... الثامن: قالوا: إن هذه المعاملة مبنية على القول بوجوب الوفاء بالوعد ونحن نأخذ بقول الجمهور القائلين بأن الوفاء بالوعد مستحب وليس واجباً وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية لذا لا يقضى به على الواعد لكن الواعد إذا ترك الوفاء فقد فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية ولكن لا يأثم(1).
وقد احتج الجمهور على قولهم بما يأتي:
... أ- ما رواه مالك في الموطا أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب امرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم لاخير في الكذب: فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقول لها؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا جناح عليك(2).
... ب- عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وعد أحدكم أخاه وفي نيته أن يفي له فلم يفِ فلا إثم عليه"(3).
... ج- ويمكن الاستدلال لرأي الجمهور بأن الوعد تبرع محض من الواعد ولا دليل على وجوب التبرع على أحد(4).
... د- قالوا إن الالتزام بالوعد مطلقاً يدخل فيه الإلزام بالوعد المحرم وهو أمر غير جائز شرعاً(5).
... هذه اهم الأدلة التي ساقها هؤلاء العلماء على قولهم ببطلان بيع المرابحة للآمر بالشراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قواعد الوعد الملزمة د. العاني ص 761 مجلة المجمع الفقهي عدد 5 ج 2.
2- الموطأ برواية محمد ص 318 وضعفه الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء 3/135.
3- رواه أبو داود والترمذي عون المعبود 14/231 قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال غريب وليس اسناده بالقوي وقال الشيخ الألباني: اسناده ضعيف مشكاة المصابيح 3/1368.
4- قواعد الوعد الملزمة د. العاني مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص764.
5- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 163.
ثالثا: مناقشة أدلة الفريقين:
وقد نوقشت أدلة الفريقين بمناقشات كثيرة أذكر أهمها:
... 1- إن قول المجيزين بأن الأصل في المعاملات الإباحة مسلم ولكن لا بد من التحري والتدقيق حتى نعرف هل هذه المعاملة حلال أم حرام؟
... إن تحري الحلال مطلوب لطلبه وتحري الحرام مطلوب ايضاً لاجتنابه ومن فضل الإسلام علينا أنه علمنا أن نفكر في كل شيء هل هو حلال ام حرام؟ فلا نقول هو حلال حتى نتأكد ولا حرام حتى نتيقن.. إذ لا نحكم على الشيء قبل التمكن من معرفته(1).
... إن اعتراض المانعين على دليل المجيزين بأن الأصل في المعاملات الإباحة لا يضعف الاستدلال بهذا الاصل الذي حرره العلماء المحققون ولا شك أنه لا بد من دراسة كل مسألة دراسة مستفيضة قبل إصدار حكم عليها هل هي باقية على البراءة الأصلية أم أن هنالك أدلة تنقلها عن ذلك وتخرجها من دائرة الإباحة الى دائرة التحريم.
... 2- لا ريب أن إستدلال المجيزين بعموم النصوص الدالة على حل جميع أنواع البيع وأن بيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل ضمن ذلك إستدلال وجيه ويمكن الإعتماد عليه في الحكم على المعاملة بالجواز لما يلي:
... أ- إن العمومات المذكورة تفيد حل جميع أنواع البيوع لأن هذه النصوص عامة والعام يشمل حكمه جميع أفراده إلا أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الأمة القطرية عدد 61 نقلاً عن بيع المرابحة للقرضاوي ص101.
يخصص فإن خصص بقي ما لم يدخله التخصيص على أصل الإباحة. وبيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل في هذا العموم.
... ب- إن قول المانعين بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء من بيوع العينة المحرمة لا يعتبر تخصيصاً لعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) لأن جعل المرابحة من بيوع العينة اجتهاد من قائله اعتمد فيه على سد ذريعة الفساد وهذا الاجتهاد ظني والآية القرآنية قطعية والظني لا يخصص القطعي كما أن الاجتهاد لا يعد من مخصصات العام.
... ويؤيد ذلك ما قاله ابن حزم (وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن) ويؤيده ايضا ما قاله ابن الهمام (ولا يخفى أنه لا يحتاج الى دليل خاص لجوازها - المرابحة - بعد الدليل المثبت لجواز البيع قطعا).
... وما قاله الامام الشافعي : فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر - التصرف - فيما تبايعاه إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى) فهذه الأقوال وإن ذكرها الفقهاء في معرض الإستدلال على مشروعية المرابحة البسيطة التي كانت معروفة عندهم إلا انه يمكن الإستدلال بها على مشروعية المرابحة للآمر بالشراء لأن تلك أصل لهذه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/12)
1- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 154- 155 بتصرف.
... 3- إن اعتراض المانعين باحتجاج المجيزين لاجازة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن فيه تيسيرا على الناس بقولهم: إن التيسير يحسنه كل أحد وكذلك التشديد يحسنه كل أحد فلا غرض للباحث الأمين في أحد منهما فالتيسير يلغي الشريعة فلا تبقى منها الا الراية أو الشعار والتشديد يمنع تطبيقها انما الفقه الرصين في الضبط والدقة وفي إصدار الحكم باليقين أو بالترجيح أو بالشك تحليلا أو تحريما حسب قوة الأدلة وضعفها وحسب نعومة الفقيه أو إغضائه والباحث الدقيق ليست عنده عدة جاهزة للتيسير إذا أراد وعدة أخرى للتعسير كما أنه لا يرضى بأي رأي يعثر عليه لفقيه قد يكون معناه مراداً لصاحبه أو متوهماً لقارئه نعم لا بأس أن تختار رأي فقيه ما ولو كان رأيه مخالفاً لرأي الجمهور لكن لا لمجرد الرغبة في التيسير أو التعسير ولا بد من مواجهة أدلة الجمهور ومن أن تظهر قدرتك على الدفاع عن الرأي الذي اخترت فهذا يباعدنا عن مخاطر التلفيق المطلق بلا قيود)(1).
... إن كلام المانعين غير مسلم لأن التيسير موافق لاتجاه الشريعة وخصوصاً في المعاملات التي قرر المحققون من العلماء أن الأصل فيها الأذن إلا ما جاء نص صريح بمنعه فيوقف عنده فمن يسر فهو في خط الشريعة واتجاه سيرها وهو ممتثل للتوجيه النبوي الكريم "يسروا ولا تعسروا" وأنه إذا وجد رأيان في المسألة الواحدة أحدهما أحوط والآخر أيسر فإننا نؤثر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الامة القطرية عدد 61 نقلاً عن بيع المرابحة للقرضاوي ص 100.
أن نفتي الناس بالأيسر ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما(1).
... وبيع المرابحة للآمر بالشراء عند القائلين بجوازه يعتمد على إجتهادات لأهل العلم وأدلتهم وجيهة وقوية ويترتب على القول بالجواز مصلحة ظاهرة وهذا من التيسير المشروع الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
... 4- إن قول المانعين بأن هذه المعاملة داخلة في بيع العينة غير مسلم لأن العينة التي ورد النهي عنها هي: أن يبيع شيئا الى غيره بثمن معين (مئة وعشرين دينارا مثلا). إلى اجل (سنة مثلا) ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر (مئة مثلا) يدفعه نقداً فالنتيجة أنه سلمه مئة ليتسلمها عند الأجل مئة وعشرين(2) "ومن المؤكد أن صورة المعاملة التي سميت "بيع المرابحة" والتي تجريها المصارف الاسلامية والتي أفتت فيها هيئات الرقابة الشرعية بالجواز - ليست من هذه الصورة الممنوعة في شيء. إذ من الواضح أن العميل الذي يجيء الى المصرف طالباً شراء سلعة معينة يريد هذه السلعة بالفعل، كالطبيب الذي يريد أجهزة لمستشفاه، أو صاحب المصنع الذي يريد ماكينات لمصنعه وغير هذا وذاك حتى إنهم ليحددون مواصفات السلعة (بالكتالوج) ويحددون مصادر صنعها أو بيعها.. فالسلعة مطلوب شراؤها لهم بيقين. والمصرف يشتريها بالفعل، ويساوم عليها، وقد يشتريها بثمن أقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة للقرضاوي ص 115/116.
2- بيع المرابحة للقرضاوي ص 45.
مما طلبه العميل ورضي به، كما حدث هذا بالفعل، ثم يبيعها للعميل الذي طلب الشراء ووعد به، كما يفعل أي تاجر، فإن التاجر يشتري ليبيع لغيره، وقد يشتري سلعاً معينة بناء على طلب بعض عملائه.
... وإذن يكون إدعاء أن هذا النوع من البيع هو من العينة التي شرحها إبن القيم رحمه الله والتي لا يقصد فيها بيع ولا شراء، ،إدعاء مرفوضاً ولا دليل عليه من الواقع(1).
... 5- إن قول المانعين بأن هذه المعاملة تقع ضمن بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عندك قول فيه نظر، لأن المصارف الاسلامية التي تتعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء لا تقع في النهي الوارد عن بيع ما ليس عند الانسان لأنها غالباً تعتمد نموذجين أحدهما للمواعدة والآخر للمرابحة فهي توقع مع العميل على نموذج المواعدة أولاً وبعد ذلك يقوم المصرف بشراء السلعة الموصوفة ثم بيعها للعميل ويوقع مع العميل النموذج الثاني وهو عقد بيع المرابحة وفق الشروط المتفق عليها في المواعدة(2) والمواعدة الحاصلة بين المصرف وطالب الشراء ليست بيعاً ولا شراء وانما مجرد وعد لازم للطرفين.
... 6- إن الإدعاء بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء ما هو إلا حيلة للإقراض بالربا وقولهم إن القصد من العميلة كلها هو الربا والحصول على النقود، التي كان يحصل عليها العميل من البنك الربوي فالنتيجة واحدة وإن تغيرت الصورة والعنوان. فإنها ليست من البيع والشراء في شيء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/13)
1- بيع المرابحة للقرضاوي ص 46-47.
2- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 196.
... فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال، والمصرف لم يشتر هذه السلعة الا بقصد أن يبيعها بأجل الى المشتري، وليس له قصد في شرائها.
... ونقول: إن هذا الكلام ليس صحيحا في تصوير الواقع. فالمصرف يشتري حقيقة ولكنه يشتري ليبيع لغيره، كما يفعل أي تاجر وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للإنتفاع أو القنية أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الاسلامي ان يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة لا صورة ولا حيلة، كالطبيب الذي ذكرنا أنه يريد شراء اجهزة، ولجوء مثله إلى المصرف الاسلامي ليشتري له السلعة المقصودة له أمر منطقي، لأن مهمة المصرف أن يقدم الخدمة والمساعدة للمتعاملين معه. ومن ذلك أن يشتري لهم السلعة بما يملك من ماله وبيعها لهم بربح مقبول، نقداً أو لأجل، وأخذ الربح المعتاد على السلعة لا يجعلها حراماً، وبيعها إلى المشتري بأجل لا يجعلها أيضا حراماً. المهم أن هنا قصداً إلى بيع وشراء حقيقيين، لا صوريين، وليس المقصود الاحتيال لأخذ النقود بالربا.
... والقول بأن هذه العملية هي نفس ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت الصورة فقط، قول غير صحيح، فالواقع أن الصورة والحقيقة تغيرتا كلتاهما فقد تحولت من استقراض بالربا الى بيع وشراء وما أبعد الفرق بين الاثنين! وقد حاول اليهود قديما أن يستغلوا المشابهة بين البيع والربا ليصلوا منها الى إباحة الربا فرد الله تعالى عليهم رداً حاسماً بقوله {ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا}.
... على أن تغيير الصورة أحياناً يكون مهماً جداً، وإن كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر فلو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس خذ هذا المبلغ واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها، فقبل، وقبلت البنت لكان كل منهما مرتكبا منكراً من اشنع المنكرات. ولو أنه قال له: زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهرا لها، فقبل وقبلت لكان كل من الثلاثة محسناً والنتيجة في الظاهر واحدة ولكن يترتب على مجرد كلمة "زواج" من الحقوق والمسئوليات شيء كثير.
... وكذلك كلمة "البيع" إذا دخلت بين المتعاملين،فإنه يترتب عليها بأن يكون هلاك البيع إذا هلك على ضمان البائع، حتى يقبضه المشتري، وان يتحمل تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب وكذلك إذا كان غائبا واشتراه على الصفة فجاء على غير المواصفات المطلوبة.
... كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل المحدد لعذر مقبول، لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي، بل يمهل حتى يوسر، كما قال تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}. وإن تأخر لغير عذر، فهو حينئذ ظالم يستحق العقوبة كما في حديث "مطل الغني ظلم" وحديث "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" ، فمن حق المصرف الاسلامي أن يطالبه بالتعويض عن الضرر الفعلي قل او كثر عملاً بالقاعدة الشرعية التي عبر عنها حديث "لا ضرر ولا ضرار" وأخذ منها الفقهاء: أن الضرر يزال.
... وهذا يخالف ما تفعله البنوك الربوية، لأنها تأخذ المبلغ المقترض والفائدة الربوية المقررة على كل حال: من المعسر والموسر، سواء حدث ضرر أم لم يحدث. سواء كان الضرر قليلاً أم كثيرا، بل تأخذه سواء تسلم السلعة المقترض لها المال أم لم يتسلمها، سلمت أو هلكت، فالبنك الربوي لا علاقة له بالسلعة بحال.
... فكيف يقال: إن ما يجري في المصارف الاسلامية هو عين ما يجري في البنوك الربوية؟ الحق أن تغيير صورة المعاملة غيّر من طبيعتها، وإن توهم من توهم أن النتيجة في كلتا الحالين واحدة. ومن المفيد هنا أن أذكر في تغيير الشكل والصورة حديث أبي سعيد وأبي هريرة المشهور في بيع التمر بمثله، وهو لا يخفى على المعترضين.
... عن أبي سعيد وأبي هريرة "ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا: قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بصاعين، والصاعين بالثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعل . بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا" رواه البخاري ومسلم.
... فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان عنده تمر رديء وأراد تحصيل الجيد من التمر فعليه أن يبيع ردئيه بنقد ثم يشتري به الجيد.
... والنتيجة من البيع الأول والثاني واحدة، وهي الحصول على التمر الجيد بدل الرديء ولكن الصورتين مختلفتان. ففي الأولى باع الشيء بجنسه متفاضلاً، وهذا منهي عنه لما قد يحدث فيه من غبن. وفي الثانية بيع للشيء بقيمته نقداً، ثم يشتري به، وهذا أقرب الى العدل في تقدير السلعة وثمنها. ولهذا أجيزت الصورة الثانية ومنعت الأولى والشاهد أن تغيير الصورة قد يؤدي الى تغيير الحكم، وإن لم تتغير النتيجة(1).(/14)
... 7- وأما قول المانعين بأن الإلزام بالوعد غير صحيح شرعاً بل الوفاء بالوعد مستحب وبناء على ذلك لا يصح بيع المرابحة للآمر بالشراء مع لزوم الوعد للعميل وللمصرف.
... فالجواب على ذلك بأن المسألة وهي الوفاء بالوعد من المسائل الخلافية التي تعددت فيها أنظار الفقهاء والمسألة اجتهادية وقد أخذ المجيزون بالقول بوجوب الوفاء بالوعد وهو قول صحيح وله أدلته وحججه المعتمدة ولا غبار في ذلك وهذا القول تشهد له ظواهر النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وبه قال طائفة من الصحابة والتابعين.
... وقد ترجم الامام البخاري في صحيحه (باب من أمر بإنجاز الوعد). وذكر فيه أن الحسن البصري أمر بذلك وقضى سعيد بن الاشوع به وكان قاضيا للكوفة أبان أمارة خالد القسري على العراق. ونقله عن الصحابي سمرة بن جندب وذكر الامام البخاري أربعة أحاديث في الباب. ونقل الحافظ في الفتح عن ابن عبد البر وابن العربي ان عمر بن عبد العزيز كان يرى لزوم الوعد(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 27-31.
2- انظر صحيح البخاري مع الفتح 6/217-218.
رابعا: بيان القول الراجح:
... بعد إجالة النظر في أدلة الفريقين والاعتراضات التي أوردت على تلك الأدلة والردود عليها(1) يظهر لي رجحان قول المجيزين لبيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام بالوعد لكل من المصرف والعميل وأنه عقد صحيح يتفق مع القواعد العامة للعقود في الشريعة الاسلامية.
خامسا: الفتاوى الصادرة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء:
... ناقش العلماء المعاصرون بيع المرابحة للآمر بالشراء مناقشة مستفيضة في عدد من المؤتمرات والندوات العلمية وخرجوا بتوصيات وأصدروا فتاوى في المسألة أذكر أهمها:
... 1- الفتوى الصادرة عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي المنعقد في دبي في المدة من 23-25 جمادى الثانية 1399هـ الموافق 22 مايو 1979م وحضره تسعة وخمسون عالماً ذوي اختصاصات متعددة فمنهم الفقهاء ومنهم الإقتصاديون ومنهم رجال القانون وعرضت عليهم الحالة التالية:
... يطلب المتعامل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي يشتريها به المصرف وكذلك الثمن الذي يشتريها به المتعامل مع البنك بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما ذكرته وما لم أذكره مما إطلعت عليه في المصادر والمراجع التي تحدثت عن بيع المرابحة.
التوصية:
... يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعداً من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها ووعداً آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقاً لذات الشروط.
... إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقاً لأحكام المذهب المالكي وملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء اذا إقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه"(1)
... 2- الفتوى الصادرة عن المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت في المدة ما بين 6-8 جمادى الآخرة عام 1403هـ الموافق 21-23 آذار 1983م. وقد اختار المؤتمر من بين العلماء الذين حضروا عشرة من العلماء للإفتاء فيما يتعلق بالموضوعات المعروضة على المؤتمر وأصدر عدة توصيات منها:
الوعد بالشراء جائز شرعاً:
... يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أم جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي وأما بالنسبةللوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية ص 19-20، بنك دبي الاسلامي.
وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.
العربون في عمليات المرابحة:
... يرى المؤتمر أن أخذ العربون في عمليات المرابحة وغيرها جائز بشرط أن لا يحق للمصرف أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء النكول(1).(/15)
... 3- صدر عن الندوة الإقتصادية الإسلامية في المدينة المنورة توصيات ورد للشبهات حول بيع المرابحة وتأكيداً لما جاء في الفتوى السابقة. فقد عقدت الندوة في الفترة من 17-20 رمضان 1403 الموافق 27-30 حزيران 1983م وحضرها عدد من الفقهاء المعاصرين وصدر عن الندوة مجموعة من الفتاوى منها ما يتعلق ببيع المرابحة للآمر بالشراء ونصها: شبهات حول المرابحة والرد عليها:
السؤال الثامن: أورد بعض الناس شبهات على جواز بيع المرابحة بالأجل بأنه ينطوي على شبهة ربوية كما أورد شبهات على جواز المرابحة للآمر بالشراء وهذه الشبهات هي:
... اولاً: أن هذا العقد يتضمن بيع ما ليس عند البائع.
... ثانيا: تأجيل البدلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية ص 32-33.
...
... ثالثا: أنه بيع دراهم بدراهم والمبيع مرجأ أو أنه نوع من ... التورق.
... رابعاً: أن المالكية منعوا الإلزام بالوعد في البيع.
... خامساً: أن هذا العقد يتضمن تلفيقاً غير جائز.
فما هو الجواب عن ذلك:
... الفتوى: بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي جائز باتفاق سواء كان بالنقد أو بالأجل وأن هذه الشبهة الربوية المثارة على بيع المرابحة ليست واردة لا في هذا البيع ولا في البيع المؤجل.
... وأما صورة المرابحة للآمر بالشراء فإن اللجنة تؤكد ما ورد في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت مع ما تضمن من تحفظات بالنسبة للإلزام.
ونصها كما يلي:
... (يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراه وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي. مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد في ما يستوجب الرد بعيب خفي.
... وأما بالنسبة لوعد وكونه ملزماً للآمر أو للمصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه".
وأما الشبهات المثارة على بيع المرابحة للآمر بالشراء فإن الرد عليها كما يلي:
... 1- أن هذا العقد لا ينطوي على بيع ما ليس عند البائع لأن عقد البيع الذي يتم مع المشتري الآمر انما يتم بعد التملك الفعلي فضلاً عن شبهة أن النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده ليست محل اتفاق.
... 2- أن شبهة تأجيل البدلين ليست واردة لأن تمليك السلعة يتم مقابل الثمن الحالي أو المؤجل.
... 3- وأن التبادل في القرض على أساس التعامل الربوي يقع بين الشيء ومثله كأن يعطي المرابي للمدين مئة ريال لأجل ثم يستردها عند الاستحقاق بمئة وعشرة أما في البيع في المرابحة لأجل فإن التبادل يقع على أشياء مختلفة هي السلعة المبيعة بالثمن من العفو فكيف يعقل أن يقاس التعامل بالمرابحة على التعامل بالربا خصوصاً وأنه بالرغم من تحديد الربح في المرابحة إلا أن هذا التحديد فيه إما تفويت الربح للمأمور بالشراء مضاربة بسعر السوق عند ارتفاع السعر أو تحقق الخسارة للآمر عند حدوث العكس. وهذا التأثر ناتج عن العرض والطلب على البضاعة لا على العرض والطلب على النقود.
... 4- إن المنع عند المالكية مشروط بشرطين لا يتحققان في هذه الحالة وهذان الشرطان هما:
أ- يكون المطلوب منه السلعة من أهل العينة.
ب- يكون طالب السلعة قد يكون طلبها لينتفع بثمنها لا بعينها.
... 5- ليس في عقد المرابحة للآمر بالشراء تلفيق مطلقاً لأن موضوع الالزام العقد موضوع مستقل غير خاص ببيع المرابحة وهو يشمل كل العقود والمعاملات الآخرى.
... بيع العينة هو البيع الذي يتحايل فيه على الوصول إلى الربا دون قصد حقيقة التبادل.
كفيل على مشترى المرابحة بالأجل:
... السؤال التاسع: هل يجوز أن يؤخذ كفيل على المشتري في بيع المرابحة بالأجل؟
... الفتوى: يجوز أخذ كفيل في ذلك شأنه شأن أي بيع بالأجل(1).
... 4- الفتوى الصادرة عن الشيخ بدر المتولي عبد الباسط المستشار الشرعي لبيت التمويل الكويتي وقد كانت جواباً على السؤال التالي:
... نرجو افتاءنا في مدى جواز قيامنا بشراء السلع والبضائع نقداً بناء على رغبة ووعد من شخص ما بأنه مستعد - إذا ما ملكنا السلعة وقبضناها- أن يشتريها منا بالأجل وبأسعار أعلى من اسعارها النقدية.
... ومثال ذلك: أن يرغب أحد الأشخاص في شراء سلعة أو بضاعة معينة لكنه لا يستطيع دفع ثمنها نقداً فنعتقد بأنه إذا اشتريناها وقبضناها سوف يشتريها منا بالأجل مقابل ربح معين مشار إليه في وعده السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر السابق ص 49-51.
الجواب:(/16)
... بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
... فإن ما صدر من طالب الشراء يعتبر وعداً ونظراً لأن الأئمة قد اختلفوا في هذا الوعد هل هو ملزم أم لا فإني أميل إلى الأخذ برأي ابن شبرمة رضي الله عنه الذي يقول إن كل وعد بالتزام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً يكون وعداً ملزماً قضاء وديانة وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس والعمل به يضبط المعاملات لهذا ليس هناك مانع من تنفيذ مثل هذا الشرط(1).
... 5- الفتوى الصادرة عن الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لأدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية حيث وجه إليه السؤال التالي بتاريخ 16 جمادى الآخر 1402 هـ الموافق 10 نيسان سنة 1982.
السؤال:
... إذا رغب عميل البنك الإسلامي شراء بضاعة ما تكلفتها ألف ريال سعودي وأراها البنك الإسلامي أو وصفها له ووعده بشرائها منه مرابحة بالأجل لمدة سنة بربح قدره مائة ريال سعودي لتكون القيمة الكلية ألف ومائة ريال سعودي وذلك بعد أن يشتريها البنك من مالكها بدون إلزام العميل بتنفيذ وعده المذكور أو المكتوب.. فما رأيكم في هذه المعاملة. وجزاكم الله خيرا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية 1/16
وأجاب الشيخ عبد العزيز بن باز بما يلي:
... الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر في السؤال فلا حرج في المعاملة المذكورة إذا استقر المبيع في ملك البنك الإسلامي وحازه إليه من ملك بائعه لعموم الأدلة الشرعية. وفق الله الجميع لما يرضيه(1)
... 6- قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 الى 6 جمادي الأولى 1409 الموافق 10-15 كانون الأول 1988م ونصه:
... بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي : (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما قرر:
... أولاً: ان بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعاً هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
... ثانيا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر. وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المرابحة د. القرضاوي ص 11-12 ، بيع المرابحة د. الأشقر ص 52.
... ثالثا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو احدهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه. حيث يشترط عندئذ ان يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.
... ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية أتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
ويوصي بما يلي:
... أولاً: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما انشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
... ثانيا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 جزء 2 ص1599-1600.
... ... ... ...
الفصل الثاني:
بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تتعامل به شركة بيت المال الفلسطيني العربي.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول:
نشأة شركة بيت المال وأهدافها ونشاطاتها
المبحث الثاني:
التطبيق العملي لبيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه شركة بيت المال.
المبحث الثالث:
شبهات حول التطبيق العملي لبيع المرابحة للآمر بالشراء.
المبحث الأول : نشأة الشركة وأهدافها ونشاطاتها:
1- التعريف بالشركة:(/17)
... تأسست شركة بيت المال الفلسطيني العربي في مطلع سنة 1994م وسجلت لدى مراقب الشركات في فلسطين بتاريخ 22 شباط 1994م كشركة مساهمة عامة تحت رقم (562600486). حصلت الشركة على إذن الشروع بأعمالها ابتداء من 9 كانون الثاني 1995م وبدأت بمباشرة نشاطها في الأول من نيسان 1995م.
... يتركز نشاط الشركة في القيام بجميع أوجه الإستثمار والتمويل في جميع القطاعات الإقتصادية وتشجيع توظيف الأموال لحساب الشركة ولحساب الغير وذلك وفقاً لأحكام الشريعة الاسلامية السمحة كما تقوم الشركة بأعمال تبديل العملات المختلفة. يتألف رأسمال الشركة من 10,000,000 سهم، القيمة الاسمية للسهم هي دينار أردني واحد وبلغت قيمة الأقساط المطالب بتسديدها حتى تاريخ الميزانية العمومية 75% من القيمة الإسمية للسهم(1)..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التقرير السنوي الأول للشركة لسنة 1416/1995، ص21.
وقد وضح المؤسسون أهداف تأسيس الشركة بما يلي:
... (يعاني الإقتصاد الفلسطيني من مشاكل عديدة أدت إلى عدم توازنه، بل وتخلفه.. فهو يفتقر إلى البنية التحتية الملائمة وإلى رؤوس الأموال اللازمة لنموه وتطوره.
... وهناك ضرورة ملحة لتنمية هذا الاقتصاد وتطويره بكافة قطاعاته في المرحلة المقبلة... وهذا يتطلب استثمارا في مجالات عديدة. ومن هنا جاءت فكرة انشاء “شركة بيت المال الفلسطيني العربي" لتعمل بشكل فعال على اقامة مشروعات استثمارية صناعية وانتاجية وخدماتية مختلفة او لتشارك في هذه المشروعات مع حرصها على توفير الخدمات الاجتماعية والتي تسهم في توثيق عرى الاخوة بين أفراد المجتمع وتنمي علاقات التواصل الحميمة فيما بينهم لما فيه مصلحة البلاد وخير أبنائها.
... ولذلك كله فقد وضعت الشركة نصب عينيها ان تحقق مجالات استثمارها ربحاً حلالاً للمستثمرين بالاستناد الى احكام شريعتنا الإسلامية السمحة الغراء وهكذا فإن أهداف شركتنا يمكن أن تتحدد على النحو التالي:
... أولاً: الإسهام في بناء اقتصاد فلسطيني يستند على النظام الاقتصادي الاسلامي القائم على أساس المشاركة في الربح والخسارة كأساس للتعامل المالي في الشركة.
... ثانيا: استثمار الأموال في القطاعات الإقتصادية الصناعية والتجارية والخدماتية المختلفة مع ابقاء الباب مفتوحاً أمام الشركة لإقامة مشاريعها الخاصة بها والمشاركة مع مستثمرين آخرين بنسب متفاوتة وذلك في كل موقع من مواقع فلسطين.
... ثالثا: تشجيع أصحاب الأموال المكنوزة على استثمارها في مشاريع حيوية ذات نفع لهم وللمجتمع.
... رابعاً: وعملاً بقوله تعالى {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} نضع هدفا آخر لا بد منه لنعمل به لأول مرة في هذا البلد المبارك تطبيقاً لمبدأ إسلامي وترجمة له على أرض الواقع ألا وهو العمل لنيل الأجر والثواب ومرضاة الله سبحانه وتعالى ومنعاً للوقوع في المعصية واكتساب الإثم ويتحقق ذلك من خلال هذه الشركة التي ستعمل من لحظة تأسيسها وفق هذا المبدأ الرباني العظيم حيث ستقوم بإخضاع عملياتها الاقتصادية لجهاز رقابة شرعي معين لهذه الغاية.
... والشركة في سعيها لتحقيق هذه الأهداف ستلجأ بإذن الله إلى وسائل ومعايير ومواصفات د قيقة محسوبة تكفل تطبيق فكرة الاستثمار على أساس من أحكام الشرع كما تكفل توفير اساس النجاح فضلاً عن استقطاب كوادر بشرية تتسم بالتخصص والمقدرة والكفاءة والعمل المخلص لتحقيق المنفعة والفائدة لجميع الأطراف من مساهمين ومستثمرين من منطلق النظام الإقتصادي الشامل.
...
... إن إقامة هذا المشروع وإدارته بشكل جيد يأخذ بالاعتبار رسم سياسة واضحة ودراسات كاملة مفصلة لكل مشروع منبثق عنه بحيث لا يتم الاستثمار فيه الا بعد ثبات جدواه اقتصادياً واجتماعياً وضمان مساهمته في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة وقدرته على تحقيق عائد مجز للمساهمين فيه وكونه لبنة قوية من لبنات اقتصادنا الفلسطيني.
... وبعد ما تبين من الأهداف السابقة فإن وجود السوق الواسعة لهذا المشروع تشير الى دلالة أكيدة على جدوى الاستثمار فيه وإن شركة كهذه ستكون رائدة في هذا البلد المبارك بعونه سبحانه(1).
2- النشاط الإستثماري للشركة:
... من ينابيع فقه المعاملات في الإسلام ومن جهود أهل العلم من الفقهاء وتجارب المؤسسات الاستثمارية التي تتوخى الحلال في معاملاتها ستعمل شركة بيت المال العربي على تطبيق أشكال مختلفة من طرق الإستثمار التي تتوافق مع الشريعة الاسلامية ونذكر أهمها:
أولاً: بيع المرابحة:(/18)
... وهو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح فلو اشترى شخص بضاعة بمائة دينار وجاء آخر يطلب شرائها عالماً بمواصفاتها وظروف شرائها الأول فإن المشتري الأول يستطيع بيعه إياها بزيادة على ثمن الشراء وفي مجال الشركة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1- النشرة التعريفية لشركة بيت المال، بدون أرقام للصفحات.
الاستثمارية تستطيع أن توفر حاجة العملاء من السلع والأجهزة والمعدات قبل أن يتوفر الثمن لديه حيث يستطيع هذا العميل أن يتقدم للشركة طالباً منها سلعة معينة مبينا وصفها وكمياتها. فتقوم الشركة بشرائها له على اساس الوعد من قبل العميل بشرائها بسعر تكلفتها مع زيادة ربح يتفق عليه للشركة كما يتفقان على طريقة سداد الثمن حيث يمكن ان يكون دفعة واحدة أو على أقساط على اعتبار ان الشركة تقوم بشراء البضاعة أو استيرادها على حسابها الخاص وتتملكها تملكاً كاملاً ويتم فتح الاعتماد السنوي إذا كانت مستوردة باسمها ثم تقوم بنقل ملكيتها بالبيع للعميل بعد حصولها على البضاعة.
ثانيا: بيع المساومة:
... ويتمثل في طلب العميل من الشركة ان تشتري له سلعة معينة. تشتريها الشركة من طرف ثالث بسعر يتم تحديده من خلال التفاوض والمساومة بين الشركة كمشتري والبائع ولا دخل للعميل في تحديد الثمن. ويستطيع العميل شراء البضاعة بعد أن تنتهي الصفقة بين الشركة والبائع وتملك الشركة البضاعة فإذا قبل العميل البضاعة يقوم بتسديد قيمتها للشركة بالأقساط على النحو الذي يتم الاتفاق عليه ويمكن تطبيق هذا البيع على السلع المحلية أو المستوردة على حد سواء.
ثالثا: بيع السلم أو (بيع السلف).
... وهو بيع غائب تدعو اليه حاجة كل من البائع والمشتري فهو شراء سلعة مؤجلة بثمن مدفوع حالاً. فتستطيع الشركة شراء بضاعة مؤجلة لموسمها وتدفع ثمنها حالاً إذا ضمنت وجود عملاء لهذه البضاعة في وقت استلامها ويمكن لها أن تبيع البضاعة الآجلة في الوقت الحاضر (بيع سلم) أي بنفس الطريقة التي اشترتها فيها(1) أوأن تنتظر بيعها لحين استلامها. وتبيع تبعاً لذلك بسعر السوق في ذلك الوقت نقداً أو بالتقسيط وتقوم الشركة بعمل ذلك عندما تتنبأ بزيادة ثمن البضاعة في فترة استلامها ولكن هناك شروط لبيع السلم وهي:
أ- شروط متعلقة برأس مال السلم وهي:
... 1- أن يكون رأس المال معلوم المقدار.
... 2- أن يكون رأس المال معلوم الجنس.
... 3- أن يسلم رأس المال في المجلس.
ب- أما الشروط المتعلقة بالبضاعة فهي:
... 1- أن تكون في الذمة.
... 2- أن تكون صفاتها معروفة تماماً.
... 3- أن تكون معلومة المقدار بالكيل والوزن.
... 4- أن يكون الأجل معلوماً.
... 5- بيان محل التسليم في العقد.
... 6- أن تكون البضاعة ممكنة الوجود عند الأجل حتى يكون هناك إمكانية لتسليمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القول بجواز بيع المسلم فيه قبل قبضه هو قول المالكية وابن تيمية وابن القيم ومنع ذلك جمهور الفقهاء. والشركة حتى تاريخه لم تتعامل بعقود السلم.
رابعا: التمويل بالمضاربة:
... ستعمل شركة بيت المال العربي بتنفيذ عقود المضاربة المعروفة في الاسلام حيث ستعمل على تغطية احتياجات تمويلية مختلفة في مجال استيراد بضاعة أو تمويل مناقصات أو مشاريع صغيرة خاصة من التي تدر الربح السريع. والمضاربة : هي عقد على الشركة في الربح بين رب المال (الشركة الاستثمارية) التي تقدم المال وبين المضارب (العميل) الذي يقدم عمله ويد المضارب على المال يد أمانة ، وتصرفه في المال تصرف الوكيل فإن تحقق ربح فالعميل شريك في الربح مع الشركة حسب شروط العقد وإن لم يتحقق الربح فلا شيء للعميل (المضارب) وذلك أن الخسارة يتحملها رب المال ما لم يثبت تقصير المضارب في أداء واجبه ويمكن للشركة تطبيق نظام المضاربة في معاملاتها بالشكل التالي:
1- تقوم الإدارة المختصة بدراسة العملية المعروضة عليها من ناحية جداوها الإقتصادية، ودراسة العميل من حيث كفاءته وخبرته وسمعته المهنية وتعد تقريراً شاملاً بذلك لعرضه على الإدارة العليا لإقراره.
2- إذا ثبت جدوى العملية واطمأنت إدارة الشركة الى كفاءة العميل، تناقش معه الشروط والتفاصيل التي يتم مراعاتها عند صياغة عقد المضاربة.
3- يتم اخطار الادارة المعنية في الشركة بشأن العملية.
4- ويتم متابعة العملية ميدانياً ومحاسبياً حتى موعد تصفيتها وإجراء التوزيع بالنسبة للأرباح وفقا للعقد المبرم بين الطرفين.
خامساً: التمويل بالمشاركة:(/19)
... حيث يعتبر العمل في هذه الصيغة من ميزات شركة بيت المال الفلسطيني العربي، فهو نظام مستحدث على أساس تقديم الشركة للعميل التمويل الذي يطلبه بقصد إنشاء مشروع أو شراء بضاعة دون أن تتقاضى الشركة فائدة ثابتة، وإنما تشارك في النتائج المحتملة للمشروع (ربحا أو خسارة) في حدود قواعد توزيعية يتفق عليها مسبقاً. وبذلك تعتبر الشركة شريكاً حقيقيا في العمليات ونتائجها، ويحق لها التدخل الإداري بالقدر الذي يضمن لها الاطمئنان إلى حسن سير العملية والتزام العميل الشريك بالشروط المتفق عليها في العقد. وتتم المحاسبة في عمليات التمويل بالمشاركة على أساس نسبة ما قدمه كل شريك في رأس المال. وعند قيام أحد الشريكين بإدارة الشركة سواء شركة بيت المال الفلسطيني العربي أو العميل يخصص له نسبة يتفق عليها من صافي الربح، تخصم قبل توزيع حصة رأس المال وهناك المشاركة المتناقصة وهي التي تنتهي بتمليك المشروع بالكامل للعميل بعد دفع حصة الشركة من رأس المال تدريجياً من حصته في الربح.
سادساً: الرهن:
... وهو جعل عين لها قيمة مالية وثيقة بدين بحيث يمكن أخذ الدين أو جزء منه من تلك العين وحتى تضمن الشركة حقوقها يمكنها أن تقوم بطلب رهن على ديونها المقدمة في المضاربة أو المشاركة مع الغير وقد يكون هذا الرهن عقاراً أو غير ذلك. وهذا جائز من الناحية الشرعية بحيث إن لم يستطع العميل الوفاء بإلتزاماته تستطيع الشركة بيع المرهون سواء أكان عقاراً أو غيره لإستيفاء دينها منه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- النشرة التعريفية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي بدون أرقام للصفحات.
3- تعامل الشركة وفق أحكام الشريعة الاسلامية:
... تهدف شركة بيت المال الفلسطيني العربي المساهمة العامة إلى استثمار أموالها في قطاعات الإقتصاد الفلسطيني المختلفة وفقاً لأحكام الشريعة الاسلامية الغراء. وتستلهم الشركة في تعاملها مع الجمهور معايير معينة تستند الى مباديء ديننا الحنيف وأحكام المعاملات فيه والتي تستمد الشركة منها قوتها وثباتها. كما ترتكز في توجهاتها على أسس من الصدق والإخلاص في النوايا تكفل لها تحمل مسؤوليات جمة تجاه المجتمع الفلسطيني بشكل خاص والعالم الاسلامي بشكل عام(1).
4- هيئة الرقابة الشرعية للشركة.
... وحتى تستطيع الشركة تحقيق غاياتها ستسعى بشكل دؤوب لتوفير الطاقات البشرية القادرة على تحقيق أهدافها، ومن أجل ضمان التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية في جميع عملياتها الاستثمارية والمساعدة على تطوير اساليب استثمارية حديثة متنوعة وايجاد قنوات مثمرة ذات عائد مجز للمساهمين يتسم بالشرعية والأمان. ستقوم الشركة بعرض كافة أعمالها على جهاز الرقابة الشرعي المعين لهذه الغاية.
وقد صدر عن هيئة الرقابة الشرعية التقرير التالي قبل أن تبدأ الشركة بالعمل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر السابق.
بسم الله الرحمن الرحيم
تقرير هيئة الرقابة الشرعية:
... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
... اجتمعت هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال العربي الفلسطيني المساهمة العامة يوم الأحد الموافق 15/6/1414هـ. وفق 28-11-1993، ودرست ما قدمه المؤسسون للشركة من كلمة المؤسسين المتضمنة لأهداف الشركة ووسائلها ووجدت أنها تتفق مع أحكام الشريعة الاسلامية. كما درست مقدمة النظام والمتضمن التزامها بأحكام الشريعة الاسلامية في التعامل المالي والاقتصادي، وإطلعت أيضاً على النظام المتعلق بصندوق الزكاة ورأت أن ذلك كله يتفق مع أحكام الشريعة الاسلامية. وبناء على ذلك ترى أن اهداف الشركة ووسائلها المتعلقة تنبع من النظام الاقتصادي الاسلامي. وتطلب هيئة الرقابة الشرعية من إدارة الشركة عرض أصول المعاملات على الهيئة قبل تنفيذها لدراستها ومقارنتها مع أحكام الشريعة الاسلامية.
... ونسأل الله عز وجل أن يوفق الهيئة الإدارية للسير على درب الاسلام، وتجنب كل ما فيه مخالفة شرعه.
والله الموفق
الدكتور حسام الدين عفانة نائب عميد كلية الدعوة وأصول الدين/جامعة القدس
الدكتور حلمي عبد الهادي/ كلية الشريعة/ جامعة النجاح الوطنية
الدكتور عبد المنعم أبو قاهوق/ جامعة النجاح الوطنية/رئيس كلية العلوم الاسلامية/باقة الغربية
... وتأكيداً على ضرورة موافقة سائر أعمال الشركة لأحكام الشريعة الاسلامية الغراء فقد حرص مجلس الإدارة على الاستعانة بآراء هيئة الرقابة الشرعية في مراقبة ومتابعة أعمال الشركة من الناحية الشرعية.(/20)
... وتتلخص مهمة الهيئة في بيان الحكم الشرعي في الأعمال التي تزاولها الشركة أو تلك التي تنوي استحداثها. وقد أصدرت الهيئة عدداً من الفتاوى والتوصيات في الموضوعات والتساؤلات التي عرضتها عليها الشركة يجري العمل على تنقيحها من قبل رئيس هيئة الرقابة ليصار إلى طباعتها في كتيبات للاستفادة منها مستقبلاً(1)، كما اشتركت الهيئة مع المسؤولين في وضع نماذج العقود التي تستخدمها الشركة في معاملاتها للتأكد من مطابقتها لاحكام الشريعة الاسلامية. وتتابع الهيئة كافة أعمال التمويل والاستثمار التي تقوم بها الشركة، كما تتابع الخطوات التطبيقية والإجراءات العملية المتبعة في تنفيذ أعمال التمويل والاستثمار وتصدر توصياتها بخصوصها هذا وتعد الهيئة تقريراً سنوياً لعرضه على الجميعة العمومية يتضمن رأيها وملاحظاتها وتوصياتها، كما ترفع التقارير الى الادارة حسب الحاجة(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صدرت المجموعة الأولى من فتاوى هيئة الرقابة الشرعية في نهاية سنة 1995م.
2- التقرير السنوي الأول للشركة لسنة 1416/1995 ص 12-13.
...
وبعد مضي السنة الأولى من عمر الشركة أصدرت هيئة الرقابة الشرعية التقرير التالي:-
تقرير هيئة الرقابة الشرعية:
... الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
... فإن هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي تتقدم الى الهيئة العامة للمساهمين بالتقرير التالي:-
... أولا: أصدرت الهيئة عدداً من الفتاوى الشرعية في الموضوعات التي أحيلت إليها من المسؤولين في الشركة.
... ثانيا: أجابت الهيئة على كثير من الاستفسارات والاستشارات التي عرضها المسؤولون في الشركة.
... ثالثا: راجعت الهيئة جميع معاملات بيع المرابحة للآمر الشراء ومشاريع الشركة وأعمال الصرافة التي نفذتها الشركة حتى 31/12/1995م.
... رابعا: راجعت الهيئة عدداً من العقود التي عرضت عليها وأجرت عليها التعديلات اللازمة كي تصح شرعاً.
... خامسا: اشرفت الهيئة على حساب زكاة أموال الشركة وأوجه صرفها حسب المصارف الشرعية وفي الختام فإن الهيئة وعلى ضوء ما تقدم ترى أن أعمال الشركة تسير وفق أحكام الشريعة الاسلامية.
د. حسام الدين موسى عفانة.
رئيس هيئة الرقابة الشرعية.
5- صندوق الزكاة
... تعتبر شركة بيت المال الفلسطيني العربي أول شركة مساهمة في فلسطين ينص نظامها الأساسي على إنشاء صندوق للزكاة فقد جاء في الفصل السادس من النظام الأساسي تحت عنوان صندوق الزكاة:
المادة 63
تحتفظ الشركة بحسابات خاصة مستقلة لصندوق الزكاة.
المادة 64.
... تقوم الشركة بإدارة صندوق للزكاة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية تتكون إيراداته من مخصصات الزكاة المقتطعة سنوياً من أموال الزكاة وما يرد إلى هذا الصندوق من أموال الزكاة الأخرى سواء من مساهمي الشركة أو من غيرهم بينما تتكون مصروفات هذا الصندوق من أوجه الصرف المختلفة المنصوص عليها في القرآن الكريم وبعد الإستئناس برأي جهاز الرقابة الشرعي.
... وقد قامت الشركة فعلاً بإخراج الزكاة عن السنة الأولى من نشأتها والمنتهية في 31/12/1995م. وتم توزيع الزكاة حسب مصارفها الشرعية بإشراف هيئة الرقابة الشرعية.
... وفيما يلي نص المذكرة المقدمة من إدارة الشركة والمتضمنة السؤال المتعلق بإخراج زكاة الشركة وجواب هيئة الرقابة الشرعية عنه:-
... عملاً بأحكام المادتين 63،64 من الفصل السادس من النظام الداخلي لشركة بيت المال الفلسطيني العربي اللتين نصتا على :-
المادة 63:
تحتفظ الشركة بحسابات خاصة مستقلة لصندوق الزكاة.
المادة 64:
... تقوم الشركة بإدارة صندوق الزكاة وفقاً لاحكام الشيعة الإسلامية تتكون إيراداته من مخصصات صندوق الزكاة المقتطع سنوياً من أموال الزكاة، وما يرد إلى هذا الصندوق من أموال الزكاة الأخرى سواء من مساهمي الشركة أو من غيرهم بينما تتكون مصروفات هذا الصندوق من أوجه الصرف المختلفة المنصوص عليها في القرآن الكريم وبعد الاستئناس برأي جهاز الرقابة الشرعي.
... وفي ضوء ما سبق فإن على عاتق الشركة مسؤولية قياس وحساب وتوزيع فريضة الزكاة وفقاً لما ورد في النظام الاساسي لانشائها، ونظراً لاختلاف طريقة حساب زكاة الأموال في المصارف والشركات الاسلامية ومعالجتها على أساس تكلفته على النشاط أو توزيعاً للربح، وتقديرها بمبلغ ثابت أو اتباع القواعد الشرعية والأسس المحاسبية واعداد حسابات ختامية وتقرير مالي مستقل للزكاة في إطار نظام محاسبي لذلك. ومنعاً للوقوع في أي حرج شرعي، لا سمح الله" أو شبهات مالية أو محاسبية فإن الأمر يقتضي تسوية هذه الملاحظات في الشركة عند اعداد نظام صندوق الزكاة وعليه فإننا نقترح ما يلي:-
أولا: وضع القواعد التي تحكم زكاة المال في الشركة والتي منها:(/21)
... أ- ضم الأموال الخاضعة للزكاة الى بعضها البعض ثم يطرح الإلتزامات.
... ب- تقويم الأصول والخصوم على أساس القيمة الإستبدالية الخارجية.
... ج- اعتبار الحول أساساً لحساب الزكاة وترصيد ميعاد حسابها بحيث تكون مع بداية ونهاية السنة المالية للشركة.
... د- الفصل بين أموال المساهمين وأموال صناديق الاستثمار إن وجدت عند حساب الزكاة.
ثانيا: اختيار أفضل طرق حساب الزكاة والمتمثلة في :
... الطريقة الأولى: حقوق الملكية: وتحسب زكاة المال طبقاً لهذه الطريقة على النحو التالي:
... 1- تحديد رأس المال المدفوع فعلاً.
... 2- تحديد الأرباح المرحلة من سنوات سابقة.
... 3- تحديد الاحتياطات وما في حكمها.
... 4- تحديد نصيب المساهمين من أرباح العام الحالي.
... 5- تضاف البنود السابقة الى بعضها البعض ويمثل الناتج الوعاء الإجمالي للأموال الخاضعة للزكاة.
... 6- يطرح من الوعاء الاجمالي ما يلي:
... أ- صافي قيمة الأصول الثابتة لأنها معفاة من الزكاة.
... ب- الخسائر الفعلية المرحلة من سنوات سابقة وكذلك خسائر العام الحالي إن وجدت "لا سمح الله"
... ج- الأموال المستثمرة من جهات أخرى وخضعت للزكاة في تلك الجهات وذلك تجنباً لازدواج الزكاة.
... 7- يمثل الصافي الناتج من طرح البنود الواردة في بند (6) من البنود المجموعة في بند (5) الوعاء الخاضع للزكاة.
... 8- تحسب مقدار الزكاة على أساس 2,5% ليكون الناتج هو إجمالي مقدار الزكاة على أموال المساهمين فتقسم على عدد الأسهم بحيث يكون الناتج هو نصيب السهم من مقدار الزكاة.
... 9- يحسب نصيب كل مساهم من الزكاة عن طريق حاصل ضرب عدد ما يمتلك من أسهم في نصيب السهم من الزكاة.
... 10- يحول مقدار الزكاة الى صندوق الزكاة تمهيداً لإنفاقها في مصارفها الشرعية.
... الطريقة الثانية: صافي رأس المال العامل: وتحسب زكاة المال طبقاً لهذه الطريقة على النحو التالي:
... 1- تحديد الاصول المتداولة العاملة في الشركة وتتضمن الأموال النقدية بالخزينة ولدى البنوك الأخرى وكذلك الإستثمارات والأموال التي لا تدخل ضمن الأصول المتداولة، أي بنود لا يرجى تحصيلها وتقوم على أساس القيمة الجارية لها. كما يدخل في ضمن ذلك أي أصول خضعت للزكاة من قبل الغير تجنباً للإزدواج.
... 2- يخصم من الأصول المتداولة الخصوم المتداولة، وتتضمن فيما تتضمن أموال صناديق الاستثمار إن وجدت والتزامات الشركة تجاه الغير ولا تتضمن الالتزامات طويلة الأجل لأكثر من سنة بل يؤخذ في الحسبان القسط الحالي منها. وبذلك يكون الناتج هو صافي رأس المال العامل.
... 3- يضاف الى صافي رأس المال العامل نصيب المساهمين من الأرباح، وهذا طبقاَ للرأي الذي لا يشترط حولان الحول على النماء ويرى ضمه الى أصل المال، ويكون الناتج بعد ذلك هو وعاء زكاة المال على المساهمين.
... 4- حساب مقدار زكاة المال على أساس 2,5% يكون الناتج هو إجمالي مقدار الزكاة على أموال المساهمين.
... 5- يستخرج نصيب السهم الواحد من الزكاة عن طريق قسمة مقدار الزكاة على عدد الأسهم.
... 6- يحسب نصيب كل مساهم من الزكاة عن طريق حاصل ضرب عدد ما يمتلك من أسهم في نصيب السنة من الزكاة.
... 7- يحول مقدار الزكاة المستحقة على المساهمين إلى صندوق الزكاة تمهيداً لإنفاقها في مصارفها الشرعية.
أسس توزيع حصيلة زكاة المال:
... توزيع حصيلة زكاة المال المجمعة في صندوق الزكاة حسب ما قرره الله عز وجل في الآية الكريمة {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم}.
... ولما كان النظام الداخلي قد اشار الى الاستئناس برأي جهاز الرقابة الشرعي، وحيث إن الشركة في صدد وضع الميزانية السنوية للشركة كما هي في 31/12/1995. لذا نرجو التفضل ببيان الرأي الشرعي فيما ورد بهذه المذكرة والتوصية بما ترونه مناسباً.
الجواب:
... جواباً على خطابكم رقم 1-96 بتاريخ 13-1-96 والمتعلق بحساب زكاة الشركة وكيفية توزيعها فإن هيئة الرقابة الشرعية ترى ما يلي:
أولاً: بناء على المادتين 63و64 في الفصل السادس من النظام الداخلي لشركة بيت المال الفلسطيني العربي فإن الشركة تقوم بإخراج الزكاة وتوزيعها.
ثانيا: بناء على ما قرره مجمع الفقه الإسلامي فإن الشركة المساهمة تزكي الأسهم كما يزكي الشخص الطبيعي أمواله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الإعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ومن حيث النصاب ومن حيث المقدار الذي يخرج.
ثالثا: تتمثل زكاة الشركة حسب ما يلي:
... أ- الاقتطاع السنوي في نهاية كل سنة مالية من أموال الزكاة في الشركة ويشمل ما يلي حسب ما افاده القسم المالي في الشركة:(/22)
... 1-أ) رأس المال المدفوع فعلاً من قبل المساهمين حتى 31/12/1995 والذي يمثل الوعاء الإجمالي للأموال الخاصة بالزكاة.
... ب) صافي ارباح المساهمين من أرباح العام الحالي. على أن يطرح من الوعاء ما يلي:
... - مصاريف التأسيس وتجهيز مقري الشركة في رام الله وغزة.
... - المصاريف الإدارية والعمومية بالشركة.
... - حصة أهل الكتاب من رأس المال والأرباح للمساهمين في الشركة.
... 2- أن يتم تحديد مقدار الزكاة عند بيع أية اراضي أو عقارات أو شقق عند حدوث واقعة البيع ولو تم الدفع بالتقسيط، على أن تضم مقادير هذه الزكاة للصندوق المخصص للزكاة فوراً.
... يمثل الصافي الناتج من طرح البندين 1،2 الوعاء الخاضع للزكاة. وبناءاً على ما سبق فإن مبلغ الوعاء الخاضع للزكاة هو:
... - رأس المال المدفوع فعلاً (مخصوماً منه حصص أهل الكتاب):
... 6,551,000- (70,000)=6,481,000
... - صافي أرباح العام المالي 1995:57,500-(700)=56,800 المجموع : 6,537,800
يطرح منه قيمة الأصول الثابتة: الموجودات الثابتة 75,000
الأراضي 2,703,000
م التأسيس وتجهيز المقر 124,000
المصاريف الإدارية العمومية 161,000
3,063,000
صافي الوعاء الخاضع للزكاة 3,474,800
3- إجمالي مقدار الزكاة على أساس 2,5%=86,870,000
4- نصيب السهم من مقدار الزكاة 009,
ب- الإقتطاع الدوري لبيع الأراضي أو العقارات عند البيع.
... وهذا لا تجب فيه الزكاة لأنه لم يتم عقد أي صفقة بيع حتى نهاية العام 1995م.
رابعا: توزع الزكاة حسب المصارف المقررة شرعاً في قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفتاوى الشرعية نشرة اعلامية رقم (1) صادرة عن هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال ص 16-12.
المبحث الثاني: التطبيق العملي لبيع المرابحة كما تجريه الشركة.
... يتم بيع المرابحة في الشركة حسب الخطوات التالي:
أولاً: يقدم الآمر بالشراء طلب شراء السلعة على اساس المرابحة للشركة وفق النموذج التالي:
طلب شراء بضاعة
السيد/ مدير بيت المال الفلسطيني العربي الرقم:..................
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد التاريخ: / / 19
مقدمة لكم .......................................... هوية رقم..........................
جهة العمل وموقعه................ الوظيفة/المهنة.............الدخل الشهري...........
مقيم......................................................................................
باقي تفاصيل العنوان....................................................................
مقدمة لكم السادة/......................................... الجنسية.......................
ممثلة/ممثلاً بالسيد/................................ بصفته..............................
المقر الرئيسي........................................ نوع النشاط.......................
رقم رخصة البلدية............ جهة وتاريخ اصدارها............تاريخ انتهائها..........
رقم السجل التجاري.......... جهة وتاريخ اصداره............. تاريخ انتهائه...........
رقم الهاتف.........رقم الصندوق البريد........المصارف التي نتعامل معها.............
الموضوع: مع إقرارنا بصحة هذه البيانات وتحملنا نتائج عدم صحتها نرجو التكرم بالموافقة على شراء البضاعة المبينة ادناه لصالحنا وفقا لنظام المرابحة المتبع لديكم والتفضل بمراعاة الآتي:
نوع البضاعة:.................... كميتها/عددها/مقدارها................................
مواصفاتها...............................................................................
جهة الشراء المفضلة....................................................................
القيمة.................................... دينار(فقط....................................)
الدفعة الاولى النسبة( %).................... دينار فقط............................)
كيفية سداد الباقي/.......................................................................
بيانلت اخرى/...........................................................................
علما بأنه لم يسبق لنا التعامل مع الشركة/قد سبق لنا التعامل معكم بتاريخ / / 19م وكان نوع المعاملة السابقة (.............................................................)
وكنا فيها: كفيلا/مشتريا، وانها قد انتهت بالسداد/لم تنته بعد بسبب ..........................................................................................(/23)
ونتعهد من الان بتقديم الضمانات التالية:..................................................
..........................................................................................
ورفق هذا الطلب صورا من المستندات المؤيدة لما ورد به وبيانها كالتالي:..................................................................................
