّلوا في ذلك أصلاًَ أجمعوا عليه، فقالوا: إن الأصل في القراءات إنما هو التلقي والسماع من الآخر للأول.
فهذا ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "سبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع، وتسويغه ذلك لهم، إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع لا إلى الرأي والابتداع ".
وهذا ابن الجزري يؤكد على أن " معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم، إنما هو من حيث أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراءً به، وملازمة له، وميلاً إليه، لا غير ذلك.. " إلى أن يقول: "وهذه الإضافة إضافة اختيار ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد ".
ومما يبين بطلان هذه الشبهة وتهافتها، أنه لو كان خلو المصاحف من الشكل والنقاط هو السبب في تنوع القراءات واختلافها لكانت كل قراءة يحتملها رسم المصحف صحيحة معتبرة قرآنًا، وواقع الأمر ليس كذلك، إذ إن القراءات القرآنية من جهة قبولها تنقسم إلى أقسام؛ فهناك القراءات مقبولة، وهناك القراءات المردودة، وثمَّت قراءات متوقف فيها، على تفصيل في ذلك للعلماء؛ وهذا التقسيم الذي اعتمده أرباب هذا العلم يدلل على أن أي قراءة لا يُعتد بها، ولا تعتبر قرآنًا إلا إذا كانت قائمة على التلقي والسماع الثابت والصحيح.
على أن مما يؤكد اعتماد القراءات على النقل والسماع - إضافة لما تقدم - وجود ألفاظ في القرآن تُقرأ بخلاف الرسم القرآني؛ من ذلك مثلاً كلمة {الصَّلاةَ} حيث جاء رسمها في المصحف (الصلوة) وكذلك {الزكاة} فقد رُسمت في المصحف (الزكوة) وهذا كثير معلوم لقارئ كتاب الله.
ثم إن في القرآن الكريم كلمات تكررت في مواضع متعددة، ورُسمت برسم واحد، لكنها في بعض المواضع وردت فيها القراءات التي يحتملها رسمها، فاختلف فيها القراء حسب ما تلقاه كل واحد منهم، وفي بعض المواضع اتفق الجميع على قراءتها بوجه واحد، لثبوت ذلك بالنقل والسماع، دون ثبوت غيره، وفي هذا دلالة على ما ذكرناه من أن الأمر مرده إلى التلقي والسماع لا غير.
وأخيرًا، فإن من المغالطات التي وقع فيها أصحاب هذه الشبهة من المستشرقين، ومن دار في فلكهم، توهمهم أن الأمة الإسلامية اعتمدت في نقل كتابها على مثل ما اعتمد عليه غيرها من الأمم في النقل، وشتان ما هما، إذ إن نقل المسلمين لكتابهم ودينهم، كان نقلاً موثَّقاً مضبوطًا، وخاضعاً لمعايير منضبطة وواضحة، يقاس بها صحة الخبر، ويقيَّم على وَفْقِها وسَنَنِهَا، فليس كل نقل عند هذه الأمة مقبول، وليس كل من قال - خلا الله ورسوله - فقوله لا مرد له، ولا معقب لحكمه؛ بل إن الأمر خاضع لمنهج القبول والرد؛ وموزون بميزان الرجال، تعديلاً وتجريحًا، وقبولاً ورفضًا؛ ذاك المنهج الذي كان في الواقع مما امتازت به هذه الأمة على غيرها من الأمم، والذي به حفظت كتاب ربها، وبه نقلت سنة نبيها، ومن خلاله عرفت معالم دينها، بحيث استقام لها الأمر فيما لم يستقم لغيرها من الأمم.
وعلى ضوء ما سبق وتقدم يظهر لنا تهافت هذه الشبهة وسقوطها، ويتضح لنا كذلك حقيقة الأمر في هذه المسألة، وهو أن القراءات القرآنية الثابتة لا شك فيها، وأن سبب الاختلاف في القراءات والتنوع فيها، مرده إلى اختلاف النقل والسماع ليس إلا.(/1)
ونختم مقالنا بقوله - تعالى -: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت: 49) نسأل الله التوفيق والعصمة والسداد، والله حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.
21/10/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
تعدُّد الزَّوجات في الإسْلام
تقدمة وتمهيد:
يحاول أعداء الإسلام – من ملاحدة ومستشرقين – أن يثيروا على النظام الإسلامي اتهاما باطلة ، وشبهات مغرضة ،وحملات حاقدة ، ليشككوا بصلاحية هذا النظام ، ومقومات خلوده على مدى الزمان والأيام ، وليجدوا من المسلمين من يستجيب لآرائهم ويؤمن بمعتقداتهم وأفكارهم ، ويقع في حبائل شكوكهم واتهاماتهم.
فمن هذه الاتهامات التي يثيرونها ، والحملات المغرضة التي يشنونها:
إباحة الإسلام لنظام تعدد الزوجات، وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع زوجات في وقت واحد ويتخذ أولئك الأعداء من هذا التعدد ذريعة للطعن بنظام الإسلام ، وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، بل يتهمون الإسلام بأنه أهدر كرامة المرأة ، وأسقط اعتبارها الذاتيفي الحياة !!
هذا الكلام المعسول الذييروّج له أولئك المثيرون قد يستهوي بعض العقول القاصرة بادئ ذي بدء ، بل ربما يتأثر البعض – ممن ينتسب إلى الإسلام – بهذه الاتهامات المغرضة ، فيذهبون إلى ترويجها وإشاعتها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وهؤلاء المروّجون لمثل هذه الشبهات والاتهامات: إما أن يكونوا عالمين بالحقائق وحكمة التشريع ، وإما أن يكونوا جاهلين بها.
فإن كانوا عالمين ، فإنهم يبرهنون بشكل قاطع لا يقبل الريبة والشك أنهم عملاء لأعداء الإسلام، بل أداة تنفذ لإشاعة كل ما يثيرونه من أراجيف ، وما يروجونه من أكاذيب ، وما أكثر أولئك الذين يرتبطون بالأعداء ، ويوصمون بالعمالة ، وما هم في الحقيقة إلا طابور خامس لإثارة الفتن ، وتمزيق وحدة الأمه ، وربط البلاد بعجلة الدول الأجنبية ، والسير بالجيل الناشئ نحو الإلحاد الشائن ، والضلال الممقوت.
وإن كانوا جاهلين ، فإن من الواجب عليهم أن يسألوا ويفهموا ، قبل أن يحكموا ويروّجوا ، حتى تظهر لهم الحقائق ناصعة بأجلى مظاهرها ومعانيها ، وليس عاراً على الإنسان أن يبحث ويسأل ويتعلم ، ولكن العار كل العار أن يعيش في بيداء الجهل ، ويسير في متاهات الضلالة ، يتبع كل ناعق ، ويخطو وراؤ كل عميل ، ورحم الله من قال:
لاتأخذ العلم إلا عن جهابذة
بالعلم نحيا وبالأرواح نفديه
أما ذوو الجهل فارغب عن مجالسهم
قذ ضّل من كانت العميان تهديه
وقبل أن أشرع في دفع هذه الاتهامات الباطلة التي يثيرها الأعداء على نظام تعدد الزوجات أريد أن أبيّن حقيقة هامة ، لها أكبر الارتباط بالكتّاب الإسلاميين الذين يكتبون عن الإسلام في هذا العصر ، وهي أنهم – في أكثر مايكتبون – يظهرون الإسلام بمظهر المتهم ، ويضيعونه حين يتولون الدفاع عنه في موضع الريبة والشك ، بل يصل الأمر عند البعض يؤولوا النصوص ، ويقلبوا الحقائق ، إبعاداً للإسلام عن التهمة ، وتوفيقاً بين مبادئ الإسلام وأراجيف الأعداء.
وهذا من الخطأ الفادح الذي وقع فيه كثير من الكتّاب في هذا العصر ، وفي تقديري أنهم يسيئون أكثر مما يحسنون ، ويزيدون التهمة تعميقاً وتثبيتاً أكثر مما يدافعون ، وما كان عليهم لو أنهم وقفوا في ردودهم وكتاباتهم مقف الهجوم لكل من ينال من نظام الإسلام ، أو يمس قدسية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فلو أنهم فعلوا مثل هذا لأفهموا خصوم الإسلام: أن مبادئ الشريعة ةنظم القرآن ، هي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وماعداه من أنظمة وضعية وقوانين بشرية ، فيها الكثير من القصور والنقص والباطل .. ولا شك من ذلك . ولو أنهم وقفوا من أعداء الإسلام موقف الهجوم لوضعوا التشريع الإسلامي موضعه اللائق به من التشريف والتكريم ، ليعلم كل ذي عقل وفيهم أن للإسلام دوره العظيم ، ومهمته الكبرى ، في رد الناس إلى الحق ، وهداية البشرية الحائرة .. وما أجمل تعبير القرآن حين أعلن حكم الله ، وهاجم حكم الجاهلية في قوله : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1) ، ألا فليأخذ كتّاب الإسلام من القرآن الكريم طريقة الرد ومنهج المناظرة في دفاعهم عن نظام الإسلام ، حتى لايقعوا في الخطأ الذي وقعوا فيه ، وعلى الله قصد السبيل.
وبعد هذه التقدمة سأشرع في بيان نظام الإسلام في تعدد الزوجات ، ثم أعّرج على ذكر الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأرى – إن شاء الله – بعد ذكر هذه الحقائق أن شبابنا وشاباتنا الذي تأثروا بالدعايات المغرضة ، والإشاعات الكاذبة سيؤوبون إلى الحق ، ويثوبون على الرشد ، ويؤمنون من قرارة نفوسهم: أن الإسلام دين العزة والكرامة ، وتشريع الحق والهداية ، ومبدأ العدالة والمساواة ، ومنهج حكم ، ونظام حياة . صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}(2)
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة الأنعام الآية 15(/1)
لمحة تاريخيّة عن التعدُّد لم يكن الإسلام أول من شرع نظام تعدد الزوجات ، بل كان موجوداً في الأمم القديمة كلها تقريباً: عند الأثينيين ، الصينيين ، الهنود ، البابليين ، الآشوريين ، المصريين . ولم يكن له عند أكثر الأمم عدد محدود ، فقد سمحت شريعة (ليكي) الصينية بتعدد الزوجات إلى مائة وثلاثين امرأة ، وكان عند أحد أباطرة الصين نحو من ثلاثين ألف امرأة.
والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد بدون حد ، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهم زوجات كثيرات(1) ، ويقول الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومة)(2) ما يلي (ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراتة أو في الانجيل ، بل هو مباح ومأثور عن الأنبياء أنفسهم ، من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى عهد الميلاد ...).
أما في الديانة النصرانية فلم يرد في الأناجيل نص صريح بمنع التعدد ، بل ورد في بعض الرسائل (بولس) مايفيد أن التعدد جائز فقد قال (فعلى الاسقف أن يكون منزهاً عن اللوم ، زوج امرأى واحدة)(3) وقد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، وفي آباء الكنيسة الأقدمين من له كثير من الزوجات ، وقد كان في أقدم العصور المسيحية من يرى إباحة تعدد الزوجات في أمكنة مخصوصة وأحوال استثنائية ، وإليكم الشواهد على ذلك:
أ- ذكر الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابة المرأة في القرآن الكريم أن (مستر مارك) العالم الثقة في تاريخ الزواج يقول: (إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر ، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لاتحصيها الكنيسة والدولة) ويقول هذا العالم : (إن ملوك النصارى كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، فهذا (ديار مات) ملك إيرلندة كان له زوجتان وسريتان ، وكان (لشارلمان) زوجتان وكثير من السراري . وبعد ذلك بزمن كان (فيليب أوفاهيس) و(فريديريك وليام) الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين: وكان (لوثر) يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراضي ، فإنه لم يحرم بأمر من الله ، ولم يكن إبراهيم عليه السلام يحجم عنه إذ كان له زوجتان).
ب-وذكر العقاد في كذلك في كتابة (المرأة في القرآن الكريم) : ( أن مجلس الفرنكيين بنورمبرج أصدر قرارً يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتيين ، وذلك سنه 1560 ميلادية بعد صلح وستفاليا ، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين)، ويقول: (بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاد تعدد الزوجات ، ففي سنة 1531 نادى (اللامعدانيون) في مونستر صراحة : بأن المسيحي ينبغي أن تكون له عدة زوجات ، ويعتبر (المرمون) كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس).
ج- وقال جرجي زيدان(4) : ( فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بأمرأتين او اكثر ، ولو شاؤوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم ، ولكن رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتحادها ، وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية ، فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور)
د- والمسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في افريقيا السوداء للإفريقيين المسيحيين إلى غير حدود ، فقد ذكر (نورجيه) مؤلف كتاب (الإسلام والنصرانية في أواسط افريقية) هذه الحقيقة في قوله: ( فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون: إنه ليسمن السياسة أن نتدخل في شئون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها ، وليس من الكياسه ان نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ماداموا نصارى يدينون بدين المسيح ، بل لا ضرر من ذلك مادامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه أساس دينهم يبيح هذا التعدد ، فضلاً عن أن المسيح أقر في ذلك بقوله : ( لاتظنوا أني جئت لأنقض الناموس او الانبياء ماجئت لأنقض بل لأكمل). وأخيراً أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للإفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حد.
هـ- والشعوب الغربيةالنصرانية وجدة نفسها تجاه زيادة عدد النساء على الرجال –وبخاصة بعد الحربين العالميتين- إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة ، لاتزال تتخبط في إيجاد الحل المناسب؛ وقد كان بين الحلول التي برزت إباحة تعدد الزوجات.
ففي عام 1948م عقد مؤمتر للشباب في (ميونخ) بألمانيا ، وبحث مشكلة زيادة عدد النساء في ألمانيا أضعافاً مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب ، وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة ، وكانت النتيجة أن أقرت اللجنة توصية المؤتمر بالمطالبة بإباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة.(/2)
وفي عام 1949م ، تقدم أهالي (بون) عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب إلى السلطات المختصة ، يطلبون فيه أن ينص في الدستور الألماني على إباحة تعدد الزوجات(5). ونشرت الصحف منذ عشر سنوات تقريباً أن الحكومة الألمانية أرسلت إلى مشيخة الأزهر تطلب منها نظام التعدد في الإسلام ، لأنها تفكر في الاستفادة منه كحد لمشكلة ازدياد النساء ، ثم اتبع ذلك وصول وفد من العلماء الألمان اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية(6)
(1) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ص71
(2) ص237 في بحث الاسرة.
(3) رسالة تيموثاوس الأولى الاصحاح 3 العدد 2
(4) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للسباعي رحمه الله ص74
(5) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) ص57.
(6) عن كتاب (أحكام الأحوال الشخصية) د.محمد يوسف موسى
ثناء المفكّرين الغربيّين على نظام التعدُّد
تطالعنا الصحف والمجلات والكتب الاجتماعية بين الحين والآخر بكلمات لكثير من الكتاب الاجتماعيين والمفكرين الغربيين ، ويحبذون فيها نظام تعدد الزوجات ، وينادون به ويشجعون عليه؛ لما له من أثر كبير في إصلاح المجتمع والأخلاق ، وإليكم طرفاً من أقوالهم وكتاباتهم :
أ- فقد عرض (جروتيوس) العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات ، فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والأنبياء في العهد القديم(1)
ب- وقال الفيلسوف الألماني المشهور (شوبنهور): في رسالته (كلمة عن النساء): (إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساوات المراة بالرجل ، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا ،وضاعفت علينا واجباتنا .. إلى أن يقول: ولاتعدم المرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشؤونها ، والمتزوجات عندنا نفر قليل ، وغيرهنَّ لايحصين عدداً ، تراهن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة ، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى ، يتجشمن الصعاب ، ويتحملن مشاق الأعمال ، وربماابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار ، ففي مدينة (لندن) وحدها ثمانون ألف بنت عمومية(2) ، سفك دم شرفهن على مذبح الزواج ، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة ، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية ، وما تدعية لنفسها من الأباطيل ، أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره)(3)
جـ- ويقول (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب): (إن مبدأ نظام تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب ، يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به ، ويزيد الأسرة ارتباطاً ، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لاتراهما في أوربا).
د- ذكر العقاد في كتابه (المرأة في القرآن الكريم) طائفة من آراء الفلاسفة الأوربيين في التعدد ، فينقل عن الدكتور (ليبون) قوله (إن القوانين الأوربية سوف تجيز التعدد) ، ونقل عن الاستاذ (أهرنفيل) قوله : (إن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء السلالة الآرية).
هـ- وقالت (أني بيزانت) زعيمة التصوفية العالمية في كتابها (الأديان المنتشرة في الهند): (ومتى وَزَنَّا الأمور بقسطتط العدل المستقيم ، ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي –الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء- أرجح وزناً من البغاء الغربي ، الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره).
و- وجاء في مجلة (الفتح) القاهرية نقلاً عن جريدة (ديلي ميل) الأنكليزية المشهورة ، التي نشرت مقالاً تدافع فيه عن تعدد الزوجات بسبب الأزمة التي وقعت في إنجلترا ، وبلاد الغال في زيادة عدد النساء على الرجال والتي قدرت بمليونين.) جاء في هذه المجلة المذكورة: ( إن إباحة تعدد الزوجات هي الطريقة الوحيدة للعلاج الناجح ، وليست مسألة الزوجة الواحد إلا مسألة اعتقاد واتفاق ، وهي في الحق الواقع نتيجة نسبة عددية . ثم ذكرت أن نظرية المرأة الواحدة للرجل الواحد هي نظرية الأنسب والأوفق ،ولكن الاستمساك بها لايستحسن إلا عند التعادل العددي في الجنس ، أما إذا زاد عدد جنس النساء على العدد الآخر ، ولم تتخذ التدابيرفي ذلك فلا مفر من حرب طاحنة تنشب بين الجنسين).
ز- وقال الدكتور نظمي لوقا في كتابه (محمد الرسالة والرسول) ما يلي:(/3)
( وما من شك في أن نظام الزوجة الواحدة الدائم نظام مثالي ... ونظرة إلى واقع الحياة البشرية في تاريخ مجتمعاتها الغابر والحاضر ، تطلعنا على تعدد النساء في حياة الرجل الواحد سواء جهراً او سراً ، سواء برخصة من القانون أو الدين ، أو رغم القانون والعقيدة . وما من عاقل يفضل التعدد بغير رخصة على التعدد برخصة ... وعندئذ لا حيلة إلا في التعدد ، لأنه الحل السليم الوحيد لأساس الجماعة ، والضرورات تبيح المحضورات ، وماالقول في زوجة أقعدها المرض ؟ وماالقول في الزوجة العقيم ؟ وماالقول في الزوجة الفاترة؟ وماالقول في الزوجة سقيمة الأعصاب؟ طلاقها أرحم بها أم اردافها بزوجة أخرى؟ لا شك أن الامر واضح ، هي رخصة إذن تستخدم بحقها ، ولكنها ليست إلزاماً ..).
وهذا الذي ذكرناه من ثناء المفكريين الغربيين غير المسلمين عن نظام التعدد ، ماهو إلا غيض من فيض ، وغرفة من بحر ، ومن أراد أن يتتبع آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتربية في هذا المجال ، يجدها أكثر من أن تحصى ، وأعظم من أن تستقصى ، ولابد من أن يأتي اليوم الذي تثوب فيه البشرية إلى الإسلام ؛ لكونه دين حق وفطرة ، وتنزيلاً من رب العالمين ، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(4)
(1) العقاد في كتاب (حقائق الإسلام) ص167.
(2) هذا في عهد شوبنهور ، قد توفي سنة 1860م
(3) مصطفى الغلاييني في كتابة (الإسلام روح المدينة) ص224
(4) سورة فصلت الآية 53
الحكمة من التعدُّد في نظر الإسْلام
لاشك أن الإسلام حين شرع التعدد ، كان ذلك لحكمة سامية ، ومصلحة عامة ، وضرورات اجتماعية وشخصية ، وسبق أن ذكرنا قبل قليل طرفاً من هذه الضرورات والحكم التي جاء ذكرها على ألسنة العلماء والمفكرين ، والتي دفعتهم إلى أن يثنوا على نظام التعدد ، وينادوا بأحقيته وضرورته لتخليص المجتمعات البشرية من المشكلات الاجتماعية ، والمفاسد الخلقية.
وتوضيحاً للبحث نحصر الحكمة من نظام تعدد في الأمور التالية:
أ - الفائدة الاجتماعية
ب - المصلحة الشخصية
ت - الحكمة الخلقية
أما الفائدة الاجتماعية فتظهر في حالتين لايُنْكِر أحدٌ وقوعها:
1- عند زيادة النساء على الرجال ، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوربا ، فإن النساء حتى في غير اوقات الحروب تفوق الرجال بكثير ، وقد دلت الإحصائيات في (فنلندا) أنه من بين كل أربعة أطفال ألا ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً ، والباقون إناثاً ، ففي هذه الحالة يكون التعدد أمراً واجباً.
2- عند قلة الرجال عن النساء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة أو الكوارث العامة ، وقد دخلت أوربا حربين عالميتين خلال ربع قرن ، فهلك فيها ملايين الرجال ، وأصبحت جماهير غفيرة من النساء – مابين أبكار وما بين متزوجات – فقد فقدن عائلهن وأصبحن بلا زواج ، وسبق أن ذكرنا أن قامت بعض بلاد أوربا – ولاسيما ألمانيا- جمعيات نسائية واجتماعية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات ، أو بتعبير آخر أخف واقعاً في أسماع الغربيين وهو: (إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته).
وضرورات الحرب ونقصان الرجال فيها ، لاتدع مجالاً للمكابرة في أن الطريق الوحيد لتلافي الخسارة البالغة بالرجال هو السماح بتعدد الزوجات.
رد على اعتراض: ورب سائل يقول: في حالة زيادة الرجال على النساء لماذا لا يباح للمرأة تعدد الأزواج؟
أقول في الرد على هذا الاعتراض: إن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعةً وخِلقةً وواقعاً ،ذلك لأن المرأة في طبيعتها لاتحمل إلا في وقت واحد ، ومرة واحدة في السنة كلها ، أما الرجل فغير ذلك؛ فمن الممكن أن يكون للرجل أولاد متعددون من نساء متعددات ، ولكن المرأة لايمكن أن يكون لها مولود واحد من أكثر من رجل واحد ، وأيضاً تعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يضيع نسبة ولدها إلى شخص معين ، وليس الأمر كذلك بالنسبة غلى الرجل في تعدد زوجاته.
وشيء آخر وهو أن للرجل حق رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم ، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة ؟ أتخضع لهم جميعاً ؟ وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم ، أم تخص واحداً دون الآخر ؟ وهذا مايسخط الآخرين.
وهناك أمور تتعلق بنسبة الولد إلى أحد الأزواج ، وأمور تتعلق بالإتصال الجنسي ، لاتخفى على من كان عنده أدنى إدراك أو بصيرة : من إرهاق للمرأة وإضرار بها ، ومن وقوع في المشاكل العائلية ، والأمراض الجسمية والنفسية ... إلى غير ذلك من الأضرار البالغة ، والعواقب الوخيمة .
إذن فتعدد الأزواج بالنسبة للمرأة مستقبح عقلاً ، وحرام شرعاً ، ومستحيل طبيعة وواقعاً ، فلا يقول به إلا من كان إباحي النزعة ، مدنس السمعة ، فاسد الخلق ، عديم الغيرة ، ملوث الشرف.(/4)
أمَّا المصلحة الشخصية ، فإنها تعود إلى مصحلة الشخص بالذات ، وهي كثيرة نجتزئ منها بأهمها:
1- أن تكون الزوجة عقيمة لاتلد ، والزوج يحب انجاب الأولاد والذرية ، ومثل هذا ليس أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم ، أو أن يتزوج عليها ، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم للمرأة ، وأصلح لها ، والمرأة العاقلة تفضل التعدد على الطلاق ، لكون الطلاق ضياعاً وتشرداً.
2- أن يصاب الزوجة بمرض مزمن أو معدٍ أو منفر ، بحيث لايستطيع الزوج أن يعاضرها معاشرة الأزواج ، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يطلقها ، وإما أن يتزوج عليها ويبقيها في عصمته وتحت رعايته ، ولايشك أحد في أن الحالة الثانية أكرم وأنبل ، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء.
3- أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الاسفار ، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً ، ويتعذر عليه نقل زوجته وأولاده كلما سافر ، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالتين: إما أن يشبع ميلة الجنسي عن طريق غير مشروع وهذا هو الزنى(1) ، وإما أن يتزوج أخرى ، ولاشك أن الزواج بأخرى هو من مصلحة الدين والأخلاق والمجتمع.
4- أن يكون عند الرجل من القوة الجنسية ما لايكتفي معها بزوجته ، إما لشيخوختها ، أو لضعفها ، أو لكثرة الأيام التي لاتصلح فيها المعاشرة الجنسية – وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها – في هذه الحالة إما أن يكون إشباع غريزته بالمعاشرة المحرمة ، وإما أن يكون عن طريق الزواج المشروع ، ولاشك أن مبادئ الأخلاق ، وأحكام الشريعة تختار الزواج المشروع على المعاشرة المحرمة.
5- أن يكون عند الرجل الرغبة الأكيدة ، والعزم الصادق في إنجاب الأولاد ، وتكثير الذرية ، إما ليستعين بهم على أعباء الحياة ، وإما ليعدهم شباباً مؤمنين ، ودعاة صادقين ، يبلغون رسالات ربهم ، ويخشونه ولايخشون أحداً إلا الله ، وإما ليحظى بالأجر والمثوبة حين يحسن أدبهم وتربيتهم ، لكي تقرعين رسول الله صلى الله عليه وسلم في مباهته الأمم يوم القيامة بكثرة أمته (2)
(1) ومنه نكاح المتعه
(2) في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة).
أمَّا الحكمة الخلقية: فلأن الأمة التي يكون فيها عدد النساء أكثر من عدد الرجال يكون التعدد واجباً أخلاقياً ، وواجباً اجتماهياً على السواء ، لأن التعدد أفضل من تسكع النساء العازبات الزائدات عن الرجال في الطرقات أو أماكن الفجور ، لا عائل لهن ، ولا بيت يؤويهن . ولا يوجد إنسان يحترم كرامة المرأة ، ويقدر مصلحة المجتمع يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات. ومنذ أوائل هذا القرن تنبه المنصفون الغربيين إلى ماينشأ من منع تعدد الزوجات من تشرد النساء ، وانتشار الفحشاء ، وكثرة الأولاد غير الشرعيين ، وأعلنوا أنه لا علاح لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات. فقد نشرت جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) نقلاً عن جريدة (لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الانجليزيات مايلي : ( لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً ، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني ، وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لافائدة إلا العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ، ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء ، وهو الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لامحالة ، وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة).
(أي ظن يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كَلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع؟! فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ماهم فيه من العذاب والهون ، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن .. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل مرأة ربة بيت ، وأم أولاد شرعيين)(1)
وتدلنا الإحصائيات التي تنتشر في أوربا وأمريكا عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة مستمرة ، تقلق الباحثين الاجتماعيين وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة اقتصار الرجل على امرأة واحدة ، وكثرة النساء اللواتي لايجدن طريقاً مشروعاً للاتصال الجنسي ، وبناء على هذه الإحصائيات المؤلمة ، والأوضاع الاجتماعية المزرية ، أباحت ألمانيا أخيراً تعدد الزوجات(2) ، وتسوية للمشكلة . ولا يبعد أن تحذوا أوربا وأمريكا حذو ألمانيا في إباحة التعدد ، لأن تعدد الحلائل خير من تعدد الخلائل(3) ، والزواج المشروع خير من الاتصال المحرم ، والفاحشة الممقوتة ، ومن أحسن مِن الله حكماً لقوم يوقنون؟.
(1) مجلة المنار للسيد رشيد رضا المجلد الرابع ص485-486
(2) ذكرت الخبر مجلة صوت الإسلام العدد/90/ نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرية.
(3) على حد تعبير الشيخ محمد أبوزهره رحمة الله
تعدد الزوجات ...(/5)
مقارنة بين تعدادنا وتعدادهم
إن نظام التعدد في الشريعة الإسلامية أخلاقي إنساني:
أما أنه أخلاقي، فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأية امرأة إلا إذا كانت زوجته (1) بشرط ألا يتجاوز عدد الزوجات الأربع.
وأما إنه إنساني فلأنه يخفف من مشكلات المجتمع ، بإيواء امرأة لازوج لها ، ونقلها إلى مصاف الزوجات المصونات المحصنات ؛ ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبتهم ، ويقوم بحقهم ورعايتهم كما يجب؛ ولأنه يدفع مقابل هذا الزواج مهراً وأثاثاً ونفقات باعتبارها زوجه ولها حقوق.
أين هذا التعدد الواقع في حياة الغربيين؟ فإنه واقع من غير شرع ولا قانون ، بل واقع تحت سمع القانون وبصره. وإنه لايقع باسم الزوجات ، ولكن يقع باسم الصديقات والخليلات. وإنه ليس مقتصراً على أربع فحسب ، بل هو إلى مالا نهاية له من العدد. إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة ، ولكنه سر لايعرف به أحد.
إنه لايلزم صاحبه بأية مسئولية مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن ، بل حسبه أن يلوث شرفهن ، ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة ، وتحمَّل آلام الحمل والإجهاض والولادة غير المشروعة. إنه لايلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد ، بل يعتبرون غير شرعيين ، يحملون على جباههم خزي السفاح والعار ماعاشوا.
إنه تعدد خال من كل تصرف أخلاقي أو يقظة وجدانية أو شعور إنساني. إنه تعدد تبعث عليه الشهوة الأنانية ، ويفر من تحمل كل مسؤولية. فأي النظاميين ألصق بالأخلاق ، وأكبح للشهوة ، وأكرم للمرأة ، وأدل على الرقي ، وأبر بالإنسانية؟.
بعد هذا يحق لك أن تتعجب من إثارة الغربيين وأعداء الإسلام للضجة التي يحدثونها على نظام الإسلام في تعدد الزوجات !!!
وتتساءل أنت أيها العاقل المنصف: ألا يشعرون في قرارة نفوسهم بأنهم ليسوا على حق في إثاره الضجة ، وافتعال هذا الاتهام ؟! ألا يشعرون بأن من يقتصر على أربع خير ممن يجدد كل ليلة امرأة ؟.
وأن من يلتزم نحو من يتصل بها مسؤوليات أدبية ومالية ، أنبل ممن يتخلى نحوها عن كل مسؤولية ؟!. ألا يشعرون أن إنجاب نصف مليون ولد - مثلاً - عن طريق الزواج أكرم وأحسن للنظام الاجتماعي من انجابهم عن طريق السِّفاح.
في الحقيقة إنهم يشعرون بذلك لو تخلوا عن غرورهم وتعصبهم.
أما الغرور: فهو اعتقادهم أن كل ماهم عليه حسن وجميل ، وأن ماعلية غيرهم من الأمم والشعوب سئ وقبيح.
أما التعصب: فهو هذا الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل ضد الإسلام ، ونبي الإسلام ، والقرآن الكريم (2)
(1) أو أمته في حال وجود الرقيق وهو الآن غير موجود
(2) بحث المقارنه بين تعدادنا وتعدادهم اقتبست أكثر فقراته من كتاب (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور السباعي ص93-94 مع بعض التصرف ...
تعدد الزوجات ...
أحكام التعدُّد في الشريعة الإسْلامية
قبل أن نشرع في أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية يحسن بنا أن نبين وجه الارتباط بين قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ .. }(1) وقوله : {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }(1) .
ذكر المفسرون في ذلك عدّة آراء أظهرها رأيان:
الأول: ] وإن حفتم ألا تعدلوا في تزوجكم بيتامى النساء المشمولات بولايتكم فتزوجوا غيرهن مما طاب لكم من النساء إثنين إن شئتم ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، لأن العاقل يترك الذي يترك الزواج الذي يفضي به إلى الظلم إلى الزواج الذي لاظلم فيه[.
وهذا التفسير مروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ووجه الارتباط واضح عليه.
الثاني: ] وإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك خافوا ألا تعدلوا في النساء اللاتي تتزوجون بهن ، فتزوجوا منهن ما لا تخافون فيه الظلم: اثنين ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، فإن خفتم ألا تعدلوا بين الأكثر من واحدة فتزوجوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم . لأن من تحرج من عمل ما يُفضي إلى الظلم كظلم اليتامى عليه أن يتحرج من أن يتحرج من كل عمل يُفضي إلى ظلم كظلم الزوجات [.
هذا التفسير مروي عن سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة .. ورجحة شيخ المفسرين ابن جرير الطبري وقال ( إنه أولى الأقوال بالقبول).
فالآية – على حسب ما رجحة الإمام الطبري – تحذر الأولياء والأوصياء من سلوك الطريق المفضلة بهم إلى ظلم الزوجات الذي لايقل قبحاً وشناعة عن ظلم اليتامى الذي يخافونه ويتحرون منه.
كما أنهم يتحرون من ظلم اليتامى فعليهم أيضاً أن يتحروا من ظلم الزوجات حين يريدون التعدد ، فإن خافوا ألا يعدلوا فعندئذ يقتصرون على واحدة.
وبعد أن بيّنا وجه الارتباط في الآية نشرع في تبيان أحكام التعدد والله المستعان:
1- الأمر بقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ}(1) للإباحة لا للإيجاب ، وإذا كان للإباحة فالمسلم مخير بين أن يقتصر على زوجة واحدة أو يعدد ، وعلى ذلك إجماع المجتهدين والفقهاء في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً(/6)
2- لايجوز الجمع بين أكثر من أربع زوجات في وقت واحد لقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } ، على ذلك إجماع الصحابة والأئمة المجتهدين في جميع العصور ، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع ، فخلافهم ناشئ من جهلهم ببلاغة القرآن الكريم ، وأساليب البيان العربي ، ومن جهلهم بالسنة النبوية كما قال القرطبي.
وإلا فمن يقول: إن هذه الكلمات {مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} في الآية جاءت لمطلق الجمع ، فيصبح مجموع الزوجات تسع؟ ومن يقول أيضاً: إن هذه الكلمات جاءت لجمع اثنين مع اثنين ، ثلاثاً مع ثلاث ، وأربعاً مع أربع ، فيصبح المجموع العام ثماني عشرة زوجة؟ إن هذه التقوّلات الباطلة تتنافى مع أبسط الأذواق في الفهم العربي ، وتتعارض مع فصاحة القرآن الكريم وأسلوبه البياني المعجز ..
فحين نقول: حضر أعضاء المؤتمر مثنى وثلاث ورباع ..فهم العربي صاحب الذوق السليم من هذا التعبير أن بعض أعضاء المؤتمر حضروا اثنين اثنين وبعضهم حضر ثلاثة ثلاثة ، وبعضهم حضروا أربعة أربعة ولايمكن أن يفهم أحد أن جمهلة من حضر تسعة أو ثمانية عشر ...
وكذلك حين قال الله عز وجل {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } فيفهم من هذه الآية كما دلّ عليها ظاهر لفظها ، وأسلوب بيانها: يباح لكم – يامسلمين – أن تنكحوا من النساء زوجتين إن شئتم ، أو ثلاث زوجات إن أردتم إلى أربع زوجات ، وهذا هو الحد الأعظم؛ فلا يجوز لكم أن تزيدوا على الأربع بحال من الأحوال. والسنة النبوية الصحيحة قد أكدت من أن المراد من الجمع في الآية أربع زوجات.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3 ...
وإليكم ماذكرته السنة الصحيحة:
أ- أخرج مالك في الموطأ ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه والترمذي في سننهما ، والشافعي في الأم أن غيلان الثقفي أسلم وفي عصمته عشر نسوة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً وفارق سائرهن).
ب- وروى ابن ماجه وأبوداود في سننهما أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثماني نسوة ، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً).
جـ- وقد روت كتب السنة غير هذين الحديثين ، فقد رُوي أن نوفل بن معاوية الديلمي قال: أسلمتُ وتحتي خمس نسوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فارق واحدة منهن) قال: فعمدتُ إلى عجوز عاقر معي منذ سنتين فطلّقُتها.
فهذه الأحاديث متفقة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم وفي عصمته أكثر من أربع زوجات أن يتخيّر منهن أربعاً ، ويفارق سائرهن.
ويفهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا أن السنة جاءت متضافرة ومؤكّدة لما صّرح به القرآن الكريم ألا وهو: لايجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة في آن واحد ، فأصبح للمنع دليلان: دليل القرآن ، ودليل السنة ، عدا من دليل الإجماع الذي هو حجة تشريعية بعد القرآن والسنة . فبأي حديث بعد ذها يؤمنون؟!.
وأما ماصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع بين تسع نسوة في آن واحد ..
فأولاً: كان هذا الجمع –كما سيأتي- خصوصية من خصوصياته ، وثانيا كان لأسباب تشريعية وإنسانية ، وأغراض سياسية واجتماعية .. وسوف يأتي الحديث عنها ، والتفصيل فيها في بحث الحكمة من تعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في القسم الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله.
3- إن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ}(1) ، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل لم يجز له شرعاً أن يتزوج بأكثر من واحدة ، ولو تزوج كان العقد صحيحاً بالإجماع ، ولكنه يكون آثماً ؛ لما روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل).
وروى مسلم وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا)(2)
وقد أجمع العلماء – وأيده تفسير الرسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله – أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشرب والمبيت ، وكل مايتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه تحقيق العدل ، ومما يدخل في طوق الإنسان وإرادته.(/7)
4- إن العدل في الحب بين الزوجات غير مستطاع ، وليس في طوق البشر لقوله تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً}(3) ؛ فتفيد هذه الآية الكريمة أن على الزوج ألا يميل عن الزوجة الأولى كل الميل ، فيذرها كالمعلقة لا هي زوجة يؤديها حقوقها ، ولا مطلقة تعرف سبيلها ، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع عسى أن يصلح قلبها ، ويكسب مودتها؛ وقد فهم النبي صلى الله عيه وسلم أن المراد من آية: {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ .. } الحب القلبي لأن الإنسان لايستطيع أن يعدل فيه ولو حرص ، ولكنه خارجاً عن طاقة البشر ، فقد كان حبه للسيد عائشة – رضي الله عنها – أكثر من حبه لباقي زوجاته ، فكان صلى الله عليه وسلم حين يعدل بين زوجاته بالأمور المادية يقول: (اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك)(4) (ملاحظة: هذا الحديث ضعيف)(5)
هذا التفسير لآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ} وعليه إجماع المفسرين قديماً وحديثاً ، وعليه إجماع الفقهاء والمجتهدين في كل العصور ولو أخذنا بآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ.. } على ظاهرها لكان بينها وبين آية {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } تناقض ، والقرآن الكريم منزة عن الخلل والتناقض ، بل هو غاية في الإبداع والإحكام ورصانة النظم ، وسمو التشريع ، لقوله تبارك وتعالى {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(6) ، {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(7) ؛ ويتلخص مما تقدم: أن المقصود بالعدل في الآية هو الحب القلبي ، وهذا ما عليه تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية ، وما عليه إجماع الأئمة كما بيّنا سابقاً.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
- من العلماء الموثوقين وعلى رأسهم الإمام الشافعي – رحمة الله – من اشترط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد ، وهذا الاشتراط للإمام الشافعي مبني على فهم خاص للآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ... ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ} ، وهذا الفهم تؤيده قواعد اللغه كما سيأتي. قال الإمام البيهقي في كتابه (أحكام القرآن) الذي جمعه من كلام الشافعي –رحمه الله- في مصنفاته: (وقوله: {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لايكثر من تعولون إذا اقتصر المرء على واحدة وإن أباح له أكثر منها) ا هـ صحيفة 260 . وقد أيد الكسائي وأبو عمر الدُّوري وابن الأعرابي ماذهب إليه الشافعي في تفسير قوله تعالى {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لاتكثر عيالكم ، قال الكسائي – أبوالحسن علي ابن حمزة - : العرب تقول: عال يعول، وأعال يُعيل أي كثر عياله(8) . ومما يؤيد مايذهب إليه الشافعي لغة حمير ، قال الثعلبي المفسّر: قال أستاذنا أبوالقاسم بن حبيب: سألتُ أبا عمر الدُّوري عن هذا –وكان إماماً في اللغة غير مدافع- فقال: هي لغة حمير ، وأنشد:
إن الموت يأخذ كل حيّ بلاشك وإن أمشي وعَالا
يعني وإن كثرت ماشيته وعياله(8)
وقال أبو حاتم: (كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا) ، وقرأ طلحة بن مصِّرف (ألّا تُعِيلوا) والمعنى ألا تكثر عيالكم وهي حجة الشافعي. وهذا الفهم للإمام الشافعي ومن ذهب مذهبه يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد إلا أنه شرط ديانة(9) لا شْرط قضاء.