..........................................................................................
والله ولي التوفيق،،،
مقدم الطلب
السيد/السادة.......................................
ممثلا/ممثلة بالسيد.................................
توقيعه............................................
ثانياً: تطلب الشركة عرض سعر من البائع.
ثالثاً: تدرس الشركة عرض السعر وطلب الشراء فإذا تمت الموافقة على الإستمرار في المعاملة تتم بقية الخطوات التالية.
رابعاً: يوقع المشتري على وعد الشراء ويلتزم بموجبه بشراء السلعة من الشركة بعد ان تكون الشركة قد تملكتها وفق النموذج التالي:
(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)
"وعد بالشراء"
انه في يوم ... / ... / 14هـ الموافق/ / 19م.
قد تم الاتفاق بين كل من:
1) شركة بيت المال الفلسطيني العربي ... طرف أول
2) ... ... ... ... طرف ثاني
المقدمة
... حيث أن الطرف الثاني يرغب في شراء البضاعة المحددة على النحو المبين بطلب الشراء بالمرابحة والمؤرخ ... / / والمرقم والملحق بعقد البيع بالمرابحة والمتمم له من المصدر.
... فقد طلب من الطرف الأول القيام بشرائها ثم بيعها ايفاء بهذا الوعد منه بالشراء ووفقا للشروط التالية:
... 1- يقر الطرف الثاني بأهليته للتصرفات المالية وأنه قد أطلع على القانون والنظام الأساسي لشركة بيت المال الفلسطيني العربي (الطرف الاول) ويلتزم في تعامله معها وفقاً لهذا النظام.
... 2- وعد الطرف الثاني الطرف الأول بشراء البضاعة المبينة آنفاً وابرام عقد البيع والشراء بمجرد اعلام الطرف الأول الطرف الثاني بأن البضاعة جاهزة للتسليم أو وصلت الى ميناء ... ... ووردت مستنداتها.
... 3- شروط ومكان التسليم:
... 4- يكون البيع والشراء محل هذا العقد على أساس المرابحة وبقيمة التكلفة الكلية للبضاعة بالاضافة الى ربح الطرف الأول بنسبة ... / من التكلفة الكلية.
... 5- وافق الطرف الثاني على دفع نسبة ... / من قيمة البضاعة عند التوقيع على هذا الوعد كعربون لضمان الجدية وتنفيذ التزاماته قبل الطرف الأول والقيام بتسديد باقي القيمة البيعية للطرف الأول الواردة في البند (5) على النحو التالي:
... 6- اذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد أو قدم بيانات أو معلومات ومستندات غير صحيحة فيتحمل أية أضرار تلحق الطرف ا لآخر نتيجة لذلك.
... 7- أي نزاع ينشأ عند تنفيذ هذا الوعد يكون من اختصاص محاكم مدينة رام الله.
... 8- حرر هذا الوعد من نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبها.
الطرف الأول ... ... ... ... الطرف الثاني
خامساً: تقوم الشركة بشراء السلعة المطلوبة وتوقع عقد شراء بينها وبين البائع وتحوز السلعة الى ملكيتها.
سادساً: تبيع الشركة السلعة للآمر بالشراء وبعد استلامه للسلعة وتأكده من مطابقتها للمواصفات المطلوبة يتم توقيع عقد بيع المرابحة وفق النموذج التالي:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ... ... (المسلمون عند شروطهم)
"قرآن كريم" ... ... "حديث شرف"
عقد بيع مرابحة
بين: شركة بيت المال الفلسطيني العربي المساهمة العامة المحدودة والمسمى فيما بعد بالفريق الأول.
وبين الآمر بالشراء : السيد/ السادة
... 1)
... 2)
والمسمى / المسمون فيما بعد بالفريق الثاني:
وبين الكفيل: السيد/ السادة 1)
... ... ... 2)
... ... ... 3)
والمسمى/ المسمون فيما بعد بالفريق الثالث.
تم الاتفاق بين الفريق الأول وبين الفريق الثاني على ما يلي:
1- باع الفريق الأول للفريق الثاني القابل لذلك البضاعة المبين أوصافها وكمياتها بطلب الشراء رقم ( ) وتارخ ( ) والمرفق بهذا العقد والذي يعتبر هو ووعد الشراء الموقعان من الفريق الثاني جزءاً لا يتجزأ من هذا العقد.
2- كل ما لم يرد ذكره في هذا العقد يخضع لأحكام الشريعة الاسلامية والنظام الأساسي لشركة بيت المال وما لا يتعارض معهما من القوانين والأعراف التجارية النافذة.
3- هذا البيع نظير ثمن اجمالي:
شاملاً التكلفة الكلية والأرباح والضريبة قدره.............. دينار
... ... ... (فقط..................................)
دفع منه الطرف الثاني عربوناً قدره........................دينار
... ... ... (فقط..................................)
ومن ثم يكون اجمالي القيمة المتبقية هو....................دينار
... ... ... (فقط..................................)
4- يتعهد الفريق الثاني بدفع الثمن الاجمالي للبضاعة، بالطريقة المبينة أدناه:(/24)
الفريق الثالث ... ... ... ... الفريق الثاني
(الكفيل) ... ... ... ... (الآمر بالشراء)
رقم الدفعة ... رقم الكمبيالة ... مبلغ الدفعة/دينار اردني ... تاريخ الاستحقاق
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
ويقدم الفريق الثاني للفريق الأول نظير تأجيل باقي ثمن البيع الضمان التالي:
.............................................................................................................................
5- في حالة تنفيذ عملية المرابحة عن طريق فتح اعتماد مستندي، فإن الفريق الثاني يقر بأنه ملزم بقبول المستندات الواردة وفقا للمواصفات التي طلب على اساسها فتح الاعتماد ذي العلاقة، وفي حالة امتناعه عن استلام المستندات الخاصة بالاعتماد بعد اشعاره بوصول المستندات من قبل الفريق الأول، وبالطرق المتعارف عليها تجارياً، فإنه يحق للفريق الأول أن يتسلم البضاعة ويبيعها أو يتصرف فيها بالطريقة التي يراها مناسبة.
6- يكفل الفريق الثالث الفريق الثاني كفالة مطلقة، وعلى وجه التضامن والتكافل، في كل ما يتعلق بهذا العقد. والالتزامات المترتبة على الفريق الثاني بموجبه.
الفريق الثالث ... ... ... الفريق الثاني
(الكفيل) ... ... ... ... (الآمر بالشراء).
7- يقر الفريق الثالث بأن كفالته هذه تعتبر كفالة اضافية أي انه يضيف ذمته الى ذمة الفريق الثاني بالتكافل والتضامن بالنسبة لجميع التزامات الفريق الثاني بموجب عقد المرابحة هذا، ولا يمكن ان تؤثر او تتأثر بأية تأمينات أو كفالات اخرى، تكون في حيازة الفريق الأول حاليا، أو التي قد يحصل عليها الفريق الاول من الفريق الثاني، او بالنيابة عنه في المستقبل، ويعتبر الفريق الثالث نفسه ملزما بهذه الكفالة بإعتبارها تأمينا مستمرا على الرغم من اية مبالغ دفعت او تدفع للفريق الأول، وعلى الرغم من أي تسديد للاعتمادات، او الحساب، او وفاة احد الموقعين، أو حدوث حالة عسر أو خسران للحقوق المدنية، او عدم اقتدار على ادارة الشؤون الداخلية لأي واحد أو أكثر من الموقعين او لأي سبب آخر مهما كان نوعه وذلك حتى تنفيذ التزامات الفريق الثاني بموجب هذا العقد تنفيذا كاملا نهائيا وابراء ذمته تجاه الفريق الاول من أي حق للفريق الاول في عقد المرابحة هذا.
8- من المتفق عليه صراحة، ان كفالة الفريق الثالث تبقى سارية المفعول، وملزمة له، في حالة منح الفريق الاول للفريق الثاني، أي تسامح او امهال، بتسديد التزاماته، او في حالة تجديد الحساب بدون ان يقترن التمديد او التجديد بموافقة الفريق الثالث اذ ان هذه الكفالة هي كفالة مستمرة بحيث تشمل هذا الحساب الجديد ولا تنتهي مسؤولية الفريق الثالث، الا اذا سدد الفريق الثاني جميع التزاماته تجاه الفريق الأول نهائيا.
9- ا) يقر الفريقان الثاني والثالث ان القيود في دفاتر الشركة وحسابتها، تعتبر صحيحة وتعتبر بينة قاطعة لاثبات المبالغ المستحقة.
ب) على الفريق الثاني ان يدقق كل نسخة من الاشعارات او الكتب التي تسلم او ترسل لهم من الشركة وعليهم ان يقدموا مطالعاتهم (ان وجدت) عليها خطيا الى الشركة خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تسليمها او ارسالها من قبل الشركة كما هو الحال وان التفاصيل الواردة في الاشعارات او الكتب المشار اليها اعلاه والتي لا تتسلم الشركة مطالعات الزبائن الخطية عليها خلال المدة المذكورة اعلاه تعتبر صحيحة ومصادق عليها من قبل الزبائن.
10- في حالة توقيع هذا العقد من قبل أكثر من شخص واحد، بصفة فريق ثان او فريق ثالث، يكون جميع الموقعين مسؤولين، بالتضامن والتكافل، منفردين ومجتمعين وبصفاتهم الشخصية، تجاه الفريق الأول عن تسديد المبالغ المطلوبة له بموجب هذا العقد.
11- يوافق الفريق الثالث على الا يتقيد الفريق الاول بأي نص قانوني أو أي تشريع قد يوجب على الفريق الاول الادعاء ضد الفريق الثاني قبل الفريق الثالث، ويصرح الفريق الثالث بأنه يتنازل مقدما، عن وجوب تقديم ادعاء ضد الفريق الثاني على الادعاء ضده.
12- اذا كان الفريق الثاني شركة او شخصا اعتبارياً، فإن كفالة الفريق الثالث تبقى نافذة المفعول، باعتبارها كفالة دائمة مستمرة، بغض النظر عن أي تغيير او تعديل في عقد الشركة او الشخص الاعتباري نظامها او اسمها او اعضائها او افرادها.
الفريق الثالث ... ... ... الفريق الثاني
(الكفيل) ... ... ... ... الآ مر بالشراء).(/25)
13- مع مراعاة ما جاء في البند رقم (13) ادناه فإن كل طلب او اخطار او اشعار، يرغب الفريق الاول في تبليغه الى الفريق الثاني او الثالث، او كليهما معا، بشأن أي أمر يتعلق بهذا العقد يعتبر أنه قد بلغ إلى الفريق الثاني أو الثالث أو كليهما معاً. اذا أرسل بالبريد العادي، او سلم باليد الى العنوان الذي اختاره الفريق الثاني او الثالث، حسبما ذكر في البند رقم (15-أ) ادناه، او الى آخر عنوان معروف لدى الفريق الاول، وكذلك كل طلب او اخطار او اشعار يرسله الفريق الاول الى الفريق الثاني او الثالث، او الى أي فرد من الأفراد الذين يكونون الفريق الثاني او الثالث، وفي حالة تعدد الافراد في كل فريق، يعتبر انه ارسل لجميعهم، ولكل واحد منهم.
14- يعفي الفريق الثالث الفريق الاول من ان يوجه اليه أي بلاغ او اشعار او خطاب، ينشأ عن هذا العقد ما عدا الاشعار الذي بموجبه يطلب اليه ان يقوم بما تعهد به، بموجب هذا العقد.
15- يصرح الفريقان الثاني والثالث بغية تنفيذ ما الزما نفسيهما به بموجب هذا العقد.
أ- ان الفريق الثاني يختار عنوانه للتبليغ ومحل اقامته في: ( ).
وان الفريق الثالث يختار عنوانه للتبليغ ومحل اقامته في: ( ).
... وان تبليغهما على هذين العنوانين يعتبر تبليغا صحيحا، وانهما يخضعان للقوانين والانظمة السائدة، لاجل تسديد كل التزام يكونان ملتزمين به للفريق الاول، لأي سبب كان ويسقطان حقوقهما مقدما في اثارة أي دفع يتعلق بعدم الصلاحية، بالاستناد الى كون محل اقامتهما، او مسكنهما، في مكان آخر.
ب- انهما يوافقان مقدما، رغم كل ما جاء في الفقرة السابقة، على أية محكمة تكون ذات صلاحية يختارها الفريق الاول، للفصل في أي نزاع او ادعاء ينشأ عن هذا العقد، ويسقطان حقوقهما مقدما بالاعتراض على صلاحية المحكمة ذات الاختصاص، التي يختارها الفريق الاول.
ج- انهما يوافقان على ان يكون للفريق الاول، الحق في ان ينفذ ضدهما، مجتمعين ومنفردين، كل حكم او قرار يصدر لمصلحته، اما على جميع ممتلكاتهما او ممتلكات أي واحد منهما المنقولة وغير المنقولة معا، واما على كل من هذه الممتلكات المذكورة على حدة، وفقا لاختياره المطلق، دون ان يتبع في ذلك أي ترتيب بينهما، حتى ولو كان القانون ينص على مثل هذا الترتيب اذ انهما يسقطان حقوقهما مقدما، في اثارة أي اعتراض كان بهذا الخصوص.
16- اذا تم الاتفاق على هذا العقد، من اجل تمويل اعمال او تعهدات او التزامات، يقوم بها الفريق الثاني لمصحلة الدوائر الرسمية او الافراد ، فإن الفريق الثاني يتعهد بتحويل كافة حقوقه في هذه الالتزامات الى الفريق الأول، والتنازل عنها له ضمانا لهذا العقد، ويتعهد بالتوقيع على كافة المعاملات الرسمية والقانونية، التي يطلب الفريق الاول منه توقيعها، وفقا للشروط الخاصة التي يضعها الفريق الاول لهذه الغاية، وتعتبر هذه المستندات جزءا من هذا العقد متمما له، ولا يحق للفريق الثاني ان يتصرف فيها، أو بأي جزء منها بدون موافقة الفريق الاول الخطية، وقبل تسديد قيمة التزاماته نهائيا.
17- يصرح الفرقاء الثلاثة انهم بعد دراسة بنود هذا العقد وتدقيق جميع شروطه، فإنهم يقرون ان هذا العقد لا تتعارض شروطه مع احكام الشريعة الاسلامية.
18- حرر هذا العقد على نسختين اصليتين موقعتين من قبل الفرقاء الثلاثة، بارادة حرة خالية من العيوب الشرعية والقانونية اليوم ... ... ، الموافق / / م. ويسقط الفريق الثاني حقه في الادعاء بكذب الاقرار و/ أو أي دفع شكلي و/أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الفريق الثالث ... الفريق الثاني ... ... الفريق الأول
(الكفيل) ... (الآمر بالشراء) ... شركة بيت المال الفلسطيني العربي.
سابعاً: تبيع الشركة السلعة الى الآمر بالشراء إلى أجل 12 شهراً او 24 شهراً ويتم التوقيع على الكمبيالات المستحقة الدفع في مواعيد محددة يتم الاتفاق عليها بين الشركة والآمر بالشراء.
ثامناً: نص نموذج عقد بيع المرابحة في الشركة على ان الآمر بالشراء يقدم ضمانات للشركة متفق عليها بين الفريقين.
تاسعاً: تطلب الشركة ايضا من الآمر بالشراء كفلاء ثلاثة أو اثنان من الاشخاص المعروفين بالصدق والأمانة ولديهم المقدرة المالية كالتجار مثلا ويوقع الكفلاء النموذج التالي للكفالة:
قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"
صدق الله العظيم
(سورة المائدة/ الآية رقم 1)
القسم الأول - الشروط العام للتعامل
القسم الثاني- الكفالة المطلقة
الى السادة
شركة بيت المال الفلسطيني العربي
فرع( ... ... )
الرقم المتسلسل:
اسم العميل: ( ... ... ... )
القسم الأول
الشروط العامة للتعامل(/26)
... لما كانت شركة بيت المال الفلسطيني العربي المساهمة المحدودة تعمل بصفتها شركة متخصصة في التعامل دون ربا، فان الموقعين أدناه يشهدون الله على صدق نواياهم للتعامل مع هذه الشركة المتخصصة على اساس التعامل الشرعي الحلال، وحسب الوسائل الشرعية المطبقة في تعاملها مع الغير.
... وبناء على هذا التوجه الخالص للتعامل الشرعي الحلال، وتثبيتا لما تم وما سيتم بيننا من معاملات، فاننا نقر لكم بما يلي:
1- إيفاء بالغايات المصودة في هذه الشروط، وبالاضافة إلى ما ورد في المقدمة أعلاه يكون للكلمات والمصطلحات الاتية المعاني المبينة أدناه، إلا إذا دلت القرينة على خلاف ذلك:-
... أ- تشمل كلمة (الشركة) مركز شركة بيت المال الفلسطيني العربي المساهمة المحدودة، أو أي فرع من فروعها، او كليهما معا.
... ب- تعني عبارة (التمويل بالمضاربة) تقديم الشركة النقد اللازم - كليا أو جزئيا - لتمويل عملية محددة يقوم فيها شخص آخر أو اشخاص أو شركة أو أي جسم معنوي آخر، وذلك على أسياس المشاركة - ربحا أو خسارة - حسب الآراء الفقهية المعتمدة.
... ت- تعني عبارة (المشاركة المتناقصة) دخول الشركة بصفتها شريك ممول - كليا أو جزئيا- في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على اساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول الشركة على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلاً، مع حقه في الاحتفاظ بالجزء المتبقي- أو أي قدر منه يتفق عليه - ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمته الشركة من تمويل.
... ث- تعني عبارة (بيع المرابحة للامر بالشراء) قيام الشركة بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الاول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي تدفعه الشركة - كليا او جزئيا- وذلك في مقابل التزام الآمر بشراء ما أمر به، وحسب الربح المتفق عليه عند الابتداء.
ج- تشمل كلمة (المصاريف) جميع النفقات التي تتكبدها الشركة في كل ما يتعلق بتنفيذ أية معاملة من المعاملات الواردة في البند (1) من هذه الشروط، وجميع الرسوم على اختلاف أنواعها، وفرق العملة، وعمولة العملاء، وأتعاب المحاماة، والمحكمين والخبراء، وما يتبعها من مصاريف سفر وإقامة، وترجمة أوراق، ونسخها، وطبعها، وتصويرها.
2- تعتبر مقدمة هذه الشروط جزءاً متمما لها.
3- تشمل أحكام هذه الشروط جميع أشكال التعامل القائمة مع الشركة سواء فيما سبق إجراؤه من معاملات أو ما سيتم اجراؤه مع الشركة في أي مجال من مجالات التعامل الواردة في البند(1) من هذه الشروط. ويشمل ذلك على سبيل المثال لا الحصر - جميع أشكال التعامل في التمويل بالمضاربة، والمشاركة المتناقصة، وبيع المرابحة للآمر بالشراء.
4- إننا نتعامل مع الشركة من منطلق التعامل الحلال، وبالنوايا الحسنة التي نشهد الله على صدقنا في العمل على اساسها، وإننا نتحمل جميع ما يترتب علينا من مسئولية ناشئة عن أي تعد أو تقصير أو إساءة للامانة، أو مخالفة للشروط المتفق عليها مع الشركة (صراحة او ضمنا) حيث يحق للشركة ان تعود علينا، مجتمعين ومنفردين، بكل ما يترتب لها نتيجة قيام أي سبب موجب للضمان شرعا.
5- من المتفق عليه بيننا، أنه يحق للشركة وقف العمل بأية معاملة من المعاملات الواردة في البند (1) من هذه الشروط، اذا تبين لها - حسب رأيها المطلق - عدم جدوى الاستمرار في التمويل و/ أو اذا حصلت أية مخالفة لأي شرط من شروط التعامل و/ أو إذا حصل أي تخلف عن القيام بأي التزام من الالتزامات المترتبة علينا و/ أو إذا تبين للشركة أن اية معاملة من المعاملات المشار إليها أعلاه إستغلت و/ أو بارادتها المنفردة دون أن تكون الشركة ملزمة ببيان الاسباب، وذلك دون الحاجة الى ضرورة /ابلاغنا أي اخطار أو تنبيه أو إشعار أو إنذار عدلي أو مراجعة قضائية أو أي إجراء قانوني أو قضائي آخر مهما كان نوعه.
6- نوافق على عدم إعتبار الشركة وفروعها مسئولين أو ملزمين عن أي عطل وضرر قد يصيبنا في حالة تعطيل الشركة أو توقفها عن العمل سواء أكان ذلك بقرار من سلطة عامة أو بسبب الحرب أو الحوادث العامة، أو لأية أسباب أخرى سواء كانت تشكل قوة قاهرة و/أو ظروفا طارئة أو لأية اسباب اخرى.
7- نصرح بأن الشركة وفروعها غير مسئولين عن أي تلف أو ضياع قد يحدث نتيجة تأخير أو ضياع البرقيات أو التلكس أو الرسائل المرسلة بواسطة الفاكس او التحارير أو غيرها من المستندات، أو بسبب خطا في نقلها، أو تفسيرها، أو ترجمتها، أو بسبب تعليمات شركات التأمين أو الشحن، أو بسبب أي بند من البنود، أو الشروط، أو التحفظات الوارد ذكرها طباعة او كتابة في أي مستند من المستندات. كما أن الشركة وفروعها غير مسئولين عما قد يحدث من خطا أو حذف أو سهو مهما كان نوعه، مما له علاقة بأية معاملة.(/27)
8- نصرح بأن الشركة وفروعها غير مسئولين عن ضياع أي مستند أو اية أوراق او عن أي أمر يتعلق بإكتمال أية مستندات أو أوراق، وصحتها، وحقيقتها، وتأثيرها القانوني، وتزويرها، وتحريفها، وتظهيرها وسريان مفعولها أو عدمه وكذلك لا تكون الشركة وفروعها مسئولين عن أوصاف البضائع المبينة في المستندات، وكميتها، ووزنها، وقيمتها، وحالتها، وتعبئتها، وتسلمها، ومخالفتها لشروط التعامل مع الشركة، وعن حسن نية المصدر أو أي شخص كائنا من كان، وتصرفاتهم، وعن إقتدارهم أو إقتدار ناقلي البضائع ومؤمنيها على الدفع أو عدمه والاخطاء الصادرة من قبلهم أو من قبل شاحني البضائع او ناقليها سواء تم ذلك عن تعمد او نتيجة خطأ تقصيري.
... كما أننا نتعهد ونقبل ان لا نثير أي إدعاء ضد الشركة وفروعها فيما يتعلق بأي خطأ أو مخالفة أو نقص أو ما شابه ذلك مما ذكر أعلاه، سواء كان ذلك من المستندات أو في البضائع أو في أية معاملة أخرى، والذي من شأنه أن يؤدي الى تأجيل او رفض إعادة الدفع للشركة أو التوقف عنه، أو أن يؤدي الى تعديل إرتباطنا مع الشركة بأي شكل إما قبل الدفع أو بعده.
9- نفوض بأن تدفع الشركة إذا رغبت (دون أن تكون ملزمة بذلك) أي مبلغ تراه الشركة ضروريا لتنفيذ أي التزام مترتب بذمتنا، ونتعهد بأن نسدد للشركة عند الطلب قيمة جميع هذه المبالغ التي تكون قد صرفتها لهذه الغاية.
10- في حالة أن يطرأ أي تغيير بسبب حدوث حرب أو حوادث طارئة أو حتى في الاحوال العادية أو لأي سبب آخر مهما كان نوعه فاننا نتعهد بأن ندفع للشركة عند طلبها أو عند تقديمها المستندات لنا جميع المصاريف التي دفعتها الشركة ونسقط كل حق لنا في أي اعتراض أو إدعاء مهما كان نوعه.
11- نتعهد بوفاء جميع الالتزامات المترتبة بذمتنا تجاه الشركة عند الاستحقاق او عند طلب الشركة لأي سبب كان وذلك دون أن تكون الشركة ملزمة ببيان الاسباب الداعية لذلك، واذا استحق أي التزام ولم يدفع لأي سبب كان، تصبح جميع التزاماتنا تجاه الشركة مستحقة دفعة واحدة ولو لم يحل أجل استحقاقها.
12- نتعهد بأن ندفع نقدا عند أول طلب من الشركة مبلغا موازيا لمطلوبها بموجب أي بند من بنود هذه الشروط.
13- يشترط في حالة حلول أجل الالتزامات المترتبة في ذمتنا الى الشركة، وامتناعنا عن الوفاء، يحق للشركة ان تطالبنا بما لحقها من ضرر ناشيء، و/أو متعلق بواقعه امتناعنا عن الوفاء، في مدة المماطلة، وفي حالة عدم اتفاقنا على تقدير الضرر، تحال مطالبة الشركة الى المحاكم النظامية لتقرير قيمة الضرر.
توقيع العميل: ... ... ... ... ... توقيع الكفيل:
14- نصرح بغية تنفيذ ما تعهدنا به بموجب هذه الشروط بما يلي:
... أ- اننا نوافق مقدما على أية محكمة تكون ذات صلاحية تختارها الشركة للفصل في أي نزاع او ادعاء ناشيء و/ أو متعلق بهذه الشروط، ونسقط حقنا مقدما في الاعتراض على صلاحية المحكمة ذات الاختصاص التي تختارها الشركة.
... ب- إننا نوافق على ان يكون للشركة الحق في أن تنفذ ضدنا، مجتمعين ومنفردين، كل حكم أو قرار يصدر لمصلحة الشركة، أما على جميع ممتلكاتنا او ممتلكات أي واحد منا المنقولة وغير المنقولة معا، وإما على كل من هذه الممتلكات المذكورة على حدة، وفقا لاختيار الشركة المطلق، دون أن يتبع في ذلك أي ترتيب، حتى ولو أن القانون ينص على مثل هذا الترتيب ، إذ اننا نسقط حقنا مقدما في إثارة أي إعتراض بهذا الخصوص.
القسم الثاني
الكفالة المطلقة
نصرح بموجب هذه الكفالة -وبدون تحفظ - بما يلي:
... 1- تكون كفالتنا للمكفول الموقع أدناه عامة مطلقة، وعلى وجه التكافل والتضامن، في كل ما يتعلق بالتزامات المكفول تجاه الشركة.
... 2- نقر أن كفالتنا هذه تعتبر كفالة قائمة بذاتها، ولا يمكن أن تؤثر في أو تتأثر بأية تأمينات أو كفالات اخرى قائمة تجاه الشركة حاليا او مما يمكنه أن يحصل عليها مستقبلا.
3- نقر أن كفالتنا هذه تبقى سارية المفعول، وملزمة لنا، في حالة منح الشركة للمكفول أي تسامح أو إمهال في تسديد قيمة أي إلتزام أو في حالة تجديد أو تمديد الكفالة.
4- نقر بان دفاتر الشركة وحساباتها، تعتبر بينة قاطعة لاثبات المبالغ المستحقة، أو التي تستحق على المكفول تجاه الشركة بموجب أي إلتزام مع ما يلحقها من عمولات ومصاريف وغيره، ونصرح بأن قيود الشركة وحساباتها هي نهائية وصحيحة، ولا يحق لنا الاعتراض عليها.
... كما أننا نتنازل مقدما عن أي حق قانوني، يجيز لنا طلب تدقيق حسابات الشركة وقيودها، من قبل أي محكمة ، أو إبراز دفاترها، أو قيودها فيها.
... وتعتمد الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات، والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الشركة على مطابقتها للاصل.
... 5- نوافق على الا تتقيد الشركة باي نص قانوني قد يوجب على الشركة الادعاء ضد المكفول قبلنا.(/28)
... ونصرح بأننا نتنازل مقدما عن حق تقديم الادعاء ضد المكفول قبل الادعاء ضدنا، وأن مطالبة الشركة للمكفول أو لنا، لا تسقط حق الشركة في مطالبة الآخر.
... 6- إذا كان المكفول "شركة" فان كفالتنا هذه تبقى نافذة المفعول ككفالة دائمة مستمرة، بغض النظر عن أي تغيير أو تعديل في عقد الشركة أو نظامها أو اسمها أو اعضائها أو أفرادها أو تصفيتها اختياريا او قضائيا.
... 7- تبقى هذه الكفالة قائمة ومستمرة حتى الوفاء التام بكل الالتزامات المترتبة في ذمة المكفول وبإبراء الشركة المكفول خطياً من أي التزام مترتب في ذمته.
اليوم ... ... الموافق / / م.
اسم العميل: ... ... ... اسم الكفيل:
توقيع العميل: ... ... ... توقيع الكفيل:
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أهمية بيع المرابحة لللآمر بالشراء لدى الشركة:
... يعتبر بيع المرابحة للآمر بالشراء من أهم مجالات الاستثمار التي تمارسها الشركة وقد بلغت حصة بيع المرابحة للآمر بالشراء 89,6% من إجمالي التمويل في الإستثمارات شملت تغطية العديد من الأنشطة الإقتصادية والتي يمكن توضيحها فيما يلي:
... إلتزاماً بمبدأ الشركة بالعمل بالأسلوب الحلال فقد قامت بتوظيف أموالها وتشغيلها وفقا لهذا الأسلوب سواء عن طريق التمويل بالمضاربة أو المشاركة بنوعيها الدائمة والمتناقصة أو بيع المرابحة للآمر بالشراء وقد خصصت الشركة ما نسبته 40% من أموالها لتمويل عمليات المرابحة والمشاركة حيث بلغ حجم التمويل خلال السنة (1995) مبلغ 1,741,035 دينارا وفيما يلي مزيداً من التوضيح لهذا التمويل:
التمويل بالمرابحة ... ... 1,560,588
التمويل بالمشاركة الدائمة ... 60,071
التمويل بالمشاركة المتناقصة ... 120,376.
... وقد بلغت المرابحات ما نسبته 89,6% من اجمالي التمويل في الإستثمارات شملت تغطية العديد من الانشطة الإٌقتصادية والتي يمكن توضيحها فيما يلي:
البيان ... الاجمالي ... الضفة ... غزة
التجارة ... 372,617 دينار ... 340,904 دينار ... 31,713 دينار
السيارات والمعدات ... 563,306 دينار ... 549,805 دينار ... 13,501 دينار
المباني والعقارات ... 624,665 دينار ... 400,185 دينار ... 224,480 دينار
الإجمالي ... 1,560,588 دينار ... 1,290,894 دينار ... 269,694 دينار
وقد بلغت أرباح عمليات المرابحة خلال عام 1995 مبلغ 206,854ديناراً وقد اعتبرت الأرباح كاملة في حساب السنة المالية 1995 باعتبار أن عمليات الشراء والبيع تمت في نفس العام ولأن الشركة لا تتقاضى زيادة في الأرباح عند التأخير في السداد(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التقرير السنوي الأول لشركة بيت المال 1416هـ 1995 ص11.
المبحث الثالث
شبهات حول تطبيق المرابحة
الشبهة الأولى: حساب الربح بالنسبة المئوية:
... ظن كثير من الناس أن حساب الربح بالنسبة المئوية من باب الربا ويعود هذا الظن لتعامل الناس مع البنوك الربوية التي تحسب فوائدها بالنسبة المئوية كأن يقترض شخص من البنك الربوي الف دينار لمدة سنة فيقال له إن عليك فائدة بنسبة 15% مثلا.
... وفي الحقيقة والواقع ان حساب المصارف الإسلامية والشركات الإسلامية ومنها شركة بيت المال لأرباحها بالنسبة المئوية ليس له علاقة بالربا ولا بمعدلات الفائدة (الربا) التي تتعامل بها البنوك الربوية وتوضيح ذلك أن الفقهاء ذكروا من صور المرابحة الصورتين التاليتين:
... الصورة الأولى: أن يقول البائع لمن يرغب في الشراء رأس مالي في هذه السلعة مئة بعتك بها وربح عشرة.
... قال ابن قدامة: (فهذا جائز لاخلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة)(1).
... ونلاحظ أن البائع في هذه الصورة قد جعل نسبة ربحه 10% جملة واحدة.
... الصورة الثانية: أن يقول البائع بعتك برأس مالي وهو مئة واربح في كل عشرة درهماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغني 4/136.
... قال ابن قدامة عن هذه الصورة: (فقد كرهه أحمد وقد رويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء.
... وقال اسحق: لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجز كما لو باعه بما يخرج به في الحساب.
... ورخص فيه سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر.
... ولأن رأس المال معلوم فأشبه ما لو قال: وربح عشرة دراهم..)(1).
... ثم بين ابن قدامة ان البيع صحيح وكراهة بعض الصحابة له كراهة تنزيه لأنه كان من بيوع العجم.
... إن هذا البيع صحيح ولا شيء فيه لأن الثمن معلوم والربح معلوم وحسابه بالنسبة المئوية مجرد عملية حسابية لا شيء فيها والتجار يحسبون أرباحهم بالنسبة المئوية.(/29)
... وهذه النسبة لا علاقة لها بالفائدة الربوية ألتي تتقاضاها البنوك وهناك فرق واضح بينهما وان اتفقتا في الصورة وبيان ذلك:
... تاجر اشترى ثلاجة بألف دينار فباعها بألف ومئة دينار فهذا التاجر زاد على رأس ماله نسبة مئوية هي 10%.
... وهذه الزيادة تسمى عند الفقهاء ربحاً وهو شيء حلال بينما البنك الربوي يقرض شخصاً ألف دينار ويفرض عليه فائدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغني 4/136.
10% فهذه نسبة مئوية وقد زاد البنك رأس ماله 10% وهذه المسماة فائدة وهي محرمة شرعاً.
... فهاتان الحالتان وإن اتفقتا في الصورة ولكنهما مختلفتان في الحكم . فالأولى ربح حلال والثانية ربا حرام.
... فالتاجر زاد ماله بطريق حلال. والبنك الربوي زاد ماله بطريق حرام.
... ومن جانب آخر فهنالك فرق بين ما يتبعه المصرف الاسلامي وما يطبقه البنك الربوي فيما يتعلق بالاعتماد على النسبة المئوية أما البنك الاسلامي فإنه يتفق ابتداء مع المشتري على نسبة الربح بناء على مدة الأجل الذي يسدد فيه الثمن فإذا تم الاتفاق على نسبة معينة فإنه لا يجوز للمصرف الاسلامي ان يزيد عليها شيئا حتى لو أعسر المشتري لأنه قد حصل اتفاق بينهما على الثمن والربح فلا تغيير عليهما بعد هذا الاتفاق.
... أما البنك الربوي فإنه يحدد أرباحه بالنسبة المئوية بناء على مدة الأجل الذي يسدد فيه القرض ولكن هذه النسبة ليست ثابتة كما في المصرف الاسلامي وذلك لأن العميل إن تأخر عن دفع المطلوب في الزمن المحدد للدفع فإن البنك يتقاضى زيادة في مقدار الفائدة كلما تأخر العميل عن الدفع(1).
... وبهذا يظهر لنا: (أن اعتماد النسبة لا شيء فيه شرعاً وليس فيه حرام على المتعامل فيه ولا علاقة له بالفائدة التي تتعاطاها البنوك الربوية)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة . احمد ملحم ص177.
2- احكام العقود والبيوع في الفقه الاسلامي. الشيخ عبد الحميد السائح ص21.
الشبهة الثانية: زيادة الثمن مقابل الأجل:
... من المعلوم أن بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تتعامل به المصارف الإسلامية والشركات الإسلامية يتضمن البيع الى أجل أو بيع التقسيط وكذلك الحال بالنسبة لشركة بيت المال الفلسطيني العربي حيث إن الشركة تشتري السلعة التي يحددها الآمر بالشراء ثم تبيعها له على أقساط مؤجلة وقد ظن كثير من الناس أن وجود فرق في السعر بين البيع بثمن حال والبيع الى أجل بسعر أعلى من الأول يعتبر من باب الربا المحرم.
... ولدفع هذه الشبهة لا بد من تفصيل القول في حكم زيادة الثمن مقابل الأجل وقد تعارف الناس على تسمية البيع الذي يشمل زيادة الثمن مقابل الأجل بيع التقسيط.
... وصورته أن يتفق البائع والمشتري على بيع سلعة ما بثمن معلوم يفرق على أقساط معلومة ومن المعروف أن ثمن السلعة إذا بيعت بالتقسيط يكون أعلى من ثمنها إذا بيعت حالاً.
... وقد اختلف الفقهاء في حكم زيادة الثمن نظير الأجل على قولين:
... القول الأول: تجوز الزيادة في الثمن نظير الأجل وهذا مذهب جمهور الفقهاء بما فيهم فقهاء المذاهب الأربعة ونقل عن جماعة كبيرة من السلف وبه قال كثير من العلماء المعاصرين(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تبيين الحقائق 4/87 تكملة المجموع 13/6 شرح الخرشي 6/44 المغني 4/177 نيل الأوطار 5/172 مجموعة دروس وفتاوى الحرم المكي 3/194 مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج1 ص195 فما بعدها.
... قال ابن قدامة: (وقد روي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد كذا وبالنسيئة كذا فيذهب الى أحدهما.
... وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعد ما يجري في العقد فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة كذا فقال : خذه. أو رضيت ونحو ذلك. فيكن عقداً كافيا(1).
... وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في جوابه على سؤال حول البيع الى أجل (..... وإذا باعه إياه بالقيمة الى ذلك الأجل فإن الأجل يأخذ قسطاً من الثمن)(2).
... وقال الإمام الترمذي صاحب السنن: (إذا قال البائع: أبيعك هذا الثوب بنقد عشرة وبنسيئة بعشرين فإذا فارقه على احدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما)(3).
... وقد احتج الجمهور على قولهم بجواز زيادة الثمن مقابل الأجل بأدلة كثيرة منها:
... 1- قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (4) وهذه االآية الكريمة عامة تشمل بعمومها البيع بثمنين أحدهما مؤجل أعلى من الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغني 4/177.
2- مجموع فتاوى ابن تيمية 29/499.
3- صحيح سنن الترمذي 2/9.
4- سورة البقرة الآية 275.(/30)
... 2- وقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1) قالوا إن من أعمال التجارة البيع بالنسيئة ولا بد من أن تكون له ثمرة وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة وليست داخلة في باب الربا والرضا ثابت لأن البيع المؤجل طريق من طرق ترويج التجارة(2).
... 3- وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه) (3) فالتقسيط في الثمن لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معروفة والآجال معلومة للآية(4).
... 4- واحتجوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: أني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينني...)(5).
... قال الشيخ ابن باز معلقاً على هذا الحديث: (ولقصة بريرة الثابتة في الصحيحين فإنها اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق في كل عام أوقية وهذا هو بيع التقسيط ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بل أقره ولم ينه عنه ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلاً لما تباع به السلعة نقداً أو زائداً على ذلك بسبب الأجل (6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة النساء الآية 29.
2- بيع التقسيط د. ابراهيم الدبو مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ج 1ص 229.
3- سورة البقرة. الآية 282.
4- فتاوى اسلامية 2/239.
5- رواه البخاري ومسلم إنظر صحيح البخاري مع الفتح 6/116 صحيح مسلم بشرح النووي 4/112.
6- فتاوى اسلامية 2/239.
... 5- واحتجوا بما روي في الحديث عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفذت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة)(1)، فهذا الحديث واضح الدلالة على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل.
... 6- واستدل الجمهور بالمعقول فقالوا: إن الأصل في الاشياء والعقود والشروط الإباحة متى ما تمت برضا المتعاقدين الجائزي التصرف فيما تبايعا، الا ما ورد عن الشرع ما يبطله، ولما لم يرد دليل قطعي على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى الحظر فعليه الدليل، بل قد ورد العكس من ذلك فقد نص الشارع على الوفاء بالعهود والشروط والمواثيق، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأموراً به علم ان الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه ابو داود وأحمد والبيهقي، انظر عون المعبود 9/147-148، الفتح الرباني 15/80-81، سنن البيهقي 5/287-288 وقال البيهقي: وله شاهد صحيح وقال الساعاتي: وقوى الحافظ إسناده إنظر المصدرين الأخيرين.
2- بيع التقسيط د. ابراهيم الدبو مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ج1 ص230.
...
... القول الثاني: لا تجوز الزيادة في الثمن نظير الأجل والزيادة تعتبر من باب الربا المحرم وبهذا قال زين العابدين بن بن علي بن الحسين والناصر والمنصور من الهادوية والإمام يحي(1). وبه قال ابو بكر الجصاص الحنفي(2) وهو قول جماعة من العلماء المعاصرين (3).
وقد احتج هذا الفريق بأدلة منها:
... 1- قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) (4) فالآية أفادت تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا وهي تفيد الإباحة في قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (5) فإن كل العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة.
... 2- واحتجوا بما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)(6) وفي رواية اخرى (نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة)(7). ووجه الاستشهاد بالحديث بأن يقول بعتك بألف نقداً أو الفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نيل الاوطار 5/172.
2- أحكام القرآن للجصاص 2/186-187.
3- بيع المرابحة لأحمد ملحم ص 172، حكم زيادة السعر في البيع بالنسيئة شرعا، د. نظام الدين عبد الحميد مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ج 1 ص 367.
4- سورة البقرة الآية 275.
5- سورة النساء الآية 29.
6- رواه أبو داود. انظر عون المعبود 9/238 وهو حديث حسن كما قال الشيخ الالباني إرواء الغليل 5/150.
7- رواه الترمذي والنسائي وأحمد. انظر، صحيح سنن الترمذي 2/8، صحيح سنن النسائي 3/958 وقال الالباني: إسناد حسن. إرواء الغليل 5/149، الفتح الرباني 15/45.
8- نيل الاوطار 5/172.(/31)
... 3- قالوا لا فرق بين أخذ الزيادة لأجل الأجل في البيع أو القرض لأن كلاهما زيادة مقابل الأجل والزيادة في القرض ربا وكذلك في البيع(1).
وقد أجاب الجمهور عن أدلة المانعين بمايلي:
... 1- إن احتجاجهم بالآية الأولى (وحرم الربا) غير مسلم لأن الزيادة لا يكاد يخلو منها كل بيع، فالآية على هذا تصبح مجملة في تعيين الأنواع المحظورة، وقد بينتها السنة في الأشياء الستة المنصوصة أو فيها وما ساواها في العلة، والمسألة محل النزاع خارجة عن كل منهما.
... إن الزيادة المعتبرة ما كانت فرع الاشتراك في المزيد كالصاع بالصاعين، ولا يتحقق في مختلف الجنس والتقدير.
... وأيضاً ليس للسعر استقرار كالتقدير بالكيل والوزن لما فيه من التفاوت بحسب الغلاء والرخص والرغبة وعدمها وداعي الحاجة وعدمه، فعلى هذا لا يصلح أصلاً ومناطاً يرجع إليه في تعليق الحكم به.
... ان الزيادة المحظورة في مقابلة المدة انما منعها الشارع إذا كانت ابتداء كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم: (إما أن تقضي وإما أن تربي). وأما إذا كانت تابعة للعقد كما في مسألتنا هذه فهو من البيوع المباحة ولوزاد على سعر يومه(2).
... 2- وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية الثانية (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فيقال: - أن الرضا في البيع مدار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المعاملات المصرفية والربوية ص 125.
2- بيع التقسيط د. أبراهيم الدبو مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ج1 ص232.
البحث أمر لا ينكر (وهو باعث عليه وبمثله لا يصير البائع مكرها والإلزام مثله في كل بيع وشراء)، إذ لا بد من حامل له كحاجة المشتري الى المبيع والبائع الى الثمن.
... والفرق بين الباعث والمكره، أن الأول أمر متعلق بما يوجبه العقد من آثاره، والثاني أمر متعلق بالعقد فقط، إذ الإكراه إنما يتحقق على العقد والإكراه معارض للباعث، فمتى غلبه صار مغيراً للإختيار فيكون البيع لا عن تراض فلا حكم له(1).
... 3- وأما الجواب عن استدلالهم بحديث (نهى عن بيعتين في بيعة) فيقال: إن معنى الحديث محمول على بيوع العينة لا على بيع الأجل وذلك منعاً للتضارب بين السنن والآثار، وبيع العينة حيلة ربوية تعتمد على جواز الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل ظاهرها البيع وباطنها القرض الربوي والسلعة تدخل ثم تخرج وليست مرادة والدليل على أن المقصود بالحديث بيع العينة هو أن البائع إذا قال إن كان لسنة فبكذا (110) مثلاً وإن كان نقداً فبكذا (100مثلاً) فهذا ليس من باب بيعتين في بيعة إنما
هو ايجاب ثمنين من أجل أن تنعقد بعد ذلك بيعة واحدة على أحد الثمنين: المؤجل أو المعجل(2).
... 4- ويجاب عن قولهم بأن اخذ الزيادة لأجل الأجل رباكالزيادة في القرض فيقال إن التبادل في القرض يقع بين الشيء ومثله مئة دينار بمئة دينارا مثلاً أما في البيع بالثمن المؤجل فإن التبادل يقع على أشياء مختلفة هي السلعة المبيعة بالثمن من النقود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع التقسيط د. ابراهيم الدبو مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ج1 ص233.
2- بيع التقسيط د. رفيق المصري مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 6 ص331-332.
... كما أن الربح في القرض بالربا مضمون للمرابي على أي حال أما في البيع فلا لأن الأسعار قابلة للتغير فقد ترتفع فيكون المشتري هو الرابح وقد تنخفض فيربح البائع فعادت قضية البيع بالثمن المؤجل الى قاعدة الغنم بالغرم.
... كما أن الزيادة على الثمن العاجل في البيع الآجل لا تجوز إلا بهذا المقدار فقط ولا يجوز للبائع أن يزيد عليه شيئاً حتى لو تأخر في السداد لكونه معسراً وأي زيادة تعتبر من الربا المحرم. وأما الزيادة في الربا فإن المرابي يزيد كلما تأخر المدين في السداد(1).
... وبعد هذا العرض الموجز أرى رجحان مذهب الجمهور في جواز الزيادة نظير الأجل وقد أقر مجمع الفقه الاسلامي صحة هذه الزيادة وأصدر قراره رقم 53/2/6 ونصه:
... إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجده في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
... بعد اطلاعه على البحوث الواردة الى المجمع بخصوص موضوع: "البيع بالتقسيط" واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر:
... 1- تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال. كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالأقساط لمدد معلومة. ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المعاملات المصرفية والربوية ص125-126.
مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعاً.(/32)
... 2- لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة ام ربطاها بالفائدة السائدة.
... 3- إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
... 4- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حلَّ من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
... 5- يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
... 6- لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 6 ج1 ص447-448.
الشبهة الثالثة: ارتفاع نسبة الأرباح التي تتقاضاها الشركة وأن هذه النسبة أكثر من نسبة الربا في البنوك الربوية.
... سمعت كثيراً من الناس يقولون هذه المقولة: إذا كانت البنوك الربوية تأخذ نسبة من الفائدة أقل من نسبة أرباح بيت المال فالأفضل لنا أن نتعامل مع البنوك الربوية لأن ذلك أنفع لنا.
والجواب عن ذلك من وجوه:
... الوجه الأول: يجب على المسلم أن يفرق بين الحلال والحرام ولا يقبل من المسلم أن يقول: ما دام الحرام أقل تكلفة من الحلال فالأنفع لي والأصلح لي أن آخذ الحرام لأنه قليل التكلفة وأعرض عن الحلال لأن تكلفته أعلى. فلو طبقنا هذا الكلام على الزواج والزنا لوجدنا أن الإنسان لو اراد الزنا فقد لا يكلفه الزنا 1% من تكلفة الزواج وقد لا يكلفه شيئا فهل يصح وهل يقبل من الشاب المسلم أن يقول: ما دامت تكلفة الزواج مرتفعة وغالية فأنا أزني لأن تكلفة الزنا أقل. وهذا الكلام لا يصدر من مسلم.
... وحالة أخرى وهي شراء البضاعة المسروقة فمن المعلوم أن اللصوص يعرضون البضائع المسروقة بأسعار زهيدة قد تساوي 20% من السعر الأصلي للبضاعة أو اقل. فهل يقبل من المسلم أن يقول: ما دامت البضائع المسروقة أرخص فأنا أشتريها لأن مصلحتي تتحقق بذلك. ومن المعلوم أنه يحرم على المسلم شراء البضائع المسروقة والمغصوبة.
... الوجه الثاني: إن الشريعة الإسلامية لم تحدد حداً معيناً لربح التاجر في تجارته وإن المتتبع لآيات القرآن الكريم ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد أنها حددت مقدار أرباحهم بل جعلت ذلك حسب ظروف التجارة والسماحة والتيسير وعدم الاستغلال.
... وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاه فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاه فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب لربح فيه(1) وقد ورد هذا الحديث برواية أخرى عند الإمام أحمد في المسند عن عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه قال: (عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً وقال: أي عروة أئت الجلب فاشتر لنا شاه، فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاه بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاه فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال: وصنعت كيف؟ قال: فحدثته الحديث فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه" فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة أي سوقها فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي وكان يشتري الجواري ويبيع"(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع فتح الباري 7/445 وقول الراوي في الحديث: سمعت الحي: أي قبيلته كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/445.
2- الفتح الرباني 15/20.
... ويؤخذ من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر عروة على بيعه الشاه بدنيار مع أنه اشتراها بنصف دينار فقد ربح فيها ما نسبته 100%.
... فهذا يدل على جواز ان يربح التاجر هذه النسبة بشرط أن لا يكون في البيع غش أو خداع أو احتكار او غبن فاحش.
... فالتاجر المسلم الملتزم بدينه لا يتعامل بالطرق غير المشروعة فإن تعامل بها فإنه يكون قد وقع في الحرام.
... وقد ناقش مجلس مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر مايلي:
... إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادي الأول 1409هـ 10-15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
... بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله قرر:(/33)
... أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى:{يا ايها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أ ن تكون تجارة عن تراض منكم}.
... ثانيا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
... ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والإستغفال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
... رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار ناشئاً من عوامل مصطنعة فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش(1).
الوجه الثالث: إن نسبة الربح الحلال الذي تتقاضاه شركة بيت المال الفلسطيني ليست أكثر من نسبة الفائدة (الربا الحرام) الذي تتقاضاه البنوك الربوية وهنالك أوجه كثيرة مختلفة بين الجهتين وهذا يتضح فيما يلي:-
... 1- إن البنوك الربوية تختلف فيما بينها في كيفية إحتساب الفوائد على القروض التي تمنحها أو حسابات الأجل من بنك لآخر من حيث مقدار نسبة الفائدة ومقدار عمولات المصاريف الإدارية والمصاريف البريدية أو البرقية التي تؤخذ من العملاء.
... كما وأن نسبة الفائدة تختلف من عميل لآخر في أغلب الأحيان حسب حجم تعامل العميل مع البنك أو حسب العلاقات الشخصية أو غير ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج4 ص2919-2920.
... أما في شركة بيت المال فيتم إحتساب الربح بطريقة تقوم على أساس المساواة في التعامل مع الزبائن لتحقيق العدالة وإستقرار المعاملات ودون تأثير لقيمة المعاملة مع مراعاة الدور الإجتماعي الذي تقوم به الشركة.
... 2- إن البنوك الربوية لا تأخذ بعين الإعتبار الاحوال المالية الصعبة التي يمر بها العميل أثناء فترة تسديد القرض حيث تقوم البنوك الربوية تلقائياً بإحتساب فائدة على أي تأخير في السداد. وهذا يخالف ما عليه شركة بيت المال التي لا تفرض أية زيادة أو غرامات بسبب التأخير في تسديد الأقساط في مواعيدها بإعتبار أن ما تقوم به الشركة هو صفقة تجارية متفق عليها مسبقاً وهذا مطابق لأحكام الشريعة الإسلامية التي لا تقر تلك الزيادة .
... 3- تعتبر شركة بيت المال عند تقدير نسبة الربح الثمن الأصلي للبضاعة والمصاريف الفعلية التي تتكبدها الشركة تماما كما يحسب أي تاجر نسبة ربحه فيدخل في ذلك ثمن البضاعة وأجور النقل والتخزين ونحوها من المصاريف الفعلية.
... 4- تقوم البنوك الربوية بخصم مقدار الفائدة والمصاريف الإدارية من أول دفعة مستحقة للعميل عند الإقتراض وهذا الأمر يعني زيادة معدل الفائدة عند الأخذ بالحسبان إحتساب تشغيل هذه الأموال طوال فترة تسديد القرض.
... 5- تعتبر البنوك الربوية من المؤسسات المالية التي لا تفرض عليها ضريبة مضافة (17%) وفق القوانين السائدة. بينما تعامل شركة بيت المال كشركة تجارية فتفرض عليها ضريبة مضافة (17%) بالاضافة إلى ضريبة الدخل.
... 6- عند المقارنة بين نسبة الربح لدى شركة بيت المال ونسبة الفائدة لدى البنوك وبعد دراسة القضية دراسة موضوعية متأنية يظهر أن نسبة الربح لدى شركة بيت المال لا تصل إلى نصف نسبة الفائدة لدى البنوك الربوية.
... 7- وأخيراً فإنني أوصي شركة بيت المال بأن تكون أرباحها معتدلة وتأخذ بعين الإعتبار الاحوال الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الإقتصاد المحلي من ركود وبطالة وحصار وغلاء.
الخاتمة
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تتعامل به المصارف والشركات الإسلامية ومنها شركة بيت المال الفلسطيني بيع صحيح مشروع على الراجح من أقوال أهل العلم. ولا يعتبر هذا البيع تحايلاً على الربا ولا بيعتين في بيعة.
2- إن اتباع الخطوات الصحيحة لبيع المرابحة للآمر بالشراء يعصم من الوقوع في الزلل والخطأ ويبعد المتعاملين عن الشبهات.
3- المطلوب من المصارف والشركات الإسلامية توسيع دائرة نشاطها واستعمال أساليب الاستثمار الجائزة شرعاً كالمضاربة والسلم والاستصناع والمشاركة بالاضافة لبيع المرابحة للآمر بالشراء.
4- المطلوب من القائمين على شركة بيت المال وموظفيها أن يفكروا بعقلية التاجر المسلم ولا يفكروا بعقلية الممول فحسب فينظروا الى قيمة الربح السريع وتجنب المخاطر لأن التجارة فيها نوع من المخاطرة.(/34)
5- لا بد لشركة بيت المال الفلسطيني أن تستمر في توعية موظفيها وتنمية معلوماتهم حول أساليب الاستثمار الشرعية.
6- عند تقدير ارباح الشركة في أي عقد من العقود لا بد أن يتلاءم الربح مع درجة المخاطرة مع مراعاة أحوال الناس بحيث لا يكون هناك إجحاف لا في حق الزبائن ولا في حق الشركة.
7- ما دام ان الشركة قد اعتمدت النظام الاسلامي في معاملاتها فلا بد أن ينعكس ذلك بصورة إيجابية على تعاملها مع الناس وعلى واقعها بكل جزئياته حتى يكون الالتزام بأحكام الشرع الحنيف في الأقوال والأعمال.
8- إن تجربة شركة بيت المال تجربة جديدة في فلسطين المحتلة التي تعاني ظروفاً صعبة من جميع النواحي فلا بد من العمل على تشجيع هذه التجربة ودعمها وتسديدها في خطواتها لتبرهن على صحة التوجه وصحة المنهج الذي التزمت به ولتبعد الناس على التعامل بالحرام.
... ولا بد من التأكيد على أن الوقوع في الخطأ لا يعني خطأ المنهج وانما الخطأ في التطبيق والتماس العذر مطلوب مع حسن الظن والتوجيه نحو الصواب.
والله الهادي الى سواء السبيل.
المراجع مرتبة حسب حروف المعجم
"القرآن الكريم"
1- أحكام العقود والبيوع في الفقه الاسلامي. عبد الحميد السائح، من مطبوعات البنك الاسلامي الاردني مطبعة الشرق-عمان.
2- أحكام القرآن. لابي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص. تحقيق محمد الصادق قمحاوي، الطبعة الثانية دار المصحف -القاهرة.
3- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى ، المكتب الاسلامي بيروت.
4- أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية. د. عبد الستار أبو غدة، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
5- أعلام الموقعين عن رب العالمين. لأبي عبد الله محمد المعروف بإبن القيم، مراجعة طه عبد الرؤوف سعد، طبع دار الجيل، بيروت 1973.
6- أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للشيخ قاسم القونوي، تحقيق د. احمد الكبيسي، الطبعة الثانية، نشر دار الوفاء للنشر والتوزيع ، جدة-السعودية.
7- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. لأبي الوليد محمد بن احمد المعروف بإبن رشد الحفيد، طبعة دار الفكر ومكتبة الخانجي.
8- بيع التقسيط. د. ابراهيم الدبو، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد6 ج1.
9- بيع التقسيط. د. رفيق المصري، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد6 ج1.
10- بيع المرابحة في الاصطلاح الشرعي، محمد عبده عمر، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
11- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الاسلامية.د. محمد الاشقر، الطبعة الثانية1415-1995 نشر دار النفائس-عمان.
12- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية د. يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية 1407-1987، نشر مكتبة وهبة القاهرة.
13- بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الاسلامية. د. رفيق يونس المصري، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
14- بيع المرابحة للآمر بالشراء، د. سامي حسن حمود، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
15- بيع المرابحة وتطبيقاتها في المصارف الاسلامية . احمد سالم ملحم، الطبعة الاولى 1410-1989. نشر مكتبة الرسالة الحديثة -عمان.
16- تبين الحقائق شرح كنز الدقائق. لفخر الدين عثمان الزيلعي، الطبعة الثانية، دار الفكر بيروت.
17- تخريج إحياء علوم الدين (المغني عن حمل الاسفار في الاسفار في تخريج ما في الإحياء من الاخبار) لزين الدين العراقي، مطبوع بهامش الاحياء، دار إحيار الكتب العربية-القاهرة.
18- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الاسلامية. د. سامي حسن حمود، الطبعة الثانية 1402-1982 مطبعة الشرق- عمان.
19- التعريفات. لأبي الحسن علي بن محمد الجرجاني، طبعة الدار التونسية للنشر 1971.
20- التقرير السنوي الأول لشركة بيت المال لسنة 1416-1995.
21- تكملة المجموع. لمحمد نجيب المطبعي ، طبعة دار الفكر- بيروت.
22- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبعة عبد الله هاشم المدني 1384-1964.
23- الحاوي الكبير لأبي الحسن الماوردي . تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود، الطبعة الأولى 1414-1994.
دار الكتب العلمية بيروت.
24- حكم زيادة السعر في بيع النسيئة شرعاً. د. نظام الدين عبد الحميد، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد6 ج1.
25- دروس وفتاوي في الحرم المكي. لمحمد بن صالح العثيمين، الطبعة الثانية 1411-1990، مكتبة أولي النهى، الرياض، دار خضر بيروت.
26- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين). لمحمد أمين الشهير بإبن عابدين ، الطبعة الثانية 1386-1966، مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي-القاهرة.
27- سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1399-1979، المكتب الاسلامي بيروت.(/35)
28- السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار. لمحمد بن علي الشوكاني، الطبعة الاولى ، دار الكتب العلمية.
29- سنن البيهقي. لأبي بكر احمد بن الحسين البيهقي، طبعة دار الفكر بيروت.
30- شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل. لمحمد الخرشي المالكي، طبعة دار صادر بيروت.
31- شرح الدردير. لأحمد بن محمد الدردير العدوي المالكي، طبعة دار الفكر، بيروت.
32- شرح النووي على مسلم. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، طبعة دار الخير بيروت.
الطبعة الأولى 1414-1994.
33- الصحاح. لاسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1399-1979 دار العلم للملايين بيروت.
34- صحيح ابن حبان (الاحسان) تحقيق شعيب الارناؤوط، الطبعة الأولى 1408-1988، مؤسسة الرسالة بيروت.
35- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1378-1951 القاهرة.
36- صحيح سنن أبي داود. لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
37- صحيح سنن الترمذي. لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
38- صحيح سنن النسائي، لمحمد ناصر الدين الالباني، الطبعة الاولى 1409-1989، المكتب الاسلامي بيروت.
39- صحيح مسلم بهامش شرح النووي. طبعة دار الخير، الطبعة الاولى 1414-1994.
40- عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب شمس الحق العظيم ابادي، الطبعة الاولى 1410-1990 دار الكتب العلمية- بيروت.
41- فتاوى اسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز وآخرون، الطبعة الاولى 1408-1988، دار القلم -بيروت.
42- فتاوى شرعية في الاعمال المصرفية. صادرة عن بيت التمويل الكويتي، الطبعة الثانية 1406-1986. من مطبوعات بنك دبي الاسلامي.
43- الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية صادرة عن بيت التمويل الكويتي الطبعة الثانية 1406-1986.
44- الفتاوى الشرعية. نشرة صادرة عن شركة بيت المال إعداد هيئة الرقابة الشرعية 1416-1996.
45- الفتاوى الشرعية. نشرة اعلامية صادرة عن البنك الاسلامي الاردني 1414-1994.
46- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.القاهرة سنة 1378-1959.
47- الفتح الرباني لترتيب مسند الامام احمد بن حنبل الشيباني. للشيخ احمد عبد الرحمن البنا دار إحياء التراث العربي بيروت.
48- الفروق. لشهاب الدين القرافي، دار المعرفة - بيروت.
49- الفقه الاسلامي وأدلته. د . وهبه الزحيلي، الطبعة الثانية 1405-1985، دار الفكر - دمشق.
50- القوانين الفقهية، لابن جزي، دار القلم - بيروت.
51- قواعد الوعد الملزمة في الشريعة والقانون. د. محمد رضا العاني، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
51- الكليات. لأبي البقاء ايوب بن موسى الحسيني الكفوي، الطبعة الثانية 1413-1993 مؤسسة الرسالة بيروت.
52- لسان العرب. لأبن منظور، دار إحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1408-1988.
53- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لعلي بن ابي بكر الهيثمي، الطبعة الثالثة 1402-1982.دار الكتاب العربي- بيروت.
54- مجلة مجمع الفقه الاسلامي من منشورات منظمة المؤتمر الاسلامي جدة.
55- المجموع شرح المهذب. لأبي زكريا النووي، طبعة دار الفكر - بيروت.
56- مجموع الفتاوى. شيخ الاسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي الحنبلي الطبعة الأولى 1398.
57- المحلى بالآثار. لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي، تحقيق د. عبد الغفار البنداري، دار الفكر - بيروت.
58-المرابحة للآمر بالشراء. د. ابراهيم الدبو، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
59- المرابحة للآمر بالشراء. د. بكر أبو زيد، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
60- المرابحة للآمر بالشراء. د. الصديق محمد الأمين الضرير بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
61- المرابحة للآمر بالشراء. د. علي السالوس، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
62- مشكاة المصابيح. لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الالباني ، المكتب الاسلامي - بيروت- الطبعة الثالثة 1405-1985.
63- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي. لأحمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية - بيروت.
64- المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الاسلام. د. نور الدين عتر، الطبعة الرابعة 1406-1986 مؤسسة الرسالة بيروت.
65- المغني. لأبن قدامة المقدسي، نشر مكتبة القاهرة سنة 1388-1968.
66- ملتقى الأبحر. لابراهيم بن محمد الحلبي، تحقيق وهبي سليمان الالباني، الطبعة الأولى 1409-1989 مؤسسة الرسالة - بيروت.
67- المهذب لأبي اسحاق الشيرازي، دار الفكر (مع المجموع).
68-الموسوعة الفقهية. تصدرها وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية الكويتية، الطبعة الثانية 1412-1992 طباعة ذات السلاسل -الكويت.(/36)
69- الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية - المكتبة العلمية.
70- نحو نظام نقدي عادل. د. محمد عمر شابرا، الطبعة الثانية 1411-1990، إصدار المعهد العالمي للفكر الاسلامي، دار البشير- عمان.
71- نشرة تعريفية. صادرة عن شركة بيت المال الفلسطيني العربي بدون تاريخ.
72- نظرة الى عقد المرابحة. محمد علي التسخيري بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
73- نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار. محمد بن علي الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة.
74- الهداية شرح بداية المبتدي. برهان الدين المرغيناني، دار التراث العربي- بيروت.
75- الوفاء بالوعد. د. ابراهيم الدبو، بحث منشور بمجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
76- الوفاء بالوعد. د. يوسف القرضاوي. بحث منشور بمجلة الفقه الاسلامي عدد5 ج2.
...
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
تقديم ... 5
المقدمة ... 6
تمهيد ... 9
تعريف البيع ... 11
تعريف بيع المرابحة ... 12
حكم المرابحة ... 15
الفصل الاول بيع المرابحة للآمر بالشراء ... 17
المبحث الاول:تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء وصوره ... 19
نشأة إصطلاح بيع المرابحة ... 19
تعريف المرابحة عند العلماء المعاصرين ... 20
الاسس التي تقوم عليها المرابحة ... 22
صور تعامل المصارف الاسلامية مع بيع المرابحة ... 23
المبحث الثاني:خلاف العلماء المعاصرين في حكم بيع المرابحة ... 27
القائلون بالجواز ... 27
أدلة القائلين بالجواز ... 28
الدليل الأول ... 28
الدليل الثاني ... 30
الدليل الثالث ... 33
الدليل الرابع ... 35
الدليل الخامس ... 36
الدليل السادس ... 37
الدليل السابع ... 38
الأدلة على الإلزام بالوعد ... 38
القائلون بالتحريم ... 41
أدلتهم ... 42
الأدلة على عدم الإلزام بالوعد ... 45
مناقشة أدلة الفريقين ... 46
بيان القول الراجح ... 55
الفتاوى الصادرة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء ... 55
فتوى المؤتمر الأول للمصرف الاسلامي ... 55
فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الاسلامي ... 56
فتوى الندوة الاقتصادية الاسلامية ... 57
فتوى مستشار بيت التمويل الكويتي ... 60
فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز ... 61
فتوى مجمع الفقه الاسلامي ... 62
الفصل الثاني: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تتعامل به شركة بيت المال الفلسطيني العربي ... 65
المبحث الأول: نشأة الشركة وأهدافها ... 67
التعريف بالشركة ... 67
أهداف الشركة ... 68
النشاط الاستثماري للشركة ... 70
تعامل الشركة وفق احكام الشريعة الإسلامية ... 75
هيئة الرقابة الشرعية للشركة ... 75
صندوق الزكاة في الشركة ... 79
المبحث الثاني: التطبيق العملي لبيع المرابحة كما تجريه شركة بيت المال ... 87
طلب الشراء ... 87
وعد بالشراء ... 89
عقد بيع المرابحة ... 91
الكفالة ... 99
أهمية بيع المرابحة لدى الشركة ... 108
المبحث الثالث: شبهات حول تطبيق المرابحة ... 110
الشبهة الأولى: حساب الربح بالنسبة المئوية ... 110
الشبهة الثانية: زيادة الثمن مقابل الأجل ... 113
إختلاف الفقهاء في زيادة الثمن مقابل الأجل ... 113
القول الأول: جواز الزيادة ... 113
الأدلة على الجواز ... 114
القول الثاني: لا تجوز الزيادة ... 117
الأدلة على عدم الجواز ... 117
الرد على أدلة المانعين ... 118
القول الراجح جواز الزيادة مقابل الأجل ... 120
الشبهة الثالثة: إرتفاع نسبة الأرباح التي تتقاضاها الشركة ... 122
الجواب من وجوه ... 122
الوجه الأول ... 122
الوجه الثاني ... 123
الوجه الثالث ... 125
الخاتمة ... 128
قائمة المصادر ... 130
فهرس الموضوعات ... 138(/37)
بيانٌ ونصحٌ للمسلمين بعامة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
1- لمحة عن واقع المسلمين اليوم :
مع هذه الأحداث الجسام المروّعة في أرض فلسطين وغيرها من أرض الإسلام ، يقف المؤمن ليتأمل ويتدبّر ، ويبحث عن العبرة والعظة ، والمنفذ والمخرج ، من هذه الظلمة والحيرة التي طال مداها . لقد قدّمت الأمة دماءً كثيرة ومالاً كثيراً وبطولات رائعة ، فلماذا الهزائم ؟ ! .
وحين نحييّ المؤمنين الصادقين المجاهدين ، وحين ندعو لكل من قُتِل في سبيل الله أن يتقبله الله شهيداً عنده ، فإننا في الوقت نفسه نبحث في أعماق واقعنا وأعماق أنفسنا عن أسباب الوهن ومظاهر الخلل ، ليكون هذا هو أول الطريق إلى النجاة ، وليكون العلاج هو الخطوة الممتدة على الدرب ، خطوة لا تُعطِّل خطوةُ أُخرى ، ولكن تدعمها وتقوِّمها . فلا يُعقَل أن ندخل المعركة ونحن نحمل الوهن واضطراب الصورة وفقدان النهج واختلاف الرؤية والهدف .
لا يختلف اثنان في أن المسلمين اليوم يمرّون بهزائم متتالية ، وفواجع صاعقة ومجازر تتدفّق فيها الدماء ، وتتطاير فيها الأشلاء ! ويصوّر الإعلام العالميّ الأحداث على النحو الذي يريده ويناسب أطماعه وعدوانه وجرائمه . ولكننا نحن نردّ ذلك إلى منهاج الله ردّاً أميناً لنخرج بنتائج حقيقية ، بعبرٍ ومواعظ تشق لنا الطريق بإذن الله .
إن الأحداث الجارية في هذه اللحظات على أرض فلسطين مروّعة مفجعة ، يزحف شارون ، ومِنْ ورائه اليهود وأحلافهم ، بدباباته ومروحياته وطائراته ، وجنوده المدجَّجين ، على مدن الضفّة الغربيّة تدميراً وتقتيلا ومحاصرة ، ومنعاً لوسائل إسعاف الجرحى ، واغتصاباً للنساء ، ودفناً لبعض الجثث في مقابر جماعية . والعالم كله يتطلّع ، ومليار مسلم في الأرض مشلولون ، وأمريكا تظل تعطي " شارون " الضوء الأخضر ليمضي في جرائمه ، ويخرج تصريح من هنا وتصريح من هناك ، ومندوب يحضر ومندوب يعود ، كل ذلك لإعطاء
شارون أطول فرصة ليمعن في جرائمه . وتظل دولة اليهود تتحدّى مجلس الأمن وقراراته وهيئة الأمم المتحدة وقراراتها ، ويتحدّون " بوش " وقراراته ظاهرياً .
والأحداث لا تقتصر على فلسطين وحدها ، وإنما هي ممتدة بمجازرها وفواجعها إلى أرض الإسلام كلها ، عدواناً وإجراماً .
إن ما حدث في مدينة جنين ومخيَّمها ، ومدينة نابلس ، ومدينة بيت لحم ، وسائر مدن فلسطين ، أعظم من كل ما يمكن أن يتصوره الإنسان . تقتيل بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ ، تقتيل بالرصاص والمدافع والصواريخ وكل وسائل الفتك .
حصار رام الله حصاراً عنيفاً ، حصار كنيسة المهد ، وصمت من العالم , وكأنه يعطي شارون الضوء الأخضر لليهود ليمضوا في جرائمهم ، حتى يستأصلوا ما يسمونه " الإرهاب " ، وهم الإرهاب والعدوان والظلم والإجرام .
فلسطين الآن كلها مباحة لليهود : أرضاً وبشراً وأعراضاً وأموالاً . كلها مباحة لهم ، فمنها ما استباحوه استباحة مروّعة ، ومنه ما هو معرّض لذلك اليوم أو غداً إِلا أَن يشاء الله .
2- المسؤولية عن هذا الواقع الممتد :
لا يختلف مؤمنان في أنّ كلّ ما يجري في الكون والحياة ، من أمر صغير أو كبير ، هو بقضاء الله وقدره على حكمة بالغة وقدر غالب وحقٍّ لا ظلم معه أبداً . ومن هنا وجب علينا شرعاً أن ننظر في أنفسنا ، في واقعنا ، فالخلل فينا ، والأخطاء منا ، والتقصير جليٌّ كبير !
إنّ الله لا يظلم ، وقد حرّم الظلم على نفسه ، وجعله بين الناس محرّماً ولكننا نظلم أنفسنا :
(( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ))
[ يونس : 44 ]
(( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ))
[ الشورى : 30 ]
وآيات وأحاديث كثيرة تؤكد هذه الحقيقة الهامة , حتى ندرك أننا نحن المسؤولون , وأن الوهن والخلل فينا نحن .
فجميعنا مسؤولون , وكلنا محاسبون بين يدي الله يوم القيامة , ونبتلى بفتنة أو بعذاب من الله في الحياة الدنيا . وتختلف المسؤولية من مستوى إلى مستوى , ونهيب بكل مسلم , وبالدعاة والعلماء , أن يصدقوا الله فيوفوا بالأمانة التي وضعها الله في أعناقهم , وبالعهد الذي أخذه الله منهم , نصحا خالصا لله , وبيانا بالحجة والدليل , وبذلا على صراط مستقيم .
إن الخلل في واقع المسلمين ، خلل ممتدّ منذ زمن بعيد حتى يومنا هذا ، مما يفرض علينا دراسة واقعنا دراسة أمينة نرده فيها إلى منهاج الله – قرآنا وسنة ولغة عربية .
إن ما يجري اليوم لا يكون مفاجئاً إلا للغافلين النائمين ، يوقظهم هول الصواعق والفواجع والطوارق . إن ما يجري اليوم هو نتيجة حتميّة لمرحلة سابقة ، والمرحلة السابقة نتيجة حتميّة لما قبلها . ذلك لأن سنن الله ثابتة ماضية في الكون والحياة ، على حكمة لله بالغة وقدر غالب .
3- أهم مظاهر الخلل في واقعنا اليوم :
أ - إن أبرز مظاهر الخلل هجر الملايين من المسلمين للكتاب والسنّة ،
وجهل اللغة العربية ، هجراً وجهلاً أورثا خللاً بعد خلل ، ومرضاً(/1)
بعد مرض ، حتى استبدل الكثيرون من المنتسبين إِلى الإسلام لغات
أُخرى بلغة الوحي والنبوة والذكر ـ اللغة العربيّة التي
اختارها الله للإسلام .
ب - وطغى الجهل بين المسلمين حتى جهلوا الواقع وما يجري فيه ،
جهلوه ولم يردّوه إلى منهاج الله الذي جهلوه قبل ذلك .
ج - فاضطربت الرؤية وتضاربت التصوّرات .
ح - وتسلّل الأعداء من خلال ذلك كله أفكاراً ومذاهب ، انحلالاً وتفلّتاً ، وشركات وأجهزة خفيّة وعلنيّة ، وجيوشاً زاحفة بعددها وعدّتها وعديدها ، تحمل كلها أشكالاً متعدّدة من الفتن تفرضها حيناً بالقوة والإكراه ، وحيناً بالزينة الفاتنة والزخرف الكاذب ، فأَلفها الكثيرون حتى اتبعوها ، ثمّ صاروا من دعاتها .
خ - وهاجت العصبيات الجاهليّة التي حرّمها الله ورسوله وامتدت .
د - حتى تمزَّقت الأُمة أقطاراً وشيعاً ، ودار الصراع والشقاق ، وفرح كلٌّ بما لديه ، فوهنت القوّة وسقطت الديار ، وتدفّقت الدِّماء في المجازر المتلاحقة ، وتوالت الهزائم والفواجع ، ووقف الكثيرون أمام ذلك حيارى يتساءلون : أنّى هذا ؟! قلْ هو من عند أنفسكم ! .
ذ - غياب النهج والتخطيط وغلبة الارتجال وردود الفعل الآنية , وكثرة الشعارات التي لا تجد لها رصيدا في الواقع , وتبديل الشعارات مع تبدل الواقع لتسويغ الهزائم أو لتغطيتها .
ر - كثرة الجدل والمراء في المجالس التي يقتل فيها الوقت , دون تنظيم للوقت ولا تدبير له , حتى أصبح الوقت من أهم ما ضيعه المسلمون .
ز - الخلل في منهج التفكير : فلا اتُّبِعَ النهج الإيماني للتفكير الذي يدعو إليه الكتاب والسنة وقواعد الإيمان والتوحيد , ولا النهج المادي المحض , فاضطربت التصورات , وزادت الخلافات , وكأن التفكير فقد ضوابطه وتفلَّت في متاهات واسعة .
س - اجتمعت هذه العوامل كلها , فهبط الإنتاج في ميادين كثيرة , وضعفت القوى , وفاجأتنا الأحداث , وليس لدينا النهج ولا الخطة , ولا العدَّة التي أمر الله بإعدادها .
4- أهم وسائل العلاج :
أ- الوقفة الإيمانية : فإذا كنا نريد حقّاً النجاة من فتنة الدنيا وعذاب الأخرة
على طاعة لله ، وإذا كنا نريد النصر حقا , و نؤمن أن النصر من عند
الله ، فلا بدّ من الوقفة الإِيمانية الصادقة ، لنبحث عن سبيل النجاة في
منهاج الله ، إن كنا نؤمن بالله واليوم الآخر ، لا في سُبُل شتى لأعداء
الله ، الوقفة التي نطرح عنا فيها الكبر والغرور والإعجاب بالنفس ،
وتنافس الدنيا . ومن خلال هذه الوقفة ندرس واقعنا ونرده إلى منهاج
الله , كما ذكرنا , ونحدد أخطاءنا , ونرسم الخطة والنهج .
ب- التوبة النصوح إلى الله : أما وقد وقفنا الوقفة الإيمانية , ودرسنا
واقعنا , وحددنا أخطاءنا , فلا بد من التوبة النصوح إلى الله , لتكون
نفوسنا ميداننا الأول , ومعركتنا الأولى , في مجاهدة ممتدة للنفس
ماضية لا تتوقف .
(( ... وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ))
[ النور : 31 ]
ج- صدق الإيمان والتوحيد وصفاؤهما : فإذا صدقت التوبة ومجاهدة
النفس مجاهدة ممتدة , فعسى أن يهدي الله القلوب فيصدق إيمانها
ويصفو التوحيد .
ح- طلب العلم من الكتاب والسنة واللغة العربية , ومعرفة التكاليف
الربانية التي سنحاسب عنها يوم القيامة : فمن أهم وسائل العلاج
وأولها بعد صدق الإيمان وصفائه أن يعرف المسلم التكاليف الربّانيَّة التي
وضعها الله في عنقه ، والتي سيحاسَبُ عليها يوم القيامة . فإذا كانت
التكاليف تبدأ بالشهادتين ثم الشعائر ، فإن الله الذي فرض ذلك هو الذي
فرض طلب العلم على كل مسلم . فآيات وأحاديث كثيرة تحض على ذلك
وتأمر به . ففي قوله سبحانه وتعالى :
(( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ... )) [ الزمر: 9 ]
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه عدد
من الصحابة :
( طلب العلم فريضة على كل مسلم )
صحيح الجامع الصغير وزيادته /3913
ولقد أهمل الكثيرون من المسلمين هذا التكليف الربّاني وأهملوا تكاليف
ربّانيّة أُخرى ، فزاد هذا الإهمال من مظاهر الخلل ، والفرقة ، والصراع
بين المسلمين أنفسهم ، وتَسلُّلِ الأعداء إلى أرض الإسلام وحياة
المسلمين . وطلب العلم أوله منهاج الله دراسة وتدبرا وممارسة . فمنهاج
الله فيه النجاة , وهو الحبل المتين . فتصبح القضية أن نحقق هذا في
الواقع , فلا يبقى شعارا لا رصيد له في ميادين الأمة وعزتها . ومن أجل
ذلك لابد من وضع النهج المفصل الذي يعين على تحقيق ذلك .
د- النهج والخطة : حتى يتحقق هدف ما , لابد من وضع خطة تعين على
ذلك . وأول ما يمكن أن تعين به الخطة , هو إزالة الفرقة وبناء الصف
المؤمن الواحد .
هـ- بناء الصف المؤمن كما أمر الله : فقد كانت الفرقة أخطر ما يواجهه
المسلمون اليوم ، مخالفين بذلك أمر الله سبحانه وتعالى إِليهم :
(( ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك
لهم عذاب عظيم )) [ آل عمران : 105 ](/2)
(( إنّ الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيء إنما أمرهم إلى
الله ثم يُنبئهم بما كانوا يفعلون )) [ الأنعام : 159 ]
(( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما
تذكّرون )) [ الأعراف : 3 ]
(( واعتصموا بحبل الله جميعاُ ... )) [ آل عمران : 103 ]
(( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ))
[ الصف : 4 ]
كيف رضي المسلمون أن ينزلوا الميدان ممزقين شيعا وأحزابا ! ثم يتساءلون لم الهزائم والهوان .
5- الأساس الذي يلتقي عليه المؤمنون :
من أجل ذلك ، ولما كانت المآسي والفواجع والهزائم آخذه بالتزايد ، فإننا ندعو إِلى أن يلتقي المؤمنون على نهج مفصّل واحد نابع من الكتاب والسنة ملبٍّ لحاجة الواقع ، يلتزمه الفرد المسلم والبيت المسلم ، والجماعة والأمة ، على غرار مدرسة النبوّة الخاتمة التي بنت جيل الصحابة الأبرار رضي الله عنهم ، نهج مفصّل يحمل الأهداف الربانيّة والطريق الموصل إليها ، والأساليب والوسائل . ففي الحديث الصحيح للرسول صلى الله عليه وسلم :
(( . . . عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عُضُّوا
عليها بالنواجذ . )) [ صحيح الجامع الصغير وزيادته : 2549 ]
ومعنى السُنّة هنا الطريقة والنهج ، وليست مجرد أعمال متفرّقة لا رابط بينها . إِنّ هذا النهج مترابط متماسك يرسم صراطاً مستقيماً واحداً يجمع المؤمنين الصادقين الذين يريدون الله ورسوله والدار الآخرة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، وأمة واحدة متماسكة :
(( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تَتَّبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) [ الأنعام : 153 ]
ندعو إلى أن يلتقي المؤمنون المتقون على نهج مفصّل يؤلف بين القلوب ، ويجمع العزائم ، ويوقظ الهمم ، ذلك كله بأمر الله ومشيئته . وحين يعلم الله الصدقَ في قلوب عباده ووفاءهم بما عاهدوا الله عليه ، فإنه يفي بوعده لهم وينزل نصره عليهم :
(( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ))
[ غافر : 51 ]
إننا نقدِّم هذا النهج بدراسات مفصّلة تحمل النظرية والأهداف والمناهج التطبيقية والنماذج العملية ، نابعة كلها من الكتاب والسنّة ملبيَّه لحاجة الواقع بإذن الله . ومن أول ما يهدف إليه هذا النهج هو نجاة المسلم من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة ، وتزويده بما يعينه على المضيّ على الصراط المستقيم لتحقيق الأهداف الربانيّة الثابتة : فمع الشهادتين والشعائر ودراسة منهاج الله وتدبره والتدرب على ممارسته , يأتي التكليف الرباني بتبليغ دعوة الله إلى الناس كافة كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم , وتعهد الناس عليها تربية وبناء , وبناء الجيل المؤمن , ثم الجهاد في سبيل الله وبناء الأمة المسلمة الواحدة التي تكون فيها كلمة الله هي العليا ُو نشر حضارة الإيمان والتوحيد في الأرض كلها .
لا بد من أن نغير ما بأنفسنا من خلال هذه الخطوات والمراحل , حتى تكون أقرب إلى طاعة الله وأدنى إلى التقوى . لا بد أن نغير ما بأنفسنا أولاً :
(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11 ]
ذلك ليكون هذا النهج بتفصيلاته الأساس الصلب للقاء المؤمنين على صراط مستقيم بينه الله لنا وفصله .
أيها المسلمون ! إذا أردتم النجاة والنصر حقّاً , فإنّ الله قد فتح بابهما ومدّ الصراط إليهما، ويبقى عليكم أن تَلِجوا الباب وتمضوا على الصراط المستقيم ، ولا يلج الباب إلا من أوفى بالعهد والأمانة .
وأوّل ذلك التوبة الصادقة :
(( ... وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . ))
[ النور : 31 ]
وجاهدوا لأنفسكم :
(( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إنّ الله لغنيّ عن العالمين . ))
[ العنكبوت : 6 ]
وجاهدوا أنفسكم حتى تكونوا أمة واحدة وصفاً واحداً :
( المجاهد من جاهد نفسه في الله ) [ صحيح الجامع الصغير وزيادته : 6679 ]
وخذوا زادكم ، وأعدّوا عدّتكم ، واجمعوا صفّكم ، وضعوا نهجكم وخطتكم ، وجاهدوا أعداء الله :
(( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله
وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في
سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون . )) [ الأنفال : 60 ]
وانزلوا الميدان صفّاً واحداً وجاهدوا في سبيل الله على نهج واضح محدَّد وأهداف واضحة محدَّدة على صراط مستقيم ، أمّة ترفع الشعار لا ليكون وحده ، وإنما ترفع الشعار وتمضي على الخطة والنهج . فمن شروط الجهاد في سبيل الله أن يكون الدرب جليا والأهداف ربانيّة محددة ، والدرب يوصل إلى الهدف ، حتى لا نكتشف بعد حين أن الهدف في ناحية والمسيرة في ناحية ، ولات ساعة مندم . فالجهاد في سبيل الله نهج وخطة ، وإعداد وبناء . وبذل بالمال والنفس .(/3)
والجهاد في سبيل الله فرض على الأمة المسلمة منذ أن نزلت آياته من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، جهاداً ماضياً إلى يوم القيامة . وهو جهادٌ فرضٌ كذلك على كلِّ مسلمٍ مكلَّفٍ قادرٍ ليس له عذر في دين الله أن يتخلف . وترتيب الجهاد وتنظيم صفوفه ومراحله لا يعطّله ولا ينحرف به . فالجهاد نهج وخطة على صراط مستقيم بيَّنه الله وفصَّله ، ويقظة ووعي ، وعدة وقوة ، وقبل ذلك كله عقيدة وإيمان ويقين .
فالملايين من المسلمين اليوم لم يُعَدُّوا للِجهاد ولم يُدرَّبوا عليه ، وتاهوا بين النظم الغربية الوافدة الزاحفة وبين أهواء الدنيا وشهواتها . وكان الصف الأول من المجاهدين زمن النبوّة الخاتمة يتألف من النبي صلى الله عليه وسلم وكبار العلماء والفقهاء مِن الصحابة رضي الله عنهم . وكان الفتيان يتسابقون إِلى الجهادِ في سبيل الله في مدرسة النبوّة الخاتمة ، لا يتخلف عن الجهاد أحد . وإننا لنتساءل لماذا لم تعد الأمة عدتها خلال هذه السنين الطويلة حتى فاجأتها الأحداث الدامية والهزائم المتوالية والهوان الكبير ؟ ! ولماذا لا تنطلق في هذه المرحلة لتعدّ العدّة الصادقة كما أمرنا الله ؟!
وكلمة الجهاد في سبيل الله تجمع في آن واحد بين بذل المال والنفس في جميع آيات الكتاب الكريم لا يُفرَّقُ بينهما . فمعنى في سبيل الله أن يكون الهدف محدَّداً ، والطريق الموصل إليه محدَّداً ، وأن تكون الأهداف كلها ترتبط بالهدف الرباني الأوسع : " أن تكون كلمة الله هي العليا " ، حتى لا نكتشف بعد حين أن الهدف كان شعاراً فحسب ، وأنه كان في ناحية والمسيرة في ناحية أخرى .
فاجمعوا صفوفكم صفاً واحداً ولا تفرّقوا ، وأعدوا كلّ ما تستطيعونه من القوة ، ثمّ انفروا خفافاً وثقالاً . فإن نكصتم فلا تلوموا إلا أنفسكم فالخطر يتسع ويمتدّ :
(( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إِن
كنتم تعلمون . )) [ التوبة : 41 ]
أيها المسلمون ! لا تخافوا على الإسلام ، فقد سبقت كلمة الله في أن يُظهِرَ الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون والمجرمون ، ولكن خافوا على أنفسكم قبل أن يأتي عذاب من الله شديد .
(( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون ))
[ التوبة : 33 ]
2/2/1423هـ
15/4/2002م(/4)
بين التقليد والتجديد
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
كتبت إِليّ فتاة من إحدى البلاد العربيّة تسأل وتقول : قرأت في إحدى الصحف عن ديوان لك حيث مُدِح كثيراً ، وأشاد الكاتب بجمال الإيقاع الموسيقي ، وقوة التركيب ، وجمال الصور ، وترابط القصيدة ، ولكن قال بعد ذلك : إلا أن هذا الشعر عموديُّ تقليدي ليس فيه تجديد كشعر النثر والتفعلية . إلى آخر الكلام ، ثمّ سألت : ما هو التقليد وما هو التجديد ، وما هو ميزان ذلك ؟
وحدثت مواقف أخرى سيرد ذكرها في هذه الكلمة ، دار فيها الحوار حول التقليد والتجديد وميزان ذلك .
قبل كل شيء لا بد من أن أصحح خطأ شاع على الألسن وفي الصحافة ، ولدى عدد من الأدباء ، حين يستخدمون كلمة " الشعر العمودي " ، بمعنى الشعر الموزون المقفى . وهذا استعمال خاطئ ، لأن هذا المصطلح الفني لم نضعه نحن ، وإنما وضعه أجدادنا الأدباء المسلمون . لم يكن للوزن والقافية علاقة بمصطلح " الشعر العمودي " أو " عمود الشعر " ، لأن الوزن والقافية لم يكونا موضع بحث أو خلاف في موضوع الشعر ، فالشعر عندهم ، عندما وضعوا المصطلح ، كان يعني الكلام الموزون المقفى ، والكلام الذي شَرُف بالوزن والقافية وتميَّز بهما عن النثر ، كما تنصّ المعاجم على ذلك ، وابن خلدون ، ومراجع أخرى كثيرة . وكانوا يعون أن الشعر ليس وليد عاطفة فحسب لأنهم يعرفون معنى كلمة شعر بأنه : عَلَمَ وفَطِنَ ، وشَعُر بمعنى أجاد ، كما أشرتُ إلى ذلك في كتابي : " النقد الأَدبي المعاصر بين الهدم والبناء " . عمود الشعر يعني الخصائص الفنيّة التي تتوافر في الشعر العربي ليرقى في درجات الإبداع والإجادة .
لقد اعتبر أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدى ( ت 370هـ ) في كتابه " الموازنة " أن عمود الشعر هو طريقة البحتري ، وبين أهم معالم طريقته . أما القاضي عبد العزيز الجرجاني (ت:392هـ) فقد حدّد عمود الشعر بست نقاط : " شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ، إصابة الوصف ،المقاربة في التشبيه ، الغزارة في البديهة ، كثرة الأمثال السائدة والأبيات الشاردة " . ونلاحظ هنا أنه لم يتطرّق إلى وجود الوزن والقافية أو عدم وجودهما . ولما جاء أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي (ت 421هـ) حدّد عمود الشعر بسبع نقاط : " شرف المعنى وصحته ، جزالة اللفظ واستقامته ، الإصابة في الوصف ، المقاربة في التشبيه " ، فقد وافق الجرجاني في هذه النقاط الأربع ، وأضاف ثلاثاً أخرى : " التحام أجزاء النظم والتئامها على تخيّر من لذيذ الوزن ، مناسبة المستعار منه للمستعار له ، مشاكلة اللفظ وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما " .
هذا هو عمود الشعر ، وهذا هو الشعر العمودي ، ولا شعر بغير الوزن المحدّد والقافية المحددة فذلك نثر في جميع حالاته . هذه هي اللغة العربيّة وهذا شعرها ، وهذا من ثوابتها .
إنَّ مصطلح " عمود الشعر " الذي اعتمد عليه الآمدي هو ما كان شائعاً في عصره ، معتمداً لدى الأدباء من تأليف حلو ، ونظم حسن ، وديباجة ذات الرونق ، مما وجده بارزاً في شعر البحتري .
لقد كان هناك مصطلحات محددة تعبّر عن حقائق فكريّة وأدبية في مختلف الميادين . وكان الوضوح والدقة معلماً ظاهراً في ذلك .
أما اليوم فقد اختلطت المصطلحات ، واختلطت دلالاتها ، وزاد الأمر سوءاً ما طرحته الحداثة والعلمانيّة ومذاهبهما من مصطلحات ومواقف غذّاها الإعلام كثيراً ، وبخاصة الإعلام الغربي بأشكاله المتعددة ووسائله المتنوعة ، حتى بدا كأنه طوفان ! .
ظهرت مصطلحات : الأَصالة ، المعاصرة ، التقليد ، التجديد ، التطور، والحداثة ، النمو ، وغير ذلك من المصطلحات التي ظلّت " عائمة " لا تحمل معنى محدَّداً ، أو تحمل معاني مختلفة ، كل معنى يمثِّل طائفة ، يدور بيْنها الصراع .
منذ القرن التاسع عشر أخذت تظهر بوادر هذا الغزو . ونشأت طائفة تدعو إلى تبعيّة كاملة للغرب : فكراً وسلوكاً وعادات ، أدباً واقتصاداً وسياسة . وظهر ذلك في مرحلة كان المسلمون فيها ضعفاء ، فأثر الغزو فيهم تأثيراً كبيراً ، وظلّت المصطلحات تتردّد في تناقضاتها أو تغيب عائمة دون وضوح . واضطرب بذلك الميزان في أيدي الكثيرين .
ما المقصود بالتقليد ؟ ! وإذا كان هناك تقليد فتقليد مَنْ ؟ ! وما المقصود بالتجديد ؟ ! وإذا كان هناك تجديد فما هو نهجه ؟ ! وما هو ميدان التقليد والتجديد ؟ ! هل هو محصور في شكل القصيدة العربيّة ؟ ! هل هو في ميدان الشعر فحسب ؟ ! هل هو في ميدان الأدب كله ؟ ! هل هو في الفكر كله وفي السعي والعمل ؟ ! وما ميزان ذلك ؟(/1)
العالم انطلق في أجواء الفضاء يشقُّها ، ورمى بيننا ما يشغلنا عن حقيقة النمو والتطور والتجديد . شُغِلنا قرابة قرنين بمثل هذه القضايا حتى أصبح التجديد يعني " التبعيّة العمياء " للغرب في قضايا لا تبني مستقبل الأمة . كلُّ الصراخ والدويّ من أجل اتباع الغرب أورثنا نماذج الملابس وقشور الفكر واضطراب الرؤية . والعجيب العجيب أننا لم نحرص على أن يكون التجديد هو إعداد القوة ونمو الصناعة وامتلاك أسبابها ، حتى ظل العالم الإسلامي بصورته العامة واهياً متخلفاً لم يسعفه شكل القصيدة ، ولا ما يسمى بالشعر الحرّ ، ولا شعر التفعيلة ، ولا مساواة المرأة بالرجل ، ولا شعارات الديمقراطية وغيرها ، وإنما زادت الخلافات حول هذه القضايا ، وبقى المسلمون في وهن وهزائم وخذلان !
قبل أن نحدّد موقف الأديب أو الشاعر أو المفكر من التجديد أو التقليد يجب أن نحدّد ما هو المقصود بالتجديد والتقليد ، وأن نحدّد ميزان ذلك ومراجعه .
أهل الحداثة اتّبعوا مذاهب الغرب العلمانيّ وحداثته ، واعتبروا ذلك هو التجديد وهو ميزانه . اتبعوه في تبعيّة عمياء ، حتى في ما يخالف الإسلام صراحة . وحاربوا كل قديم في أمتنا بنصوص صريحة ، ومن بينها الدين واللغة ! وأعلن بعضهم كلمة الكفر صريحة مدوّيّة . ولكنهم استثنوا من القديم كله أساطير اليونان وخرافاته التي ظلت تمثل محوراً في أدبهم وفكرهم ، وفي الفكر الغربي العلماني . ولقد أثر هذا الاتجاه في واقعنا ، حتى أصبح بيننا من يدّعي محاربة الحداثة ، ولكنه في حقيقة أمره تابع لها ناشر لمذاهبها ، أو يدّعي محاربة الغرب والعلمانية ، ولكنه تابع للعلمانية فكراً وعاطفة سواء أدرك ذلك أم لم يدرك .
في مؤتمر إسلامي كان موضوع المحاضرة " الإسلام مطابق للعلمانيّة في مقاصده " . كان عدد الحضور يزيد عن عشرة آلاف مستمع . وضرب المحاضر أمثلة على تطابق المقاصد فقال : الإسلام يبيح الزواج بأكثر من واحدة ، القانون الغربي هنا يمنع الزواج بأكثر من واحدة ، ولكن الإسلام لا يفرض عليك الزواج بأكثر من واحدة ، فالتشريعان متطابقان . والإسلام يحرّم الخمر والغرب العلمانيّ يبيح الخمر ، ولكنه لا يفرض شرب الخمر ، فالتشريعان متشابهان .
ولم يقف الأمر عند مجرّد محاضرة مثل هذه المحاضرة وأمثالها كثير ، ولكنها كانت مقالات صريحة وحواراً طويلاً حول ذلك حملتها مجلة المجتمع ، ورددتُ عليها ، واستغرق الحوار زمناً حتى توقف .
والأمر لم يقف عند محاضرة أو مقالة أو حوار ، ولكنه واقع نشاهده في مظاهر وحقائق متعدّدة ، نقلد فيها الغرب تقليد هوى وضياع . انظر إِلى ما شاع في العالم الإسلامي من رقص وغناء ، وإباحية تحملها الصحف والمجلات والفضائيات ، وكذلك الممارسة في الواقع . وحسبك مثلاً على ذلك التقليد الأعمى فيما نشاهده من موضوع " سوبر ستار " وما رافقه من حشود الملايين التي انهمكت في إدلاء الأصوات في حمىّ من التنافس مجنونة ، ثم في حشود تجتاح الشوارع لتكريم واحدة هنا ، ولتهنئة الفائزة هناك :
كم من مهرجان في الديار تفتّحت
...
...
أبوابه لمهّرج وممثّل
جعلوا "الفنون" هوى النفوس وفتنةً
...
...
هاجت وعرضاً للهوى المتبذلِ
رقصاً يدور به العراةُ على غنـ
...
...
ـناء في دوار للرؤوس مُبَدّلِ
في كل ساح حفلة يعلو بها
...
...
نجم بأنغام الهوى ! كم محفل
كم من نواد ضاع في غمراتها
...
...
شرف وغابت في هوان أرذل
" دنيا الفنون " ! وقد أشاح الفنّ
...
...
عنها واستدار وقال يا نفسُ ارحلي
سقطت بأمواج الرذيلة واعتلت
...
...
قمم الفجور وكل أمر مخبلِ
ويحي أتصحو أمة من سكرة
...
...
طالت ومن عيش يمرّ سبهلل (1)
إن لم تقمْ في الأرض أمة أحمد
...
...
خاب الرجاء وضاع كلّ مؤمل
وأقول في قصيدة : أعلى طريق القدس : رداً على " ملحمة على طريق القدس " التي دعا إليها بعض الفنانين :
وعلى طريق القدس تنطلق الفنـ
...
...
ـون هوى وألحاناً تموج وتطربُ
لك يا فلسطين الحبيبة رقصةٌ
...
...
هاجت تهزُّ من النهود وتعربُ
لك يا ربى القدس الحبيبة هِزَّة
...
...
من كل قدٍّ مائس يثوثْبُ
أعلى طريق القدس ملحمّة الفنو
...
...
ن وحشدها وهوى يتيه ويُعربُ
عجباً يصوغون الملاحم رقصة
...
...
دارت وآلات تضجّ وتصخَبُ
وتقول راقصة رميت على العدى
...
...
رقصاً يُهدِّم ركنهم ويخرّب
ويقول فنان دفعت على العدى
...
...
لحناً يصد جيوشهم ويُغيّبُ
فإذا العدوّ جحافل ومدافع
...
...
دوّت ودباباته تتسَّربُ(/2)
ويجئ دور الأدب ! يتسللون به تسلّلاً خفيّاً ثم علانية ، ويستغلونه أسوأ استغلال . تقول مجلة الروح الفرنسية Espirit في عددها يوليو / أغسطس سنة 1977م : " ... هذا بالإضافة إلى أن المؤسسات الرأسمالية تتحكم في ألوان الثقافة والإعلام ، وأصبحت تحتكر الرأي العام وتعبّئه لنصرة قضاياها ومصالحها الخاصة " . ويقول أحدهم : إن السلطة القائمة على القهر قد استفادت من إنجازات العلم والأدب والثقافة ليصبح هذا كله عاملاً مساعداً للبربرية والقهر . " !
وظل الأدب بالنسبة للغرب العلماني والشيوعي أيضاً وسيلة يتسللون بها إلى العالم الإسلامي تحت ستار التجديد والتطور . والأمثلة على ذلك في الواقع كثيرة .
ومن الأمثلة على ذلك ما يسمى بالشعر الحرّ ، الذي وفد إلينا من الغرب ، من العلمانيّة ـ من الحداثة ، مصطلحاً وشكلاً وأسلوباً . وظل الحداثيون يدعون إليه بإصرار ، حتى تبنّاه بعض الشعراء دون توافر حجّة من علم أو دين أو مصلحة ، وحملته كثير من الصحف والمجلات الإسلامية وغيرها .
لا شكّ أن هؤلاء ليسوا بمجدّدين ولكنهم مقلّدون ، قلّدوا الحداثة ، قلّدوا العلمانيّة ، قلّدوا الغرب الذي يدّعون محاربته ، ثم يتبنّون أفكاره ومذاهبه . أخذوا عن الغرب القشور وأسوأ ما لديه . أخذوا عنه ما نحن لسنا بحاجة إليه ، وما لا يزيدنا قوّة وعزيمة ، ولا يسدُّ فراغاً في واقعنا . ولم يأخذوا العلم الذي نحن بحاجة إليه ، ولا الصناعة ، ولا السلاح ، وبقينا عالة على الغرب العلماني الحداثي في أخطر ما يحتاجه الإنسان . وظل هذا الحال منذ قرنين حتى يومنا هذا والغرب يفرك يديه فرحاً بنجاحه بإشغالنا بقشور الحياة وصَرْفِنا عن أسباب القوة والعزيمة ، والنهوض والوثوب ، والإفاقة واليقظة ، وكأنه صبّ في عروقنا خدراً انساب وتسلّل ، وأخذنا غفوة طويلة بين دويّ الأحلام ، وهتافات الغيبوبة . لقد وضَّحْتُ رأيي في ذلك كله بصورة جلية في دراسات متعددة منها : المسلمون بين العلمانيَّة وحقوق الإنسان الوضعية ، الحداثة في منظور إيماني ، تقويم نظرية الحداثة ، الأسلوب والأسلوبية بين العلمانيّة والأدب الملتزم بالإسلام ، الشعر المتفلّت بين النثر والتفعيلة وخطره ، الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ، النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء . وكتب أخرى .
الذين يُسمَّون بالمجدّدين اليوم هم في الحقيقة يمثلون أسوأ أنواع " التقليد الأعمى " ، هم قلّدوا الغرب في شكل القصيدة وما جدّدوا من أنفسهم شيئاً ، حتى إنهم سطوا على المصْطَلحات والمعاني وادّعوها لأنفسهم ، وكما يقول د . المسدي ما معناه : لو قام أصحاب الحداثة الغربية من قبورهم ورأوا كيف أنهم فقدوا حق " الريادة " حين نُسبت إلى غيرهم ، لأسفوا وغضبوا لذلك !
إِن كثيراً من مظاهر التجديد التي يتغنى بها الكثيرون في واقعنا اليوم هي " تقليد أعمى " وتبعيّة عمياء لم تعطِ الأمّة أي خير ولم توفّر لها أيّ قوة ، ولا تحمل أيّ انطلاقة ذاتية ، في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة إلى التجديد الذي يحيي الأمة .
من المؤسف حقّاً أن نرى التجديد محصوراً في شكل القصيدة ، وأن نرى أن أسس لغتنا وأدبنا الثابتة أصبح اتباعها يسمى تقليداً ، لتسويغ هبوط الموهبة .
إِن من أهم ما يجب أن يميّز الإنسان المسلم ، والأديب المسلم بصورة خاصة ، أن يعرف المهمّة التي خُلق للوفاء بها في الحياة الدنيا ، والتي سيحاسب عليها في الآخرة . يجب أن يعرف هذه المهمة أمانةً وعبادةً وعهداً وخلافةً ليحقق في الأرض حضارة الإيمان والتوحيد . هل يُعقَل أن الله خلقنا عبثاً دون مهمة تُؤدَّى ونتيجة يُوصَل إِليها :
( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إِلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : 115 ]
وكذلك فإن الله زوّد عباده بما يعينهم على تحقيق هذه المهمة إن صدقوا ونهضوا وأوفوا بالمهمة . فلا يعقل أن يترك الله عباده دون توفير أسباب الوفاء ، ويجعل النتيجة جنّةً أو ناراً :
( أيحسب الإنسان أن يُترك سدى ) [ القيامة : 36 ]
وهذا ما يميز الأديب المسلم من غيره ، والأدب الإسلاميّ من غيره ، حين يدرك المسلم أن في عنقه أمانة محدّدة عليه أن يوفي بها ، وأن يسخّر كلُّ ما وهبه الله لصدق الوفاء والأداء .
عليه أن يسخّر الشعر والفنّ والعلم ونعم الله كلها التي أنعم الله بها عليه من أجل ذلك :
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) [ لقمان : 20 ]
من هذا التصور يتجدّد أمام المسلم معنى " الفن " ، و " الأدب " ، و" الشعر " ، ليجعل منه قوة وفاء ، وقاعدة بناء . من هذا التصور يتحدَّد معنى التقليد والتجديد . فلا يحلّ تقليد الوثنية والفتنة ، ولا يحل تحطيم الأسس التي يقوم عليها الأمة ديناً ولغة .(/3)
أومن أن الجهد البشري يجب أن يكون نامياً في الحياة الدنيا ، متطوراً مع الحياة وأحداثها . وأومن أن النمو والتطور يجب أن يكونا قائمين على أسس ثابتة راسخة وجذور عميقة لا يمسها التحوير ولا التحريف . ذلك لأن هذه الأسس هي مصدر القوّة لكل نمو ، وهي النبع الفياض الذي يظلّ يروي كل عطاء نامٍ متطور . [ تقويم نظرية الحداثة : الباب الثالث الفصل الرابع ] .إن الأمة التي لا أسس راسخة لها تظل تتيه في عواصف وظلمات وزخارف ، لا تقدّم للبشرية إلا الفتنة بعد الفتنة والفساد بعد الفساد والظلم بعد الظلم والفجور بعد الفجور .
" التجديد " يجب أن يكون ذاتيّاً ، نابعاً من جوهر الأمة ورسالتها ونهجها . التجديد يجب أن يهب الأمة قوة وعزيمة ، ويسدّ حاجة أساسية في نموها ، " التجديد " يجب أن يكون له هدف واضح . وبالنسبة لنا نحن المسلمين يجب أن يكون الهدف ربانيّاً ، لأننا أمة تحمل رسالة ربّانيّة أُمِرَتْ أن تبلّغها للناس كافة .
" التجديد " يستفيد من التجارب البشريّة بما يدخل في حاجة الأمة ليزيدها قوة وعزيمة وعزة ، لا ليشغلها عن عظائم الأمور ، ويرميها بسفسافها .
وأضرب مثلاً لمفهومين مختلفين للتجديد والنمو والتطور . فلو نظرنا إِلى شجرة طبيعيّة تحمل الورد الذي يتجدَّد مع الأيام في موسمه . فالورد ينمو من الشجرة نفسها ، من جذورها وأَغصانها وأوراقها ، ومن تربتها وريّها ، وما تلقاه من جهد وعناية . هذه العوامل كلها تعمل لتخرج الوردة في أجمل صورها آية من آيات الله . أفنقول عن هذه الوردة ومثيلاتها إنها شيء قديم ، إنه تقليد ، نريد أن نبحث عن جديد ؟ ! نعم ! هذا ما اتجهت إِليه مذاهب الحداثة . فهذا " مايا كوفسكي " زعيم الحركة المستقبلية يدعو الشمس لتنزل إليه وتشرب معه كوباً من الشاي ، كل ذلك كي يعيق شروقها وغروبها الأبديين . يريد تجديد حركة الشمس .
ومارينيتي الإيطالي رئيس الحركة المستقبلية في إيطاليا وجماعته وعدوا بتجديد عجيب ، أَلا وهو ابتكار ما أسموه " الخيال اللاسلكي " الذي سيتمخض عن توليف متجانس لعناصر الكون التي يمكن احتواؤها عن طريق نظرة خاطفة واحدة . وَوضع مارينيتي مقدّمة لكتابه " زانك تم تم " بعنوان : " تحطيم النحو ـ خيال لا سلكي ـ كلمات حرة " ! وتريد الحركة المستقبلية أن تفرّغ الكلمات من معانيها ، واليد التي تكتب تنفصل شعورياً عن الجسم والدماغ ، حتى تكتب وهي متفلّتة من أي ضوابط من الجسم أو الدماغ . فيضع بعضهم المقاطع الشعرية مثل سي سي سي سي سي سي ، ليتحول الشعر إلى مقاطع صوتية لا معنى لها ، وكذلك النثر ، ومن هذا الجو ، من هذا الجوّ ظهر تعبير الشعر الحرّ ابتكره " كوستاف كان " فأعجب به مارينيتي وعبَّر المستقبليون عن ذلك بقولهم : " بعد الشعر الحر أصبح لدينا كلمات حرّة " ! ونجد كيف أن من حداثيي العرب من تبنى ذلك ودعا إليه وقلّده تقليداً أعمى وسماه البعض تجديداً . فشاعر حداثي نظم قصيدة : " ستزن ستزن ستزن " تقليداً لقصيدة : سي سي .. !
ونقل كمال أبو ديب وأدنيس وغيرهم نماذج كثيرة من ذلك ، وقلّدوه واتبعوه وسموا ذلك تجديداً . وانتقلت فكرة الاعتماد على الأصوات وتجريد الكلمات من معانيها إلى الحركة المستقبلية في روسيا . فهذا شاعر يكتب : دربل إِشكل ، " أبشكر ، سكم ، في سوبر ، رل ينر " . وتوالت أساليب التجديد في المذاهب الحديثة على هذا النحو .
يصدر " مايا كوفسكى " " خليبنكوف " و " كروجونيج " و " ديفيد برليوك " بياناً أسموه " صفعة في وجه الذوق العام " ! وجعلت المستقبلية محور قضيتها السعي إلى غسل الكلمات وتطهيرها من طلاء التراث الأدبي . ونسمع هذه الكلمات نفسها من حَداثيِّي العرب مثل : أدونيس وكمال أبوديب وغيرهما : إِفراغ الكلمات من معانيها ، إِلغاء القواميس ، إِلغاء النحو والصرف ، تطهير الكلمات .
في جلسة جانبية في أحد المؤتمرات ضم اثنين من أبناء الحركات الإسلامية . فبدأ أحدهم بمهاجمة شعر الأستاذ عمر بهاء الأميري رحمه الله ، وكذلك بمهاجمة شعراء مسلمين آخرين . فعجبت وقلت له : من الشاعر المبدع عندك ؟ قال محمود درويش ! فقلت : أهذا الذي سبّ الله ورسوله ؟! ودار نقاش ، ثم قطعته لما وجدت لا جدوى منه . ودُعيت في إحدى البلاد العربية إِلى مجلس ضمّ عدداً من الطالبات الجامعيات المسلمات والمدرسات الجامعيات المسلمات والأساتذة أيضاً . ثم سألتهم من الشاعر الذي تحبون شعره : قالوا : محمود درويش ! لقد انقلبت الموازين انقلاباً كبيراً ! ناقشت وأوضحت ، ولكن وجدت أن الحداثة بفكرها وشكلها تسللت إِلى قلوب كثير من المسلمين ، كلٌّ أخذ جرعة منها ، تزيد هنا وتنقص هناك .(/4)
وانظر إِلى " الملحمة " في واقعنا اليوم ، فما زالت تحمل معظم التصوّر اليوناني الذي يُدرّس في معظم جامعات العالم الإسلامي على أنه حقيقة واجبة الاتباع . لقد رسخ في أذهان الكثيرين أن التجديد هو اتباع الغرب ، والجديد هو ما أتى من الغرب . ورسخ كذلك أنه لو قدّم أحد المسلمين تصوراً جديداً نابعاً من الكتاب والسنة ، لأغفله الناس وطرحوه وراء ظهورهم ، وربما اتهموه بأنه هو التقليد ، وربما دار حولها الخلاف والصراع .
لقد قدّمتُ للملحمة في الأدب الإسلامي تصوراً جديداً وخصائص جديدة ، وقدّمت نماذج تطبيقية . وفي أحد المؤتمرات قدّم أحد الأساتذة بحثه بعنوان " البناء اللغوي لنموذج من شعر الغربة الإسلامي ـ نموذج : ملحمة الغرباء للدكتور عدنان النحوي " وكانت الكلمة قوية مؤثرة . وبعد الانتهاء وأثناء المداخلة قال أحدهم : كيف تسمي هذه ملحمة ولم تبلغ الآلاف من الأبيات ولا حملت خصائص الملحمة . ولكن الحوار حولها توقف .
ثم كتبت للأخ المحاضر رسالة أشرح فيها تصوري للملحمة في الأدب الإسلامي . فكتب إليّ يقول :
" رأيك سليم أدباً وديناً وعقلاً ولكن من يقبل منك هذا الرأي " ! صورة واضحة لما أشرت إِليه من رسوخ تصوُّرٍ خاطئٍ ، اتباعه تقليد سيِّ لنتاج وثني ، نرفض الخروج عنه ، ولكننا في الوقت نفسه نتنازل عن الوزن والقافية الراسخة في لغتنا وأدبنا . تناقض عجيب !
وأهم ملاحظة أن كلمة ملحمة ترجمة خاطئة لكلمة Epicus أو Epic . وأن الترجمة الأصح هي " الأسطورة " ، لأنها مبنية على الخرافات الوثنية الفاضحة .
وإِننا نرى التجديد الحقيقي في الحياة ، فكلّما تفتّحت الوردة على شجرتها كان ذلك تجديداً ، يبعث الجمال بأحلى صوره على سنن الله الثابتة ، تتجدد الحياة معها . وانظر إلى هذه الصورة الرائعة يعرضها لنا كتاب الله ليبيّن لنا كيف تتجدّد الحياة وكيف يكون التجديد :
(( ... وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربَت وأنبتت من كل زوج بهيج )) [ الحج : 5 ]
هذه الوردة الطبيعية ، لا تمثل التقليد كلما طلعت ، وإنما تمثل الحياةَ المتجددة ، تمثل التجديد بأعظم صوره ، آيةً من آيات الله . فلو جاء أحدهم وقطع الوردة وألصق مكانها شيئاً صناعيّاً غيَّر فيه التركيب والتنسيق ، حتى ذهب جمالها الأصلي ، أفنقول إِن هذا تجديد ؟ !