* * *
وبعد: فهذه هي أهم الأحكام التي شرعها الله في نظام التعدد ، وهي متفقة كل الاتفاق مع الواقع الاجتماعي والحالة المادية ، فالذي يأنس من نفسه أنه لايستطيع أن يعدل إن تزوج بأكثر من واحدة ، أو لم يكن عنده النفقة مايسد حاجة الزوجتين أو الثلاث : من مسكن ، وطعام ، وكسوة ؛ فلا يجوز له شرعاً أن يعدد ؛ حتى لايقع في الظلم الذي حرمه الإسلام ، وبالتالي لاتقع الزوجة الثانية بالمضارَّة التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لاضرر ولاضرار)(10) ، فهو حديث ، وقاعدة أصولية كما هو معلوم.(/8)
هذا وإن التعدد – حين لايتحقق فيه جانب العدل – يوقع الزوج في مشاكل عائلية ، تؤدي في الغالب إلى تنافر بغيض ، وعداوَة مستحكمة ؛ مما يجعل حياة الزوج جحيماً لايطاق ، وربما انتقل هذا التنافر والعداء إلى أولاد الزوجات ، فينشأ الإخوة بينهم من البغضاء والشحناء ما يؤول إلى الفرقة والهجران ، وعدم استقرار الحياة الزوجية.
وفي تقديري أن المشاكل العائلية ناتجة عن سبيين رئيسيين:
الأول: ناتج عن الرجل لكونه لم يتحقق جانب العدل المادي في جميع المجالات: العدل في النفقة ، العدل في المعاملة ، العدل في القسمة ، العدل في الحقوق.
الثاني: ناتج عن المرأة لكونها تنظر إلى الحياة بمنظار الأنانية وعدم تفهم الواقع ، ومصلحة المجتمع ، بل تنساق وراء عواطفها وأهوائها انسياقاً أعمى دون تحكيم لعقل ، أو نظر إلى مصلحة.
وإذا قامت الحياة الزوجية على أساس من التربية الإسلامية ، والتهذيب الاجتماعي ، والرقابة الإلهية ، عاش المجتمع في ظلال الزوجية على أحسن مايكون من السعادة الحقة ، والاستقرار الكامل ، والعيش الهانيء الرغيد. ومثل هذه التربية تجعل التعدد – حين تقتضية الظروف – قليل المساوئ والأضرار ، حسن النتائج والآثار ، فلا زوجات تحركها العواطف والأهواء ، ولا أولاد تفرقهم العداوات والخصومات ، بل بيت إسلامي تعمره الفضيلة والأخلاق ، ويملؤه الحب والإخلاص ، ويشيع في رحابه الهناءة والاستقرار.
فما أحوجنا أن نعود إلى الدين الحق ، والإسلام الصحيح ، والتبرية الإسلامية المثلى ، وما أحوجنا أن نقوي في نفوسنا جانب التقوى والمراقبة والخشية من الله ، حتى تكون أعمالنا ومعاملاتنا على الوجه الذي يرضي الله ، ويحقق الخير لعباده.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
(8) ذكره القرطبي في تفسيره ج/5/ص22.
(9) والمعنى أنه إن كان يعلم أنه لايستطيع الإنفاق على الزوجة الثانية فلا يجوز له ديانة أن يعدد.
(10) رواه ابن ماجه والدارقطني
محَاولات لِمنع التّعدُّد
من المؤسف حقاً أن نسمع من بعض المسؤولين في الدول التي تنتمي إلى الإسلام ، ومن بعض من ينتمي إلى جمعيات نسائية من النساء الدعوة إلى إلغاء تعدد الزوجات ، أو تقييده بقيود شديدة ،تجعل الزواج بأكثر من واحدة ضرباً من المستحيل ، لقد كان لهذه الدعوه صدى سيء بالغ الأثر على الأوساط الإسلامية ، أما في الأوساط التبشيرية والاستعمارية فكان لها صدى مستحب ، وتأييد مطلق ، حيث نُعتت هذه المحاولات بأنها خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة.
هذا الذي يريد المسؤولون أن يفعلوه في بعض الدول ، وتحاول أن تنتهج منهج بعض الدول العربية ، وتسعى لتحقيقه بعض الجمعيات النسائية في بلادنا ، ليس إلا مجرد استرضاء للغربيين ، أو للدول التي تنادي بدعوة التقدمية ، إثباتاً لانسلاخهم من الإسلام ، وتحررهم من ربقة الدين والأخلاق ، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية ، واحتقار الذات ، والترامي على اقدام المتعصبين الغربيين ، الماديين الشرقيين ، لاستجلاب عطفهم ، واسترضاء مبشريهم وملاحدتهم على حساب كرامتنا وديننا ومبادئ شريعتنا.
ياليت عند هؤلاء المفترين المتأثرين بالدعايات الغربية ، والأفكار الإلحادية ، العقل الناضج ، والتفكير الصحيح ، ليناقشوا القضايا على ضوء الواقع والمصلحة ، والظروف الاجتماعية !!. وياليتهم حين يتكلمون يتجردون عن الهوى والعاطفة والتعصب! ... لو فعلوا هذا لما قبلوا الحقائق ، ولما وقفوا من نظام التعدد هذا الموقف الملتوى ، ولما أعلنوا تطاولهم على شريعة الله ، ونظام الإسلام.
ألم يسمعوا أن كثيراً من المفكريين ، والمصلحين الاجتماعيين في اوربا وفي كثير من بلاد العالم ، ينادون بنظام التعدد ، وأنه العلاج الناجح لحل مشكلة الأخلاق ، وحل أزمة ازدياد عدد النساء؟
ألم يعلموا أن الله سبحانه حين يشرع لعباده الأنظمة ، ويقرّ لهم المبادئ؛ هو الأعلم بما يصلحهم ، والأدرى بما يحقق سعادتهم واستقرارهم؟.
ألم يقرأوا في الصحف والمجلات عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين ، للعلاقة الجنسية المحرمة بين الرجال والنساء؟
ألم يدركوا أن نظام التعدد يخلّص الكثير من النساء من ذل الحاجة ، وغائلة الفقر ، ويحفظ لهن كرامتهن وعفافهن ؟ فبأي حديث بعد هذا يؤمنون ؟!.
-----------------
الحِكمة من تعدُّدِ أزواج النّبّي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد
انتشار التعليم
كسب التأييد
اكتمال التشريع
تحقيق التكافل
توثيق روابط الصحبة
إعطاء القدوة
السؤال الأول : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة مع فارق السن؟
السؤال الثاني : نبذة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد:(/9)
يتخذ أعداء الإسلام من جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد ، منفذاً للطعن ، ووسيلة للاتهام ، وحين يبحثون عن الأسباب فلا يجدون تعليلاً لهذا الجمع سوى الشهوة الجنسية والثورة الغريزية ، دون أن يحيطوا بالظروف التي صحبت هذا الزواج ، ودون أن يبحثوا عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الجمع.
وأراهم حين يسددون هذه المطاعن ، ويثيرون تلك الشبهات منساقين كل الإنسياق وراء التعصب الأعمى ، والحقد الأسود على الإسلام ورسول الإسلام ، بل عداوتهم لهذا الدين قديمة متأصلة توارثوها عن الحروب الصليبية جيلاً بعد جيل ، فترسخت حتى خالطت اللحم والعظم ، وتأصلت حتى انطبعت في سويداء القلوب ، وماذا تنتظر من اللئيم غير الخبث واللؤم ، ومن الحقود غير العقد والظلم ؟.
ومع كل هذا لابد أن يوجد من غير المسلمين عقلاء منصفون تجردوا من مؤثرات العصبية والهوى ، فتكلموا بلسان المنطق والحق ، وكشفوا عن وجه الحقيقة في تعداد أزواجه عليه الصلاة والسلام . ومن هؤلاء (توماس كارليل) الذي يقول في هذا المقام : ( ماكان محمد أخا شهوات ، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً ، وشدَّ مانجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً ، لا همّ له إلا مآربه من الملاذ . كلا! فما أبعد ماكان بينه وبين الملاذ أياً كانت ..(1)
بعد هذه التقدمة سأشرع بعون الله في بيان الحكمة من تعداد أزواجه صلى الله عليه وسلم مفصلاً الأسباب التي دعت إلى التعدد ، ومبيناً الظروف التي أحاطت بهذا الجمع ، ليعلم القارئ الكريم لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة في آن واحد ؟.
ولكن قبل أن أسرد الحكمة من هذا الزواج أريد أن يضع في ذهن القارئ حقيقتين هامتين :
الحقيقة الأولى : أن الجمع بين عدة زوجات كان شائعاً في البيئة الإنسانية والعربية قبل الإسلام . ومما يدل على هذا أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، وأن الحارث ابن قيس حين أسلم كان عنده ثمان نسوة ، وسبق أن ذكرنا في مبحث (أحكام التعدد) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهما أي يختارا منهن أربعاً ويفارقن سائرهن.
ولقد كان كثير من العرب يعددون ولا يرون في ذلك حرجاً ولا غضاضة ، فلما رأى أعداء الإسلام النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ولم يروا العصر كله ، ولماذا خصوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالذكر ، ولم ينظروا إلى التعدد الذي رافق أبياء التوراة عبر التاريخ؟.
يقول الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – في كتابه (2): ( حين كنت في دبلن (ايرندا) عام /1956 / زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيها ، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها ، وكان مما قلته له: لماذا تحملون على الإسلام ونبيه بخاصة في كتبكم المدرسة بما لا يصلح أن يقال في مثل هذا العصر ، الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات؟!
فأجابني : نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء ! ..
قلت له: هل تحترمون نبي الله داود ، ونبيه سليمان ؟.
قال : نعم! وهما عندنا من أنبياء التوراة !
قلت : إن النبي داود كانت له مائة زوجة كما هو معلوم ، ونبي الله سليمان كانت له – كما جاء في التوراة - سبعمائة زوجة من الحرائر ، وثلاثمائة من الجواري ، وكن أجمل أهل زمانهن ، فَلِمَ يستحق احترامكم من تزوج ألف امرأة ، ولا يستحق من يتزوج تسعاً ؟ ثمانية منهن ثيبات وبعضهن عجائز ، والتاسعه هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوّجها طيلة عمره .
فسكت قليلاً وقال: لقد أخطأت التعبير ، أنا أقصد أننا نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة ، ويبدو لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار ، أو عارم الشهوة !.
قلت: فما تقولون في داود وسليمان – عليهما السلام – وبقية أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا جميعاً معددين الزوجات بدءاً من جدهم إبراهيم عليهم السلام.
فسكت ولم يُحِرْ جواباً ..)(3) .
ورب سائل يقول: لماذا جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة ، بينما كان التشريع الذي شرعه الله للأمة مقيداً بأربع زوجات.
الجواب: إن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد كان خصوصية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهذه خصوصية خاصة به لايجوز لأحد من الأمة أن يقتدي بالإضافخ إلى خصوصياته الكثيرة التي عددتها كتب السنة ، وتكلم عنها الفقهاء والمفسرون .
نذكر منها على سبيل المثال وصاله عليه الصلاة والسلام الصوم (معنى الوصال: وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما. ) ، ولما واصل الصحابة نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال(4) ، ثم قال لهم : ( إني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني(5) .. )(/10)
ومن خصوصياته أنه لا يحل له أن يتزوج على نسائه التسع أو يطلق واحدة منهن ، مكافأة لهن على اختيارهن مرضاة الله ورسوله ، وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا وزينتها ، ودليل هذا التحريم قوله تعالى {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ ..} (6)
ومن خصوصياته : أنه لا يحل لأحد من المسلمين أن يتزوج بعد وفاته صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، قال تعالى { .. وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً .. }(7) .
إلى غير ذلك من هذه الخصوصيات التي ذكرها العلماء ، وعددها المجتهدون . وإذا كان من وراء كل خصوصية حكمة وقصة ، فعمّا قريب سيجد القارئ الحكمة من تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، وقصته ، عليه السلام مع كل زوجة تزوجها .
الحقيقة الثانية : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من واحدة كان في المدينة وفي سن الكهولة. فمن المعلوم تاريخياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بعد وفاة السيدة خديجة – رضي الله عنها – إلا سوداء بنت زمعه وإلى أن هاجر إلى المدينة ولم يعدّد إلا بعد أن ولِدت الدولة الإسلامية ، وقامت على أرجلها قوية متينة ، وكان لهذا التعدد أغراض إصلاحية وتشريعية سنذكرها في حينها .
ومن الثابت تاريخياً كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بالسيدة خديجة وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ، وكانت هي ثيباً(8) بنت اربعين سنة ، فعاشت معه خمس عشرة سنة قبل البعثة ، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين ، وكان عمرها يومئذ خمساً وستين سنة.
فهل من المعقول أن نحكم على إنسان أنه شهواني وقد قضى زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته بزواجه من امرأة تزيد على عمره خمسة عشراً عاماً ؟ إذن لماذا يسدد أعداء الإسلام سهام طعنهم لرسول الإسلام وهم يعلمون الحقيقة بأجلى معانيها .
إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ليشفوا حقدهم القديم ، وعداوتهم اللئيمة !! فإذا عدَّد بعد أن جاوز الخمسين ، درج في سن الكهولة لحكم اجتماعيه ، وأغراض تشريعية ، أيكون قد أتي بشئ عظيم ؟.
ثمّ مَن اللواتي تزوجهن ، ألسْنَ أيامى وثيبات(9) ؟ ألسْنَ عجائز وفقيرات ؟ إذا كان الأمر كذلك ؛ فلم هذه الإثارة والضجة ؟ وَلِمَ هذا الطعن والاتهام ؟ اما يدل هذا على التعصب الأعمى ، والحقد الدفين ؟.
فياليتهم ينكلمون حين يتهمون بلسان الحث والمنطق !.
وياليتهم حين يتقولّون يزنون الأمور بميزان العقل السليم والمنهج العلمي الصحيح !.
بعد ذكر هاتين الحقيقتين أشرع في بيان الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي سرد الملابسات التي اقضت الجمع بين تسع نسوة في آن واحد ، وأرى أن الحكمة من هذا التعدد ، والملابسة لهذا الجمع ترتكز على الأمور التالية:
1- انتشار التعليم.
2- كسب التأييد.
3- اكتمال التشريع.
4- تحقيق التكافل.
5- توثيق روابط الصحبة.
6- إعطاء القدرة.
---------------------------------------------------------
(1) كتاب الأبطال ص83
(2) المرأة بين الفقه والقانون ص96
(3) عن كتاب المرأة بين الفقه والقانون بتصرف يسير
(4) معنى الوصال : وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما.
(5) أي يعينني ويقويني ، والحديث رواه البخاري ومسلم.
(6) جزء من الآية (52) سورة الأحزاب
(7) جزء من الآية (53) من سورة الأحزاب
(8) والثيب هي التي تزوجت من قبل ، ومن المعروف أن خديجة تزوجت مرتين قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم
(9) من الثابت تاريخياً أن جميع النسوة اللاتي تزوجهن الرسول صلى الله عليه وسلم كن متزوجات من قبل ؛ عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فإنها كانت بكراً.
أما انتشار التعليم: فيكفي أن نعلم أنّ نصف المجتمع نساء وأنهن بحاجة إلى الثقافة والتعليم كالرجال سواء بسواء ، وإن واحدة أو اثنتين أو ثلاثة لايمكن أن يقمن بدورهن في إرشاد النساء ، وتعليم البنات في المجتمع الإسلامي الجديد ؛ إذن فالأمر يتطلب أن يقوم بعض نسوة في آداء رسالتهن كمرشدات ومعلمات ، حتى يتعلم النساء كل ما ينفعنت في امور دينهن ، ولا سيما في الأمور التي يستحيين أن يسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحكام الزوجية ، ومسائل الحيض والنفاس ، وقضايا الحنابة والطهارة وغيرها.
ومن الشواهد على هذا: ماروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها : أن مرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسلها من المحيض ، فأمرها أن تغتسل ثم قال ( خذي فرصة (10) فتطهري بها ) قالت: كيف أتطهر بها ؟ قال: (تطهري بها ) ، قالت : كيف ؟ قال: ( سبحان الله تطهري ) قالت عائشة : فا جذبتُها إليّ ، فقلت : ( تتبعي بها أثر الدم ).(/11)
فالرسول صلى الله عليه وسلم استحيى بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيّبة بالمسك في المكان الذي كان يخرج منه الدم إتماماً لطهارة ، فأخذتها عائشة وأفهمتها المراد .
وفي صحيح مسلم أن المرأة من الأنصار اسمها أسماء ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ، فقال : ( تأخذ إحدكنّ ماءها وسِدْرَها(11) فتطَّهر فتحسن المطهر ، فتصب على رأسها ، فتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطَّهَّر بها) قالت اسماء : وكيف اتطهر بها ؟ قال : ( سبحان الله تطهري بها ! ) سبح الله تعجباً من عدم فهمها حتى كفته زوجه عائشة ذلك .
والشواهد على ذلك كثيرة ، وليس أمر التعليم منوطاً في امور الحيض والطهارة فقط كما يفهم البعض وإنما كان يشمعل كل مايرفع من مستوى المرأة من ناحية العبادة والمعاملة والأخلاق ، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم خير مبلغ عن رسول الله في حياته ، وخير مرجع في الاستفتاء ورواية الحديث بعد وفاته.
ومن ذا الذي يقول إن زوجاً واحدة كانت تقوم بهذا العبء والواجب وحدها ؟ ومَنْ ذا الذي ينكر هذه الحقيقة بعد أن ظهر الحق ، وبان الدليل ؟.
--------------------------------
(10) الفرصة : قطعة أو صوفة أو خرقة مطيبة بالمسك .
(11) السدر : شجر النبق ، كان يستعمل في الغسل لأنه نبات منظف كالصابون .
أما كسب التأييد: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفع الدعوة الإسلامية بزواجه من قبائل قريش ، باعتبار أن قريشاً سيدة العرب ، وإذا أسلمت قريش أسلمت العرب ، وفعلاً قد وجد من هذه القبائل التي صاهرها العطف الكامل ، والتأييد المطلق ، بل أصبحوا يدخلون في الإسلام تباعاً ، ويعتنقون الدين الجديد طواعية واختياراً ، وكان لهذا التعدد للزوجات دون في تشجيع الناس على الدخول في الإسلام وكان له دور في كسب النبي صلى الله عليه وسلم هذا العطف والتأييد.
فهذه جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : لما أُسِرَت مع قومها في غزوة بني المصطلق ، استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أذن لها قالت: يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس ، فكاتبته (12) على نفسي ، فجئتك أستعينك على أمري : فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فهل لك في خير من ذلك ؟ ) قالت: وما هو يا رسول الله ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ) فقالت في فرحمة غامرة : نعم يارسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد فعلت )(13) .
فما هي نتائج هذا الزواج ؟ أقبل الناس وبأيديهم أسرى قومها ، فأرسلوهم أحراراً وهم يقولون : ( أصهار رسول الله ) ! فما كانت إمرأة أعظم على قومها بركة منها ، فأعتق المسلمون بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأسرى السبايا ، ودخل الجميع في الإسلام وهم راضون وراغبون ، وكان لهذا الزواج من جويرية أفضل الآثار ، وأحسن النتائج .
وروت كتب السيرة أن أباها جاء النبي صلى الله عليه وسلن فقال : يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فإن ابنتي لا يسبى مثلها !! ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يخيرها ، فسرَّ أبوها بذلك ، فخيّرها ، فاختارت الله ورسوله ، وكانت من أعبد امهات المؤمنين.
وذكر ابن هشام في السيرة أن والدها سمع حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما جاء فيه من فداء ابنته ، فصاح بصوت جهير : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ) وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم.
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموى رضي الله عنها ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكان تزوجه بها تأليفاً لأبي سفيان سيد قريش وزعيم مكة ، وترغيباً له في الدخول بالإسلام ، ومن ناحية أخرى كان هذا الزواج جبراً لخاطرها ، وجمعاً لشملها ، وإنهاءً لوحشة الهجرة وسوء تصرف زوجها ؛ ولزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها قصة ،تتلخص في أن أم حبيبة أسلمت مع زوجها (عبيد الله بن جحش الأسدي ) بمكة ، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسة ، ولما عادت إلى المدينة بني بها وتزوجها ، ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال : ( هو الفحل لايقدع أنفه ) ويقصد أنه الكفء الذي لايماثلة أحد ، وكانت هذه المصاهرة فيما بعد من العوامل الأساسية التي دفعت أبا سفيان إلى الدخول في الإسلام في العام التالي عام الفتح .(/12)
وهذه صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكانت من يهود بني النضير ، وأُسرت بعد قتل زوجها في غزوة خيبر ، فأخذها دحية بن خليفة الكلبي في سهمه ، فقال أهل الرأي من الصحابة : يارسول الله إنها سيدة قومها لا تصلح إلا لك ، فاستحسن رأيهم أسباب منها : إباؤهه عليه الصلاة والسلام أن تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها في المكانة ، وتشجيعه الناس على إعتاق الرقيق ، أما بيت القصيد من هذا الزواج فهو رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريض اليهود على اعتناق الإسلام ، أو على الأقل تخفيفهم من عداوتهم للإسلام ، ومكرهم بالمسلمين وروى الإمام في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم خير صفية بين أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها ، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته.
فإذا أضفنا إلى هذا الزواج زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر وهي من بني عدي ، وزواجه بزينب بنت جحش وهي من بني أسد ، وزوجه من أم سلمة وهي من بني مخزوم ، وزواجه من ميمونة بنت الحارث وهي من بني هلال ، وزواجه من سودة بنت زمعة وهي من بني عامر بن لؤي . إذا اضفنا كل هذا إلى باقي الزوجات اللاتي تحدثنا عنهن قبل قليل ؛ يتبين لنا بشكل قاطع لايتحمل الشك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسنوة يستهدف في الدرجة الأولى مصاهرة هذه القبائل ، ليكسب تأييدها في المهمة التي كلف بها ، وبعث من أجلها ، ألا وهي رسالة الإسلام . ثم بالتالي كان يطمع بهدايتهم واعتناقهم هذا الدين الجديد ، ولو اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجة واحدة لما كان هذا التأليف ، ولما حظي بهذا التأييد .
------------------------------------
(12) الكتابة اشتراء الرقيق نفسه من سيدة بمال يؤديه أقساطاً.
(13) كان زواجه عليه السلام منها سنة خمس من الهجرة
أما اكتمال التشريع فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بعدة نسوة في وقت واحد لأغراض تشريعية ، نذكر منها ما يلي :
أ - إبطال عادة التبني التي كانت متبعة في الجاهلية : كان من عادات العرب الشائعة في الجاهلية أنهم يتخذون لأنفسهم أبناء أدعياء يلصقونهم بأنسابهم ، ويعطونهم جميع حقوق الأبناء حتى في المواريث ، ومحرمات النكاح ، ولما أراد الله أن يبطل عادة التبني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زينب بنت جحش الأسدية لزيد بن حارثة مولاه ومتبناه (14) ، والله سبحانه يعلم أنهما لايتفقان على بقاء هذه الزوجية ؛ بسبب التفاوت في المكانة ، والاختلاف في النسب ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب وقال لها : ( إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة ، فإني قد رضيته لك ) ، قالت يارسول الله : لكني لا أرضاه لنفسي ، وأنا أيّم قومي ، وبنت عمتك فلم أكن لأفعل ، فنزلت الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً}(15) ، فقالت زينب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية : قد أطعتُك فاصنع ما شئت ، فزوجها زيداً ودخل عليها ، فكانت بعد الزواج تغلظ له القول ، وتتعاظم عليه بالضرف والمنزلة ، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً منها ، ويستأذنه في طلاقها ، فيقول له صلى الله عليه وسلم : ( أمسِك عليك زوجك واتّقِ الله ) وهو يعلم أنه لابد له من طلاقها ، وأن الله سيأمره بالتزوج بها إبطالاً لبدعة التبنّي ، وتجويزاً لنكاح أولاد الأدعياء.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر هذا لزيد ، ولا لغيره من الناس خشية أن يقولوا : إن محمداً تزوج امرأة ابنه المتبنّى ، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله : {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ ..}(16) .
فلما طلقها زيد بمحض اختياره وإرادته ، زوَّجه الله إياها بدون عقد ، وفي هذا نزل قوله تعالى : {.. فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا .. } (17) .
ثم عللت الآية هذا الزواج فقالت : {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ}.
وبعد نزول هذه الآيات التشريعية بطلت عادة التبنّي ، وحلّ الزواج بزوجات الأدعياء.
ويتلخص مما تقدم : أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب الأسدية كان لغرض تشريعي ، وغاية اجتماعية ألا وهي إبطال عادة التبنّي.(/13)
ب - المساهمة الكبرى في رواية السنة : إن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وإن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قد ساهمن مساهمة فعالة في رواية كل قول سمعنه ، وفي نقل كل فعل رأينه من النبي صلى الله عليه وسلمه ، فوصل بذلك كثير من السنة إلى الأمة الإسلامية ، عن طريق الرواية من نساء مقطوع بصدقهن ، ومجمع على أمانتهن وعدالتهن ، ويكفيهن فخراً وشرفاً أن سماهن القرآن أمهات المؤمنين وخطابهن بقوله : { يا نساء النبي ... } إلى غير ذلك من هذه الألقاب والصفات .
ولقد ذكر الرواة أن عدد الأحاديث التي رواها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم عنه جاوزت ثلاثة آلاف حديث ، وأن صاحبة السهم الأكبر في رواية الحديث السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد روت عنه 2210 حديثاً ، ويليها أم سلمة رضي الله عنها التي روت 378 حديثاً ، وباقي الزوجات كن تتراوح أحاديثهن بين 11 إلى 65 حديثاً ، وهذا التفاوت في رواية الحديث يرجع بسببه إما إلى الذكاء ، أو مدة الحياة الزوجية ، أو امتداد العمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمعت هذه الأسباب للسيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد كانت ذكية ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم بها في أول الهجرة ، وعاشت بعدة حتى سنة 58 هـ
أما السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها فكانت آخر نسائة زواجاً ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة ، فروايتها للحديث كانت اقل من باقي الزوجات لقصر الإقامة ، وقس على ذلك صفية وزينب الأسدية رضي الله عنهما .
ويتلخص مما تقدم عن حكم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مساهمتهن الفعالة في رواية الحديث لاكتمال التشريع ،، والحفاظ على السنة النبوية .
سنة مبدأ العدل والأخلاص السمحة : باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة ، أقواله وأفعالة تشريع ، وجب على كل من يرغب بالزواج ، أو يجد في نفسة حاجة ملحة إلى التعدد ، أن يكون على اطَّلاع تام بكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في ملاطفة الأهل ، والعناية بالزوجات ، وإحقاق الحق لهن ، وتطبيق مبدأ العدل والمساواة بينهن ؛ حتى لا يحيف مسلم ، ولا يتطاول متزوج؛ وسبق أن ذكرنا في بحث (أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية ) طائفة من الأحكام القرآنية ، فارجع إلى البحث تجد مافيه الكفاية.
أما فعلة عليه الصلاة والسلام في سنة مبدأ العدل بين زوجاته ، وإعطائه المثل الكامل في الأخلاق الرضية والملاطفة؛ فإن رواة الحديث مؤرخي السيرة قد أفاضوا في معاشرته أزواجه بالمعروف ، والقسمة بينهن بالعدل ، في كل من المبيت والنفقة واللطف والتكريم . وحين يأتي الكلام عن حكمة إعطاء القدوة في تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، سنفصل القول في ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحسن معاشرته لهن ، وعندئذ يتضح للقارئ الكريم السر من هذا التعداد ، والحكمة من هذا الجمع .
------------------------------------------
(14) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبني زيد بن حارثة لاختياره البقاء في جواره على أبيه وأهله ، فما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أعتقه ، وأخرجه إلى الحجر فقال : (اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه ) فكان يدعي بعد هذا التبني بزيد بن محمد ، حتى جاء الله بالاسلام ، وابطل هذه العادة .
(15) الآية (36) من سورة الأحزاب
(16) (17) جزء من الآية (37) سورة الأحزاب
أما تحقيق التكافل : فمن المعلوم بداهة أن من الأسباب التي دعت إلى التعدد؛ هي رحمة ببعض نسوة كن لايجدن من يرعاهن ، ويقوم على امرهن بعد فقد ازواجهن .
فهذه سودة بنت زمعة رضي الله عنها ، اول إمرأةتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ، وكان تّوفي عنها زوجها الذي هو ابن عمها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، والحكمة في اختيارها أنها لو عادت إلى أهلها في مكة لأكرهوها على الشرك بالفتنة والعذاب ، فختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالتها ، ورغب في زواجها . وكان الزواج منها قبل عام الذي هاجر فيه إلى المدينة بثلاثة أعوام .
وهذه هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها ، كانت هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ، وقد توفي زوجها بعد غزوة أحد ، وعزاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سلي الله يأجرك في مصيبتك ، ويخلفك خيراً ) ، فقالت : ومن يكون خيراً من أبي سلمة ؟، ولما خطبها لنفسة اعتذرت بأنها مسنة وأم أيتام (18) وذاتُ غَيْرة ، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سناً ، وبأن الغيرة يذهبها الله سبحانه وتعالى ، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله .
فهذا النص يدل دلالة وضحة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على رعاية الأيتام ، وكفالة الأرمل ، وتعزية المصابين .(/14)
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها كانت أسلمت في مكة وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه سلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، ولما عادت إلى المدينة بني بها ، وكان من دوافع هذا الزواج احترامهاوكفالتها وجبر خاطرها بعد مصابها بتنصّر زوجها ، وعداوة أبيها .
ويتلخص مما تقدم أن من دوافع هذا الزواج ، أسباب هذا التعدد الرحمة بالأرامل وكفالة النساء المسنّات الأيامى ، فهل يكون التزوج بهؤلاء النسوة وأمثالهن لغرض الشهوة والاستمتاع كما يتقوّل البعض ؟.
-----------------------------
(18) وكانوا ثلاثة: سلمة وعمر وزينب.
اما توثيق روابط الصحبة: فظاهر في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بابنتي احب الناس إليه ، وأعزهم عليه: عائشة بنت ابي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً . أما زواجه بعائشة أم المؤمنين فقد ؤوى ابن سعد وابن أبي عاصم من طريق عائشة قالت : لما توفيت خديجة – رضي الله عنها – قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خَلّة لفقد خديجة ، فقال: أجل ، كانت أم العيال ، وربة البيت .
قالت: أفلا أخطب عليك ؟ قال: بلى ، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك ، فخطبت عليه سودة بنت زمعة ، و عائشة بنت أبي بكر . وفي رواية : قالت خولة للنبي صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ألا تزَوَّج؟ قال: من ؟ قالت : إن شئت بكراً ، وإن شئت ثيّبا ، قال : فمن البكر ، قالت : بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر ، قال : ومن الثيب ؟ قالت : سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك ، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ .. قالت عائشة: فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أمّ رومان ، فقالت خولة : ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟!. قالت: وماذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة ، قالت : وددت ، لو تنتظرين أبا بكر ، فجاء أبوبكر فذكرت له ، فقال : وهل تصلح له وهي بنت أخية ؟ فرجعت فكذرت ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( قولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ).
وهنا نقف لحظة لنعرف ماذا يقصد الدِّيق أبو بكر من قوله : ( وهل تصلح له وهي بنت أخيه ؟) يقصد أن الرابطة الأخوية الصادقة التي تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت في القوة والمتانة مبلغ رابطة إخوّة النسب ، فما كان يتصور رضي الله عنه أن عائشة تحل له ، وماكان يدور في خلده أن يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بابنته ؛ ولكن لما علم أبو بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقلته له خولة : (أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ) ، لما علم ذلك هشّ لهاذا الزواج وفرح به ، بل كان مفتخراً بهذه المصاهرة معتزاً بها على مدى الأيام ؛ فإذا اجتمعت فضيلة وإخوة الدين ، وفضيلة المصاهرة ، وفضيلة الصحبة والسبق إلى الإسلام في إنسان ، فلتكن في أبي بكر الصديق ، فقد جمع الخير من كل جهاته ، وحاز المجد من جميع أطرافه رضي الله عنه وأرضاه .
أما زواجه بحفصة بنت عمر أم المؤمنين ، فقد روى ابن الأثير في أسد الغابة حفصة كانت متزوجة بخنيس بن حذافة السَّهمي ، وكان من المهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة ، وممن شهدوا بدراً ، ومات في المدينة متأثراً بجراحه بعد موقعة أحد ، فرأى عمر أن يزوجها ، فعرضها على أبي بكر فسكت ، وعرضها على عثمان بعد موت زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ماأريد أن أتزوج اليوم ، وإنما كان يرجوا أن يزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم ، وقد ساء عمر رضي الله عنه ماكان من أبي بكر وعثمان ، وهنا الكفئان الكريمان لابنته ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة )، فلقي أبو بكر عمر فقال : لا تَجدْ عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لتزوجتها ، وكان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصه سنة ثلاث من الهجرة على القول الراجح.
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة في السنة الثانية من الهجرة ، فكان هذا قرّة عين لوزيره الأول ، وصاحبه في الغار ، وتزوج في حفصة في السنة الثالثة من الهجرة ليسوي بين عمر وبين أبي بكر في شرف المصاهرة ، ومتانة الصحبة ، ولم يكن في الإمكان أن يكافئهما على صدقهما وإخلاصهما وجهادهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الزواج ، وأكرم من تلك المصاهرة.
لولا الذي فعلة الرسول صلى الله عليه وسلم من الزواج بحفصة لكانت حسرة في قلب عمر ، ولوعة تعتلج نفسه وصدره ؛ فما أكرم سياسته صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم وفاءه للأصحاب المخلصين! ..
---------------------------------------
(19) خلة: حاجة.
(20) هي ام عائشة.(/15)
وأما إعطاء القدوة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة والمثل الكامل في حسن معاشرته لأزواجه ، وإرادة الخير لهن ، وتحقيق العدل بينهن ، ولا بأس أن نذكر طرفاً من هذه المعاملة الطيبة حتى يتأسى المتزوجون بها ، ويمشوا على هديها ونهجها ، وبالتالي حتى يعلم كل ذي عقل وبصيرة الحكمة من هذا التعدد والسر من هذا الجمع.
أ - القسمة بالعدل: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يقسم أوقاته بالعدل بين نسائه جميعاً ، وكان يدور عليهن كل يوم امرأةً امرأةً ، إلى أن يصل إلى التي عندها الدور (فيبيت عندها) ، ولما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبغي رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، روى أحمد وأصحاب السنن أن سودة بنت زمعة لما أسنّت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت يارسول الله: وهبتُ يومي لعائشة ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها ؛ تحقيقاً لجانب العدل ، ولما حج أخذهن كلهن معه . ولما مرض عليه السلام مرضه الأخير شقّ عليه أن ينتقل بين بيوت نسائة كل يوم كما كان يفعل في حال صحته ، فكان يسأل – كما روى البخاري - : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ يريد يوم عائشة ، فأذن له أزواجه كلهن أن يكون حيث شاء ، فختار بيت عائشة وفيه توفي ، وروى أبو داود أنه بعث في مرضه إلى نسائة فاجمعهن ، فقال : ( إني لا أستطيع أن أدور بينكن ؛ فإن رأيتنّ أن تأذنّ لي أن أكون عند عائشة ) فأذنّ له ، ومن حكمة ذلك أن يدفن في بيتها ، وقد كان صرح من قبل بأنه يدفن حيث يموت.
وقس على عدله بالمبيت عدله صلى الله عليه وسلم بالنفقة واللطف والبشاشة والتكريم.
ب - احترامه لآرائهن: كان عليه الصلاة والسلام يقبل من نسائه أن يراجعنه فيما لا يرضين به ، فلا يسخطه ذلك ، حتى أصبح نساء الصحابة يقتدين بهن ، فقد روى الطبري عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : ( فَصِحْتُ على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولِمَ تُنكِر أن أراجِعَك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ).
ت - مساعدته في خدمة البيت: روى الطبري وغيره عن عائشة أنها لما سئلت : ماذا كان يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت قالت: ( كما يصنع أحدكم ، يشيل هذا ، ويحط هذا ، ويخدم في مهنة أهله ، ويطح لهن اللحم ، ويقمّ البيت ، ويعين الخادم في خدمته ) وفي رواية : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ).
ث - استنكاره ضرب النساء: روى ابن سعد في طبقاته أن سبعين امرأة شكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب رجالهن لهن ، فأغضبه ذلك ، وقال : إنه لا يحب أن يرى ذلك أبداً ، وقال : عندما شكت له مرأة ضرب زوجها : ( يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ، ثم يظل يعانقها ولا يستحي ) وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر على الناس ضرب نسائهم ، فإن أعطى لأصحابه القدوة العملية في الملاطفة ، وعدم ضرب النساء ، فقد روى ابن سعد عن عائشة أنها قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط ، ولا خادماً ، ولا ضرب شيئاً قط ؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله ) .
ج - وفاؤه لمن مات منهن: من المعلوم أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، كانت أول زوجاته صلى الله عليه وسلم فقد قضى معها زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته ، ولما ماتت ظل النبي صلى الله عليه وسلم طول عمره يذكرها ، ويكرم صديقاتها ومعارفها.
وذكرت كتب التاريخ والسِّير أن عجوزاً زارت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فأكرم مثواها ، وبسط لها رداءه فأجلسها عليه ، فلما انصرفت سألته عائشه عنها لتعلم سبب إكرامه لها ، فأخبرها أنها كانت تزور خديجة .
وروى ابن عبد البر والدَّوْلابي أن عائشة كانت تغار من خديجة كلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت له مرة: هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها؟ - تعني نفسها- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( لا والله ماأبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من الناس ) قالت عائشة : فقلت في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبداً.
وروى الشيخان عن عائشة أنها قالت : (ماغرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها قط ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يطعها أعضاءً ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، وربما قلت له : لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ؟! فيقول إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ، وإني لأحب حبيبها ).(/16)
ح - مداعبتهن والبشاشة لهن: كان عليه الصلاة والسلام يبسم دائماً في وجه نسائه ، ويلين لهن ، ويجاملهن ويؤانسهن ، فقد روى ابن سعد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس ، وأكرم الناس ، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان يسّاماً ).
أما المداعبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب نساءه ويمازحهن ، وحينما يجلس معهن ويخلو بهن ، وقد كان لعائشة بنت الصديق رضي الله عنهما من قلب رسولا لله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن لأحد من نسائه بعد خديجة رضي الله عنها ، فكانت الحبيبة بنت الحبيب ، وكانت هي أكثرهن إدلالاً عليه لصغر سنها ، وفرط ذكائها ، ومنزلة والدها . وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ
وروى الإمام أحمد في مسنده أن عائشة أم المؤمنين خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره ، وكانت صغيرة لم تبدُنْ بعد ، فتسابق وإياها فسبقته ، فسكت عنها إلى أن بَدُنتْ ، وخرجت معه مرة أخرى فتسابقا ، فسبقها ، فجعل يضحك وهو يقول لها (هذه بتِيك) أي واحدة بواحدة.
خ - موقفه منهن موقف الصلح: المرأة بما جبلت عليه من عاطفة فياضة ، وغيرةٍ متقدمة ، تتأثر دائماً بأي موقف يثيرها ، وبأية حادثة تحدث لها ، وما نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جملة نساء البشر ؛ لهن عواطف تتأثر ، ومشاعر تتحرك ، فمن الطبيعي أين يقع بينهن شئ من الخصومات وسوء التفاهم ، ومن الطبيعي كذلك أن يقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهن موقع المصلح المعلم ، حتى إذا صلح أمرهن ، وتهذبت نفوسهن كن لغيرهن من النساء قدوة ، وللزوجات والأمهات مثالا .