فالشعر الحرّ ، ( وما هو بحرّ ) ، أَشبه بشيء صناعي يُقلِّد العمل الحي المتجدِّد في الوردة ، ويذهب بصورته الرائعة الأصيلة ، وتناسقه البديع ، وعبقه الفواح الأصلي ، ويذهب بالنغمة العبقريّة التي بنتها آلاف السنين ، واستُبدِل بها عدد لا نهائي من الأنغام المصطنعة كما يريد ذلك أدونيس وغيره .
أفيكون الشيء المصنع المقلّد تجديداً ، والوردة التي أنبتها الله تقليداً وشيئاً قديماً ؟ !
إن الشعر العربيّ نما بصورة طبيعية خلال آلاف السنين ، ترعاه سنن الله في الحياة كما ترعى اللغة العربيّة بجميع خصائصها ، حتى إذا نزل بها الوحي الكريم كانت قد اكتمل نضجها وبناؤها ونسيجها ، وثبتت جميع خصائصها نثراً وشعراً ، حتى يتيسّر للناس تدبُّر منهاج الله في جميع الأجيال وجميع العصور ، وحتى يتيسّر للعلماء اكتشاف خصائصها الثابتة من نحو وصرف ، وبلاغة وبيان ، وعروض وبحور . إِن ثبات جميع خصائص اللغة العربية ضروري حتى يتيسّر للناس فهم منهاج الله ، وحتى يتحقق قوله سبحانه وتعالى :
( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل مِن مُّدَّكر ) [ القمر : 15 ]
وكيف يكون اتباع هذه الخصائص في اللغة العربية تقليداً ، واتباع الغرب العلماني تجديداً . إن شعر التفعيلة وشعر النثر تقليد لا إبداع فيه ، وتبعيّة لا تجديد فيها . إلا أن يكون ما حمل بعض الجمال الفني نثراً لا علاقة له بالشعر .
ولو أجزنا العدوان على الأوزان والقوافي تحت شعار التجديد ، لجاز عندئذ عند بعضهم المطالبة بتغيير أسس البلاغة والبيان كذلك . وهذا ما تطلبه الحداثة .
ولجاز كذلك المطالبة بتغيير قواعد النحو والصرف والأحرف والكتابة ، وهذا ما تسعى إِليه الحداثة ، وما يسعى إليه كثيرون بإلحاح . وقد ظهرت حركات كثيرة تطلب تغيير القواعد والأحرف والكتابة . وفي المدة الأخيرة ظهرت دعوة لكتابة اللغة العربية بأحرف لاتينية في فرنسا ، وأيد بعض العرب المسلمين ذلك .
إِنّ النصّ الأدبي حين يتولّد في فطرة الأديب المسلم بتفاعل القوى المغروسة في الفطرة حسب ما توضحه " نظرية تولد النصّ الأدبي " وحسب " قانون الفطرة " (1) التي تخرج منه هذه النظرية ، حين يتولد النصّ على هذا النحو لا يمكن أن يكون فيه تقليد . كل نصّ يخرج عندئذ كما تخرج الوردة على شجرتها ، كلما اهتزت الأرض وأنبتت من كل زوج بهيج .
الشاعر المسلم الذي ينشأ بين الكتاب والسنة واللغة العربيّة ، الشاعر الذي وهبه الله موهبة الشعر لتطلق التفاعل في فطرته ، تكون كل قصيدة عطاءً جديداً ، يظل يتجدَّد كما تتجدّد الوردة والزهرة والثمرة . فكيف يكون تقليداً ؟ !(/5)
" التقليد " تعبير عن عطاء جاف ميّت لا حياة فيه ولا يتجدّد . " التقليد " تعبير عن عطاء لا موهبة فيه ، ولا يكون ثمرة تفاعل في ذات الشاعر أو الأديب .
قانون الفطرة ونظريَّة تولّد النصّ الأدبي يقومان على الآيات البينات والأحاديث الشريفة التي تبيّن لنا أن كلّ إنسان يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه .
وقد غرس الله برحمته وحكمته ميولاً وغرائز وقوى في الفطرة . وأهم هذه القوى " الإيمان والتوحيد " ، وكأنّ هذه القوة تمثل النبع الصافي الذي يروي سائر القوى ريّاً متوازناً حتى تقوم كل قوة أو ميل أو غريزة بالمهمة التي خلقها الله لها . فإن لم يتمّ الريّ المتوازن بسبب الآثام ، أو إذا انقطع بسبب ذلك ، فلا تقوم هذه القوى بمهمتها . ومن ناحية أخرى فإن هذا النبع الصافي للإيمان والتوحيد يقوم بتصفية ما يدخل الفطرة من زاد الواقع الخارجي ، من علوم وخبرة وغير ذلك ، حتى يظل هذا الزاد في فطرة المؤمن نقياً . والنيّة الخالصة لله هي التي تفتح نبع الإيمان والتوحيد ليروي القوى والميول والغرائز بالريّ المتوازن . ومن بين القوى في الفطرة قوتان كأنهما قطبان هامّان هما : الفكر والتفكير ، والعاطفة والشعور . وعليهما تستقرّ شحنات الزاد من الواقع ، كما تستقرّ الشحنات على قطبين مغناطيسيين . وتنمو هذه الشحنات مع نموّ زاد الواقع ، حتى تأتي لحظة يحدِّدها قدر الله ، تصبح الشحنات على القطبين قابلة للتفاعل ، فتأتي الموهبة التي يضعها الله فيمن يشاء من عباده ، فتشعل التفاعل ، وينطلق العطاء شعلة حيّة غنية على قدر صفاء الإيمان والتوحيد وإخلاص النية ، وعلى قدر الزاد الذي يكوِّن الشحنات ونوعه ومادته .
إن العطاء الذي يخرج من هذا التفاعل في ذات الإنسان لا يمكن أن يكون تقليداً ، لأنه غنيّ بالحياة التي تتجدّد مع كلّ عطاء . إنه التجديد الممتد والإبداع الغني على قدر غِنى العوامل التي ولدته : الإيمان والتوحيد ، النيّة ، التفكير ، العاطفة ، زاد الواقع وأهمه منهاج الله ، الموهبة .
ولو أخذنا قصائد الشعراء المجيدين المبدعين قديماً وحديثاً ، ممن تخرج قصائدهم محافظة على الوزن والقافية ، لوجدنا أنّ كل قصيدة موضوع جديد ، وصورة جديدة وحركة جديدة إنها شيء جديد زادها الوزن والقافية لألأة وجمالاً ولذلك جاءت قصيدتي :
" لآلئ الشعر أوزان وقافية "
لاّلئُ الشِّعْرِ أَوْزانٌ وقافِيةٌ
...
...
تَشِعُّ مِنْ وَهَجِ الإِبْداعَ أَنْوارا
الشِّعْرُ فَنُّ وآلافُ السِّنين بَنَتْ
...
...
لآلئَ الوزنِ أو صَاغَتْ لَه الغَارا
لِسَانُهُ لُغةُ القُرْآنِ آيَتُها
...
...
إِعْجازُه دَارَ إِجْلالاً وإِكْبارا
وَعَبْقَرِيُّ عَطاءِ الشعْرِ قَافِيةٌ
...
...
تَجْري مَعَ " البَحْر " إِنشاداً وإِبْحارا
الشِّعْرُ فنُّ إّذا ما قُلْتُه انتفَضَتْ
...
...
مِنْكَ الجَوارح تَحْنَاناً وَتَذْكَارا
في صُورةٍ جَمَعَتْ أَلْوانَها فَزَهتْ
...
...
وحرّكَتْ من بَدِيع اللَّحْنِ أوتارا
وخفقَةٍ عَبْقرِيُّ الفَنِّ يُطلِقُها
...
...
رَوائِعاً مِنْ غَنِيِّ الشعْر أَبْكارا
كَأَنْها اسْتَلْهَمَتْ مِنْ كُلِّ قَافِيةٍ
...
...
لَحْناً تموجُ به الأَشْعَارُ أَشْعارا
وعطّرَتْ بالقوافي كلَّ رَابِيَةٍ
...
...
وزيَّنَتْ بالقوافي السَّاح والدَّارا
وأَطْلَقَتْ في سَماء الشِّعْر أَنْجُمَهَا
...
...
لآلِئاً وعَلى الآفاقِ أقْمارا
كَأنّما اتَّسَعَتْ للشِّعْر سَاحَتُه
...
...
فَكَانَ بَحْراً وهِاجَ البَحْرُ إِعْصارا
لا يرْكَبَنَّ عَبَابَ البَحْرْ غيرُ فتىً
...
...
جَلْدٍ تمرَّس إِقلاعاً وإِبحارا
يَخُوضُهُ كُلُّ ذي عَزمٍ وموهِبَةٍ
...
...
ويَنْثَي العَاجِزُ المضطرُّ إِدْبارا
يَغُوصُ يَطْلُبُ مِنْ أَعْماقِه دُرَراً
...
...
ويَعْتَلي ظَهْرَهُ جُوْداً وإصْدارا
هذي " البُحورُ "بُحُورُ الشِّعْرِ ، واهِبَةٌ
...
...
للصَّادقين عُلاً يَزهو وأَعْمارا
وإِنّ فِيها لأَصْدافاً تُصَانُ بِهاَ
...
...
لآلِئُ الشِّعْرِ أوْزانا وَأقْدَارا
التقليد مهمّة من لا يملك عناصر العطاء المتجدِّد ، العناصر التي تولّد عطاءه وتطلقه من ذاته ، نابعاً من ثوابت عناصره وزاده ، من جذور عميقة في الفطرة ، لا يشوّهها ولا يحرفها . المقلّد هو من لا يملك إلا أن يبحث عن هذا وذاك ليقلّده . أو عمّن يظنهم الأقوياء فيخدع بهم حتى يكتشف أنهم المنحرفون الضالون المجرمون ، فيُشغَل بقشورهم وزخرفهم الكاذب ، ويخفون عنه جوهر القوة وحقيقة الإِبداع الذي يهدي الله إليه من يشاء .(/6)
بين آيتي الصوم
( ... وَأن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ... )
وَ ( ... يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .... )
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
(( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . أياما معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكينٍ فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أيامٍ أُخر يُرِيدُ الله بكم اليسر ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة ولِتُكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكُرُون . )) [ البقرة : 183-185 ]
لقد كتب الله صيام شهر رمضان على جميع الأمم على لسان أنبيائهم المرسلين ، منذ نوح عليه السلام ، على طريقة قد تختلف في بعض تفصيلاتها . فعن عبد الله بن عمر _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم ) . (1)
وقال الحسن البصري : (( لقد كتب الله الصيام على كل أمة قد خلت كما كتب علينا شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً )) . (2)
ولا يمنع هذا أن يكون هنالك صيام آخر نافلة مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، أو صيام أيام معينة ، أو صيام كصيام داود عليه السلام .
إلا أنه وقد نصت الآية الكريمة : (( ... كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون . أياما معدودات .... )) ، وكذلك نص الحديث الشريف على ذلك ، وجاء شرح الحسن البصري ، فيكون قد تحدد معنى الصيام المفروض وهو شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة .
وكان المسلمون يصومون ثلاثة أيام من كل شهر أول الإسلام ، وقبل نزول هذه الآيات الكريمة . وبعد نزول هذه الآيات الكريمة مرَّ الصيام بمرحلتين كما هو واضح من الآيات . ففي المرحلة الأولى كان يباح للمسلم الذي يطيق الصيام أن يصوم أو أن يفطر ويطعم كل يوم مسكيناً : (( .. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ... )) ومعنى يطيقونه أي يقدرون على الصيام ، والصيام كله يحتاج إلى طاقة وقوة ، والذي يصوم قد يجد بعض الشدة التي لا يجدها أيام الإفطار . ولذلك جاء التعبير هنا ،: (( .. وعلى الذين يطيقونه )) وهذا ماضٍ على المقيم والمسافر والمريض . فمن أراد الصيام وكان مريضاً أو مسافراً ، فيمكنه قضاء ذلك بعد زوال العذر ، ومن أراد أن يتطوع بإطعام أكثر من مسكين عن كل يوم ، أو يزيد في كمية الطعام لكل مسكين ، فذلك خير له ينال ثوابه عند الله : (( ومن تطوع خيراً فهو خير له )) . ثم خُتِمت هذه الآية المتعلقة بهذه المرحلة من جواز الصيام أو الإفطار بقوله سبحانه تعالى : (( ... وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )) . أي أن الصيام أفضل من الإفطار في حالة التخيير هذه . فالتفضيل هنا مرتبط بحالة التخيير التي عرضناها .
أما في المرحلة الثانية فقد رفع التخيير ولم يعد هنالك إلا حالة واحدة هي صيام شهر رمضان كله فرضا على كل مسلم :
(( ... فمن شهد منكم الشهر فليصمه .... )).
هذه هي القاعدة الجديدة في المرحلة الثانية من فريضة الصيام ، ثم تأتي الآية الكريمة لتضع حكم المسافر والمريض ، فجاء الحكم يطابق نصه النص السابق في المرحلة الأولى من ناحية ، ويختلف عنه من ناحية أخرى ، أما المطابقة فهي في قوله سبحانه وتعالى :
(( .... فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيام أخر ...))
وحُذِفتْ كلمة منكم التي كانت في نص المرحلة الأولى : (( ... فمن كان منكم مريضاً ....)) وذلك لأن كلمة منكم وردت في الجملة السابقة : (( ... فمن شهد منكم الشهر .... )) ، فلم تعد هنالك حاجة لتكرارها في الجملة اللاحقة ، لأنها أصبحت مفهومة ضمناً ، وكأنما النص : (( فمن كان منكم مريضاً .. ))
ثم جاءت القاعدة الثانية في هذه المرحلة الثانية وهي قوله سبحانه وتعالى: (( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ))
وهذه القاعدة هنا اختلفت عن القاعدة التي كانت في المرحلة الأولى ، مرحلة التخيير بين الصيام والإفطار ، حيث جاء قوله سبحانه وتعالى : (( ... وأن تصوموا خير لكم ... )) ، أي خير لكم من الإفطار المباح .
فحين كان المسلم مخيراً بين الصيام والإفطار نصت الآية على (( ... وأن تصوموا خير لكم .. )) ، وكلاهما جائز .
وحين فُرض الصيام ولم يعد هنالك خيار ، جاءت الآية لتنص : (( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ....)) بالنسبة للمسافر والمريض ، على أن يقضي المسافر والمريض صيام الأيام التي أفطرها بعد زوال سبب السفر أو المرض ، فلم يعد هنا إلا حالتان بالنسبة للمريض والمسافر : الصيام أو القضاء .(/1)
فالخلاف الذي دار بين الفقهاء حول أيهما أفضل الصيام أم الإفطار بالنسبة للمسافر، لا نرى له مسوغا . فقد رأى أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ، أن الصوم أفضل للمسافر إن لم يكن عليه مشقة ، فإن كان هنالك مشقة فالفطر أفضل . وقال أحمد وإسحاق وآخرون : الفطر أفضل مطلقاً . وقال آخرون الصوم والفطر سواء . وقد أخذ كل فريق بجزء من النصوص لا بِجَميعِها والخروج منها بحكم واحد .
فلقد رأينا أن تفضيل الصيام كان في مرحلة التخيير . ولما وقع التخيير جعل الله الأمر للمسلم ليرى هو نفسه الأيسر له ، فهو أعلم بواقعه وظروفه وحالة السفر والمرض . وجاءت الأحاديث الشريفة لتوضح هذه القاعدة :
فعن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : ( يا رسول الله إني كثير الصيام أ فأصوم في السفر ؟ ) فقال : ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) [ رواه الشيخان ] (3)
وفي رواية مسلم قال : إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر . وفي رواية أنه قال : يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال : ( هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) .
وفي جميع الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفضل الصيام على الفطر ، وإنما ترك الأمر للمسلم ليفكر ويدرس واقعه ويقرر هو ويختار بين أمرين مباحين . فلا بد أن يكون للمسلم دائرة يتحمل فيها المسؤولية فلا يكون إمعة . وعن أنس رضي الله عنه قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم). [ رواه الشيخان والترمذي وأبي داود ]
هذا معْلَم من معالم مدرسة النبوة الخاتمة . تُعلِّم الجميع القواعد كلها ، ثم يُعْطَى كل مسلم الفرصة ليُفكِّر ويدرس واقعه ، ذلك في حدود مسؤوليته وأمانته ، وأن يرد الأمر إلى ما تعلمه من منهاج الله ، ثم يختار ويقرر . فنشأ جيل مؤمن يعرف مسؤوليته وحدودها ، فينهض لها ، حتى لا يكون الناس كلهم عالة يُعطلون عقولهم وإيمانهم وعلمهم .
ولكن قد يصدر الأمر للصائمين في السفر من القائد الذي يرعى مصلحة عامة أوسع وأهم ، فلا بد من الاستجابة الواعية لذلك :
فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغميم فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إنَّ بعض الناس قد صام . فقال : ( أولئك العصاة ، أولئك العصاة ) وفي لفظ : ( فقيل له إنَّ بعض الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب ) . [ رواه مسلم ]
فهنا أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وجوده بين المسلمين دفعهم إلى الاقتداء به على مشقة يجدونها وهم مقبلون على حرب . فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع القدح حتى رآه الناس .
فالقاعدة الأساسية في حالة السفر والمرض هي قوله سبحانه وتعالى : ( ..... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . فقد يخطئ بعضهم في تقدير اليسر ويأخذ بالعسر فيؤذي نفسه . فيأتي التوجيه النبوي ليؤكد فقه القاعدة المذكورة .
فعن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه ، فقال : (ما هذا ؟ قالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر ) [ رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي ](4)
فإذا كان هنالك مشقة وضرر من الصيام في السفر ، فيكون الصيام لا يخضع لقوله سبحانه وتعالى : ( .... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .....) . فإذا وقعت هذه المخالفة كان يأتي التوجيه النبوي ليؤكد قاعدة اليسر .
وفي موقف آخر يرويه لنا أبو الدرداء ، قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ، حتى كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ) . [ رواه الشيخان ] (5)
وفي هذا الموقف تُرِك الأمر للمسلم فاختاروا جميعا الإفطار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة ، ولم يعط رسول الله صلى الله عليه وسلم أي توجيه جديد ، زيادة على ما تعلموه جميعهم من الكتاب والسنة .
وخلاصة ذلك أنه لا مسوغ للخلاف حول حكم الصيام للمسافر والمريض حين تؤخذ الآيات والأحاديث كلها ، فيصبح الحكم جليا واضحا . وهل يعقل أن لا يبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الحكم الجلي للمسلمين في هذا الأمر وأمثاله مما يقع في دائرة مسؤولية كل مسلم مفروض عليه طلب العلم من الكتاب والسنة ، كما فرض عليه الصيام .
إننا لنعجب كيف أن المسلمين اليوم تخلى الكثير منهم عن مسؤولية طلب العلم الذي فرضه الله ورسوله على كل مسلم :(/2)
فعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى عليه وسلم قال : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ، وإن طالب العلم يستغفر له كل شئ ، حتى الحيتان في البحر ) [ رواه ابن عبد البر في العلم ] (6)
وخلاصة ذلك : أن الصيام فرض لا يسقط إلا بعذر شرعي جاء به نص واضح صريح . وفي حالة المسافر والمريض عليهما القضاء إذا زال سبب الإفطار ، ويترك للمسلم أن يختار ما هو الأيسر له حسب القاعدة التي سبق ذكرها ، فهو أعلم بواقعه وظروفه . إلا أنه إذا كان الصيام يسبب أذى وضررا ، فقد جاء التوجيه النبوي إلى أن الأيسر الذي يخضع للآية ( ... يريد الله بكم اليسر ...) هو الإفطار والقضاء .
أما بالنسبة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض مرضا لا يرجى برؤه ، فلهم الفطر ولا قضاء عليهم ويطعمون مسكينا عن كل يوم نصف صاع من بر أو ما يعادله أو زيادة عن ذلك . ودليل ذلك قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه ) .
[ رواه الدار قطني والحاكم وصححاه ] (7)
وبدهي أن لا يكون عليهم قضاء ، ذلك لأنه تعذر عليهم أداء الفرض ورخص لهم بالفطر ، فكيف يقضون وسبب الرخصة ما زال قائما ، وما زالت القاعدة : ( .....يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .... ) . تعمل في هذه الحالة أيضا، فتكون الفدية ، أي إطعام مسكين عن كل يوم ، هي اليسر الذي يريده الله سبحانه وتعالى ، وقد شرعها الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة : ( .... وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ..... ) .
وكذلك أطعم أنس بعدما كبر عاماً أو عامين ، عن كل يوم مسكينا خبزا و لحما وأفطر(8) .
فجاء النص السابق ، وتطبيق الصحابي يؤكدان حكم الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه .
أما بالنسبة للحبلى والمرضع : فعن أبي قلابة رضي الله عنه عن رجل ( أنس بن مالك من بني عبد الله بن كعب ، وليس خادم النبي صلى الله عليه وسلم ) ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة فإذا هو يتغدى ، قال : ( هلم إلى الغداء ) فقلت : ( إني صائم ) قال : هلم أخبرك عن الصوم ، إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم ورخص للحبلى والمرضع ) . [ رواه أصحاب السنن ](9)
فحكم الحبلى والمرضع إذا هو الإفطار والقضاء ، إلا إذا تعذر القضاء لسبب طارئ فعليهما الفدية . ذلك لأن الحديث الشريف أفاد بأنه رخص للحبلى والمرضع ولم يسقط الفرض عنهما ، والصيام فرض لا يسقط إلا بنص صريح ، والرخصة تزول بزوال سببها .
وأما الحائض والنفساء فعلى القواعد السابق ذكرها : الصيام فرض لا يسقط إلا بنص صريح ، والرخصة تزول بزوال سببها ، وأن الله يريد بشرعه هذا اليسر ولا يريد العسر ، فعلى هذه الأسس يكون حكم الحائض والنفساء الإفطار والقضاء . وجاء ما روته معاذة رضي الله عنها قالت سألت عائشة رضي الله عنها فقلت : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ) فقالت : ( أحرورية أنت ؟) قلت : ( لست بحرورية ولكني أسأل ) قالت : ( كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )(10) .
فلا تقضي الصلاة لأن هناك نصاً ، وأما الصوم فما جاء فيه إلا الرخصة .
ونوجز ما عرضناه كما يلي :
1. الصوم فرض فرضه الله سبحانه وتعالى ، لا يسقط إلا بنص .
2. لا تفضيل بين الصوم والإفطار على المسافر ، بل يترك الأمر له ليقرر هو ويختار أيسر الأمر عليه حسب نص الآية الكريمة ، وهو أدرى بواقعه ، وعليه أن يتحمل مسؤوليته الشرعية وينهض إليها . إلا إذ ا كان هنالك خطر بالصيام أو ضرر ، فالإفطار أفضل لتحقيق اليسر ورفع الضرر ، وعليه القضاء .
3. قضاء الصيام فرض كما هو الصيام فرض ، ولكن هناك رخصة للحبلى والمرضع والحائض والنفساء بالإفطار والقضاء ، فلا يسقط القضاء إلا بنص صريح أو عذر قاهر شرعي يتعذر معه القضاء .
4. تقوم الفدية مقام القضاء كلما تعذر القضاء أو سقط بنص صريح كما في حالة الرجل الكبير والمرأة الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه . فهنا جاء النص بالفدية لتعذر القضاء ، كذلك بسبب شرعي واضح ، ولأن الله يريد بعباده اليسر .
5. لا يجتمع القضاء والفدية ، فإذا كان هنالك قضاء فلا مجال للفدية لأنها مخالفة لليسر الذي يريده الله ، وإذا كان هنالك نص من كتاب أو سنة يجمع بين القضاء والفدية ، ولمن يرد تطبيق زمن النبوة الخاتمة جمع بينهما .
6. التيسير الذي يريده الله ، والذي أشارت إليه الآية الكريمة هو التيسير في حدود الكتاب والسنة ، وليس في التفلت منهما ، فذلك ليس بتيسير في ميزان الله . والنص في الآية الكريمة : ( ... يريد الله بكم اليسر .... ) ، أي يريد الله بكم اليسر بشرعه لا بمخالفته أو التفلت منه .(/3)
ونود أن نؤكد هنا قضية نؤمن بأنها هامة . إن من بين أهداف الفقه في الإسلام المساهمة في بناء الإنسان المؤمن الملتزم الماضي على صراط مستقيم . يريد الله من جميع عباده المؤمنين أن ينهضوا إلى مسؤولياتهم والتكاليف الشرعية التي وضعها الله أمانة في عنق كل مسلم ، أمانة نسميها ( المسؤولية الفردية ) التي تبنى عليها مسؤولية الأمة كلها في دين الله .
إن الله سبحانه وتعالى فرض طلب العلم على كل مسلم ، لا على فئة محدودة ، وألح الكتاب والسنة بذلك ، على أن يكون طلب العلم بحافز إيماني ، فيزيد العلم الإيمان ، ويزيد الإيمان الإقبال على العلم برحمة الله .
فإذا أقبل الجميع على العلم ، ونهلوا جميعا من الكتاب والسنة اللذين هما أساس كل علم ، وأعطي الجميع الفرصة نفسها، فعندئذ تتميز المواهب والقدرات ، ويبرز أولوا الألباب الذين أعطاهم الله وسعاً صادقاً أكبر ، ويبرز في الأمة العلماء . فالعلماء هم أصحاب الإيمان الأصفى والعمل الأتقى والمواهب المتميزة التي حملت لذلك القدر الأكبر من العلم ، وحملت المسؤولية الأكبر، بين مؤمنين كلهم متعلمون ، كلهم ناهضون لمسؤولياتهم ، لا بين جهلاء قعدوا عن طلب العلم وأصبحوا عالة على العلماء والأمة . وقد يعذر المسلم فترة لجهله ، ولكن لا يعذر إذا استمر الجهل وامتد الحياة كلها ، أو رغب المسلم عن تعلُّم دينه ، وأقبل على علوم الدنيا وحدها . لا يعذر المسلم في هذه الحالة . ومن واجب العلماء إبراز الحكم الشرعي لهؤلاء لينهضوا إلى طلب العلم من الكتاب والسنة ، وإصدار الفتوى بحرمة بقاء المسلم جاهلا عالة على الأمة والعلماء .
وبالإضافة إلى النصوص التي وردت بفرض طلب العلم فقد جاء كذلك الترغيب الملحُّ بذلك . ونأخذ قبسات قليلة للتذكير . فانظر إلى هذا الدعاء ، دعاء الهم والحزن ، الذي يرغب كل مسلم أن يدعو به : ( اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحد من خلقك ، أو استأثرت به في العلم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي )(11) .
فهذا الدعاء والإلحاح به على هذه الصورة ينصبُّ ليكون القرآن ربيع القلب ونور الصدر ، وكيف يكون ذلك إلا إذا وعى القلب القرآن وتدبره وآمن به وعمل به . وهذا نداء لكل مسلم .
وهذا الدعاء كذلك يرغب به كل مسلم ليدعو به بعد السلام من صلاة الفجر : ( اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا ) (12) .
فإلى مدرسة النبوة أيها المسلم ، واملأ صدرك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولو جمعنا الأقوال حول حكم الحامل والمرضع لرأينا الاختلاف الواسع المتضارب : فمن قائل : يفطران ويفديان ويقضيان ، ومن قائل : يقضيان فقط ، ومن قائل : يفديان فقط ، ومن قائل يفطران ولا قضاء ولا فدية . فهل يعقل أن نقدم للناس هذه الآراء المختلفة ، وهل يعقل أن الإسلام وفقهه يجيز هذه الآراء كلها ، وماذا يفعل المسلم بعد ذلك ؟
قال مالك : (إذا خافتا مطلقا فلهما الفطر وعلى الحامل القضاء دون الفدية بخلاف المرضع فعليهما القضاء والفدية ) . وقال الحنفية : ( عليهما القضاء دون الفدية كالمريض الذي يرجى برؤه ) . وقال الشافعية والحنابلة : ( إذا خافتا على الولد فقط فعليهما القضاء والفدية لأنه فطر ارتفق به شخصان ، وإلا عليهما القضاء فقط ) .
والحديث الذي أوردناه عن الحامل والمرضع : ( ..... ورخّص للحامل والمرضع ) ، ولم يأت ذكر إن خافتا على الولد أو على نفسيهما . كانت رخصة دون تقييد هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : أين التيسير الذي يريده الله ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن أبي حاتم مرفوعاً : تفسير ابن كثير لآيات الصيام .
(2) تفسير ابن كثير .
(3) مسلم : 13/17/1121 .
(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ط : 2 : ( رقم : 5304 ، 5305 ) .
(5) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ط : 2 : ( رقم 5304 ، 5305 ) .
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( رقم : 3809 ) .
(7) سبل السلام : ط : 4ج2/322 .
(8) مختصر تفسير ابن كثير لآيات الصيام (ط2) دار القرآن الكريم 1/160 .
(9) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم : 2/76 .
(10) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم : 2/77 .
(11) أحمد : 1/391 وصححه الألباني .
(12) صحيح ابن ماجة : 1/152 .(/4)
بين أهل العلم و أهل الجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :
يلاحظ في بعض أساليب الخطاب والحوار بين رجال من أهل العلم ورجال من أهل الجهاد والشوكة تدني الاحترام المتبادل عن الدرجة المطلوبة، لاسيما في هذه الأيام التي قد تتباين فيها المواقف .
فمصطلحات القاعدين والمتخاذلين قد تجدها في خطاب إحدى الفئتين للأخرى، وفي المقابل تجد مصطلحات التعجّل والانفعال وعدم المشورة ... الخ .
والأمة بلْه العاملين للإسلام منها أحوج ما يكونون إلى التآلف والتآزر والتوحّد والاجتماع ، وهي أحوج ما تكون إليه في هذه الأيام، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين }
وترسيخاً لهذا المبدأ الرباني العظيم أودّ المشاركة بطرح بعض الإشارات لعلها تساهم في تصحيح بعض المفاهيم، ومن ثم تتلاشى سحب الدخان بين أنصار الإسلام وتصفو النظرة بين العاملين له ،جعلنا الله جميعاً منهم .
أولاً : الأمة مأمورة كلها بالعلم والجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..وليس سبيل منها بأولى من سبيل، أو يمكن الاستغناء به عن غيره قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
ولا أظن الأمة بحاجة إلى زيادة تصنيفات تمزقها وتفرق صفها .
فالجهاد ذروة سنام الإسلام، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة (وأعني به: الجهاد على مصطلح العلماء المعروف وهو القتال في سبيل الله تعالى وكل ما يعين عليه من بقية أنواع الجهاد، وهذا هو الجهاد عند الإطلاق، لا كما حصره بعض الناس ـ هداهم الله ـ في جهاد الكلمة والبيان فحسب ) .
هذا الجهاد لم يؤمر به قوم دون قوم؛ بل الكل مأمور به وفي مقدمتهم أهل العلم ، ومن ثم يظهر أن لا حاجة لمصطلح ( شباب الجهاد ) وكأنهم هم المعنيون به دون غيرهم ، بل ينبغي أن نقول : كلنا من أهل الجهاد إن شاء الله وندعو إليه ونحرض عليه ، قال تعالى : {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال }الآية .
وإذا كان الجهاد مأموراً به وهو ذروة السنام فكذلك ينبغي أن نعتقد فرضية طلب العلم فيما يجب على العبد تعلمه، والقاعدة في ذلك: أن ما وجب فعله وجب تعلم كيفية فعله ... وهكذا يقال في سائر فروض الكفايات والتي تكون في بعض أحوالها وصورها فروض أعيان ، وليس ثم تعارض بين هذه الفروض وحاشا شرع الله من التناقض ، وينبغي لكل مسلم فضلاً عن أهل الصلاح والعمل للإسلام أن يوفقوا بين هذه الفروض ، وألا يفرطوا فيما وجب عليهم منها ، وبهذا تتلاشى التفرقة على أساس الأخذ بأحد منها .
( وتزيدها بياناً الفقرة التالية ) .
ثانياً : قال تعالى : {قل كلُّ يعمل على شاكلته} قال مجاهد : طبيعته ، وقال الفراء : على طريقته ومذهبه الذي جبل عليه . وقيل : قل كلُّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده .
ثم قال القرطبي في تفسيره 10/323 : وهذه الأقوال كلها متقاربة والمعنى أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها .1.هـ
وفي حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا فكل ميسر ) . وفي رواية ( ميسر لما خلق له ) . متفق عليه .
فكل له ما يناسبه ولذا كان مجال المنافسة والمسابقة في الطاعات واسعاً جداً شاملاً لكل رغبات البشر المشروعة ، وقد قيل : وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه .
وما أعظم حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال نعم وأرجو أن تكون منهم . متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
إن هذه النصوص التي هي بمثابة القواعد للمسلم تجعله مدركاً لما يستطيع المسابقة فيه ، وخدمة الإسلام من خلاله .
كما تجعله فقيهاً بالجمع بين ما ورد من نصوص في فضل هذا العمل وما ورد من نصوص في فضل عمل آخر وثالث وهكذا ..
فالتفاضل بين العبادات يكون بحسب ما هو أنفع للعبد في العبودية وأنفع للناس أيضاً إن كان مما يتعدى نفعه وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص .
وبهذا يفسر اختلاف جواب النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أفضل الأعمال مثل :(/1)
حديث أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب أفضل قال أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ..الحديث متفق عليه .
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال جهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور. متفق عليه .
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم أي قال ثم بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني . متفق عليه .
وأشباهها كثير ….
ولذا لما أعتقت ميمونة رضي الله عنها وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك متفق عليه .
وهذا يجعلنا نؤكد على الفقه لمقاصد الشرع في العبادة المحضة وفي كل عمل ،والنظر للأمر من جميع جوانبه فالعتق عبادة عظيمة وفيه فضل وثواب كبير ولكن لما عارضه ما هو أولى منه وهو حاجة الأقارب إلى ذلك الرقيق صار المصير إليه أعظم أجراً .
وخلاصة ما تقدم : أن من الناس من يفتح له في باب العلم فيكون من أهل الرسوخ فيه ، ومنهم من يفتح له في باب العبادة ، ومنهم من يفتح له في باب الجهاد .... وهكذا .
وحديث أبي هريرة السابق ظاهر البيان في تأكيد هذا المعنى ، وأن من الناس ـ وهم قلة ـ من يوفقه الله فيجعل له في كل باب سهماً ، ومثاله من الرعيل الأول أبو بكر رَضِيَ الله عَنْهُ وأرضاه ، ولا يعني هذا نفيه عن طائفة من الصحابة لا سيما العشرة المبشرين بالجنة رَضِيَ الله عَنْهُم ، بيد أنه كان أبرزهم في أخذه بمجامع تلك السبل من الخير .
ومن أمثلته في هذا العصر ـ فيما أحسب ولا أزكي على الله أحداً ـ شيخنا الإمام ابن باز عليه الرحمة والمغفرة .
فإذاً ... قد يبرز المسلم في باب من هذه الأبواب، وهذا من طبيعة البشر أن يُعرف بما يكثر منه ويهتم به ، وقديماً قيل : من أكثر من شيء عرف به .
ولكن لا بد هنا من شرط لازم هو الأخذ بالواجب في كل باب، وإنما تبقى المنافسة التي تؤهله لدخول باب ذلك الخير في الجنة في نوافل ذلك الباب لا في واجباته ، فإن الواجب يشترك فيه الجميع .
ولقائل أن يقول : إذاً فالتصنيف حاصل فالتسمية بـ (شباب الجهاد ) إنما حمل عليها ما عرفوا به من اهتمام بهذا الباب من أبواب الخير ؟! .
والجواب : أن هذا لا غبار عليه، لو كان مقتصراً على منافستهم في نوافل هذا الباب، ولكنك في الواقع تجد أن تصنيف شباب الجهاد يعني أن غيرهم لا يهتم بهذا الباب ؛ بل ربما لا يعرف حتى الواجب فيه . فكأنهم صاروا هم القائمين بهذا الواجب العيني ، وغيرهم قد قصروا فيه ، وهذا لا شك أنه لا يقر ، أعني التقصير فيما وجب من هذا الباب ( الجهاد ) ، ولذا فعلينا أن نكون جميعاً من أهل الجهاد من هذه الحيثية ، لأن الواجب من كل باب لا يعذر أحد في التقصير فيه كما تقدم ، وإنما الاختيار فيما زاد على الواجب ، فليس الاعتراض على ذات التسمية ، وإنما الاعتراض على الخلفية والملابسات التي انطلقت منها التسمية .
ولعلك تسأل : وما الواجب في باب الجهاد ؟ .
فأقول : ليس هذا موضع تفصيله ، ولكن ثم ما يمكن التنبيه عليه مما يجب في هذا الباب .
فمن ذلك وهو أوله : الإعداد قال الله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }. وقال الله تعالى : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } ففي ترك الإعداد للجهاد تشبه بالمنافقين .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : " من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق " أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي . أخرجه مسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (28/259) : ( يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز ، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) .
وهذا الإعداد يجب منه على كل أحد بحسبه ، وتختلف نوعاً ما باختلاف الحال والشخص ويُرجع إلى أهل الخبرة في هذا الشأن .
ومن ذلك ما يجب من الجهاد عيناً في الأحوال التي ذكرها أهل العلم كاستنفار الإمام ، واستيلاء العدو على أرض المسلمين ، وحضور الصف ، ونحو ذلك .(/2)
وقد يكون في تحقيق مناط هذه الأحكام وتنزيلها على الواقع شيء من الخلاف ؛ لكن الاستعداد لطرح ذلك والتجرد في تناوله من الملابسات والتحفظات ، والفقه العام في هذه المسألة ، والاستفادة من أهل الخبرة فيها ونحو ذلك ، كل هذا سبب للهداية ـ بإذن الله ـ في هذه المسائل والبصيرة فيها والإعذار.
ولئن قلنا هذا في باب الجهاد فنقوله أيضاً في بقية الأبواب من أبواب الخير، حيث منها ما هو واجب كما تقدم ، فمن ذلك باب العلم فكلنا يجب عليه أن يطلب من العلم ما يتعين عليه طلبه ( والواجب من العلم قد يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال والشخص ، فقد يجب في زمن أومكان ما لا يجب في زمن أو مكان آخر ، وقد يجب من العلم في بعض الأحوال ما لا يجب فيما سواه ، وقد يجب على شخص بعينه ما ليس يجب على غيره ) .
وإذا كان يجب على كل مسلم أن يأخذ من باب الجهاد ما تعين ومنهم أهل العلم فإنهم لا يُعفون من الواجب فيه من الإعداد وغيره مما تقدمت الإشارة إليه ؛ فإن رجال الجهاد ( ونعني بهم من اختصوا بالاهتمام بما زاد على الواجب فيه وفق ما أشير إليه قريباً ) عليهم أن يأخذوا بما هو فرض من العلم مما هو مقدم على بعض متممات الجهاد ؛ بل الواجب من العلم مقدم على الواجب من الجهاد، ومن ذلك علمهم بأحكام الجهاد الذي يعانونه جملةً وتفصيلاً كل بحسبه .
ثالثاً : إذا كان من أهل العلم من هو مجاهد بالفعل، وقد خرج بنفسه وماله إلى الثغور فكذلك من أهل الجهاد من هو عالم له مكانته في العلم والفقه .
والذي رغبت أن أخلص إليه هو أن الاعتقاد بأن من يهتم بالجهاد أو على الاصطلاح المنتقد ( شباب الجهاد ) لا يعدون كونهم فئةً من الشباب الصغار يتسمون بالحماس وقلة العلم والفقه ... كل ذلك وهم، وهو وإن كان قد يصح شيء منه أول ماظهر هذا المصطلح ـ إن كان _؛ غير أن الجهاد الذي كان غائباً عن الأمة حقبة من الزمن عاد كفكرٍ ينمو ويترعرع ويتطور ليصبح من يحمله اهتماماً به لا اطراحاً لغيره جميع فئات المجتمع، فقد تجد ممن يهتم بهذا الباب أو من يشارك فيه بالفعل طلبة علم راسخين، وأطباء، ومهندسين، وحملة شهادات، ورجال أعمال .. الخ، وهو فكر لا ينتسب إلى جماعة أو يتقيد بأفراد ؛ بل هو فكر متاح يأخذ به القاصي والداني من غير معرفة بينهم أو سابق صلة تربطهم .
وصار هؤلاء يطرحون مسائل الجهاد بمنهجية علمية وفكرية وليست مجرد حماسة بسطاء، كما قد يتبادر إلى البعض فيناقش المسائل أحياناً بمنتهى البساطة ظناً منه أنها أصلاً لم تطرح بعمق يقتضي مناقشتها بعمق .
أو أن تلك القضايا ليس وراءها سوى فكر شبابي متحمس، فيقع جراء ذلك في نتيجة متعجلة قد تحدث نوعاً من الشرخ بينه وبين من يرى هذه المسألة أو تلك .
ولو أنه أحسن الظن، ولم يتعجل واستبان وسأل فلربما لم يكن حكمه كذلك أو على أقل الأحوال لترك للمسألة مجالاً للاجتهاد .
هذه الخلفية في نظري ساهمت في مصادرة بعض الآراء أو بعض الاجتهادات في باب الجهاد وأعني بهذه الخلفية ما أشرت إليه قريباً من اعتقاد بساطة (شباب الجهاد) وقلة علمهم وأن ما يقومون به ليس سوى اجتهاد لم يُبنَ على علم راسخ أو ليس منطلقاً عن أهل علم راسخين .
والحق أن بعض هذه القضايا الكبار وإن كان من يراها مأموراً بالنظر البعيد والبصيرة الثاقبة والعمل وفق نظرة شرعية واضحة بكل ما تعنيه من إدراك للحكم في أصله، وفقه في مصالحه ومفاسده
لكن من لم يرها أيضاً ليس له التعجل بهذا الحكم حتى يستكمل شروطه : من فقه واقعه، ومعرفة ملابساته وأسبابه، وإمكانية البديل عنه، والتمكن من التحرر من التحفظات التي قد تؤثر على الحكم في الحادثة ربما من حيث لا يشعر الناظر فيها .
ففقه واقع تلك القضية المطروحة من قضايا الجهاد يستلزم سؤال أهل الخبرة في هذا المجال، أو التعرف عن كثب في تكييف واقعها وهل هي بالفعل على هذه الصورة أو تلك ؟ وما مدى التأثير والفاعلية ؟
وهل ذلك الأثر من الضخامة بحيث يغتقر معه ما قد يقع من مفاسد لا يخلو من وجودها بنسبةٍ ما أي عمل مهما كان ؟
وأما معرفة ملابساته فمستلزم ذلك العلم بملابسات التوقيت والحال، وخلفيات الحدث والقضية، وعلاقة كل طرف بالآخر، وما يلزمه حياله وما لا يلزمه ...(/3)
وأما إمكانية البديل عنه فهل من لم ير تلك القضية مستعد أن يبين ما يراه من باب الجهاد ؟ أم أنه سيتخذ مسلك القائلين بألاجهاد في هذا الزمن، وإنما الجهاد بالكلمة فقط، والحقيقة أنه لا حاجة للرد على من يعتقد ذلك ؛ لأن أحاديث : " الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة " ( انظر البخاري باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، ومثله في دواوين السنة الأخرى) وأحاديث (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ) كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة . أخرجه مسلم .
وحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة أخرجه مسلم .
وحديث معاوية رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس .متفق عليه وفي رواية للبخاري لا يضرهم من كذبهم . وغيرها مما في معناها ..
هذه الأحاديث ظاهرة الدلالة لصغار طلبة العلم فضلاً عن كبارهم على ديمومة الجهاد ولله الحمد والمنة
بل إن من يرى غير ذلك وهو من أهل الخير لعله أول من يرد على نفسه حين يؤيد ما يقع لليهود على يد إخواننا في الأرض المقدسة، وإلا فمقتضى قوله ولازمه أن يأمر المجاهدين في الأرض المقدسة بأن يضعوا سلاحهم، ويكفيهم الجهاد بالكلمة !!
وإذا كان من لم ير تلك القضية غير مستعد لبيان البديل لأسباب خاصة به وإن كان يرى الجهاد بالسيف باقياً، فليس من الحكمة والعدل ـ في نظري ـ أن يجهر بما يُمنع ويستخفي بما يُسمح ، أو يتكلم حين تكون القضية ظاهرها المنع لديه، ويسكت فيما يعلم عدم المنع فيه .
فإما أن يسعه السكوت في كليهما، أو ليكن صريحاً في كليها أيضاً .
وأما التمكن من التحرر من التحفظات التي قد تؤثر على الحكم فتلك حال لا يشخصها إلا صاحبها بشرط التجرد المحض في تشخيصها بمعنى أن يراجع نفسه بالفعل حين تنزيل الحكم وهل هو قادر على أن يقول ما يعتقد أولا ؟
ومما يجلي له حالته أن يفرض أخذه بالرأي الذي قد يتحفظ منه لسبب أو لآخر، فإن كان حين يفرض ذلك في نفسه وأنه سيعلنه لا يتوجس أدنى حساسية، فليقل ما يعتقد، وإلا فليسعه السكوت فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت..... " متفق عليه .
وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرا فليتكلم بخير أو ليسكت ..الحديث .
رابعاً : إن من أهل العلم من له مشاركته في الجهاد بحسبه، فلا ينبغي التعجل برمي بعض أهل العلم بالقعود ؛ بل لهم حق الاحترام والتقدير مهما اختلف الطرف الآخر معهم، ومهما يكن فحق العلم يقتضي بقاء الأدب مع أهله وحفظ ما جعله الله لهم من المهابة والقدر، وعدم التعدي والتطاول عليهم والنيل منهم بأدنى سبب وإسقاطهم بمجرد المخالفة في بعض الاجتهادات والآراء حتى وإن ظنها صاحبها واضحة جلية، والرمي بالتهمة من غير دليل .
وقد تواترت النصوص وتكاثرت في فضل أهل العلم وفضل ما نذروا أنفسهم له بما لا ينبغي معه تجاهل ما دلت عليه من توقيرهم أو الحط من بعضهم وإن قصر من قصر في واجب غيره .
قال النووي رحمه الله في المجموع 1/40 :
قد تكاثرت الآيات , والأخبار , والآثار , وتواترت , وتطابقت الدلائل الصريحة , وتوافقت , على فضيلة العلم , والحث على تحصيله , والاجتهاد في اقتباسه , وتعليمه . وأنا أذكر طرفا من ذلك , تنبيها على ما هنالك , قال الله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } , وقال تعالى : { وقل رب زدني علما } , وقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } , وقال تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } , والآيات كثيرة معلومة .(/4)
وروينا عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } رواه البخاري , ومسلم , وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن مثل ما بعثني الله به من الهدى , والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء , فأنبتت الكلأ , والعشب الكثير , وكان منها أجادب أمسكت الماء , فنفع الله بها الناس فشربوا منها , وسقوا , وزرعوا , وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء , ولا تنبت كلأ , فذلك مثل من فقه في دين الله , ونفعه بما بعثني الله به , فعلم , وعلم , ومثل من لم يرفع بذلك رأسا , ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به } رواه البخاري , ومسلم وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق , ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها , ويعلمها } . روياه , ..... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له } رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع } رواه الترمذي , وقال : حديث حسن . وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله , وملائكته , وأهل السموات , والأرض حتى النملة في جحرها , وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير } رواه الترمذي , وقال : حديث حسن .اهـ المنقول عن النووي .
نعم ليس في الإسلام كهنوت، وليس ثم معصوم بعد الأنبياء عليهم السلام، وليس ثم الشيخ الذي تكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله .
لكن كل ذلك لا يعني بحال سلب أهل العلم قدرهم واحترامهم، وذلك ـ ولله الحمد ـ لا يرد من الحق شيئاً.
ولذا فإنه لا مانع أن يقال لأهل العلم ـ مع جميل التقدير لهم ـ :راجعوا أنفسكم في باب الجهاد هل بالفعل أديتم منه الواجب ؟
ثم يقال لهم : أحسنوا الظن بمن نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله ، ولينوا بأيدي إخوانكم واخفضوا الجناح لهم وأعطوهم من أنفسكم واحفظوا لهم أيضاً حق الاحترام والتقدير فإنهم حفظة الثغور لهم من الحق ولهم من الفضل ما ليس لغيرهم .
قال الله تعالى : {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون }
وقال سبحانه : {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }
وقال : {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص }
وقال : {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى }
وقال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما }
وفي صحيح البخاري وعند مسلم نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك . متفق عليه .(/5)
خامساً : يجب الحذر أن يتخذ الشيطان في مثل هذه الأحوال سبيلاً إلى المسلمين فضلاً عن العاملين للإسلام من أجل زرع الفتنة بينهم، وإذكاء الخلاف في مسائل لا تعدو أن تكون اجتهادية يسع فيها الخلاف، ولا تحتمل ـ مهما يكن ـ أن تؤلف فيها الردود بمعنى ( الردود ) والتي قد ينقصها من أدب الحوار، وضبط العبارات وتفهم رأي المخالف ما ينقصها .
نعم، لا بأس بالمناقشة الهادفة والحوار المؤدب، والسعي إلى إيضاح الصورة وإقناع الطرف الآخر والبيان له .. كل ذلك بالأسلوب الشرعي الهادف قال سبحانه في حق أهل الكتاب : { وجادلهم بالتي هي أحسن } فكيف بأخيك المسلم ؛ بل كيف بمن هو معك في خندق الدفاع عن الإسلام والذود عنه ؟!
إن من الناس من يُلزم الطرف الآخر في الحوار برأيه ولا ينتهي حتى يُسلم له مخالفه، وهذا في الحقيقة ليس شرطاً في الحوار، بل هو من معوقاته، إذ يكفي أن يوضح كل طرف للآخر رأيه بكل تجرد، ويدعه وقناعته بينه وبين نفسه، ولربما لم يقتنع في ذات المجلس، لكنه حين يتأمل بعد ذلك يقنع ويُذعن .
سادساً : إن التقدير لأهل العلم لا ينبغي أن يتخذ مظهراً شكلياً أو تكلفاً وتصنعاً ؛ بل ليكن انعكاساً حقيقياً لتقدير النفس ومودة القلب ، وسلامة الصدر من الشحن لأدنى خلاف ..
مع أن مجاهدة النفس إلجامها بالأدب وكظم الغيظ الناشئ عن فهم أو تصرفٍ ما مطلب في حد ذاته ، وهو صمام مانع من تصعيد الخلاف ويورث في المآل التفاهم بإذن الله .
والله تعالى يقول : " واخفض جناحك للمؤمنين " ويقول سبحانه : " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك "
أفليس خفض الجناح ولين القول أولى بين أهل الإسلام العاملين له ؟!
ومن أعظم ما يعين على حسن المعاملة إنْ قولاً أو فعلاً هو التجرد التام ، ذلك الذي لا يلقّاه إلا الذين صبروا ولا يوفق له إلا ذو حظ عظيم .
إن التجرد بحتاج من النفس إلى مران ودربة ، ومجاهدة مرة تلو مرة ، قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}
إن التجرد قد لا يتحقق بدرجة ( 100 ) % ولا حتى ( 80 ) % في أول موقف ؛ حتى يجاهد العبد نفسه ، ويوطّنها ، ويربيها ، ويُلجمها إلجام الفرس الهائج ...
وسيجد نفسه _ وإن بعد لأْيٍ مطواعة لهذا التجرد مطمئنة إليه بإذن الله تعالى ..
وإن من قواعد التجرد وأصوله المقربة إليه ما يلي :
1 – الإخلاص لله تعالى . قال سبحانه : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
قال سفيان الثوري رحمه الله : ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي .
وقال يوسف بن حسين الرازي : أعز شيء في الدنيا الإخلاص ، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي ، وكأنه ينبت فيه على لون آخر .
2 – زيادة الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً . قال سبحانه : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }
وكلما تذكر العبد الآخرة مستيقناً بوعد الله تعالى ووعيده هانت عليه حظوظ النفس وصوارف الدنيا ، ومن ثم رزق التجرد منها .
وفي البخاري عن ابن عمر قال دخلت على حفصة ونسواتها تنطف قلت قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت الحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة فلم تدعه حتى ذهب فلما تفرق الناس خطب معاوية قال من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه قال حبيب بن مسلمة فهلا أجبته قال عبد الله فحللت حبوتي وهممت أن أقول أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان قال حبيب حفظت وعصمت .
فقد ترك ابن عمر رضي الله عنهما ما هو حقيق به حين تذكر ما أعد الله تعالى ، فأولى بهذا الشعور أن يبدد ما هو دونه من الحظوظ .
3 – تقوى الله تعالى في السر والعلن ، قال سبحانه : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ}. وقال : { إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }
ومن تقوى الله تعالى أن يحفظ لكل ذي حق حقه وألا يتعدى عليه بقول أو اتهام .
4 – استشعار الفضائل المتقدمة من الإخلاص والإيمان والتقوى وثواب ذلك ؛ فإن استشعار الثواب ، والتلذذ بتلك العبادات القلبية من أعظم ما يعين على التجرد .(/6)
5 – الوضوح مع النفس ،والصراحة معها ،ومالها من حظوظ من أجل تمحيص أغراضها عند المخالفة مع أحد؛ فإن استقراء حظوظها في ذلك الخلاف ومن ثم تمحيصها تمحيصاً دقيقاً لهو من أنجع الأدوية ، فقد يجد المرء نفسه مدفوعاً للانتصار للنفس ، أو للظهور بالحجة أو لإسقاط من رفعه الناس أو التقليل من شأن منزلته كردة فعل لمن رفعه ... أو أشباه ذلك من حظوظٍ للنفس قد تخفى ، فإن لم يكن للمرء مع نفسه تلك الوقفات الصريحة الصادقة فلقد تهوي به في الجدال العقيم والانشغال بالتحطيم .
وثم لطيفة ينبغي العناية بها ، تلك هي أن المرء قد يبلغ به خفاء حظوظ نفسه بحيث يظن أنه تام التجرد ، وما هو كذلك .
وقد كان مرد ذلك _ والله أعلم _ أن حظوظه لم تتميز فتظهر، وإنما لتراكمها صارت عجيناً واحداً يصعب تمييزه ، حتى من غيره إلا لمن رزق فراسة يدرك بها ذلك بتوفيق الله .
6 – من قواعد التجرد المهمة أن يتخلى الشخص من الشحن النفسي في القضية المطروحة أو تجاه الطرف الآخر، وليتأكد من حقيقة خلفياته فقد تنقصها الدقة في الحكم وأصل ذلك في الشرع قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }
وفي الحديث :" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا " . متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
فإحسان الظن بالمسلم من أخص حقوقه ، وهو من أسس سلامة الصدر وتجرده مما يكدره .
وإن من الشحن المذموم أن ينطلق المسلم في خطابه لأخيه من نظرة دونية لأية ملابسات كانت فقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ( وفي رواية ولا يسلمه ) التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " متفق عليه .
7 – من القواعد والأصول المهمة أن يكون التعامل أو الخطاب قائماً على الموازنة العادلة بين الطرفين ، وحين يعتقد المسلم في تعامله أو خطابه صواب ما هو عليه وخطأ الطرف الآخر فليكن على حد قول الشافعي رحمه الله : ( قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب )
فكل مسألة عدا المسائل القطعية في الشرع فإنها من هذا القبيل .
وعليه فلا ينبغي الدخول في تعامل أو مناقشة في كتابة أو حديث على حيثية القطع بصواب ما أنا عليه والجزم بخطأ الآخر ، ما دامت المسألة في حيز الاجتهاد.
ولربما قيل : لعل ذلك لا يخفى ...
فأقول :كم من ظاهر وبدهي يغيب عنا في واقع الأمر ، وقد رأيت من البعض جزماً في مسائل غاية ما يصل قوله فيها إلى أن يكون راجحاً بنسبة ( 60 ) % إن لم يكن قوله مرجوحاًِ فيها .
والعجب أنك قد تجده مسقطاً للقول الآخر ، غير آبهٍ له ، مستبعداً أن يأخذ به أحد أو ساخراًَ ممن أخذ به .
وأعجب من ذلك حين ينقصه التصور التام للمسألة ؟ فلم هذا الإعجاب بالنفس والرأي !؟
وهؤلاء في الحقيقة يقطعون على أنفسهم خط الرجعة ، وكان الأجدر بالمسلم فضلاً عن طالب علم أو مجاهد أو داعية أن يتريث لا سيما في المسائل الشائكة والقضايا العميقة .
ورحم الله سلفنا إذ كانوا أبعد شيء عن تلقف الفتيا والتسرع فيها ...
قال عبد الرحمن بن مهدي : كنا عند مالك فجاء رجل فقال : يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة شهر .. حمّلني أهل بلادي مسألة أسألك عنها . فقال : سل . فسأله فقال : لا أحسن . فقُطع بالرجل وكأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء قال وأي شيء أقول لأهل بلادي إذا رجعت إليهم ؟ قال : تقول لهم : قال مالك : لا أحسن .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد - كما في مسائله مسألة رقم 1822 : كنت أسمع أبي كثيراً يُسأل عن المسائل فيقول : لا أدري ، وذلك إذا كانت مسألة فيها اختلاف ، وكثيراً ما يقول : سل غيري . فإن قيل له من نسأل ؟ يقول : سلوا العلماء ، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه . اهـ .
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً . وانظر مقدمة مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله ففيها طرف من هذا . وانظر أيضاً إعلام الموقعين 1/33 وما بعدها ، 4/105 وما بعدها .
فهذا هدي مالك وهدي العلماء والأئمة بعده وهم على هدي السلف قبلهم من الصحابة والتابعين . فعن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته فقال له : يرحمك الله أما سمعت مسألتي ؟ قال : بلى ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه ، اتركنا - رحمك الله - حتى نتفهم مسألتك فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به . ذكره في صفة الصفوة .(/7)
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : " أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسال أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول " أخرجه الدارمي وابن سعد وغيرهم .
وعن سحنون بن سعيد قال : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم فيظن أن الحق كله فيه . قال سحنون : إني لأحفظ مسائل فيها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير فلم ألام على حبسي الجواب . انظر جامع بيان العلم 2/165 .
وكانوا يتورعون عن القطع في فتاواهم .
قال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام ، وما كانوا يجترءون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نكره كذا ، ونرى هذا حسناً . فينبغي هذا ولا نرى هذا . أهـ . انظر : اعلام الموقعين 1/39 .
سابعاً : قال الله جل ذكره : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } .
وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " الحديث أخرجه مسلم وفيه قصة.
فعلى كل مسلم أن يحذر من ألفاظ التزكية والثناء على النفس، ولعل الكثيرين من أهل العلم والجهاد يتورعون عن ذلك وينأون بأنفسهم عنه ؛ لكن ثَم ما يُفهم منه نوع من التزكية ينبغي للمسلم لاسيما أمثال هؤلاء أن يتنبهوا له، من ذلك :
· التكرار من بعض المعنيين بالجهاد أن غيرهم قاعدون متخاذلون ... الخ مما يعني أنهم فقط هم القائمون بأمر الله الحافظون لحدوده .
· اتهام البعض لأولئك بأنهم متعجلون لا حكمة عندهم ولا فقه لديهم، ولا إدراك للمصالح، وكأن المتحدث هو المحيط بذلك كله .
· الشعور ممن يكون بأرض الجهاد بأنه ترك أهله ووطنه وماله في سبيل الله، وينظر إلى غيره على أنه لم يفعل شيئاً من ذلك مما قد يعتقد معه علّوه على من سواه .
وسواء فهم مما ذكرت تزكية النفس أولا ؛ فإنها لا تخلو من محذور إما بتزكية النفس، أو اتهام الغير واحتقاره، أو تعميم الأحكام مما لا يتوافق مع القاعدة الربانية : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } والقاعدة الأخرى:{ولا تبخسوا الناس أشياءهم } .
ثامناً : بقيت بعض قواعد من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهدي صحابته الكرام ، أولى الناس بالأخذ بها وأحقهم بالعتب في الغفلة عنها أهل الإسلام العاملون له ، وكفى بنصها تذكيراً من غير تعليق :
1- في البخاري : باب الرفق في الأمر كله .
ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت _ في قصة _قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله . متفق عليه ، وفي رواية للبخاري : مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش .
وعند مسلم في لفظ أو حديث آخر عنها : إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه .
وفي آخر : يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه .
وعن جرير رضي الله عنه : من يحرم الرفق يحرم الخير . أخره مسلم .
2 – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم . متفق عليه ، وفي لفظ لأحمد : لا يريد بها بأساً ، وفي آخر : ما يرى أن تبلغ حيث بلغت .
3 - عن علي رضي الله عنه قال : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ " أخرجه البخاري .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" أخرجه مسلم في المقدمة .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجمع قلوب المسلمين على الخير، وأن يؤلف بينهم، وأن يمنح أهل العلم ويزيدهم جهاداً في سبيله جل وعلا، وأن يمنح أهل الجهاد ويزيدهم علماً وفقهاً إلى فقههم .
وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
كتبه / فهد بن عبد الرحمن اليحيا
المحاضر بجامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية
قسم الفقه وأصوله بالقصيم(/8)
بين الأوزاعي ... والمنصور*
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
حدث الأوزاعي(1). قال: بعث إلي أبو جعفر أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة، رد علي واستجلسني ثم قال:
- ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟
قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟
قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم.
قلت: يا أمير المؤمنين انظر ولا تجهل شيئاً مما أقول لك.
قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وقد وجهت فيه إليك وأقدمتك له؟
قلت: أن تسمعه ولا تعمل به.
قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف. فانتهره المنصور وقال:
- هذا مجلس مثوبة.
فطابت نفسي وانبسطت في الكلام فقلت:
- يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية –يعني ابن بسر- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيما عبد جاءته موعظة عليه من الله في دينه فإنها نعمة من الله سبقت إليه، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها إثماً ويزداد الله بها عليه سخطة".
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما وال بات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة".
يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين.
يا أمير المؤمنين إن الذي يلين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمرهم لقرابتكم من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان رؤوفاً رحيماً، مواسياً بنفسه لهم في ذات يده وعند الناس، فحقيق أن يقوم لهم فيهم بالحق، وأن يكون القسط له فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لم تغلق عليه دونهم الأبواب، ولم يقم عليه دونهم الحجّاب، يبتهج بالنعمة عندهم، ويبتئس بما أصابهم من سوء.
يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك، عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، فكل له عليك نصيبه من العدل، فكيف إذا تبعك منهم فئام وراءهم فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه.
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم، قال: "كانت بيد النبي صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويروع بها المنافقين، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قرون أمتك، وملأت قلوبهم رعباً؟" فكيف بمن شقق أبشارهم وسفك دماءهم، وخرب ديارهم، وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه.
يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن يزيد بن جارية عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدش أعرابياً لم يتعمدها، فأتاه جبريل فقال:
- يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا مستكبراً.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: اقتصَّ مني.
فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي، ما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتت على نفسي.
فدعا له بخير.
يا أمير المؤمنين رُضْ نفسك لنفسك، وخُذْ لها الأمان من ربك، وارغب في جنةٍ عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها".
يا أمير المؤمنين: إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.
يا أمير المؤمنين تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك؟ (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) قال: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. فكيف بما عملته الأيدي، وحدثته الألسن؟
يا أمير المؤمنين بلغني عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال:
"لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها".
فكيف بمن حُرم عدلك وهو على بساطك؟
يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك؟
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى).
قال: يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى، فلا تمنين في نفسك أن يكون له الحق فيفلج على صاحبه، فأمحوك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل، لعلمهم بالرعاية، ورفقهم بالسياسة. ليجبروا الكسير. ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء.
يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر عظيم لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.
يا أمير المؤمنين حدثني يزيد بن مزيد عن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري: أن عمر بن الخطاب استعمل من الأنصار رجلاً على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيماً، فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله؟
قال: لا!
قال عمر: وكيف ذاك؟
قال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من والٍ يلي من أمور الناس شيئاً إلا أتي به يوم القيامة فيوقف على جسر من نار فينتفض به الجسر انتفاضاً يزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً".(/1)
فقال له عمر: ممن سمعت هذا؟
قال من أبي ذر، وسلمان.
فأرسل إليهما فسألهما فقالا: نعم! سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: وا عمراه، من يتولاها بما فيها؟
فقال أبو ذر: من سلت الله أنفه، وألصق خده بالأرض.
فأخذ أبو جعفر المنديل فوضعه على وجهه فبكى وانتحب حتى أبكاني، فقلت:
يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة على مكة والطائف، فقال له: "يا عباس يا عم النبي! نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها" هي نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه، لأنه لا يغني عنه من الله شيئاً، أوحى الله تعالى إليه "وأنذر عشيرتك الأقربين" فقال: يا عباس، يا صفية عمة النبي، إني لست أغني عنكم من الله شيئاً ألا لي عملي ولكم عملكم.
* حضارة الإسلام –السنة الثامنة- العدد السادس- شعبان/1387 كانون الأول/1967
(1) هو الإمام عبد الرحمن بن يحمد الأوزاعي أبو عمرو، إمام ديار الشام في الفقه والزهد، ولد في بعلبك سنة 88هـ، ونشأ في البقاع، عرض عليه القضاء فامتنع، توفي في بيروت سنة 157هـ(/2)
بين الإسلام والقومية
القومية مصدر صناعي ، مقيس على ما تواضع العرب المعاصرون على اشتقاقه بإضافة ياء النسب ، وتاء التأنيث ، لمواجهة الكثرة الغامرة المتدفقة من المصطلحات الحديثة في مختلف العلوم والمعارف الإنسانية المستحدثة. وهي ترجمة للاصطلاح الغربي Nationalism ، الذي يعبر عن ظاهرة برزت في المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر ، تصور وعياً جديداً يمجد جماعة محدودة من الناس ، يضمها إطار جغرافي ثابت ، ويجمعها تراث مشترك ، وتنتمي إلى أصول عرقية واحدة ، حسب ما اصطلح عليه علماء الأجناس المحدثون. والقومية بهذا المعنى تدعو أصحابها إلى العمل على تعزيز ثقافتهم الموحدة ، وتدعيم ترائهم المشترك ، وتنمية مصالحهم الخاصة ، مع حصر جهودهم في هذا النطاق وحده ، دون نظر إلى الاعتبارات التي كانت تجمعهم قبل ذلك مع غيرهم في رباط مشترك.
وقد نتجت عن الحركات القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر ظاهرتان متناقضتان ، إحداهما : تدعو إلى الانسلاخ من الإمبراطوريات الكبرى ، كالذي حدث في حركات دول البلقان والبلاد العربية حين تداعت إلى الانسلاخ من الدولة العثمانية ، الأخرى تدعو إلى ضم شتات الإمارات الصغيرة التي يعتقد – بناء على علم الأجناس البشرية الحديث – أنها تنتمي إلى أصول عرقية مشتركة ، كالذي حدث في نشوء الدولتين الألمانية والإيطالية ، واجتماع كل منهما في دولة كبرى بعد أن كانت مجموعة من الإمارات الصغيرة المتنافسة.
وقد انتقلت عدوى هذه النزعة القومية إلى العرب ، وإلى المسلمين على وجه العموم ، فيما انتقل إليهم من آثار الفكر الغربي ، والفلسفات السياسية والاجتماعية الحديثة ، وأصبحت ظاهرة بارزة في هذه البلاد العربية والإسلامية مع مطلع القرن العشرين الميلادي ، ودخلت هذه المجتمعات في صراع بين هذه المفاهيم القومية المستحدثة، وبين المفاهيم الإسلامية التي لا يقوم فيها اعتبار للأنساب والأجناس ، والتي تعتبر المسلمين حيثما كانوا أمة واحدة يقوم الدين فيها مقام النسب ، بل يتقدم عليه ، فالمسلم أخ للمسلم من دون أبناء عمومته إن كانوا غير مسلمين.
انتشرت هذه الدعوات القومية بين المسلمين في البلاد العربية ، وفي أندونيسيا ، وفي إيران ، وفي الهند ، وكانت الدعوة إلى إنشاء دولة باكستان رد فعل للحركة القومية في الهند ، لأن هذه الحركة – ككل الحركات القومية – كانت تربط بين قديم الهند الوثني وبين حاضرها الراهن ، وتعتبر العرب غزاة غرباء ، بينما هم في اعتبار المسلمين أجدادهم الأقربون ، ومعلموهم الأولون الذين تتقدم رابطتهم على رابطة النسب والدم.
وأخذت القومية العربية التي بدأت بالدعوة إلى جمع شمل العرب في دولة واحدة تتفكك وتنحل بعد الحرب العالمية الأولى إلى قوميات مختلفة تحت ضغط الظروف ، والواقع السياسي الذي قسم بلادهم بين إنجلترا وفرنسا ، وراحت كل قومية من هذه القوميات الناشئة تدعم وجودها ، وتعمق جذورها ، وتؤصل كيانها بإحياء تاريخها السابق على الإسلام والتغني بأمجاد تلك الأيام الغابرة ، وتوجيه التاريخ والأدب الفنون المختلفة من موسيقى وتصوير ونحت لخدمة هذا الهدف الذي يربط الأجيال الناشئة بالوطن في حدوده الأرضية ، دون غيره من الأوطان ، ولم يعد للبلاد الإسلامية في نظر الأجيال الناشئة في ظل هذه المفاهيم الجديدة فضل على البلاد غير الإسلامية ، بل ربما تقدمت بلاد غير إسلامية على بلاد أخرى إسلامية لاعتبارات تدعو إليها مصلحة اقتصادية أو ظروف سياسية نشأت تحت ضغوط أجنبية.
وبين هذه القوميات التي نشأت في بلاد المسلمين كانت القومية العربية أبرزها وأحوجها للدراسة ، فقد كانت منذ نشأتها ، لا تزال ، موضع جدل كثير ، نتج عما أحاطها في أذهان العرب والمسلمين من لبس يرجع إلى أن العرب هم جرثومة الإسلام وأصله الأول ، وإلى أن لغتهم هي لغة الإسلام التي نزل بها كتابه ، والتي تؤدي بها كل شعائره. وبرزت في معجم الأدب والفكر السياسي كلمات ( العروبة) و (الجامعة العربية) و (القومية العربية) على التعاقب. ثم اختلطت مفاهيمها ، وتميعت مدلولاتها في بعض الأحيان ، وغلب على العامة استعمالها في معنى واحد ، مع تفضيل استعمال بعضها على بعض. وكان المقصود بها في كل الأحوال هو الصفات الجامعة لذلك الجنس من الناس المسمى عند المعاصرين بـ (العرب) ، على خلاف ما بين الناس في تصور مدلول هذه الكلمة ، وفي مقومات ذلك الجنس. فالمحافظون من دعاة القومية العربية يرون أنها فرع من التصور الإسلامي ، وكل ما في الأمر أنه خاص بالذين يتكلمون العربية من المسلمين ، الذين تتجاور مساكنهم ، والذين تكونت منهم الدولة الإسلامية. أما المتفرنجون من دعاة القومية العربية ، فهم يستمدون تصورهم من غلاة القوميين عند مفكري الغرب ، ولا يقيمون وزناً لقديم العرب الإسلامي الذي حدد شخصيتهم ، ولا يرتبطون بالسمات التاريخية لهذه الشخصية.(/1)
والمتتبع لمدلول كلمة (العرب) لا يجده واحداً على امتداد التاريخ. كانت كلمة (العرب) تطلق قبل الإسلام على سكان جزيرة العرب ، التي يحدها الهلال الخصيب من جهة الشمال (العراق والشام) ، والتي تحيط بها خليج العرب (الذين كان يسمى في ذلك الوقت بالخليج الفارسي) والبحر المحيط والبحر الأحمر من الشرق والجنوب والغرب. كان هذا الجنس الذي يسكن تلك الأرض هو وحده المقصود باسم (العرب). منه ورثنا التراث الشعري الضخم الذي اشتدت عناية الدارسين به للاستعانة به في ضبط اللغة العربية وعلومها ، وفي تفسير القرآن الكريم ، والحديث الشريف. فلما ظهر الإسلام وعم الجزيرة العربية على اختلاف قبائلها بدأت الفتوح على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمحاربة الروم في غزوة مؤتة سنة 8 هـ ، ثم غزوة تبوك سنة 9 هـ ، التي انتهت بمصالحة صاحب أيلة (العقبة اليوم) على الجزية. ثم كانت واقعة اليرموك سنة 13هـ في خلافة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد توفي في أثنائها قبل أن يتحقق النصر للمسلمين. وتوالت الفتوح من بعد في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه في العراق ومصر وما وراءهما ، ثم في خلافة سيدنا عثمان ومن بعده.
وتتابعت هجرة القبائل العربية إلى الأمصار المفتوحة على اختلاف أسبابها ، منهم من هاجر طلباً للنجعة في سنوات القحط ، وفي أوقات الجفاف على عادتهم في الجاهلية ، ثم طابت له الحياة ، فاستقر في موطنه الجديد. ومنهم من ذهب مع الجيوش الفاتحة ، ثم لم يعد. ومنهم من هاجر استجابة لدعوة أمراء العرب في هذه الأمصار الذين رأى بعضهم أن يستقدم بطوناً من عشيرته يتقوى بهم ، ويدعم عصبيته ، كما حدث في ولاية الوليد بن رفاعة على مصر في خلافة هشام بن عبدالملك الأموي حين استقدم القيسية. ومنهم من هاجر التماساً لسعة العيش في هذه البلاد.
وكان العرب في أول الأمر ، وعلى امتداد الدولة الأموية يترفعون عن الاختلاط بأبناء البلاد المفتوحة ، وكانوا يعتزون بأنسابهم في قبائلهم. ولذلك حرصوا على حفظها من الاختلاط بغيرهم ، وعاشوا حياة أقرب إلى البداوة في منازل أشبه بثكنات الجيوش في خطط منعزلة ، كالكوفة والبصرة في العراق ، والفسطاط في مصر ، والقيروان في المغرب. لذلك ظل اسم (العرب) طوال الدولة الأموية يطلق على المنتسبين إلى هذا الجنس ممن قدموا على الأمصار المفتوحة ، وذلك في مقابل اسم (الموالي) الذي كان يطلقه العرب على من عداهم من الأجناس في هذه البلاد ترفعاً واستعلاء ، وذلك باستثناء بلاد الشام والعراق التي بدأ اختلاط العرب فيها بأهل البلاد منذ الفتح ، لانتشار العنصر العربي فيها من عهد بعيد قبل الإسلام ، ثم ساعد انتقال العاصمة إليهما في عهد الأمويين ثم العباسيين على زيادة هذا الاختلاط.
وكانت البلاد المفتوحة في أول عهدها بالفتح تطلق على الغزاة الفاتحين اسم (العرب) ، تمييزاً لهم من سكان البلاد الأصليين ، الذين كان بعضهم لا يزال على دينه ، وبذلك كان اسم (العرب) مرادفاً لمعنى (المسلمين).
وانتشر الإسلام شيئاً فشيئاً في هذه البلاد المفتوحة ، وانتشرت معه اللغة العربية التي لا غنى للمسلم عنها في معرفة دينه ، وإقامة شعائره ، وحفظ كتابه. ثم جاء تعريب الدواوين في أيام عبد الملك بن مروان (65 – 86هـ) ونقلها إلى أيدي المسلمين بعد أن كان يتولاها أهل البلاد من غير المسلمين ، ويدونونها باللغة الفهلوية (الفارسية القديمة) في العراق ، وبالرومية في الشام ، وبالقبطية (المصرية القديمة في العصر المسيحي) في مصر. فزاد انتشار اللغة العربية ، ولم ينته القرن الأول الهجري حتى كانت اللغة العربية لغة للتخاطب والتعامل والتدوين في هذه البلاد جميعاً ، وأصبح الإسلام دين السواد الأعظم من سكانها ، وكادت لغات البلاد القديمة تنسى بعد أن أقبل الناس على العربية ، قرآناً وحديثاً وشعراً ولغةً ، ويحاولون إتقانها ومنافسة العرب أنفسهم فيها.(/2)
وعلى توالي الأيام زاد امتزاج العرب في الأمصار بأبناء البلاد ، وبالتصاهر وبتداخل المصالح ، واختلطت أنسابهم بتوالي الأجيال ، فضعفت العصبية العربية المبنية على النسب تبعاً لذلك (تاريخ ابن خلدون 6 : 3 طبع بولاق). وزاد الزواج والتسري من ناحية أخرى بين العرب بغير العربيات في العامة والخاصة ، حتى أصبح الخلفاء في أواخر الدولة الأموية ، من بعد الوليد بن يزيد ، وفي سائر الدولة العباسية من بعد الأمين بن الرشيد من أمهات غير عربيات. وزاد على مر الأيام عدد الفقهاء والشعراء والمشتغلين بالعلوم العربية ، والذين يشغلون المناصب الخطيرة الشريفة من غير العرب ، بل سادت عناصر غير عربية ، وتسلطت على الدولة منذ عصر المعتصم ، وزاد خطرها منذ تجرأ الترك على قتل المتوكل ، وبذلك انتهت النعرة العنصرية العربية ، وأصبحت الصبغة الظاهرة في البلاد الإسلامية على اختلافها هي الإسلام ، وأصبحت اللغة العربية وعلومها وآدابها حظاً شائعاً بين العرب وغير العرب بلا تمييز ، بل أصبح عدد المشتغلين بها والذين يدونون بها شعرهم ونثرهم وفكرهم ومعارفهم من غير العرب أكثر عدداً وأغلب شهرة. فأبو حنيفة الفقيه (150هـ) فارسي ، والبخاري شيخ المحدثين (256هـ) تركي ، وسيبويه أبو النحو (183هـ) فارسي ، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية (564هـ) كردي ، ومحمد بن إسحاق أول من دون السيرة النبوية (151هـ) فارسي ، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين (310هـ) تركي ، وابن سينا أبو الطب العربي الذي ظلت كتبه تدرس في جامعات أوروبا طوال الوسطى (428هـ) أفغاني ، وبذلك صح أن توصف هذه البلاد جميعاً بأنها عربية ومسلمة في آن واحد ، دون أن تغلب فيها أحدى الصفتين على الأخرى.
من هذا العرض يتبين لنا وضوح أن البلاد العربية كلها من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً – فضلاً عما وراءها شرقاً من بلاد ارتدت بعد ذلك عن عروبتها – ليس لها تاريخ في العروبة يسبق الإسلام ، بل إن عروبتها في الحقيقة تتأخر عن إسلامها ، وهذه العروبة لم تجئها إلا من طريق الإسلام وبسببه ؛ ذلك بأن الإسلام دعا المسلمين إلى أن يحبوا العرب ، ويلتفوا حول رايتهم ، ويتخذوا العربية لغة جامعة لشملهم. روى الحاكم في (المستدرك) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحب العرب فبحبي أحبهم ، ومن أبغض العرب ، فببغضي أبغضهم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : (أحبوا العرب وبقاءهم ، فإن بقاءهم نور في الإسلام ، وإن فناءهم ظلمة في الإسلام). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إنه قال : (إذا ذلت العرب ذل الإسلام). وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يتكلم بالفارسية وهو يطوف حول الكعبة ، فأخذ بعضديه ، وقال : (ابتغ إلى العربية سبيلاً). ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بوضوح أن العربي هو من تكلم العربية ، حيث يقول : (يا أيها الناس ، إن الرب واحد ، وإن الأب واحد ، وإن الدين واحد ، من تكلم بالعربية فهو عربي).
من أجل ذلك كان التفريق بين العروبة والإسلام في أيامنا هذه لا يستند إلى أساس. فالإسلام هو الذي أعطى للعرب لغتهم ، ووحدهم عليها وعلى القيم التي تضمنها كتابه وسنة رسوله ، فالتقت قلوبهم وعقولهم وأمزجتهم على ما يحلون وما يحرمون ، وما يحبون وما يكرهون ، وما يستملحون وما يستقبحون ، وتوحدت أنماط حياتهم في عباداتهم ، وفي أفراحهم ، وفي أحزانهم ، وفي نظمهم داخل بيوتهم وخارجها. لأنهم في ذلك كله كانوا محكومين بالفقه والآداب والفنون التي نشأت ونمت وترعرعت في ظل الإسلام ، وخضعت لأحكامه ، وتأثرت بقيمه ومزاج شعوبه. فاتجه النحت والتصوير مثلاً إلى الأنماط العربية المعروفة المبنية على الخطوط والدوائر ، وإلى تجميل الحروف الكتابية والافتنان في تنسيقها ، مبتعداً عما نهى عنه الإسلام من إبراز الشخوص الإنسانية أو الحيوانية وتمثيلها ، وأصبح لهذا الفن شخصية بارزة متميزة يستملحها غير العرب وغير المسلمين ، حتى رأينا بعض نصارى الغرب يزينون كنائسهم بأحجار قد نقشت عليها آيات قرآنية مما بقي من آثار العرب في الأندلس بعد خروجهم ، وهم يجهلون أن هذه النقوش ليست سوى آيات قرآنية. ثم إن القرآن ضمن للغة العربية ولخطها ثباتاً واستمراراً لا نظير له في سائر لغات العالم التي تتعرض للتبديل والتغيير والتحوير، لأن المسلمين رفضوا كل تغيير أو تبديل أو تطوير يبعدهم عن فهم النص القرآني والأصول الإسلامية من حديث وفقه ، أو يحول دون قراءتها أو تذوق بلاغتها وإعجازها. وبذلك أصبح التراث الفكري الإسلامي كتاباً مفتوحاً ينتقل القارئ بين صفحاته وفصوله من أوله إلى آخره ، يقرأ للمتقدمين السابقين من الأولين كأنه يقرأ لشعراء ولكتاب معاصرين.(/3)
ولم يقتصر الأمر على قيام هذه الروابط الإسلامية الجامعة بين العرب ، فقد امتدت آثارها إلى سائر المسلمين ، الذين تأثروا بهذه القيم والنظم الخلقية والاجتماعية ذاتها ، والذين إن فاتهم اتخاذ العربية لغة لهم ، فلم يفتهم اتخاذ حروفها لتدوين تراثهم ومعارفهم ، لم يشذ عن ذلك إلا الترك منذ الثورة الكمالية ، والجمهوريات التركية الجنوبية في روسيا منذ الثورة البلشفية ، والأندونيسيون في ظل الاستعمار الهولندي.
ومن أطرف ما قرأته في صلة العروبة بالإسلام قول سمث (و . ك . سمث) في كتابه ( الإسلام في العصر الحديث Islam In Modern History ) الذي ظهر سنة 1957 : إن العرب المسلمين لا يعتبرون غير المسلمين من بني جنسهم كاملي العروبة ، كما أنهم لا يعتبرون المسلمين من غير العرب كاملي الإسلام.
من أين إذن جاء التشكيك في هذه الصلة بين العروبة والإسلام ؟ فزعم بعض الزاعمين أن الإسلام ليس عنصراً أصيلاً في مقومات العروبة ؟ وأراد آخرون أن يعروا الإسلام من صفته العربية ؟
حين نشأت الدعوة المعاصرة إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، أو ما كان يسمى وقتذاك بالجامعة العربية ، ويعنون بها الرابطة الجامعة لشمل العرب ، كان العرب يشكلون الجزء الأكبر من الدولة العثمانية. واتخذت الدعوة في أول أمرها شكلاً ثقافياً يعنى ببعث التراث العربي ، وبإنشاء صحافة ومسرح عربي ، والدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية ، وجعلها لغة التعليم والقضاء والدواوين في البلاد العربية بدلاً من اللغة التركية التي كانت هي اللغة المستعملة وقتذاك في هذه المجالات.
وكانت كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان ، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشمّيل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف. وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستنتي. وأكثرهم في الوقت نفسه ينتمون إلى الماسونية ، فإبراهيم اليازجي (1847 – 1906م) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 – 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك. وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم ، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية ، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها ، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه ، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم ، ورفض التجبر والاستبداد ، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك ، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله :
صبراًهياأمة الترك التي ظلمت ** دهراً فعماقليل ترفع الحجب
لنطلبن بحد السيف مأربنا ** فلن يخيب لنا في جنبه أرب
ونتركن علوج الترك تندب ما ** قد قدمته أياديها فتنتحب
ومن يعش ير والأيام مقبلة** يلوح للمرء في أحداثها العجب
وإبراهيم اليازجي صاحب هاتين القصيدتين هو أيضاً صاحب مجلة (الضياء) بما حوت من مباحث لغوية. وقد أتم الابن ما بدأ به أبوه من شرح ديوان المتنبي ، وسماه : (الجوهر الفرد والعرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب).
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 – 1883م) ، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان ، وتولي منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م ، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866. وأعان الدكتور فانديك أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية ، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها ، فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية ، وبطرس البستاني مع ذلك هو صاحب القاموس العربي (محيط المحيط). وهو صاحب دائرة المعارف المعروفة باسمه ، أتم منها ستة مجلدات ، وتوفي وهو في بدء السابع ، فأتمه هو والثامن ابنه سليم ، ثم توفي ابنه قبل أن يتم التاسع ، فأصدر أبناؤه الباقون بمعاونة ابن عمه سليمان البستاني (مترجم الإلياذة إلى العربية) الأجزاء الباقية (التاسع والعاشر والحادي عشر). وقد ساهم بطرس البستاني مع ذلك كله في النهضة الصحفية العربية بإنشاء ثلاث صحف ، وهي (الجنان) و (الجنة) و (الجنينة).(/4)
ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان فارس الشدياق (1801 – 1887) ، الذي تسمى بعد إسلامه على يد باي تونس بأحمد ، واتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان ، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه ، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي ، ثم طوف كثيراً بين دول أوروبا والأستانة وتونس ومصر. ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م فأعان في ترجمتها إلى العربية. وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية أهمها (سر الليال في القلب والإبدال) و (الساق على الساق فيما هو الفارياق) و (الجاسوس على القاموس). وله مع ذلك شعر كثير في مدح سلاطين آل عثمان وباي تونس ، وهو صاحب المقامات التي نالت في زمانها شهرة كبيرة ، والمعروفة باسم (مجمع البحرين).
ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً سليم تقلا مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 – 1892م). تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية ، التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية).
ومنهم جرجي زيدان (1861 – 1914م) كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان. وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم ، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي. وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية وهي (فتاة غسان) و (عذراء قريش) و (17 رمضان) و (غادة كربلاء) و (الحجاج بن يوسف) و (فتح الأندلس) و (شارل وعبد الرحمن) و (أبو مسلم الخراساني) و (العباسة أخت الرشيد) و (الأمين والمأمون) و (فتاة القيروان) و (صلاح الدين ومكايد الحشاشين) و (شجرة الدر). وهو مع ذلك كله مؤسس مجلة (الهلال) التي لا تزال تصدر حتى الآن.
منذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام. ولم يعد اسم (الجامعة العربية) مرادفاً لاسم (الجامعة الإسلامية).
والواقع أن الذين دعوا إلى الجامعة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كانوا مختلفين في تصورهم لهذه الجامعة ، متباينين في أغراضهم التي يستهدفونها من وراء هذه الدعوة. كانت الجامعة الإسلامية وقتذاك هي الرابطة التي تربط أجزاء الدولة العثمانية ، وتجمعهم تحت راية السلطنة العثمانية التي جمعت بين الزعامة السياسية والزعامة الدينية منذ تلقب سلاطينها بلقب الخلافة الإسلامية. وقد زاد نفوذ هذه الجامعة في قلوب الناس منذ عني السلطان عبد الحميد بتدعيمها ، وبدعوة الناس إلى الالتفاف حول رايتها والاعتصام بها في وجه الأطماع الاستعمارية التي تنتظر بفارغ الصبر الوقت الملائم لاقتسام البلاد الداخلة في هذه الدولة.
وكانت لغة التعليم والإدارة في البلاد العربية التي تكون الجزء الأكبر من الدولة العثمانية هي اللغة التركية ، بها كان يجري التعليم في المدارس على اختلاف أنواعها ، وبها كانت تجري المرافعات في المحاكم ، وبها كانت تدون المعاملات الحكومية في مختلف الدواوين. ومن هنا نشأت الدعوة أول ما نشأت تدعو إلى الاهتمام باللغة العربية ، واتخاذها لغة للتعليم والإدارة في البلاد العربية ، مع منح هذه البلاد شيئاً من الاستقلال الجزئي الذي يبرز شخصيتها العربية في داخل إطار الدولة العثمانية ، ودون خروج على وحدتها الجامعة. وكان بعض دعاة ما سمي في ذلك الوقت بالجامعة العربية من المسلمين خاصة لا يرون تعارضاً بينها وبين الجامعة الإسلامية ، التي يدينون بها ، ويسلمون بأنها هي الجامعة الأولى والأهم بين المسلمين في سائر بلاد الأرض ، بل لعلهم كانوا يرون في الاهتمام باللغة العربية شداً لأزر هذه الجامعة التي بها يقيم المسلمون صلواتهم وشعائر دينهم وأذكارهم في تلاوة القرآن الكريم وخطبة الجمعة وخطبتي العيدين ، وبها يتحتم على المسلم أن يلتمس التفقه في أصول دينه.(/5)
ولكن فريقاً من هؤلاء المسلمين أنفسهم ، الذين يتمسكون بالجامعة الإسلامية ، كان يرى التفرقة بين الخلافة وبين السلطنة ، بجعل الخلافة في العرب والسلطنة في الترك. وحجتهم في ذلك أن العرب هم أقدر الناس على فهم الإسلام وتبليغه ، بلغتهم نزل كتابه ، ومن بينهم اصطفى الله نبيه ، وبين أحضانهم نشأت الدعوة إليه ، ومنهم كان الرعيل الأول من المجاهدين في سبيل نشره والدعوة إليه ، وذلك مع تسليمهم بأن الترك هم أقوى الشعوب الإسلامية وأقدرها على الوقوف في وجه المطامع الاستعمارية في بلاد العرب على وجه الخصوص ، ولذلك فهم أحق الناس بالزعامة السياسية. وكان ذلك هو رأى الكواكبي الذي بدا واضحاً في آخر كتابه (أم القرى) ، ومن ذهب مذهبه ، واتبع طريقة من دعاة الجامعة الإسلامية ، الذين ابتدعوا لأول مرة التفرقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية ، أو المرجع الديني على الأصح ، لأن هذه التفرقة تترك الدين في واقع الأمر بلا سلطة.
وكان هناك فريق ثالث من المسلمين أنفسهم واقع تحت تأثير الدعوات القومية المتطرفة التي اشتدت حركتها في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. هؤلاء كانوا يتصورون الجامعة العربية تصوراً قومياً خالصاً ، ويجردونها من كل صلة بالدين. وكان الهم الأكبر والشغل الشاغل لهذا الفريق هو إنشاء دولة عربية مستقلة على النمط الغربي الذي يقوم على مؤسسات ديموقراطية قوامها إرادة الشعب الممثلة في مجالس نيابية منتخبة. وكانت هذه الجامعة العربية التي يتوسلون بها إلى إنشاء دولة عربية كبرى مقصورة على الجناح الأيمن لما نسميه الآن بالعالم العربي ، أي القسم الآسيوي وحده من هذا العالم.
وكانوا في معظمهم واقعين تحت تأثير الفكر المستمد من كتاب الثورة الفرنسية ومفكريها من ناحية ، ومن فلاسفة عصر النهضة اللبراليين في أوروبا ، الذين دعوا في صدامهم مع الكنيسة إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية من ناحية أخرى. وقد ظن هؤلاء أن التقدم الأوروبي الحديث هو ثمرة من ثمرات هذه النهضة ، التي قضت على سلطة الدين ، وحررت منه رجال السياسة والعلم والاقتصاد. ولذلك فالنهضة العربية عندهم لا تصح إلا على هذا الأساس. وهذا الفريق يلتقي في تصوره القومي مع غلاة القوميين من الترك ، الذين يدعون إلى القومية الطورانية ، والذين كان أكثرهم منضماً إلى حزب الاتحاد والترقي ، بيد أن الأخيرين كانوا يختلفون مع القوميين العرب في أنهم يرون فرض الصبغة التركية واللغة التركية على كل أجزاء الدولة ، ومنها البلاد العربية ، مع تجريد السلطة السياسية من الدين ، والتخلي عن لقب الخلافة ، أو الاقتصار على استغلاله في تدعيم نفوذ الدولة بين العناصر غير التركية من المسلمين.
أما المسيحيون ممن قدمنا ذكر بعض رجالهم ، فقد كان من الطبيعي أن يكونوا ضمن الفريق الذي يرى الجامعة العربية قومية خالصة ، لأنه غير داخل بحكم مسيحيته في الجامعة الإسلامية ، وليس له ولاء قلبي لها ، فكل الذي يربطه بالدولة هو الولاء السياسي. وكان من الطبيعي أن يجد الاستعمار والصهيونية في هذا الفريق الأخير من المسلمين والمسيحيين على السواء صيداً ثميناً يمكن أن يلتقي معه فترة مرحلية تمهد لتحقيق أغراضه. فالاستعمار الإنجليزي كان طامعاً في العراق ، وفي مصادر البترول الذي كانت البحوث الجيولوجية تشير إلى احتمال ظهوره ، كما كانت البحوث الاقتصادية تشير إلى تزايد أهميته الصناعية. وفرنسا كانت تطمع في الشام للرابطة الدينية والاقتصادية التي تربطها بمسيحييه على الساحل ، وللحصول على مصادر البترول ، الذي كان ظهوره متوقعاً في الأجزاء الشمالية من حوض الفرات. وقد أصبحت الحدود بينها وبين منطقة النفوذ الإنجليزية في العراق مثار نزاع بين الدولتين عقب الحرب العالمية الأولى لهذا السبب. والصهيونية العالمية كانت طامعة في الاستيلاء على فلسطين واتخاذها وطناً قومياً لليهود ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بانحلال الدولة العثمانية ، بعد أن عجزوا عن الوصول إلى موافقة السلطان عبد الحميد على زيادة الهجرة إليها وتملك الأرض فيها. كان الفرقاء الثلاثة يلتقون عند إسقاط الدولة العثمانية وتمزيقها ، ويرون أن بث الفرقة بين العرب وبين الترك يساعد على بلوغ هذا الهدف. وقد نجح الفرنسيون خاصة في استمالة فريق من المسيحيين – ومن الكاثوليك منهم على وجه الخصوص – باسم الدين ، فكانت الجامعة العربية ، أو القومية العربية تمثل في نظرها هذا الفريق فترة مرحلية ينتقلون منها بعد الاستقلال عن الدولة العثمانية إلى الولاء الفرنسي.(/6)
هذه الظروف والمناسبات التي واكبت نشأة الجامعة العربية في العصر الحديث أدت إلى سوء ظن متبادل بين العروبيين والإسلاميين. وزاد في سوء الظن عند الإسلاميين أن الشريف حسين حالف الإنجليز بعد ذلك ضد الدولة العثمانية لقاء وعد منهم بالمساعدة في إقامة دولة عربية يجعلونه على رأسها ، وبنقل الخلافة الإسلامية إليه بعد زوال الخلاف العثمانية. فالإسلاميون يرون أن هذه الدعوة العربية التي نشأت في حضانة أمريكية صهيونية ، والتي تساندها إنجلترا وفرنسا وتمدانها بالمال والسلاح لا يمكن أن تخدم إلا مطامع الاستعمار والصهيونية. وذلك هو ما عبر عنه شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. فهو ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي ، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب ، فيقول له فيما يقول : (أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير ، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب ، وفرنسا على سورية ، واليهود على فلسطين ؟) ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً : ( قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية ، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذا تاراتها : ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم ؟ ليقولوا لنا : ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم ، ونقر بفضلهم ، لأننا عرب نحب كل من أحب العرب ، ونبغض كل من أبغض العرب ، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق). ولذلك السبب نفسه هاجم الشاعر العراقي معروف الرصافي دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913 بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره ، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله :
أصبحت أوسعهم لوماًوتثريباً لماامتطواغارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأبصر في (بيروت) قائبة* للشر موشكة أن تخرج القوبا
لو كان في غير(باريز)تألبهم* ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريز) مازالت مطامعها* ترنوإلى الشام تصعيداًوتصويبا
ولم تزل كل يوم في سياستها* تلقي العراقيل فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم* جيش يدك من الشام الأهاضيا
أما العروبيون ، فقد كانوا من ناحيتهم يحتجون بأن الدولة قد أصبحت بعد عزل السلطان عبد الحميد في يد طائفة من غلاة الطورانيين الذي تنطق صحفهم وأعمالهم منذ تولوا الحكم بميولهم الإلحادية ، وبمحاربتهم للإسلام والمسلمين واتخاذهم الوزراء من اليهود. ثم إنهم كانوا يدافعون عن محالفتهم لإنجلترا وفرنسا بأن الدولة العثمانية قد حالفت ألمانيا ، وكيف يكون جهاداً إسلامياً ، وكيف تكون حرباً مقدسة ، تلك الحرب التي تخوضها الخلافة الإسلامية في ركاب دولة مسيحية هي ألمانيا ؟
وانتهت الحرب العالمية الأولى ، ووزع المشرق العربي بين إنجلترا وفرنسا كما توقع شكيب أرسلان. أما المغرب العربي : فقد كان شطر منه في يد فرنسا من قبل، وكانت مصر في قبضة جيوش الاحتلال الإنجليزية منذ الثورة العرابية ، وكان ليبيا محتلة الجيوش الإيطالية منذ غزتها قبيل الحرب العالمية. عند ذلك بدأ الإسلاميون يعيدون التفكير في الموقف الذي آل إليه أمر المسلمين والعرب ، ورأوا أن البديل الوحيد من الجامعة الإسلامية بعد هزيمة تركيا وزوال الخلافة الإسلامية هو الجامعة العربية.
أما دعاة الجامعة العربية السابقون ، فقد انقسموا شيعاً : فالإسلاميون منهم ظلوا ثابتين على دعوتهم لم يغيروا ولم يبدلوا ، وغلاة القوميين من المتأثرين باللبراليين والقوميين الغربيين ظلوا على ما كانوا عليه من الدعوة إلى جامعة عربية مجردة من الإسلام غير مرتبطة به ، وبعض الضعفاء منهم ممن تولوا المناصب في ظل التقسيم الجديد الخاضع للاستعمار ركنوا إلى الدعة وسكنوا إلى النظم التي يعيشون في ظلها ، بل أصبح بعضهم يدافع عن مصالحة في هذه الكيانات المفتعلة الجديدة. أما الذين كانوا يتخذون الدعوة إلى الجامعة العربية ستاراً للتخلص من الدولة العثمانية ، واستبدال الاستعمار الفرنسي بها – وهم لا يمثلون إلا قلة ضئيلة من بعض مسيحيي الشام – فقد أصبحوا متمسكين بوضعهم الجديد ، يعارضون كل تغيير أو تبديل فيه.(/7)
والواقع أن لهذا النفر من المسيحيين عذرهم فيما ذهبوا إليه ، فقد لقي هؤلاء من عنت الحكام ومن فساد الإدارة في أواخر أيام الدولة العثمانية ما نفرهم من الارتباط بالحكم الإسلام جملة ، ودعاهم إلى تفضيل الاستعمار الفرنسي عليه. ومن الواضح أن تفكيرهم على هذا النحو هو ضرب من ضروب (رد الفعل) الذي يتسم دائماً بالغلو والإفراط ، والبعد عن الروية والحكمة. فرد الفعل عمل عصبي مرتجل لم يمحصه العقل ، وهو يتسم دائماً بالعنف ، فالذي يفر من النار قد يقذف بنفسه في البحر ، أو يقفز من علو شاهق ، والذي يؤدب ولده لخطأ ارتكبه وهو في سورة غضبه قد يؤذيه أو يقتله ، والذي يقع تحت تأثير حزن عميق مفاجىء قد يسرع إلى التخلص من الحياة انتحاراً. وكل هذه صور من ردود الفعل الخاطئة التي يمكن أن يتفادى صحابها ضررها وخطرها لو أنه أمسك عن التصرف في سورة غضبه أو حزنه أو خوفه ، ثم عاد للتفكير ولتقدير الموقف وحساب ما له وما عليه في روية وهدوء وتعقل ، فلنعد التفكير إذن معاً في هدوء.
العروبة بطبيعتها وبحكم نشأتها ونموها وازدهارها والعوامل التي ضبطت هذا الازدهار والتطور هي عروبة إسلامية. وقد ساهم في تطورهم الحضاري على مدى القرون والأجيال عناصر عربية غير مسلمة. ولكن مساهمتها ظلت في داخل الإطار الإسلامي الذي لم يكن يسمح لأحد بالخروج عليه ، ولم تجد هذه العناصر العربية من غير الإسلامية غضاضة في أن تساهم في بناء هذه الحضارة في الحدود الإسلامية ، لأن هذه الحدود لم تكن تتعارض مع عقائدهم ، بل إن تخطي هذه الحدود والخروج عليها في أكثر الأحيان هو في الوقت نفسه خروج على حدود دينهم ، وخوض فيما يحرمه. وكان الإسلام يمنح هذه العناصر كل حرياتها الدينية ، ويحظر التضييق عليها ، أو ممارسة أي لون من ألوان الضغط لحملها على ترك دينها ، والدخول في الإسلام. بل لقد كان الإسلام الذي يبيح للمسلم أن يتزوج غير المسلمة يمنعه من إجبارها على ترك دينها واعتناق الإسلام ، وقد ماتت أم خالد بن عبد الله القسري وهو من كبار ولاة الدولة الأموية في العراق على نصرانيتها وكان ذلك مدعاة لتجني أعدائه عليه ...
والدليل الناصع على أن المسلمين التزموا على مر الأجيال وعلى اختلاف الدول ما أمرهم به دينهم من إنصاف أهل الكتاب ، وتأمينهم على دينهم وعلى أموالهم وأنفسهم وأعراضهم هو وجود هذه الجاليات الكبيرة بين أظهرهم في مختلف بلادهم من النصارى واليهود ، وهو سلوك لا نوفيه حقه ، ولا ندرك قيمته إلا إذا قارناه بما يقابله من صنيع محاكم التفتيش في الأندلس بعد أن غادرها المسلمون ، فقد لقي غير المسيحيين من المسلمين واليهود على يديها من التنكيل ما تسود له صفحات التاريخ ، وانتهى الأمر إلى استئصالهم جميعاً ، فلم تبق منهم باقية.
فالعروبة إذن شخصية معنوية لها وجود تاريخي حقيقي ذي مقومات ثابتة محدد لا لبس فيها ولا غموض ، وليست مولوداً جديداً تقترح له المقومات ، وتخترع له الأسس والمبادئ في مصانع دعاة العروبة على اختلاف أجنحتهم وزعاماتهم.
ولنسأل أنفسنا في روية يحكمها عقل مجرد من الأهواء : ما هو البديل من عروبة إسلامية ؟ العروبة لا يمكن أن تكون نصرانية ، ولا يمكن أن تكون يهودية ، لأن المسلمين يكونون الكثرة الكاثرة للعرب ، فهل يكون البديل في البلاد التي تسكنها جماعة من النصارى – قلوا أو كثروا – هو عروبة في ظل حضانة أجنبية ؟ هذا أمر قد أصبح مرفوضاً حتى من الذين ارتضوه بالأمس في ظل الحكم العثماني. وقد شارك المسيحيون أنفسهم في الخلاص من الاستعمار الفرنسي. وكثير من الذين وقفوا مع الفرنسيين معارضين حركة الاستقلال لم يكونوا في الحقيقة يوازنون بين الاستعمار وبين الاستقلال ، ولكنهم كانوا يوازنون بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإنجليزي ، الذي كان في تقديرهم هو البديل الوحيد من الاستعمار الفرنسي ، لأنهم كانوا يظنون الاستقلال شيئاً بعيد المنال غير محتمل التحقيق. والذي لا شك فيه هو أن الاستعمار في كل صوره لا يستمد رفاهيته إلا من التضييق على مستعمراته ، ولا يبني عظمته إلا على ما يسلبه من كراماتهم ، ولا ينفق على هذه المستعمرات ، ولا يبذل فيها من جهده لإصلاحها إلا كما ينفق المالك على مزرعته ليجني من وراء ذلك ربحاً أكبر ، وكما يسمن صاحب المزرعة أبقاره ، ليأخذ منها ألباناً أغزر ، ولحوماً أثقل ، وهو في ذلك لا يفرق بين مسلمهم ونصرانيهم ويهوديهم ، أقربهم إليه أعونهم له على ظلم قومه واستغلالهم. ثم إن الازدهار لا ينشأ من الثقة المتبادلة بين المواطنين جميعاً ، بعضهم والبعض الآخر ، مسلمهم ومسيحيهم ويهوديهم ، ما دامت الحريات مكفولة لهم جميعاً على السواء.(/8)
لم يبق بعد ذلك كله من الفروض المحتملة للبديل من العروبة الإسلامية إلا أن تكون العروبة لا دينية ، بمعنى أن تكون مجردة من الارتباط بالقيم الدينية في أي دين من الأديان. ولنتساءل من جديد : ما هي المزايا التي يمكن أن تحققها عروبة لا دينية ، مما تعجز العروبة الإسلامية عن تحقيقه ؟
الشخصية العربية كما رأينا هي شخصية عريقة تضرب عروقها في أعماق التاريخ، وقد ارتبطت بالإسلام منذ نشأتها ، ونمت وتطورت ونضجت في داخل إطاره ، دون أن يكون في ذلك تعارض مع أصول الأديان السماوية الأخرى التي نبعت من المنطقة ذاتها. فالإسلام هو الذي أعطى العروبة شكلها الثابت المحدد ، وجعل لها شخصيتها المتميزة التي يلتقي عندها كل العرب ، لا يختلفون عليها ، ولا ينكرها أحد منهم أو ينفر منها. فإذا نحن جردناها من هذه القيم الدينية المسلم بها عند كل العرب. فالماديون منهم سينزعون إلى الماركسية ، فيقع الخلاف بينهم وبين مخالفيهم ممن لا يرتضون هذا المذهب أساساً لتنظيم المجتمع. وسيشتركون مع الليبراليين في السخرية من القيم الدينية ، ومن المؤسسات الدينية على اختلافها ، فيقع الصراع بينهم وبين المتدينين على اختلاف مللهم. والمتحرون من الوجوديين والهيبيين وغيرهم ممن يتبعون كل ناعق يدعو إلى الشهوات سينطلقون من كل قيد خلقي أو ديني ، فيؤذون كل ذي خلق وكل ذي دين. وسيحاول فريق من الناس أن يعالج صراع الطوائف والشيع والمذاهب بالدعوة إلى نظم جديدة للمجتمع فيفشلون ، ولا يزيدون على أن يضيفوا للمذاهب القائمة مذاهب جديدة تزيد في احتدام المعركة وفي شدة الصراع. على أن المسيحيين الذين يخافون على أمنهم وسلامتهم وحريتهم في ظل عروبة إسلامية هم أكثر خوفاً وأبعد عن الأمن في ظل عروبة لا دينية ، لأن الإسلام وحده هو الضامن لمنع انحراف المسلمين إلى عصبية جهولة عمياء تحطم وتعتدي وتظلم. فالخطر الحقيقي على غير المسلمين من العرب لا ينجم إلا إذا نشأ جيل من المسلمين يجهلون إسلامهم في ظل العروبة اللادينية التي يدعو إليها بعض الناس ، لأنهم قد يتعصبون عند ذلك تعصباً أعمى ينحرف بهم إلى ما كان الإسلام ينهى عنه آباءهم وأجدادهم طوال أربعة عشر قرناً. ولقد جربوا ذلك في الحكم العثماني من قبل ، فكانوا أسوأ حالاً في حكم ملاحدة الاتحاديين بعد عزل السلطان عبد الحميد. هذا إلى أن قوام الديمقراطية التي يتغنى بها أهل هذا العصر هو نزول القلة على حكم الكثرة ، فلماذا تجد القلة غير المسلمة غضاضة في إقرار الكثرة المسلمة على بناء حياتهم في ظل الإسلام ، وعلى هدى منه ؟
أما غلاة القوميين من المسلمين الذين يلتقون مع ذلك الفريق الذي أشرنا إليه من المسيحيين في الدعوة إلى قومية لا دينية ، فهم واقعون تحت تأثير ما توهموه من أن النهضة الأوروبية الحديثة كانت ثمرة للتمرد على الكنيسة ، ولتجريد الحكم من الصفة الدينية ، وهو وهم لا يصح على التحقيق ، ولا يثبت على التمحيص. فالحركة الدينية البروتستانتية التي تمردت وقتذاك على الكنيسة الكاثوليكية لم تخل من أصابع الصهيونية ، وقد كان همها الأول هو هدم الكنيسة الكاثوليكية ، لأنها كانت أكبر المؤسسات التي تناصب اليهود العداء ، والبروتستانت اليوم هو أشد الطوائف المسيحية عطفاً على الصهيونية ، وأكثرها مساندة لها مادياً ومعنوياً. ثم إن الازدهار الذي حققته هذه النهضة في أوروبا لم ينتفع به أحد كما انتفع به اليهود. جمع الثروات في أيديهم ، وأمنهم عليها مما كانوا يتعرضون له من المصادرات والتضييق والاضطهاد ، ومكن أجهزتهم من السيطرة على شؤون السياسة والاقتصاد ، وأفسح الطريق أمام دعواتهم التي تنشر الإلحاد والانحلال ، والتي ينفذون من خلالها إلى ما يستهدفونه من السيطرة على مصائر الأمم والإمساك بزمامها. جرى ذلك كله تحت ستار الحرية والإخاء والمساواة وحقوق الإنسان ، وهي شعارات لم ينتفع بها حتى الآن سوى اليهود. لم ينتفع بها زنوج أمريكا ، ولم ينتفع بها الأفارقة والآسيويون في مختلف البلاد التي عانت وتعاني من صنوف الظلم والتسلط والاضطهاد الديني والعنصري. وقد اعترف عزيز ميرهم ، وهو أحد كبار الماسون ، في مقال له نشر في السياسة الأسبوعية سنة 1926 بأن الذين هدموا سلطان الكنيسة في فرنسا وفي إيطاليا هم الماسونيون ، كما اعترف بأن زعماء الثورة الفرنسية كانوا من الماسون ، وأن محفلهم هو الذي وضع شعار الثورة الفرنسية (الحرية ، والإخاء ، والمساواة) ، واعترف كذلك بأن تركيا نالت دستورها بفضل عمل محافلها. وصلة الماسونية بالصهيونية العالمية مشهورة معروفة لم تعد اليوم تحتاج إلى تعريف.(/9)
ثم إن ظروف العرب اليوم تختلف عن ظروف أوروبا يومذاك ، فليست لدى العرب جهتان تتنازعان السلطة ، إحداهما دينية والأخرى سياسية ، كما كان الشأن في أوروبا. بل إن المسلمين لا توجد عندهم سلطة دينية متحكمة كسلطة الكنيسة التي ثار عليها المسيحيون في نهاية القرون الوسطى وفي مطلع عصر النهضة ، فليس نظام الإسلام رجال دين. هناك علماء تحكم فتاواهم نصوص إسلامية صريحة مكتوبة بلغة يقرؤها كل العرب ويفهمونها ، ولكل قادر على فهمها ممن ألم بأصول الإسلام أن يناقشهم فيها. وهم لا يكونون طائفة متميزة بعينها تنتمي إلى جهاز خاص يرعاها ويدبر أمورها ، ولا يملكون من السلطة والجاه والمال ما كان يملكه رجال الدين في الكنيسة وقتذاك ، فكثرتهم من الفقراء الذين لا تكاد دخولهم تكفي لسد الضروري من نفقاتهم. ذلك إلى أن واقعنا يختلف عن واقع أوروبا وقتذاك وأهدافنا تختلف عن أهدافهم ، فالنهضة الأوروبية قد انتهت إلى تفتيت الجامعة الأوروبية المسيحية وتقسيمها إلى دول شتى ، لكل منها لغتها الخاصة وقوميتها المستقلة. أما الحركة العربية ، فهي تستهدف جمع العرب بعد أن فرقهم الاستعمار ، وتتمسك بلغتهم العربية الجامعة لشملهم ، والتي هي وسيلة التواصل بينهم أفراداً وجماعات ، في كتبهم وصحفهم وإذاعاتهم وندواتهم ومؤتمراتهم ومعاملاتهم.
ذلك التقليد الأعمى من جانب غلاة القوميين المتأثرين بحركة الإحياء وبالليبرالية والعلمانية والثورة الفرنسية في أوروبا ، يذكرنا بقصة رمزية قديمة ، تتحدث عن حمارين كان أحدهما يحمل ملحاً وكان الآخر يحمل إسفنجاً. رأى حامل الإسفنج صاحبه ينزل إلى الماء ، فيذيب بعض الملح ، ويخرج منه أخف حملاً ، فخطر له أن يحصل على المزية نفسها بالأسلوب نفسه ، فكانت النتيجة على عكس ما توقعه ، وخرج من تجربته أثقل حملاً. إن ما ينفع قوماً قد يضر بآخرين ، وما يزكو عليه نبات من العناصر والأجواء قد يقتل نباتاً آخر أو يؤذيه. والناس في ذلك – ككل خلق الله – طوائف وأمم ، يتمايزون في الطبائع والأمزجة وفي أساليب الحياة ووسائل التقدم والرقي ، وقد يقتل بعض جماعاتهم ما تصح به جماعة أخرى.