وإليكن طرفاً من هذا التعليم والإصلاح :
• روى الترمذي أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة قالتا : نحن أكرم على رسول الله منها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ( ألا قلت : وكيف تكونان خيراً مني ، وزوجي محمد ، وأبي هارون ، وعمي موسى ؟! ) وقد لقبتها زينب مرة باليهودية ، فهجرها النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً عقوبة لها.
• وروى ابن سعد أن عائشة اختصمت مرة مع زينب – إحدى ضرائرها – أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر الرسول إليهما نظرة المغضب ولم يكلمهما ، فانتبهت عائشة لنظرات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستطاعت بلباقتها أن تضفي على الجو روح الألفة والسرور ،فبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : ( إنها بنت أبي بكر !! ).
• وروى أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلا للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا – تعني أنها قصيرة – فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد قلتِ كلمة واحدة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) أي أن كلمتها لو ألقيت في البحر لأفسدته.
• وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يقربهن شهراً ، واعتزلهن كلهن زجراً وتأديباً لتواطئهن والائتمار بينهن ، حتى يكنَّ قدوة صالحة لسائر النساء.
تلكم أهم المواقف التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في ملاطفته لأهله ، وحسن معاشرته لأزواجه ، ألا فليأخذ المتزوجون من هذه المواقف دروس القدوة ، وليستلهموا منها مواطن العبرة ، حتى لا يقعوا في الجور ، ولا يتعثروا في أوحال الانحراف والظلم . ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقتصراًعلى زوجة واحدة لما عرف الناس هذه التعاليم العملية ، ولما اتضح لهم المنهج السليم في معاشرة الأهل ومعاملة الزوجات ، ولما اتضح لهم مواطن الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب .
---------------------------------------------------------
(21) المسند 6 : 108.
(22) أما رواية ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد فراقها فناشدته أن يمسكها فإنها ضعيفة
(23) ابن سعد.
(24) أي يكنسه.
(25) ابن سعد ( 8 : 148 ).
(26) وإذا كان القرآن الكريم أباح للزوج أن يضرب زوجت في حال النشوز ضرباً غير مبرح؛ فينبغي ألا يعرب عن البال أن هذا الضرب يأتي بالمرحلة الأخيرة بعد الوعظ والهجر في المضجع كما نصت عليه الآية ، ثم بالتالي إن كان ينفع ولم يترتب على الضرب فتنة أشد ولا مصيبة أعظم ، وأن لا يضرب في أماكن الخطر كالوجه مثلاً ؛ والأفضل في حق الزوج أن لا يلجأ إلى الضرب اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لم يضرب امرأة قط كما مر.
(27) لم تبدن : أي لم يصيبها السمن,(/17)
(28) قد كان نساء النبي صلى الله عيه وسلم تواطأن على طلب التوسعه في النفقة ، وإفشاء السر ، والكيد لبعض النساء من زوجاته ، وارجع إلى القرطبي في تفسيره لسورة التحريم ، وآية : {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ ...}(52) الموجودة في الأحزاب تجد ما فيه الكفاية .
أما ما يتعلق بالإجابة عن السؤال الأول: فنقول: إن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة كان لأسباب أهمها:
1- زواجه لها كان أمراً من الوحي: كانت عائشة تفتخر فيما بعد على سائر أزواج الرسول ، وتعتز بأن الله سبحانه وتعالى أوصى الرسول بها ، وأتاه جبريل عليه السلام بصورتها في خرقة من حرير خضراء قائلاً له : أنها زوجته في الدنيا والآخرة. وكانت عائشة تردد دائماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : ( أُريتك في المنام مرتين ، أرى رجلاً يحملك في سَرقٍة (31) من حرير ، فيقول هذه امرأتك ، فأكشف عنها ، فإذا هي أنتِ ، فأقول: إن يك هذا من عندالله يمضه )(32) .
2- زواجه لها كان تكريماً لصاحبه: كلنا يعلم أن أبابكر رضي الله عنه كان أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال ، ومن كبار الصحابة الذين أخلصوا حبهم لله وللرسول والإسلام ، وتحملوا في سبيل الدعوة كل أذى واضطهاد ، وكان له شرف الصحبة في الهجرة ، والإقامه معه في الغار ، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدِّيق ، لمواقفه الصادقة ، وجهاده المخلص . فإنسان هذا حاله ، وهذا صدقه ، وهذا جهاده أليس يزداد فخراً وشرفاً حين يتقدم أحب خلق الله إليه ، وأكرمهم لديه ، ليخطب ابنته ، ويكون صهره ؟ أليس يجد في هذه المصاهره تكريماً ما بعده تكريم ومنزلة لاتدانيها منزلة ؟ وقد مر معك ملابسة زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة في بحث توثيق روابط الصحبة من هذا الكتاب فأرجع إليه.
3- زواجه لها كان الأثر الأكبر من الناحية العلمية: أبرز ما برزت فيه عائشة رضي الله عنها رواية الحديث ، وقد اعتمد علماء الحديث على كثير مما نقل عنها ؛ لأنها كانت صادقة فيما تنقل ، عالمه بأحكام الشريعة ، وكان ابن الزبير إذا حدث عنها يقول : (والله لاتكذب عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً)(33)، كما أن مسروقاً كان يقول في نقل الأحاديث عنها : ( حدثتني الصديقة ابنة الصديق البريئة المبرأة)(34) . وسبق أن ذكرنا في بحث (اكتمال التشريع) من هذا الكتاب أن عدد الأحاديث التي روتها عائشة بلغت 2210 حديثاً . ولم يكن دور عائشة خاصاً بالحديث ، وإنما تجاوزت ذلك إلى الفقه ، فقد كانت معلوماتها في الأحكام الشرعية وافرة ، يقول الإمام الزركشي : ( إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها).
ولم تكن عائشة فقيهة فحسب ، بل كانت من أفقه الناس ، وكانت تفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وكانوا يسألونها عن أشياء كثيرة إلى أن ماتت ، وكان القضاة يجتمعون عندها لحل بعض المشاكل ، فيستأذنون عليها ، فتأذن لهم ، وتكلمهم من وراء حجاب.
وكانت السيدة عائشة إلى جانب أنها محدثة وفقيهة فصيحة اللسان ، بليغة الكلام ، قوية الحجة ، فلنستمع إلى كلامها يوم توفي أبوها الصديق : ( نضَّر الله وجهك ياأبت ، وشكر لك صالح سعيك ، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها ، وللآخرة معزياً بإقبالك عليها ، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك ، وأعظم المصائب بعد فقدك ؛ فعليك سلام الله تودع غير قاليه لحياتك ، ولا زارية على القضاء فيك )(35) ، وإلى جانب هذا كانت عالمة بالشعر والأدب ، وأخبار العرب الماضية ، والأنساب ، وعلم الفلك والطب.
ولقد شهد رجال العلم والمعرفة بعلم عائشة وذكائها.
- قال عنها عطاء بن أبي رباح : ( كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة)(36) .
- قال عروة : ( ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة )(37) .
- وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن : (ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقه في رأي إذا احتيج إلى رأيه ، ولا أعلم بآيه فيمن أنزلت ولا بفريضة من عائشة )(38) .
- ويقول الأعمش : (لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين ، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل )(39) .
- وروى عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – وهو ابن أخت عائشة – أنه قال : ( لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت ، ولا بفريضة ، ولا بسنة ، ولابشعر ، ولاأروى له ، ولا بيوم من أيام العرب ، ولا بنسب ، ولابكذا ، ولا بكذا ... ولا بقضاء ولا بطب منها)(40).(/18)
هذه هي أهم الأسباب التي دعت الرسول صلى الله عليه وسلم لأن يتزوج من عائشة في سن مبكرة مع المفارقة في السن ، والتفاوت بالعمر (41) ، وهي – كما رأيت – أسباب مقنعة ، وحجج دامغة ، لا يجادل فيها إلا مَنْ كان في قلبه زيغ ، وعلى عينيه غشاوة ، ويكفي عائشة فخراً وخلوداً أنها زوج رسول الله ، وأم المؤمنين ، وراوية الحديث ، وجاءت الإشارة بزواجها من السماء ، ويكفيها فخراً كذلك أن الوحي نزل ببراءتها ، وأن الرسول توفي في حجرتها بين سَحْرها ونحرها (42) رضي الله عنها وأرضاها .
---------------------------------------------------------
(31) السرقة: شقة من حرير.
(32) مسند أحمد وغيره.
(33) ابن سعد
(34) ابن عبد البر وابن الأثير.
(35) الزركشي ص61.
(36) ابن الأثير ، وابن حجر.
(37) المرجع السابق.
(38) الأنساب للبلاذري.
(39) الأنساب للبلاذري وابن حجر.
(40) الأنساب للبلاذري.
(41) صحيح أن الإسلام راعى التكافؤ في السن في مسألة الزواج ، ولكن لم يجعل ذلك شرطاً في صحة العقد . علماً بأن التفاوت الكبير الذ كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة لايشكل خطراً على هذا الزواج ، فالإسلام قد رغب في تقارب السن ليتفاهم الزوجان . أما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرب الإنسانية ومعلم البشرية ، فكيف لايمكنه سياسة فتاة صغيرة وتربيتها وحسن معاشرتها ؟!.
(42) أي مات وهو مستند إلى صدرها.
فإليك – أيها القارئ – نبذة عن عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، وعن عددهن بعد مماته . تروي كتب التاريخ والسيرة أن جميع من عقد عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة ، فاللواتي تزوجهن ودخل بهن إحدى عشرة امرأة هن على الترتيب التالي :
1- خديجة بنت خويلد .
2- سودة بنت زمعة .
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق.
4- زينب بنت جحش الأسدية.
5- حفصة بنت عمر بن الخطاب .
6- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان .
7- هند أم سلمة بنت أبي أمية .
8- جويرية بنت الحارث .
9- صفية بنت حيي بن أخطب .
10- ميمونة بنت الحارث .
11- زينب بنت خزيمة .
واللواتي عقد عليهن وفارقهن ولم يدخل بهن اثنتان : أسماء بنت النعمان الكِنْدية ، ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل بها وجد بها بياضاً فمتّعها(43) ، وردها إلى أهلها . وعمرة بنت زيد الكلابية ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذت منه ، فردها إلى أهلها بعد أن أداها حقها.
وأما ملك يمينه فاثنتان : مارية بنت شمعون القبطية ، وريحانة بنت زيد القرظيَّة .
وأما اللاتي توفينه قبله فاثنتان : خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة
وأما اللاتي توفي عنهن فتسع زوجات هن كمايلي: عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، وهند أم سليمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث ، وجويرية بنت الحارث ، وصفية بنت حيي بن أخطب .
والذي عليه كتب السيرة والمحققون من أهل العلم والحديث أن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد هو المعتد به والمشهور ، ولا عبرة بما ذكره بعض المؤرخين كالطبري من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج من خمس عشرة (44) امرأة ، وجمع بين إحدى عشرة ، ومما يؤيد الجمع بين تسع نسوة في آن واحد ما روى ابن كثير عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن : أنه لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى : {يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً}(45) ، ولما نزلت كان تحته صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، حفصة ، ام حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ، وأربع من غير قريش وهن : صفية الخيبرية ، وميمونة الهلالية ، وزينب الأسدية ، وجويرية المصطلقية ، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك ، فلما خيرهن واخترن الله ورسول والدار الآخرة شكرهن الله جل شأنه على ذلك إذ قال : {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً} (46) .
ويقول ابن كثير في تفسيره : (وذكر غير واحد من العلماء عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وغيرهم .. أن هذه الآية : (لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ .. ) نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضاه عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية) (47) .(/19)
فهذه النصوص بجملها تؤكد أن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد وأمر مقطوع به لايقبل الشك ، وهذا الجمع يبدأ عهده على الأرجح من السنة السابعة (48) من الهجرة إلى أن نزلت آية (لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ ..) إلى أن توافاه الله تعالى.
ولم تكن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم – كما رأيت – من جنس واحد ، ولا من دين واحد . ففيهن العربيات وغير العربيات ، وفيهن القرشيات وغير القرشيات ، وقد سبق ذكر القرشيات وغير القرشيات ، وأما غير العربيات وغير المسلمات من الديانات الأخرى فهن : ريحانة بنت زيد القرظية فكانت ملك يمينه وهي يهودية ، وصفية بنت حيي وهي يهودية . أما مارية فكانت ملك يمينه وهي قبطية نصرانية ، ثم أسلمن عندما بنى بهن النبي صلى الله عليه وسلم .
هؤلاء هن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم على اختلاف اجناسهن وأديانهن ، فقد جمع في عصمته من قومه ومن غير قومه ، كما جمع المسلمه والنصرانية واليهودية ، وجمع بين البكر والثيب ، والفقيرة وابنة رئيس العشيرة .. وهذا كله من حسن سياسته صلى الله عليه وسلم ، ونظره البعيد في تآلف القوم ، ومحو الفوارق العنصرية .
وإذا أردنا تقسيم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجية اتخذنا طريقة (محمد علي) (49) بذلك ، وهي أنه قسمها إلى أربع حلقات (50) :
1- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن كان في الخامسة والعشرين من عمره ، وكان لايزال عازباً يحيا حياة هادئة تمتاز بالطهر والعفاف.
2- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الخامسه والعشرين إلى الخمسين ، وكان في هذه الفترة سعيداً مع زوجه خديجة بنت خويلد ، ولم يفكر في غيرها قط إلا بعد وفاتها.
3- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الخمسين إلى الستين حين تزوج عدة نساء لأسباب اجتماعية وسياسية وإنسانية ، كما مر معك .
4- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الستين من عمره إلى وفاته ، لم يتزوج خلالها تنفيذاً لأمر الله ، وتكريماً لنسائة اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة .
---------------------------------------------------------
(43) المتعة : كسوة تعطى لمن يطلق زوجته ولم يسم لها مهراً بعد العقد وقبل الدخول ، بشرط ألا تزيد القيمة على نصف مهر المثل .
(44) ويمكن الجمع بين الروايات ، فإذا نظرنا إلى عدد زوجاته اللواتي دخل بهن أو فارقهن وعدد إمائه يكون المجموع /15/ ، وإذا نظرنا إلى اللواتي دخل بهن فقط يكون المجموع 11 ، وإذا نظرنا إلى اللواتي نزلت في حقهن آية التخيير إلى أن توفي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون المجموع 9 والله أعلم.
(45) الآية 28 من سورة الأحزاب
(46) الآية 52 من سورة الأحزاب
(47) انظر تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص501 تجد البحث وافياً.
(48) وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يقارب الستين سنة .
(49) عالم مسلم هندي
(50) عن كتاب (عائشة أم المؤمنين) لمؤلفته زاهيه مصطفى قدورة ص103 مع شئ من التصرف.
... ... ...(/20)
تعذيب أسرى الحرب
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 6/10/1424هـ
السؤال
هل يجوز تعذيب أسرى الحرب على أي حال؟ وهل هناك أي مثال على فعل الصحابة – رضي الله عنهم- لذلك؟.
الجواب
من حكمة تشريع الجهاد في الإسلام دفع العدوان الواقع على المسلمين، ورفع الظلم المتوقَّع من الكفار، والإسلام في تشريعه لا يستشرف إزهاق الأرواح، أو سلب الأموال دون مبرر، وللأسرى الكفار في الإسلام أربعة أحكام يخير فيها الإمام (ولي الأمر).
1- الاسترقاق، ... 2- المن والعفو 3- المفاداة بالمال أو بأسير مسلم عند الكفار، 4- القتل. قال تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ..." [محمد: من الآية4]، والإحسان إلى الأسير صدقة يتقرب بها العبد كما يتصدق على أخيه المسلم تماماً قال تعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً" [الإنسان:8]، ولا يكون أسيرا إلاّ كافراً، أما المسلم فلا يجوز أسره بحال، وتعذيب الأسير لا يجوز بخلاف قتله، فإن قتله حد من حدود الله الشرعية لا تقبل الزيادة بحال، بل الإحسان إليه حال القتل إن رؤي قتله؛كما جاء في الحديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، ولما مثل المشركون بحمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه- عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد لم يمثل الرسول – صلى الله عليه وسلم- بأحد من زعماء قريش وقتلاهم، وهو يعلم قول الله تعالى "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" [النحل:126] بل إن الرقيق (العبد) المسلم نهى الشرع عن إيذائه؛ كما في الحديث "من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنفه جدعناه"، بل جاءت العناية بالرقيق ومساواته بالحر في القضايا المعاشية من طعام وشراب ولبس، وحسن خطاب، ففي حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في الصحيح "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم" بل وصلت العناية بالرقيق والرق سببه الأسر في الحرب، أن يتساوى مع مالكه بالسيادة والولاية فيخاطب بها كما يخاطب بها ذاك، ففي الحديث "لا يقل أحدكم أطعم ربك ووضئ ربك وليقل : سيدي ومولاي، ولا يقل عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" وإذا كانت معاملة من أسر في الرق بيد مالكه كما في هذه النصوص فإن تعذيب أسير الحرب لا يتفق مع دلالة هذه النصوص، ولم يؤثر عن أحد من السلف جواز ذلك، اللهم إلا أن يضرب ضرب المتهم ليستخرج ما عنده من أسرار العدو مما ينفع المسلمين وعليه يحمل قول النووي في شرح مسلم "ويجوز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيراً" انظره في غزوة بدر. والله أعلم.(/1)
تعريف العيد وإطلاقاته
إبراهيم بن محمد الحقيل 13/12/1425
24/01/2005
العيد: كل يوم فيه جمع، واشتق من (عاد) (يعود) كأنهم عادوا إليه، وجمعه أعياد. وقيل: اشتق من العادة؛ لأنهم اعتادوه.
قال الأزهري: والعيد عند العرب الوقت الذي يعود فيه الفرح والحزن.
وقال ابن الأعرابي: سمي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد ( انظر مادة (عود) في القاموس (386) واللسان (9/461) وتاج العروس (8/438).
ونقل السفاريني: أنه سمي عيداً تفاؤلاً ليعود ثانية ( شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد 1/579).
والعيد في الاصطلاح: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد. عائد: إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع أو الشهر، أو نحو ذلك.
فالعيد يجمع أموراً:
منها: يوم عائد، كيوم الفطر، ويوم الجمعة.
ومنها: اجتماع فيه.
ومنها: أعمال تتبع ذلك من العبادات، والعادات. وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل هذه الأمور قد تسمى عيداً .( انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/241)، مجلة المنار (7/97) 19/12/1416هـ).
وعليه فللعيد إطلاقات عدة، فهو يطلق على:
أ . الزمان –أي زمان العيد- كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة:"إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً".
ب . المكان كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيداً".
ج . الاجتماع والأعمال كقول ابن عباس –رضي الله عنهما-:"شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
د . مجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب كقوله صلى الله عليه وسلم:"دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا".
ذكر العيد في القرآن والسنة:
ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الأعياد يمكن أن يكون على ثلاثة أقسام:
الأول: بيان اختصاص كل أمة بأعيادها:
أ - قال تعالى:"ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله" [الحج:34]، قال ابن عباس والكلبي والفراء: عيداً.
ب - قال تعالى:"لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه" [الحج:67] قال ابن قتيبة: هو العيد.
الثاني: ذكر أعياد المسلمين:
أ - عيد الفطر، ففي حديث أنس –رضي الله عنه- قال:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال:"إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم النحر".
ب - عيد الأضحى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت بيوم الأضحى عيداً، جعله الله لهذه الأمة".
ويوم الأضحى هو يوم العاشر من ذي الحجة، وقبله يوم عرفة، وهو من ذلك العيد أيضاً، وبعده أيام التشريق الثلاثة وهي أيام عيد أيضاً، فصارت أيام عيد الأضحى خمسة، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".
ج - عيد الجمعة: لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده".
الثالث: ذكر أعياد غير المسلمين:
أ - قال تعالى:"قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك" [المائدة:114]. قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، ورجحه الطبري.
ب - قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:"قال موعدكم يوم الزينة" [طه:59]، قال مجاهد: هو عيدهم، وقال قتادة والسدي وابن زيد: هو يوم عيد كان لهم.
ج - قال تعالى في وصف عباد الرحمن:"والذين لا يشهدون الزور" [الفرقان:72]. قال ابن عباس: أعياد المشركين، وكذا قال أبو العالية وطاووس وابن سيرين والضحاك والربيع وغيرهم.
قدم الأعياد في الأمم:
الأعياد قديمة في الناس، عرفوها منذ عرفوا الاجتماعات والتقاليد والذكريات، ولقد كانت الأعياد في الأمم الجاهلية على مر عصور البشرية تتسم باللهو واللعب والفسق والمجون والشعائر الغريبة، والطقوس الوثنية، وحتى المجتمعات البدائية كان لها أعيادها، ولهم فيها عادات متوارثة، وحرمات مرعية كما كان لأهل الجاهلية، فتتوقف فيها الحروب، ويأمن الناس؛ جرياً على عادات وتقاليد عندهم، من خرج عنها عابوه.
لقد اختار الإنسان منذ القدم أياماً يسترخي فيها من التعب، ويعطل العمل ليجدد نشاطه، ويستعيد حيويته، فنشأت تلك الأعياد الموسومة بأيام من السنة معلومة، تعود الأعياد كلما عادت تلك الأيام، ولكل أمة منها مظاهرها وشعائرها في أعيادها الخاصة، لا يشاركها فيها غيرها، ولا ترضى أمة من الأمم أن تكون دخيلة على غيرها في أعيادها، ولا ينبغي لأمة أو طائفة من الناس مهما نسيت شخصيتها، وأغفلت ذاتيتها أن تنتحل شخصية غيرها من الأمم، وتندمج فيها باتخاذ ما هو من خصائصها ومقوماتها، ولا يفعل ذلك إلا مهزوم في شخصه، مستخف بأمته، محتقر لما عنده، يلبس ثوباً غير ثوبه، ويمشي مشية ليست له، ومهما أظهر من تحضر وتقدم فلا يزال محتقراً صغيراً في أعين من قلدهم قبل أعين من انسلخ منهم ورفضهم.(/1)
ولأجل هذا الاختصاص بالأعياد كثرت في الأمم وتنوعت، وبسبب الاختلاط والصراعات تداخلت بعض أعياد الأمم الغالبة في الأمم المغلوبة، نتيجة للتبعية والتقليد والانصهار، ويظهر ذلك من خلال استعراض أعياد جمع من الأمم والطوائف المختلفة.(/2)
تعريف المباهلة وحكمها
السؤال :
أسمع كثيراً عن المباهلة ، و لا أعرف المقصود منها و لا بها ، و لا حُكمَها ، فهل توضحون لي ذلك ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
المباهلة في اللغة هي الملاعنة ، أي الدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب من المتلاعنَين ، و البَهلةُ اللَعنة [ انظر تحرير ألفاظ التنبيه : 1/247 ] .
و هي مشروعة ، لإحقاق الحق و إزهاق الباطل ، و إلزام الحجة من أعرض عن الحق بعد قيامها عليه ، و الأصل في مشروعيتها آية المباهلة ، و هي قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) [ آل عمران : 61 ] .
و سبب نزول هذه الآية الكريمة هو ما كان من وفد نصارى نجران عند قدومهم المدينة و محاجتهم رسولَ الله صلى الله عليه و سلم بما يعتقدونه من الباطل في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله : جاء العاقب و السيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدان أن يُلاعناه ، فقال أحدُهُما لصاحبه : لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعنا لا تفلح نحن و لا عقبنا من بعدنا . قالا : إنا نعطيك ما سألتنا و ابعث معنا رجلاً أميناً ، و لا تبعث معنا إلا أميناً ، فقال : ( لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين ) فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : ( قم يا أبا عُبيدة بن الجراح ) فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( هذا أمين هذه الأمة ) .
و قد ذكر الحافظ ابن حجر [ في الفتح :8 / 95 ] بعض ما يُستفاد من هذا الحديث ، و من ذلك قوله : و فيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة ، و قد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، و وقع ذلك لجماعة من العلماء . و مما عُرفَ بالتجربة أن من باهَل و كان مبطلاً لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ، و وَقَعَ لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة ؛ فلم يقُم بعدها غير شهرين . اهـ .
قلتُ : و ليست مشروعية المباهلة خاصة بالنبي صلى الله عليه و سلم ، بل هي له و لأمته من بعده ، و مما يدخل في ما أمرنا بالتأسي به فيه من أمور الدين .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ، و لم يرجعوا ، بل أصروا على العناد ، أن يدعوهم إلى المباهلة ، و قد أمر الله سبحانه ، بذلك رسوله صلى الله عليه و سلم ، و لم يقُل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . و دعا إليها ابنُ عمه عبد الله بن عباس ، من أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، و لم يُنكر عليه الصحابة ، و دعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، و لم يُنكَر عليه ذلك ، و هذا من تمام الحجة ) [ زاد المعاد : 3 /643 ] .
و بهذا يتبين أن مباهلة أهل الباطل أمر مشروع ، غير أنه لا يُصار إليه إلا مع الجزم بصحة ما عليه المباهل و صدقه فيه ، و ترتب مصلحة شرعية على المباهلة كإحقاق الحق ، و إقامة الحجة ، و ليس الانتصار للنفس أو الغضب لغير الله ، أو لأمر من أمور الدنيا .
و نظراً لخطورة الدعوة إلى المباهلة أو قبول الدعوة إليها فالأولى عدم التوسع في هذا الباب ، و الاحتراز مما قد يترتب على المباهلة من مفاسد كتعلق العوام بأحد المتباهلين ، أو إظهار باطل لم يكن ليظهر لولاها ، أو إصابة المباهل الصادق بالرياء أو غير ذلك من المفاسد .
جاء في شرح قصيدة ابن القيم [ 1/37 ] : ( و أما حكم المباهلة فقد كتب بعض العلماء رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب و السنة و الآثار و كلام الأئمة ، و حاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً وقَع فيه اشتباه و عناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيُشتَرط كونها بعد إقامة الحجة و السعي في إزالة الشبه و تقديم النصح و الإنذار و عدم نفع ذلك و مساس الضرورة إليها ) .
هذا و الله المستعان ، و بالله التوفيق .(/1)
تعزية المسلم للكافر
أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان
السؤال:
ما حكم تعزية المسلم للكافر(بمناسبة وفاة بابا الفاتيكان)؟
الجواب:
أصل التعزية هي التسلية للمصاب الذي نزلت به مصيبة من موت قريب ونحو ذلك- لغرض تخفيف ما ألم به أو نزل من مصيبة أو كارثة، وأكثر ما تجري التعزية عادة في الوفاة. ويجوز للمسلم أن يعزي الكافر -سواء كان كتابياً أو غيره- بموت قريب أو عزيز لديه. ويدعو لولي الميت أو صديقه بدوام الصحة والبقاء وكثرة الولد والمال. ولا يدعو له بالمغفرة والأجر وجبر المصيبة لأن هذا لا يكون إلا للمؤمن، ولو قال: (أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك) أو نحوه لكان حسناً، وتعزية المسلم للكافر من حسن الخلق، وهي وسيلة من وسائل التآلف والدعوة إلى الإسلام، لا سيما في مثل هذا الظرف.
أما إذا كانت تربط المسلم بالكافر رابطة قرابة - من نسب أو صهر أو زمالة عمل ونحوه- تعين العزاء حينئذ، وعزاء المسلم لأهل الكتاب من يهود ونصارى المجوس أولى من غيرهم.
أما تعزية المسلم لأخيه المسلم عند موت قريبه الكافر فهي مشروعة ويدعو للحي بعظم الأجر وحسن العزاء وجبر المصيبة، ولا يدعو لميته الكافر بشيء من هذا، وإنما يدعو له بنحو ما سبق من دوام البقاء وكثرة المال والولد.
قال الإمام مالك بن أنس في تعزية المسلم بأبيه الكافر يقول: (بلغني مصابك بأبيك وألحقه الله بكبار أهل دينه وخيار ذوي حلته)، وسئل ابن عبد الحكم كيف يعزى المسلم بأمه النصرانية؟ قال يقول: الحمد لله على ما قضى قد كنا نحب أن تموت على الإسلام حتى تسر بذلك.
أما تعزية المسلمين بعضهم لبعض بموت الكافر- إذا لم يكن الميت قريباً لمسلم فحرام لا تجوز بحال لقول الله - تعالى -: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا ذوي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) والتعزية في هذا من الاستغفار المنهي عنه في الآية جزماً كالصلاة عليه في قوله - تعالى -: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون). والله أعلم.
30/02/1426هـ
http://www.islamtoday.net المصدر:(/1)
تعزية حارة لمن هذا حالهم ! ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعزية ...... إلى من يصوم !
تعزية ...... إلى من يتصدق !
تعزية ...... إلى من يساعد محتاجاً !
تعزية ...... إلى من يوقر كبيراً !
تعزية ....... إلى من يحسن إلى الجار !
تعزية ...... إلى من ينفق على أهله ويخدمهم !
تعزية ...... إلى من يرحم المسكين !
تعزية ...... إلى كل من يعين على نوائب الخير والمعروف وهو مضيع للصلوات .
أقدم له تعزية حارة وأعلم أنها لن تجبر مصابه فله العذر مني فالموقف عسير والخطب أدهى والمصاب عظيم .
فأقول يا من حالك كذلك فاعلم هديت ووفقت أن هذه الأعمال لن تنفعك وأنت تارك للصلاة ومضيعاً لها .
فإن قلت لي: وما مصيرها ؟
قلت لك : إن نفعها قاصر على الحياة الدنيا فتجزى بها لأن الله ليس بظلام للعبيد لكن في الدنيا فقط .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّه لا يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا في الدُّنْيَا ، وَيُجْزَى بِهَا في الآخِرَة، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلى الآخِرَة ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا » رواه مسلم .
فإن قلت وماذا عن مصيرها في الآخرة ؟
قلت لك : هاهو القرآن يجيبك :
قال الله تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ))
والحديث السابق يجيبك أيضاً ((وَأَمَّا الْكَافِرُ ، فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للَّهِ تعالى ، في الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلى الآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا )) فهل أدركت أن المصاب عظيم .
فإن قلت : الآية والحديث السابقين إنما هما في شأن الكافر !
قلت لك : وهذا عين المراد ، فتارك الصلاة كافر مارق من الملة ، وأذكر لك طرفاً من ذلك ، قال الله تعالى (( ما سللكم في سقر ؟ قالوا لم نك من المصلين ... ))
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( العهد الذي بنينا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) .
قال عبد الله بن شقيق رحمه الله وهو أحد التابعين (( ما كان أصحاب رسول الله يرون شيء تركه كفر إلا الصلاة )) قال أهل العلم هذا إجماع من الصحابة على كفر تارك الصلاة ، والصحابة أعلم الناس بمقتضى ومدلولات القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد قال عمر رضي الله عنه (( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة )) لاحظ أي لا نصيب .
والأدلة كثيرة مستفيضة ويكفي ما ذكر إشارة .
فإذا علمنا أن تارك الصلاة كافر ، فإن الكافر لا تنفعه أعماله الحسنة لأنه فاقد أهم شرط قبول العمل وهو الإسلام ، فقد قال الله تعالى (( وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ))
وليس الحل أن تُجهز على الدنيا وتفسدها بل العلاج إصلاح ما فسد منها والرجوع إلى الله والإنابة إليه ليُكفر عنك ما مضى ولتصلح ما بقي من العمر وكن عاقلاً ممتثلاً شرع الله تفلح والله ف! ي الدنيا والآخرة .
وكن متمثلاً قول الله تعالى (( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ))
وفقني الله وإياك سبل الرشاد .(/1)
تعظيم العصيان في شهر رمضان
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 28/8/1426
02/10/2005
المسائل في هذا الموضوع:
- المسألة الأولى: فضل رمضان.
- المسألة الثانية : سبب تعظيم الذنب في هذا الشهر.
- المسألة الثالثة: تعريف الذنب.
* * *
- المسألة الأولى: فضل رمضان.
ورد في فضل رمضان آثار معروفة في الصحيح، من ذلك ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
في هذا الحديث أربع بشارات:
الأولى: أن الصوم لله تعالى، هو الذي يجزي به، والله تعالى يجزي على جميع الطاعات، لا مثيب غيره، غير أن تخصيص الصيام بذكر ثواب الله تعالى له، يدل على زيادة معنى في الثواب على غيره من الطاعات، هذا المعنى اختلفوا فيه، فقال سفيان بن عيينة: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخل بالصوم الجنة) [الترغيب والترهيب 1/82].
وقيل: كل طاعة لها أجر محدود، إلا الصوم فغير محدود، ويشهد لهذا القول رواية مسلم: "كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" [انظر: صحيح الترغيب والترهيب 1/407، حاشية 5].
الثانية: أن الصوم جنة، أي وقاية وستر من النار، ففي الترمذي: "والصوم جنة من النار" [صحيح الترغيب والترهيب 1/407]، وذلك أن الشيطان يجري في عروق ابن آدم، فإذا صام المرء ضاقت العروق لقلة جريان الدم فيها، فتضيق حينذاك المسالك على الشيطان، فتقل وساوسه، ثم إن الشياطين تصفد في هذا الشهر، وبهذا يقبل الناس على الطاعة، فيكون الصوم لهم جنة.
الثالثة: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه كرامة للصائم، قيل في معناه: أن الله تعالى يجازيه بطيب الرائحة في الآخرة فيكون مسكا، كالمكلوم في سبيل الله تعالى يأتي وجرحه يفوح مسكا. [انظر: الفتح 4/106]
الرابعة: أن الصائم يفرح بفطره، وبلقاء ربه، وعند أحمد [2/232، صحيح الترغيب 1/407]: "وإذا لقي الله فجزاه فرح".
ومن فضائل شهر الصوم: غفران الذنوب فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه]، أي مصدقا بأمر الله تعالى، مخلصا له النية، محتسبا للثواب من الله تعالى.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة" [رواه الترمذي صحيح الترغيب 1/418].
وفضله أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر، أي خير من ثمانين سنة وزيادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الشهر حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولايحرم خيرها إلا محروم" [رواه ابن ماجة بسند حسن، صحيح الترغيب 1/418]
* * *
- المسألة الثانية: سبب تعظيم الذنب في هذا الشهر.
الذنوب في هذا الشهر مضاعفة، والسبب: أن الاصطفاء والاختصاص موجب لمضاعفة الحسنات، ومضاعفة السيئات، سواء كان الاختصاص في: الأشخاص، أو الأمكنة، أو الأزمنة:
- فالله تعالى اصطفى واجتبى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وكان هذا الاختصاص سببا في مضاعفة حسناته، ونيله أجور من عمل بهديه، لا ينقص من أجورهم شيئا، حتى صار أعلى الناس درجة، كذلك أخبره الله تعالى أن ما يكون منه من خطأ فعقوبته مضاعفة، وحاشاه ذلك، لكن هذا بيان شرعي لأحكام أهل الاجتباء والاختصاص، قال تعالى: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا* إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا"، أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
ومثل هذا ما جاء من خطاب في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما".
فهن قد اصطفاهن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلهن من الحظ والنعمة ما ليس لغيرهن، في الإيمان والدرجة والعيش في بيت النبوة، فلا يليق بهن العصيان، كما ثواب طاعتهن مضاعف.(/1)
- والحكم نفسه ينطبق على الأمكنة المختصة بالشرف والحرمة مثل مكة، فالأعمال فيها أعظم من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة فيما سواه، وكذا الذنب هو فيها مضاعف، قال تعالى: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم".
- والحكم نفسه يعمل به في الأزمنة المشرفة المحرمة، كشهر رمضان، ودليل حرمته النصوص الدالة على عظمته، وبيان عظم الثواب فيه، ورحمة الله عباده فيه، وفتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، واختصاصه بليلة هي خير ألف شهر، فالحسنات فيه إذن مضاعفة، وإذا ثبتت مضاعفة الحسنات فذلك دليل على مضاعفة السيئات أو تعظيمها، لما سبق من أن التضعيف في حال الاختصاص والاجتباء يكون في الحسنات، ويكون في السيئات.
ثم إنه مع ذلك: قد نص الدليل على عظم الذنب في رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل دماؤهم، فسأل عنهم؟ فقيل له: (الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) [ابن خزيمة، صحيح الترغيب 1/420]
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي وقع على امرأته نهار رمضان بأعظم الكفارات، وهي كفارة القتل والظهار: عتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وغلظ الكفارة من غلظ الذنب، وقد استوجبها لما واقع حليلته (زوجته) في نهار رمضان، في الوقت المحرم، فدل هذا على أن الذنب في رمضان ليس كغيره، وإذا كان هذا التشديد والوعيد والعقوبة في حق من انتهك الشهر مع حليلته، فكيف بمن انتهكه مع حليلة جاره أو مع أجنبية لا تحل له؟.
* * *
- المسألة الثالثة: تعريف الذنب.
هناك من يعبث بالشرع فيجعل الذنوب من المباحات، وهذا موجب لبيان ما هو الذنب في الشريعة:
لكلمة الذنب مترادفات شرعية مثل: المعصية، الإثم، الخطيئة، السيئة، السوء. وكلها تعبر عن حقيقة ما يفعله الإنسان حين يخالف أمر الله تعالى، وكل هذه الألفاظ وردت في القرآن في سياق الذم والوعيد، قال تعالى:
- "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون".
- "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين".
- "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا".
- "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
- "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم".
فكل هذه المترادفات تدور حول معنى واحد هو: مخالفة ما أمر الله تعالى به، فعلا أو تركا.
فالمخالفة تكون بترك واجب، أو بفعل محرم، ولا يدخل فيها ترك المندوب، أو فعل المكروه، لأن المندوب هو: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه. والمكروه هو: ما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.
فلا يدخل هذان النوعان من الأحكام في باب المعصية والذنب، ومن باب أولى ألا يدخل المباح.
أما الواجب فيدخل في الذنب من جهة تركه، فمن ترك الواجب أثم، لأن الواجب هو: ما يثاب فاعله، ويستحق العقاب تاركه. وكذلك المحرم يدخل في الذنب من جهة فعله، لأن المحرم هو: ما يثاب تاركه، ويستحق العقاب فاعله.
وعلى ذلك: فإذا قيل: أذنب فلان. فمعناه: إما أنه ترك واجبا، أو فعل محرما.
وقد اتفقت الأمة على وجوب القيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات، وكل ما أمر الله تعالى به فهو واجب، ما لم يصرفه صارف إلى الندب، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وبر الوالدين، والصدق، والأمانة، والحجاب للمرأة، وإيفاء الوعد، وحفظ اللسان، ونحو ذلك.
وكل ما نهى الله تعالى عنه فهو محرم، ما لم يصرفه صارف إلى الكراهية، كالشرك، والسحر، والكهانة، والربا، والزنا، والرشوة، وأكل مال الغير، وتبرج المرأة وسفورها واختلاطها بالرجال، وعقوق الوالدين، والكذب، والغيبة، والنميمة، ونحو ذلك.
مع ملاحظة الفرق في معنى الكراهية بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين، فالأولون كانوا يستعملونه في معنى المحرم، وهو كذلك في القرآن، كما في سورة الإسراء، في آيات الوصايا: نهى القتل، والزنا، وأكل مال اليتيم، والبطر والكبر، ثم قال: "كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها".
أما المتأخرون فإنهم يستعملون المكروه في معنى ما دون المحرم، مما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.
فالواجبات معلومة، والمحرمات معلومة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيّن، والحرام بيّن)، فلا مجال للتبديل والتحريف والتغيير، فالله تعالى تكفل بحفظه دينه، رسما بحفظ القرآن، ومعنى بحفظ الشريعة من تبديل معانيها، فقال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".(/2)
فمهما يكن فإن المسلم المستمسك بدينه المعتصم بحبل الله تعالى المتين لن يضل في معرفة الحلال والحرام، فثمة من يبين له حكم الله بصدق، فهذا شاهد، وشاهد آخر يجده في نفسه، مهما اختلف الناس، مهما كثر المتحايلون، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فالفطرة الصحيحة والقلب السليم يدل صاحبه على الحق مهما تنازع الناس، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والحق أبلج، والباطل يتلجلج، والسنة جلية لا يزيغ بعدها إلا هالك(/3)
تعقيب على حوار الدستور مع د. الزيات *
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
تعقيب على حوار " الدستور " مع د. الزيات? بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي أشكر صحيفة الدستور على نشرها هذا الحوار، وأشكر السيد بسام الهلسة الذي أدار الحوار، أشكر السيد منتصر الزيات الذي جرى معه الحوار.
نقدّر للسيد منتصر الزيات محامي الجماعات الإسلاميّة جهوده في مسؤولية كبيرة تصدَّى لها. عسى أن يتقبّل الله عمله ويضاعف له الأجر والثواب.
إلا أنّي أختلف معه فيما عرضه من أفكار وتصورات حول الديمقراطية والإسلام، فقد شعرت بوجود تناقض في الفكر الذي يطرحه، والتصورات التي يدعو إليها. ولا نختلف أبداً في أنّ هنالك خللاً في واقع العمل الإسلاميّ، وخللاً في واقع المسلمين بعامّة. ولكن لابدّ من " وقفة إيمانيّة " لتحديد الخلل تحديداً دقيقاً واضحاً صريحاً، حتى لا تصبح دعوة الخلل شعاراً، مثل سائر الشعارات لا بدّ من تحديد ذلك بدراسات جادة تصحبها دراسات جادّة لوسائل وأساليب المعالجة على أساس من الكتاب والسنّة، وبيان الحجة والبيّنة.
أوجز القضايا التي أودّ مناقشتها كما يلي :
أولاً : قوله : " إنه لا يوجد نصّ في القرآن يدعو المسلمين إلى إقامة الملك".
أعتقد أن السيد الزيات جانب الحقيقة وتجاهل كثيراً من النصوص المحكمة الثابتة، وتجاهل الممارسة والتطبيق الذي استمرَّ قرابة (1500) سنة، وتجاهل أقوال العلماء ودعوتهم إلى بناء دولة الإسلام وحكم الإسلام، مما لا يمكن عرضه هنا. ولكنني أذكر بعض النصوص :
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
[ الشورى : 10]
فهذه ليست محصورة في القضاء، وإنّما هي عامّة فكلّ ما يمكن أن يختلف فيه فمرجعه إلى ما شرع الله، وإلى حكمه، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )
[ المائدة : 48 –50 ]
فمن خلال هذه الآيات ارتبطت كلمة " الحكم " " واحكم " بالقضاء، وبكل ما أنزل الله على رسوله ليكون شرعاً ومنهاجاً عاماً للحياة بكلّ ميادينها. ثمّ تقارن الآيات الكريمة بين حكم الله وبين حكم الجاهليّة ليبيّن أنَّ حكم الله هو خير ما يريده الموقنون.
وكذلك امتدّت هذه الصورة مع جميع الأنبياء والرسل ليقيموا شرع الله في أقوامهم فجاء قوله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل : ( … وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) وكذلك : ( …وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
[ المائدة 44-45 ]
وعن النصارى : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )
[ المائدة : 47 ]
فارتبطت كلمة " الحكم " في هذه الآيات والآيات السابقة بكلّ ما أنزل الله مما يشمل ميادين الحياة وليس القضاء وحده.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى على لسان يوسف عليه السلام :( … إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )
[ يوسف : 40]
فارتبطت كلمة الحكم بالعبادة لله وحده في كلِّ أمور الحياة وليس بجزء منها.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ )
[ الشورى : 13 ](/1)
فالحكم إذن تنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة الدين كلّه دون أن يتفرقوا فيه بأن يأخذ فريق جزءاً من الدين ويأخذ فريق جزءاً آخر، أو أن ينحرف بعض ما أنزل الله فيتفرق الناس، أو أن يتبعوا أهواءهم بدلاً من الخضوع لشرع الله.
وهنا لا بدّ من وقفة عند قوله سبحانه وتعالى : " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فما معنى " الدين " التي تتكرر في الكتاب والسنَّة كثيراً جدّاً، ففي جميع معاجم اللغة العربية يرد معنى كلمة " الدين "، " الجزاء، والعبادة والسلطان، والملك، والحكم " ومعان أخرى كثيرة، ولذلك وردت هذه المعاني في منهاج الله " مالك يوم الدين " " لكم دينكم ولي دين ". " ذلك الدين القيّم.." " أن أقيموا الدين …" وآيات كثيرة تتجمع لتبين امتداد " الدين " إلى جميع ميادين الحياة، ثمّ يأتي السؤال : كيف يمكن أن يقام الدين في الأرض دون دولة وسلطان وحكم ؟!
ولنتدبّر حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصحيح الذي يرويه عنه أبو أمامة رضي الله عنه : ( لتنقضنَّ عُرى الإسلام عُرْوة عُرْوة فكلَّما انتقضت عُرْوة تشبَّث النّاس بالتي تليها، فأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة )
[ أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم، صحيح الجامع الصغير وزيادته ـ ط: 3، 4951]
فواضح هنا كلمة الحكم لا تنحصر في القضاء أو أي ميدان آخر، إنها كلمة تشمل ميادين الحياة إقامة الحدود، بناء الأسرة المسلمة، الأركان الخمسة، نظام التربية والبناء، المنهج السياسي والاقتصادي، والنظام الاجتماعي، والجهاد في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكثير غير ذلك ممّا لا يمكن أن يقوم به إلا دولة ذات قوّة وسلطان.
ويجب أن نشير هنا إلى أنَّ الإسلام كلّه دين يبيّن أن الله خلق عباده ليؤدوا مهمّة محدّدة في الحياة الدنيا في الأرض ولم يخلقهم عبثاً :
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )
[ المؤمنون : 115]
وبتتبّع هذه المهمّة في كتاب الله وسنّة رسوله ? نجد أنَّ منهاج الله لخَّص هذه المهمّة بأربعة مصطلحات : العبادة، الأمانة، الخلافة، عمارة الأرض بالإيمان والتوحيد وشرع الله، ونجد التفصيلات لهذه المصطلحات وافية في الكتاب والسنَّة. وتجتمع كلّها في ممارسة منهاج الله في الأرض والدعوة إليه وتعهّد الناس عليه، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وأنَّ النَّاس محاسَبون على ذلك، وأنَّهم كلّهم راجعون إلى الله. هذه المهام التي أشرنا إلى بعضها لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود دولة وسلطان، وهذه المهمّة هي التي تجعل من الذي ينهض إليها خليفة في الأرض.
شرع الله :
كيف يمكن أن يطبَّق شرع الله بمنع الزنا وسائر المحرّمات وإقامة الحدود، والجهاد في سبيل الله، وتوفير الأمن للناس إلى غير ذلك ؟ فهل يتوقع أخي الكريم السيد الزيات أنَّ تطبيق العلمانية والرأسماليّة بديمقراطيّتها شرع الله في الأرض، أو في زاوية من الأرض، أم أنَّها تسعى لإزالة شرع الله من الأرض؟! هل يتوقع السيد منتصر الزيات أن يقيم شرع الله أولئك الذين أباحوا الزنا واللواط والعري والجنس المتفلّت.
أرجو أن يكون قد أصبح للأخ المسلم السيد الزيات محامي الحركات الإسلامية ما يكفي ليقنعه أنَّ في الكتاب والسنّة نصوصاً محكمة كثيرة تدعو إلى وجوب قيام دولة وسلطان لتنفيذ شرع الله، وأنَّ الممارسة في التاريخ قامت على أساس هذه النصوص.
الدول العلمانيّة أعلنت أكثر من مرَّة أنها لا تحبُّ أن ترى دولة إسلاميّة، فهل ينضمّ بعض المسلمين لهذه الرؤية والرغبة ؟!
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أنَّ رسول الله ? بنى أمّة وأقام دولة ذات سلطان وسيادة، وجيش وجهاد، وإقامة الحدود، إلى غير ذلك، ولمَّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسرع الصحابة رضي الله عنهم باختيار أبي بكر خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتابع إقامة الحدود، وإقامة الدين كلّه، وسيّر الجيوش، وتابع المسلمون إقامة الخلافة فيهم خمسة عشر قرناً حتى سقطت الخلافة وتمزّق المسلمون، وتفلّت الناس من شرع الله ومن دينه.
ولم يقم الرسول(صلى الله عليه وسلم) أمة الإسلام ودولته إلا بناءً على نصوص محكمة من الكتاب والسنّة، ذكرنا بعضها في الصفحات السابقة، ولا شكّ أن السيد منتصر الزيات يوافقني أنَّ الصحابة رضي الله عنهم حين أقاموا دولة الإسلام وخلافته كانوا يفهمون الكتاب والسنَّة أكثر من فهمنا وأدقّ وأسلم، وأنَّهم كانوا أعلم وأفقه، وأنَّهم إن اختلفوا على شيء فلم يختلفوا على وجوب قيام الدولة والخلافة، ولا وجود إقامة الدين وشرع الله، وحماية الأمة دياراً وأعراضاً وأموالاً، وإقامة الحدود، وإعداد القوّة والسلطان لذلك كلّه.(/2)
وكذلك قوله سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )
[ النساء : 59]
السلطان والدولة :
وكيف تكون الطاعة إلا لسلطان ودولة، وكيف تردّ الأمور إلى الله ورسوله إذا لم يكن هنالك دولة، وقد ربطت الآية ذلك كلّه بالإيمان واليوم الآخر، وذلك كلّه خير وأحسن تأويلا.
النصوص على السمع والطاعة ما أقيم الكتاب والسنة كثيرة، والنصوص التي تتطلب وجود الدولة كثيرة، فعسى أن يراجع أخي السيد الزيات فكره ويراجع الكتاب والسنّة والسيرة وسيرة الخلفاء الراشدين.
وأسوق بعض النصوص الأخرى لعلَّها تزيد الصورة وضوحاً :
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )
[ الأحزاب : 36]
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )
[ النساء : 65]
وفي الحديث الشريف الذي يرويه العرباض بن سارية يأتي قول رسول الله ? ( فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ )
[ رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه ]
فالدولة في الإسلام يحكمها الخلفاء الراشدون المهديون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً : الديمقراطية :
فاجأنا السيد الزيات بقوله دفاعاً عن الديمقراطية : إذا كانت الديمقراطية كذا فهو هو الإسلام، وإذا كانت كذا فهذا هو الإسلام، وإذا، وإذا، فهذا هو الإسلام.
فأسأل الأخ المسلم الزيات، إذا كانت هذه الخصائص التي ذكرتها موجودةٍ كلّها في الإسلام أو هي الإسلام، فلماذا لا تدعو إلى الإسلام بدلاً من الدعوة إلى الديمقراطية، والديمقراطية لها دول قوية تدعو إليها، والإسلام يتلفت يبحث عن أبنائه الذين لا يعقّونه والذين يبرّونه ويدعون الناس كافَّة إليه، كما يأمرهم الله سبحانه وتعالى.
هل سبب هذا العقوق هو فشل المسلمين في الدعوة إلى الإسلام، وفشلهم في تبليغه إلى النَّاس كافَّة، وتعهّدهم عليه، وفشلهم في تطبيق الإسلام في واقعنا اليوم ووضع المناهج التطبيقية في التربية والبناء والإعداد وفي السياسة والاقتصاد وغير ذلك ؟! هل فشلهم في إقامة دولة الإسلام دعاهم إلى التخلّي عن دولة الإسلام والبحث عن بديل ؟! الديمقراطية مصطلحاً ومحتوىً وممارسةً لم يبتدعها المسلمون ! فلا حاجة إلى أن نرى كلّ يوم تعريفاً جديداً للديمقراطية يسوقه هذا وذاك حسب هواه وأمانيه، بعد أن لم تعد أمانيه هي الإسلام.
الديمقراطية مصطلحاً ومنبتاً ومحتوىً وممارسةً هي من اليونان أولاً، ومن الوثنية اليونانية، ثمَّ انتقلت عبر تاريخ طويل إلى الغرب العلماني الرأسمالي، فمن هناك أولاً نسأل عن تعريفها، كما يمكن أن نأخذ تعريفها من معاجم اللغة الإنجليزية والفرنسية وغيرها، وذلك من ممارستها في تاريخها الطويل.
القضية الأولى في الديمقراطية لا تعني حقّ الشعب كما زعم السيد الزيات، وإنما تعني جعل سلطة الشعب هي السلطة العليا لا سلطة فوقها أبداً لا بالتشريع ولا بسواه فما يحلّه الشعب هو الحلال وما يحرمه هو الحرام. في الإسلام القاعدة : " إن الحكم إلا لله " بمعنى أن الشرع هو فقط ما شرع الله " شرع لكم من الدين …" فالحلال ما أحلّه الله والحرام ما حرّمه الله، وفي الديمقراطية " إن الحكم إلا للشعب " فعسى أن يكون قد وضح هذا الفرق لأخي السيد الزيات.
والديمقراطية ليست مجرَّد أن يختار الشعب ممثليه، ولكنَّها كيف يختار وما هو الأسلوب ؟! وفي الإسلام أسلوب آخر وقواعد أخرى، الاختيار أمانة وعلم ومعرفة نابعة من خشية الله، أمانة تخضع لميزان محدد فصّله الكتاب والسنَّة وأوجزه حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) " أنزلوا النَّاس منازلهم "، بعد أن فصّل منهاج الله ميزان إنزال النَّاس منازلهم، مما لا يوجد في الديمقراطية حيث لا يقوم الاختيار على أساس الخشية من الله، وليس لديها ميزان إلا ميزان الدنيا : المال والعصبيات والنفوذ وغير ذلك.
الديمقراطية :
والديمقراطية ليست مجرّد حقّ الأمة ومحاسبة ممثليها، ولكن كيف تتمّ محاسبتهم وما هي القوانين في ذلك ؟! وفي الإسلام واجب الأمة أن تحاسِب ممثِّليها ولكن على أساس من دين وشرع وحقوق ومسؤوليات كلَّها ربَّانيَّة إيمانيّة، وقس سائر الأمور على هذا الأساس : فالفرق بين الإسلام والديمقراطية ليس في الشعارات وحسب، ولكنّه في النهج والقانون والشرع والميزان لذلك كلّه.(/3)
وإذا خالف المسلمون بعض هذه الأحكام الربَّانيّة فذلك ليس ذنب الإسلام، إنّما ذنب الإنسان الذي يرى إشراقة الإسلام وفضائله ثمَّ يعزوها إلى الديمقراطية، ويهوى اتباعها هناك مشوَّهة.
ما بال المسلمين اليوم كلَّما نعق ناعق فزعوا إليه ليتّبعوه، فلمَّا ظهرت الاشتراكية زعموا أنَّ الاشتراكية من الإسلام، أو أنَّ الاشتراكية هي الإسلام، ثمّ لا هم طبّقوا الاشتراكية ولا طبّقوا الإسلام، وكذلك الديمقراطيّة زعموا أنَّها من الإسلام، وأُلِّفَتْ كتبٌ بذلك وزعم بعضهم أنَّ محمّداً (صلى الله عليه وسلم) جاء ليدعو إلى الديمقراطية ثمّ تغنَّوا بها وتغزّلوا بفضائلها، وأقاموا البرلمانات واختار الشعب ممثليه، واختار رؤساء الجمهوريات واختاروا واختاروا، وبعد ذلك لا هم طبّقوا شعارات الديمقراطية ولا طبّقوا الإسلام. وجاءت الحداثة فهبّ نفرٌ من المسلمين ليثبت أنَّ الحداثة من الإسلام أو الإسلام من الحداثة، وهبَّ من يريد أن يخترع حداثة عربيّة، أو حداثة إسلامية، حتى ردّ عليهم أحد رجال الحداثة يقول : الحداثة كلٌّ لا يتجزّأ فتؤخذ كلّها أو تترك كلّها، والأصح أن يقول المسلمون : إن الإسلام كلٌّ لا يتجزَّأ فيجب أخذه كلّه بتكامله وترابطه وتناسقه.
لقد أًصبح بعض المسلمين مفلسين بعد أن تخلّوا عن إسلامهم، فلم تسعفهم الاشتراكيّة ولا الديمقراطية ولا الحداثة، ولا … ولا … !
ولننظر إلى الديمقراطية عند أهلها وأربابها وفي ميدان التطبيق، فلننظر إلى ممارسة الديمقراطية في الدماء التي ملأت شوارع دلهي من المذابح التي أجرتها الديمقراطية عند احتلاله الهند، أو الديمقراطية التي اعتدت على أرض الإسلام في جنوب شرق آسيا، وشمال أفريقيا، والعالم الإسلامي كلّه، وفي دول أمريكا اللاتينية، وفي القنابل النووية التي نزلت بكامل ديمقراطيتها على هيروشيما وناجازاكي، فطبَّقت العدالة والمساواة بأن يموت مئات الألوف جميعاً أو يشوَّهوا بصورة متساوية، أو فلننظر إلى الديمقراطية التي يمارسها الديمقراطيون في فلسطين والضفة وغزة ورفح، وفي العراق وسجن " أبو غريب " وفي أفغانستان والقنابل التي تنهال على الناس وهم في أعراسهم وأفراحهم.
أريد من أخي الكريم أن يبحث في الأرض كلّها عن الديمقراطية وشعاراتها وليقل لي أين طبّقت، فقد بحثت ودرست فلم أجدها إلا شعاراً يتغنَّى بها جماعة من النَّاس دون أيّ رصيد لها في الواقع، تغنَّوا بحقوق الإنسان فسحقوها، وتغنّوا بعيد الأم بعد أن سحقوا الأمومة، تغنّوا بالمساواة، فإذا الفقر يهدّد حياة أكثر من (850) مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر المدقع حسب ما أعلن مؤتمر الغذاء العالمي دون أن يعلن عن عدد المتخمين.
الإنسان :
في مجتمعاتهم الإنسان يعيش بالتقسيط : بيته بالتقسيط، وسيارته بالتقسيط، حياته كلّها بالتقسيط وهذا بالنسبة للشعب الذي باسمه قام الأثرياء فحكموا وأتخموا، ولكن حياتهم ليست بالتقسيط !
إنَّ الديمقراطية التي ينادي بها اليوم هي بنت الرأسمالية وابنة العلمانية تحمل كلّ مفاسد هذه ومفاسد تلك.
أليست دول الديمقراطية هي التي ملأت الأرض حروباً حتى بلغ عدد ضحاياها في القرن العشرين وحده بحدود (32) مليون إنسان خلاف الجرحى والمشوّهين والمعوّقين ؟!
أين هي الديمقراطية ؟!
ثالثاً : إذا كان الأمر أنه لا يحقّ لأحد أن يمتلك الحقيقة واحتكار تأويل النصّ الديني، فهذا يعني أنه لا يوجد حقيقة، وأن الدين عائم لا حقيقة فيه، وأن الذين مارسوا الدين وطبّقوه أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكونوا يعرفون الحقيقة ولا فهم القرآن الكريم، أين تذهب يا أخي الكريم بقوله سبحانه وتعالى :
( ولقد يسّرنا القرآن للذكر )
[ القمر : 17]
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ )
[ الكهف : 29 ]
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )
[ فصلت : 41-42 ]
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ )
[ الأعراف :3]
فكيف يأمرنا الله أن نتبع ما أنزل إلينا من عنده إذا لم يكن جلياً فيه الحقّ والحقيقة.
آيات كثيرة تشير إلى الحقّ والحقيقة تدركها القلوب المؤمنة :
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً )
[ الإسراء : 82 ]
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ )
[ فصلت : 44](/4)
حين لا نجد من يمتلك الحقّ والحقيقة، يكون الذي يسود ويحكم هو الهوى، الإسلام جلي حقّ، ومنهاج الله ميسّر بيّن، لكن الناس ضعف إيمانهم وهجروا كتاب الله وجهلوا اللغة العربية، حتى أصبح يقال هذا الذي يقال.
رابعاً : الإسلام بين لينين وستالين :
لا أدري ما الذي دفع السيد الزيات أن يميّع الإسلام بهذه الصورة التي يعرضها، حيث يقول : " كلّنا مسلمون ونشهد أن لا إله إلا الله، وكل من قال هذه الشهادة فهو مسلم لا ننكر إسلامه، لكننا نجد من ينطق هذه الشهادة ويقول أنا مسلم لكني ليبرالي، وأرى مسلماً يقول الشهادتين، ويقول أنا يساري، وأرى مسلماً يقول أنا لينيني أو ستاليني … الخ، ولا أستطيع أن أنكر على هذا أو ذاك إسلامه …"
مهلاً أخي الكريم : الإسلام ليس كما ذكرت ولا اللينينيّة ولا الاستالينية كما ذكرت، من نطق بالشهادتين نقبل إسلامه إسلاماً آنياً لا نفتش عن قلبه ونوكل ذلك إلى الله، ولكننا مأمورون شرعاً أن نبادر بتعليمه ذلك الإسلام وبمطالبته بتنفيذ شعائر الإسلام وشرائعه، والتزام أوامره والابتعاد عمَّا نهى الله عنه، فإن رفض واكتفى بالشهادتين فنطبّق عليه أحكام الإسلام في دولة الإسلام الضرورية لتنفيذ شرع الله، فَلِتَارك الصلاة حكم، ولتارك الشعائر كلّها حكم، لا ينفع معها النطق بالشهادتين، ويبقى أمره إلى الله يوم القيامة، أما في الدنيا فنحن مأمورون بإقامة الدين وتنفيذ أحكام شرع الله، فشرع الله ليس متفلّتاً سائباً، إنه شرع محكم مفصّل.
أما أن يكون لينينيَّاً واستالينياً ويلتزم فكر هذا وذاك ومبادئهما التي تقوم كلّها على نظرية المادية الجدلية والمادية التاريخية، وتنكر نصّاً وجود الله، وتعتبر الدين كلّه أفيون الشعب، فلا أدري كيف استطاع الأخ المسلم التوفيق بين الإسلام واللينينية والاستالينينية، توفيقاً حاوله مَنْ أراد أن يجعل الإسلام علمانياً واشتراكياً وحداثياً، وهذا اليوم إسلام جديد، إسلام شيوعي لم يسبق إليه أحد.
السياسة والفكر ليسا محصورين في الليبرالية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية والحداثة، إنَّ السياسة والفكر لبّ الإسلام يقومان على قواعد راسخة صلبة متينة لا تنحرف عنها، السياسة هناك سياسة مصالح وفكر مصالح وصراع مصالح لا تقيم للآخرة وزناً في مناهجها، السياسة في الإسلام، حين تقوم على قواعد صلبة، فإنها تنبع من خشية الله واليوم الآخر، وتدفع الإنسان للفوز بالجنَّة بدلاً من النّار، الإسلام دين الله، كلٌّ متكامل مترابط متناسق متميّز من سائر المبادئ والأفكار إنّه دين الله.
* صحيفة الدستور الأردنية : العدد (13328) ـ السنة الثامن والثلاثون ـ الثلاثاء 15/7/1425هـ / 31/8/2004م .(/5)
تعقيب على فتوى رسوم اشتراك على مرتادي المسجد)
د. نايف بن أحمد الحمد 8/6/1427
04/07/2006
نشر الموقع فتوى بعنوان: (رسوم اشتراك على مرتادي المسجد )، وقد ورد إلى الموقع تعقيبان على الفتوى المذكورة، وبعد إحالتهما إلى الشيخ أجاب عنهما بما يلي:
التعقيب الأول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فمما لا شك فيه أن السائل عندما يسأل غيره عن حكم مسألة ما يكون جاهلا بحكمها، فلا بد للمجيب من إجابة السائل أو إحالته إلى غيره إذا لم يكن عالماً بالجواب.
وهنا نرى الشيخ -أطال الله بقاءه ومن علينا وعليه بالعلم الوافر - لم يجب السائل عن سؤاله المحدد، وهو حكم جعل اشتراك على مصلي المسجد، وليس عن حكم التبرع للمسجد، وبين الأمرين فرق كبير، فمما لا شك فيه أن الإسلام حث على التبرع والتصدق في ذلك وقد أجاد الشيخ في بيانه هذا، أما عن سؤال الشخص السائل عن حكم جعل الاشتراك على المصلين أي يجعل رسماً شهرياً على مرتادي المسجد، فمما لا شك فيه أن هذا الأمر مغاير لما بين. نرجو المعذرة وإعادة السؤال إلى فضيلة الشيخ مرة أخرى لبيان ذلك.
ملاحظة: ثبت في السنة الاستطراد في الجواب لبيان المنفعة كما في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله سائل عن حكم الوضوء بماء البحر، فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بيان حكم الوضوء منه بل تعدى إلى بيان حكم أكل ميتته.
أما هنا فالشيخ استطرد في بيان فضيلة التصدق والتبرع لبناء المساجد وعمارتها... الخ، ولم يتطرق إلى جواب السائل. وبارك الله فيكم وعذراً عن الإطالة.
التعقيب الثاني:
هل يجوز لمسؤول المساجد فرض اشتراك شهري أو لا؛ وخاصة في الدول الغير الإسلامية حيث لا توجد وزارة أوقاف وهكذا.
الإجابة :
الحمد لله وحده وبعد: فقد اطلعت على ما ذكره الأخوان الكريمان من ملاحظة على ما أجبت به حيال فرض رسم اشتراك على مرتادي المساجد حيث أفادا –رعاهما الله تعالى- أنه لم يرد فيما ذكرته إجابة على سؤال السائل وإنني إذ أشكرهما شكرا مقرونا بالدعاء لهما بالتوفيق والرشاد أقول: بتأمل الإجابة جاء فيها ما نصه" والواجب على القادرين خاصة في الدول التي لا تتولى وزارات الأوقاف فيها عمارة المساجد أن يقدموا ما يستطيعونه لأجل عمارة المساجد وتنظيفها وتأمين رزق للإمام والمؤذن والخادم وتسديد الفواتير الخدمية وغير ذلك ليظهر المسجد بالصورة المناسبة" ا.هـ حيث إن بناء المساجد وصيانتها من فروض الكفاية وفرض الكفاية لا يلزم إلا القادرين عليه لذا يلزم القادرين من المسلمين في تلك البلاد أن يتبرعوا للمساجد عندهم حتى تتمكن من الاستمرار، مع عدم وعد المتبرعين بتقديم أي تخفيضات لهم من الخدمات التي يقدمها المسجد بعوض، لما يلي:
أولاً: أن التبرع للمسجد عبادة، والعبادة لابد أن تكون خالصة لله وحده، فمن أراد بتبرعه الحصول على تلك التخفيضات لم يكن تبرعه لله، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه البخاري (6311) ومسلم (1907) وقد بوب البخاري لإحدى طرق الحديث المذكور بقوله" باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام وقال الله تعالى "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ" على نيته" اهـ صحيح البخاري 1/29.
ثانياً: أن في هذا العمل من الجهالة والغرر ما يوجب منعه وربما دخله بيع النقد بالنقد مؤجلا، وقد صدر من المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة في 10/4/1427هـ جوابٌ لسؤال وارد من رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة جدة المتضمن رغبة الجمعية إصدار بطاقات من الجمعية تنتجها إحدى مؤسسات التسويق وتقوم بتسويقها وبيعها مقابل مبلغ تتقاسمه الجمعية مع مؤسسة التسويق بعد الاتفاق بين الجمعية وعدد من المحلات التجارية على منح حامل البطاقة تخفيضاً في أسعار السلع التي تملكها هذه المحلات. وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة في الموضوع والمناقشات المستفيضة قرر:
أولاً: عدم جواز إصدار بطاقات التخفيض المذكورة أو شرائها إذا كانت مقابل ثمن مقطوع أو اشتراك سنوي لما في ذلك من الغرر، فإن مشتري البطاقة يدفع مالاً ولا يعرف ما سيحصل عليه مقابل ذلك، فالغرم فيه متحقق، يقابله غنم محتمل وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه.
ثانياً: إذا كانت بطاقات التخفيض تصدر بالمجان من غير مقابل فإن إصدارها وقبولها جائز شرعاً لأنه من باب الوعد بالتبرع أو الهبة. ا.هـ(/1)
ويلاحظ هنا أن المستفيد من إصدار هذه البطاقة هو الجمعية التي تخدم كتاب الله تعالى وحفظته ومع ذلك لم يُجز المجمع الفقهي لهم ذلك، فالغاية الحسنة لا تبرر الوسيلة الممنوعة، وعلى الإخوان في المسجد المذكور حث المصلين في خطبة الجمعة وغيرها على أهمية التبرع ابتغاء وجه الله تعالى وهذا هو ما دل عليه القرآن، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا حث أصحابه على التبرع يبشرهم بالجنة لا بأمر دنيوي يحصلون عليه، قال تعالى: "لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" [البقرة:272] وقال تعالى: "لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء:114].
وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة" وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" رواهما البخاري (2626) و"رومة" بئر معروفة بمدينة النبي عليه الصلاة والسلام اشتراها عثمان بخمسة وثلاثين ألف درهم فوقفها. عمدة القاري (12/191) ولفظ حديث رومة عند أحمد (1/74) رقم (555) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلي المسلمين وله خير منها في الجنة" فنلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دلو مشتريها كدلي المسلمين ولم يجعل له ميزة بأن يستقي منها أكثر منهم بل جعله مثل من لم يدفع درهما واحداً فيها لينال الجنة بذلك.
ولا مانع عند الحاجة من فرض بعض الرسوم على مرتادي المركز الإسلامي لا المسجد عند الرغبة في الاستفادة من خدامته عند الحاجة لذلك، ووقفها عند عدم الحاجة والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/2)
تعقيب على فتوى شراء البيوت بالقرض الربوي"
د. سامي بن إبراهيم السويلم 22/5/1423
01/08/2002
كثيرة هي الفتاوى التي تردنا عن موضوع شراء البيوت عن طريق القرض الربوي حيث انتشر هذا الأمر في بعض البلدان ، ولأهمية هذا الموضوع فقد نشرنا في وقت سابق فتوى بعنوان شراء البيوت بالقرض الربوي لفضيلة الشيخ الدكتور سامي السويلم والتي تقضي بتحريم هذا النوع من المعاملات،،
إلا أنه وردنا تعقيب على هذه الفتوى من أحد زوار النافذة ، وقد عرض هذا التعقيب على فضيلة الشيخ فتكرم بالتوضيح والبيان...
التعقيب:
أود أن أبدي بعض الملاحظات حول فتوى حرمة الاقتراض من البنوك لأجل شراء البيوت ، وهي ملاحظات تلجلجت في صدري كثيرا ، وكنت أتساءل بداية قائلا من المعلوم أن التمر بالتمر يجري فيه الربا ، ولا بد له من شرطين الأول التقابض ، والمثلية ، ومع أن الربا ذنبه عظيم وخطره جسيم ، إلا أن نجد في الشريعة إباحة بيع العرايا وحقيقته أنه ربا ، أبيح لحاجة الناس إلى التفكه بالرطب ، وهذا حكم معروف لديكم ، فقلت في نفسي متسائلا النبي صلى الله عليه يبيح الربا لحاجة يمكن أن يقال إنها نوع من الترفيه ، فكيف بنا اليوم نحرم الاقتراض بفائدة من أجل شراء بيت ومعلوم أن البيت بالنسبة للإنسان الواجد لمن يؤجره من الحاجات العظيمة ، هذا من جانب من جانب آخر وجدت العلماء قد اتفقوا على الضرورات تبيح المحظورات وصحيح أن شراء البيوت ليس من الضرورات لكنهم في المقابل أيضاً قالوا إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ، هذا بعض ما تلجلج في نفسي حيال هذه القضية وثمة أمر أود لو استجاب له المفتون وهو التخلي عن الخلط بين لغتي الوعظ والفتوى ، حتى تحرر المسألة تحريرا علميا أما أن يقول المفتي إن هذه المسألة لاتحتاج إلى فتوى ولا سيما أنه قد أفتى بها علماء آخرون هو نوع من المصادرة التي لا تنبغي وشكرا وجزاكم الله خيرا.
*****
التوضيح:
1. أما مسألة العرايا فهي أولاً مقيدة بما دون خمسة أوسق، وثانياً هي استثناء من ربا الفضل وليس من ربا النسيئة. وبحسب اطلاعنا لم ينقل في السنة أي استثناء من ربا النسيئة في الأموال الربوية، وهي المنصوص عليها في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مسلم(1587). إذا تقرر ذلك فربا الفضل حرم لحكم متعددة، منها كونه ذريعة لربا النسيئة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله. وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة. يقول ابن القيم رحمه الله: "وما أبيح سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب ..." (إعلام الموقعين 2/161).
أما ربا النسيئة فهو محرم تحريم المقاصد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" رواه البخاري(2179)،مسلم(1596) واللفظ له. فلا يصح قياس ما حرم تحريم المقاصد على ما حرم تحريم الوسائل، لأنه قياس مع الفارق المؤثر.
ولو أبيح ربا النسيئة لشراء البيوت، ما الذي يمنع إباحته لشراء السيارات، وهي أيضاً في حق كثيرين من الناس حاجة تنزل منزلة الضرورة، وما الذي يمنع إباحته للزواج ابتداء، وهو أهم من المنزل ومن السيارة؟ وما الذي يمنع إباحته لتمويل التنمية وإنشاء المرافق الضرورية كالكهرباء والماء والهاتف وبناء المدن، وهي حاجة عامة أولى بأن تنزل منزلة الضرورة من الحاجة الخاصة؟ ثم لا تزال الحاجات تتوالى، ولا يوجد مرجع للناس يحدد ما هي الحاجة المستثناة من غير المستثناة، والنتيجة في نهاية الأمر هي استفحال الربا في الاقتصاد، وتفاقم الفوائد عليه، حتى تصبح ثروات المجتمع رهناً للمرابين على حساب الأجيال القادمة، وحتى يصبح الأصل في الربا الحل وليس المنع.
2. وأما ما اعتبره الأخ الكريم خلطاً بين الوعظ والفتوى، فهذه هي طريقة القرآن. فإذا تتبعت القرآن، وجدت فتاواه تجمع بين بيان الحكم وبين الوعظ. قال تعالى: "يسألونك عن الأهلة. قل هي مواقيت للناس والحج. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون"[البقرة:189]. وقال تعالى: "يسألونك عن المحيض. قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين"[البقرة:222، 223]. فهذه فتاوى اقترنت بالأمر بالتقوى والاستعداد للآخرة، وهذا من الوعظ الذي أمر الله به.
وأما في موضوع الربا، فآيات الربا هي التي حذرت من الحرب على الله ورسوله لبيان شدة حرمة هذا الأمر. فهي جمعت بين بيان الحكم وبين التخويف والتهديد.(/1)
3. أما اعتراض الأخ الكريم على عبارة "لا تحتاج إلى فتوى" وأنها نوع من المصادرة لفتاوى علماء آخرين، فلا ريب أن حرمة الربا مما لا يحتاج إلى فتوى مع النصوص الصريحة الصحيحة الجلية وإجماع الأمة عليها، إلا إذا كان المقصود هو بيان معاني هذه النصوص والتأكيد عليها. وأما فتوى بعض أهل العلم بجواز الاقتراض بربا لشراء المنازل لمن يقيم في الغرب، فقد أشير إلى أن ذلك محمول على حال الاضطرار. فالفتاوى ليست متعلقة بحكم الربا، بل الأمة مجمعة على حرمته، ومن يقول الربا حلال فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة، لكنها متعلقة بحالات خاصة قد يرى المفتي أنها من الضرورة التي تبيح المحرمات، ويرى غيره خلاف ذلك. لكن الأصل متفق عليه بين الجميع.
والله تعالى أعلم.(/2)
تعقيب على كلمة الأستاذ حمدي عبد العزيز شهاب في مجلة الرسالة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
لقد كثر في السنوات الأخيرة الحديث عن ضرورة الاعتراف " بالآخر " وعن ضرورة البرِّ والقسط إليه، إلى درجة يكاد يرفع بعض الكتّاب المسلمين " الآخر " فوق المسلم، ويحرصون عليه وعلى حقوقه ولا يلتفتون إلى المسلم وحقوقه.
وباستعراض تاريخنا وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه لا أجد أنَّ " الآخر " وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين. لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي. فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة حين يتلقّون منهم التوجيه، ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم.
إن الذي يحتاج أن يُعْترف به وينصَف ويُبرَّ ويُقسط إليه هو المسلم الذي لم يعد يجرؤ على إعلان صلاته أو صيامه في ساحة واسعة من العالم الإسلامي، ولم يعد يجرؤ على إعلان دعوته إلى الله ورسوله، لم يعد يجد الحريّة ولا العدالة ولا المساواة. ربما أصبح على المسلم أن يَطْلُبَ أن يساوى " بالآخر" !
يرى المسلم بأمّ عينيه أن شرع الله يخالَف وأنَّ الله سبحانه وتعالى يُعْصى جهاراً وعلانيةً دون أن يستطيع أن ينصح أو يعترض، أو أن يُطالب بتطبيق شرع الله كما جاء في الكتاب والسنّة. وإن جرؤ على ذلك فهو متهم بالرجعيّة أو الإرهاب أو أيَّ تهمة أخرى !
أثار في نفسي هذه التساؤلات المقالة التي قرأتها في مجلة الرسالة العدد العاشر 1425هـ 2004م، بعنوان: " معاملة غير المسلمين في الخبرة الإسلامية " بقلم حمدي عبد العزيز شهاب. ولقد قرأت ما ورد في هذه المقالة في مجلات أخرى لكتّاب مسلمين حتى بدا أن هناك إلحاحاً على هذه الموضوعات والأفكار، إلحاحاً لا أراه يناسب حقيقة الواقع اليوم ولا واقع الأمس. أشعر أنّ الصورة مقلوبة رأساً على عقب. وأود أن أُناقش بعض ما ورد في هذه المقالة.
فلقد جاء في العنوان كلمات: " ……في الخبرة الإسلامية "! ولم أفهم المقصود من كلمة " الخبرة "، وكان أحرى أن يقال: في الإسلام ! فهذا هو المهم، لأننا يجب أن نردَّ كلَّ صغيرة وكبيرة إلى منهاج الله ردَّاً أميناً، كما أمرنا الله ورسوله، وقد جعل الله هذا الأمر شرطاً للإيمان، ومخالفته مخالفة للإيمان.
وجاء في المقالة: " ونصوص الأصول المنزّلة على قدر كافٍ من الوضوح مضموناً وصياغةً، يفسح مجالاً واسعاً للتوازن بين حس الوحدة الإسلامية، وبين الاعتراف بالتعدّدية التي شاءها الله تعالى نفسه منذ بدء الخلق ".
وآسف أن أقول لأخي الكريم إنَّ هذه مغالطة كبيرة. فالوحدة الإسلامية جزء من شرع الله الذي أُمِر المسلمون بالتزامه وتطبيقه، وأما التعدّدية التي شاءها الله تعالى منذ بدء الخلق هي مشيئة الله وليست أمراً منه بالتزامها. إنها سنّة من سنن الله في الحياة تمضي على حكمة لله بالغة ابتلاءً منه سبحانه وتعالى وليس شرعاً لعباده. وهناك سنن ربَّانيّة أخرى كثيرة ماضية بقدر الله وقضائه دون أن نؤمر باتباعها. فرجل يقتل رجلاً ظلماً يتمّ ذلك بقضاء الله ومشيئته، ولكنه أمرٌ منهيٌ عنه في شرع الله.
فلا علاقة للتعددية التي يقصدها الكاتب بالسنة الربّانيّة الماضية في الكون. التعدّدية التي تدرس بعد أن تُرَدَّ إلى الكتاب والسنّة هي التعدّدية التي نقيمها نحن والتي ندرس مطابقتها لشرع الله أو مخالفتها له.
ويقول: " …… فإن " الحركة الإسلامية " التي انبثقت من هذا العالم … تظلّ متسامحة مع الآخر الديني نظرا لإيمانها بسنّة الاختلاف … بل في تعددية الشرائع".
فالحركة الإسلامية، أي الدعوة الإسلامية، انبثقت بالوحي ومن الوحي وبالنبوّة، من الكتاب والسنّة، لتلتزم شرع الله والدعوة إليه حتى تكون كلمة الله هي العليا. وسنّة الاختلاف التي نراها في الحياة بقدر من الله لحكمة بالغة ليست السنّة التي أُمرنا باتباعها. فهناك اختلاف أجازه الإسلام لأنه داخل في حدود الشريعة ليس فيه خروج عنها. وهناك اختلاف نهى عنه الله ورسوله لأنه خارج عن شرع الله. وسنّة الله ماضية في الحالتين ابتلاءً منه سبحانه وتعالى لعباده وتمحيصاً لهم. ولذلك أوضح الأمر بالقاعدة التالية:
" نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الاختلاف فيه "!