وإذا كانت العروبة ضرورة اقتصادية وحربية في مجال الصراع العالمي الذي لم يعد فيه مكان للكتل الصغيرة لضعف إمكانياتها ، ولعجزها عن الدفاع عن نفسها أمام الطامعين ، فإن الوحدة الاقتصادية والحربية لا تتم على أساس من الاقتناع العقلي وحده ، ولا بد لها ، لكي تكون وثيقة ودائمة ، أن تستند إلى إحساس عام مشترك ورغبة صادقة مخلصة في مختلف بلاد العرب وعلى امتداد أوطانهم. وهذا الإحساس العام إنما هو اتجاه عاطفي وتآلف قلبي أولاً وقبل كل شيء ، فإدراك الفائدة التي تعود على العرب من وحدتهم الاقتصادية أو الحربية أمر قد يدركه رجال الاقتصاد ، أو رجال الحرب أو خاصة الناس ومفكروهم على وجه العموم. أما العامة – وهم سواد الناس وكثرتهم – فلا ينساقون إلى الوحدة إلا بدافع من عواطفهم ، وما استقر في نفوسهم من معتقدات. وربط العروبة بالإسلام هو وحده الذي يجمع العرب على هذا الإحساس المشترك ، فيجعلهم يداً واحدة على عدوهم ، وهو وحده الذي يمنح جهادهم صفة الإخلاص والفدائية ، وطول النفس في المصابرة والجلد. على أنه يجب أن نعرف في كل حال أن الدولة العربية الواحدة ليست هي الصورة الوحيدة للجامعة العربية ، وليس التحريض على بعض النظم العربية وتقسيمها إلى نظم رجعية ، ونظم تقدمية هو السبيل للوصول إلى الجامعة ، بل لعل هذه الصورة وهذا الأسلوب يعوق المسيرة ، ويؤخر الوصول إلى الهدف ، ويقيم في وجهه العقبات في بعض الأحيان ، ولكن اللب والصميم في هذه الجامعة العربية هو الحب المتبادل بإخلاص دون شائبة من ريبة ، أو سوء ظن بين الحكام والشعوب على السواء ، لأن الصراع في أي صورة من صوره لا يفيد إلا العدو ، ولأن الحب والمحاسنة بين الإخوة هو أقرب الطرق إلى تقويم الاعوجاج وتلافي الأخطاء.
ذلك هو حديث العروبيين الذي يجردون العروبة من الإسلام ، على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ، أما الإسلاميون الذي يسيئون الظن بالعروبة أو القومية العربية ، بدعوى أنها تفتت الواحدة الإسلامية وتشق عصا المسلمين المجتمعين على الإسلام ، فتجعل منهم عرباً وغير عرب ، فلنا معهم حديث آخر.(/10)
إن الانحراف الذي صحب الدعوة في أول نشأتها بارتباطها بحضانات أجنبية لا يصح أن يكون مبرراً لمعارضتها الآن. فظروف نشأتها في ظل دولة إسلامية جامعة للشمل تختلف عن ظروفها اليوم مع تفرق الشمل واختلاف الكلمة. فإذا كانت هذه الدعوة قد فتت بالأمس في عضد الجامعة الإسلامية ، فهي اليوم – إذا صححت مسيرتها – الخطوة الأولى في الطريق إلى هذه الجامعة. فالعرب هم أقرب الناس بين المسلمين إلى تحقيق وحدة جامعة بحكم اللغة المشتركة التي تربط بعضهم ببعض من ناحية ، والتي تربطهم بأصول الدين الإسلامي من ناحية أخرى ، وبحكم تجمع دولهم وتلاصقها في حيز مكاني واحد لا تقوم بين أجزائه أو فواصل طبيعية.
وهم بحكم هذا التقارب والتآلف واتفاق العادات والأمزجة أو تقاربها على الأقل مهيؤون لأن يكونوا نواة إسلامية صلبة تشع على العالم الإسلامي من ثقافة الإسلام. وتحمل من أعباء الإرشاد والتوعية والرعاية ما تعجز الدول العربية متفرقة عن النهوض به. فالجامعة العربية هي نقطة البدء التي لا بديل منها في هذه المسيرة الطويلة نحو جامعة إسلامية لا سبيل إليها الآن ، مع انشغال كل بلد من بلاد المسلمين بمشكلاته الخاصة ، ومع ترامي أطراف هذه البلاد ، وانعدام وسائل التواصل بينها باختلاف لغاتها وببعد شعوبها – بحكم هذه القطيعة – عن المعرفة الصحيحة للإسلام ذاته الذي يراد جمعهم عليه. فالوحدة الحقيقية المهيأة أسبابها الآن هي وحدة البلاد العربية. أما البلاد الإسلامية الأخرى فلا بد أن تسبق وحدتها خطوات أخرى ، أولها نشر اللغة العربية ، التي لا تتم جامعة بغيرها.
إن مقاومة الأخطاء والانحرافات في إدراك حدود العروبة ومقوماتها بالهرب منها وبمهاجمة العروبة ذاتها هو ضرب من ضروب العجز وضيق الحيلة. والحزم في أن تواجه هذه الأخطاء والانحرافات بتصحيحها وبيان زيفها. وسوف تكون العروبة الإسلامية عند ذاك محط آمال المسلمين جميعاً ، ومهوى قلوبهم ، لأن الذين يعادونها منهم الآن إنما يعادونها لما غلب حيناً ، ويعاديه ويحاربه في كثير من الأحيان ، بعد أن ترك الإسلاميون لهم الميدان يسرحون فيه كما يشاؤون دون رقيب أو حسيب.
المرجع : الإسلام والحضارة الغربية ، للدكتور محمد محمد حسين ، ص225(/11)
بين الإطالة والإيجاز
كثيرٌ من الناس يكتبون ما يكتبون مُوْجَزًا وشاملاً وافيًا بالغرض . والكتابةُ موجزًا قد تكون طبيعةً لدى الكاتب، وقد تكون عادةً تَعَوَّدَها بالمران والرياضة. وعلى العكس من ذلك كثير من الناس يطيلون الكتابة، ولايكون بوسعهم أن يوجزوها؛ والإطالةُ أيضًا قد تكون مركوزةً في طبيعة الكاتب، وقد تكون ناشئة عن العادة التي تكوّنت لديه خلال رحلته الكتابية التي استمرت منذ أن وضع قدميه على الطريق إلى نضج في هذه المهنة المُشَرِّفة .
وقد يشقّ على كلا الفريقين أن يشذّ عن مسارهما؛ فالمُوْجِزُ يصعب عليه الإطالةُ، والمُطِيْلُ يصعب عليه الإيجازُ. وهناك فريق من الكُتَّاب يُحْسِنُ الإيجازَ والإطالةَ كليهما؛ فالإيجاز يُحْسِنُه إذا أراده، والإطالةُ سهلةٌ عليه إذا أرادها؛ ولكن هذا الفريقَ قليل جدًّا؛ لأن كُلاًّ من الإطالة والإيجاز فنّ مستقل وله رجال متخصّصون لايتأتّى لهم إلاّ ما تخصّصوا فيه .
عددٌ من الإخوان الذين يحرصون على قراءة كتاباتي – العربية والأردية – طلبوا إليّ أن أوثر جانبَ الإيجاز في بعض كتاباتي؛ حتى يتمكّنوا من قراءتها على عجل، ولاسيّما لأنّ زحمة الأشغال تستعجل الإنسانَ المعاصر وتطلب منه سرعةَ الركض في كل شأن من شؤون الحياة . فقلت لهم: إن الإيجاز لاتتحمله قلة الفرص لديّ؛ لأنّه يحتاج إلى التخطيط والروية والتفكير مني؛ فإذا كتبتُ مقالةً طويلة في ساعة أحتاج لكتابةِ مثلها موجزًا إلى ساعتين أو نحوهما . إنّ الإطالة صارت جدَّ يسيرة عليّ؛ حيث أمضي أكتب مالم يكتمل الموضوع ومالم أشعر بأني قد قلتُ كلَّ ما كنتُ أَوَدُّ أن أقوله بشأن الموضوع الذي تعرّضتُ له في المقاله، وأنّي أشبعتُ الموضوعَ من الجوانب الكثيرة التي قد يَتَطَلَّعُ إليها قارئُ الموضوع .
من هنا لايُتَاحُ لي الكتابة في الموضوع الذي يقترحه عليّ جهةٌ أوفردٌ على عجل ويقول لي أن أوافيه بالمقال في الوقت القياسيّ المحدّد الذي يحدّده هو ويطلب إليّ أن لا أتخطّاه حتى يسعه تجهيزه للنشر والتعامل مع جميع الترتيبات اللاّزمة التي تسبق النشرَ. وقد اضْطُرِرْتُ أن أعتذر للأبد إلى بعض الجهات الصحفية عن الاستجابة لطلباتهم المُسْتَعْجَلَة، نظرًا لما فُطِرْتُ عليه من الانصراف إلى وظيفة واحدة بكل همومي وتفكيري حتى أنتهي منها؛ حيث لا أرضى توزيع الاهتمامات بين وظائف عديدة في وقت واحد، كما يرضى ذلك كثيرٌ من الناس، ولاسيما لأن الجهات الصحفية لايهمّها إشباعُ الموضوع، أو تزويد القارئ بكل ما يتعلّق به؛ حتى يصدر عن قراءته وقد تَشَبَّعَ معلوماتٍ عنه؛ وإنما يهمّهما أولاً وآخرًا العملُ بالرتابة، والعمل على جذب عدد ممكن من القراء، واستدرار ما في جيوبهم من المبالغ؛ فتؤثر السطحيّةَ على التقعير، والجزئية على الشمول، والاهتمام بالمظهر على الاهتمام بالمخبر. وموقفُها اللامعقول هذا هو الذي جعلني أكره الكتابةَ في الصحف والمجلات التي تتناول المواضيعَ الساخنة على عجل وفي غير شمول .
والكاتبُ المتعوِّد الإطالةَ والإشباعَ، لَوْ رَاحَ يُوْجِزُ ويجتزئ؛ لاحتاج إلى الشيء الكثير من التفكير، وبذل المحاولة للتغيير، والتقديم والتأخير، والاجتهاد واعتصار الفكر، وإنفاق الوقت أكثر مما ينفقه للإطالة والتوسّع في القول؛ لأنّه قد تَعَوَّد أن يقول مايقوله بشكل عفويّ، لايعوقه حاجز داخليّ ولا عائق نفسيّ، ولا يُثْقِله تَقَيُّدٌ والتزامٌ أو تَحَفُّظٌ؛ فلا يقف دون استكمال الموضوع، وتوفيته حقَّه من الإحاطة من كل جانب، والاستيعاب من كل وجه.
وقد يقتضي المقالُ – بطبيعته – الإطالةَ أو الإيجازَ؛ فإذا اقتضى الإطالةَ فلن يستوفي حقَّه إلاّ إذا أُطِيْلَ واستُقْصِي في جمع الموادِ المُكْمِلَةِ لنواحيه، والمُضْفِيَة عليه مسحةَ الشمول والاستيعاب، مما يجعله مقالاً يُكْسِبُ القارئ الشبعَ والتروّيَ في الموضوع المعنيّ، ولايشكو بعد الصدور عن قراءته أيَّ ظمأ بشأن الموضوع .
وإذا اقتضى المقالُ الإيجازَ، لايجوز للكاتب أن يطيل لأنه عندئذ – كون المقال موجزًا – يكون حاملاً لطبيعة الشطائر والسندويتش التي لم تُوضَعْ للإشباع والإغناء عن الوجبة الغدائية أوالعشائية الوافية، وإنما وُضِعَتْ لتسكين الجوع وكسب بعض ما فقده المرأ خلال الرتابة العملية المكثفة من القوة والانتعاش؛ فلا يكون السندويتش جرعةً كاملةً، وإنما يكون جرعةً سريعةً ناقصةً تُعْطِي مفعولَه لبعض الوقت. وذلك كزوايا الصحف، ومعظم المقالات التي تُنْشَرُ في الصحف والمجلات غير الدراسيّة وغير المعنيّة بالبحث والتحيق .(/1)
والمُتَعَوِّدُ من الكتّاب الإطالةَ والاستيعابَ يَشْعُرُ بتقصير وذنب إذا أَوْجَزَ؛ لأنّه عند الإيجاز يُضْطَرُّ أن يُغْفِلَ بعضَ الجوانب، ويتجاهل بعضَ النواحي اللازمة، ويشير عند الإيضاح، ويُجْمِل لدى التفسير، ولايقول بعضَ ما يوَدُّ أن يقولَه، ولايُفَصِّل بعضَ النقاط التي تبقى غامضةً إذا لم تُفَصَّلْ. القولُ الفَصْلُ المُوَسَّع المُشْبِع المُتَكَامِلُ الْجَوَانِب، لايَعْدِلُه القولُ المُوْجَزُ القصير غيرُ المشْبِع.
على كلّ فكلا الفريقين : الموجر والمطيل، لايقدر على أن يسير في غير مسيره، وأن ينحو غير منحاه الذي ألفه، وعاش عليه، ومشى فيه، وعرف نجاده و وهاده، وجميعَ مُنْعَطَفَاتِه؛ فسَهُلَ عليه السيرُ فيه، والجريُ عليه، وجوبُه إلى المنزل المنشود.
والراغبُ من القرّاء في قراءة المُوْجَزَات، لئن سَرَّه أنه يتمكن من قراءتها بكاملها، لكونها مستهلكة لقليل من الوقت، فإنّه يحزنه أنّه لايعرف التفاصيل وأبعادَ الموضوع وخلفيّات الواقع التي تدور حوله مقالة موجزة أو عجالة سريعة. إنّ الإيجاز ولإطالة كلاهما لئن يصحا في موضعهما، فإنّ الأول جانبه السيّء أنه لايشبع ولا يغني من جوع وظمأ، والثاني ينقصه أنه قد يجعل القارئ يسأم ويفقد الهمة؛ فيقعد عن إنهاء المقالة قراءةً، واستيعابها دراسة.
فالمُطِيلُ ينبغي أن يبقى على الإطالة؛ لأنها أكثر نفعًا وأقل ضررًا. والمُوْجِزُ، ينبغي أن لاينحرف عن مساره الإيجازي؛ لأنّه يُشَجِّع القارئ، ويُجَرِّؤُه على التقاط المكتوب المنشور بنظرة خاطفة وتصفيحة عاجلة.
الإيجاز أو الإطالة، ليس بدوره جميلاً جديرًا بالتقليد والتبنّي، وإنما يحسن في مكانه، ويجمل في مناسبته. وقد يكتسب كلٌّ منهما الجمالَ بلباقة الكاتب، وإتقانه وتصرّفه البارع مع مضامين الإيجاز أو الإطالة. الكاتب الذي أَتْقَنَ الإيجازَ، في الأغلب لايتقن الإطالةَ. وبالعكس فالبارع في فن الإطالة لايُحْسِن التصرفَ في فن الإيجاز. وقليلاً ما يكون الكاتب بارعًا في الإطالة والإيجاز كليهما .
كثيرًا ما طَلَبَ إليّ بعضُ الإخوانُ أن أؤثر لهم الإيجازَ في الموضوعات التي سَمَّوْهَا . قلتُ لهم: هاتوا الوقتَ أُوتِكم الإيجازَ . لماذا تودّون منّي أن أَمْشِيَ الممشى الذي لم أتعلّمه أو لم أتعوّده. إنّي أودّ أن أمشي على الطريق الذي مشيت عليه – ولا أزال – منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأنا اليوم في مطلع العقد السادس من عمري؟.
الخضوع لرغبات جميع الإخوان صعبٌ للغاية بل مستحيلٌ . إنك إذا أرضيت فريقًا ، أسخطت فريقاً. وصدق من قال: رضا الناس شيءٌ لايُطْلَب أو غايةٌ لاتُنَال . فلنمضِ في الطريق الذي آثرناه، ولنعمل ما أتقنّاه؛ لأنه هو أسهل ما نستطيعه من أعمال الحياة .
(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الأربعاء: 10/جمادى الأولى 1427هـ = 7/يونيو2006م)
أبو أسامة نور(/2)
بين التسبيح والاستغفار د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
قال: إني أشعر بالخجل الكبير من ربي؛ لكثرة ما يطّلع عليه من ذنبي، وإني لأشعر أحياناً أنني استحي من الله حينما أسبح أو أستغفر، وتقول لي وساوس نفسي: عجباً أيها العاصي، تردِّد بلسانك ما لا ينسجم مع أفعالك.. فماذا أفعل؟.
قلت له: لست أنت الوحيد الذي يخطئ من بين البشر، ولست معصوماً من الخطأ والزلل، وليس معنى وقوعك في الخطأ أنك قد فقدت الضمير الحيَّ والقلب النابض بالحياة، بل إنني أهنئك بهذه النفس اللوَّامة التي تجعلك تشعر بالخجل من ذنبك، والحياء من ربِّك، وأحذِّرك في الوقت نفسه من وساوس الشيطان الذي يحاول أن يملأ قلبك باليأس، وهو يهوِّن عليك قيمة التسبيح والاستغفار.
أنت تسلك الطريق الصحيح للتخلُّص من أعباء عصيانك وآثار خطئك، فالله - سبحانه وتعالى - يحب التوّابين ويحب المتطهّرين، ويشمل بعفوه ومغفرته المستغفرين، فهو الذي نادى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم ألاَّ يقنطوا من رحمته، وهو الذي بشر عباده التائبين بقبول التوبة إذا صدقوا وأخلصوا، وهو - سبحانه - الذي يعلم بقلوب عباده، وبما تخفيه صدورهم، ولهذا فهو العفو الغفور لكل من لجأ إليه، ودعاه تائباً خاشعاً.
إنَّ وقوع الإنسان في المعصية ضعف، ولا يصح لعاقل أن يستسلم لهذا الضعف، بل عليه ان يحاول ويحاول، ويدافع عن نفسه ويصاول، واثقاً بربه، موقناً بقبول التوبة، وحسن العاقبة ما دام هارباً إلى الله راجعاً إليه.
لا تتوقف يا صاحبي عن الذكر والتسبيح والدعاء والاستغفار؛ لأنك بهذا تغسل أدران قلبك، وترفع نفسك إلى الأعلى حتى لا تغرق في لحجج الأهواء.
سأل سائل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن التسبيح والاستغفار، أيُّهما أفضل للإنسان، فقال كلاماً جميلاً جاء فيه: إذا كان الثوب نظيفاً فإنَّ البخور والورد أنفع له، وإذا كان الثوب دنساً فإنَّ الصابون والماء الحارَّ أنفع له، فالتسبيح بخور الأصفياء، والاستغفار صابون العُصاة.
وأقول: لا يعني كلام شيخ الإسلام أنَّ العاصي لا يسبح ويذكر ربَّه، وإنما يعني أنَّ الإكثار من الاستغفار أنفع له ما دام متلبِّساً بأخطائه، ومعنى ذلك أن الاستغفار يغسل وينظِّف، ونحن بأمسِّ الحاجة إلى غسل نفوسنا، وتنظيف صدورنا في كل حين.
أكْثِر من التسبيح والذكر والدعاء، ورفرف بأجنحة الاستغفار، حلِّق بها في الآفاق الفسيحة المعطَّرة برحمة ربك ومغفرته، إياك أن تيأس، أو تقنط، أو تقع في أوحال الاستسلام للأوهام ووساوس الشيطان، وأراجيف النفس الأمَّارة بالسوء.
أذكرك بأن رسولنا عليه الصلاة والسلام أخبرنا في أحاديث كثيرة صحيحة أنَّ الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن كثير.
إنَّ للتسبيح والاستغفار لذَّّةً لا توازيها لذَّة من لذائذ الدنيا، وفيهما متعة لا تشبهها متعة، والباب مفتوح للجميع؛ لأن فضل الله عظيم، ولأنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، لو غفر للكائنات كلِّها ما نقص من ملكه شيء.
إشارة:
إلهي ما سألت سواك عفواً ***فحسبي العفو من ربٍ غفور(/1)
بين التقارب الجسمانيّ والتقارب الروحانيّ
قد تتباعد الأجسامُ ، وتتقارب القلوبُ والعقولُ . وقد يكون عكسَ ذلك ؛ فتتقارب الأجسامُ ، وتتباعد القلوبُ والعقولُ . وقد يجتمع الأمران ؛ فتتقارب الأجسامُ والقلوبُ والعقولُ معًا . تقاربُ الأجسامِ قد يكون حسّيًا ، وقد يكون معنويًّا ، وقد يكون حسيًّا ومعنويًّا معًا. فالحسيُّ أن ترى شخصين جالسين أو قائمين أو نائمين قريبًا أحدُهما من الآخر بإرادة أو بغير إرادة . والمعنويُّ أن تكون بين شخصين قرابةٌ قريبةٌ أو بعيدةٌ؛ فمهما كانا في مكانين مختلفين بعيدٍ أحدُهما عن الآخر قليلاً أو كثيرًا؛ ولكنّهما قريبٌ أحدهما من الآخر قربًا لايزول مهما أنكر أحدُهما أو كلاهُما أنه ليس أحدهما قريبًا إلى صاحبه . فالأبُ – مثلاً – مهما صَرَّحَ بأن ولَده ليس ولدًا له ، فإنّ ولديّتَه له لن تزول في واقع الأمر .
والعقولُ والقلوبُ تتقارب باتّحاد الفكر وتجانسه، سواء أكان الفكر عقديًّا دينيًّا، أو حزبيًّا جماعيًّا، أو وطنيًّا، أو قوميًّا، أوسياسيًّا، أو موقفيًّا، أو وظيفيًّا، أو لغويًّا. وقد تجتمع أنواع الفكر هذه كلُّها وغيرُها؛ ولكنها كثيرًا ما – بل في الأغلب – تنفرد. وأقوى أنواع التقارب العقلي القلبي يتحقّق لدى الاتحاد والتجانس العقدي الدينيّ؛ لأنه أقوى أنواع الأواصر؛ حيث لم يعرف الإنسان آصرةً أمتنَ وأفعلَ وأجملَ من هذه الآصرة النزيهة الطيّبة، الحبيبة المقدسة، الدائمة الحضور، القوية المفعول، المثمرة في كل فصل، المخضرّة على كل حال، النامية رغم مناوأة الطقوس، وشحّ المطر، ونبوّ المناخ.
شخصان مُتَّحِدان في العقيدة والدين – ولو كان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب – يشعران كأنهمان قريبان متصلان. فلو اجتمع الاتحاد في الدين والعقيدة مع الاتحاد في العواطف والمشاعر، يشعر الشخصان كأن أحدهما حالّ في صاحبه، وكأن قلبه يخفق بما يخفق به قلب الآخر، وكأنه يرى مايراه، ويتوصّل إلى ما يتوصّل إليه، ويفكّر نفسَ التفكير الذي يفكّره هو، وكأنهما شخص واحد متمثّل في قالبين .
وعلى عكس ذلك شخصان متقاربان مُتَّصِلان جسمًا يتباعدان تباعدَ السماء والأرض، إذا اختلفا عقيدةً ودينًا وعاطفةً وشعورًا. يرى الناظرُ أن أحدَهما جالسٌ إلى الآخر أو ساكن أحدُهما مع الآخر في مكان واحد، في غرفة واحدة أو بيت واحد؛ أو تجمعهما قرابةٌ وشيجةٌ أو آصرةٌ مُتَشَابِكَةٌ؛ ولكنهما يختلفان فكرًا؛ فيتباعدان عقلاً، وينفصلان قلبًا، ويستوحشان ذهنًا.
كثيرًا ما يحدث أن المرأ يساكن غيرَه دهرًا، أو يجاوره، أو يزامله في العمل، أو يشاركه في التجارة أو الصناعة؛ حتى يعاشره ويؤاكله ويشاربه، ويشاطره كثيرًا من الاهتمامات والهوايات؛ ولكنّه يظلّ بعيدًا عنه بفكره المغاير لفكره، ودينه المعارض لدينه، وعقيدته المخالفة لعقيدته، وعواطفه التي لاتلتقي مع عواطفه على طول الخطّ وعرضه، وسلوكه العام في الحياة الذي لاينسجم مع سلوكه بشكل. شخصٌ بجنب شخص وجسمٌ يلاصق جسمًا قد يمكن – بل كثيرًا ما يحدث – أن يفكّر القلبُ الذي يحمله صدرُه بغير الذي يفكّر فيه القلبُ الذي يحمله صدرالآخر فهذا يفكّر في الخير، وهذا يفكّر في الشرّ؛ وهذا يفكر في شخصه ومصالحه المحدودة، وهذا يفكّر في الفساد والإفساد؛ وهكذا .
فالقرب الجسماني المجرد لايغني غَنَاءً إذا لم يقارنِ بشكل القربَ الروحاني؛ ولكن القرب الروحاني المجرّد من القرب الجسماني بمستطاعه أن يعطي مفعولَه كاملاً. أما إذا اجتمع القربانِ فيزداد فعلُه – القرب الروحاني – ويقوى أداؤه، ويكثر نشاطه.
قد يجوز أن يُوْلَدَ جسمان على فراش واحد وينموان عليه؛ بل قد يجوز أن يولدان من أب وأمّ، ويختلفان فكرًا وعقيدةً ومنهجَ حياة. وقد سبق أن تَرَبَّى المُوَحِّد الداعي إلى التوحيد على عين المدّعي الأكبر للألوهية: تَرَبَّى سيدنا موسى في قصر فرعون وعلى نفقاته ورعايته وعنايته. وسبق أن تَرَبَّى الولد المُوَحِّد على فراش الوالد المشرك الصانع البائع للأصنام: تَرَبَّى سيدنا إبراهيم الثائر الأكبر على الوثنيّة الكاسر الأكبر للأصنام على فراش أبيه آزر. كم كانتِ المسافة بين العقليتين؛ وكم كان البعد بين التفكيرين؟ .
الاتّحادُ الفكريُّ الدينيُّ العقديُّ العاطفيُّ أفعلُ الاتّحادات التي يمكن أن تتحقق بين إنسان وآخر. وبكلمة أخرى: النسبُ الدينيُّ أقوى من النسب الطينيّ، والأوّلُ حالاًّ في الآخر يكون أنفعَ وأحسنَ ما يكون. والثاني مُجَرَّدًا من الأوّل لاينفع إلاّ قليلاً، وبشروط.(/1)
كثيرًا ما عاشرتُ إنسانًا زمنًا طويلاً، أو عاملتُه كثيرًا؛ ولكنّ الاختلافَ في الدين والعقيدة، أو العواطف ومذهب التفكير، ظلّ حائلاً بيني وبينه بشكل شعرتُ كأن جبال "هملايا" تفصل بيني وبينه أو السدّ الإسكندريّ الذي لايمكن اختراقُه، وظلتُ أستوحش منه استيحاشَ الإنسانِ من السباع الضارية أو استيحاش المؤمن المخلص المتعبّد من الكافر الفاجر المستهتر. الإنسان عُجِنَتْ طينتُه بالأنس . والأنسُ لايحصل مع الافتراق في الأفكار والآراء والمشاعر والعواطف؛ فكيف بالافتراق في العقيدة والدين وأسلوب التفكير والعمل؟.
ربما انعقدت بيني وبين إنسان من قرية غير قريتي، ومن وطن بعيد بعدًا شاسعًا عن وطني، لم تجمع قطُّ بيني وبينه قرابة أو نسب، صداقةٌ وطيدة قائمة على غير غرض – اللهم إلاّ الاعتراف المتبادل بالفضل والأهلية – لن يحلّها بإذن الله إلاّ الموت، ولن يضرّها وشايةُ واشٍ أو نميمةُ نمّام. وربّما حلّت بيني وبين إنسان من قريتي أو مدينتي، تجمع بيني وبينه آصرة من النسب، وملاعبُ الصبا، ومدارجُ الطفولة، ودروبُ الكُتّاب، وحاراتُ المدرسة الأوليّة، ومشواراتُ الدراسة كلّها، وكثيرٌ من الهموم التي يَتَوَزَّعُها الأترابُ، وأنواعٌ من الهوايات التي يَتَقَاسَمُها الِّلداتُ في مُنْتَزَهات الحياة عندما يكونون لِدَانَ الأعواد.. حلّت عقدةٌ من الكراهية لم تحلّها محاولةٌ. والفرقُ بين الأوّل والآخر لم يكن إلاّ التوافقَ في الأفكار والعواطف بيني وبين الأوّل ، والتخالفَ بيني وبين الثاني في مسيرة التفكير وأسلوب العمل ومقياس الرضا والكره، والخيار والرفض .
وقد صدق الشاعر العربيّ الحكيم أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبئ (303هـ / 915م = 354هـ / 965م) عندما قال:
وَمَا قَرُبَتْ أَشْبَاهُ قَوْمٍ أَبَاعِدٍ
وَلاَ بَعُدَتْ أَشْبَاهُ قومٍ أقارِبِ
ربما وجدتُ في شخصِ إنسان أجنبيٍّ أخًا، كان أصدقَ أخوّةً من الأخ الذي وَلَدَتْه أمّي ورَبَّتْه في حضنها الحاني؛ لأنه شاركني بمواساته الصادقة، وعَرَفَ عواطفي معرفةً لم تختلف عن معرفتي بها؛ فتَعَامَلَ معي صادرًا عن مراعاتها الدقيقة؛ ولأنّه قَدَّرَ مشاعري تقديرًا ربما فاق تقديري لها؛ ولأنّه حَاوَلَ أن يكسح عن طريقي الأشواكَ كسحًا ربّما لم أقدر عليه؛ ولأنّه لاَحَظَ مواقفَ رضاي وسخطى ملاحظةً عجزتُ عنها؛ ولأنّه شَقِيَ أحيانًا كثيرةً والابتسامُ يرقص على شفتيه لأَسْعَدَ أنا؛ ولأنّه استعذبَ العذابَ ليجمع لي كلَّ وسيلة ممكنة من وسائل الراحة والسرور والعافية؛ ولأنّه كثيرًا ما تَعَهَّدَني بالسَّهَر والتألّم عندما وَجَدَني أشكو ألمًا في جسمي أو انحرافًا في صحّتي أو خَالِجَةً فكريّة. وما أَرْوَعَ المثلَ العربيَّ: "رُبَّ أَخٍ لم تلده أمُّك".
الاشتراك في النسب الطيني لايعطي نفعًا مرجوًّا إلاّ إذا صَاحَبَه الاشتراكُ في النسب الدينيّ. والاشتراكُ فيه أيضًا لاينفع إلاّ إذا كان هناك شعورٌ بقيمة هذا النسب الرفيع. وهذا الشعورُ لايتحقّق إلاّ إذا كان هناك شعورٌ بقيمة الدين فتعليماته في شأن الدين والدنيا. وإذا تَحَقَّقَ ذلك كلُّه، يَتَحَقَّقُ عفويًّا الاتحادُ في الأفكار والعواطف، فالاتّحادُ في السلوك والعمل، فالاتحادُ الروحانيُّ المعنويُّ المثمرُ الذي ينفع صاحبَه، وكلَّ من حوله، وكلَّ من يتعارف عليه، ويتعلّق به، ويتعامل معه بشكل.
فالإنسان بجنب الإنسان قد يشعر بما يشعر به إذا كان بجنب حيوانٍ مفترس أو سبع ضار، فلا يأمنه ولايرتاح إليه، فضلاً أن يسكن إليه ويستأنس به، ويرجو منه مايرجوه الإنسان من الإنسان مثله من المساعدة لدى الحاجة، والإمساك بيده إذا زلّت قدماه في مزلق، وإيناسه لدى شعوره بغربة، أو مسح دموعه إذا أَلَمَّ به حزنٌ. إنّ الإنسان لايتعامل مع الإنسان بمثلِ هذا إلاّ إذا اتّحد معه في المعاني الإنسانيّة السامية التي أشرتُ إليها، وأشدتُ بها، وأبديتُ حرصي عليها. أمّا إذا تَخَلَّى منها، فإنه بالنسبة إلى غيره من الإنسان كالشبح المخيف يراه في الليل المظلم، فتذهب به الظنونُ مذاهبَ.(/2)
مُجَاوِرُك الإنسانُ إذا لم يَتَّحِد معك في المعاني التي تجعله يشعر بما تشعر به أنت؛ فلايكون وجودُه وعدمُه بجنبك سواءً فقط؛ بل قد يُسَبِّب لك وجودُه بجنبك أضرارًا نفسيّة أو جسمانية أو ماليّة أو فكريّة، وربّما يُسَبِّب هذه الأَضرارَ بأنواعها كلّها، إلاّ أن تتجنّبها بحكمتك أو تدفعها بقوتك. يتأذّى الإنسان من الإنسان نفسيًّا قبل أن يتأذّى منه جسمانيًّا أو ماليًّا أو فكريًّا إذا لم يكن إنسانًا مثلَه في الخير، وإنما كان شيطانًا أو تلميذًا بارًّا من تلاميذه مُتَمَثِّلاً في الجسم الإنسانيّ والهيكل البشريّ. أنت ستظلّ دائمًا في تعقيدات نفسيّة، ومخافة مجهولة، بجنب إنسان يشاركك في صورة اللحم والدم، ولايشاركك في العقيدة والدين، والعواطف والأفكار، والمعاني الإنسانية النبيلة؛ لأنك وهو على طرفي نقيض؛ فربما أنت ترتاح إذا لم يكن مثلُه بجنبك ارتياحًا لن تتمتع به وهو معك. وجودُه بجنبك لم يُذْهِب أيَّ شيء من الوحشة التي يشعر بها الإنسان في مكان خالٍ من الإنس، وإنما زادك تعقيدًا ومخافة أنت لاتتبيّن نوعيّتها؛ فتُسَاوِرُك الوساوسُ، وتؤذيك الخَوالِجُ، وتتدافع بك الأفكار التي أنت لاترغب فيها.
يسكن بجنب بيتي على غَلْوَة منه أسرةٌ من أبناء ديانة غير ديانتي منذ الزمان القديم: منذ عهد الأجداد؛ ولكنها بما أنّها لاتشاركنا في العقيدة والدين، فلاتشاركنا في المشاعر والأفكار، فنشعر منها بتوحّش لاتصفه الكلمات بدقة. وأناسٌ لقيتُهم في الحرمين الشريفين: هذا من أقصى الشرق، وذاك من أقصى الغرب، وذلك من الأنحاء النائية من بلاد الله؛ ولكني شعرت كأنهم جميعًا أشقاء لي؛ لأنهم فعلاً أشقاء في الدين والعقيدة، والهدف والمصير، وكثير من الأفكار والعواطف.
رجلٌ عاملتُه طويلاً، وكان يقوم بطبع أعداد مجلتنا "الداعي" منذ سنوات طويلة. وكنتُ دائمًا أُحْسِن معه السلوكَ، وألاطفه في اللقاء، وأُبَادِر إليه بالتحية والدعاء؛ ولكنّه ظَلَّ عبر هذه السنين على جفافه وخشونته في الخلق وفظاظته في المعاملة، وعدم مجازاته الإحسانَ بمثله؛ فاضْطُرِرْتُ أن أبحث عن أصله ونسله الفكريّ، فأُحِطْتُ علمًا بأنه رغم كونه مسلمًا بالاسم ينتمي إلى المذهب الفلاني، الذي يُعْرَفُ أبناؤُه بالجفاف الخلقي ويركّزون على ظاهر الإسلام، ويزهدون في باطنه، وهم أزهد الناس في اللين الخلقي، والرقة في السلوك، والمجاملة في السيرة، وتبادل التحيات والأدعية بمثلها. وعندما ظَهَرَ لي السببُ بَطَلَ منّي العجبُ، وقلتُ: لاغرو إذا كان الرجلُ مُصِرًّا على جفافه، وحذره من أن يصدر منه سلوكٌ ليّنٌ يشفّ – لا قَدَّرَ الله ! – عن عدم ولائه الصادق لمذهبه الفكري!.
شيءٌ ثمينٌ جدًّا أن يُوافقك رجلٌ في العقيدة والدين، والعواطف والأفكار، ولايَتَنَكَّر لتعاليم الدين الذي ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه الاحترامَ اللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة.
(تحريرًا في الساعة 5، من مساء يوم الثلاثاء: 13/صفر1427هـ = 14/مارس2006م)
أبو أسامة نور(/3)
بين الحزن والصبر والرضا
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فإن الله _تعالى_ عليم بخلقه حكيم في قضائه، وإذا كان الله حكيماً عليماً فليس لنا إلاّ الصبر والرضا والتسليم، فهل يعارض الحزن شيئاً من ذلك؟
لعل في قول الله _تعالى_ عن نبيه يعقوب _عليه السلام_ جواباً: "وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" [يوسف:84]، وإذا تقرر أن يعقوب _عليه السلام_ نبي كريم، يستحيل عليه الكذب في إثبات الصبر الجميل لنفسه، علم أن الحزن لا يعارض الصبر والرضا والتسليم.
إن الحزن شعور لابد أن يعتري الإنسان السوي، إن وجد سببه، كالألم والغضب، بل كالجوع والعطش، فإن الله _تعالى_ قد ركب في الناس الإحساس، ويكون الشعور بحسب ما يجده الحس من أثر المحسوس وجوداً وعدماً.
ولما كان الحزن من عوارض الطبيعة البشرية، لم يكن يوماً من الدهر محرماً في شريعة سماوية طالما كان مقتضيه صحيحاً، ولهذا قال الله _تعالى_ عن أهل الجنة: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ" [فاطر:34]، وقال لخير النبيين _صلى الله عليه وسلم_: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ"،[المائدة:41]، بل قال _تعالى_: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33]، وفي الصحيح عن أنس _رضي الله عنه_ قال: قنت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ شهراً حين قتل القراء، فما رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حزن حزنا قط أشد منه(1)، وقال _تعالى_ فيما أخبر به عن نبيه وصديق هذه الأمة: "...إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة:40]، وقال للمؤمنين: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران:139]، "وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ" [التوبة:92].
فليس الحزن مختصاً بضعفاء الإيمان أو الفجار، بل هو مختص بمن ركب فيه الإحساس، فلا غضاضة في الحزن إذن فقد حزن الأنبياء وحزن الصديقون وحزن الصالحون، قبل وبعد يعقوب _عليه السلام_.
فالحزن عارض بشري، يعرض للتقي والفاجر، والمسلم والكافر، فإن كان منشؤ الحزن أمر لايد للمرء فيه، كقضاء كوني نزل فأصابه، أو كان منشؤه مشروعاً كجهاد قتل فيه ابنه، كان صبر المسلم على الحزن خيراً له، وكان حزنه سبباً في تكفير سيئاته، فعن صهيب قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"(2).
أما إن كان منشؤ الحزن معصية فإنه إما أن يحزن على مقارفتها، أو على فوتها، فإن حزن على مقارفته لها فهذا من جنس الأول؛ لأنه متعلق بالندم على الذنب وهو أحد أركان التوبة، وأما إن كان الحزن على فوتها فذلك حزن محرم وأثره المترتب عليه مؤاخذ به العبد، ومثله الحزن على فعل واجب لا لعارض، أو الحزن على قضاءٍ كوني هو خير للمؤمنين أو شر على الكافرين، وقد جاء في الحديث: "إنما الدنيا لأربعة نفر... وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل" قال: "وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء"(3).
والذي يحزن على فوت المعصية يشبه من عقد العزم على فعلها وليست عنده أسبابها، وقد أمرت الملائكة لوطاً لما جاءت تجعل قرية قومه عاليها سافلها بألا يحزن، قالوا: "قالوا لاتخف ولاتحزن إنا منجوك وأهلك إلاّ امرأتك" [العنكبوت:33]، وقال الله _تعالى_: "فمن تبع هداي فلا خوف عليه ولا هم يحزنون" [البقرة: 38]، وقال _سبحانه_: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران:139].(/1)
وقد جعل من أسباب ذم المنافقين والكافرين فرحهم بما يسوء المسلمين، والحزن بما يفرحهم من قبيله، قال الله _تعالى_: "إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ" [التوبة:50]، وقال: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران:120]، وقال: "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ" [التوبة:81].
والشاهد أن الحزن عارض كالألم، غير مرغوب فيه أو مُرَغَّب إليه من حيث هو، كالجوع والعطش، بل هو مصيبة من جملة المصائب، ولهذا قال _صلى الله عليه وسلم_ كما في حديث أبي هريرة: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه"(4).
وإذا كان كذلك فإن على المسلم أن يدافعه –أياً كان منشؤه- ما أطاق، أو يكظمه ما استطاع، كما أن عليه لا يخرج به –وإن كان منشؤه مباحاً أو محموداً- عن حدود الشرع فهذا ممنوع، فإن كان الذي يجوع لا يسوغ له أن يأكل الخنزير، بل عليه أن يتخير من الحلال الطيب، مع أن أكل الخنزير قد يكون سبباً للشبع، فكذلك المحزون ليس له أن يُذهِب حزنه بمحرم.
ولئن قتل الجائع نفساً بحجة الجوع، أو قارف جرماً آخر ليس سبباً للشبع بحجة الجوع، كان ذلك من القبح بمكان أظهر. فكذلك الذي يحزن ليس له أن يتكلم بما لايليق، وليس له أن يشق ثوباً أو يلطم وجهاً، أو يفعل فعلاً يخرج به إلى حد التسخط والجزع، فتلك أفعال محرمة، ولا علاقة لها بدفع الحزن، كحال من يجوع فيقارف جرماً ليس سبباً للشبع، بل تلك الأفعال مع الحزن أشد حرمة لما تضمنته من الحرمة ولما اشتملت عليه من تسخط قدر الله، فنسأل الله أن يعافينا، وألا يبتلي ضعفنا، وأن يلهم المصابين الصبر، وأن يكتب لهم عظيم الأجر، وأن يذهب عنا وعنهم الحزن إنا ربنا لغفور شكور.
_______________
(1) صحيح البخاري 1/437 (1238).
(2) صحيح مسلم 4/2295 (2999).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند 4/231، والترمذي في سننه 4/562 (2325)، وقال حديث حسن صحيح. ورواه غيرهم.
(4) صحيح البخاري 5/2137 (5318)، ونحوه عند مسلم.(/2)
بين الحقيقة والاستدراج
بقلم: الدكتور محمد أديب الصالح
كان من رحمة الله بهذه الأمة أن رسم لها من مناهج في العقيدة والشريعة والأخلاق ، مما لا يدخل في حدود التجريد ، ولكنه يتسق تمام الاتساق مع طاقات الإنسان وقدراته ، ولذلك رأيت من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى مختلف العصور الإسلامية ، النماذج التي تستعصي على العد ، وكلها نماذج ترى فيها سلامة التطبيق لما أراده الله تبارك وتعالى وأراده الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ ففي معرض الاحتكام في كل أمر إلى الكتاب والسنة وعدم الالتفات إلى ما قد يعرض من الخواطر والهواجس رأينا الصحابة رضوان الله عليهم يتهمون آراءهم بجانب نصوص الكتاب والسنة ، وهم أعمق الأمة علماً وأبرها قلوباً ، وأبعدها عن الشيطان ، لذا كان عنوان الخيرية عندهم الاعتصام بالكتاب والسنة على الأحوال كلها والشؤون . وتقوى الله تعالى في السر والعلن . كتب كاتب لعمر رضي الله عنه بين يديه هذا ما أرى الله عمر. فقال : لا ، امحه واكتب : هذا ما رأى عمر) ونماذج ذلك كثيرة فيهم عليهم الرحمة والرضوان حيث يتهمون أنفسهم ويتعلقون بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، إلا ما كان من تلك الآراء المقبولة والاجتهادات في فهم القرآن وتدبره واستنباط الأحكام منه ومن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام .
نقول هذا في الوقت الذي سمعنا وما نزال نسمع عن أولئك الذين يحتكمون إلى الهوى باسم الأخذ عن الله " حدثني قلبي عن ربي " ولو عدنا إلى أولئك البررة الذين ازدان بهم تاريخ جهاد النفس وتزكيتها ، وحملها دائماً على الذكر والتقبل والزهادة في الدنيا .. لو عدنا إلى أولئك البررة .. لوجدناهم على الجادة التي سلكها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الاحتكام إلى الكتاب والسنة عند أي خاطر أو هاجس أو إلهام . حكى الجنيد عن أبي سليمان الداراني قال : (ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً ، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة) وينقل لنا الإمام ابن القيم عن أبي يزيد قوله لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به ، حتى تنظروا ، كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود) .
ذلك لأن ظهور هذه الأمور دون وقوف عند الأمر والنهي وحفظ الحدود هو ما يسميه علماؤنا بـ (الاستدراج) والعياذ بالله . وذلك أمكن لمكر الله ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . قال قائلهم :
إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج وبدعي
وما يروى عن أبي يزيد أيضاً (من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات ، وحضور الجنائز وعيادة المرضى ، وأدى بهذا الشأن ـ يعني طريق السالكين إلى الله ـ فهو مدع) ومعنى ذلك أنه مدع بلا دليل ، بل إن سلوكه يدل على نقيض ما يدعي . والإسلام ـ بحمد الله ـ لم يكن في يوم من الأيام آراء فلسفية تجريدية للتفكه العقلي ، يتحاور بها الناس ثم ينصرفون كل إلى عمله المناقض لم كان يقوله ويدافع عنه بالكلام وأحكام المقدمات والنتائج ، ولكنه إيمان وعمل وتواص بالحق وتواص بالصبر.
والمتقول عن الجنيد في هذا الباب قوله مذهبنا مقيد بالأصول ؛ بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ الكتاب ، ويكتب الحديث ، ويتفه ، لا يقتدى به).
والطريق إلى يقظة القلب وتذوقه لحلاوة الإيمان عند أبي بكر الدقاق هو الاستمساك بالأوامر واجتناب النواهي وإلا كان الحرمان والخسران قال رحمه الله من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن) وأوضح أن المراد من الباطن هنا ما كان بين العبد ومولاه من لذة القرب والرضا مما يتولد عن محبة الله عز وجل .
ترى أي داهية ألمت ببعض من يزعمون أنهم على هذا السنن ، حتى اتفقت العناوين ، واختلفت المضمونات والسلوك كان أولئك الذين نلمح إلى بعض آثارهم يسخرون من الشيطان ويقتحمونه بالاستقامة على حدود الشرع ، فأصبح هؤلاء يسخر منهم الشيطان بما له من سلطان عليهم أثمره الانحراف وعدم الالتزام بحدود الشرع .
جزى الله أصحاب النبي صلى الله عليهم وسلم وكل من سار على نهجهم النبوي وتبعهم بإحسان . اللهم جنبنا مزالق الشيطان والنفس والهوى ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله(/1)
بين الصفا والمروة
شعر / محمود محمّد كلزي
بين الصفا والمروةِ جمحت خيول iiمحبتي
هرولت أستبق الفؤاد، مضخماً iiباللهفةِ
هذي الجموع تسابقت للملتقى في نشوةِ
وتناثرت غرر الدعاء، بروحة iiوبغدوةِ
ترجو انعتاقاً من إسار الذنب بعد iiالتوبةِ
هرولت.. منعتقاً من الأصفاد تنقل خطوتي
أجري وقلبي خاشع يعنو لربّ iiالعزةِ
متبتلٌ يرتاد روضاً من رياض iiالجنةِ
ظمآن يرتشف الغمام.. يطل فوق iiالكعبةِ
ويطوف بالبيت العتيق على جفون iiالغيمةِ
* * ii*
سافرت مع سرب اليمام مسربلاً iiباللهفةِ
وعبرت صحراء من الأشواق تضرم مهجتي
خلفتُ خلفي غصة بين الفرات ودجلةِ
ورشفت من بردى فما انطفأت مجامر غلتي
إلا وهذي الروح مبحرة، تعلّ iiبنهلةِ
من زمزم.. وتضلعت هذا الضلوع بحرقةِ
من حوضه عبت مريئاً وارتقت iiللسدرةِ
خلفت ما عشق الورى من فتنةٍ.. من iiشهوةِ
وسبحت في دنيا من النفحات فوق iiاللذةِ
وتركت قلبي ساعياً بين الصفا iiوالمروةِ(/1)
بين الطبيب والمريض
الدكتور حسان شمسي باشا
مهنة الطب من أشرف المهن شريطة أن يمارس الطبيب مهنته بإخلاص وإتقان ، وأن يلتزم الطبيب بالخلق الكريم .
وعلى الطبيب أن يدرك أنه مهما بلغ علمه ، فإن أسرار الجسم البشري لا يزال أكثرها مغلقا ، ومازال الطب عاجزا عن إدراك العديد من تلك الأسرار .
ويعبر عن ذلك عنترة العبسي بقوله :
يقول لك الطبيب دواك عندي إذا ما جس كفك والذراعا
ولو عرف الطبيب دواء داء يرد الموت ما قاسى النزاعا
ولا يستطيع الطبيب ، مهما أوتي من علم وخبرات ، أن يدفع أمر الله إذا حل بالمريض . وكثير منا يعرف حالات مات فيها الطبيب قبل مريضه ، بل ربما مات بنفس المرض الذي كان يعالج مريضه منه . وفي ذلك يقول الشاعر :
إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع أمر قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبرئ منه فيما قد مضى
مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى
أعرف طبيبا كان يعمل معنا في المستشفى ، كتب في ملف مريضه أن مرضه خطير
وكان المريض مصابا بالسرطان - وأنه ربما لا يعيش أكثر من أشهر معدودات .
ولم تكد تمضي تلك الأشهر المعدودات حتى مات الطبيب بسرطان انتشر في جسمه ، ومرت سنوات وذاك المريض بخير وعافية . تأملت فيما كتب ذلك الطبيب وقلت :
يا سبحان الله !! وتذكرت قول الشاعر :
وكم من مريض نعاه الطبيب إلى نفسه وتولى كئيبا
فمات الطبيب وعاش المريض فأضحى إلى الناس ينعي الطبيبا
وتذكرت قول علي بن الجهم :
كم من عليل قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعود
والأعمار كلها بيد الله . ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) . ولا تعرف من يسبق إلى الموت : الطبيب أم المريض ؟!
ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي مذكرا بالاستعداد لذلك اليوم :
وقبلك داوى الطبيب المريض فعاش المريض ومات الطبيب
وكن مستعدا لدار الفناء فإن الذي هو آت قريب
فإذا ما سمع مريض من طبيبه أن حياته غدت قصيرة ، وأن أيامه أصبحت معدودات ـ فلا ييأسن ولا يقنط من رحمة الله . فما اطلع الطبيب على غيب ، ولا علم أن أحدا يموت غدا ، إنما هو تخمين الطبيب حسب المعطيات العلمية المتوفرة لديه .
الشفاء بيد الله :
أعجبني مثل بلجيكي يقول " الله يشفي والطبيب يؤجر " . والله تعالى يقول في محكم كتابه منذ أن خلق الخلق : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) .
ويذكر ابن نباته السعدي أن تناول الدواء لا يمنع قضاء الله ، فالشفاء بيد الله وحده :
نعلل بالدواء إذا مرضنا وهل يشفي من الموت الدواء ؟
ونختار الطبيب وهل طبيب يؤخر ما يقدمه القضاء ؟
وما أنفاسنا إلى حساب ولا حركاتنا إلا فناء
ويقول ابن مقلة :
يمنيني الطبيب شفاء عيني وهل غير الإله لها طبيب
ويؤكد الفرزدق ذلك المعنى بأن الشفاء بيد الله وحده لا بمن يعطيك الدواء :
يا طالب الطب من داء تخوفه إن الطبيب الذي أبلاك بالداء
فهو الطبيب الذي يرجى لعافية لا من يذيب لك الترياق بالماء
ولا شك أن كل إنسان ، كائنا من كان ، يلجأ في ساعات اليأس والشدائد إلى الله وحده . يقول الربيع بن خيثم :
فأصبحت لا أدعو طبيبا لطبه ولكنني أدعوك يا منزل القطر
ولا بد من الإشارة إلى أن على الطبيب أن يمنح المريض إحساسا بالأمل والرجاء ، وأن يبعث في نفسه الطمأنينة ، فإن ذلك يساعده على الشفاء من مرضه ، والطمأنينة والسكينة تقوي جهاز المناعة عند المريض ، وتشد من عزيمته ، وترفع معنوياته .
وحديثا صدر كتاب أمريكي للدكتور هربرت بنسون بعنوان Timeless healing يتحدث عن كيف أن الإيمان يقوي مناعة المريض ويقهر الأمراض .
والأطباء - كما يقول أخي وصديقي الدكتور زهير السباعي - يختلفون في تعاملهم مع المريض بمرض ميؤوس من شفائه ..
فهناك من يطمئن المريض ، ويفتح له طاقات الأمل ، ويرجيه بالشفاء ، وقد يكذب عليه أحيانا .
وهناك من يواجه مريضه بالحقيقة سافرة ، ويترك المريض يتفاعل مع الحدث ، على أمل أن يتغلب على المشكلة ويواجهها
وهناك من يداري ويواري ويتخلص من الموقف" .
يقول أبو العلاء ، وهو يسأل أحد الأطباء أن يتريث فلا يخبر المريض بقرب موته ، عسى الله أن يشفيه من مرضه :
نعى الطبيب إلى مضنى حشاشته مهلا طبيب فإن الله شافيه
أجرة الطبيب :
يستحق الطبيب - وكل صاحب مهنة - أجرة على عمله وخدماته . وقد حل الإسلام مسألة أجرة الطبيب حلا عادلا عظيما . قال تعالى : ( وإذا مرضت فهو يشفين )
فالشفاء بيد الله لا بيد الطبيب ، ولذلك فإن أجرة الطبيب على أساس ما يبذل من جهد لا على الشفاء ، لأن الشفاء خارج عن قدرته . ولو جعل الله الشفاء بيد الطبيب ، لما استطاع الإنسان أن يوفي للطبيب أجره ، بل لما استطاعت الحكومات ذلك ، لأن الإنسان لا يقدر بثمن . ولا يحق للطبيب أن يمن على المريض بالشفاء ، وفي ذلك رفع لكرامة المريض .
الأطباء والإيمان :(/1)
والحقيقة أن الأطباء من أكثر الناس اطلاعا على أسرار ذلك المخلوق الذي سخر الله له ما في الأرض جميعا ، ثم دعانا الله للتفكر في تلك الأسرار . قال تعالى :
( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )
ويعجب أبو العلاء المعري من إلحاد بعض الأطباء فيقول :
عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا
ويقول الطبيب الشاعر عزت شندي موسى في ديوانه " مع الله ورسوله " :
إن آمن العلماء كان طبيبهم هو أسرع العلماء للإيمان
فلقد رأى الإعجاز في الخلق الذي قد صور الخلاق في الحيوان
فالكبد يقظى حين أنك نائم وتبيت في عمل مع المصران
والعين تبصر في نظام معجز والمخ يعقل ما ترى العينان
والأذن تسمع في اتساق مذهل والعقل يفهم ما تعي الأذنان
فلتؤمنوا بالله ملء قلوبكم هل بعد هذا الكشف من برهان
ولعل من أبلغ القصص التي تروى في تأثير الإيمان على المريض قصة عروة بن الزبير
- وكان من أجل علماء المسلمين - لما أصر الأطباء على ضرورة قطع رجله بعد أن أصيب بمرض فيها . عرضوا عليه الخمر ليسكروه كي لا يحس بألم القطع فأبى ، وقال :
" إني سأدخل في ذكر الله ، فإذا رأيتموني استغرقت فيه فشأنكم بها .. وذكر الله ، فلما رأوه استغرق ، بدأت العملية ، وقطعوا اللحم بالسكين المحمى بالنار ( للتعقيم ) ، حتى إذا بلغوا العظم نشروه بالمنشار ، وهو يهلل ويكبر ، ثم حموا الزيت في مغارف الحديد ، حتى إذا غلى كووه بها فأغمي عليه . ولما أفاق الشيخ من غشيته ، رأى القدم في أيديهم، فأخذ يقلبها وهو يقول : أما والذي حملني عليك ، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط " .
مصارحة الطبيب :
وسواء كان المريض مصابا بمرض في جسده ، أو بهموم في نفسه ، فلا بد أن يشرح ذلك للطبيب . يقول المتنبي :
لا تكتمن داءك الطبيب ولا الصديق سرك المحجوبا
ويقول أبو تمام :
غير أن العليل ليس بمذمو م على شرح ما به للطبيب
ولعل البعض يفضل أن يبث شكواه إلى من أوقد النار في كبده . يقول الشاعر :
يا موقد النار إلهابا على كبدي إليك أشكو الذي بي لا إلى أحد
فهو الذي كان سبب الداء ، وهو المرجى للشفاء .
غلط الطبيب :
يرى بعض الفقهاء ألا يحاسب الطبيب على الخطأ إلا أن يكون فاحشا ، لا يجوز أن يقع من الطبيب أبدا . والمهم أن يثبت الخطأ باليقين لا بالظن ، وينبغي استشارة ذوي الخبرة في ذلك للتحقق من غلط الطبيب .
قال ابن الرومي :
غلط الطبيب علي غلطة مورد عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب ، وإنما غلط الطبيب إصابة الأقدار
وقال أحد الشعراء في نفس المعنى :
وإذا القضاء جرى بأمر نافذ غلط الطبيب وأخطأ التدبير
وقال صردر يوصي بألا يلام الطبيب إذا ما أدى واجبه ، فالموت داء لا دواء له :
نلوم الطبيب وما جرمه وداء المنية داء عقام
وحدوث الاختلاطات الجراحية أمر معروف في فن الجراحة . وهناك نسب محددة لكل اختلاط من الاختلاطات ، كالتهاب الجرح ، وعدم التحام الكسر ، وحدوث النزف بعد العملية وغير ذلك . ولكن البحتري يرى أن خياطة الجرح دون تنظيف أو تعقيم تفريط من الطبيب :
إذا ما الجرح رم على فساد تبين فيه تفريط الطبيب
نصائح الطبيب :
ومن الناس من لا يستمع إلى نصائح الطبيب ، فينغمس في شهواته من طعام وشراب ، وإذا السقام يقف له بالمرصاد . يقول الشاعر خلف بن فرج الشهير بالسمير - وهو من شعراء الأندلس - :
يا آكلا كل ما اشتهاه وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني فانتظر السقم من قريب
وقال ابن الرومي :
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وهذا عين الحقيقة ، فإن أكثر الأمراض انتشارا الآن سببها الطعام والشراب ، فكثرة الطعام والشراب سبب للبدانة ، والبدانة سبب لكثير من الأمراض كارتفاع ضغط الدم والسكري وغيرها . كما أن كثيرا من التهابات المعدة والأمعاء التي تحدث يوميا عند ملايين الناس في العالم سببه عادة تلوث في الطعام أو في الشراب .