وكذلك فإن الواقع يُظْهر أن الشرائع مختلفة ابتلاء منه سبحانه وتعالى، ولكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا ديناً واحداً وشرعاً واحداً جاء به الأنبياء والمرسلون وخُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلّم الذي أُنزل عليه الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه:
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مصدّقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهوائهم … )
[ المائدة: 48 ](/1)
فالشرع عند الله واحد، والشرع الذي أمرنا الله باتباعه واحد. وإن الخلط بين الرابطة القومية التي أشار إليها أخي الكريم، والإنسانية كذلك وبين أخوة الإيمان التي جعلها الله الرابطة الأقوى، لتجمع المسلمين أمة واحدة من دون الناس، كما نصّت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على ذلك، وهي من الوضوح مضموناً وصياغةً بحيث لا يُخْتَلف في فهمها.
أما مفهوم الأقلية، فلا بدّ أن نوضّح أولاً نظرة الإسلام إلى الناس وميزانه في الكتاب والسنّة. فالناس في الإسلام: مسلمون، أهل كتاب، وكافرون ومشركون. ويصنِّف الإسلامُ الناس على هذا الأساس وحده، وعلى هذا الأساس يبني الإسلام نظرية الحقوق والواجبات. كلّ فئة تدخل تحت حكم الإسلام. بيّن الإسلام حقوقها ومسؤولياتها بوضوح ودقّة حتى لا تختلط الأمور ولا تقع مغالطات.
وقول الكاتب الكريم: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم، لم يحمل هذا التمييز أي مضامين تفضيلية " ! هو كلام عجيب ! الآيات والأحاديث التي تشير إلى مضامين التفاضل المبني على الإسلام والتقوى أكثر من أن يحصرها هذا المقال:
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها أولئك هم شرُّ البريّة. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة )
[ البيّنة: 6-7 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
( أفنجعل المسلمين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون )
[ القلم: 35-36 ]
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم )
[ صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5077 ]
فالتقوى أساس المفاضلة في الإسلام. ولذلك جعل الله على المسلمين تكاليف ليست على أهل الكتاب، وجعل لهم حقوقاً ليست لأهل الكتاب. المسلمون مكلفون بالجهاد في سبيل الله، وأهل الكتاب غير مكلفين بذلك. المسلمون يدفعون الزكاة، وأهل الكتاب يدفعون الجزية، ولهم حقوقهم، وأماكن عبادتهم، ما داموا خاضعين لحكم الإسلام لا يتآمرون عليه ولا على أمته، مصونة، فلا يؤذَوْن، وهم والمسلمون أمام القضاء سواء يخضعون لشريعة الإسلام، ودية المعاهَد غير دية المسلم، وهناك تفصيلات ليس هذا مكانها. ولكن نعود ونقول إن التقوى أساس المفاضلة، والتقيّ هو الذي يلتزم شرع الله على خشية منه، ولا يعتدي على ذمي، بل يؤدِّي إليه حقَّه. ولكن إثارة هذا الموضوع بهذه الصورة المخالفة للنصوص الواضحة هو الذي يصنع المشكلة التي لم تكن موجودة لا في الواقع ولا في الشريعة. في الحقيقة فإن الصورة عند أخي الكريم مقلوبة.
أما قوله: " أصحاب الديانات السماوية …" ! فهو تعبير درج عليه بعض الناس خطأً. لا يوجد إلا دين سماوي واحد هو الإسلام، فهو دين نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، كما تنصّ على ذلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة:
( إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم … )
[ آل عمران: 19 ]
( ومن يَبْتَغِ غيرَ الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )
[ آل عمران: 85]
وهل يُعقل أن يكون لهذا الكون ربٌّ واحد ثم يرسل إلى عباده ديانات كلها توحيدية مختلفة ليتيه الناس ويضلوا. إن الله أرحم بعباده من أن يرسل للناس ديانات مختلفة من عنده، ولكنها تحريف وانحراف من الناس أنفسهم. إنه دين واحد، ولكن الناس ظلموا أنفسهم وافتروا على الله، أفنأخذ نحن المسلمين ذلك ونتبناه ونجعله جزءاً من فكرنا !
لماذا أصبح بعض المسلمين لا يجرؤون على إعلا ن كلمة الإسلام ونصوص القرآن ؟ ولماذا أصبح بعضهم يلوي الآيات والأحاديث ؟
وحديث أخي الكاتب عن " الدولة العربيّة "، ولعله يقصد الدولة الأموية، لا أدري من أين أتت هذه التسمية. فالحاكم كان يسمّى خليفة المسلمين وليس خليفة العرب، وكان يحكم شعوباً تعدادها أضعاف تعداد العرب. أفنجعل العصبية الجاهلية معنا حتى اليوم ونلصقها بالفكر والتاريخ ؟!(/2)
أما حريّة الاعتقاد فهي على غير ما عرضه أخي الكريم. فحريّة الاعتقاد في الإسلام تعني أن الله سبحانه وتعالى جعل المسؤوليّة على الإنسان نفسه ليقرّر أيؤمن أم يكفر، وليكون إيمانه إذا آمن عن قناعة وتبيّن وتصديق. وفي الوقت نفسه بعث الله الأنبياء والمرسلين ليدعوا الناس إلى الإيمان والتوحيد لا أن يتركوهم لكفرهم تحت شعارات حريّة الاعتقاد. وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة للرسالات كلها شرع الله الجهاد لتبليغ الرسالة، وللدعوة إلى الله ورسوله بالحكمة والموعظة الحسنة، وفرض على المسلمين إقامة الدين وإعداد القوة له والمضي بالدعوة حتى تكون كلمة الله هي العليا. وفي ظلّ الحكم بشريعة الله يأخذ كلّ إنسان حقَّه ويقف عند حدوده، كما فصّلتها الشريعة. هذا في الدنيا، أما في الآخرة فمن مات على غير دين الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو في النار. وهذه القضيّة الأخطر، حين جعل الله من مسؤولية الأمة المسلمة إنقاذ الإنسان من الكفر وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. إلى هذه المسؤوليّة العظيمة يجب أن نلفت أنظار المسلمين ليوفوا بعهدهم مع الله.
( وقل الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمنْ ومن شاء فليكفرْ إنَّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمُهْل يشوي الوجوه بئس الشَّراب وساءتْ مُرْتَفقاً )
الكهف: 29 ]
( الر. كتاب أنزلناه إليك لِتُخْرج الناس من الظلمات إلى النَّور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد )
[ إبراهيم: 1 -2]
إذا كنَّا نؤمن حقَّاً أن الذين يموتون على غير دين الإسلام هم أهل النار يُلْقون في جهنَّم، أفنتركهم حتى يهلكوا ؟! لقد يسّر الله للناس سبيل الإيمان والتوحيد، ومن أهمّ ما يسّره الدعوة إلى الله ورسوله بجميع الوسائل التي بيّنها الكتاب والسنّة. هذا كما نعتقد حدود حريّة العقيدة، وهو مفهوم يختلف كلية عمَّا عرضه أخي الكريم، وعمَّا تدعو إليه الديمقراطية والعلمانية. إن التصوّر في الإسلام يربط شؤون الدنيا بالآخرة التي لها المنزلة الأعلى في الإسلام، ولا يعزل الدنيا عن الآخرة والآخرة عن الدنيا.
لقد بعث الله الأنبياء والمرسلين وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم ليدعوا الناس بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجهاد في سبيل الله لإنقاذ الناس.
إن التصورات التي يطرحها الأخ الكريم في هذه المقالة عزلت الدنيا كلّها عن الآخرة، وصبّت جلّ أمرها على الدنيا بتصورها الدنيوي. وجاء كثير من الأفكار تحمل مغالطات لا يحسن طرحها.
نحن أُمِرْنا أن نحمل رسالة الإسلام ونلتزمها وندعو الناس كافّة إلى التزامها، ولم نؤمَرْ بأن نعطي حقوقاً وواجبات على غير ما شرع الإسلام.
وكذلك البرّ والقسط. فالمسلم يجب أن يبرَّ ويقسط مع الناس جميعاً ويوفّيَهم حقوقهم على أساس من شرع الله، إلا الذين قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم.
نحن اليوم نطلب أن نُبَرَّ وأن يُقسَط معنا، لأننا أصبحنا تابعين، ولأن شريعة الله نُقضتْ عروة عروة. والبرّ ليس كما قال أخي الكريم بأنه: " أن تتنازل عن بعض حقك أو حقك كلّه " ! عجيب هذا القول ! لقد تنازلنا نحن المسلمين حتى لم يبق مجال للتنازل. تنازلنا عن ديارنا وثرواتنا وأعراضنا، وبعد هذا كلّه، وفي هذه المرحلة التي نمرَّ بها من الذل والهوان يأتي من يقول: تنازلوا، تنازلوا !
البرُّ ليس أن تتنازل. البرُّ هو أن تعطي كلَّ صاحب حقّ حقّه. فهذا هو البرّ وهذا هو القسط، لا أن يتنازل المسلمون عن حقوقهم ! لماذا يتنازلون ؟! لا أكاد أفهم هذا المنطق، ولمصلحة من تثار هذه الأفكار وتنشر اليوم ؟!
وهنا سؤال يرد: من هم الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يقتلونا؟! أين هم ؟! أكبر نسبة في العالم من اللاجئين هي من المسلمين ! أُخرجوا من ديارهم، وقُوتلوا !
وهذا كلّه لا يمنع أن نبرَّ نحن المسلمين من لم يقاتلنا ولم يخرجنا من ديارنا ولم يظاهر على إخراجنا !
إنَّ معنى البرِّ يحدّده كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ولا تُحدّده تصوّرات خاصّة لا تجد حجّتها في اللغة ولا في الدين. وآية البرّ لم تنزل في حقّ الأقليّات كما يذكر الأخ الكريم لأن أخي الكريم قرّر هو نفسه أن مصطلح " الأقلية " لم تعرفه الحضارة الإسلامية، فكيف تكون الآية نزلت في حقّ الأقليات؟! وما علاقة هذا كلّه بما ذكره الأخ الكريم من أن من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ؟! فهل المعاهَد هو الذي يُقتل اليوم ؟! أوليس آلاف المسلمين يُقتّلون ظلماً ! فهذه هي القضيّة التي تستحقُّ أن تُدْرس ويكتب عنها.(/3)
والمعاهَد في الإسلام هو الذي يكون عهده مطابقاً للكتاب والسنّة، وحين يكون الإسلام هو الذي يحكم وهو الذي ينظّم العهد ويقرّه، وحين لا يتآمر المعاهَد على الإسلام والمسلمين ولا يخونهم، ولا يغشّهم ! فأين هذه الصورة اليوم ! وأما الذمّي فحقوقه مصونة في الإسلام وبين المسلمين، ولكن المسلم هو الذي ضاعت حقوقه وهو الذي يُظْلم وهو الذي يُقتل. وهذه هي قضيّتنا اليوم، وليست قضيّة الذمّي. الذمّي في بلاد المسلمين، بالإضافة لرعاية المسلمين له، فإن دول الأرض النصرانية كلّها ترعاه وتحنو عليه، والمسلم لا يجد من يرعاه أو يحنو عليه، حتى من المسلمين أنفسهم ! لماذا نقلب الصورة، ونتولى الدفاع عن حقوق أُناس نتوّهم أنهم مظلومون ! ونترك الدفاع عن المظلومين حقاً.
ليس بين المسلمين من يتشدد في معاملة غير المسلمين، ولا أحد من المتقين العاملين يعتمد اعتماداً خاطئاً على الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). الآية جليّة، ولكنَّ الذين ضعف إيمانهم أو اضطرب علمهم، يوالون اليهود والنصارى والكافرين، على غير ما أمر الله. فالذي يحرّمه الإسلام تحريماً قاطعاً هو موالاة اليهود والنصارى والكافرين. والولاء له معنى محدد في الإسلام لا يتعلق بما يعرضه الأخ الكريم. الولاء أمر خاص بالمؤمنين تنشأ عنه أخوة الإيمان، الرابطة الوثيقة التي شرعها الله بين المؤمنين. نحن اليوم مزّقنا هذه الرابطة فتقطعت حبالها، وانصرفنا إلى موالاة لم يحلّها الله. والولاء بين المؤمنين لا يتعارض مع البرِّ والقسط مع غير المسلمين. ولكن اختلطت المعاني اليوم في أذهان الكثيرين بالرغم من وضوحها في الكتاب والسنّة. وقد شَرَحْتُ هذه الآية الكريمة والآية الأخرى: (لتجدّنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا …) في كتابي " قبسات من الكتاب والسنة "، وفي كتابي " الولاء بين منهاج الله والواقع " !
أما القول: " إنه من اللحظة الأولى لميلاد الدولة الإسلامية ظل الأصل الذي يحكم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو: " أن لهم ما لنا وعليهم ما لنا " ! من أين أتت هذه القاعدة المخالفة لنصوص الكتاب والسنة، والمخالفة للتطبيق والممارسة. إن القاعدة التي قامت منذ اللحظة الأولى لقيام الدولة الإسلامية هو تحديد الحقوق والمسؤوليات لكل فئة تدخل تحت الحكم الإسلامي في ظلّ الدولة المسلمة التي يطبّق فيها شرع الله بتكامله. فالمسلم مكلّف بالجهاد في سبيل الله، وغير المسلم غير مكلف به، المسلم يدفع الزكاة، وغير المسلم معفيٌّ منها، و" دية المعاهَد نصف دية المسلم " كما في الحديث الذي يرويه ابن عمرو وابن عمر وغيرهما (1). وقضايا أخرى كثيرة، حددها الإسلام وفصّلها ! ومن أهم هذه القواعد أنه لا يجوز الاعتداء على غير المسلم ولا ظلمه، ما دام في ظلّ الدولة المسلمة لا يخون ولا يغدر ولا يتآمر. فإن فعل ذلك سقطت حقوقه وحورب وقوتل. والبرُّ والقسط واجب على المسلم مع خلق الله كلّهم، والبرُّ والقسط غير الولاء والموالاة التي شرعها الله رابطة خاصة بالمؤمنين.
ففي الصحيفة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة حُدِّدت الحقوق والمسؤوليات بصورة دقيقة مفصلة، تقوم كلّها على أنهم جميعاً يخضعون لحكم الإسلام، لحكم الله ورسوله، وأن على غير المسلمين الإنفاق ما داموا محاربين، وأن جميع القضايا تُردُّ إلى الله ورسوله، إلى الكتاب والسنّة. فنصّت الصحيفة على أن كلّ فئة على رابطتهم يتعاقلون: " …… وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كلّ مَنْ بَغى أو ابتغى دسيعة ظلمٍ أو إثماً …"!
" … وأنه لا يَقْتُل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن. وأن ذمّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وكذلك: وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالِم مؤمن دون مؤمن في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواءٍ وعدلٍ بينهم ". وكذلك: " وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وأنه لا يحلّ لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وأن من نصره أو آواه فإن الله عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة لا يؤخذ منه صرف ولا عدل …"
ثمَّ حددت الصحيفة مواقع أهل الكتاب وحقوقهم، ثمَّ جاء النصُّ: " وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد …"، إلى غير ذلك مما ورد في الصحيفة. فمن أين أتى النصُّ أنَّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
لقد جاءت الصحيفة مع ميلاد الدولة المسلمة لتوضّح أموراً كثيرة نوجزها بنقاط:
1-أنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس، فالولاء قضية خاصة بالمؤمنين، وأنهم برابطة الولاء وأخوة الإيمان أمة واحدة من دون الناس.
2-أن دين الله يحكم الجميع وإليه تردّ القضايا.
3- أن المؤمنين على أحسن هدي وأقومه، لأنهم على الدين الحقّ الذي يجب أن يتبعه الناس جميعاً.(/4)
4-تنفي الظلم عن الجميع، وتوجب البرّ والقسط بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما حدّده الإسلام.
ومضى ذلك مع تاريخ الإسلام إلا في فترات قليلة. ولكنَّ " الآخر " هو الذي نكث وقابل البرّ بالظلم والإحسان بالعدوان، والعدل بالتآمر والغدر. ليس الآخر كله، ولكن " الآخر "، ومع أن المقالة موضع الحديث لم تُحدّده، فإنهم اليهود والنصارى. أما اليهود فكانوا أعداء غادرين خائنين منذ أيام المدينة، وأما النصارى فمن صدق وأوفى فله حق البرّ والقسط حسب ما يحدّده منهاج الله، ومنهم من خان وغدر وتآمر مع أعداء الأمة، وناصرهم، وتولى الإفساد في الأرض بين المسلمين نيابة عنهم.
ولكن هذه القضايا كلّها تمضي مع وجود حكم الإسلام وتطبيق شرع الله، لتكون كلمة الله هي العليا !
أما اليوم ! فنحن المسلمين نطلب من " الآخر " أن يبرَّ ويقسط ! وأن يرحم ويعدل. فالقوة بيده، أو هو تابع لمن بيده القوّة.
ليس من الحقِّ ولا من العدل أن نلوي الآيات والأحاديث، وأن نجترئها لنسوّغ واقعاً نعيشه اليوم، مخالفاً للإسلام، تحت ادعاءات العصرية. إن مسايرة العصر الحديث وتطوره الصادق يحتاج إلى أن نقدّم ديننا إلى الناس كافّة في الأرض حتى يقتنعوا أن العدل والبرّ والقسط والحريّة والمساواة، كلّ ذلك في الإسلام، في دين الله عندما يحكم ويسود شرعه لا في غيره. ولا توجد هذه المعاني خارج الإسلام إلا بمقدار ما تفرضه المصلحة الآنية عند من بيده القوة.
والكرامة الإنسانية لم توجد ولا توجد اليوم خارج الإسلام. إنها شعارات تطيح بها أمواج الدماء والأشلاء والمظالم بكلّ أنواعها. ويقول الأخ الكريم إن خيرية الأمة ترتبط بمقدار احترامها للكرامة الإنسانية. كلام يوحي بأن المسلمين هم الذين لا يحترمون الكرامة الإنسانية. كان أولى بالأخ الكريم أن يوجه هذا الكلام عن احترام الإنسانية إلى غير المسلمين (الآخر) الذين ملؤوا التاريخ بدماء المسلمين ومازالوا يفعلون. وإن خيرية الأمة ترتبط بما ربطها الله به في محكم التنزيل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله …
( كُنْتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجتْ للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …)
[ آل عمران:110 ]
وتُحْترم كرامة الإنسان حين يُؤْمَر بالمعروف ويُحَقق المعروف في الواقع، ويُنْهى عن المنكر ويُرْفع المنكر من الواقع ويتحقق الإيمان الصادق في الصدور، ذلك كلّه لا يتحقق إلا حين يطبّق شرع الله بتكامله وتماسكه.
وحريّة العقيدة يملكها " الآخر ". ولكن المسلم لا يملك حريّة العقيدة. إنه محارب في دينه وفي عقيدته، وفي الإصرار الجريء على محاولة نزع شرع الله من الأرض. وإذا كانت مشيئة الله اقتضت اختلاف العقائد، إلا أن الله جعل ذلك ابتلاء منه لعباده وتمحيصاً لهم بعد أن بيّن لهم أن اختلاف العقائد باطل عند الله، وأن الدين واحد لا يقبل الله من خلقه سواه. ولم يحلّ الله لنا الإقرار بغير ذلك، بل فرض علينا الدعوة والبلاغ لتغيير الواقع الظالم.
والمساواة لا نجدها في غير الإسلام. والمساواة في الإنسانية شعار لم يحترمه إلا المسلمون، وهذا التاريخ القديم والحاضر شاهد على ذلك.
ولكن لا يوجد في الإسلام هذه التعبيرات الجديدة مثل: المساواة في الإنسانية. إنه كلام عام. فحين يحترم الإسلام إنسانية كلّ إنسان، لا يمنع من محاربة الكافر ودفع أذى المعتدين، وردّ كيد المتآمرين. فما هو المقصود من هذا التعبير وما هي الحاجة إلى إعلانه وإعادة إعلانه بصورة ملفتة للنظر. لقد استُغِلّ هذا التعبير في إسقاط بعض واجبات المسلم، وفي توفير حماية للباطل الذي يحمله بعض بني آدم، وفي فتح مجال للمفسدين أن يتسللوا ويخترقوا صفّ المؤمنين، فينشرون زخرف فسادهم فيضلّون ويُضلّون.
وهل المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يذكّروا بالمساواة الإنسانية ؟! هل هذه هي القضيّة التي يحتاج المسلمون اليوم أن يُعالجوها في أنفسهم وواقعهم مع الكرامة الإنسانية وحريّة العقيدة، وهم أكثر خلق الله مراعاة لها واحتراماً لها. هل هذه القضيّة التي نحتاج إلى معالجتها في قضية فلسطين اليوم، أو قضيّة العراق وأفغانستان، أم في الحروب الصليبية سابقاً، أم في معاملة النصارى للمسلمين في الأندلس، أم في تاريخ طويل سحق النصارى فيها كلّ معالم الإنسانية وكرامة الإنسان واحترام العقيدة في البوسنة والهرسك وفي الهند وفي أفريقيا وغيرها من دول العالم !
هذه الركائز الثلاث نظّمها الإسلام أدق تنظيم وأوسع تفصيل، وبيّن مساحتها ومجال ممارستها. وفي الواقع اليوم أحرى أن يوجّه الحديث إلى غير المسلمين فهم الذين لم يحترموا الكرامة الإنسانية ولا حريّة العقيدة ولا المساواة. وهم الذين أخذوا يُغذّون هذه الشعارات وأمثالها ليُفتح باب التسلل إلى قلب صف المسلمين، وإلى إضعاف تمسّك المسلمين بدينهم، وإلى غرس شعور النقص في المسلمين، وشعور تميّز غير المسلمين.(/5)
وقول الأخ الكريم: " إن حقَّ الأغلبية أن تحكم لا يُخلُّ بمبدأ المساواة "، يعطي غشاوة على التصور الإسلامي للحكم. ذلك أن القضيّة الرئيسة في الإسلام ليس من يحكم. ولو أن هذا مهم وله شأنه، ولكنها بِمَ يحكم. ما هو الشرع الذي يُطَبَّقُ.
إنَّ الإسلام لا يُقرُّ لأحد أن يحكم بغير شرع الله. وقد وضع الله المسؤولية في عُنق الأمة المسلمة، في عنق كلّ مسلم، في عنق الأمة التي اختارها الله لتكون خير أمّةٍ أُخْرجتْ للنَّاس لتحمل رسالة الله وتنشرها في الأرض، حتى يحكم شرع الله. وإنَّ كلَّ من ادعى الإسلام محاسَبٌ بين يدي الله عن هذه القضيّة يوم القيامة. وبها فقط تكون الأمّة خير أمّة أُخرجت للناس:
( كُنْتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجتْ للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …)
[ آل عمران:110 ]
أعتقد أن أخي الكريم الأستاذ حمدي عبد العزيز شهاب يعيش في مشكلات توهّمها أكثر مما هي مشكلات حقيقية في واقعنا اليوم. ولو أنه قلب الصورة رأساً على عقب لأدرك أن أهم مشكلاتنا اليوم جهل كثير من المسلمين بدينهم وانصرافهم عنه، وعدوان الظالمين المجرمين في الأرض، عدوان فكري واجتماعي وعسكري حتى أورثوا بين المسلمين مع جهلهم فتناً لم ينطفئ لهيبها حتى الآن، وأدخلوا العلمانيّة تتسلّل إلى قلوب المسلمين، مع كثير من تصوّراتها ومفهوماتها مزخرفة بألفاظ عائمة، فيزيدها بعض المسلمين زخرفاً بطلائها بشيء من الإسلام وبألفاظ عائمة مستعارة أخرى.
ليت أخي الكريم ينظر إلى واقع الديمقراطية والعلمانية في الأرض ليرى أنَّ الآخر ( الجنود الأمريكيين ) يُلقون العراقيَّ على الأرض ويدوسون على رأسه وعنقه بأرجلهم، ويركلون جثَّة الميَّت بأقدامهم، ويقتحمون البيوت على النساء والأطفال، وينهبون ما يشاؤون من أموال، يجدّدون بذلك فظائع القرنين الماضيين في جميع أنحاء العالم الإسلامي ! هل هذه هي الإنسانية واحترام كرامة الإنسان وحريّة العقيدة التي نادى بها (الآخر ) ؟!
ليت أخي الكريم ينظر إلى ما يفعل (الآخر) في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان وغيرها، حيث أصبحوا يجاهرون بحرب الإسلام. ويُعْلن " بريمر " أنه لن يسمح بأن تكون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع في العراق، وحيث أعلن " بوش " بكلّ وضوح أنهم لن يسمحوا بقيام دولة إسلامية في العراق !
وليت أخي الكريم يرى كيف أنَّ ( الآخر ) نشط في الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي. ولقد عُقِدَ قبل سنوات مؤتمر تنصيري في أمريكا حضره كل خبراء التنصير في العالم، وكان من أهم مقرراته العمل على تحويل جميع المسلمين إلى النصرانيّة، فهل بلغوا شيئاً من ذلك ؟! مَنْ الذي يُنفق على الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي، ومن الذي يستقبلها ويفتح لها الأبواب ؟!
وليت أخي الكريم يرى مدى ارتباط (الآخر) في العالم الإسلامي (بالآخر) خارج العالم الإسلامي، إلا فئة قليلة !
وفي بعض البلاد الإسلامية تُعطّل المدارس والدوائر الحكومية في أعياد اليهود والنصارى فقط ولا تعطّل مع أعياد المسلمين !
إذا لم يكن المسلمون ينصفون بعضهم بعضاً، فهل ينتظرون من غير المسلم أن ينصفهم ؟!
ما زال المسلمون يتنازلون شيئاً فشيئاً عن بعض أمور دينهم، يظنَّون أنَّهم بذلك ينجحون أو يكسبون ودّ غير المسلم، ومع مضيّ الأيّام لم يزد أولئك ( غير المسلمين ) إلا فتكاً وتدميراً وإذلالاً للمسلمين.
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته: رقم: [ 3395 ].(/6)
تعقيب على ما جاء في ندوة د. الترابي ببور سودان
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
} يتناول هذا المقال :الأسباب التي دفعت د. الترابي إلى ذلك والمخالفات والشبه التي أثارها د. الترابي ودحضها ,الأولى: إباحته للردة وإنكار حدها,أما الشبه التي رفعها في إنكار حد الردة, دحض هذه الشبه, الثانية: تجويزه للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والصغرى,الشبه التي رفعها لتولي المرأة الإمامة الكبرى,دحضها, الشبهة التي رفعها لتجويز إمامة المرأة للرجال في الصلاة ودحضها,ثالثاً: عيسى عليه السلام نازل في آخر الزمان رغم أنف منكري السنة وجاحدي حجيتها, رابعاً: زعمه أنه ليس سنياً ولا شيعياً,خامساً: انتقاصه لأقضى القضاة الماوردي رحمه الله, شروط الإمامة عند أهل السنة,أدلة اشتراط النسب, ما يدل على كذب ما نسبه الترابي للماوردي من أن الخليفة هو الذي أملى عليه أن يكتب ما يوافق هواه, سادساً: دعواه أن باب الاجتها قد قفل{
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهَّال الناس بما يشبَِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين، وصلى الله وسلم على محمد إمام المتقين، وسيد الغر المحجلين، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.
وبعد..
الطوام العظام، والمخالفات الجسام، التي جاء بها د. الترابي في بورسودان، قليل من كثير مما يعتقده، وتفوه به لسانه، وخطه بنانه من قبل، نحو:
أولاً: إجازته للمسلم أن يرتد عن دين الإسلام أنى شاء، وإلى أي ملة أراد، ولا يقال له مجرد مرتد.
ثانياً: إنكاره حد الردة.
ثالثاً: إنكاره للقيامة الجامعة، بحجة أين الأرض التي تسع جميع الخلق!!
رابعاً: إنكاره لعصمة الأنبياء عليهم السلام إلا من الناس، والنيل منهم، نحو زعمه أن إبراهيم كان مشركاً قبل البعثة.
خامساً: تشكيكه في عدالة الصحابة، وانتقاصه لهم، نحو زعمه "أن ابن عباس - رضي الله عنه – عندما زروه"، ووصفه لابن عباس رضي الله عنهما "بأنه طفل"، كأن الطفل لا يكبر.
سادساً: زعمه أن اليهود والنصارى الحاليين ليسوا كفاراً، رداً لقوله عز وجل: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ" الآية*، ولقوله: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ"*، ونحوهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار"*، قال أبو موسى: ما قال رسول الله إلا في كتاب الله، فوجدت: "وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ"*.
سابعاً: دعوى توحيد الأديان تحت مظلة الملة الإبراهيمية، فقد دنس الخرطوم بعقد عدة مؤتمرات لذلك.
ثامناً: رده لكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تلقتها الأمة بالقبول، نحو حديث الذباب الذي قال عنه: أعمل فيه بقول الطبيب الكافر، ولا آخذ فيه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أسأل عنه عالم الدين (!!).
تاسعاً: إباحته للغناء والموسيقى، بل اعتبار ذلك عبادة من العبادات التي توجب دخول الجنة، وهناك فرق بين من يغني ويستمع ويعلم أن ذلك حرام، فهذه معصية، وبين من لا يتعاطى شيئاً من ذلك ويرى ذلك حلالاً، لأنه إنكار لما هو معلوم من دين الله؛ وتحريم ذلك ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، سوى بعض الزلات التي صدرت من ابن حزم، والله يغفر له ويسامحه، فمن تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله، فويل لمن أضحى همه البحث والتفتيش عن الزلات والسقطات، ولله در من شبه هذا الصنف بالذباب والجعلان في سقوطه على العذرة والنجاسات، وبالمكنسة في التقاطها للأوساخ.
عاشراً: إنكاره لجهاد الطلب، بزعمه أن "الجهاد قائم إلى يوم القيامة" هذا قول تجاوزه الزمن.
لقد رددت ورد غيري على كل الطوام والضلالات في عدد من المؤلفات المباركات، التي بيضنا بها الصفحات وأزلنا بها الشبهات، التي نرجو ذخرها في الحياة وبعد الممات، وقد نالنا من ذلك ما نالنا، ووصفنا بسبب ذلك بالعمالة للكفار، وبأني قبضت ثمن ذلك مقدماً، وذلك عندما كان الجميع يسبحون بحمده، ويرجون وصله ونفعه، ويخافون قطعه وقلوه، إن رهباً أورغباً.
ولكن عندما نزع عنه الملك – نزاع الملك ممن يشاء – امتنعتُ عن الكتابة عنه والرد عليه، بل حبست بعض المطبوع منها، ولولا أن الله أخذ العهد على العلماء وطلاب العلم أن يبينوا الحق، وحذر ونهى عن كتمانه، وعن تأخير البيان عن وقت الحاجة لما كتب هذا التعقيب.(/1)
قبل دحض هذه الشبه التي أثارها د. الترابي، على الرغم من أنها داحضة ومدفوعة من غير دفع وباطلة عن آخرها، أود أن أقول إن الحركة الإسلامية مسؤولة مسؤولية كاملة عن كل ما صدر من هذا الرجل من عقائد باطلة، وأفكار منحرفة، سيما خريجو الجامعات الإسلامية، والمنتسبون إلى العلم الشرعي، الأحياء منهم والأموات، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: لتمكينهم إياه من القيادة طيلة هذه المدة.
ثانياً: محاولة تبريرهم لكل ما يصدر منه من عقائد وأفكار منحرفة بحجج أوهى من خيط العنكبوت، نحو: هذه آراء وأفكار شخصية!
ثالثاً: سكوتهم عن ذلك، مع اعترافهم بأن ما جاء به مخالف لما هو معلوم من الدين ضرورة، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
رابعاً: خذلانهم لمن أنكر عليه ذلك.
خامساً: العزل، والتضييق، والهجر لكل من حاول الاعتراض على هذه العقائد والأفكار، ولو من خلال القنوات الرسمية.
سادساً: التشكيك في النوايا، والاتهام بالعمالة لكل من رد عليه.
?
الأسباب التي دفعت د. الترابي إلى ذلك
في اعتقادي أن الأسباب التي دفعت الترابي لاعتقاد هذه العقائد المخالفة لما هو معلوم من الدين ضرورة ما يأتي:
أولاً: عدم اعتداده بالسنة واحتفائه بها إذا خالفت الهوى بحجج واهية يرفعها أهل الأهواء دائماً، نحو عدم اعتدادهم بأحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول، وبأن هذا الحديث يخالف ظاهر القرآن، ونحو ذلك من الشبه التي أملاها الشيطان على أوليائه القدامى والمحدثين.
ثانياً: الأخذ بالمتشابه من الآي، وعدم رده إلى المحكم منها.
ثالثاً: شعوره وتوهمه بأنه مجدد ومفكر، فلابد أن يأتي بجديد.
رابعاً: تقليده وتشبهه بالكفار.
خامساً: منافقته ومجاملته للمجتمع، سيما المرأة.
سادساً: الاستخفاف بالاتباع.
?
المخالفات والشبه التي أثارها د. الترابي ودحضها
سنشير في هذه العجالة إلى أخطر الشبه والمخالفات التي أثارها د. الترابي في ندوته السالفة الذكر في إيجاز، لأن المجال لا يتسع، ومن أراد المزيد فليرجع إلى ذلك في مظانه من مؤلفاتنا وغيرها، وإلى كتب ومؤلفات أئمة السنة من قبل.
?
الأولى: إباحته للردة وإنكار حدها
الشبه التي رفعها د. الترابي في إباحته للمسلم أن يرتد عن دين الله الحق إلى أي دين باطل أنى شاء ظاهر قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"*، والقول الراجح في تأويل هذه الآية أنها منسوخة بآيات القتال والسيف، والقول الثاني أنها متعلقة بالكافر الكتابي الأصلي، فله أن يسلم، وله أن يظل على كفره وضلاله، ولا تتناول بحال من الأحوال المسلم الذي ارتد عن الدين الحق.
?
أما الشبه التي رفعها في إنكار حد الردة فهي
1. أن المرتد ردة فكرية بحتة لا يقتل، وإنما يقتل الذي يحمل السلاح ويحارب جماعة المسلمين.
2. إذا أخذنا بظاهر هذا الحديث يقتل من بدَّل دين النصرانية بالإسلام.
3. أن هذا الحديث يعارض ظاهر العديد من الآيات.
?
دحض هذه الشبه
• الدليل على أن المرتد يُقتل سواء حمل السلاح أم لم يحمله قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعدد من الرافضة المخذولين لاتخاذهم إياه رباً وإلهاً.
فقد خرَّج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدين* عن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة، فأحرقهم؛ فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"*، حيث أقر ابن عباس علياً في قتل المرتدين.
"وكان هؤلاء الزنادقة سجدوا لعلي وهو خارج من المسجد بالكوفة، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنت خالقنا ورازقنا؛ فقال لهم: سبحان الله، إنما أنا بشر مثلكم، إن شاء رحمني وإن شاء عذبني؛ فاستتابهم ثلاثة أيام، وتهددهم إن لم يتوبوا بالإحراق بالنار، فلم يُفِد، فأمر بحفر الأخاديد، وملأها بالحطب، وأشعلها ناراً، ثم ألقاهم فيها، وقال مرتجزاً:
لما رأيتُ الأمر أمراً منكراً أججتُ ناري ودعوتُ قنبراًً"*
فهل يا ترى أن علياً لم يفهم المراد من قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"؟!!
أما الزعم بأننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه"، لقتلنا من بدَّل دين النصرانية بالإسلام، فنقول: النصرانية، واليهودية، والشيوعية ليست أدياناً، وإنما الدين عند الله هو الإسلام، فما هذا التلبيس والتدليس؟!
ولو كان الأمر فيه متسع لذكرنا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والأئمة المهديين للمرتدين، القدامى والمحدثين، وفي هذا كفاية وغنى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.
?
الثانية: تجويزه للمرأة أن تلي الإمامة الكبرى والصغرى
الشبه التي رفعها لتولي المرأة الإمامة الكبرى
1. أن حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، حادثة عين، خاص فقط ببوران بنت كسرى من النساء، وبالفرس من الأقوام.
2. وفي مرة قال: الحديث نفى الفلاح فقط، وليس فيه منع المرأة من أن تكون قيمة على الرجال.(/2)
3. وبأن بلقيس الكافرة حكمت قومها عُبَّاد الشمس.
4. أن المرأة المعاصرة نالت من الشهادات العليا والتعليم ما لم تنله النساء في الماضي.
?
دحضها
• بالنسبة للشبهة الأولى، فإن "قوم" و"امرأة" نكرتان تفيدان العموم، وقصر هذا على بوران بنت كسرى وعلى الفرس تحكم وحكم بالهوى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، ولا يمكن أن يُخصص قوله وحكمه إلا بدليل صحيح صريح.
• أما عن الشبهة الثانية، فإذا نفِي الفلاح عن القوم فما يبقى لهم سوى الخسران؟!
• وأما بلقيس فقد كانت كافرة تحكم قوماً كافرين، ولو فرضنا أنها مسلمة، فشرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وقد نسخت كل الشرائع بشرع خاتم الأنبياء.
• أما دعوى أن المرأة المعاصرة نالت من العلم ما لم تنله حتى الصحابيات، فهذا من باب المكابرة ومنافقة النساء ومجاملتهن، وإلا فقد كانت عائشة رضي الله عنها فقيهة، ومفسرة، وأديبة، ونسَّابة، وطبيبة، ومع ذلك لم تحدثها نفسها بالإمامة، كبرى ولا صغرى.
الحمد لله الذي عافى الأمة عن مخالفة أمر ربها ورسوله، حيث لم تول امرأة قط على رجال في عصورها المختلفة إلا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وابتلي فريق منهم بتقليد الكفار والتشبه بهم، هذا مع اعتراض الراسخين في العلم على ذلك الصنيع المنكر، وعدم رضى عامة المسلمين بذلك، تحقيقاً لما صح في الأثر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة قط.
في عصور الانحطاط في عهد المماليك*، عندما تولت "شجرة الدر" وكانت زوجاً لنجم الدين السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه، حيث قتلته "شجرة الدر" واستولت على الحكم 648ه، لم يكن توليها مقبولاً من العلماء ولا من ولاة الخليفة العباسي.
فقد اعترض على توليها وأعلن ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وكتب الخليفة العباسي في وقته كتاباً إلى أهل مصر يعاتبهم على هذا الصنيع، إذ لم يكن سلطانه عليهم كاملاً، لانفراد المماليك بمصر والشام في ذلك الوقت، قائلاً: "إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً"، وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولية "شجرة الدر" ثمانون يوماً، اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة؛ فأشاروا على "شجرة الدر" أن تتزوج كبير المماليك، وهو "الأتابك أيبك" التركماني، وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها عن السلطة*.
وكذلك الأمر عندما أقام المماليك دولة لهم في دلهي بالهند سنة 602ه، وكان أول ملوكهم "إيلتش" الذي اعترف به الخليفة في بغداد، وبعد وفاته 634 هـ تولت ابنته السلطة، فاعتُرض عليها وقُتِلت*.
هذا كله يدل على أن الدافع الرئيس لتجويز ذلك تقليد الكفار ليس إلا.
?
الشبهة التي رفعها لتجويز إمامة المرأة للرجال في الصلاة ودحضها
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لأم ورقة رضي الله عنها أن تتخذ مؤذناً، وأن تؤم نساء وصبيان دارها ومن جاورها، فالحديث فيه مقال، وقد حسنه الألباني، ولو صح لما دل على الذي رمى إليه د. الترابي، حيث ما كان رجل بالغ يصلي في بيته ويتخلف عن جماعة المسلمين، وعن الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا منافق معلوم النفاق، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه؛ وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا افتقدنا الرجل في صلاة الصبح والعشاء ليوم واحد أسأنا به الظن أن يكون قد نافق؛ لأن صلاة الجماعة حكمها الوجوب على الرجال من غير ذوي الأعذار في أرجح قولي العلماء.
ولو جاز لامرأة أن تؤم الرجال لجاز لعائشة رضي الله عنها، ولكنها كان يؤمها غلامها ذكوان في صلاة القيام.
قال ابن شاس المالكي في عقد الجواهر*: (وأما المرأة فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء، وروى ابن أيمن جوازها)، أي للنساء، كما أجاز إمامتها للنساء والأطفال الشافعي وأحمد، شريطة أن تقف وسطهن، وتجهر أدنى الجهر.
وقال صاحب سبيل السعادة المالكي* وهو يعدد شروط الإمامة: (أولها الذكورية المحققة، فلا تصح إمامة المرأة، ولا الخنثي المشكل، وتبطل صلاة المأموم دون الأنثى التي صلت إماماً)، هذا إذا لم تنو إمامة الرجال، أما إذا نوت إمامة الرجال بطلت صلاتها وصلاة من أمته منهم.
وقال النووي في المجموع*: (واتفق أصحابنا على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة.. هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة، فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وسفيان، وأحمد، وداود.. وقال الشيخ أبو حامد: مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة رجل وراءها إلا أبا ثور.. فإن صلى خلف المرأة ولم يعلم أنها امرأة ثم علِم لزمه الإعادة بلا خلاف).
عندما أعلم أحمد رحمه الله بقول أبي ثور هذا قال: "هذا قول سوء"، إي وربي إنه قول سوء، على الرغم من أنه سقطة وزلة، لتلقف أصحاب الأهواء له.(/3)
ليس لما ذهب إليه الترابي من سلف أسوة وقدوة سوى زلة أبي ثور هذه وسقطته، والله يغفر له، وإلا في:
• غزالة الخارجية زوج شبيب الخارجي، وقيل هي أمه، والراجح أنها زوجه، قال ابن حزم الظاهري رحمه الله في الفِصَل*، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن*: (جميع أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة إلا فرقة من فرق الخوارج وهي الشبيبية – نسبة إلى شبيب بن يزيد الشيباني).
قال البغدادي عنهم في الفَرْق بين الفِرَق*: (إنه مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت).
وروى الذهبي في تاريخ الإسلام*: (أنها امرأته، استخلفها بعده، فدخلت الكوفة، وقامت خطيبة، وصلت الصبح بهم في الجامع، فقرأت في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بآل عمران).
• وفي أمينة ودود، الأمريكية التي أمت بعضاً من الرجال والنساء في صالة كنيسة.
فهنيئاً لمن كانت أسوته غزالة وأمينة، وسلفه "الشبيبية".
قلت: لقد بلغت منافقة د. الترابي للنساء مداها، ويتمثل ذلك في الآتي:
1. أجاز لها أن تلي الإمامة الكبرى والقضاء، وأن تكون وزيرة، ووالية، وضابطة، ونحو ذلك.
2. أن تؤم الرجال.
3. أن حواء أول الخلق وليس آدم عليهما السلام.
4. أنكر أن يكون في الجنة حور عين، رداً لقوله عز وجل: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ"*، وإنما نساء الدنيا هن نساء أهل الجنة.
5. رد كل الانتصارات التي حققها الرجال في الدفاع الشعبي إلى النساء دون الرجال.
والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كلَّ جديد
وأخطر من هذا كله تصديق بعض النساء لهذه الأماني الكاذبة.
?
ثالثاً: عيسى عليه السلام نازل في آخر الزمان رغم أنف منكري السنة وجاحدي حجيتها
من جملة ما أنكره الترابي مما هو معلوم من الدين ضرورة في بورسودان ومن قبل، نزول عيسى عليه السلام، وجميع أشراط الساعة، على الرغم من أن نزوله ثابت بـ:
• القرآن.
• والسنة.
• والإجماع.
فمن القرآن قوله تعالى: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"*، عندما ينزل ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية.
ومن السنة ما صحَّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبل أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبوهريرة رضي الله عنه: واقرأوا إن شئتم: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا"*.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فبينما هو كذلك – أي المسيح الدجال – إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء.." الحديث*.
وأحاديث نزول عيسى عليه السلام في غاية الصحة، فهي في الصحيحين وغيرهما، وتلقتها الأمة بالقبول، ولهذا أجمعت الأمة على نزوله.
وعندما ينزل عيسى لا ينزل بشريعته المنسوخة، ولا بشرع جديد، وإنما ينزل بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تعارض بين نزوله وبين ختم محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة.
أما بالنسبة للشبهة التي رفعها الترابي وأنكر من أجلها نزول عيسى عليه السلام: "فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ"*، فالوفاة هنا بمعنى النوم، فالقرآن يوضح بعضه بعضاً، قال تعالى: "اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" الآية*، وقال صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت"، فالله أنامه ثم رفعه إليه، أما قوله: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ"*، فالواو لا تفيد الترتيب وإنما تفيد العطف.
والمؤمنون الصادقون المصدِّقون بنزول عيسى لا يمنعهم ذلك من العمل والسعي للتغيير ورد الأمة إلى ما كان عليه رسولها وصحبه الكرام، عن طريق الجهاد الذي ينكره د. الترابي، وعن طريق رفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن طريق إحياء السنن التي أميتت، وعن طريق الدعوة إلى الله على بصيرة، إذ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
?
رابعاً: زعمه أنه ليس سنياً ولا شيعياً
الشيء الواحد الذي أوافق فيه د. الترابي وأصدقه فيه أنه ليس سنياً، إذ عداوته للسنة ولأتباعها لا تدانيها عداوة إلا عداوة الرافضة، والتبرؤ من السنة بأي معنى من معانيها تبرؤ من الإسلام ورسوله ومما جاء به، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن رغب عن سنتي فليس مني" الحديث، فالسنة هي الشريعة، هي الإسلام، هي الدين، نسأل الله أن يحيينا ويميتنا عليها.(/4)
قدوته في ذلك الخميني عندما جاء إلى الحكم، وأراد أن يضلل السذج من المسلمين، ويخدعهم في إيران وخارجها، فقال: "أنا لست سنياً ولا شيعياً".
أما زعمه أنه ليس شيعياً فهذا من باب الخداع، فمحبته للخميني، وإعجابه به، وفتحه المجال للرافضة في السودان عندما كان الآمر الناهي، تدل على عدم صحة هذا الزعم.
?
خامساً: انتقاصه لأقضى القضاة الماوردي رحمه الله
إعجاب د. الترابي بالديمقراطية الغربية، وتقليده للكفار في ذلك، جعله ينقم ويحقد على الذين أصَّلوا للنظام الشوري الإسلامي الذي ما قام النظام الديمقراطي إلا على أنقاضه، إذ وصف هذا الإمام العظيم والفقيه الكبير بأوصاف يندي لها الجبين، وسيقتص له منه الجبار يوم الدين، يوم يقوم الناس ليوم لا ريب فيه للحساب والقصاص.
فقد وصفه مرة بأنه "ساذج".
وفي هذه المرة بأنه "مسكين".
وبأنه دمية في أيدي السلاطين يؤصل لهم ما يبغون.
ووصف شروط الإمامة التي أجمعت عليها الأمة ولم يشذ فيها الماوردي بأنها "شروط منحطة" و"سخيفة".
وسبب غيظ الترابي وحنقه على فقهاء الإسلام أمثال الماوردي وغيره من الأئمة الأعلام الذين أصلوا لنظام الحكم في الإسلام ووضعوا تلك الشروط العظام من أجل أمور، منها:
• شرط الإسلام، إذ لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، والترابي ومن والاه يريدون أن يجعلوا لهم سبيلاً.
• قصرهم اختيار الحاكم أوالخليفة على العلماء أهل الحل والعقد دون العامة والدهماء، كما هو الحال عند الكفار في النظام الديمقراطي.
• اشتراط الذكورية في ولاية المسلمين.
أما شرط النسب وما أثاره حوله من شبه ساذجة فالغرض بذلك التهويش والإثارة، وإلا فما من عاقل يقول إنه يجب على الدولة إن لم يوجد فيها قرشي أن تستورد قرشياً من مكة أوغيرها.
?
شروط الإمامة عند أهل السنة* هي
1. الإسلام.
2. التكليف، أي البلوغ والعقل.
3. الذكورية.
4. الحرية.
5. العلم.
6. سلامة الحواس، كالسمع، والبصر، واللسان.
7. سلامة الأعضاء.
8. الشجاعة والحزم.
9. الرأي السديد.
10. النسب.
هذه الشروط قد تتوفر كلها في الحاكم أوجلها، منها ما هو شرط صحة كالإسلام والذكورية، ومنها ما هو شرط كمال، ولهذا أجاز أهل السنة إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
ويُلتزم بها إذا تم اختار الحاكم بالطريقة الشرعية المثلى، أن يختاره أهل الحل والعقد، أما إذا تغلب الحاكم على الحكم أواختير بطريقة الكفار التي يتساوى فيها المسلم والكافر، والعالم والجاهل، والذكر والأنثى، فلا مجال لتطبيقها، كما هو الحال الآن.
?
أدلة اشتراط النسب
استدل أهل السنة على هذا الشرط بالآتي:
1. "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" الحديث، رواه البخاري في الأحكام باب الأمراء من قريش.
2. "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، رواه البخاري في الأحكام، وليس المراد حقيقة العدد.
3. "الناس تبع لقريش في هذا الشأن"، رواه البخاري في المناقب، ومسلم في الإمارة.
4. "الأئمة من قريش"، رواه أحمد وصححه الألباني.
ولهذا أجمعت الأمة على هذا الشرط، ولم ينكره إلا أهل الأهواء قديماً وحديثاً.
قال الإمام النووي: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم)*.
وبهذا قال الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك من لا يؤبه باتفاقهم، كالخوارج والمعتزلة ومن قلدهم.
هذا إذا وجد قرشي توفرت فيه شروط الإمامة الأخرى، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف)*.
أما إذا لم تتوفر الشروط في القرشي، فمن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه، كما أخبر الصادق المصدوق.
?
نبذة عن هذا الإمام الجليل*
• هو أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، نسبة إلى عمل الماورد وبيعه الذي كان يشتغل به بعضُ أجداده.
• ولد بالبصرة 364ه، وتوفي 450هـ عن ست وثمانين سنة.
• مصنفاته:
• الحاوي الكبير – مطبوع في عشرين مجلداً، وقد وزع على عشرة طلاب لتحقيقه في درجة الدكتوراة.
• الأحكام السلطانية.
• أدب الوزير.
• الإقناع.
• كتاب البيوع.
• الكافي في شرح مختصر المزني.
• النكت والعيون.
• الأمثال والحكم.
• كتاب في النحو.
• أدب الدنيا والدين.
• المقترن.
• نصيحة الملوك.
• المرتبة في طلب الحسبة.
• ثناء العلماء عليه:
• قال ابن خيرون: كان رجلاً عظيم القدر، أحد الأئمة، له التصانيف الحسان في كل فن.
• وقال الخطيب البغدادي: كان ثقة من وجوه الفقهاء والشافعيين.
• وقال ياقوت في معجم الأدباء: كان عالماً بارعاً متفنناً.
?
ما يدل على كذب ما نسبه الترابي للماوردي من أن الخليفة هو الذي أملى عليه أن يكتب ما يوافق هواه
آخذاً ذلك من قول الماوردي رحمه الله: (أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته)، كما جاء في مقدمة الأحكام السلطانية.(/5)
(وذلك عندما طلب الخليفة أن يُزاد في ألقاب جلال الدولة ابن بُوَيْه: "شاهنشاه الأعظم ملك الملوك"، وكان ذلك في سنة 429 هـ، وخُطب له بذلك، فأفتى بعض الفقهاء بالمنع، وأنه لا يقال "ملك الملوك" إلا لله، وتبعهم العوام، ورموا الخطباء بالآجُرّ.
وكتب إلى الفقهاء في ذلك، فكتب الصَّيْمَري الحنفي: إن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية؛ وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: بأن إطلاق ملك الملوك جائز، ومعناه ملك ملوك الأرض؛ قال: وإذا جاز أن يقال "قاضي القضاة"، جاز أن يقال "ملك الملوك"؛ ووافقه التميمي من الحنابلة.
وأفتى الماوردي بالمنع، وشدَّد في ذلك، وكان الماوردي من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه، فطلبه جلال الدولة، فمضى إليه، فلما دخل قال له: أنا متحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني، لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي)*.
?
سادساً: دعواه أن باب الاجتهاد قد قفل
يتباكى د. الترابي على قفل باب الاجتهاد، وفي الحقيقة فإن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه إلى قيام الساعة، بنوعيه المطلق والمقيد، لمن توفرت فيهم شروطه، وامتلكوا أدواته.
وقفل باب الاجتهاد لا يملكه أحد من الخلق طالما بقي من عمر الدنيا شيء، فالاجتهاد في الأمور المستجدات والتي ليس فيها نص من الوحي، أما ما فيه نص، أوانعقد إجماع الأمة عليه، خاصة في عهود الأمة الفاضلة، فلا مجال للاجتهاد فيه؛ وهذا القسم المحظور هو هدف أدعياء التجديد، وبغيتهم من رفع تلك الراية، حتى يتمكنوا من مجاراة أعداء الدين ويأمنوا مخالفتهم.
ومشكلتنا اليوم ليست في فتح باب الاجتهاد أوقفله، ولا في عدم وجود مجتهدين، ولكن المشكلة في الجسارة والجرأة، واقتحام بل وكسر باب الاجتهاد من أدعياء لا يملكون من أدوات الاجتهاد شيئاً، ولم يتوفر فيهم شرط واحد من شروطه الكثيرة التي بينها أهل العلم المختصون بذلك.
والشرط العمدة في المجتهد هو أن يكون من أهل السنة والجماعة، أي أن يكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، والتصور، والمنهج، والسلوك؛ فأهل الأهواء ليسوا أهلاً للاجتهاد، وليسوا مؤتمنين على دين الله أن يفتوا فيه أويُدَرِّسوه، دعك من أن يجتهدوا فيه.
فالاجتهاد، وهو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، مصدر من مصادر التشريع الخمسة، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاجتهاد، فلابد من وضع ضوابط له حتى لا يتلاعب به المتلاعبون، ويدعيه المفترون، ويسطو عليه المتطفلون.
والذين قالوا بقفل باب الاجتهاد من أهل العلم كان مرامهم قفل باب الاجتهاد في وجه هؤلاء، وفي الأمور المسلمات، وما فيه نص صحيح صريح، أوانعقد عليه الإجماع؛ أما المستجدات فلا سبيل للحكم عليها إلا عن طريق القياس والاجتهاد، ولا أدل على ذلك من شروع بعضهم في بعض الافتراضات التي لم تقع بعد، وقد كره ذلك الأئمة أمثال مالك وغيره.
من علامات الساعة تطاول الأواخر على الأوائل، ولعن آخر هذه الأمة وانتقاصها لأولها.
لم يعلن الله حربه على أحد إلا على ثلاثة أصناف من البشر:
1. المرابين التعساء، عبدة الدراهم والدنانير.
2. وقطاع الطرق المفسدين في الأرض.
3. والذين يعادون أولياء الله من العلماء، أتباع الرسل، بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي ولياً فقد آذنته في الحرب" الحديث القدسي.
ولهذا قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله ناصحاً لإخوانه المسلمين، ومحذراً من الطعن والتشكيك في العلماء العاملين، والأئمة المهتدين: (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"*.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة المتقين، ووفقنا لاتباع سبيل المؤمنين، وجنبنا سبيل المشاقين لله، ورسوله، والمؤمنين، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الظالمين.(/6)
تعقيب فتوى هل مس الزوجة ينقض وضوؤها"
د. أحمد بن محمد الخضيري 4/3/1423
16/05/2002
ورد إلى بريد الموقع تعقيب حول فتوى بعنوان هل مس الزوجة ينقض وضوؤها؟
لفضيلة الشيخ أحمد الخضيري والتي تفيد بأن طهارة المرأة لا تنتقض بمجرد مس زوجها لفرجها، وقد عرضنا هذا التعقيب على فضيلته فتكرم بالتوضيح والبيان...
التعقيب:
أفتى أحد الفقهاء –يرحمه الله- في موقعكم بأن الزوج إذا مس فرج امرأته فلا وضوء عليها! واحتج بالحديث المرفوع بأن اللامس هو الذي عليه الوضوء وقاسه على لامس فرج نفسه،
والحق أن العلة في وجوب الوضوء من لامس فرج نفسه هو التأثر، أو نحو ذلك وليس مجرد اللمس وقد اشترطه مالك، وعلى ذلك فالعلة موجودة في تلك الزوجة أكثر منها في الزوج اللامس، فكان من الواجب تقييد الحكم بأن تكون لم تتأثر بهذا اللمس على الأقل، أو يحكم بنقض وضوئها عموماً دون قيد تخريجاً على الأغلب وهو التأثر في تلك الحالة، كما أفتى فقيه آخر –جزاهم الله خيراً جميعاً- أن الودي من المرأة لا ينقض الوضوء وليس بنجس، وقد أجمع العلماء بأن كل ما يخرج من السبيلين ناقض للوضوء، ثم اختلفوا في هل هو نجس أم لا؟ وكذلك اختلفوا فيما لا يخرج من السبيلين من قيء ونحوه، وقياساً على المذي هو ناقض للوضوء، ولكن ليس فيه إلا رش الماء على الثوب، وإن كَثُر يقاس على سلس البول ولا يقال: إن المرأة تجد إفرازات من فرجها فلا تذهب لتعيد الوضوء وتصلي! فأرجو إعادة النظر في تلك الفتاوى.
*****
التوضيح:
ما ذكرته الأخت السائلة من الملاحظة على الفتوى ورأيها بأن الحكم بعدم انتقاض طهارة المرأة ينبغي أن يقيد بما إذا لم تتأثر المرأة بهذا المس، أو يحكم بنقض وضوئها مطلقاً؛ لأن الغالب وجود التأثر من المرأة في هذه الحالة.
يجاب عنه: بأن السؤال جاء عن مطلق المسّ، فقيدت الإجابة بهذا المفهوم، ونص الإجابة: "لا تنتقض طهارة المرأة بمجرد مس زوجها لفرجها"، فكلمة (مجرد) تقصر الحكم على المسّ وحده، أما لو كان مع المسّ شيء آخر كخروج شيء من الفرج فإنه لا يدخل هذا في الحكم، وعلى المرأة حينئذ أن تتوضأ، وقد انتقضت طهارتها لا لمجرد المسّ، بل لما خرج منها، وأما الاتجاه إلى القول بانتقاض الطهارة مطلقاً؛ لأن الغالب وجود التأثر من المرأة في هذه الحالة فلا يظهر لي رجحانه؛ لأن ذلك ليس بلازم، ومجرد وجود الشهوة لا ينقض الطهارة أيضاً ما لم يخرج من الإنسان شيء على الصحيح، بل قد ذهب عدد من محققي أهل العلم، ومنهم شيخ الإسلام/ ابن تيمية، إلى عدم انتقاض طهارة الذي وقع منه المسّ للفرج بمجرد المسّ، وحملوا قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من مس فرجه فليتوضأ"(النسائي(444)،ابن ماجه(481)،أحمد(21689)، على الاستحباب، ولهذا ربما تلحظين أننا في الإجابة عن السؤال لم ننص على انتقاض طهارة الزوج، بل قلنا: "وإنما الذي يتوضأ هو الزوج؛ لأنه الذي وقع منه المس"، ولم نصرّح بالوجوب، والله أعلم(/1)
تعليق الآيات القرآنية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ ... 4/1/1423
السؤال
ما حكم تعليق الآيات القرآنية على شكل لوح أو سجاد في البيت ؟
الجواب
القرآن الكريم أنزله الله للعمل به والتعبد به كما أمر الله وأمر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم ينزله لمجرد التلاوة والتبرك به، مع أنه كنز البركة، وفي تلاوته الأجر والثواب، وإنما أنزله الله للعمل به وتحكيمه في كل أمر وشأن من شؤون الحياة، لقوله –تعالى-: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عما أنزل الله إليك"[المائدة:49]، وقوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"[الأنعام:38] ولا شك أن تعظيم آيات الله حقاً هو بتطبيق أحكامها والتحاكم إليها. أما مجرد كتابتها وتعليقها للتبرك دون العمل والاعتبار، أو كتابتها لغرض طرد الشياطين من المنزل أو وضع المصحف في السيارة لدفع العين عن صاحبها، أو ليقال إن صاحب هذا المنزل أو السيارة متدين إلخ... فكل ذلك من الابتداع المنهي في الشرع ومدخل للرياء والسمعة . وكل ذلك مما لم يأذن به الله ولا رسوله، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين ومن بعدهم من سلف الأمة، وهو نوع من أنواع الابتذال والامتهان لآيات الله .
أما إذا كان الغرض من كتابة آيات القرآن على لوح أو زجاج أو سجاد وعلقت في مكان محترم كأن توضع في صدر المجلس في البيت ليتذكر الداخل والخارج والجالس معاني تلك الآيات، أو تكون مجال بحث في تفسيرها، حينئذ فلا أرى مانعاً شرعياً، إذ رفعُها وكتابتها على هذه الهيئة وبهذا الغرض من تعظيمها. وقد نص العلماء على جواز زخرفة المصحف وتزويقه وتجليده تجليداً فاخراً، حتى لو طلي بشيء من الذهب أو الفضة لجاز .
وخلاصة القول: إن كتابة آيات القرآن وتعليقها في البيت بقصد التعظيم لها والتذكر والتدبر في معانيها فإن هذا جائز. وما عدا هذا الغرض فحرام. والله أعلم(/1)
( تعليم البنات إلى أين ؟ )
قراءة في ضوء السياسة الشرعية
أ.د عبد الله بن إبراهيم الطريقي 1/2/1423
14/04/2002
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً "[ سورة النساء:1] .
إن هذه الآية الكريمة خير ما نستفتح به هذه المقالة ، باعتبارها ترسم في الأذهان صورة بدء الخلق الأول للإنسان ، والنفس الواحدة هي آدم ، والزوج حواء ، فإن حواء خلقت من آدم، من ضلعه .
فالمرأة فرع الرجل منذ أصل التكوين .
لكن هذه الفرعية لا يلزم منها – بالضرورة - التطابق بين الأصل والفرع .
لأن مبدأ ( الزوجية ) يقتضي وجود اختلاف ما قد يصل الى التضاد أو التقابل .
قال الحق سبحانه : " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " [الذاريات: 49 ].
يقول "الخازن" في تفسير ه عند هذه الآية : " ومن كل شيء خلقنا زوجين أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والصيف والشتاء والجن والإنس ، والذكر والأنثى ، والنور والظلام ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحق والباطل ، والحلو والحامض ، لعلكم تذكرون أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه " أ . هـ
وقد جاءت الإشارة القرآنية إلى عدم التساوي بين الذكر والأنثى. قال سبحانه في سياق الحديث عن امرأة عمران "وليس الذكر كالأنثى"[ آل عمران : 36] .
يقول الشيخ "محمد الطاهر بن عاشور" عند تفسير الآية " ونفي المشابهة بين الذكر والأنثى يقصد به معنى التفصيل في مثل هذا المقام وذلك في قول العرب : ليس سواء كذا وكذا ، وليس كذا وكذا مثل كذا، ولا هو مثل كذا كقوله تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " … وقول "السموءل":
فليس سواء عالم وجهول " التحرير والتنوير: 3 / 234"
ولعل في هذه التوطئة ما يثير الفرضيات التالية مما له صلة بموضوعنا :
1ـ أن لكل من الرجل والمرأة خصائص .
2ـ ثم لكل عمله اللائق به .
3ـ أن العلم وهو شرط العمل ، يشرع منه ما هو نافع ومفيد للإنسان في حياته العملية ( العاجلة ) ، وحياته الأخروية .
وقبل الاستدلال لتلكم الفرضيات لعله يكون من المستحسن عرض بعض المسلمات كمدخل إلى لب القضية .
وأظن أن من المسلمات هنا : أن المجتمع المسلم ينهض على مقومات شديدة الرسوخ ، لا غنى للمجتمع عنها وهي مقومات ذات أنواع ، ونشير هنا إلى ما له صلة بالموضوع في مجالي الاجتماع والتعليم على وجه الإيجاز .
أولاً : المقومات الاجتماعية :
تقوم فلسفة الاجتماع على عدد من القضايا المهمة وفي مقدمتها :
1 ـ الفطرة في كل متعلقاتها ( القلبية ، والنفسية ، والعقلية ، والجسمية ) .
" فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " [الروم: 30] .
ولا بد من إتاحة الفرص المناسبة لكل من الجنسين في ضوء هذه الفطرة .
2 ـ الكرامة الإنسانية الشاملة للجنسين . " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر " [ الإسراء :70] .
3 ـ المساواة بين الجنسين في المسؤولية والجزاء .
4 ـ القيم الخلقية ( كالعفة ، والحياء، والنصح ، والأخوة ، والتعاون ) .
ثانياً : المقومات الثقافية ( العلمية ) :
1 ـ العلم النافع "وقل رب زدني علماً " [طه :114] . وفي الحديث ( اللهم إني أسألك علماً نافعاً ) .
2 ـ التربية الشاملة .
3 ـ مراعاة الفروق الجسمية ، والعقلية والنفسية ، لكل من الجنسين .
ولا أعتقد أنه يوجد اختلاف على أهمية تلك المقومات ، فليعذرني القارئ الكريم إذا اكتفيت بتلك الإشارات ، نظراً لضيق المساحة .
ولكي تتحقق المقومات هذه فإنه لا بد أن تكون الوسائل والآليات نحو تحقيقها متناسبة معها إذ "الوسائل لها أحكام الغايات" كما يقول علماء أصول الفقه .
فإذا ما أردنا السعي نحو تكوين مجتمع فاضل قائم على تلك الأسس وأشباهها ، فهل يمكننا تحقيق ذلك عن طريق الوسائل العبثية كالخرافة مثلاً أو مصادمة الفطرة والحس ، أو تجاهل الغرائز الإنسانية ؟
أو هل يمكننا ذلك عن طريق التغريب أو التقليد للأجنبي ؟ أو بتجاهل الحقائق الشرعية والعرفية ؟
والجواب معروف لدينا ولدى العقلاء ، إنه لا يمكن ذلك .
إذا تقرر ذلك فلنعد إلى الفرضيات السابقة .
1 ـ أن لكل من الرجل والمرأة خصائصه .
2 ـ ولكل عمله اللائق به أو اختصاصه .
3 ـ إن العلم المشروع هو النافع الذي يستفيد منه الإنسان في حياته .
الفرضية الأولى : اختصاص كل من الرجل والمرأة بخصائص ، ولهذه الدعوى من الشواهد والبراهين الشرعية والطبية والنفسية ما يؤكد صحتها .
أما في الشرع فعلى رغم أن الخطاب التكليفي يأتي عامًا وشاملاً للذكور والإناث في معظم النصوص ، إلا أنه توجد أحكام خاصة بالمرأة في مجالات متعددة في الطهارة والصلاة والصيام والحج والميراث ، والشهادة والنكاح وغيرها .(/1)
ومن أراد التفصيلات فليراجع كتب الفقهاء . وقد ألف بعضهم "كالسيد صديق حسن خان" كتاباً خاصاً بالنساء أسماه : "حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة" .
وكثير مما ذكره صاحب هذا الكتاب هو من خصائص المرأة .
وأما الطب فقد أكد كثير من أطباء التشريح القديم والحديث أن للمرأة خصائص لا يشاركها فيها الرجل ، ومثلهم علماء الأحياء إذْ أثبتوا ببحوثهم أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء من الصورة والسمت والأعضاء الخارجية الى ذرات الجسم والجواهر (الهيولينية).
هؤلاء ، فضلاً عن علماء النفس الذين يؤكدون تميز المرأة بكثير من الانفعالات والعواطف ، كالتأثر بالإيحاء وسرعة الاستجابة للدوافع ، والاعتماد على الرجل .
( وللمزيد من الاستفادة يراجع كتاب : من إعجاز القرآن وليس الذكر كالأنثى . للأستاذ محمد الخشت ، وكتاب الحجاب للمودودي ) .
الفرضية الثانية : لكل من الجنسين عمله اللائق به وهذه الفرضية تنسجم مع الفرضية السابقة ، فما دام لكلّ منهما خصائصه ، فإنه يكون من الطبيعي أن لكل منهما اختصاصه . نعم يشتركان في كثير من شؤون الحياة ، لكن لكل منهما اختصاصات ، بحيث يكمل أحدهما الآخر .
ولعل ذلك مما تشير إليه النصوص الآتية : كقوله تعالى : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة " [البقرة :228] .
وقوله : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم "[ النساء : 34] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة) رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح الباب 81
الفرضية الثالثة : أن العلم المشروع هو ما يفيد الإنسان الذكر و الأنثى في حياته العاجلة والآجلة " وكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه " الموافقات للشاطبي: 1/61" .
فكثير من العلوم ، أو التخصصات العلمية لا تفيد المرأة شيئاً كعلوم الفلسفة والفنون .
وقد لا تكون لائقة بها كبعض التخصصات الإعلامية والسياسية ، والرياضية ، وربما لا تطيقها كالعلوم الصناعية ، والمهنية الثقيلة ، والعسكرية .
أما ما يتناسب مع أنوثتها وشخصيتها من العلوم فهو جائز وقد يكون مطلوباً بحسب حاجتها أو حاجة المجتمع إليه .
وهذا ما شددت عليه سياسة التعليم في المملكة ، فقد جاء في الفقرة التاسعة " تقرير حق الفتاة في التعليم بما يلائم فطرتها ويعدها لمهمتها في الحياة على أن يتم ذلك بحشمة ووقار، وفي ضوء شريعة الإسلام، فإن النساء شقائق الرجال " .
آليات التعليم :
إذا تقررت تلك الفرضيات وما استندت إليه من المقومات والتأسيسات المتقدمة فإنه يكون قد حان السؤال التالي : كيف يمكن ترجمة تلك الفرضيات ومقوماتها إلى واقع عملي ؟
وبصيغة أخرى : ما آليات تطبيق تلك الفرضيات ومقوماتها ؟
والحق أنه سؤال عريض ومسطح يتعذر علينا في هذه العجالة ضبطه وتحديده .
لكنني سأجتهد في تحديد مرادي منه محاولة في الوصول إلى شيء من النتائج المفيدة .
فلعله يكون من المفيد وضع محاور للانطلاق ، تساعد على ترتيب الأفكار.
وأظن أن أهم محاور العملية التعليمية:
أ ـ الطالب.
ب ـ المعلم.
ج ـ المدرسة.
د ـ المنهج.
ه ـ الإدارة والإشراف.
* أما فيما يتعلق بالطالب والمعلم فإن أهم آلية يجب اتخاذها ـ وفقاً للمقومات السابقة ـ الفصل بين الذكور والإناث ، سواء بين الطلاب والطالبات ، أو بين المعلمين والمعلمات ، أو بين المعلمين والطالبات ، أو بين المعلمات والطلاب في كل المراحل التعليمية.
وهذه قضية واضحة لا نزاع عليها في هذا البلد الكريم ، لارتكازها على النصوص الشرعية الواضحة.
ولذا فلن أتوقف عندها طويلاً ، وأكتفي بإيراد هذا النص من سياسة التعليم ، ففي الفقرة الخامسة والخمسين بعد المائة جاء ما يأتي : "يمنع الاختلاط بين البنين والبنات في جميع مراحل التعليم ، إلا دور الحضانة ورياض الأطفال " .
وقد أثبتت هذه التجربة نجاحاً منقطع النظير.
* وأما فيما يتعلق بالمدرسة ، فإن مقتضى المقومات السابقة أيضاً أن يكون لكل من الجنسين مدارس خاصة بهم ، لا تسمح بالاختلاط مطلقاً ، سواء في أوقات الدراسة ، أو في أوقات الفسح أو بعد الخروج من المدرسة.
وهذه آلية مكملة للآلية السابقة ، ولا نزاع عليها بحمد الله ، وواقع التعليم ـ بفرعيه الذكوري والإناثي ، خير شاهد.
* وأما ما يتعلق بالمنهج ـ وهو محور أساس في العملية التعليمية ـ فإن ما تقرر من مقومات ومن فرضيات صحيحة يقتضي أن لكل من الجنسين منهجاً مميزاً يراعي خصائص كل منهما وقدراته واستعداداته الفطرية (ينظر: قولي في المرأة للشيخ مصطفى صبري ص 81).
وبنظرة سريعة على واقع مناهج التعليم عندنا تظهر الفروقات الكثيرة بين مناهج الذكور ومناهج الإناث ، وهذا من باب اختلاف التنوع ، لا اختلاف التضاد.(/2)
فإن قال قائل: إن الخطاب الشرعي (قرآناً وسنة) جاء عاماً وشاملاً للرجل والمرأة.
فنقول: هذا قول صحيح ، لكنه ليس على إطلاقه ، بل ثمة نصوص ثم أحكام كثيرة تخص جنساً دون جنس . وهذا معروف لدى الفقهاء والأصوليين .
ولعل فيما تقدم في الفرضية الأولى ما يغني عن التكرار.
الأمر الذي يؤكد اختلاف منهج البنين عن البنات ، في جملة المواد ، ولا سيما مواد التربية الإسلامية . وكذلك التخصصات إذْ ليست كلها لائقة بالمرأة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
* وأما فيما يتعلق بالإدارة والإشراف العام على التعليم ، فهذه المسألة هي بيت القصيد .
فهل من المناسب أن يكون لتعليم البنين إدارة مستقلة ، وإشراف مستقل ؟ أو أنه يمكن وضع إدارة واحدة "رجالية" تديرهما؟
لقد كان تعليم البنات منفصلاً في إدارته عن تعليم البنين منذ إنشائه قبل أكثر من أربعين عاماً حتى صدر الأمر بالدمج مؤخراً.
وهذا الإجراء يستدعي طرح التساؤلات التالية:
(1) هل الفصل بين الإدارتين ( الرئاسة والوزارة )كان من منطلق شرعي أم من منطلق عرفي ؟ وإذا كان الأول فما مستنده الشرعي؟
(2) ما مبررات الدمج ؟
(3) هل كان الفصل بينهما يمثل حرجاً معنوياً على المجتمع والدولة ؟ أو حرجاً (عبئاً) مادياً ؟
(4) ما الآثار السلبية المتوقعة من الدمج ؟
ولنأخذ هذه التساؤلات متسلسلة .
التساؤل الأول : هل كان الفصل بين الإدارتين من منطلق شرعي أو من منطلق عرفي؟
والحق أنه سؤال في غاية الوجاهة ؟
فإذا تقرر لدينا عدم جواز الاختلاط بكل صوره وتقرر وجود التميز في تعليم المرأة في كثير من أشكاله ومضامينه ، حسبما مر معنا ، فهل يمكن بعد هذا أن يقال مثل ذلك في الإدارة والإشراف ؟
إن الحديث عن الإدارة والإشراف على تعليم البنات له جانبان :
الأول : من حيث التأنيث والتذكير.
الثاني : من حيث الاستقلال.
فمن جهة التأنيث أو التذكير ، فالأمر فيه سعة من وجهة نظري ، فمن الممكن أن يقوم عليها الرجال ، كما يمكن أن يقوم عليها النساء .
فمسألة تأنيث الجهاز الإداري لتعليم البنات أمر اعتباري ينظر فيه إلى مصلحة التعليم ، إذا ما استثنينا قمة الهرم الإداري , التي تتطلب مواصفات القاضي ، والوزير .
ومن جهة الاستقلال فإنها مسألة فيها نظر .
فهل يمكن اعتبارها قضية شرعية أو عرفية؟
الحق أنها قضية شرعية وعرفية في آن واحد ، أما من حيث الشرع :
أ ـ فقد بان لنا أن تعليم المرأة قد امتاز عن تعليم الرجل بميزات واختص بخصائص ، فرضت عليهما الانفصال دون الاختلاط ، الأمر الذي يؤكد أن لكل منهما استقلاليته الواضحة ، ودمجهما يلغي هذه الاستقلالية .
ب ـ وهو (الاستقلال) شرعي بالنظر إلى المقاصد الشرعية .
" وقد ثبت بالاستقراء وتتبع الأحكام المختلفة في الشريعة أن القصد الأصلي لها هو تحقيق مصالح العباد وحفظ هذه المصالح ودفع الضرر عنهم ، على أن هذه المصالح ليست هي ما يراه الإنسان مصلحة له ونفعاً حسب هواه، وإنما المصلحة ما كانت مصلحة في ميزان الشرع لا في ميزان الأهواء والشهوات " الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص 378".
ومعروف أن المصالح تشمل:الدين والدنيا .
ووجه كون الاستقلال فيه مصلحة ظاهرة :
1ـ أنه يعبر عن سمْت المجتمع القائم على الفضيلة ، وعن سمْت الدولة المسلمة (رعاها الله ) .
2ـ وهو يمنح تعليم البنات شخصية اعتبارية ذات قوة لا تتوافر مع الدمج.
3ـ وهو يضفي على هذا التعليم صبغة إسلامية تبرزه أمام العالم ، وبخاصة العالم الإسلامي ، الذي يتطلع إلى وجود نماذج تحتذى يستفيد منها. والدمج يفوت تلك المقاصد أو المصالح .
4ـ ولأن "النظر في مآلات الأشياء "معتبر شرعًا"، فإذا كان الشيء يؤول إلى مصلحة كان مطلوبًا شرعًا كتعليم الفتاة بشكل عام .
وإذا كان يؤول إلى مفسدة ـ تحقيقًا أو غلبة ظن ـ فيكون ممنوعاً ، مثل تجاور مدارس البنين والبنات .
فإنه يترتب عليه الاختلاط من بعض الوجوه مما لا تدعو إليه الحاجة .
ومثل اختلاط الطلاب والطالبات في المراحل ( السنوات ) الأولى الابتدائية ؛ فإنه وسيلة إلى الاختلاط في بقية المراحل التالية .
فيكون ذلك وأشباهه ممنوعًا من باب سد الذرائع .
( ومعناه حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع من ذلك الفعل في كثير من الصور ) الفروق للقرافي: الفرق الثامن والخمسون .
وقضية دمج إدارة تعليم البنات بإدارة تعليم البنين ، ربما يؤول إلى ما هو أشد خطورة ، فربما قال قائل بعد فترة:
ما دامت الإدارة واحدة فلماذا لا تتحد المناهج ، ولماذا لا يخلط الطلاب والطالبات ، ولماذا و لماذا ؟؟
ومن هنا كان المؤسسون لتعليم البنات ـ وفي مقدمتهم الملك فيصل والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمهما الله ـ على وعي بهذه الأمور ، ولذلك اتخذت التدابير الاحترازية السليمة .
ذلك من حيث الشرع ، أما من حيث العرف والعادة فإن الفصل بين الإدارتين ملائم ذلك تماما .(/3)
(( والعوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا )) كما يقول الشاطبي ( الموافقات: 2/286 ) .
وتقاليد هذا البلد كثير منها عربي أصيل ، قد توارثته الأجيال ، وهي لا تقبل الاختلاط بين الجنسين مطلقًا .
التساؤل الثاني : ما مبررات الدمج ؟
الحقيقة أنني لم أجد مبررات رسمية يعتمد عليها ، وإنما هي وجهات نظر تعبر عن أصحابها وردت في بعض الصحف ، وربما يكون من أبرزها :
1 ـ تصحيح الأخطاء الإدارية المنسوبة إلى رئاسة تعليم البنات . 2 ـ نزع ما يسمى "بالعباءة الدينية" التي تتوشح بها الرئاسة .
3 ـ ترشيد الإنفاق .
4 ـ تحاشي الازدواجية المتمثلة بوجود جهازين مسؤولين عن التعليم العام في بلد واحد .
ويمكن مناقشة هذه المبررات بالآتي :
* أما من حيث تصحيح الأخطاء الإدارية المنسوبة للرئاسة فمعروف أن كل مؤسسة أو جهاز عامل لابد أن يعتريه الخطأ ، ولكن بنسب متفاوتة .
فهل يقال : أي مؤسسة أو جهاز يخطئ فيجب إلغاؤه أو دمجه مع مؤسسة أخرى ، إذن فيجب إلغاء جميع المؤسسات الاجتماعية لأنها تخطئ لا محالة .