ويسخر المتنبي من الطبيب الذي يرجع مرضه للشراب والطعام ، ولا يدري أن تحديد الإقامة الذي فرض عليه هو الذي أضر بجسمه وأوهنه :
يقول لي الطبيب أكلت شيئا وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام
والحقيقة أن ألذ الطعام من لحوم وحلويات ومقبلات غنية بالدهون والكولسترول ، فالإفراط فيها يزيد من كولسترول الدم ، وقد يؤدي إلى تصلب الشرايين وتضيق شرايين القلب التاجية . يقول الشريف الرضي :
فوا عجبا للمرض والداء خلفه ومن حوله الأقدار والموت أمه
يسر بماضي يومه وهو حتفه ويلتذ ما يغذى به وهو سمه
ولكن البعض يرفض الامتثال لأوامر الطبيب ونصائحه بالامتناع عن بعض أنواع الطعام، يقول أبو طالب المأموني وقد أصابه الاستسقاء :
فاحجبوا عني الطبيب وقولوا أنا بالطب والطبيب كفور
هات أين الكباب ؟ أين القلايا أين رخص الشواء أين القدير
أنا لا أترك التديخ ولا البـ ـطيخ والتين أو يكون النشور(/2)
وللأسف فقد مات هذا الشاعر قبل أن يبلغ الأربعين من العمر كما يذكر الزركلي في الأعلام .
مرض الأطباء :
والأطباء يمرضون كما يمرض الآخرون ، والحقيقة أن المرض كثيرا ما يكون أشد وطأة على الطبيب ، فهو أعلم بمصائب الأمراض وما تؤول إليه الأمور . وقد لا يحتمل البعض منهم الألم البسيط . فهذا الرئيس ابن سينا ، وقد أصيب بالزكام ، وهو في عرف الأطباء من الأمراض البسيطة ، ومع ذلك تراه يشكو الأمرين ، حتى كتب في ذلك شعرا قال فيه
ونزلة كنت أحمي وجه موردها ففاجأتني على ضرب من الحمر
سدت علي طريق الروح منتشقا وأسلمتني لأيدي الروع والحذر
ففي شؤوني حريق من تلهبه وفي الخياشيم ضيق محصد المرر
وهنا يعجز " إمام الأطباء " في علاج هذا المرض البسيط ، فلا يفيد في ذلك دواء،فيقول:
لا الفصد يغني ولاماء الشعير ولا طول احتماء إذا ما هم بالدرر
وأخيرا يسلم أمره لله ، ويحمده أنه لم يصب بما هو أشد منه :
فالحمد لله حمدا لا كفاء له على السلامة وقاها من الغير
* * *(/3)
بين العاطفة والتدين محمد الحبر يوسف*
يظن كثير من الناس أن جمود العاطفة وقسوة الطبع دليل على اكتمال الرجولة والدين ويتصورون أن المسلم الكامل رجل له قلب حديد لا يرق لفراق حبيب أو يبكي لموت عزيز على حد قول الآخر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد... .. لنحن أغلظ أكبادا من الإبل!
وأذكر أن الوالد حفظه الله لما احتسب ابنته أميرة وهي بنت ثلاث بكاها بكاء مرا فقالت له إحدى النساء حتى أنت يا فلان تبكي ، فقال قي مرثيته :
قالت أتبكي يا فلان وما درت ...أن الفؤاد ممزق يتخدد
ماذا علي إذا بكيت وإنني ...لك يا (أميرة) واجم أستنجد
ولقد بكيت وما اشتفيت وإنني ...بك يا (أميرة) واجد أتجلد
أبدي التجلد تارة فيخونني جلدي .....فأسفح عبرة تتوقد
إن قلت أصبر طالعتني بسمة ....من طيف وجهك بالبراءة تشهد
أو قلت أسلو يا( أميرة) زارني .....نغم تسامى في الهوا يتردد
والحق أن الشعور الرقيق والعاطفة الجياشة والحس المرهف خصال تنتعش في ظلال التدين الصحيح ، فعلاقة المسلم بربه لا تقوم إلا على عاطفة صادقة ومحبة خالصة ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) الحديث ، فالمسلم يتقرب إلى الله ويتودد إليه ويقف بساحته وهو مفعم بشعور المحبة لله والرغبة في طاعته ، بل لا يجد الصالحون أنسهم إلا في ذكر الله ( وجعلت قرة عيني في الصلاة) وقد كان من أسلافنا من يقول( إنه لتمر علي لحظات يرقص فيها قلبي طربا من ذكر الله فأقول لو أن أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب) وربما انقلب هذا الطرب إلى حزن عميق وحرج وضيق إذا أحس هذا القلب المرهف بالتقصير في جنب الله ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله تواب رحيم ) ويبلغ الشعور الرقيق مبلغا يحمل صاحبه على الحزن لا بسبب التقصير في حق الله ولكن بسبب العجز عن التنافس في طاعة الله ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون)
وإذا كانت العاطفة ترقق القلوب ، فإن العلم واتساع العقل لا يأتي -كما يتصور فريق من الناس - خصما على هذه العاطفة بل يزيد من نداوتها ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن أثر المعرفة –سواء كان مصدرها الوحي أو الكون – على القلوب والمشاعر فقال سبحانه عن وفد أهل نجران( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) وقال ( قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمعفولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) وفي سورة فاطر حديث عن آيات الله الكونية التي تورث المعرفة بها القلوب خشية لله وخشوعا لعظمته( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وهذه الآيات وأمثالها في القرآن تدل على أن الإيمان الصحيح يحول المعرفة في حس المسلم من قضية نظرية مجردة إلى شعور نفسي غامر يهلب العواطف ويحرك القلوب (الذين يذكرون الله قياما وقعودا ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) ومن هنا كان الدين قرين العاطفة فكلما زاد الدين في القلب ربت العاطفة وأنبتت من كل زوج بهيج، أما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية) ؟ أما أعلمنا الله أن آية التدين الصحيح قلب يحنو على بائس ويرق ليتم ويرحم الأرملة والمسكين قال تعالى ( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين )(/1)
فالقلب الرحيم قريب من الله قريب من الناس ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ولما كان قلب النبي صلى الله عليه وسلم أرحم القلوب وأبعدها عن الغلظة والفظاظة تعلقت النفوس بحبه وعمرت المجالس بذكره وسارت القصائد بمدحه، وقد نقلت لنا كتب السيرة مواقف حاشدة تجلت فيها آثار رحمة النبي صلى الله عليه وسلم الحانية وعاطفته المشبوبة التي وسعت الناس والطير والدواب فعن عبد الله بن مسعود قال( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق لحاجته فرأينا حمرة (طائر صغير) معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (ترفرف بأجنحتها)فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها)
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم عراة مجتابي النمار (ثيابهم ممزقة) متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر( أي تغير) وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره حتى قال بشق تمرة فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ) الحديث رواه مسلم هذه هي العاطفة التي يبعثها الدين في القلوب، عاطفة ترى البؤس على الوجه فترق وترى الخير يتنزل فتهش له و تتهلل، ولا تقف عاطفة المسلم عند حد المشاعر النفسية ولكن تتحول كما رأينا في الحديث إلى عمل إيجابي ينمي الخير ويدفع البؤس.
وخلاصة القول أن العاطفة فطرة مركوزة في النفوس، فالإنسان بطبعه يحن ويألف ويرتبط بما حوله من أشياء وتعتلج في صدره المواقف والذكريات، والإسلام لا يتنكر لطبيعة الإنسان وفطرته، ولا يحول بينه وبين التعبير الصحيح عن هذه العواطف وقد حزن نبينا صلى الله عليه وسلم لموت ولده إبراهيم وقال (إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب) و سمع عليه الصلاة والسلام وصف مكة من ( أصيل ) فجرى دمعه حنينا إليها وقال يا أصيل دع القلوب تقر. وكان بلال رضي الله عنه ينشد في المدينة - دار الهجرة- أبياتا يذكر فيها مكة ويعلن بصوت جهير شوقه إليها دون أن ينكر عليه أحد :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ....بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ...وهل يبدون لي شامة وطفيل
هذا وفي دواوين العرب شعر كثير متعدد المنازع والمشارب ينبئ عن ذوق رفيع وعواطف جياشة وكان الأدب الإسلامي حاضرا في هذه الدواوين ولعل من جميل ما قرأته في كتاب صفحات من صبر العلماء للشيخ العلامة المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله أبيات لأبي علي القالي الإمام الذي ألجأته الظروف إلى أن يبيع كتبه التي نسخها بيده فقال هذه المقطوعة التي تسيل رقة :
أنست بها عشرين حولا وبعتها ...لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ....ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ....صغار عليه تستهل شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي ...مقالة مكوي الفؤاد حزيني
قد تخرج الحاجات يا أم مالك .....كرائم من رب بهن ضنين
و للشاعر المسلم المعاصر عمر بهاء الدين الأميري قصيدة مطلعها
( أين الضجيج العذب والشغب؟ … أين التدارس شابه اللعب؟ ) وفيها يصور سفر أولاده الصغار إلى حلب وما أثار في نفسه من عواطف فكان مما قال :
دمعي الذي كتمته جلدا …. لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا …من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفة ....فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذال من رجل… يبكي وإن لم أبك فالعجب
هيهات ما كل البكا خور ...إني وبي عزم الرجال أب(/2)
بين العمل المؤسسي والعمل الفردي
لم يعد اليوم مجالاً للنزاع -في الساحة الفكرية على الأقل- أن العمل المؤسسي خير وأولى من العمل الفردي الذي لايزال مرضاً من أمراض التخلف الحضاري عند مجتمعات المسلمين، وقد يرث الدعاة إلى الله شيئاً من هذه الأمراض من مجتمعاتهم باعتبارهم نتاجاً لها، ومن ثم فأنت تجد عناصر منتجة في المستوى الفردي أكثر مما تجدها ضمن أولئك الذين يجيدون العمل الجماعي، وكثير من الأعمال التي تصنف أنها ناجحة في الميدان الإسلامي وراءها أفراد.
إن العمل المؤسسي يمتاز بمزايا عدة على العمل الفردي منها:
1- أنه يحقق صفة التعاون والجماعية التي حث عليها القرآن الكريم والسنة النبوية ((وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان))، وقوله صلى الله عليه و سلم :«يد الله مع الجماعة»([1])، وقوله صلى الله عليه و سلم:«إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ([2]).
والعبادات الإسلامية تؤكد على معنى الجماعية والتعاون، كل ذلك يبعث رسالة للأمة مفادها أن الجماعة هي الأصل.
2- عدم الاصطباغ بصبغة الأفراد؛ ذلك أن العمل الفردي تظهر فيه بصمات صاحبه واضحة؛ فضعفه في جانب من الجوانب، أو غلوه في آخر، أو إهماله في ثالث لابد أن ينعكس على العمل، وقد يقبل بقدر من الضعف والقصور في فرد باعتبار أن الكمال عزيز، والبشرية صفة ملازمة للعمل البشري، لكن لايقبل المستوى نفسه من القصور في العمل الجماعي المؤسسي، وإن كان لابد فيه أيضاً من قصور، فقد يقبل من مصلح وداعية معين أن يكون لديه قصور وضعف في الجانب السياسي أو الاقتصادي مثلاً باعتبار أن الفرد لايمكنه الإحاطه بكل ذلك، لكن ذلك لايقبل من مؤسسة دعوية بأكملها، إذ هي قادرة على تحقيق هذا التكامل من خلال مجموع أفرادها.
3- الاستقرار النسبي للعمل، أما العمل الفردي فيتغير بتغير اقتناعات الأفراد، ويتغير بذهاب قائد ومجيء آخر، يتغير ضعفاً وقوة، أو مضموناً واتجاهاً.
4- يمتاز العمل بالمؤسسي بالقرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية، ذلك أن جو المناقشة والحوار الذي يسود العمل المؤسسي يفرض على أصحابه أن تكون لديهم معايير محددة وموضوعية للقرارات، وهذه الموضوعية تنمو مع نمو النقاشات والحوارات، أما العمل الفردي فمرده قناعة القائم بالعمل .
5- العمل المؤسسي أكثر وسطية من العمل الفردي؛ إذ هو يجمع بين كافة الطاقات والقدرات، والتي تتفاوت في اتجاهاتها وآرائها الفكرية مما يساهم في اتجاه الرأي نحو التوسط غالباً، أما العمل الفردي فهو نتاج رأي فرد وتوجه فرد، وحين يتوسط في أمر يتطرف في آخر.
6- الاستفادة من كافة الطاقات والقدرات البشرية المتاحة، فهي في العمل الفردي مجرد أدوات للتنفيذ، تنتظر الإشارة والرأي المحدد من فلان، أما في العمل المؤسسي فهي طاقات تعمل وتبتكر وتسهم في صنع القرار.
7- العمل المؤسسي هو العمل الذي يتناسب مع تحديات الواقع اليوم، فالأعداء الذين يواجهون الدين يواجهونه من خلال عمل مؤسسي منظم، تدعمه مراكز أبحاث وجهات اتخاذ قرار متقدمة، فهل يمكن أن يواجه هذا الكيد بجهود فردية؟
بل إن العمل التجاري الناجح اليوم هو العمل المؤسسي أكثر من العمل الفردي.
كل ما سبق يؤكد على قيمة العمل المؤسسي، وضرورة ممارسته وتجاوز الفرديات، وهذا لايعني بالضرورة أن العمل المؤسسي معصوم من الخطأ والخلل، لكن فرص نجاحه أكثر من العمل الفردي، واحتمال الخلل في العمل الفردي أكثر منه في العمل المؤسسي.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه الترمذي (2166) وصححه الأباني في صحيح الجامع.
([2]) رواه البخاري (481) ومسلم (2585)(/1)
بين المصالح الشخصية ومصالح الدعوة
لاشك أن مراعاة المصالح الشرعية أمر جاء به الدين بل" إن الله بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"([1]) ، وحيث أن الدعوة تتعامل مع قضايا المجتمع فهي لاتنفك عن ارتباطها بالمصالح العامة للناس.
فأحياناً تصبح الدعوة إلى أمر من الأمور خلافاً للمصلحة، وقد يكون من المصلحة أن لاتقال هذه الكلمة، وألا يقف الدعاة هذا الموقف، فقد ترك النبي صلى الله عليه و سلم هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم مراعاة للمصلحة فعن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لها:"ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبدالله -رضي الله عنه- لئن كانت عائشة -رضي الله عنها- سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم([2]).
إلا أنه قد تدخل عوامل شخصية ذاتية، ويخلط بعض الناس بين مصالح الدعوة ومصالحه الشخصية.
فقد يشعر الداعية أن قيامه بهذا الأمر لايحقق المصلحة، أو أنه يفوت بعض المكاسب، لكنه ينسى في غمرة الأحداث، وسيطرة مطالب النفس ورغباتها أن هذه المصالح لاتعدو أن تكون شخصية، أو أن مافات لايعدو أن يكون مكاسب دنيوية.
إن من سنة الله تبارك وتعالى في الدعوات أن تحتاج لتضحيات، وأن تترتب عليها تبعات، وأن يضحي صاحبها وتفوته مكاسب كان يؤمل فيها، فهل هذا من المصالح التي يجب أن يراعيها الداعية؟ أم أنها من المصالح الشخصية؟
إن من يقرأ كتاب الله يرى ما واجه الأنبياء والمصلحين من أقوامهم، ويرى ما بذلوه من جهد وماقدموه من تضحيات فيدرك أنها سنة قائمة لمن سار على هذا الطريق.
وفرق بين أن يسوغ للإنسان ترك الأمر والنهي في موقف معين، وبين أن يكون هذا هو المصلحة الشخصية.
وقل مثل ذلك في المكاسب الشخصية، فقد يجيِّر الداعية مكاسبه الشخصية ومصالحه للدعوة؛ فيرى أن حصوله على شهادة، أو توليه لوظيفة مرموقه، أو تحسن أوضاعه الاقتصادية مصلحة دعوية لا يسوغ التفريط فيها، فالدعاة –عند صاحبنا-يجب أن يتميزوا في مستوى تعليمهم، ومظاهرهم، ووظائفهم.
نعم: إن ذلك مطلوب، لكن حين ترى ذاك النموذج من الناس الذي يستميت وراء تحقيق هذه المكاسب الشخصية ويسعى إليها ويبذل الجهد والوقت من أجلها، وهو لايبذل لدعوته معشار مايبذله لتحقيق هذه المكاسب الشخصية -تدرك أنه حين يحصل على هذه المكاسب فليس بالضرورة سيقدم المفيد لدعوته.
وكم هم الناس الذين دخلوا في ميادين التجارة وطلب المال بحجة أن الداعية يجب أن يستقل في مصدر رزقه، وألا يعتمد على غيره، وأخيراً حين انفتحت له أبواب الدنيا استقال من الدعوة وولاها ظهره وأقبل على دنياه.
ورحم الله الإمام الشاطبي حين قال :"المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لامن حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية"([3])
وقال أيضاً:"ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لامن حيث أهواء النفوس"([4])
إن استحضار التقوى والتجرد لله تبارك وتعالى، وسؤاله التوفيق والإخلاص، والتوقف ومراجعة النفس عند كل خطوة، إضافة إلى التجرد من حب الدنيا والتعلق بها كل ذلك مما يعين المرء على تجاوز هذه المهالك.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) الفتاوى (13/96)
([2]) رواه البخاري (1583) ومسلم (1333)
([3]) الموافقات (2/29)
([4]) الموافقات (2/30)(/1)
بين المنهج والرموز
تمتاز الدعوة السلفية بين سائر الدعوات بأنها دعوة لاتتمحور حول شخص من الأشخاص، بل تتمحور حول المنهج المستقى من الكتاب والسنة الصحيحة وآثار السلف الصالح، ولهذا عرَّف الإمام مالك أهل السنة بأنهم: الذين ليس لهم لقب إلا أهل السنة.
بخلاف سائر الطوائف فكثير منها تعلو درجة ارتباطها بالشخص لدرجة أن يرتبط اسمها باسمه فتنسب إليه، ويعتقد بعضهم العصمة في شيوخهم وأئمتهم، وأن الراد على الشيخ كالراد على الله، وأن التلميذ يجب أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي من يغسله، أما أهل السنة فمامن بشر إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا محمد صلى الله عليه و سلم، ومع ذلك لهم أئمة منزلتهم ومكانتهم ليست كغيرهم، ولأقوالهم وتقريراتهم قيمة وقدر، ومنهم من هو كما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم أنه « على رأس كل مائة سنة يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها».
وثمة هفوات تصيب بعض الأخيار من أهل السنة تجاه هذا القضية قد تخدش صفاء المنهج، وقد تطول فتؤذن بنوع من التعصب المقيت المشين.
1 - فمن ذلك أن يربط الناس بالرجال، وأن يكون الحديث دائماً حول منهجهم أكثر من الحديث حول نصوص الوحيين، وأن تكون المخالفة لرأي أحدهم أشد وأشنع من المخالفة لنصوص الوحي الصريحة، أحد الأفاضل كان يتحدث عن ضرورة ارتباط الدعاة إلى الله بمنهج فلان من المجددين وأساليبه، فعقب أحد الحضور بأن الأولى ربط الناس بمنهج النبي صلى الله عليه و سلم، فاستدرك آخر على المعقِب -بعد أن وصمه بألقاب لاتليق- بأنه مامن وسيلة استخدمها النبي صلى الله عليه و سلم إلا واستخدمها هذا المصلح المجدد!. وهب أن ذلك حق أفليس الأصل الاقتداء بالمعصوم صلى الله عليه و سلم؟
2 - قد سلك دعاة الضلالة في سبيل الحرب على أهل السنة وصم دعاتهم بالسوء والانحراف ولبسوا في ذلك على العامة، فما أن يسمعوا اسم فلان إلا ويعني لديهم الانحراف، وإزاء هذه الظاهرة كان لابد من منهج أسلم في التعامل معها:
أ - فلا داعي لإقامة معارك مع العامة حول شخص فلان، خاصة حين نعلم أن ذلك سيصطدم معهم باقتناعات راسخة قد يصعب تغييرها، فلم لانجعل قضيتنا الكبرى معهم هي قضية المنهج، هي قضية نصوص الوحيين؟ وهب أنهم تركوا الضلال والبدعة وماتوا وهم يسيئون الظن بفلان من علماء المسلمين لأنه لُبِّسَ عليهم شأنه وأمره فالخطب حينها أيسر من الموت على الضلالة والبدعة.
ب -ولماذا الإصرار على ربط الدعوة بهؤلاء من خلال التركيز على توزيع كتبهم وترديد أسمائهم، أو تسمية المشاريع والمدارس بها؟ فتقيم الدعوة ابتداء حاجزاً بينها وبين الناس، ألا يمكن لدعاة السلفية أن يكتبوا كتابة جديدة للناس تخاطبهم بنصوص الوحيين التي لايجروء أحد على رفضها؟ وذلك كله ليس رغبة في تجاوزهم وإنكار فضلهم، إنما لسلوك أفضل سبيل لإنقاذ الناس من الضلال.
3 - الإمامة لاتستلزم العصمة عند أهل السنة، فقد يستدل هذا الإمام الجليل بحديث ضعيف، أو يستشهد برواية باطلة، أو يقرر رأياً مرجوحاً في مسألة ما، فهل من حرج في الاستدراك عليه وبيان خطأ اجتهاده؟ وهب أن أحداً اجتهد فبين خطأه في مسألة من المسائل ورأينا أن في ذلك فتح باب للطعن وإساءة الظن أيعالج هذا الخطأ بخطأ آخر فنكابر في السعي لتصحيح حديث أو ترجيح قول ضعيف لمجرد أن فلاناً قال به؟
مرة أخرى: الأئمة والمجددون لهم قميتهم ومكانتهم، ولاينبغي الحط منهم وتجرءة صغار الطلبة على انتقادهم، لكن هذا كله لاينبغي أن ينسينا أنهم بشر ليسوا معصومين، وأن الإمامة الأساس هي للوحيين وأن أهل السنة هم : من كانوا على مثل ماكان عليه محمد صلى الله عليه و سلم وأصحابه، لا من كانوا أتباعاً لفلان من الناس.(/1)
بين النبي والقرآن
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
لما تنقص بعض أهل الجهل النبي _صلى الله عليه وسلم_ ثارت ثائرة المسلمين، ولعله من أعظم مظاهر اتفاقهم اتفاق كلمتهم على إنكار تلك الجريمة التي تتعدى حدود الحريات لتدخل ضمن نطاق التعدي على الرسل _صلوات الله وسلامه عليهم_ وتبعاً لهم أتباعهم، وردة الفعل تجاه هذا الحدث تدل على أن الأمة لا تزال بخير، وأن اتفاقها على القضايا الكبرى جدير بأن يسعى إليه ويؤمل.
ولعل مما لفت أنظار البعض هو أن العالم الإسلامي لم يتحرك يوم امتهن بعضهم القرآن تحركه لنصرة نبيه _عليه الصلاة والسلام_، وقد سألني بعضهم أيهما أعظم حرمة وأجدر بالانتصار المصحف، أم النبي _صلى الله عليه وسلم_.
ولا شك أن كلاً منهما حرمته عظيمة، ومكانته رفيعة، فمن تنقص النبي _صلى الله عليه وسلم_ وطعن فيه فقد تنقص مرسله عز وجل، ومن تنقص المصحف أو امتهنه فقد تنقص من تكلم به سبحانه وتعالى، إلاّ أن النبي الكريم _صلى الله عليه وسلم_ تتعلق بتنقصه حقوق، لا تتعلق بامتهان المصحف.
فسابه _عليه الصلاة والسلام_ يقتل ولا تقبل له توبة إن كان مسلماً وفي ترك قتل من سبه ثم أسلم من الكفار خلاف.
فهذا سبب من أسباب تعظيم المسلمين لحدث استهزاء الصحيفة الدنماركية بالنبي الكرم _صلى الله عليه وسلم_.
ومن الأسباب كذلك هو أن من امتهنوا المصحف ثلة أنكرت دولهم الحدث، وتبرأت منه، ووصفته بأنه فردي، بخلاف حكومة الدنمارك التي تعجرف رئيسها ورفض لقاء السفراء الذين طلب لقاءهم رغماً عنه بعد، وزعم أن صنيع الصحيفة يسعه مجال الحريات.
كما أن من امتهنوا المصحف دعا كثير من الناس أنفاً لمقاطعتهم فالدعوة إليها تحصيل حاصل.
وعلى كل حال فإن تنقص الرسول الكريم _صلى الله عليه وسلم_ والسخرية منه، جرم عظيم، فالطعن في النبي طعن في القرآن الذي بلغه، وطعن في الله الذي أرسله، وطعن في أصحابه ومن تابعه.
وهذا ما كان ينبغي أن تتفطن إليه الحكومة الدنماركية قبل أن تقف موقف الباطل مسوغة له مدافعة عنه.
هذا والله أسأل أن ينتصر لرسوله ولكتابه، وأن يشف صدور قوم مؤمنين، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
بين النهج والتخطيط وبين الشعار!
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
من الحقائق المسلم بها وجود أخطاء في واقع المسلمين، ووجود خلل كان له أكبر الأثر فيما حلَّ بنا من تفسُّخٍ وهوانٍ وهزائم. تطلع الصحف بين حين وآخر تحمل مقالة لهذا الكاتب أو ذاك يعرض بعض ما تعانيه مدرسته من خلل واضطراب وانحراف، حتى أصبح ذلك عادة نتوقَّعها في خضمِّ الأحداث الهائجة المائجة.
نعم ! لقد كثر عرض الأخطاء عرضاً سليماً أو عرضاً فيه ظنون. ولم نجد أن الأمر تجاوز العرض والتفصيل فيه أو الإيجاز، ولم نجد أن العرض حمل نهجاً لمعالجة ما يبيِّن من عِللٍ وأمراض.
لقد قدّمتُ كتاباً يوجز أهم مظاهر الخلل في الساحة الإسلامية دون أن أَحصر ذلك في فئة أو منطقة. وشمل الكتاب كذلك موجزاً للنهج الذي أرى فيه معالجة لمظاهر الخلل والأمراض، وذلك بعنوان :
" واقع المسلمين أمراض وعلاج "
من الظواهر البارزة في واقع المسلمين اليوم أنّ كثيرين لا يحبّون أن يعترفوا بأخطائهم، أو لا يحبون أن يعرفوا أخطاءهم، ولا يحبّون أن يُنصحوا، بل يحبّون أن يُحمدوا ولو بغير حق. كثيرون أولئك الذين يستكبرون على النصيحة وعلى كل محاولة للتذكير، وعلى كلّ محاولة للعلاج.
من أصعب القضايا التي واجهتُها في ميدان تربية الناشئة وتدريبهم قضية معالجة الخطأ. قلما تجد من يُسْرع فيعترف بخطئه ويعتذر ويستغفر الله ويتوب إليه. قلّما تجد من يفعل ذلك. ولكن أكثر الناس يُسْرعون في تسويغ أخطائهم وتزيينها، ويتناسون الآيات والأحاديث في حُمَّى الجدال المقيت، الجدال القاتل للجهد والوقت، الجدال الذي يحضره الشيطان فيزيّن ويثير حتى يقع الطرفان أو أحدهما في الإثم. إن التدريب على هذا الموضوع، مثل غيره من الموضوعات، يجب أن يتم في البيت أولاً، ثم المدرسة والمعهد، ثم الدعوة وسائر المؤسسات.
الميزان واضح، والخطأ بموجب الميزان واضح، والنهي عن الجدل ثابت ومقرر في الآيات والأحاديث، ومع ذلك كُلِّه ينفخ الشيطان في النفوس حتى تستكبر، فلا هي تُقِرُّ بالخطأ، ولا هي تعين على معالجته. وتمتدُّ الأيام والسنون والأخطاء تتراكم، وتُخفَى عن الأعين، وتطوى وتكمُّ الأفواه ! حتى تأتي لحظة ينفجر فيها أحدهم فيُفلت الزمام من يده، ويدوِّي بالأخطاء، بما صحَّ منها وبما لم يصحّ، وتنلقَّف بعض المصادر والصحف أو المجلات مثل ذلك، فتذيعه بأسلوب قد يُشْعِل أُوار الخلاف. وبين هذا وذاك لا ترى دراسات إِيمانية جادّة.
دعوتُ إلى ما أسميتُه " الوقفة الإيمانيّة " في كلمة نشرتها مجلة الأمة القطرية قبل أكثر من ثلاثين سنة. وقدمتُ بعض الدراسات عن نواحي الخلل إِلى من يعنيهم الأمر. وانتقلتُ بصمت وهدوء من مكان إلى مكان لأنصح قدر جهدي دون دوىٍّ إعلامي. بعضهم يُقرّون بصحة ما أُقدّم، ثم يتساءلون : " ولكن ما العمل ؟ ! ". ثم يُنكرون أيّ مُحاولة للعلاج، أو يقاومونها، وبعضهم يَغيبون في القيل والقال ويطلقُونَ الظنون والجدال دون الوصول إلى أيّ نتيجة إلا زيادة الخلافات.
لا شك أن هنالك أصابع يحرّكها الشيطان اندسَّت بين صفوف المسلمين لتفسد ولا تصلح، في جوّ فيه قليل من العلم، وفيه ضعفٌ في الإيمان وجهل بالواقع، مما يفتح ثغرات للمفسدين ليتسلّلوا.
إنّ من أَهم الوسائل التي قد يتخفّى بها المفسدون ويُسْتَدرج بها المسلمون دويُّ الشعارات دويّاً يُعطِّل التفكير، ويثير العواطف، ويُغْفِل النهج والتخطيط، والدراسة والبحثَ، وردَّ الأُمور إلى منهاج الله.
لقد كان لدويّ الشعارات أثرٌ خطيرٌ في كثير من قضايانا. تدويّ الشعارات وهي تُعْلِن الهدف المرجوَّ، ثم تمضي السنون فإذا المسيرة في اتجاه، والهدف المرجوُّ في اتجاه آخر، وتظهر هذه الصورة من التناقض جليّة، فيزداد دويُّ الشعارات حتى تُخفَى الصورةُ الجليّة، ويمضي دويّ الشعارات، شعاراً بعد شعار , وتُخْفَى المأساةُ حيناً إلى أن يشاء الله.
إنّ دويَّ الشعارات الخالية من أيِّ نهج هو ملجأُ المفلسين الذين فاجأتهم الهزائم، وانكشفت العورات، حتى وجدوا في الشعارات ودويِّها ستاراً يستر وغطاءً يُخفي الحقيقة عن أعين الناس. ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما يُخفَى وما يُعلن.
والناس بصورة عامة يُسرعون إِلى قبول الشعار وحده، والتصفيق له، والجري وراءه، دون أن يسألوا أين النهج وأَين الدرب الذي يوصل إِلى الهدف المعلن، وما هي الوسائل والأساليب، وأين العدّة والإعداد ؟ ! ودون أن يسألوا أين جوهر الإيمان والتوحيد، وأين ممارسة الآيات والأحاديث ؟ ! حتى تفاجئهم الأحداث!
هذه نفسيّة " الجماهير " عبر الزمن، ولكن هذا لا يُعفي الجماهير من الحساب بين يدي الله. ولا يُعفي أحداً من المسؤولية والحِسَاب يوم القيامة، كلّنا مسؤولون ومحاسبون، والحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة للتوبة والأوبة، وللاستغفار والإنابة.(/1)
دويُّ الشِّعارات الخالية من النهج والتخطيط أرهق الأُمة، ودفعها إلى انتكاسات بعد انتكاسات، ومأساة بعد مأساة، وادعاء النصر مع الهزيمة، وخاصة في قضايانا العامة السياسية وغيرها.
ولا أزال أعيد وأؤكد الموعظة التي أُردّدها مع كل مناسبة، تلك هي :
" أنه إذا التقى فريقان، فريق له نهجه وخطته وإعداده، وفريق لا نهج له ولا خُطَّة ولا إعداد، فإِنَّ الفريق الأول يستطيع أن يحوّل جهود الفريق الثاني لصالحه، ويبقى الفريق الثاني مع بذله لم يجن شيئاً. "
والغريب العجيب أننا مع كثرة الأحداث، والمواعظ التي تحملها الأحداث، مازلنا نمضي على نفس الأُسْلوب من الارتجال والعفويّة، ومن عدم التبيّن ومن اعتماد الظنّ المنهيّ عنه، ومن عدم توافر الدراسات العميقة، كأَنَّنا لا نستفيد من الأحداث والتجارب، ولا من آيات الله البيّنات وسننه فيها.
فَلْيقِف المسلم المؤمن الصادق مع ربّه ومع نفسه، فَليَقف اليوم يستعيد أهم الأحداث والقضايا، ولْيُحاولْ أن يتلمَّس أَين الخُطَّة وأَين النَّهج الذي سارت عليه تلك الأحداث والقضايا ! فَلْيَقف المسلمُ اليوم يسترجع الأحداث حدثاً حدثاً ولْينظرْ إلى أيِّ نتيجة آلت إليه الأحداث.
وقد يتساءل بعضهم ما معنى النهج والخُطة ؟ ! ما هو التخطيط ؟ ! أليس الذي يجري هو التخطيط ؟ ! ذلك أن كثيراً من الناس لا يدركون ما هو التخطيط ولا ما هو النهج، في الوقت الذي أصبح فيه النهج والتخطيط علماً، وقبل ذلك هو واضح في الكتاب والسنة وسيرة النبوّة الخاتمة وسيرة الخلفاء الراشدين.
في إحدى تنقّلاتي في أرض الله الواسعة لأبيّن بعض ما أراه من خلل وعيوب، وما أراه من الارتجال والشعارات، وما أعتقده من علاج وإِصلاح، أخذتُ أشرح أهميّة التخطيط وضرورته وخطر غيابه. كنت أشرح ذلك لقائد موجّه داعية ! وفي وسط الحديث فاجأني بسؤال فقال : تكثر من ذكر التخطيط والنهج وضرورته، فما المقصود بالتخطيط وكيف يكون ذلك ؟ ! ظننته أول الأمر مازحاً، ولكن وجهه كان يدلُّ على جدية سؤاله، وعلى حقيقة جهله للتخطيط ! فتمالكتُ نفسي وقلت له : التخطيط تجريه أنت في كل أمر يُهمُّك في دنياك. إنك لو أردت السفر من هذه المدينة إلى تلك، فإنك تُحدِّد أولاً هدف السفر وغايته، ثم تحدّد وسيلة تحقيقه بالطائرة أم القطار أم السيارة. ثم تحدّد الوقت المناسب، ثم تحدّد الحاجات الضرورية للسفر من نفقات وأوراق وكتب، ثم تحدّد المدّة التي تقضيها ولو بصورة مبدئية. وإن كنت مؤمناً صادقاً واعياً لقواعد الإيمان فإنك تخلص نيّتك في سفرك لله، لتتأكد أن سفرك عمل صالح لا فساد فيه، وتردّه إلى منهاج الله لتطمئن أنه لا يخرج عن منهاج الله وأنه ملتزم لقواعده. ثم تحاسب نفسك أثناء السفر وتتفقَّد كل أمورك، ثم تقوِّم عملك عند عودتك.
هذا التصوّر يجب أن يرافق عمل المؤمن كله، وعملك يا أيها المسلم، حتى تكون أوفيت بعهدك مع الله. هذا التصور يجب أن يكون نهج أمة، ونهج دعوة، ونهج داعية. وهذا أمر يحتاج إلى التدريب عليه ودراسته علماً يحتاجه كل من ينزل ميدان الحياة. وهذه مسؤوليّة الدعوة الإِسلامية أن تدرّب أبناءها على النهج والتخطيط، وعلى الإِدارة والتنظيم، وعلى محاسبة النفس والتقويم. ثمّ سألته ألم تدرسْ ذلك في دعوتك، ألم يدرِّبك أحد على ذلك، ألم تُجْرِ تقويمَ عملك وردَّه إلى منهاج الله ؟ !!
وفي جولة أخرى قصدت داعية يساهم في نشاط كبير رغبت أن أنصح له. فبيّنت له ما أراه من أخطاء في المسيرة، وأنه يغلب عليها الارتجال، فلو دارت الشورى لكان الأمر أفضل. قال نعم ! لقد دارت الشورى، ورُفِعت الأَصابع وأخذنا برأي الأكثرّية. قلت له : إن هذا الأمر متعلق بميادين متعددة، فكم من خبير اقتصادي ساهم في الشورى، وكم من خبير سياسي، وخبير في كذا وكذا ! قال : لا يوجد أناس مختصون في أيٍّ من هذه الأمور. قلت : إذن ما فائدة الشورى إذا دارت بين أناس لا خبرة لهم في الموضوع المطروح. ثم ذكرت له أن الواقع يكشف عن مظاهر الارتجال ودويّ الشعارات أكثر من مظاهر العمل المنهجي المستكمل لشروطه وإِعداده، وأن هناك خطراً من حدوث مأساة مع هذا الارتجال ! فقال : لا تخف ! ربنا كريم. وهو مع المسلمين، وساق من الجمل العامة الشيء الكثير، ثم انجلت الأحداث عن مآسي وفواجع.
وأعجب كيف لا يقف كل مسلم ليتساءل لِمَ كانت الهزائم والفواجع مع أن المسلمين لم يبخلوا بجهد ولا مال ولا دماء ؟ ! كيف ضاعت هذه الجهود وتناثرت ولم نرجعْ منها بنصر.
وفي أحيان كثيرةٍ يأخذ الكِبْر من النفوس، فيحاولون أن يجعلوا من الهزيمة نصراً، ومن المصائب فخراً، فلا يقبلون نصحاً ولا رأياً. غلب الشعار والأماني والأوهام، ودخل الخدر في الدم والعروق !(/2)
شتَّان بين مسيرة تدفعها الشعارات والارتجال، والأماني والأوهام، وبين مسيرة تمضي على نيَّة واعية خالصة لله، تعرف هدفها الحقَّ والدربَ الموصل إِليه، واستكمال العدَّة والعدد، والوسائل والأساليب، يجمع ذلك كله خطّة واضحة ونهج بيّن. شتان بين المسيرتين، وبين العقليّتين ! شتان بين الأسلوبين :
• الشعار وحده يدفع إلى الارتجال !
والنهج والتخطيط يدفعان إلى التبصّر والتبيُّن !
• الشعار وحده يثير العواطف ويعطِّل التفكير !
والنهج يحفز التفكير ويطلقه على توازن بينه وبين العاطفة !
• الشعار وحده قد يُخَدِّر النفوس !
والنهج والتخطيط يثير اليقظة والوعي !
• الشعار وحده قد يُضيع الأمانة ويدفع النفوس إلى الجري اللاهث وراء الدنيا وزينتها !
والنهج والتخطيط يحمل النيّة الواعية الخالصة لله، النيّة التي تؤثر الآخرة على الدنيا !
• في حمى الشعارات قد يتسلَّل الذين يريدون الدنيا والسمعة، فلا حساب ولا محاسَبة !
في النهج والتخطيط تقويم ومحاسبة ودراسات وميزان !
• في حمى الشعارات قد تغيب الإدارة الإيمانية وقواعدها الربّانيّة !
في النهج والتخطيط إدارة إِيمانية ونظام، ومسؤوليات وصلاحيات، وحدود وتنسيق !
• الشعار وحده قد يدفع إلى التفرّق والتمزّق وتنافس الدنيا !
والنهج والتخطيط يجمع القوى الصادقة والعزائم الوفيّة !
عندما نتحدث عن النهج والتخطيط، والإدارة والنظام، فإننا نعني التصوّر الإيماني لذلك، التصور الذي يجعل النيّة الواعية اليقظة الخالصة لله أساس النهج والتخطيط والإدارة والنظام، لينطلق ذلك كله على أسس راسخة من الإيمان والتوحيد، والكتاب والسنّة، ووعي الواقع من خلال الكتاب والسنة.
والنيّة التي نقصدها هي النيّة التي تحدِّد هدفها الربّاني والدرب الموصل إليه، حتى لا يكون الهدف في ناحية والدرب في ناحية أُخرى. وهي النيّة التي تحدّد الوسائل والأساليب. وليكون ذلك كله ربّانياً. ولذلك نقول إِن النيّة هي النيّة الواعية اليقظة الخالصة لله التي تعرف هدفها ودربها الموصل إِليه ووسائل الإعداد والأساليب.
وأيُّ معنى للنيّة إِذا لم يكن الهدف والدرب محدَّدين. وأي معنى لإخلاص النيّة لله إذا لم يكن الهدف والدرب والوسائل والأساليب كلها ربّانيّة.
في النهج والتخطيط تتمُّ الموازنة، وتجري الأُمور على توازن دقيق، ويدور التقويم المنهجي، وتحديد الأخطاء ومعالجتها قبل أن تتراكم، وينهض النظام الإداري الإيماني ليحمل الإشراف والمراقبة، والتذكير والتوجيه، والتنسيق والتعاون، والنصح الواعي المستكمل لشروطه الإيمانيّة.
والنهج والتخطيط يحمل معه الشعار الحقَّ الذي يُنْبئ عن النهج والتخطيط وتوافره بكامل عناصرهما، ينبئ عن ذلك من خلال المسيرة الأمينة والنتائج المتحقِّقة.
لا بدَّ من وجود الشعار، فالخلل الذي نعنيه ليس في وجود الشعار، وإنما في وجوده وحده دون توافر أيِّ نهج أو خُطّة، ودون توافر تحديد الهدف والدرب الموصل إلى الهدف، ودون توافر الإِمكانات والإعداد لذل(/3)
بين الواقعية والوهن
الكاتب: الشيخ د.عبدالله بن عبدالعزيز الزايدي
تقييم:
الواقعية السياسية والرؤية العقلية للأحداث دليل على كمال العقل وبعد النظر ، غير أنها في أحيان أخرى فتنة يفتن بها بعض الناس لتكون مجرد مطية تركب لتبرير الضعف وتسويغ العجز ، واحتقار الذات ،والإخلاد للذل ، والتعبير عن وهن النفس وخور العزيمة ، والجبن في مواضع اللقاء.
ففي الأحداث الأخيرة في العراق ذلك البلد الذي ابتلي أهله بالوحشية الأمريكية المصحوبة بتعصب ديني نصراني ظاهر تجلى في تعليق الصلبان على الدبابات التي قصفت مدينتي الفلوجة والقائم وتجلت في تعدد حالات تدنيس كتاب الله . ظهرت ثقافة الوهن بمظهر الواقعية السياسية ،الداعية لنبذ المقاومة والاستسلام للمحتل بحجة عدم القدرة ، وحقن الدماء، ونحو ذلك من الدعاوى التي تعتبر في عرف الأمم خيانة وطنية عظمى ، وسبقت هذه الدعاوى بفتوى دينية خرقت الاجماع تؤكد وجوب طاعة الكافر المحتل المتغلب ومن نصبه المحتل ، ونبذ الجهاد والمقاومة بحجة الحفاظ على الأنفس والأعراض الدنيوية من أموال وغيرها .
ومع شذوذ تلك الفتوى ومخالفتها لإجماع علماء الأمة المتقدمين وكافة المتأخرين إلاّ نزرا ممن خالف ، إلاّ أنها لقيت دعما إعلاميا مريبا يضخمها ، ويدعو المسلمين للعمل بها .
وخرجت بغاث الصحافة من جحورها لتستنسر على أهل العلم والفضل المتمسكين بثوابت الشرع وقواطع الأدلة وتسفه آراءهم الداعية لمقاومة المحتل ، والحاضة على مواجهته .
وكان من الحجج التي استند إليها هؤلاء هو أن ترك المقاومة سيؤدي إلى استقرار الأوضاع وحقن الدماء ، وهذا صحيح لكنه استقرار الأوضاع للعدو المحتل ، ليزداد عتوا وظلما ، وليتفرغ لبلد عربي أو إسلامي آخر وكأنهم لم يعرفوا مسيرة التاريخ ، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل ، ولم يعرفوا فطرة الإنسان السوي الذي يأنف من الاستذلال لعدوه ويأبى الضيم ، ويكره الظلم .
وبدا جليا مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم – في حديث تداعي الأمم ،حيث بين السبب الأهم في هذا التداعي وهو ثقافة الوهن :التي هي حب الدنيا وكراهية الموت .
إن مصيبتنا اليوم لم تقف عند حد (حب الدنيا وكراهية الموت) ، بل وصلت بنا إلى حد (حب الترف وكراهية الشظف) ، وبذل كل شيء في سبيل هذا الحب ، ويبدو الطرح الانهزامي غير معقول البتة لأهل بلاد يعيشون الشظف والفقر والإذلال وقد دمرت مقومات بلادهم ، حين يطالبون بأن يتركوا مقاومة المحتل وهكذا فلم
تعد الضرورات الدنيوية -بل ولا الحاجيات- هي مناط الرخصة في ارتكاب بعض المحظورات ؛ ولكن نوافل التحسينيات اليوم تعد كافية عند فئام من الناس لتبرير الذنوب .. وربما الموبقات .
كم هو مؤلم أن يفقد دين الله هيبته في القلوب إلى الحد الذي يوضع فيه كلام الله في كفة وتوضع الفضائيات والوجبات السريعة والخميلة والخميصة في الكفة الأخرى ، والأدهى والأمرّ أن ترجح كفة العرض الدنيوي عند كثير من الناس ليس عوامهم بل بعض من ينسب للعمل بكلام الله ، ولكنها الفتن.
إن دعاة الوهن الحاضرون قذفوا طائفة من الأمة بالسفه والطيش لأنها تقاوم أعداءها . ، بينما يريد هؤلاء أن تستمرئ الأمة الذل والهوان وترضى بأن تحيا حياة البهائم تأكل وتشرب ، ولا تموت الموتة الشريفة ، بينما يموت جنود أعدائها في بلادها دفاعا عن مبادئهم ، وتحقيقا لأهدافهم الدينية المتمثلة في محاربة الشر الذي يمثله المسلمون قبل معركة هرمجدون التي يتشوق لها بوش والمتعصبون حوله .
إن أولئك المشيعين لثقافة الوهن في الشعوب العربية والإسلامية التي اغتصبت بلادها ، والذين دعا بعضهم أهل الأرض المحتلة إلى الهوان لم يدركوا أن الإقبال على الدنيا والهروب من الموت لم يكن لينجي أهل الأرض المحتلة من
الذل والهوان ، ولا من طغيان الاحتلال ?وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وقد أردنا غير ذات الشوكة سنين طويلة ، حتى طغى حب الدنيا ولذاتها على الرغبة في طاعة الله وحياة العز والشرف . ومع ذلك لم يشفع لنا هذا عند أعداءنا،فلا يزالون يقاتلوننا وإن تركنا قتالهم ،فاليهود بالرغم من استماتة حكامنا في الصلح معهم وبالرغم من أن مؤتمرات الصلح ومعاهداته من الكثرة بمكان إلاّ أن نقضها من قبل اليهود يبدأ أحيانا قبل أن يرجع كل وفد عربي إلى بلاده .
وهاهي أمريكا تغزو العراق وتقتل أهله بعد أن حاصرتهم أكثر من عشر سنين ،وتهدد دولا أخرى كسوريا وإيران والسعودية .(/1)
إن الواقعية التي يدعو إليها بعض المنتسبين للعلم وبعض الصحفيين هذه الأيام هي ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الوهن (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها .. فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقائل قائل : يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت) .
وهذا الوهن موجود لكن دعاته يريدون فرضه على الأمة كلها بحيث لا يجرؤ أحد على مقاومة الأعداء حرصا على تهيئة الأجواء لهم لابتلاع مزيد من البلاد وإذلال المزيد من العباد بشن العدوان على المقاومة الشرعية وتجريم الجهاد في سبيل الله تأييدا للظلمة الكفار فياللأسى على أناس ينتسبون تطوعوا لخدمة عدوهم تأييدا للبغي والعدوان على نحو لم يكن أحد يتخيله ولايحلم به ؟ وبالفعل أيعقل أن يكون من أبناء المسلمين من ينادي بترك الأعداء يحتلون بلاد الإسلام ويفعلون بها وبأهلها ما يشاؤون
إن خطاب دعاة الوهن الاستسلامي التبريري يسيء إلى هذه الأمة بأسرها, ويشجع المتطرفين في البيت الأبيض والبنتاغون على المزيد من المغامرات في بلداننا تحت لافتات الديموقراطية و التحرير والإصلاح وحقوق المرأة وغير ذلك من مفردات القائمة التي تغذيها العنصرية وروح التعصب الديني. وفتاوى أحد المنسوبين للعلم – مع الأسف - تصب في هذا التوجه, بل إنها في دلالاتها وسياقها تسهم في تلميع الاحتلال, وتسويغ وحشيته, وتجريم مقاوميه وتثبيط هممهم. لقد كانت المقاومة تتلقى رصاصات عدد من البنادق المستأجرة من كتاب لا يرون لأمتنا سبيلا للتحرر والحداثة إلا من خلال الانسحاق على عتبات الأميركيين والصهاينة,, فإذا بها تفاجأ برصاصات من حيث لا تحتسب, من شيوخ يتصدرون الفضائيات ويفتون للناس. لكن المجاهدين في سبيل الله والقائمين بالمقاومة لن يضيرهم عند الله أنهم أصيبوا أو قتل منهم من قتل فما يبتغون إلاّ نصرا أو شهادة ، ولن يوهن من عزمهم ألاعيب ومخططات الاستخبارات الأجنبية الهادفة إلى تشويه عملهم وجرهم إلى معارك خاسرة, كما لن تضيرها
فتاوى هزيلة معزولة متكلفة ومصادمة للنقل والعقل معا .(/2)
بين سجن (أبو غريب) ورفح
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
كيف مات الصَّدى وكان ضَجيجاً ... ... ودويّاً وحُرْقَةً من نداءِ
واستغاثاتِ أنَّةٍ تَتَلوَّى ... ... وصُراخاً يَدْمى وجُْرحُ إِباءِ
وجدارٌ أصمُّ ماتتْ عَلَيْهِ ... ... صَرْخَةٌ من عذابِهمْ والشقاءِ
يا لِسِجْنٍ يموتُ فيه أنينٌ ... ... ورجاءٌ يُطْوى وهولُ بَلاءِ
يا لِسِجْنٍ يحوطُه ألفُ سِجْنٍ ... ... وذئابٌ ونَهْمةٌ من عواءِ
والضحايا على الضحايا وسوطٌ ... ... ملهِبٌ بين رَجْفَةٍ ودعاءِ
وأفانينُ من عذابٍ تولّى ... ... شَرَّها عُصبةٌ من الأشقياءِ
*** ... ... ***
في زوايا " أبو غريبٍ " جُنونٌ ... ... من عذابٍ وفِتْنَةٍ واعتداءِ
سُحِقَتْ بينها رجولةُ إِنسا ... ... نٍ وأَدْمَوا كرامةً من نِساءِ
العفيفاتُ صِرْنَ بين ذئابٍ ... ... ووحوشٍ وقسوةٍ وعَنَاءِ
فَيُصارِعْنَ ! والحياءُ إِباءٌ ... ... والذئابُ الوحوش دونَ حَياءِ
والصبايا صِراعُهُنَّ صِراعٌ ... ... واستغاثاتُهنّ ملء الفضاءِ
خُنِقَتْ كُلُّها وماتَ صداها ... ... فوق آذانِ تائهين غُثاءِ
والصبايا حرائراً كنّ في الأهْـ ... ... ـلِ فأصبَحْنَ سِلعةً من إِماءِ
والشبابُ الذين قيدوا كما قِيـ ... ... ـدَ عَبيدٌ ! وشِدَّةٌ من بلاءِ
ثمَّ جَرّوهُمُ على الأرضِ جَرّاً ... ... بحبالٍ تشدُّ من أَعْضاءِ
ورَمَوْا بعضهم على عُرْي بعضٍ ... ... في عتوِّ الطغاةِ والسُّفهاءِ
*** ... ... ***
لو ترى تلكم " الشَّقِيَّةَ " تَلْهُوْ ... ... يا لِمُرِّ الهَوانِ والإِزْراءِ(1)
قَطعتْ كُلَّ دابرٍ من حياءٍ ... ... نظرٌ فاجرٌ ولهوُ بِغاءِ
لهف نفسي ! أبو غريب ! أسجنٌ ... ... كُنْتَ أم كُنْتَ آلةً للفَنَاءِ
أأُسارى أولئك اليوم ؟! أمْ همْ ... ... من ضحايا العُتاةِ والأشقياءِ
جَرَّدوهم من الثياب وأَلقَوْ ... ... هُمْ عُراةً على أَذلِّ وِطاءِ
وأياديِهُمُ تُشَدُّ إِلى الخَلـ ... ... ــف وسيقانُهمْ على الحصباءِ
ويْحَهُمْ ! أَدْخَلوا الرؤوسَ بأكيا ... ... سٍ تُحيلُ الفضا إلى ظلماءِ
قَيّدوهم إلى الحديد وشَدُّوا ... ... مِن وِثاقِ الهَوانِ والضرّاءِ
وعصيٌّ تنهالُ تُدْمي من العُرْ ... ... ي وتَطوي صِراخَهِم في الفِناءِ
يُطِلقُونَ الوُحُوشَ تَنْهشُ مِنهمْ ... ... أيَّ عُضْوٍ ! وما لهُمْ مِن نجاءِ
ورمَوا فَوْقَهُمْ أفانين أوسا ... ... خٍ وأكوامَ فتنةٍ وازْدِراءِ
مَنَعُوا النَّوم عَنهُمُ ! كُلَّما تَغْـ ... ... ـفو عيونٌ يُعاد هَوْلُ البَلاءِ
*** ... ... ***
يا لِشَيخٍ وعَالِمٍ دَفعُوه ... ... عَارياً في مَتاهَةِ الأَرْجاءِ
وحَوالَيْه عُرِّيَتْ نِسْوةٌ في ... ... ذِلّةِ القَهْرِ ! وانكسارِ إِباءِ
فيغضّون طَرْفَهُمْ ويُشِيحو ... ... نَ على ذِلَّةٍ وهُونِ انطواءِ
*** ... ... ***
وشَبَابٍ عُرُّوا وقِيدُوا إِلى كِبْـ ... ... ــرِ عَذَابٍ وظُلمَةٍ خَرْسَاءِ
دَفَعوهُمْ إلى النّسَاء وقَدْ عُرِّ ... ... ين ! وَيْحَي ! فيا لِعَجْزِ الرّجاءِ
فيغُضّون طرفهم ! ثمّ حاروا ... ... أينَ ما يُرْتَجى لهم مِنَ غِطاءِ
فتعالى النِّداء حِين استغاثوا ، ... ... لهفَ نفسي ، بالله ! يا للنِّداءِ
ونداءٌ ! الله أكْبَرُ دوّى ... ... رَجّعتْه مطارحُ البَيْداءِ
رَجَعتْهُ الآفاقُ مِنْ كلِّ أَرْضٍ ... ... بِدُموعٍ وغَضْبةٍ ودِماءِ
غير أنّ النّداءَ مات على آ ... ... ذانِ قومٍ مسدودة صَمّاءِ
كيف غابوا مَعَ النِّداءِ بِصمتٍ ... ... وأَشاحوا بِمُقْلةٍ عَمْياءِ
ويحَ نفسي! صُمٌّ وبكمٌ وعُمْيٌ ... ... بين أَهوال غارةٍ شنعاءِ
والأغاني تدور بين السكارى ... ... ودِماءٌ تموجُ بين الدّماءِ
والليالي الحَمْراء لَهْوُ غُفَاةٍ ... ... بَيْنَ خَمْرٍ ونَشْوةٍ ونِساءِ
نَزَعَ الفُحشُ عَنْهُمُ كُلَّ سِتْرٍ ... ... يا لِعُرْي الفجورِ والفحشاءِ
*** ... ... ***
أيَن يا قوم خَشْية الله ؟ أين الـ ... ... ـعزْم ؟ ! أين الوُثُوبُ من أَتقياءِ
الشعاراتُ أين أَضحت ؟! وكانت ... ... تملأ الأفقَ ، أفقَ كلِّ سماءِ
أينَ إِحساسُ نَخْوةٍ ؟! أين، ويحي ، ... ... نَخْوَةُ الحرِّ ؟! غضبةُ من إِباءِ
ويحهم ! كيف غابَ منهمْ دَويٌّ ... ... كانَ بالأَمسِ ملءَ كُلِّ فَضَاءِ ؟!
أينَ مَنْ كَانَ يَدَّعي نصرة الحـ ... ... ـقِّ وعزْمَ الجِهادِ ، عَزْمَ الفِداءِ ؟!
الشعاراتُ ! كَيْفَ فَرَّقها الوَهْـ ... ... ـمُ وحُبُّ الدنيا وزيفُ ادِّعاءِ
رَغِبُوا زُخْرُفَ الحَيَاة فتاهوا ... ... شِيَعاً مُزِّقت بِشَرِّ ابْتِلاءِ
*** ... ... ***
أينَ مِلْيارُ مُسلمٍ ؟! يَتلَهَّى ... ... بعضُهم فوقَ نَعْمَةٍ وثَرَاءِ
وأخوهم يكاد يقتله الفقْـ ... ... ــرُ وذلُّ الضَّياع والبَأسَاءِ
وفريقٌ يَغيبُ في حَمْأةِ اللّيْـ ... ... ـلِ ، حُميَّا الرِّغابِ والأَهواءِ
لم تَزَلْ في الحياة طائِفة أُخْـ ... ... ـرى وبُشْرى تُطِلُّ بين الخفاءِ(/1)
لم تزلْ في الحياة طائِفةٌ ظا ... ... هرةٌ مِن رِسَالة الأنبياءِ
وقضاءُ الرَّحْمنِ حقٌّ بِما يُنْـ ... ... ــزِلُ من عَفْوِهِ ومُرِّ جَزاءِ
بُشرَيات الرسولُ تِشرقُ في الكو ... ... نِ بِصدْقِ الآمال والأنباءِ
فمتى تَصْدقُ العَزائمُ لِلّـ ... ... ـهِ عَلى شِدَّةِ العُرا والبِناءِ ؟!