أما العلاج الصحيح فهو محاسبة المخطئ ومجازاته بقدر خطئه وبهذا وحده تستقيم الحياة .
* وأما من حيث نزع "العباءة الدينية" عن الرئاسة فهذا بقدر ما يحمل من تهويل للأمر ، فإنه يعاكس التيار الاجتماعي ، إذ المجتمع متدين بطبعه في الجملة ، وهو إذ يعتز بذلك يرى أنه خيار لا بديل عنه .
ولذلك أصبحت الدولة بكل أجهزتها دولة مسلمة وقد جاء نظام الحكم ليؤكد هذه الحقيقة .
وحسبنا ما جاء في المادة الأولى : (( المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولغتها هي اللغة العربية )) ا.ه
ثم جاءت المادة السابعة لمزيد التوكيد (( يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة )) ا.ه
أليس ذلك يضفي الصبغة الشرعية أو الدينية على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها ؟
أو لسنا جميعاً ـ أفرادًا ومؤسسات ـ نرفض العلمانية ـ فصل الدين عن الحياة ـ ونعتز بديننا وعروبتنا ؟.
إنه ما دام الأمر كذلك فلماذا نتجاهل هذه الحقائق ونتنكر لها ؟؟
* وأما من حيث ترشيد الإنفاق ، فلا أدري كيف يحقق الدمج هذا المطلب ، أهو بدمج الطلاب والطالبات معاً ؟ أم بالاستغناء عن بعض المعلمين أو المعلمات ؟ أم بالاستغناء عن موظفي جهاز الرئاسة ؟
وعلى أي احتمال كان فإنه لن يحقق شيئا يذكر بقدر ما ينتج من سلبيات البطالة والفوضوية .
وإذا قيل بأن الترشيد يتحقق في الإنفاق على الكتب الدراسية بحيث إذا دمجت قلَّت التكلفة المادية فهذا غير واقع ؛ لأن كل طالب وطالبة بحاجة إلى كتاب في كل مقرر ، سواء كانت متفقة أو مختلفة .
على أن حجم الإنفاق على التعليم في أي دولة يعكس مدى اهتمامها فيه .
( ينظر : النساء المسلمات والتعليم العالي للأستاذ أنيس أحمد ص 83 . إصدار مكتب التربية العربي لدول الخليج ) .
* وأما من حيث تحاشي الازدواجية ، فإنها مسألة محل نظر .
فإن الازدواجية المذمومة ـ فيما أعتقد ـ وجود شيئين أو أكثر يضاد أحدهما الآخر أو يعوقه .
فأما إذا كانا يسيران في خطين متوازيين نحو هدف مشترك فهذا تنافس محمود ، وليس ازدواجية .
كما هو ملحوظ في واقع كثير من المؤسسات ، كالجامعات والمستشفيات وغيرها ، في كل دول العالم .
التساؤل الثالث : هل كان الفصل بين إدارة تعليم البنين ( وزارة المعارف ) وإدارة تعليم البنات ( الرئاسة ) يشكل حرجًا على المجتمع أو الدولة ؟
فقد يقال : إنّ الجواب عند من يهمه الأمر .
وبقدر ما يحمل هذا الجواب المختزل من واقعية ، إلا أنني أرى أنه لا مانع من إبداء الرأي فليسمح لي القارئ بذلك .
إن ما كنت ألحظه أن أسلوب تعليم المرأة كان مثار إعجاب الكثير من العقلاء ، بل إن منهم - وبخاصة من نساء الغرب -من كان ولا يزال ينادي بالتعليم غير المختلط ، بل بالوضع العام للمرأة في الإسلام .
ولولا ضيق المقام لذكرت شيئًا من ذلك .
ولمن يريد التأكد من ذلك يمكنه مراجعة :
ـ المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي ص 157 فما بعدها .
ـ يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة . "جيمس باترسون" وآخر .
ثم لو نظرنا إلى المسألة من وجه آخر ، لظهرت لنا حقيقة أكبر هي أن من جهل شيئا أو أنكره عاداه وحاربه ، وهذا هو واقعنا مع الغرب ومقلّديه، فإنهم ما زالوا ينقمون منا التزامنا بديننا وتطبيقنا له ، سواء في أمور الاعتقاد ، أو العبادة والسلوك ، أو المعاملات أو الحدود وغيرها .
فهل نصيخ لهم ونستجيب ؟
" يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين " [ آل عمران: 149 ـ 150]
هذا إذا كان الحرج معنوياً ، أما إن كان ماديًا فسبق الجواب عنه في التساؤل الثاني .(/4)
التساؤل الرابع والأخير : ما الآثار السلبية المتوقعة من الدمج ؟
وهو سؤال مهم ، وقد تختلف وجهات الناس في اعتبار الشيء ضاراً أو نافعاً ، إذا ما كانت المعايير خاضعة للمزاج وأهواء النفس ، أو قائمة على التفكير المجرد عن معايير الشرع .
فلنحاول وضع الأصابع على أماكن الألم ، كالطبيب في حرصه ورفقه ، متجاوزين الأمراض المتوهمة إلى الأمراض الحقيقية أو الظاهرة .
أزعم أن من الآثار السلبية ما يأتي :
1 ـ أن مثل هذا الإجراء يطبع في أذهان كثير من الناس أن الثوابت يمكن تحويلها إلى متغيرات ، وأنها إذا كانت ثابتة بالأمس فيمكن اعتبارها متغيرة اليوم .
مما يوحي بالتعلق بنظرية ( نسبية القيم والأخلاق ) مع أنها نظرية تحمل الفساد في نفسها .
2 ـ والدمج يعطي انطباعاً عاماً بأن المرأة لا تستطيع الاستقلال بنفسها وإدارة شؤونها , بل لابد من سيطرة الرجل عليها .
3 ـ والدمج يصهر إبداعات المرأة في إبداعات الرجل ، مهما يحاول المحامون عن المرأة إبراز أعمالها وآثارها , والتشدق بعبقريتها ، بل ستبقى ظلاً للرجل شاءت أم أبت .
بخلاف ما إذا كانت تعمل في محيط جنسها فإنها تبدع وتكتسب مهارات مختلفة .
4 ـ ثم أليس هذا الإجراء يتضمن تراجعاً وتنازلاً عن تجربة نادرة في هذا العصر ، أثبتت نجاحها وآتت ثمارها ؟
كما أنها تطبع في أذهان الكثيرين ـ من مواطنين وغير مواطنين , ومن مسلمين وغير مسلمين ـ بأن تجربة استقلال إدارة تعليم البنات قد أثبتت فشلها .
وقد تتسع دائرة هذا الانطباع أو التصور فيقوم الشك لدى أولئك في صحة مبدأ الفصل بين الطلاب والطالبات، وأنها تجربة قد تفشل في يوم ما .
وبالتالي لا يبقى لدى الناس ثقة بصحة تجاربنا .
5 ـ وربما اعتقد بعضهم بنظرية ( التغير الحتمي ) التي تقول بأن التغير آت لا محالة سواء في أمور الاجتماع أو السياسة أو الثقافة أو غيرها , وأن هذا التغير ذو طابع مدني ، يتخفف من أعباء الدين وتكاليفه شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه إلا مجرد المعرفة .
والزمن كفيل بتطوير الناس وإن أبو ا كما يقولون .
فاللهم غفرانك .
خاتمه :
وبعد .. فقد يتصور البعض بأن مسألة ( توحيد إدارتي تعليم البنين والبنات ) عادية أو صغيرة لا تستحق هذا الجهد أو الركض .
ولكنني أرى أن لها أهمية فوق ما يتصور أولئك ؛ لأن لها من الذيول والتبعات ما لا نهاية له .
وأخشى أن تكون نهاياتها تكرار تجارب غيرنا المأساوية التي انتهت إلى الإباحية والفوضوية .
والسعيد من وعظ بغيره .
وأخيراً فهذه رؤى استمددتها من نصوص شرعية ومقاصد وقواعد عامة ، تقبل التقويم والمناقشة .
والله ولي التوفيق .(/5)
تعليمنا والعلم المفقود
إن المتأمل في التعليم السائد اليوم سواءً كان على مقاعد الدراسة، أو حتى في حلق العلم ودروس المساجد يرى أن هناك إهمالاً عند الكثير في العناية بتعليم الرقائق والأدب والسلوك، وأنهم شغلوا كثيراً بتعلم المسائل والخلافيات وآراء الرجال، وصار الحديث في هذه القضايا من اختصاص الوعاظ القصاصين وحدهم، لذا غلبت علينا قسوة القلب، وفعلت الأهواء بنا ما فعلت إلا من رحم ربك، وهذه إشارات عاجلة تؤكد أهمية العناية بهذا الجانب من العلم، وضرورة تقريره ضمن مناهج التعليم إن كنا نريد أن تخرج لنا هذه البرامج علماء ربانيين.
إن هذا المطلب الملح تدفع إليه الحقائق الآتية:-
أولاً: طالب العلم داعية ومعلم بفعله قبل قوله
إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لايقف دوره على مجرد تيلبغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.
لهذا قال أبو العالية :"كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه" ([1])
بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته مطلباً أعلى من تعلم المسائل، قال إبراهيم:"كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله" ([2])
وقال ابن سيرين:"كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" ([3])
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن :"نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث" ([4])
وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال:"يابني اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه احب إلي من كثير من الحديث" ([5])
فكم يترك أثراً على تلامذته، وعلى عامة الناس من خلال هديه وسمته، وسلوكه وعمله، بل وكم يمحو الخلل في سلوكه الكثير الكثير مما يدعو الناس إليه بقوله.
ثانياً: عوائق في وجه طالب العلم
يتعرض طالب العلم لمزالق خطيرة وعوائق تعرض له كما تعرض لسائر الناس، بل هي ربما كانت في حقه أخطر ومنها:-
1 - الإعجاب بالنفس، وهذا عافنا الله عنوان الضلالة وبداية الشطط والانحراف، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان إنما طرد من رحمة الله وكتبت عليه اللعنة إلى يوم الدين بسب العجب والغرور الذي قاده للاستكبار عن أمر الله.
قال الغزالي:"والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب" ([6])
2- الحسد، وهو خصلة ذميمة وصفة قبيحة يسعى الشيطان إلى إهلاك الصالحين بأن يقذفها في قلوبهم.
3 - الهوى، وحين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً.
4 - لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ولهذا أخذ الله المواثيق على الذي آتاهم العلم ((وإذ أخذ الله ميثاق الذين آتوا الكتاب لتبننه للناس ولا تكتمونه)) وتوعد الذين يكتمون العلم فقال ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد مابيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)) ولم يقبل تبارك وتعالى توبة هؤلاء إلا بشرط البيان فقال ((إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم))
5 - التوصل بالعلم للأغراض والمكاسب الشخصية، ولهذا توعد الله تبارك وتعالى أمثال هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ((إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولايكلمهم الله يوم القيامة ولايزكيهم ولهم عذاب أليم.أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما اصبرهم على النار)) ولله در الجرجاني رحمه الله حين قال :-
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلماً
إذا قيل هذا مورد قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الضما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
وليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، فهذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها، فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلم طالب العلم مايكون له وسيلة لتجاوزها؟ أما أننا نعنى بإعطائه الأداة ونهمل بناء النفس التي تحمله؟
ثالثا: صفات أهل العلم في القرآن
إن التعلم يهدف للرقي بالمرء إلى منازل أهل العلم، فما صفاتهم في كتاب الله عز وجل؟(/1)
أ- فهم يسجدون لله ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته ((قل آمنوا به أو لاتؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليه يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)) إنه ليس هدياً خاصاً بهذه الأمة؛ بل هو سنة في من كان قبلنا.
وقال عبدالأعلى التيمي :"من أوتي من العلم مالايبكيه لخليق أن لايكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم قرأ القرآن ((إن الذين أوتوا العلم... إلى قوله ... يبكون)) ([7])
ب - والعلماء هم أهل الخشية لله سبحانه وتعالى ((إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله غفور رحيم))
ج - والذين يعلمون يقنتون لله سجداً وقياماً، يحذرون عذابه ويرجون رحمته ((أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولو الألباب))
أليس من واجب طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وأن يتطلع إلى هذه المنازل؟ فهل في تعليمنا ما يحققها لديه ويغرسها في نفسه؟ ونعوذ بالله إن كان فيه ما يمحو بقية أثرها ويزيله فهذا عنوان البوار والهلاك.
رابعاً: العناية به في عصر النبوة
ويصور لنا ذلك أحد شبان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، وأنهم كانوا يعنون بتعلمه، فعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا ([8])
فهو يذكر لنا رضي الله عنه جانباً هاماً من جوانب التعلم والتي قد غفل عنها كثير من طلبة العلم اليوم، فأهملوا تعلم الإيمان ومسائله، وشعروا أن العلم إنما يتمثل في تعلم مسائل الأحكام وحدها، والعناية بجمع آراء الرجال واختلافهم حول مثل هذه المسائل، ونسي أولئك أصل الأصول وأساس الأسس، لذا فلا نعجب حين ندرك هذا الخلل أن نرى عدم التوافق بين ما يحمله بعض الناس من العلم وبين سلوكه وسمته.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لايقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يارسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا. فقال:"ثكلتك أمك يازياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما ذا يغني عنهم؟" قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً ([9])
وانظر رحمك الله كيف عد عبادة بن الصامت رضي الله عنه الخشوع علماً، وأنه أول علم يرفع.
ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث إذ يقول:" لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات ([10])
والشاهد من الحديث أن تلك المجالس التي كانوا يجلسون فيها مع النبي صلى الله عليه و سلم كانت تبلغ بهم إلى هذه الحال.
خامساً: عناية السلف به
ولقد كان السلف رضوان الله عليهم يعنون بذلك فهاهو ابن مسعود رضي الله عنه يقول:"ليس العلم بكثرة الروية، إنما العلم خشية الله" ([11])
ومالك رحمه الله يقول:"العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل"([12])
وقال أيضاً:"إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله" ([13])
وقيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه ([14])
ولعل من صور عناية السلف به أنك لاتكاد تجد كتاب حديث يخلو من أبواب الزهد والأدب والرقاق، بل وصنفوا مصنفات خاصة في ذلك (كالجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب ، والمحدث الفاصل للرامهرمزي، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر، وأخلاق العلماء، وأخلاق أهل القرآن كلاهما للآجري)(/2)
فهل نعيد الاعتبار لهذا العلم المفقود؟
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (409)
([2]) جامع بيان العلم وفضله (1/127)
([3])جامع بيان العلم وفضله (1/127)
([4])جامع بيان العلم وفضله (1/127)
([5])جامع بيان العلم وفضله (1/127)
([6]) إحياء علوم الدين (1/49)
([7]) أخرجه الدارمي (296)
([8]) رواه ابن ماجه (61)
([9]) رواه الدارمي (293)
([10]) رواه مسلم(2750)
([11]) جامع بيان العلم وفضله (2/52)
([12])جامع بيان العلم وفضله (2/52)
([13]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/156) وانظر آداب طالب العلم لمحمد رسلان
([14]) أخرجه الدارمي (300)(/3)
تعيّن الجهاد و مشروعيّة عمليّات الاستشهاد (1)
الخطبة الأولى
أمّة الإسلام !
يوماً بعد يوم تُمتهن كرامة الأمة ، و تهون دماء أبنائها و ديارهم و أعراضهم و مقدساتهم على الأعداء ، و تتداعى عليهم الأمم من كلّ حدب و صوب ، تصوّب سهامها إلى نحورهم ، و تلِغ في دمائهم ، و نحن حيارى بلا خيار ، و سكارى بلا قرار .
يستصرخنا القدس و أهله ، تتحشرج في نفوسهم الحسرة ، و تعتلج في حناجرهم الكلمات ، فيغصون بالدموع ، و يبكون الأمس و اليوم و الغد المجهول .
حتّام يا قُدساه جرحُكِ يَنزفُ *** و إلامَ يَرشُف من دماكِ الأسقُفُ ؟
خمسون عاماً قد مضينَ و نيّفُ *** و العُرب صرعى و المدافع تقصفُ
أيّها المسلمون !
إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة ، و جعله فريضةً قائمة على التعيين أو الكفاية ، ماضيةً إلى يوم القيامة مع كلّ برّ و فاجر لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى .
و من أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر ، غياب فريضتين جليلتين تردّت الأمّة بفقدها في دَرَكات الذل و الهوان ، و تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، و هما تنصيب الإمام العادل خليفة المسلمين ، و النفرة للجهاد في سبيل الله تعالى ، لفتح البلاد و قلُوب العباد ، و الإثخان في أهل الكفر و الإلحاد و العناد .
و تعيّن الجهاد في عدد من الأمصار الإسلاميّة فهبّ المسلمون لنصرة أهلها ، و نفروا خفافاً و ثقالاً ، يدفعون عن إخوانهم صولة العدوّ ، و يشاركونهم شَرف الذود عن حُرُمات المسلمين ، و الإثخان في العتاة المجرمين ، فمنهم من قضى نحبَه و منهم من ينتظر مرابطاً على الثغور في أفغانستان و الشيشان و الفلبين و الصومال و البوسنة و غيرها .
و مع ما تمخّض عنه الجهاد من خيرات رُغم قلّة النصير ، و كثرة النكير ، فإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ و غَربه ، و لا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم ثغر جديد هنا أو هناك ، فيهب لسدّه شبابٌ باعوا نفوسهم لله ، و ذاقوا حلاوة التضحية و الجهاد ، فغبّروا أقدامهم في سبيله ، و عفّروا جباههم بتراب الرباط في ميادينه و على ثغوره ، غير آبهين أو مبالين بصَلَف الطغاة ، و ملاحقة البغاة ، و تخويل بعض الدعاة .
بل تراهم رهباناً في الليل ، فرساناً في النهار ، يقارعون الباطل ، و يصرخون في وجه أهله ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) [من سورة التوبة الآية 52] .
و إذا لهث القاعدون حول حطام الدنيا ، و تزاحموا بالأكتاف و الأقدام على أبواب الرزق و أسبابه رأيت أهل الثغور أكثر اطمئناناً و إيماناً و تسليماً ، يستحْلون مرارة الرباط ، و يحتملون شظف العيش ، و لا يلتمسون من الدنيا و حطامها إلا ما يلقون تحت ظلال الرماح ، يحدو ركبهم خير البشر ، و أمير الظفر ، الذي قال فيما رواه البخاري معلّقاً و أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم : « جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى » . فطوبى لمن بايعه على ذلك أو بايع من بايع عليه . ثبت في الصحيحين و سنن النسائي و الترمذي و مسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه : عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ قَالَ : عَلَى الْمَوْتِ .
فيا حُسنَها من بَيعةٍ ، و يا طِيبَها من مِيتة ، ترى الواحد ممّن ارتضوها يمني نفسه و يؤمّل صاحبه في النصر و التمكين ، و يشدّ على يديه مبايعاً على الصبر و الثبات ، فلا يهولهم جَلل المُصاب ، و لا يسوؤهم الوصف بالعنف و الإرهاب ، و لا يزعزع عزائمهم ، أو يفت في عضُدهم ، سفك الدماء و تطاير الأشلاء ، ما دام ذلك في سبيل الله ، ابتغاءَ مَرضاته ، و رَجاء رِضاه .
و لستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً *** على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ *** يبارك على أجزاء شِلوٍ مُمَزّعِ
و إذا كان الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، أو حزام ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
إني بذلت الروح دون كرامتي *** و سلكتُ دَربَ الموتِ أبغي مَفْخَرا
و غَرَستُ في كفّ المنيّة مُهجتي *** و رَوَيْتُ بالدم ما غَرَستُ فأزهرا
هذا فداء القدس أن يُجدي الفِدا *** و لتُربِ كابولٍ أقدّمُه قِرى(/1)
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
غير أنّ من بايعوا الشهيد على هذه الطريق و خَلفوه عليه ، يعزّ عليهم فراقه ، فيبكيه رفاقه ، و يسوؤهم أن لا تُوارى بين ظهرانيهم رُفاته ، و يسوؤنا أكثَر سماع من يشكك في مشروعيّة عَمَله ، و يصدّ الناس عن بلوغ هدفه ، بدعوى أن فعلته انتحاريّة ، و أن ميتته جاهليّة .
و كيف تكون كذلك و قد عرف مثلها عن السلف فأكبروا همّة من من قام بها ، و أوسعوه مدحاً و ثناءً ، و حمَل عددٌ منهم قوله تعالى : ( و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد ) على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرَّر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب لأنصاري و أبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود و الترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم .
استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ، و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً في نيّته ، و حكماً على ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .
و إذا كانت النفس البشريّة مُلكٌ لبارئها و خالقها ، و أنّ العبد مؤتَمَنٌ عَليها ، ليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
عباد الله !
لم يَرَ مُعظم أهل العلم المتقدمين بأساً في الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، و ممّن انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول )
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فطوبى لهم مرافقة نبيّهم في الجنّة .
قال الإمام الغزّالي ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل .... و إنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتكسر بذلك شوكتهم ) .
و من منظار المصالح و المفاسد أيضأ ، نرى أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .(/2)
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ( فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و نقل ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، و نقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
و نقل الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
و قال الإمام القرطبي : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجحفة وألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ] .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
فإذا سلّمنا بهذا فلا ننسى الوقوف إلى جانب إخواننا في بيت المقدس و أكنافه في الظروف العصيبة التي يمرون بها اليوم ، حيث تراق الدماء و تنتهك الحرمات و تدنّس المقدّسات ، و لو بالدعاء أو العطاء .
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أمّة الإسلام !
إن الأصل في المسلم أن لا يكفّ عن تحديث نفسه بالجهاد ، و تهيئة نفسه له إعداداً و استعداداً ، و التطلّع إلى الشهادة في سبيل الله ، فقد روى أبو داوود بإسناد صحيح عن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » .
النَفسُ تَبغي في الحياةِ مُناها *** فإلامَ نَلهثُ يا أخيَّ وراها
مَنَّيْتُها دارَ الخلود فأيْقَنَت *** أنْ لستُ أتْبَعُ في الحياة مُناها
يا ضربةً بالسيف تفلِقُ هامةً *** في اللهِ بين عشيّةٍ و ضُحاها
تُرقي إلى الجنّات صاحبَ همّةٍ *** عَلياءَ كلُّ الخَيرِ دونَ عُلاها
و من واظب على ذلك ، فلن يدّخر وسعاً في السعي إلى نيل مناه ، و ربّما دَفعه حبّ الشهادة و التطلّع إليها ، إلى أن يجود بنفسه في عمليّة يغلب على ظنّه أن تُقِلّه إلى مراتب الشهادة في سبيل الله ، ليلقى ربّه محباً للقائه ، روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » ، و حاشاه تعالى أن يُخلف وعده ، أو يكره لقاء عبدٍ جاد بنفسه في سبيله تعالى .
و لا أزعم – يا عباد الله - في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و تقدّم عرض الإمام القرطبي لقول المخالف فيها ، و ذهابه مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها.
و من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كعلامّة نجد الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابًّ مجاهد فجّر نفسه في فلسطين فقتل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .(/3)
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف محدّثِ الديار الشاميّة العلامّةِ الألباني رحمه الله ، و قد تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة لهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون – أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... بل هذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة... ) .
إلى أن قال رحمه الله : الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
من و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون و ترجون من الله ما لا يرجون ) .
عباد الله !
روى الستّة و أحمد عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الجهني - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » ، فإن فاتكم شَرف الرباط فلا يفوتنّكم شرف الإمداد ، و لنكن متعاونين على الخير ، متسابقين إليه ، فـ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) كما قال تعالى ، و ( ما نَقَص مالٌ من صدقة ) كما قال نبيكم الأمين في ما رواه مالك و أحمد و الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عضمنا من الضلالة و الزلل
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
---------
(1) ( خطبة الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب في مسجد دَبلِن بإيرلندا في التاسع و العشرين من شهر الله المحرّم عام 1423 للهجرة ، الموافق للثاني عَشَر من نيسان 02 20 للميلاد )
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/4)
تغيير الجنس جراحياً
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الفتاوى الطبية/مسائل طبية معاصرة
التاريخ ... 21/07/1427هـ
السؤال
شخص عمل عملية تغيير جنس فتحول من رجل إلى أنثى. وفي ذلك الوقت كان غير مسلم والآن دخل في دين الإسلام.
ومعلوم أن جميع الذنوب التي قبل الإسلام تمحى وتهدم وهذا الشخص يرغب في الجلوس مع النساء لكن احدى قريباته وبعض النساء يعارضن ذلك لكونه ما زال رجلا أمام الله.
فكيف نعالج هذه المشكلة ؟ هل نعتبر هذا الرجل امرأة الآن بعد العملية الجراحية أم لا؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن كان تغيير الرجل لجنسه وقت كفره فضولياً حيث لا يجد في نفسه داعياً لذلك غير الفضول وحب الشهرة وعلامات الرجولة عليه أكثر وأمكن للجراحة الطبية إعادته إلى حالته الطبيعية الأولى (قبل أن يتحول إلى أنثى) فيتعين عليه حينئذ العمل على العودة إلى ما سبق؛ لأن فعله تغيير لخلق الله، وبقاؤه على هذه المعصية بعد الإسلام لا يجوز؛ لأن الإصرار على هذه المعصية كبيرة من كبائر الذنوب.
أما إذا كان تحوله من رجل إلى امرأة تحولا حقيقياً -لا فضولياً- حين ظهرت عليه علامات الأنوثة أكثر من علامات الرجولة فلا حرج عليه في هذا، ولا ينبغي حينئذ لقريباته من النساء وغيرهن النفور منه أو معارضته في ذلك إذا ظهرت عليه علامات الإنوثة؛ من بروز الثديين واختفاء الخصيتين والذكر، وظهر له فرج كفرج المرأة محلهما. وهذا هو المعروف في الشرع بوصف (الخنثى المشكل) وقد تبينت حاله حينئذ فصار أنثى فيعامل معاملة المرأة. والله أعلم.(/1)
تغيير المناهج ماله وما عليه
الحلقة الأولى
شبكة الفرسان الإسلامية
رغم حضارتنا الإسلامية العظيمة, إلا أن المجتمعات الإسلامية تعاني بصفة عامة من التخلف في كافة المستويات السياسية والإقتصادية والصناعية والعلمية, بل نحن نعترف بالقصور في تطبيق الشريعة الغراء, ومما يزيد تخلفنا سوءاً تعرض بعض بلداننا للإحتلال الصهيوني والصليبي, كما أن البعض الآخر واقع تحت التهديد المباشر والصريح من قبل الهيمنة الأمريكية ومن حالفها, أضف الى التهديد غير المباشر والمبطن للبعض الآخر, ففي ظل هذه الأزمات والظروف العصيبة التي لا نحسد عليها, تأتي قضية تغيير مناهج التعليم, ومع هذه القضية نطرح الأسئلة الآتية:
1- ما هو المقصود فعلا بتغيير مناهج التعليم في البلاد الإسلامية؟
2- وهل هذا التغيير ناتج من هيمنة الغرب أم انه قرار ذاتي يفرضه التطلع نحو مستقبل أفضل؟
3- وهل هذا التغيير سيكون حلا جذريا لمشاكلنا بحيث ينقلنا الى وضع أفضل أم انه إجراء تلفيقي يؤخر أكثر مما يقدم؟
4- هل نحن على استعداد لتغيير المناهج بما يحقق مصالحنا أم أنه محاولة لإسترضاء الغرب, وبالتالي هل نحن عاجزون عن تحقيق مصالحنا؟
5- ما هي المصالح المستهدفة فعلا من المطالبة بتغيير مناهج التعليم؟
6- ما هي سلبيات مناهجنا الحالية وما هي إيجابياتها؟ وماذا إستفدنا منها وبماذا أضرتنا؟ والأسئلة كثيرة ولكن فيما سألناه كفاية لتسليط الضوء على هذا الموضوع الحساس, ونسأل الله التوفيق في تحري الصدق والحق فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فمن عند أنفسنا, وعلى أهل الإختصاص مشكورين أن يتكرموا علينا بتصحيح أخطائنا وأجرهم على الله تعالى.
المسلمون أمة مميزة عن غيرها بإعتبارها صاحبة الرسالة الخاتمة والخالدة والشاملة, فكل حياة المسلم فرداً كان أو جماعات مربوطة ربطا وثيقا بتعاليم الإسلام من كلمة لا اله الا الله محمد رسول الله إلى إماطة الأذى عن الطريق فمراقبة رضى الله وسخطه فيما نقول أو نفعل أو نترك أمر لايمكن لمسلم أن يتغافل عنه لإرتباطه بمصيره في الآخرة يوم الحساب ولإرتباطه بحياته الدنيا قبل الممات.فمن أعرض عن تعاليم الإسلام فإن له معيشة ضنكا في الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى. فهذا المبدأ هو بمثابة مقدمة ضرورية قبل الخوض في أمر ذي بال يتعلق بحياة المسلم أو تعليمه أو تربيته. ولكي نكون مسلمين جديرين بالإحترام والتقدير سواء احترامنا لأنفسنا أو احترام غيرنا لنا فعلينا ان نكون أولاً ذوي شخصية اسلامية تحترم اسلامها وتتعلمه وتعمل به حسب وسعها وإمكاناتها وهدفها الأكبر عبادة الله وطاعته وطلب مرضاته لأنه خالقنا وولي أمرنا وهو وحده بيده النفع والضر.
فإذا وجدت هذه الشخصية المسلمة فإنها وبوازع من دينها ستسعى الى الخير والفلاح والتقدم مستمدة العون من الله وعينها تنظر الى مرضاة الله. وهذا قد أثبت التاريخ حدوثه مع أسلافنا فكتب الله لهم التمكين في الأرض ونصرهم وصاروا أرباب العلم والتقدم والحضارة.
فإذا ابتغى المسلمون عزا بغير مرضاة الله ذلوا, ولو كانوا أكثر عددا ومالاً.
فنحن المسلمون علينا أن نوازن بين العلم والتقوى, والدنيا والآخرة, والقتال والسلام, لأننا أمة وسطا. إذن نحن في حاجة الى تعليم المسلم ما يجعله صاحب شخصية اسلامية وعقلية اسلامية, العلم في عقله والإيمان في قلبه, فهل حققت مناهجنا التعليمية هذه المهمة؟ وهل فعلا نحن نسعى لإيجاد الشخصية المسلمة عبر تعليمنا أم أن الأمر ضاع بين الإفراط في المناهج وتفريطها؟
هذا سؤال يحتاج إلى شجاعة وصراحة, فكم جنينا على الدين بإسم الدين, وكم علمنا الجهل بإسم العلم فكان الخريج من ذلك المنهج العقيم مسخا غريباً فهذا خريج لا يعرف ولا يعترف إلا بصواب مذهبه, وذاك خريج علماني لا يهمه أمر الدين في كثير ولا قليل, وذاك خريج يتبع هوى السياسة ولايعرف سوى الخضوع للحكومة أصابت أم أخطأت, وغيره خريج عميل تعلم وتتلمذ على أعداء الإسلام والمسلمين وصار معول هدم وخراب بيننا, أليست هذه مشكلة نابعة من داخل البيت؟ وقد تم السكوت عليها لأنها تصب في مصالح من سكتوا وعملوا على إيجادها, ولايزالون يتبجحون أنهم فتحوا المدارس وخرجوا عدد كذا وفعلوا كذا, وكل ذلك طنطنة دعائية جوفاء..أين المناهج التي تعلمنا أن ندافع عن أنفسنا بما نستطيع عند التعرض للعدوان؟ علما بأن العدوان لايتوقف على المسلمين.أين المناهج التي تعلمنا أن نحترم كل من قال لا اله الا الله؟ أين المناهج التي تعلمنا أن نحترم العلم وأهله وإن كان رأيه مخالفا طالما أنه يحتمل الصواب؟ أين المناهج التي تكشف عن أخطائنا وعيوبنا لنعالجها بدلا من أن كل دولة مسلمة تتبجح بأنها فعلت وفعلت وتقدمت وتطورت...أين المنهج الذي يتخرج منه الدارس وقد تعلم مراقبة الله في أفعاله الظاهرة والباطنة؟ أين النقاط الإيجابية في مناهجنا؟ وأين الدراسات التي تتابع ذلك لمعرفة نسبة النجاح من الفشل؟(/1)
فنحن في غالب أمرنا مازلنا نتخبط ولانصارح ولسنا جادين في معرفة المشاكل وحلها فوراء كل مشكلة مستفيدون , والخلاصة: لابد من ترتيب البيت من الداخل فما فيه الصلاح بقي وماعداه فلا حاجة لنا به. وليكن هدفنا الأساسي تربية المسلم بالتربية والتعليم ليكون مؤمنا متعلما, يعبد ويعمل, ويوازن بين المادة والروح والدنيا والآخرة وأن يكون عقله متفتحا لا منغلقا. وسنزيد الأمر إيضاحا في ورقة أخرى بإذن الله فإلى اللقاء.
الحلقة الثانية
شبكة الفرسان الإسلامية
إيجاد الشخصية المسلمة هي الهدف الأساسي من العملية التعليمية في بلاد المسلمين حفاظا على دينها وإمتثالا لشريعتها الغراء. وعندما نقول هدفا أساسيا فهذا يفتح المجال لأهداف أخرى كأن يتعلم المسلم بعد ذلك أو مع ذلك ما شاء من العلوم النافعة والتي نراها فروض كفاية لكي يكون العلم الدنيوي مبنيا على علم ديني يعرف تقوى الله ومرضاته.
ماذا يستفيد المجتمع من طبيب أو مهندس أو محام أو فنان أو صحفي لايعرف تقوى الله؟ فإذا كان أساس التعليم يزرع الشخصية المسلمة تفادينا الكثير من المشاكل لمصالحنا جميعاً.
نحن نريد من التعليم أن يؤكد إسلامنا وهويتنا وأصالتنا وأخلاقنا الكريمة, فإذا نال الطالب الجرعة المناسبة لذلك صار مؤهلا لنيل بقية العلوم فمثلا على العربي أن يتعلم لغته العربية حتى يجيدها وبعد ذلك يتعلم ما شاء من اللغات الأجنبية, فالأولى لتأكيد الشخصية والهوية والثانية لضرورات الحياة وتلقي العلوم ومعرفة مخاطبة الغير.
عند تعلم اللغات الأجنبية لابد من دراسة مادة يتعلم فيها الطالب المصطلحات الدينية وكيف يتحاورفي بعض المسائل الدينية فنحن كما ذكرنا أصحاب رسالة وعلينا أن نستفيد من كل ما نستطيع من أجل الحفاظ عليها وتبليغها, ولكننا نرى الكليات التي تعلم اللغة الأجنبية تتناول مسرحية شكسبير وغيره ولا يتعلم منها الطالب المسلم شيئا عن المصطلحات الدينية فضلا عن المحاورة. فلماذا هذا القصور؟ فنحن لا نعير إهتماما بالشخصية المسلمة. وأخطر من ذلك أن يتلقى الأطفال لغات الأجانب قبل تعلم لغتهم العربية لأن اللغة جزء هام في تكوين الشخصية والعقلية, وهم يحتجون على ذلك بكون الأطفال يسهل تعليمهم قبل كبر سنهم, ونحن لانعارض تعلم اللغات ولكننا نرى تأجيله ريثما تتكون الشخصية المسلمة في الطفل ثم أمامه من العمر ما يكفي لتعلم ما يريد.
وفي جانب آخر نرى أن الدولة مهتمة بتعليم مذهبها الديني وهذا قاسم مشترك, فكل دولة لها مذهب ومدرسة تعمل على تعليمها وأحيانا نشرها للخارج فماذا نلاحظ على ذلك؟
ما هي المسائل التي يتفق عليها المسلمون جميعاً؟ كنقاط رئيسية بعبارة أخرى ما هي الأصول التي يتفق عليها أهل السنة فيما بينهم؟ وما هي الأصول التي يتفق عليها أهل الشيعة فيما بينهم. وأين الإتفاق أو الإختلاف بينهما؟ وما سبب الإختلاف؟ وماذا سيؤدي إليه هذا الإختلاف هل هو مجرد إختلاف في المفهوم أم لا؟
فالمسلمون منقسمون الى مذاهب ومدارس وهذا لا ينكره إلا مكابر, فلماذا لايعرف المسلم في ماذا نتفق؟ وعلى ماذا نختلف؟ وما سبب خلافنا؟ وما نتائجه في اسلوب علمي مبسط بعيد عن الطعن واللمز؟
ففي مسائل الخلاف بين المسلمين لا يوجد حق وباطل بل يوجد غلب على ظني الصواب في هذا القول او غلب على ظني الخطأ. طالما أن القولين يستندان الى الكتاب والسنة فنحن نعلم أبنائنا مبدأ الحق والباطل في مجال لايزال فيه الدليل الشرعي ظني وليس قطعيا مما ينتج عنه التعصب ورفض الرأي الأخر.
أليس لشيعة مزايا طيبة؟ أليس للسلفيين مزايا طيبة؟ أليس للتصوف مزايا طيبة؟ ثم أليس في كل ما ذكرنا شيئا من السلبيات أو العيوب؟ لماذا لاتحتوي دراستنا هذه الأمور؟ ولماذا لانزال نصر على أن الطرف الآخر كافر مشرك مبتدع بالجملة؟ أليس في المسلمين من خلط عملا صالحا وأخر سيئا؟ لماذا نشهر بأخطاء غيرنا ولانذكر محاسنه؟ هل هذا أدب العلم عند المسلمين؟ ولماذا نخفي عيوبنا ونضخم محاسننا؟ هل هذا من الأمانة العلمية في شيء؟
ثم ماذا يستفيد المجتمع من وراء تعليم متعصب؟ فالشيعة لن تتخلى عن تشعيها ولا الصوفي عن تصوفه ولا السلفي عن سلفيته فلماذا نزيد الجدران الفاصلة بينهم علوا وإرتفاعاً ؟(/2)
وأما في جوانب العلوم الأخرى كالتطبيقية فماذا نريد أن نتعلم منها ولماذا نتعلمه؟ إن العلم في تطور مستمر, فماذا نحذف من مناهجنا في هذا الجانب وماذا نضيف؟, وهل نحن نريد فعلا تعلم التقنية ومستجدات العلوم؟ وأين الخبرات العربية ومساهمتها؟ وأين الإستعداد المادي والمعنوي للأبحاث والدراسات العلمية والتجريبية؟ ومن هو الطالب الملائم ثقافيا ودينياً للسفر الى الخارج لأجل التعلم من الغرب؟ فكم من موفد للدراسة الى الخارج فعاد إلينا مسخا مشوهاً وكم من ذاهب للدراسة في الخارج لم يعد بعد ذلك, فالعلم كالطريق إذا كان هناك حاجة للطريق تم تعبيدها وإنشاؤها وإلا فما نفع طريق لا يسلكه أحد, وهل نحن لدينا من الدراسات والإحصائيات ما نحدد به الكم والنقص في ميدان العلم النافع ومن ثم توضع الخطط اللازمة لنتحصل على الخريج بالصورة المطلوبة التي تعود علينا بالنفع. فنحن نتطلع الى مستقبل أفضل على مستوى تكوين الشخصية المسلمة الجديرة بالإحترام فهو يعرف ربه ويتقن عمله على أساس من العلم والتقوى ولسنا في حاجة الى علم بلا ورع ولا أخلاق فإنه لا يزيد حالتنا إلا سوءاً. فهل نحن صادقون وراغبون فعلا في ذلك؟ ام أن الأمر لايتعدى طور الأحلام والتمنى وأحيانا التمويه والإدعاء والتصنع. وإلى ورقة أخرى بإذن الله.
الحلقة الثالثة
شبكة الفرسان الإسلامية
نحن في حاجة إلى تعليم تربوي ينتج لنا الفرد بشخصية وعقلية مسلمة ثم يتم تأهيله بما يتناسب وقدراته بالعلم الدنيوي النافع الذي يعود على الفرد والمجتمع بالنفع والصلاح تحت مظلة الشريعة الغراء.
ولكي ينعم المسلم مجتمعه بخيري الدنيا والآخرة ويحتفظ في هذا العالم بشخصيته المميزة وهذا المطلب لايحتمل الخبط العشوائي بل يتطلب الكثير من التفكير والتخطيط والإمكانات. فالتعليم الجيد والنافع والمناسب هو أفضل طريق نسلكه نحو مستقبل أفضل في الدنيا والآخرة, كما أنه أفضل ميدان للإستثمار البشري والمادي, فالتعليم الناجح يدر من الأرباح المادية والمعنوية أضعاف ما أنفق عليه. إن هذا التعليم الزاهر الذي نطمح إليه يحتاج الى مصداقية المجتمع ككل من حكومة ومؤسسات وأفراد, فمثلا لايجوز أن يقدم الإعلام مواد اعلامية مخالفة للمنهج التعليمي الرامي إلى إثبات الشخصية الإسلامية, إذ كيف نعلم التلميذ في المدرسة دروس العفة والشرف وتلفازنا مليء بالفحش؟ وكيف نعلمه سيرة عظمائنا والإعلام يفتخر بعرض عظمة الغرب؟ فينبغي إزالة التناقض بين هدف التعليم وهدف الإعلام, وكذلك لابد من المحافظة على الأداب الشرعية العامة في شوارعنا وحياتنا اليومية حتى لاتمحو مخالفاتنا الأثر الحسن الذي يسعى التعليم لإثباته في مشاعر التلاميذ, وأيضا على الأسرة أن تكون مصدقة لبرنامج التعليم لا مكذبة له بسوء تصرفنا وسلوكها المشين والمتضارب فليس التعليم الجيد عبارة عن مواد دراسية فقط لأننا نسعى ونطمح لتكوين الشخصية والعقلية المسلمة وهذه مسئولية الجميع. في المدرسة والبيت والشارع.
فالغرب الذي اختار العلمانية مبدأ له, تقيد بذلك في تعليمه وبيوته وشوارعه فصار الجميع يسيرون على مبدأ واحد رغم قصور وخطأ المبدأ الذي يسيرون عليه, ونحن لدينا المبدأ السليم ولكن لدينا من المخالفات ما يجعل المبدأ الإسلامي لا يعطي أثره في حياتنا بصورة مرضية ثم نأتي الى منهج التعليم ونطالبه وحده بأن يحل هذه المشكلة فهذا تصرف من يلقي اللوم على غيره و لايتحمل مسئولية قصوره وعجزه وكسله. وفي هذا الصدد تحضرني قصة واقعية أسردها بإختصار لنتحسس مدى خطورة الأمر: في بريطانيا تم تسكين طالب عربي ذهب الى هناك ليتعلم اللغة الإنجليزية وكان من برنامجهم أن يسكن هذا الطالب مع أسرة بريطانية فيحتك بها ويتعلم منها اللغة وآدابها وكان لهذه الأسرة طفل صغير, فقال له تعالى لأعطيك شوكولاته, فجاء إليه الطفل, وكان هدف الطالب أن يلاعب الطفل فقط ولم يكن قصده أن يعطيه الشوكولاته, فذهب الطفل إلى أمه وقال لها ان الطالب قال لي تعال لأعطيك شوكولاته ولم يعطني فما كان من الأم إلا أن ذهبت الى الإدارة المختصة وطالبتهم بإلغاء إقامة ذلك الطالب عندها قائلة: إن هذا الطالب يشكل خطرا على سلوك طفلي, فأنا اعلمه الصدق وهو بتصرفه ذاك يعلمه الكذب وأنا لست مستعدة أن يتعلم طفلي الكذب مقابل الأجرة التي تدفعونها لي فأرجوكم أن تستبدلوه بغيره شريطة أن يكون صادقا.
ودعونا الآن نتسائل ماذا تريد أمريكا من تغيير مناهجنا ولماذا تطالب بذلك؟(/3)
في البداية نقول إن هذا الطلب سابقة خطيرة تدل على عدم احترام أمريكا لاستقلالنا فهي تحشر أنفها في كل كبيرة وصغيرة من شئوننا, فهي ترى أن عالمنا العربي والإسلامي تابع لها وخاضع لسيطرتها وهو رهن إشارتها, فهذا الطلب يمس السيادة الوطنية بكل المقاييس فهؤلاء اليهود يعلمون أبنائهم ما شاءوا من تطرف وعداوة للغير, وكل دولة لها منهجها في أن التعليم دون أن يتدخل أحد فيه , وهي وحدها تتحمل نتائج مناهجها سلبا أو إيجابا, ولكننا وحدنا فقط من يتدخل الغير في مناهجنا من بين دول العالم.
نحن كمسلمين نريد النهوض نحتاج الى منهج تعليمي لتكوين الشخصية والعقلية المسلمة والمؤهلة لطلب العلم النافع والمناسب للفرد والمجتمع ما يحقق مصالحنا ويعزز وجودنا.فتعليمنا إذا ذو شقين شق اسلامي وشق دنيوي, وأمريكا طبعا لا تقصد الشق الدنيوي وإنما تزعم أن التعليم الديني خاصة هو الذي يفرخ ويساعد على تفريخ الإرهاب, ويقصدون بالإرهاب كل عمل مسلح ضد مصالح امريكا وحلفائها, (فلو كان العمل المسلح يصب في مصالح امريكا فهو ليس ارهاباً, فهي قد دعمت جهاد الأفغان ضد الروس, وساعدت حكومة صدام حسين في حربه ضد إيران ولم يكن ذاك من الإرهاب في شيء حسب حساباتها) ان امريكا تطالب بإلحاح أن يخلو تعليمنا الديني من معاداتها والتحريض على جهادها هي وحلفائها, وعلى تعليمنا أن يجنح للسلم والتسامح, وعلينا أن نتعلم أنه إذا انتهكت حقوقنا ومقدساتنا فإن طاولة المفاوضات هي الأسلوب الصحيح لفض المنازعات بعد اغتصاب الأرض والعرض, وبما ان الطرف الآخر يمتلك القوة العسكرية والسياسية فإنه يسهل عليه وبأقل مجهود أن يتحصل على كل ما يريد عبر تلك المفاوضات فعلى مناهجنا أن تعلمنا بان عصر الغرب الذي لمع نجمه وعلينا بالدوران في فلكه كما يفعل الكويكب. وكم هو غريب أن نتحدث عن مناهج تعلمنا السلام والتسامح مع طرف احتل ارضك وانتهك عرضك وداس مقدساتك وخرب بيتك وجرف مزرعتك, اننا بهذا نقول للمريض استسلم للحرص ودع الجراثيم تفتك بك ولا تعالج حالتك, بينما الصواب أن يلتمس المريض العلاج ولو كان مسكنا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا, ومن هنا فالعقلاء يشعرون بتعدي الغرب علينا وتطاولهم على حقوقنا, ويرفضون تغيير المناهج وفق إرادة الغرب لأنه لايزيدنا إلا خبالا ومذلة.
فتغيير المناهج عندنا يجب أن يحقق مصالحنا في كافة الجوانب ولو بالتدريج لا أن نغيره لتحقيق مصالح الغرب واعداء الإسلام والمسلمين. إن حق الدفاع المشروع لكل الناس حرام علينا بينما يحل لهم فعل كل شيء للحفاظ على مصالحهم. وعلينا أن نقوم نحن بتعليم هذا الدرس لأجيالنا.
نعم للسلام ولكن مع من يسالمنا ونحن لانعتدي إلا من اعتدى علينا, هكذا حكم الإسلام على اختلاف مذاهب المسلمين فهل يجوز لأمريكا نسخ هذا الحكم؟
وفي ورقة قادمة مزيد من التوضيح والى اللقاء.
الحلقة الرابعة
شبكة الفرسان الإسلامية
تريد أمريكا منا تغيير مناهجنا الدينية فتكون متسامحة وخالية من نبرة الجهاد والمقاومة المشروعة في وقت بات فيه الغرب أسياد العالم بقوتهم ونحن ضعفاء أمامهم حسب الموازين المادية. وإنما يطالبوننا بتعليم التسامح وهم المعتدون المغتصبون فياله من طلب.
فطلب أمريكا ليس له ما يبرره سوى غطرستها وقوتها المادية والعسكرية والسياسية ولايصب في صالح المسلمين, بل لايزيدهم إلا تنازلا وتخاذلا وخبالا.
لقد سعى الغرب واوروبا خصوصا لمحو الثقافة الإسلامية والشخصية الإسلامية عبر الغزو الثقافي وتعليم المسلمين كيف يبتعدون عن اسلامهم ولكن هذا الطلب ليس له مثيل ولا سابقة, نعم نحن نقولها وبصراحة إن مناهجنا التعليمية الدينية وغيرها في حاجة الى التعديل ولكن ليس على نوايا الغير وإنما بما يحقق صالح الإسلام والمسلمين.ولست أدري في أي قاموس يكون المجتمع تحت الإحتلال والتهديد ونقول له أمامك أولويات أهم من الدفاع عن كيانك وديانتك وعرضك ومقدراتك..هل نحن في وهن وتخاذل إلى هذا الحد العجيب؟
أمريكا دولة قوية ومتغطرسة ولاتؤمن إلا بمصالحها وليس في صالحها وجود حركات أو تنظيمات أو حكومات تشن عليها مقاومة مسلحة ترفض الهوان والمذلة وتجاهر بالكراهية لها وتدعوا الى مقاطعتها وتتعاطف مع من يقاومها فأغلبنا يحنق على أمريكا نظرا لسوء تصرفها معنا ودعمها للصهاينة واحتقارها للعرب, ونحن في معظمنا يتطلع لليوم الذي تحظى فيه أمريكا بضربة قاسمة تعيد إليها رشدها وصوابها, فهذا التفكير ونحوه لاتريده أمريكا.(/4)
إن أمريكا لا تبالي بالشعوب العربية وهي تغض الطرف عن الطغاة والمستبدين من حكامنا طالما أنهم متعاونون وخاضعون لتعليماتها, فإن كان هناك حاكم يرفض أفعال إدارة أمريكا وتطاولها, فهنا تثور ضده كل حملات التشويه والإتهامات الصحيحة وغير الصحيحة فمن عمل بطاعة أمريكا وداهن طفلها المدلل (إسرائيل) فهو حاكم جيد وإن كان طاغوتا ومن لم يكن خاضعا لها فهو هدف حملاتها السياسية والعسكرية والإعلامية. فهل فهمنا ماذا تريد أمريكا من مناهجنا؟ ودعونا نتحدث عن الشق الآخر للتعليم وهو التعليم الدنيوي, ان العلوم التطبيقية من طب وهندسة ونحوها..اننا نلاحظ أن الغرب لا يعطينا في هذا المجال إلا النذر اليسير ولا يعطونا من العلم والتقنية والمعدات وان منحونا من العلم المتقدم شيئا فبشروط تحدد استعماله وكيفية ذلك, وإذا وجدوا من طلابنا الدارسين عندهم نبوغا وتفوقا راودوه عن التجنس بجنسيتهم ليستفيدوا من مواهبه وقدراته.
إنهم يعطوننا بالقدر الذي يبقينا خاضعين لهم ومستهلكين لما ينتجونه فهم يريدون سوقا مستهلكا لا منتجا وإلا فكيف يستفيدون إذا نافسناهم.
نعم قد يعطوننا من العلم ما يفتح بيننا وبينهم تعاونا يحقق مصلحة مشتركة لنا ولهم ولكن ذلك لايكون الا مجالات محدودة, فنحن معهم كالأيتام على مائدة اللئام لا نتحصل الا على الفتات مع المن والأذى.
ان الغرب واوروبا يحتفظن باسرار العلم والتقنية ويحتكرون حق الإمتياز في كل ما يصنعون لأن مصالحهم تتطلب ذلك ومصالحهم فوق كل اعتبار ومن مصالحهم أن يسيطروا على مصادر الطاقة والمواد الخام اللازمة لصناعاتهم والا تكون شركاتهم ومصانعهم رهينة بيد أصحاب المواد الخام والذين هم في الغالب من الدول المتخلفة او النامية هم يريدون بيئة صالحة لإستثماراتهم ولا يريدون ما يعكر عليهم صفو هدوء الإستثمار أو الإستعمار ولايسمحون بوجود قلاقل وحروب إلا إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك كأن يبيعوا مخزون أسلحتهم القديمة خلال تلك الحروب او ليكسبوا من وراء الحورب موطئ قدم بطريقة أو بأخرى كما حدث في حرب الخليج الثانية حيث دفع العرب ثمن مساعدتهم العسكرية لنا.
فالسلم يريدونه لمصلحتهم إذا أراد ذلك أكثر نفعا لمصالحهم, وكذلك يريدون اشعال الحروب أحيانا وأحيانا يخوضونها طالما أنها تصب أيضا في مصالحهم وبناء عليه هم لايريدون تعليما عندنا يزعجهم في نيل مآربهم, ونظرا لأن التعليم الديني الإسلامي لايسهل القضاء عليه نهائيا فهم يطالبون بشيء من السماحة وغض الطرف بما يحقق لهم الصفو المطلوب لتحرير مصالحهم ونحن ساكتون ان لم نكن راضون ولابد أن يستعينوا في هذا الطلب بمن يخضع لأوامرهم من حكام أو عملاء أو مفكرين وغيرهم من أبناء جلدتنا الذين يحرصون على ابقاء مصالحهم الشخصية فوق وقبل مصالح المجتمع والأمة ويعتذرون على ذلك بأننا لسنا قادرين على دفع سطوة الغرب وبأننا نحن في حاجة ماسة للتعاون معهم لأجل رغيف الخبز ولأجل البقاء, فوضعنا الحالي بكل تراكمات الماضي والحاضر لا يؤهلنا الا لتقبيل يد الغرب صاغرين, ونحن على اتم استعداد لإعطائهم الجزية التي يريدونها, فقط دعونا نعيش بسلام فيما تبقى لنا من ارض ومقدرات. وإذا سألناهم هل من خطة استراتيجية للنهوض وللتخلص من هذا العار؟ قالوا: لاعاصم اليوم من امريكا ولقد مللنا من الحروب الخاسرة والشعارات العاطفية ونحن مازلنا متفرقون ضعفاء ولا يسعنا الا الركوع والسجود بإتجاه القبلة الجديدة (البيت الأبيض) فإن لم نفعل ذلك طوعا فسنفعله كرها وبناء عليه فهم لايفكرون الا في تنفيذ التعليمات الأمريكية بطريقة لبقة وتحت مسميات مختلفة تؤدي الى قبول الأمر الواقع وكأنه قدر لامهرب منه. والى ورقة اخرى بإذن الله. (الحلقة الأخيرة من الدراسة)
الحلقة الخامسة (الأخيرة)
شبكة الفرسان الإسلامية
هل نحن في عصر النفاق حتى على مستوى التعليم؟ حيث يتخذ البعض من ضعفنا وتخلفنا أمام الغرب ستارا للخضوع للهيمنة الأمريكية علينا.
إن العدو يكتسب قوته بسبب ضعفنا وتخاذلنا, فنحن عندما نتصارع مع أعدائنا, فمن أجل قضايا وحقوق نؤمن بها ولا نتخلى عنها وعلينا أن نسترخص التضحيات والكفاح فإما نصر وإما شهادة وعلى الأقل أن نعد أنفسنا للنصر أو الشهادة لكن تغييرالمناهج يراد بها به عدم إعداد أنفسنا لا للنصر ولا للشهادة بل قبول الأمر الذي يفرضه الآخرون.وعلى كل حال كلنا يعلم ما يريد الغرب وحلفاؤه...ولكننا لا نعلم ماذا نريد نحن بالظبط والتحديد..إن واقعنا يشير إلى أننا أخذنا طريقا بين العلمانية والدين فلا هو إسلامياً صرفا ولا علمانيا صرفا. وإنما نتستر بالدين عند الحاجة, فسبحان الله كيف صار القتال في أفغانستان ضد الروس جهادا إسلاميا ثوابه الجنة وكيف صار القتال في أفغانستان ضد الأمريكان جريمة نكراء فلا الروس أرادوا خيرا ولا الأمريكان.(/5)
لقد إفتخر العرب بقتالهم ضد الروس وتنصلوا من مواطنيهم الذين قاتلوا الأمريكان وكلاهما على أرض أفغانستان المسلمة..فما هذا المنهج الغريب فهل من حق أمريكا تدمير أفغانستان واحتلالها بسبب أحداث 11 سبتمبر ولم تتضح أدلتها إلا مؤخرا؟
فأي منهج تعليمي نريد؟ وماذا نريد من أهداف؟ انه الدوران في فلك القوي المسيطر وهو أمريكا الآن. ولايخفى على أحد أم من شروط السلام والتطبيع مع الصهاينة هو عدم التحريض على قتالهم ولا محاربتهم ولا مقاطعتهم. فهذا هو المطلوب أمريكياً من تغيير المناهج ونحن ستكون حكوماتنا في موقف محرج بين هذا الطلب ومعارضة المساس بثوابت الإسلام والتي فيها صراحة عدم قبول الضيم ومقاومته وجهاده باليد واللسان والقلب..فإن كان تعديل المناهج أثالا لشريعتنا وتحقيقا لمصالحنا ونابعا من ذاتنا أفراداً أوجماعات و مؤسسات وحكومات فهذا والله فيه كل الخير ولكننا وبصراحة نتناول هذا الموضوع في ظروف لا تخفى على أحد, والمشكلة الآن هي كيف يتم التوفيق بين مطالب أمريكا ومطالب الشريعة الغراء. وضمير الشعوب المسلمة المتطلعة نحو مستقبل أفضل دينياً ودنيوياً. إن الصراع سيستمر, والدفع بيننا وبين ظالمينا متواصل (( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لايكونوا أمثالكم)) لابد من تعليم الإسلام كما أمر الله تعالى (( ان أيموا الدين لله ولا تتفرقوا فيه)) ولا يجدينا نفعاً كل الحلول التلفيقية كما ينفعنا أن نجامل أعدائنا على حساب الحق لابد أن نتمسك بثوابت الدين ولا نتشدد في فروعه ولانحول الإهتمام بالجزئيات على حساب الكليات لابد من دراسة المزايا والعيوب ولابد من المصارحة واستماع الرأي الآخر ولو كان في نظرنا غير صواب, لاد أن نميز بين الشريعة والفقه وبين المتفق عليه والمختلف فيه, لابد من دراسة تحدد ماذا نحتاج من علوم الدنيا ولابد من تكاثف الجميع لإنجاح برامج التعليم ولابد من الإحتفاظ بهويتنا الإسلامية والإعتزاز بها, لابد من تصليح أخطائنا فالمتطبات كثيرة وميدان العمل فسيح وليست القضية عبارة عن إستبدال كتاب مدرسي بغيره فنظام التعليم عندنا نظام فيه الكثير من العيوب والشروخ, تشدنا للخلف ولا ندفع للأمام, لابد من تعليم الإحترام وتبادل الثقة بين الراعي والرغبة ولابد من احترام سيادة الشريعة على المسلمين, لابد من التضحية بالمصالح الشخصية لأجل المصالح العامة, لابد من تحديد الأهم والإهتمام به قبل المهم وقبل هذا وذاك لابد من إخلاص النية في العمل لتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين فإن كان الطريق طويلا فإن مواصلة السير كفيلة بعبوره ولو طال الزمن, لقد نشأت دولة الإسلام في ظروف صعبة للغاية أعداء من الخارج (الكفار) وأعداء من الداخل (المنافقون واليهود) وكانت الظروف سيئة من حيث توفر المال والطعام وكان الفقر والحاجة سمة غالبة حتى أن الرسول كان يمر عليه أكثر من شهر ولا يوقد في بيته نار وكان الشهيد أحيانا لايجدون له كفناا يستر كامل جسده الطاهر فإن غطوا رأسه انكشفت ساقاه, ولكن الإسلام تعامل مع قضية الأمن والتعليم وتوفير الطعام والمأوى بأساليب عجيبة هي ما نحن في حاجة الى تعلمه خصوصا وأن مقوماتنا الآن تساعدنا على تطبيق ذلك بصورة متطورة فالعزة في الإعتزاز بالإسلام والمطلوب هو بذل الجهد في التمسك به وتعلمه وتعليمه وعلينا أن ندفع الضريبة لأن البأساء والضراء لابد أن تمسنا ما دمنا مسلمين انها قضية اخلاص نوايا وبذل الجهد حسب الوسع مع استعمال العلم والحكمة وليس الحل في التفكير بعقلية التخاذل أمام الغطرسة الغربية فهم يريدون أن نكون مثلهم ونحن لسنا مثلهم ما دمنا مسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ملاحظة: أي تعليق أو تعقيب أو ملاحظة على هذه السلسلة يمكنكم مراسلة إدارة الموقع.(/6)
تغيير المنكر باليد
الحمد لله القائل: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ? [آل عمران:110] ، فجعل خيرية هذه الأمة وتميزها بل وقوامها، وكيانها، وخلودها، واستمراريتها منوطاً بقيامها بالحق ، والدعوة إليه، والدفاع عنه، والنشر له.
فلم يرض الله لهذه الأمة- وهي أمة الرسالة الخاتمة- أن تكون صالحة في نفسها فقط، بل لا بد أن تكون صالحة بذاتها، مصلحة لغيرها، والخاتمية تعني توقف النبوات ، وهذا يعني : توقف التصويب من السماء لأي منكر، وخروج وانحراف، لذلك لابد من أن يكون التصويب والقوامة على الحق مستمراً لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف،والتدافع بين الخير والشر والمعروف والمنكر من سنن الله الاجتماعية في الخلق، قال تعالى : ? وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز? [ الحج:40]
فلا معني لخلود الرسالة الذي يعني استمرار الحق وحراسته والقيام به إذا لم يستمر التصويب وإنتاج النماذج التي تجسده في كل زمان ومكان ، عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذالك أضعف ألإيمان"(1) .
يقول الإمام النووي:(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف ، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر وتقصير في المعروف)(2)
وفي تفسير الحديث يقول القاضي عياض-رحمه الله- : ( الحديث أصل في كيفية التغيير، فيجب على المغير أن يغير بكل وجه أمكنه زواله به ، فالتغيير باليد: أن يكسر آلات الباطل، ويريق الخمر،وينزع الغصب،أو يأمر بذلك، فإن خاف، من التغيير باليد مفسدة أشد غير بالقول )(3)
وأقول : في هذا الحديث النبوي الشريف، يبين لنا النبي- صلى الله عليه وسلم- درجات
تغيير المنكر فيبدأ بما هو أشد تكليفاً، وهو المنع باليد، ثم إن حدث العجز عنه، كان باللسان
فإن عجز، كان بالقلب.
وسأقتصر في البحث –بعون منه سبحانه- في جزئية من هذا الحديث النبوي الشريف، وهي [تغيير المنكر باليد]
يقول الدكتور"محمود توفيق"(4): هذا التغيير ليس مقصوراً على طائفة من الناس يكون لها أوعليها دون غيرها، بل هو عام يختلف مناطه ودرجته باختلاف أمور عدة أهمها:
- علاقة من يقوم بالتغيير بمن يقع منه المنكر.
- نوع المنكر المراد تغييره ومناخات وقوعه.
وبيان هذا: أن علاقة المغير بمن وقع منه المنكر، تكون على واحد من خمسة أحوال:
1/أن يكون للمغير ولاية خاصة على ذي المنكر، كولاية الوالد على ولده، والزوج على زوجته .
2/أن يكون للمغير ولاية عامة على ذي المنكر، كولاية السلطان على رعيته وأمته.
3/أن لا يكون لأي من المغير وذي المنكر ولاية عامة أو خاصة، كما بين أفراد الرعية.
4/ أن يكون لذي المنكر ولاية عامة على المغير، كولاية السلطان الواقع في المنكر على
رعيته التي تريد أن تغير منكره.
هذه خمسة أحوال يختلف حكم التغيير باليد باختلافها، وباختلاف المنكر نفسه وظروفه ، على أن التغيير باليد غير محصور في القوة التي هي استخدام السيف، وما شاكله، أو الضرب وما ضارعه، فإن التغيير باليد ذو صور ومراحل عديدة، من ذلك استخدام اليد في إفساد آلات المنكر، أو إذهاب عين المنكر كتحطيم أدوات شرب الخمر أو إراقتها،وتهديم حاناتها إذا لم تكن تصلح إلا لذلك، أو غلق الطرق المؤدية إليها،أو قطع المياه وأدوات ألإنارة عنها، وكذلك إفساد آلات الغناء الماجن، وأدوات تصوير المنكر أو طبعه أو نشره في الناس، وإفساد أماكن بيعه وتوزيعه إذا لم تكن تلك الأماكن صالحة إلا لذلك.....الخ
كل هذا وكثير مثله يدخل في التغيير باليد، وهو ليس من استخدام السيف المؤدي إلى إراقة دم أو إزهاق روح.
فالحالة الأولى:
وهي أن يكون لمغير ولاية خاصة على ذي المنكر، مثل ولاية الزوج على زوجته، أو الوالد على ولده، أساس الحكم في هذا قوله – صلى الله عليه وسلم-: " كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، ألإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته"(5)(/1)
فعلى الوالد والزوج وما ضارعهما تغيير المنكر الواقع ممن هو تحت ولايتهما بيده ، وفقاً لما يتناسب مع هذا المنكر من صور التغيير باليد، فقد يكفي في تغييره إفساد آلته دون اللجوء إلى ما هو فوق ذلك، فكل صورة من صور التغيير تقوم بحق التغيير لا ينتقل إلى ما فوقها، والوالد والزوج وما ضارعهما له حق التغيير بكل صور التغيير باليد، دون الحدود أو ما فيه إزهاق روح أو إراقة دم، فذلك للإمام بحقه الذي شرعه الله عز وجل.
الحالة الثانية:
أن يكون للمغير ولاية عامة على ذي المنكر، كولاية السلطان على رعيته فإن لهذا المغير أو عليه، تغيير منكر رعيته باليد – بكل صور التغيير باليد- تغييراً لا يبقي منه ولا يذر، فيكسِر آلات المنكر، أو يزيل عينه، أو ما يقوم به ويتخذ كل ما يحقق له القيام بهذا الغرض قياماً تاماً خالصاً لله وليس انتصاراً لسلطانه، فإن قاومه ذو المنكر وأعوانه أخذ على أيديهم بما يناسب مع مقاومتهم ، ولو أدى إلى قتل من يقاوم، إن لم يكن من القتل بدٌ، والعجز عن تغيير المنكر باليد إذا كان لابد منه لا يتأتى مع حال ولي ألأمر، إن كان صادقا ًمع الله تعالى.
ويأخذ هذا الحكم من ينيبه الولي الأعلى من الأمراء والولاة، كل في حدود ماولاه وأذن له فيه، ولا يدخل في هذا التغيير باليد العلماء الذين لم تكن لهم نيابة من الولي، إذا كان الوالي مقيماً شرع الله تعالي ، فولاية العالم في رعاية الوالي المسلم إنما هي ولاية تعليم، ونصح وفتوى، وليست ولاية تنفيذ ، أما إن كان الوالي ألأعلى لا يقيم شرع الله في حكمه ، ويأبى تغيير المنكر أو يقر أهله عليه ،أو يزعم أن ذلك من الحقوق الشخصية المكفولة لهم ،بما شرعه هو أو بطانته ،أو بما نص عليه ما يسمى ب"حقوق الإنسان العالمية"، أو كان لا يعترف بأن هذا منكر يجب تغييره، من بعد أن بينه له العلماء بياناً شافياً لا يتوقف معه من كان غير ذي هوى ، فإن للعلماء بل عليهم فريضة أن يتحدوا وأن يغيروا المنكر بأيديهم، دون البلوغ به حد إزهاق روح، أو إراقة دم، فإن خافوا فتنة بهذا، أضر بالأمة من هذا المنكر فإنهم أهل الحكمة.
يقدرون الأمور بمقاديرها،ويقدمون الأهم على غيره.
والإنكار على الولاة والسلاطين باليد لا يلزم منه أن يخرج عليهم ويقاتلهم بالسيف، يقول ابن رجب:( التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نص على ذلك أحمد أيضاً في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، وحينئذٍ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل: أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، وكل هذا جائز وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه، خشية حدوث الفتن التي تؤدي إلى سفك الدماء )(6).
وقد كان ابن تيمية يغير المنكر هو وأعوانه بيديه ،فقد كسر آنية الخمر في الحانات ، ومزق أوعيتها وأراقها وعزر أهلها، وفرح الناس بذلك، ولولا أن السلطان في عصره لم يكن يقيم الشرع، ويغير المنكر، ما كان لابن تيمية الفقيه أن يتعدى على حقه، وهو العالم بذلك الحق.
فلإمام العلماء في مثل هذا أن يقيم تغيير المنكر حين يتخلى الوالي عن حقه ويهدر حق الشرع، وليس للعامة أن تفعل ذلك إلا بمعونة العلماء وفتواهم وتحت إرادتهم الراشدة الحكيمة.
الحالة الثالثة :
ألا يكون لأي من المغير وذي المنكر ولاية عامة أو خاصة على الآخر، كما بين أفراد الرعية ، وهذه الحالة ذات شقين :
-أن يكون ولي الأمر الأعلى يقيم شرع الله، وينكر المنكر ويغيره حتى يعلم به.
- ألاَ يكون كذلك .
فإن كان يقيم الشرع ويغير المنكر، فليس للعامة أن تغير المنكر الواقع ممن ليس لهم عليه ولاية -تغييراً باليد- بل عليهم إبلاغ ولي الأمر أو نوابه ومن أقامهم لذلك، وهم يتولون ذلك، فإن طلبوا معاونة العامة ،فقد وجب عليهم تقديم العون لهم وفق مطلوبهم وتحت إمارتهم، وإما أن كان الوالي لا يقيم شرع الله ولا يغير المنكر، بل يجعله من الحقوق المكفولة بما شرعه هو أو بطانته من قوانين، فعلى العامة اللجوء إلى أئمة العلماء ،ورفع ألأمر إليهم للتصدي للسلطان، وحمله على تغيير المنكر، وإلا قاموا هم به، وعلى العامة حينذاك مناصرة العلماء وتأييدهم وحمايتهم، فإن العلماء إذا ما وجدوا أعواناً من العامة قاموا في وجه السلطان الذي لا يقيم شرع الله تعالى، بما يحمله على العدل والسلطان إذا علم أن الأمة من خلف علمائها خضع للحق الذي يدعوا إليه العلماء وتريده العامة، فإن السلطان الطاغية لا يشتهي شيئاً كمثل إهانة العلماء وإذلالهم وتحطيم منزلتهم في قلوب العامة.
الحالة الرابعة:(/2)
أن يكون لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بتغيير منكره، كأن يكون ذو المنكر والد المغيِر أو زوجها، فإن كان كذلك فتغيير المنكر باليد حينئذ يرجع إلى نوع المنكر ودرجته فثم منكر يغير باليد دون أن يلحق صاحب المنكر إيذاء في نفسه ، فللولد والزوجة في مثل هذا تغيير المنكر باليد إذا لم يترتب على ذلك ما هو أشد ضرراً ،وللولد أن يمنع أباه والزوجة زوجها من الإقدام على ما يتعلق به حق الآخرين، كمثل قتل أو إحراق مال...، فذلك مما لا يحتمل تأخيراً في تغييره بالصد عنه، فإن كان المنكر كفراً بواحاً فليرفعه إلى السلطان المقيم شرع الله تعالى لغيره بما يستحق، فتغيير المنكر باليد ممن هو تحت ولاية ذي المنكر، إنما يجب عليه حين لا يكون غيره أهلاً للقيام به، أو كانت الملابسات لا تسمح باللجوء إلى آخرين للقيام بذلك، فإن كان فيمن حولهم من يكون أهلاً للقيام بذلك حق قيامه فالأولى أن يلجأ الولد إليهم لتغيير منكر والده بما يستحق وكذلك الزوجة.
ولقد ذهب الإمام الغزالي-رحمه الله- إلى أن للولد مع والده الواقع في المنكر أن يغيره بالمنع،وبالقهر، بطريق المباشرة بأن يكسر مثلاً عوده، ويريق خمره، ويحل الخيوط من ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى المُلاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه، أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين، إذا كان صاحبه معيناً، ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه ،والمنقورة في خشب بيته ، ويكسر أواني الذهب والفضة، فإن فِعله في هذه ألأمور ليس يتعلق بذات الأب، بخلاف الضرب والسب ،ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق، وسخط الأب منشؤه حبه للباطل والحرام، والأظهر في القياس أنه يثبت ذلك للولد بل يلزمه أن يفعل ذلك)(7)
وما نقوله إنما هو في حال ارتكاب المنكر، أو الإعداد له ،أما إذا كان المنكر قد وقع، فإن أمر صاحبه يرفع إلى السلطان، ليقضي فيه بالحق، وهذا أصل في جميع ألأحوال، فإن المنع حق عام ولكن العقوبة حق السلطان.
الحالة الخامسة:
أن يكون ذو المنكر هو السلطان وولي الأمر الأعلى، إن كان منكره منكراً خاصاً، لا يتعلق بحق الرعية، فإن كان يفعله سراً فلمن يراه أن يغيره بما يستطيع إذا لم يترتب على تغييره منكراً أشد منه وأشنع، وليس له الاعتداء على السلطان بدفع ، أو إيثاق، أو حبس أو ضرب، وليس له إفشاء السر في الناس، حتى لا يبقى للسلطان في قلوب العامة هيبة مادام مسلماً.
وإن كان منكره مما يجهر به، فعلى علماء الأمة تعريفُه وتعليمُه، ليكف ما دام مسلماً يقيم الصلاة، ثم منعُه منه، وعلى العامة مناصرةُ العلماء دون إحداث فتنة أشنع من منكره، الذي يجاهر به، ما دام هذا المنكر ليس كفراً بواحاً.
وإن كان منكر السلطان متعلقاً بحق رعيته، كفرض مكوس وضرائب ظالمة تنفق فيما لا ينفع المسلمين والرعية، أو كإشاعة الفسق، أو مناصرة الطغاة من رعيته، واحتجاجه عن المظلومين من رعيته، فعلى العلماء أولاً القيام بتعريفه الحق ونصحه، فإن لم يفعل، ومكث على ذلك سعى العلماء إلى منعه من ذلك باتحادهم، والتصدي له، وحشد العامة حولهم، حتى يرتدع خوفاً على سلطانه وليس لهم الخروج عليه بالسيف، مادام يعلن إسلامه ويقيم الصلاة، فإنه وإن كان ظالماً فاسقاً، فإنه مسلم، وفي الخروج عليه بالسيف فتنة أشد وأنكى من منكره، لأن في الخروج عليه بالسيف تهديماً لهيبة الأمة، في عيون وقلوب أعدائها من الكافرين، وعلى العلماء السعي إلى عزله، بطريقة غير طريق السيف.
وإذا كان المنكر الواقع من السلطان متعلقاً بإقامة شرع الله تعالى، والحكم بما أنزل الله فإما أن يعلن أن شرع الله هو الحق المطلق، الكفيل بتحقيق العدالة في الأمة، وأن الإسلام كتاباً وسنة. في هديه حل لكل ما تعانيه الأمة ، إلا أنه بالرغم من ذلك يأخذ من غيره لأسباب ظاهرة أو باطنه، كأن يكون في تركه شرع الله تعالى تحقيق مصالحه الخاصة الدنيوية، أو يكون ضعيفاً خواراً أمام قوة داخلية أو خارجية، سعت إلى تنصيبه والياً، فلا يستطيع مخالفة أمرها لقدرتها على التخلص منه بطرق عديدة، فإن مثل هذا السلطان ظالم، فاسق كفره لا يخرج من الإسلام(8)، ومن ثم لا يجوز الخروج عليه بالسيف بل يسعى العلماء إلى مناصحته، ومكاشفته، وتبيان الحق له، بما لا يدع شبهة، فإن أناب وأصلح، نوصر وعزّر، وإلا سعى العلماء الصالحون إلى قيادة الأمة لعزله بالحسنى التي لا تزهق فيها روح أو يراق دم.(/3)
أما إن أعلن السلطان معارضته للشرع، وتصديه لما أنزل الله، ويرى أن فيما يحكم به صلاح الأمة، وأن ما حكمت به الأمة في صدر الإسلام، وما بعده لا يتوافق مع واقع الأمة في هذا العصر، في شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولاسيما السياسية الدولية، فإن مثل هذا كافر كفراً صريحاً، لأن من يزعم أن ما أنزل الله تعالى كتاباً وسنة لا يصلح لكل زمان ومكان، قد أنكر صريحاً من الدين فيه برهان من الله ورسوله، فالقرآن كتاب الله تعالى الخالد هدية للأمة، المبين لها شؤون حياتها حتى تقوم الساعة، لا تستقيم حياة الأمة في أي طور من أطوارها، وأي مناخ من مناخاتها إلا بهديه، ومن لم يؤمن بذلك، فقد كفر كفراً مخرجاً من الملة لأنه يعتقد بهذا أن الله عاجز عن أن ينزل ما فيه صلاح الأمة حتى قيام الساعة، أو يعتقد أن الأمة، بحاجة إلى كتاب ونبي جديد يتناغم ـ في زعمه ـ مع واقع الحياة المعاصرة أو أن الله عجز عن علم ما فيه صلاح الأمة بعد خمسة عشر قرناً من نزول القرآن، فلم يودع فيه ما يهدي إلى صلاحها من بعد، وكل ذلك لا يتوقف عاقل في القول، بأن قائله فيه من الله برهان قاطع، بأنه كافر كفراً مخرجاً من الملة.
قال عز وجل: ? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً? [النساء65 ] .
فإذا ما ثبت كفر السلطان كفراً مخرجاً من الملة، فقد وجب على الأمة الخروج عليه ونزع يد الطاعة منه وعزله، ولو كان عزلاً بالسيف، فإذا كان لا بد من السيف فهو فريضة، لأنه ليس في الأمة أنكى وأنكر من أن يكون سلطانها كافراً بدينها وليس لكافر على مسلم ولاية.
وتلك هي الحالة التي أبيح فيها للأمة بل فرض عليها الخروج على السلطان وعزله وإن كان بالسيف: حالة كون لسلطان كافراً كفراً صراحاً.
عن جنادة بن أمية قال: (دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض فقلنا: حدثنا -أصلحك الله - بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: (دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فكان فيما أخذه علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"(9).
إذاً فالإسلام يدعو إلى الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية خلف ولي أمرها وإن كان عاصياً وعلى الأمة أن تؤدي للوالي حقه عليها وتسأل الله تعالى الذي لها وتصبر حتى تلقى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على الحوض، وإن ضرب الإمام الظهر، وأخذ المال، إلا أن يأمر الوالي بمعصية، أو ينهى عن طاعة عن علم، أو يأتي من الأقوال والأفعال ما هو كفر صراح فيه من الله برهان، كنزع إقامة صلاة أو امتناع عن الحكم بما أنزل الله، على نحو ما ذكرنا، أو مناصرة غير المسلمين وتنفيذ مخططاتهم في إذلال الأمة، والإرجاف في قومه بأن أمور العالم من حولها وتصريفها إنما هي في يد دولة ما، غير مسلمة، لبث روح اليأس في قومه فيرتعوا لأعدائها... الخ.
تلك الأفاعيل الماحقة لوجود الأمة المسلمة والعزة والمنعة فمثل ذلك لا يسع الأمة قط الصبر عليه، بل يجب عليها فريضة عين أن تنزع يد الطاعة منه، وأن تخلع بيعته، وإن تولى على المسلمين غيره منهم يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن لم يكن لها سبيل إلى تحقيق هذا إلا السيف، فإن السيف أهون من الحياة تحت ولاية مثل هذا السلطان وإن السيف حينذاك هو العدل الذي لا تقوم الحياة المسلمة إلا به.
وإذا كان هدي الإسلام فيما دون كفر الإمام هو الصبر والسمع فيما لا معصية لله تعالى فيه، فإن من هديه أيضاً السعي بالحسنى إلى تغييره واستبداله بإمام صالح ، إذا كان إلى ذلك سبيل حسن، لا يراق فيه دماء.
وعل علماء الأمة بيان ذلك السبيل الحسن، والدعوة إليه ومناصرته بالحكمة والموعظة الحسنة.
فاصل القول:
إذا كان جلياً أن تغيير المنكر إنما هو لدرء المفاسد، فإذا ما تيقن المسلم، أو غلب على ظنه الراشد، أن تغييره منكراً سوف يوقعه في منكر أعظم وأعم فجمهور العلماء يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر دفعاً لوقوع ما هو أشد منه وفي هذا يقول العلامة ابن القيم: (إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.. ).(/4)