*** ... ... ***
أُمَّةُ الحقِّ كالبِنَاءِ إِذا رُ ... ... صَّ شديد الأركانِ والإِرساءِ
ليس يُرْجى نَصْرٌ بغير بناءٍ ... ... جامعٍ للقلوبِ والفُرَقاءِ
ثمَّ يَمضون في صِراطٍ قَوِيمٍ ... ... وهُدىً مُشْرِقٍ وصِدْقِ فِداءِ
يُنزِلُ الله نَصْرَهِ حين تصفو ... ... بِهُداه نوازَع الأحْناءِ
وعْدُهُ الحقُّ فاطمئنُّوا إِليه ... ... وانْهَضُوا عَزْمَةَ الهُدى والوفاءِ
*** ... ... ***
إيهِ بغْدادُ ! والشَّدائد جُنَّتْ ... ... في رُباها فواجِعاً من دَهاءِ
بين مَكْرٍ مُلفَّعٍ بافتتانٍ ... ... وهوانِ الغفاةِ والضُّعفَاءِ
يا لَبغْداد ! مِنْ حَواليكِ دارٌ ... ... هي دارُ الإسلام ! دارُ الإخاءِ
عَمَّ فِيها البَلاءُ حتى تراهَا ... ... نُثِرَتْ ! مُزِّقت بكلِّ فَضاءِ !
هل تَلفَّتِّ من خلال مآسِيـ ... ... ــكِ لِدارِ الرِّباط والإسْراءِ
إيه بَغدادُ ! أقْبِلي وأطلّي ... ... أَيُّ شيءٍ جَرى وأيّ بَلاءِ
في ديارٍ كَأنّها حِلْيَةُ الدَّهْـ ... ... ــرِ وفوحُ التاريخ والأَتْقِياءِ
هي في الأَرْضِ جَنَّةٌ مِنَ حَواليْـ ... ... ـهَا رُبُوعُ الهُدى وساحُ العَطاءِ
أصبحتْ نهبَةَ اللصُوصِ فغابَتْ ... ... بين أهوالِ لَيْلَةٍ لَيْلاءِ
*** ... ... ***
حَيثُما مِلْتُ فاللَّيالي حُبَالى ... ... قَدْ حَمَلْنَ البلاءَ بعد البلاءِ
حيثُما مَالَ طَرْفيَ اليوم يلقَى ... ... مِنْ دَواهِي البَأْسَاءِ والأَرْزاءِ
يا فِلسطينُ ! يا رُبى المَسْجدِ الأقْـ ... ... ـصى ! حنينَ الأكْبادِ و الأَحناءِ
أنت مُلْكُ الإِسْلامِ حقُّ هُداه ... ... أنتِ عَهْدُ الوفاءِ والأُمناءِ
أيُّ شيءٍ جَرى بسَاحِكِ حتى ... ... صِرْتِ ساحَ الغُواةِ والأَشْقياءِ
فعلى كل ساحةٍ مِنكِ دَمْعٌ ... ... وأنينٌ و غضبةُ الأشلاءِ
*** ... ... ***
حَسْبُكَ اليوم ما تَرى في روابي ... ... رَفَحٍ مِنْ كَوارثٍ وابتلاءِ
جُنَّت الأَرضُ في رُباها وجُنَّتْ ... ... حَمَلاتُ الترْويعِ والإِفنَاءِ
كلُّ دبّابَةٍ تصبُّ لَهِيباً ... ... صاعقاً خاطفاً وهوَلَ اعتداءِ
وجَحيمٌ مِنَ السَّماء ، مِنَ الأرْ ... ... ضِ ومِنْ كُلِّ آلَةٍ رَعْناءِ
والعماراتُ ! لهفَ نَفْسي ! تهاوتْ ... ... فَوَقَ أطفالها وفوقَ النِّسِاءِ
فوقَ فِتْيانها وفَوقَ شُيُوخٍ ... ... ودَويٍّ مُفَجِّعٍ مِنْ نِداءِ
وشَبابٍ تواثَبُوا ! غيَر أَنّ الـ ... ... ـهَوْلَ أَقْسى مِنْ وثْبَةٍ وفِدَاءِ
لهفَ نَفْسي ! كأنّما الأَرْضُ رُجَّتْ ... ... يَا لِزلزَالِها وطُولِ شَقاءِ
وزُحُوفُ الآلاتِ تَجْرفُ مِنْ زَرْ ... ... عٍ ومِنْ غَرسَةٍ ومِنْ أَفياءِ
من غِراس الأجْداد تحمل تاريـ ... ... ــخ جِهادٍ وأمَّة وسناءِ
تَتْرُكُ الأرْضَ كاليبَابِ وتَبْقى ... ... حَسَراتُ القُلوبِ والأحْنَاءِ
نُثِرَ الأَهْلُ في جوانِبها في ... ... سَاحَةٍ أَقْفَرَتْ وذُلِّ عَرَاءِ
*** ... ... ***
أَيْنَ مِنْ خَيَمةٍ تضمُّ شَتاتاً ... ... مِن ضَياعٍ وأُمْنِيَاتِ نجاءِ
أيْن أحلامُ طِفْلَةٍ حَضَنَتْها ... ... طَلْعَةُ الفَجْرِ أو حُلولُ المساءِ
أيْنَ لَهْوُ الأطفال في مَرَحِ العُمْـ ... ... ـرِ ، وزهوِ الحقولِ ، ظلِّ فناءِ
أَيْنَ نَفحُ الوُرود أو عَبَقُ الليـ ... ... ـمون يَرْوي مَلاحِم الآباءِ
كيف غابَتْ روائعُ المجْدِ من أمـ ... ... ــسِ وغابتْ مطالع العَلياءِ
لهف نفسي ! وحولك اليومَ يا دا ... ... رُ غُثاءٌ ! فَيا لِذُلِّ الغُثاءِ
*** ... ... ***
أطبَقَ المجْرِمون من كلِّ صوب ... ... واستباحوا الحمى وكلَّ بِناءِ
ملأوا الأرضَ بالفساد وسَدُّوا ... ... كلَّ باب إلى الهُدى أو رجاءِ
فتنة بعد فتنةٍ بعد أُخرى ... ... بين مكرٍ يفوقُ كلَّ دهاءِ
أيُّ كيدٍ كَأنَّه السّمُّ يَسْري ... ... في عُروقٍ وفي نفوسٍ خَواءِ
فُتِنَتْ مِنْهُمُ القُلوبُ فَغَابُوا ... ... وَيْحَهُمْ في جَهالةٍ جَهْلاء
أُطْفِئَ النُّورُ في النُّفُوسِ فَتَاهوا ... ... بينَ أمْواجِ ليلَةٍ ليلاء
غَيْر أنَّ الضِّياءَ نورٌ مِنَ اللّـ ... ... ـه وهديٌ اليقين ! هديُ الصفاءِ
*** ... ... ***
أمّتي ! مَنْ لهؤلاء ومن يَنْـ ... ... ـهضُ في صدِّهم وردِّ بَلاءِ ؟!
أَيْنَ يا أُمَّتي الشِّعاراتُ دَوَّتْ ؟! ... ... أين أحلام تائهٍ ومُرَائي ؟!
يا ضَجِيج السنين ! أَيْن تولّى ؟! ... ... أيْن صوتُ التّقاةِ والأُمناءِ ؟!
أينَ مَنْ قَالَ :هَا أنا ؟! ثُمَّ ولّى ؟! ... ... وإذا السّاحُ نُهبَةُ الأشْقِياءِ ؟!
أمَّتي ! أين غِبْتِ ؟! مَازال في السَّاحِ ... ... دويٌّ من فِتْنَةٍ دهْياءِ ؟!(/2)
أينَ يا أُمّتي الجَنى بَعْد بَذْلٍ ... ... من سخَيِّ الأَموال أو مِنْ دِماءِ ؟!
لمَ يا أُمَّتي جَنَاكِ هَوانٌ ... ... بَعْد لأْيٍ وبَعْدَ طُولِ عَناءِ ؟!
كيفَ مُزِّقْتِ في الفَضَاء شظايا ... ... نُثِرت في مصارع الأَهْواءِ ؟!
*** ... ... ***
فَقِفي وقَفْةَ الهُدى وأنيبي ... ... واصْدُقي اللهَ في هَوىً ورَجَاءِ
وارجِعي واجْمَعي العَزائِم صَفَّاً ... ... واحِداً رُصَّ في هدىً وبِناءِ
إنَّ للحقِّ لو عَلِمْتِ سَبيلاً ... ... واحِداً ، غَيْرُه دُروبُ شَقَاءِ
فاحْذري واسلكيه إنّ على الأُفْـ ... ... ـقِ نَذِيراً مِنْ فِتْنةٍ وابتلاءِ
ودَواهٍ عَلَيْهِ تَزْحَفُ أَمْوا ... ... جَ ظَلامٍ شَديدةَ الأَنْواءِ
*** ... ... ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجندة الأمريكية ليندي إنغلند المتهمة بقضية سجن أبو غريب .(/3)
بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة
الشيخ الدكتور/ عبد العزيز ابراهيم الشبل
فضيلة الشيخ: شاع بين الناس في الآونة الأخيرة ما يعرف بـ...، ولا يخفى على فضيلتكم ما في ... من الأخطار، فما رأيكم في حكم هذه المسألة؟
- حرام
- يتساءل البعض عن دليل التحريم، ويزعم البعض الآخر أن هذا من التشدد في الدين ؟
-لا يوجد دليل صريح في هذه المسألة، وكما تعلم فالنصوص الشرعية لا تحيط بجزئيات الأحكام، وإنما تدل على الأحكام بعمومها، والنص الشرعي له منطوق ومفهوم، و.. ، يقول ابن تيمية: .. ولو تأملنا هذه المسألة لوجدناها ذريعة لإفساد المجتمع، فهي حرام لذلك..
وفي الجانب الآخر:
ـ فضيلة الشيخ: ... ، فما الحكم الشرعي لهذه المسألة؟
ـ حلال
ـ لكن بعض المفتين يقول: إن هذا العمل حرام، ويذكر قول النبي –صلى الله عليه وسلم-... ، فما رأي فضيلتكم ..؟
ـ صحيح أن الحديث المذكور ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولكن لو نظرنا إلى المجتمع، وتغير حاجات الناس ومصالحهم، لرأيت أننا لا بد أن نقول بالجواز مراعاة لمصلحة المجتمع...
ـ حتى لو ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ما يفيد التحريم...؟
ـ يا أخي، الحديث المذكور لا يدل صراحة على حكم هذه المسألة، صحيح أنه يدخل في عمومه، وهو ما يتبادر إلى الذهن من الحديث، لكن لا بد أن تكون لنا قراءة جديدة للنصوص الشرعية، ولا يمكن أن نقرأ النصوص الشرعية بعيداً عن المقاصد الشرعية لها، يقول الشاطبي:... ، وكما تعلم فالدين كله راجع إلى إعمال المصالح ودرء المفاسد...
المشهد السابق مشهد متكرر في ساحة الفتوى، وكثيراً ما يعلل بعض المفتين فتاواهم بسد الذرائع، أو بإعمال المصالح، وبات بعضهم إذا أراد أن يحرم شيئاً ـ لا يجد دليلاً على تحريمه ـ يتكئ على سد الذرائع، ومن أراد أن يبيح شيئاً ـ ووقف الدليل الشرعي في وجهه صريحاً بالتحريم ـ يذهب إلى إعمال المصالح، حتى غدا عندنا منهجان واضحا المعالم في الفتوى ـ بالإضافة إلى المناهج الأخرى ـ منهج يوسع دائرة الذرائع فيضيق على الناس ما أباحه الله، ومنهج يتمسك بالمصالح المزعومة مغفلاً النظر فيما سواها، وحدث نتيجة ذلك ردة فعل طبعية لهذين المنهجين: فتبرم بعضهم بسد الذرائع حتى عدّه أكبر سد في العالم، وعد آخرون المصالح طاغوتاً يضاف إلى الطواغيت الجاثمة على صدور المسلمين.
وهذا أدى ببعض الباحثين والمفتين إلى التحرز من تعليل الأحكام الشرعية بسد الذرائع، حتى لو كانت الذريعة واضحة كالشمس، فلو وجدت معاملة مالية مستحدثة تؤدي إلى الربا وإلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، وكانت الحيلة فيها أوضح من حيلة اليهود في صيدهم الحيتان يوم السبت ما تجرأ أن يقول بالتحريم؛ خوفاً من أن يوصم بأنه (صاحب أكبر سد في العالم).
وعلى الطرف الآخر تجد مسألة من المسائل لا يوجد فيها دليل صريح، بل قد يوجد دليل يشير إلى الإباحة، ومع ذلك تجد بعض الباحثين والمفتين يتحرز من القول بالإباحة استناداً إلى المصلحة الشرعية، خوفاً من أن يوصم بأنه (قليل علم بالنصوص، ولما أعيته النصوص اتجه إلى المصالح) و(أنه مفتٍ عصراني).
ولو أخذت فتوى لمن يستخدم (سد الذرائع) بكثرة، وأردت أن تستدل لكلامه بالمصالح لما أعجزك ذلك، وكذلك العكس .
مثالاً لذلك: ما يسمى بالتورق المبارك، تستطيع أن تقول بالإباحة استناداً إلى المصالح؛ فالناس محتاجون إليه، ومصالحهم تتعلق به، وإن أردت التحريم قلت: إنه ذريعة واضحة إلى الربا، وتستطيع أن تعكس فتقول: إنه مباح، ولو لم نقل بذلك لانسدت وسائل التمويل في وجوه المسلمين مما يؤدي إلى تركهم للمصارف الإِسلامية واتجاههم إلى البنوك الربوية فنقول بالجواز سداً لذريعة اتجاه الناس إلى الربا، وتقول: إنه محرم، فمن مصلحة الاقتصاد الإسلامي أن نقول بذلك، ولو قلنا بهذه الوسيلة لألغينا (كل أو جل) وسائل التمويل الإسلامية الرائدة التي جعلت المصارف اِلإسلامية تنافس حضارياً البنوك التقليدية، وجعلت المسلمين يشاركون في تقديم حلول لمشاكل العالم المعاصر، وهذه الطريقة تلغي الفروق بين المصارف الإسلامية والربوية، مما يجعل المصارف الإسلامية عديمة الجدوى (1).
وعاد الخلاف إلى التلاعب بالألفاظ، لا الاستدلال بالأصول الشرعية.
فهل المشكلة في العمل بسد الذرائع، أم المشكلة في العمل بالمصالح الشرعية؟
أين تكمن المشكلة؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في (سد الذرائع) وليست كذلك في (إعمال المصالح)، وكلاهما قاعدة شرعية قررتها أصول الشريعة، وعمل بها العلماء الراسخون.
ولكن المشكلة تكمن في تحديد المصطلح، ثم في التطبيق الخاطئ للقاعدة الشرعية، وأحياناً لا توجد مشكلة أصلاً؛ إذ المسألة لا تعدو أن تكون من الخلاف اللفظي، أو الخلاف السائغ.
وهذا الكلام ينطبق على أصول شرعية أخرى: كالعمل بالرأي والاستحسان واعتبار العرف.(/1)
فالعمل بالرأي نجد في كلام السلف ذمه ومدحه، ولكننا إذا حققنا كلامهم -كما فعل ابن القيم رحمه الله- (2)نجد أن الذم والمدح لم يردا مورداً واحداً.
فمن ذمه قصد به الرأي الفاسد المصادم للنصوص أو القول في الدين بالخرص والظن مع التفريط في معرفة النصوص، ومن مدحه أراد به الرأي الصحيح الموافق للنصوص الشرعية، كآراء الصحابة، أو الآراء التي فيها تفسير النصوص، أو إعمال الرأي في المسألة عند عدم الدليل بعد بذل الجهد في البحث عنه.
وإذا تقرر ما سبق فإن من ذم الرأي كان مصيباً، ومن مدحه كان مصيباً، ولكن كلام هؤلاء وهؤلاء لم يرد مورداً واحداً، وعند تحرير المصطلح يتبين لنا أن الخلاف لفظي.
ومع اتفاقهم على هذا التأصيل إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المسائل التي أعملوا فيها الرأي، إما لاشتراط أحدهم ما لم يشترطه الآخر، وإما لاختلاف أفهامهم أو اختلاف الظروف المحيطة بكل مسألة..، (3) فلو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة من مسائل الفرائض وهي مسألة الجد والإخوة لوجدنا أن المسألة ليس فيها دليل قاطع، والصحابة عملوا فيها بالرأي مع اتفاقهم على حدود الرأي الذي يعمل به، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من عدّ الجد أباً وحرم الإِخوة من الميراث، ومنهم من شرك بين الإخوة والجد.
وكذلك إذا نظرنا إلى مسألة العمل بالاستحسان، فقد ردّه بعض الأئمة وشنع القول فيه، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، ومع ذلك نجد أن بعض الأئمة الكبار كأبي حنفية يقول به، بل نجد في كلام من رده العمل به، ووجد في كلام الإمام الشافعي نفسه الأخذ به، فهل اختلافهم حقيقي؟
عند إمعان النظر في كلامهم نجد أن من ردّه فإن كلامه يدور حول معنى من المعان، وهو: العمل بالتشهي والهوى من غير دليل، وهذا لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله لا أبو حنيفة ولا غيره، والأئمة ـ رحمهم الله ـ أجلّ من أن يقولوا بذلك، وكذلك من فسر الاستحسان على أنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع التعبير عنه.
وأما من عمل به فقد أراد العدول عن الحكم أو الدليل إلى حكم أو دليل أولى منه، أو القول بأقوى الدليلين.
وهذا المعنى لا ينبغي أن يخالف فيه أحد، فعاد الخلاف إلى اللفظ لا إلى الحقيقة، وتبين أن الكلام لم يرد مورداً واحداً (4).
ولهذا قال الغزالي: ورد الشيء قبل فهمه محال، فلا بد أولاً من فهم الاستحسان... (5)
وقال الشيرازي: فإن كان مذهبهم على ما قال الكرخي (أي العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها لدليل يخصها) وعلى ما قال الآخر، وهو القول بأقوى الدليلين، فنحن نقول به وارتفع الخلاف (6).
وقال ابن قدامة: فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى (7).
وقال ابن السمعاني: ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أحكام الدين فاسد.. وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعي باطل.. ثم قال: واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية، فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم: إنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه فهذا لا ننكره..) (8)
وعلى ذلك فلا يجوز للمفتي أو الباحث أن يترك هذه الأصول الشرعية؛ لأن فلاناً قال بها، أو لأن القائل بهذه المسألة هم من أصحاب التوجه الفلاني، بل على المفتي أن يصدع بالحق أياً كان، إذا كان يرى أن هذا هو الحق، وأن هذا الحق يجب قوله الآن.
حتى لو كان الحق فيه تيسير على الناس، ففي عمل الناس آصار لم يأمر بها الله، فهل الشريعة جاءت بالحرج والأغلال والآصار حتى نمتنع عن قول الحق من أجل ذلك.
وحتى ولو كان الحق مخالفاً لأهواء الناس وما ألفوه ولانت جلودهم له، إذ الشريعة لم تأتِ موافقة لأهواء الناس، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.
ولنتخيل لو جاء أحد المفتين فقال بجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ودفع الزكاة للكفار دفعاً لأذاهم المتحقق عن المسلمين، وما موقف بعضهم لو سمع من يقول بعدم قتل بعض المنافقين والمرتدين لئلا يتحدث الناس أن (المسلمين) يقتلون أصحابهم، وما عمله لو عقد بعض الولاة صلحاً كصلح الحديبية، أو نهى عن سب آلهة المشركين لئلا يترتب على ذلك ضرر أكبر، أو امتنع عن إقامة حد السرقة لسبب شرعي مقبول ـ كما وقع عام الرمادة ـ، أو أجاب دعوة لأحد قسس النصارى، أو استقبل بابا الفاتيكان في أحد مساجد المسلمين، أو سمح بإقامة بعض الأنشطة في المساجد ـ وإن كانت رياضية ـ كما فعل الحبشة في المسجد النبوي، أو اتبع الأعراف الدولية السائدة ـ التي لا تخالف أصول الشريعة ـ كما اتخذ النبي –صلى الله عليه وسلم - خاتماً، وامتنع عن قتل الرسل، وأخبر أنه لو دعي إلى الحلف الذي عقد في بيت ابن جدعان ـ حلف لنصرة المظلوم ـ لأجاب، وخاطب هرقل بعظيم الروم، ألن يرمى هذا المفتي بالتساهل وتمييع الدين، والإعراض عن النصوص الشرعية؛ تمسكاً بالمصالح.(/2)
وعلى النقيض لو قال أحد العلماء بتحريم بعض الألفاظ لئلا يتوهم منها معنى آخر (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ولو هدم مسجد ضرار كما هدم النبي –صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار، أو أمر امرأة ـ حتى وإن كانت موثوقة ـ بعدم إلانة القول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، أو قطع شجرة أو هدم حجراً خوفاً من تبرك الناس به كما فعل عمر بشجرة الرضوان، أومنع من الحيل الربوية، ألن يوصف بالتشدد، واتخاذه لأكبر سد في العالم.
بل لو تغير اجتهاده من وقت لآخر؛ لأنه أمعن النظر في المسألة مرة أخرى، كما تغير اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم (المسألة اليمية أو الحمارية)، أو تغير اجتهاده بناء على تغير العلة التي بني عليه الحكم، كما منع عمر المسلمين عن القتال في البحر، لعدم خبرتهم به، ثم أقدموا عليه لما وجد في المسلمين ـ بعد عمر ـ من يستطيع القيام بذلك، لو تغير اجتهاده من أجل ذلك ألن يوصم بالتناقض.
ومع ذلك فكل ما سبق وسائل شرعية لا يجوز لنا تركها؛ لأنه يوجد في الناس من يعيب ذلك، أو لأنه يوجد من يستخدمها استخداماً خاطئاً، أو يتخذها وسيلة لهواه، فقد يوجد من يريد تعطيل الحدود استناداً إلى عدم قتل النبي –صلى الله عليه وسلم- للمنافقين، وترك عمر لحد السرقة عام الرمادة، لكن ذلك لا يعني أن ننطلق إلى الجانب الآخر، فنحرم الاقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر، وقد يوجد من يهدم المسجد؛ لأنه لا يوافق توجهه السياسي؛ ولأن المسجد لم يعد بوقاً له، لكن لا يعني ذلك عدم هدم مساجد الضرار، وقد يوجد من يريد إلغاء الولاء والبراء استناداً إلى ما سبق، لكن ذلك لا يعني أن نترك سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- أو نظلم الكفار لكي لا نقع فيما وقع فيه.
وكذلك يوجد من يمنع المرأة من الحقوق المشروعة ظناً منه أن في ذلك صوناً للمجتمع من الفساد، ولكن ذلك لا يعنى أن نجعل المرأة تعمل في كل مجال، وأن نترك الحبل على الغارب، لئلا نوصف بأننا متحجرون وكذلك لا يمنعنا ذلك من أن ندعو إلى إنصاف المرأة وإعطائها حقوقها لئلا نوصف بأننا عصرانيون.
سد الذرائع:
المراد بسد الذرائع: أن يكون الفعل غير محرم، ولكنه يوصل إلى المحرم، يقول القرافي مبيناً معنى سد الذرائع: حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور... (9)
الاستدلال لمسألة سد الذرائع: (10)
من الأدلة على العمل بسد الذرائع قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..
فسب آلهة المشركين ليس محرماً في ذاته، وإنما هو محرم لما يفضي إليه.
وما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي –صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي لم يقم منه:(لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً(11).
تحرير محل النزاع:
الذريعة تنقسم إلى أقسام:
1. الذريعة التي توصل إلى المحرم قطعاً، فهذه محرمة قطعاً، كحفر بئر أو حفرة في الطريق العام، أو وضع المواد السامة في مياه المسلمين.
2. الذريعة التي لا تفضي إلى المحرم إلا نادراً، كزراعة العنب فمع أنه قد يتخذ خمراً لكن ليس هذا الغالب في استعماله، وعلى ذلك فلا يقال بحرمته، وكذلك لا يمنع من المجاورة في البيوت خوف الوقوع في الزنا، وهذه غير محرمة بالإجماع.
3. الذريعة التي بين القسمين، كالحيل الربوية في البيوع، وهذه محل النزاع، فمالك ـ رحمه الله ـ كثر عنده المنع منها، حتى اشتهر بسد الذرائع.
ولهذا يقول القرافي بعد أن قسم الذرائع إلى مجمع على سده ومجمع على عدم سده ومختلف فيه:( وليس سد الذرائع خاصاً بمالك رحمه الله بل قال بها هو أكثر من غيره وأصل سدها مجمع عليه.) (12)
آراء العلماء في مسألة سد الذرائع:
اشتهر العمل بقاعدة سد الذرائع عن الإمام مالك (13) والإمام أحمد(14)، وعمل بها أصحابهما.
وكذلك اشتهر عن الإمام الشافعي أنه لا يعمل بسد الذرائع، وكذلك الحنفية اشتهر عنهم العمل بالحيل، وظاهر ذلك أنهم لا يقولون بسد الذرائع، فهل الحنفية والشافعية لا يعملون بسد الذارئع؟
الحقيقة أننا نجد عند الحنفية في فروع عدة تعليل بعض الأحكام بسد الذرائع، منها: البدء بقتال البغاة، فالبغاة مسلمون والأصل ألا يقاتل المسلم ابتداء بل لا يقاتل إلا دفعاً، لكن المذهب عند الحنفية البدء بقتالهم إذا تحيزوا وتهيؤا للقتال، وذلك لئلا يكون عدم قتالهم ذريعة لتقويتهم، ولعلهم إذا قووا لا يمكن دفعهم(15).
وعندهم يكره لمن خاف الحيف أن يتولى القضاء لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الظلم(16).
ومرادهم بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ لأن الغالب الوقوع في المحظور(17).(/3)
وعللوا ترك المعتدة الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب بأن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة من النكاح فتجتنبها كي لا تصير ذريعة على الوقوع في المحرم(18).
وفي مسألة مصادرة السلطان لأرباب الأموال ذكروا أن ذلك محرم، ولا يجوز إلا لعمال بيت المال، والمراد بعمال بيت المال خدمته الذي يجبون أمواله، ومن ذلك كتبته إذا توسعوا في الأموال، لأن ذلك دليل على خيانتهم، وألحقوا بهم كتبة الأوقاف ونظارها إذا توسعوا وتعاطوا أنواع اللهو وبناء الأماكن.. ، لكن مع ذلك قال بعض الحنفية: هذا مما يعلم ويكتم، ولا تجوز الفتوى به؛ لأنه يكون ذريعة إلى ما لا يجوز، وذلك لأن حكام زماننا لو أفتوا بهذا وصادروا من ذكر لا يردون الأموال إلى الأوقاف... (19)
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فهو الذي اشتهر عنه عدم العمل بسد الذرائع، ولكن عند النظر في بعض المسائل التي ذكرها نجد أنه يعمل بسد الذرائع، مثل ما ذكره في مسألة منع فضل الماء، حيث قال رحمه الله:(منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله(20)عام يحتمل معنيين : أحدهما أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل , وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى.
(قال الشافعي) فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام ويحتمل أن يكون منع الماء إنما يحرم ; لأنه في معنى تلف على ما لا غنى به لذوي الأرواح والآدميين وغيرهم , فإذا منعوا فضل الماء منعوا فضل الكلأ , والمعنى الأول أشبه والله أعلم) (21)
فهل الشافعي لا يراعي الذريعة إلى المحرم مطلقاً، وهل مراعاته للذريعة في بعض المسائل يعدّ تناقضاً منه؟
قال تقي الدين السبكي بعد أن قرر مذهب الشافعي في مسألة العينة، وبعد أن ذكر كلام الشافعي السابق في مسألة منع فضل الماء:( قد تأملته (أي النص السابق) فلم أجد فيه متعلقاً قوياً لإثبات قول سد الذرائع, بل لأن الذريعة تعطى حكم الشيء المتوصل بها إليه, وذلك إذا كانت مستلزمة له كمنع الماء, فإنه مستلزم لمنع الكلأ ومنع الكلأ حرام ووسيلة الحرام حرام.
والذريعة هي الوسيلة, فهذا القسم وهو ما كان من الوسائل مستلزماً لا نزاع فيه, والعقد الأول (أي في بيع العينة) ليس مستلزماً للعقد الثاني؛ لأنه قد لا يسمح له المشتري بالبيع أو ببذلهما, أو يمنع مانع آخر, فكل عقد منفصل عن الآخر لا تلازم بينهما، فسد الذرائع الذي هو محل الخلاف بيننا وبين المالكية أمر زائد على مطلق الذرائع وليس في لفظ الشافعي تعرض لهما, والذرائع التي تضمنها كلام لفظه لا نزاع في اعتبارها.( ثم ذكر كلام القرافي السابق ثم قال:)
فالذرائع هي الوسائل وهي مضطربة اضطراباً شديداً قد تكون واجبة, وقد تكون حراماً, وقد تكون مكروهة ومندوبة ومباحة, وتختلف أيضا مع مقاصدها, بحسب قوة المصالح والمفاسد وضعفها, وانغمار الوسيلة فيها وظهورها، فلا يمكن دعوى كلية باعتبارها ولا بإلغائها, ومن تتبع فروعها الفقهية ظهر له هذا, ويكفي الإجماع على المراتب الثلاثة المذكورة في كلام القرافي...) (22) ، إذن الشافعي يوافق الإمام مالك والإمام أحمد في المنع من الذرائع المستلزمة للمحرم.
وإذا تقرر ما سبق فإن الذرائع المستلزمة للمحرم محرمة إجماعاً، والذرائع التي لا توصل إلى المحرم إلا نادراً مجمع على عدم المنع منها، وما بين هاتين المرتبتين وقع الخلاف فيه بين أهل العلم.
لكن إذا كان يغلب على الظن إفضاء الذريعة إلى المحرم فهل نقول بأن المنع منها محل إجماع بين أهل العلم؛ لأنه كثيراً ما يلحق العلماء الظن الغالب بالقطع في الأحكام؟
لا أستطيع القطع بذلك، لكن المظنون بأهل العلم القول بالمنع منها، وقد قال العز بن عبد السلام الشافعي:(ما يغلب ترتب مسببه عليه وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز الإقدام عليه; لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحوال) (23).
فإذا كان هذا هو رأي إمام من أئمة الشافعية في كتاب ألفه في مصالح الأنام فغيره من باب أولى.
والخلاف الذي يقع بين أهل العلم في بعض المسائل التي مردّها إلى مسألة سد الذرائع، إما أنه خلاف راجع إلى خلافهم في بعض شروط العمل بسد الذرائع، وإما أنه خلاف راجع إلى اختلاف نظرهم وفهمهم للمسألة أو للأمور المحتفة بها، كما نجد الخلاف عند علماء أهل السنة الذي يوجبون العمل بما صح من الأحاديث في الأحكام الشرعية ومع ذلك نجد الخلاف عندهم في بعض المسائل التي اطلعوا كلهم على دليلها، وذلك لاختلافهم في بعض شروط الحديث الصحيح، فمنهم من يقبل زيادة الثقة إذا لم تخالف رواية من هو أوثق، ومنهم من لا يرى ذلك بل له تقعيد آخر في مسألة زيادة الثقة، أو أن خلافهم راجع إلى فهمهم أو طريقة استنباطهم الحكم من الحديث، مع أن الحديث واحد، والحديث قد اطلع عليه كلا الطرفين.(/4)
تنبيه ذكره القرافي: اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة .. . (24)
إعمال المصالح: (25)
والمصالح عموماً تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. قسم شهد الشرع باعتباره، وهذا لا شك في إعماله؛ لأنه القياس.
2. قسم شهد الشرع بإبطاله، كالمصلحة الموجودة في الخمر والميسر من متاجرةٍ بها وإنعاشٍ لاقتصاد البلد وجلبٍ للسياح، (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس )فهذا القسم لا شك في إبطاله.
3. ما لم يشهد نص معين من الشارع باعتباره ولا بإهماله، وهو ما يسمى بالمصالح المرسلة، ككتابة المصحف بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وعهد أبي بكر إلى عمر بالخلافة، وحرق عثمان المصاحف سوى المصاحف التي كتبها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السكة، قلت: ومثلها في الوقت الحاضر الأنظمة التي تصدرها بعض الدول محققة لمصلحة الناس غير مصادمة للشرع.
وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، قال شيخ الإسلام: وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع.. وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعاً بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه(26).
وهذا القسم ـ إن قلنا بإثباته(27)ـ نجد أن العمل به موجود في المذاهب كلها، ولكن الإشكال كالإشكال السابق فإنه يوجد من توسع فيه وأكثر من توسع فيه مالك ثم أحمد، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتبار هذا الأصل في الجملة(28).
والفقهاء الذين يمنعون العمل بالمصالح المرسلة سيضطرون إلى القول بموجبها عند التطبيق الفقهي وإن سموا عملهم هذا قياساً أو استحساناً أو غير ذلك فالمؤدى واحد، وخذ مثلاً على ذلك إمام الحرمين فقد كاد يوافق الإمام مالك مع مناداته عليه بالنكير(29).
وقال القرافي:( المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك، ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة: أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد الاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير (ثم ساق أمثلة من فعل الصحابة، ثم قال:) وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة، وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى بالغياثي أموراً وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها، وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة، وكذلك الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة) (30)
وفي الشروط التي وضعها بعض الفقهاء ـ كاشتراط الغزالي(31) أن تكون المصلحة كلية قطعية ضرورية ـ تضيق لنطاق العمل بالمصالح قد يؤدي إلى إغلاق باب العمل بها، وعند التطبيق سيكون أول التاركين لتلك الشروط من وضعها.
وعند التأمل في التطبيق الفقهي للمصالح سنرى أن الصحابة والتابعين وأئمة الفقه عملوا بالمصالح وإن اختلفت ألفاظهم في الاستدلال لهذه المصالح، وسبب الخلاف الموجود في كتب الأصوليين يعود ـ كما ذكر بعض الباحثين (32)ـ إلى عدم تحديد المراد باعتبار الاستصلاح أو عدم اعتباره عند نقلهم للخلاف، وكذلك إلى عدم التثبت في نقل الآراء.
ولا يعني ذلك اعتبار المصالح مطلقاً من دون ضابط، بل لا بد للعمل بالمصالح من شروط:
1. فلا بد أن تكون موافقة لمقاصد الشارع محافظة على الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال).
2. ويشترط لها ألا تعارض دليلاً شرعياً.
3. وألا تفوت مصلحة أعلى منها(33).
4. كما يشترط للمصلحة أن تكون حقيقية ـ تجلب نفعاً وتدفع ضراً ـ لا موهومة، فلا بد لها من إطالة النظر والتأمل في جميع الأوجه قبل الحكم بالمصلحة.
5. ويشترط لها أن تكون عامة للناس أو لأكثر الناس، لا مصلحة لفئة معينة من الناس كمصلحة السادة أو التجار على حساب غيرهم(34).
ولكن ـ ومع ما سبق ذكره ـ فسيبقى هناك إشكال في تحرير بعض الشروط وفي مجال تطبيق المصلحة، ومن المجالات التي ستكون سبباً للخلاف في بعض المسائل:
? التدرج في تطبيق أحكام الشرعية في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، فهل التدرج في الشريعة يعدّ مصادماً للنصوص الشرعية التي أمرت بالعمل بالشريعة جملة وتفصيلاً، فلا بد من الأخذ بالشريعة جملة وتفصيلاً دون الانتقاء منها، والتدرج انتقاء فهو أخذ لبعض الكتاب دون بعض، أم أنه موافق للشريعة التي جاءت أحكام عديدة منها بالتدرج كتحريم الخمر ومشروعية الجهاد، وهل الأحكام التي نزلت قبل الهجرة ونزل بعد الهجرة خلافها منسوخة؟ أم أنه يمكن للمسلمين إذا كانت حالتهم قريبة من المرحلة المكية أن يأخذوا ببعض أحكامها.(/5)
? ترك بعض الأحكام الشرعية تركاً مؤقتاً مراعاة لمصلحة أعظم، هل يعد ذلك مصادماً للنصوص الشرعية، أم يكون هذا الترك كترك قتل المنافقين وترك حد السرقة عام الرمادة، فيكون مستنداً إلى دليل آخر ولا يعدّ مصادماً للدليل، وهذا ما يسميه كثير من الأصوليين بالاستحسان، ولكن حتى مع القول بمشروعية ذلك، ما ضوابطه؟
? الضرورة والحاجة العامة وتأليف القلوب ومراعاة الأوليات أمور يُعلل بها كثيراً ترك ظواهر النصوص، ولهذه الأمور ما يشهد لها شرعاً، لكن ـ أيضاً ـ هذه الأمور تحتاج إلى ضبط.
? أفعال الرسول –صلى الله عليه وسلم- منها ما فعله بحكم العادة والجبلة، ومنها ما فعله من أجل التشريع، والذي فعله من أجل التشريع منه ما فعله لكونه مفتياً ومنه ما فعله لكونه قاضياً ومنه ما فعله لكون إماماً اتبع فيه المصلحة الحالية، وعلى ذلك سيقع خلاف في تفسير بعض الأفعال هل فعله لكونه مفتياً أم لكونه إماماً، ولعل من أوائل القضايا التي وقع فيها الخلاف قسمة الأرض المفتوحة، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقسمها، ومع ذلك عمر لم يقسم أرض السواد، وخالفه في ذلك بعض الصحابة.
هذه لمحة عامة عن سد الذرائع والعمل بالمصالح، لم أرد منها الاستقصاء، ولكني أردت أن أبين أن هذين الأصلين أصلان مهمان لا بد أن يفهمها المفتي جيداً ويعمل بها وفق الضوابط الشرعية دون الالتفات إلى ما يقوله الناس، ومن دون ذلك سيضيع المستفتي بين سد الذرائع والعمل بالمصلحة.
والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد.
----------------------------------------
(1) وخذ مثالاً آخر لاستخدام سد الذرائع: عندما قننت بعض الدول العربية قانون الأحوال الشخصية وجعلت مستنده الشريعة الإسلامية وكان الغالب على الدول الإسلامية العمل بالمذهب الحنفي، وكانت بعض الأحكام المأخوذة من الفقه الحنفي لا تتناسب مع واقع الناس، فأخذ واضعو قانون الأحوال الشخصية بعض الأحكام من المذاهب الأخرى، وكانوا يعللون سبب ترجيحهم للمذهب الآخر أحياناً بالمصالح أو سد الذرائع، ولئن كان ظاهراً تعليلهم ذلك بالمصالح فقد يخفى التعليل بسد الذرائع ولذلك أسوق لك مثالاً على ذلك: (لما كانت إباحة التعدد مشروطاً فيها شرعاً المقدرة على الانفاق على الزوجات جميعاً، وكان القانون قد أخذ بقول من قال بالتفريق لعدم الانفاق فقد منع المتزوج من الزواج بأخرى إذا كان لا يستطيع الإنفاق على زوجتيه على قاعدة (سد الذرائع)... ) انظر: شرح قانون الأحوال الشخصية للسباعي (1/16ـ19)
(2) أعلام الموقعين (1/72وما بعدها)
(3) أسباب الخلاف عموماً ألف فيها العلماء قديماً وحديثاً تآليف مفردة أو ضمن بعض مصنفاتهم، فممن تكلم فيها ابن السيد البطليوسي وابن رشد الحفيد وابن تيمية وابن جزي والدهلوي.
ولكن مع ذلك لا أريد الكلام عن أسباب الخلاف وإنما أريد أن أشير إلى سبب اختلاف العلماء في المسألة مع اتفاقهم على مورد المسألة ـ الرأي أو الاستحسان مثلاً ـ ومع ذلك يقع الخلاف.
(4) انظر: أصول الجصاص (4/223ـ226) والمعتمد لأبي الحسين البصري (2/838) وبذل النظر للأسمندي (647) والمستصفى (1/274ـ283) وشرح اللمع (2/969) والوصول إلى الأصول لابن بَرهان (2/322) وروضة الناظر (2/531ـ 536) والمحصول (2/561) وشرح تنقيح الفصول (355ـ356)
(5) المستصفى (1/274)
(6) شرح اللمع (2/970)
(7) روضة الناظر (2/532)
(8) قواطع الأدلة (4/514و520ـ521)
(9) الفروق (2/32)، وانظر ما ذكره أيضاً في (3/266)، وقارن بما ذكره شيخ الإسلام في كتابه إقامة الدليل على بطلان التحليل (6/172ـ173ضمن الفتاوى الكبرى طبعة دار الكتب العلمية) والبحر المحيط للزركشي (8/90)
(10) المقال لا يتسع للتوسع في الاستدلال ولكن للمزيد من الأدلة راجع ما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين (3/122ـ143) فقد ذكر تسعة وتسعين وجهاً للاستدلال لهذه القاعدة.
(11) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (1330) ومسلم في كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور.. (529)
(12) الفروق (2/33)
(13) انظر الفروق (الموضع السابق)
(14) التحبير للمرداوي (8/3831) وشرح الكوكب المنير (4/434)
(15) تبيين الحقائق (3/294)
(16) تبيين الحقائق (4/176)، وانظر فروعاً أخرى في تبيين الحقائق (4/293)
(17) البحر الرائق (4/294)
(18) العناية (4/339)
(19) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (5/335)
(20) يشير إلى الحديث الذي ذكره بسنده قبل هذا الكلام بقليل، وهو: من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته.
(21) الأم (4/51)
(22) تكملة الجموع (الطبعة المنيرية) (10/148ـ149)، وانظر: سد الذارئع عند شيخ الإسلام ابن تيمية للمهنا (79ـ109)فقد أجاد في تحرير رأي الشافعي في هذه المسألة.
(23) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (76)، وانظر حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (1/75)
(24) الفروق (2/33)(/6)
(25) انظر: المستصفى (1/284) وشرح تنقيح الفصول (350) وشرح الكوكب المنير (4/433) ونهاية السول مع سلم الوصول (4/385)، ويلحظ أن كثيراً من الأصوليين يتطرقون إلى المصلحة عند كلامهم في القياس عن المناسب المرسل.
(26) قاعدة في المعجزات والكرامات (ضمن مجموع الفتاوى)(11/343ـ344)
(27) لأن هناك من اعترض على هذا القسم لأن ما من حكم إلا ولله فيه حكم شرعي فلا يتصور وجود هذا القسم عنده. تأمل: التقرير والتحبير (3/151) وحاشية العطار على شرح المحلي (2/328)
(28) البحر المحيط (8/84)، وبعض الأصوليين ينقلون عن الإمام أحمد التوسع في العمل بالمصالح، ومع ذلك فإن ابن قدامة لم يعتدّ بالمصالح المرسلة(الروضة 2/542) وكذلك الفتوحي في الكوكب المنير (4/433)، والذي عرف عنه التوسع في العمل بالمصالح توسعاً خرق فيه الإجماع هو الطوفي، وعلى ذلك فليحرر مذهب الإمام أحمد في مسألة المصالح المرسلة.
(29) ذكر ذلك ابن السبكي في جمع الجوامع (2/329 مع شرح المحلي) ولاحظ أن ابن السبكي شافعي كإمام الحرمين ومع ذلك قال هذه العبارة.
(30) شرح تنقيح الفصول (351)
(31) المستصفى (1/296)
(32) ضوابط المصلحة للبوطي (347)
(33) انظر: ضوابط المصلحة للبوطي.
(34) انظر: أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها للربيعة (227)(/7)
بين سدّ الذرائع وفتحها
سامي بن عبد العزيز الماجد 8/5/1427
04/06/2006
النصوص المستفيضة من الكتاب والسنة تشهد بأن سدّ الذرائع أصل معمولٌ به في الشريعة، ومنها قرر أهل العلم قواعد مهمة في هذا الباب، منها: (للوسائل أحكام المقاصد)، (كل ما أفضى إلى حرام فهو حرام)، والحديث عنها تتوزعه النقاط الآتية:
أولاً: العقل الصريح يوجب العمل بأصل سدّ الذرائع.
لم ينفرد علماء الشريعة بالعمل بهذا الأصل (سدّ الذرائع)، بل هو معمول به حتى في الأنظمة والقوانين الوضعية، وما من دولة إلا وهي تعمل بقاعدة سدّ الذرائع في أنظمتها وقوانينها، وإن اختلفت في درجة العمل به تضييقاً أو توسيعاً.
ثانياً: سدّ الذرائع بين التيسير والتشديد.
أصل قاعدة سدّ الذرائع متفق عليه، فكل ما يفضي إلى الحرام قطعاً فهو حرام عند أهل العلم جميعاً، ولا خلاف بينهم في هذه الصورة، وكذلك ما نص الشرع على تحريمه مما يفضي إلى الحرام غالباً؛ كالخلوة مثلاً، فهم متفقون على تحريمها؛ عملاً بالنص، لا إعمالاً بسدّ الذرائع. كما ذهب جمهور العلماء إلى العمل بسدّ الذرائع فيما يفضي إلى الحرام غالباً، وإن كان لا يُقطع بإفضائه إليه، واختلفوا فيما دون ذلك مما تردّد فيه الأمر: هل يفضي إلى الحرام أم لا؟ أو تساوى فيه الاحتمالان، فمنهم من يعمل القاعدة فيه، ومنهم من لا يعملها.
ومهما يكن؛ فهو من مورد الاجتهاد الذي تختلف فيه المدارك والأفهام، وتتباين فيه الأقوال، فلا تثريب ولا تشديد ما دام أن المجتهد قد اجتهد وُسْعه، وأعمل فكره، وراعى المقاصد، ووازن بين المصالح والمفاسد.
وأما الذرائع الضعيفة والتهمة البعيدة، فلا ينبغي أن تُعمل فيها القاعدة فتُسدَّ؛ لأن العبرة بالغالب، وهي في الغالب لا تُفضي إلى المنكر، فمنعها ضربٌ من التضييق، وإفراطٌ في إعمال (سدّ الذرائع).
قال القرافي ( كما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 8/90): "ومنها ما هو ملغي إجماعاً؛ كزراعة العنب؛ فإنها لا تُمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى الحرام"أهـ.
إن الذريعة التي يجب أن تُسدّ هي الخطوة القريبة التي تفضي إلى المنكر يقيناً أو في غلبة الظن، أما الخطوات البعيدة التي بينها وبين الحرام خطواتٌ أدنى فتحريمها بحجة سدّ الذريعة هي نفسها ذريعة إلى التشديد والتضييق يجب أن تُسدّ؛ فمثلاً: يحرّم الإسلام من الاختلاط ما هو مظنة المزاحمة والخلوة؛ لكن لا يجوز بحالٍ أن نُحرِّم على النساء أن يمشين مع الرجال في طريق واحد، أو نحرّم عليهم مجرد الاجتماع في مكان يحويهم جميعاً تكون فيه النساء بمعزل عن الرجال! والنبي لم يمنع النساء من المرور بطريقٍ يمر به الرجال، وإنما أمرهن بالبعد عن مزاحمتهم منعاً من تماسّ الأجساد، فقد صح عنه أنه قال: لما خرج الرجال والنساء من مسجده جميعاً: "لا تُحقِقن الطريق، ولكن عليكن بحافة الطريق". فهو -كما ترى- تجنّب للمزاحمة والاختلاط الذي يُفضي إلى الفتنة، لا تجنّبٌ لمشي الرجال والنساء في طريق واحد.
ثالثاً: اختلاف أهل العلم في بعض صور سدّ الذرائع لا يعود على أصلها بالنقض والبطلان:
لئن اختلف العلماء في درجة الأخذ بقاعدة (سدّ الذرائع) والتوسع في إعمالها، فلا يصح أن نجعله من الاختلاف الذي يعود على أصل القاعدة بالنقض والبطلان، فقد اختلفوا في بعض صور القياس وضروبه، ولم يكن ذلك الاختلاف مبطلاً لحجيّة القياس، ولا ناقضاً لأصله.إنما ذلك اختلافٌ في إعمالِ القاعدة وتحقيقِ مناطها، لا في أصل العمل بها.
رابعاً: المبالغة في سدّ الذرائع لا مسوّغ له إطلاقاً:
إن الذي نراه هو أن المبالغة في سدّ الذرائع بحجة الغيرة على الأعَراض -مثلاً- لا يخدم الغرض نفسَه، وقد يخدمه حيناً من الدهر؛ لكنه لا يلبث أن يكون عوناً ودافعاً للناس للتساهل في تقحّم بعض الذرائع التي هي - في الحقيقة- فتنةٌ واقعةٌ، أو تفضي إلى الحرام؛ كردة فعل منهم على ذلك التشدد.
خامساً: استثناء في إعمال قاعدة (سدّ الذرائع).
إن تحريم الذرائع التي تفضي إلى الحرام قطعاً أو غالباً هو من قبيل تحريم الوسائل لا من قبيل تحريم المقاصد، ولذا فما حُرّم من هذا القبيل فإنه يُباح عند الحاجة، ولو لم تكن ثمة ضرورة، ومن شواهد ذلك في كتب أهل العلم:
1ـ قولهم: (ما كان منهياً عنه للذريعة فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة) ( يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/298، وزاد المعاد 2/242، إعلام الموقعين 2/142)
2ـ قولهم: (يُغتفر في الوسائل ما لا يُغتفر في المقاصد) يُنظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص293.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى 23/186): " ثم إن ما نهى عنه لسدّ الذريعة يُباح للمصلحة الراجحة كما يُباح النظر إلى المخطوبة ...فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضياً إلى المفسدة".(/1)
وقال في موضع آخر (23/214): " ما كان من باب سدّ الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه؛ ولهذا يُفرق في العقود بين الحيل وسدّ الذرائع: فالمحتال يقصد المحرم، فهذا ينهى عنه. وأما الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم؛ لكن إذا لم يحتج إليها نُهي عنها، وأما مع الحاجة فلا "أهـ.
ويتبين مما سبق: أن إباحة ما حُرِّم سداً للذريعة لأجل الحاجة منزعُه من الترجيح بين المصالح والمفاسد، فما كانت مصلحته أرجح من مفسدته فإنه لا يُسدُّ، بل يباحُ مراعاةً للمصلحة الراجحة وإلغاء للمفسدة المرجوحة.
سادساً: (فتح الذرائع).
مصطلح (فتح الذرائع) مصطلح عبّر به بعض العلماء؛ كالقرافي، حيث يقول - شرح تنقيح الفصول ص449: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدّها، يجب فتحها، ويُكره ، ويُندب، ويُباح...".، ويقول ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة ص369: "إن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها". والقواعد الفقهية تؤيد هذا؛ ولكن بعبارات أخرى، مثل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و"ما لا يتم المباح إلا به فهو مباح".
غير أن استعمال هذا المصطلح "فتح الذرائع" -فيما أحسبُ- فيه إيهامٌ حتى وإن كان مستعملاً عند بعض أهل العلم، إذ يتوهم من يسمع به أن المقصود هو فتح الذرائع التي سُدَّتْ؛ لإفضائها إلى المحظور.
ولذا وقف بعض الأحبة من هذا المصطلح موقف الرفض؛ ظناً منه أن المقصود هو فتح الذرائع التي تفضي إلى الحرام، وليس بصحيح، وإنما المقصود هو فتح وسائل المباح والواجب والمندوب.
ورفعاً لهذا اللبس والإيهام: فالأولى ترك استعمال هذا المصطلح إلى التعبير بـ "التوسط والاعتدال في إعمال قاعدة سدّ الذرائع"، بحيث لا يُسدّ من الذرائع إلا ما أفضى الى المحظور غالباً، وكانت مفسدته أرجح من مصلحته؛ لأن التوسط في إعمال هذه القاعدة يجعل ذرائع المباح مفتوحة للناس استصحاباً للأصل؛ وهو أن الأصل في الأشياء الإب(/2)
بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي
[1/3]
المقارنة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عربي مقارنة بين الصديق والزنديق
بقلم/ عبد الرحمن عبد الخالق
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد..
مدخل:
عمد د. محمد عبد الغفار في مقاله بالقبس عدد 11831 المؤرخ في 12/5/2006 إلى عقد مقارنة جائرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبين ابن عربي قائلاً: 'كنا سابقًا يخوفوننا من اسم ابن عربي كثيرًا، وكنت أتحاشى كُتبه، حتى ملكت بعض كتبه فوجدت نفسي أقف أمام طود عظيم، عقلاً وثقافة شرعية'، وقال عن ابن تيمية: 'إنه عالم من العلماء، وإن الخلاف حوله أعظم من الخلاف حول ابن عربي'.
ولما كان تقديم ابن عربي - وهو أكبر زنديق عرفه تاريخ الإسلام بل تاريخ الإنسانية في كل عصورها - على هذا النحو من رجل يحمل درجة في الشريعة، ومن قبل دعا الناس إلى التصوف المعتدل – في زعمه - وافتخر بأنه يدرس كتاب شرح الحكم العطائية لابن الرندي، ومعلوم أن مؤلف العطائية على خطا ابن عربي.
من أجل ذلك كان لابد لمن حمّله الله أمانة العلم والكتاب أن يذبوا عن الدين, وأن يبينوا الحق للناس، وإلا كانوا مسئولين أمام الله عن السكوت والكتمان، ومن أجل ذلك أقول:
كيف يجمع بين ابن تيمية وابن عربي؟!
هل يصح أن يجمع بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ابن عربي، فنجعل هذا عالمًا وذاك عالمًا، وكلاهما قد اختلف الناس فيه، وخلاف الناس حول ابن تيمية أشد كما يقول د. عبد الغفار؟!
كيف يقرن بين إمام من أئمة الهدى وعلم من أعلامهم, الذي لم يترك بدعة في الدين منذ ظهور البدع وإلى زمانه إلا وبينها ودحضها, ومن ذلك بدع الخوارج، والمرجئة، والقدرية، والزنادقة، والجهمية بكل تفريعاتهم وخلوفهم، والمتصوفة، والمشركين من عبدة القبور والأولياء والاتحادية، وأهل الوجود، وكل ذلك في مجلدات ضخمة، حيث لم يجعل لهم حجة إلا ودحضها، ولا شاردة ولا واردة إلا وبينها، ولا شبهة إلا أجاب عنها، وظل يدافع عمره عن دين الإسلام بالقلم واللسان، والسيف والسنان، ولم يترك دينًا من أديان الباطل إلا ورد على أصحابه؛ فرد على النصارى، ورد على الفلاسفة والدهرية ومنكرة الصانع. وأفتى المسلمين في كل مشارق الأرض ومغاربها في نوازلهم وأحداثهم وخلافاتهم وأقضيتهم أعظم فتاوى وجدت في الإسلام إلى يومنا هذا؟!!
وغاية ما نقمه عليه مخالفوه من الفتيا قوله بإيقاع طلاق الثلاث واحدة إن كانت في مجلس واحد, وقوله بمنع شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين, وعند التحقيق يتبين أن الحق والصواب معه.
فكيف يقرن من عاش عمره يدافع عن دين الإسلام ويذب عنه كل عقائد الباطل، وبين كافر زنديق لم يترك عقيدة من عقائد الكفر إلا وأدخلها إلى الإسلام، وألبسها من الآيات والأحاديث ما يروجها على عقول أمثاله من أهل الزندقة والنفاق.
فابن عربي جمع كل عقائد المشركين والوثنيين واليهود والنصارى والزنادقة الذين سبقوه, واستطاع هذا الخبيث أن يجمع هذا كله ويؤلف بينه، ويلبسه لباس الإسلام, فيحمل آيات القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في ثعلبية ماكرة، وعبارات ملتوية خبيثة، يعجز عنها كل شياطين الإنس والجن!!
فهل يسوِّي بين ابن تيمية وابن عربي إلا جاهل بحاله، أو من هو على شاكلة ابن عربي؟!
ابن عربي أكبر زنديق عرفه تاريخ الإسلام.. بل تاريخ الإنسانية كلها:
قد كان في تاريخ الإسلام كفار حاربوه كأبي جهل وأبي لهب وكفار الفرس والروم، واليهود، والنصارى، ومن قبلهم قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وقد كان في تاريخ الإسلام زنادقة أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ونقلوا عقائد الكفار وألبسوها لباس الإسلام؛ كالحلاج، وابن الراوندي، وعبد الكريم الجيلي، وابن الفارض، والتلمساني، وابن سبعين، وعبد العزيز الدباغ، وابن المبارك السلجماسي وغيرهم وغيرهم، ولكن أحدًا من هؤلاء لم يكن كابن عربي قط، ولم يبلغ شأوه ودرجته في الكفر والزندقة والمروق من الدين، فإن الكفار الأصليين وأعظمهم فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} لم يجعل ربًا للناس جميعهم إلا نفسه، وقال لموسى عليه السلام: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، وأما ابن عربي فقد جعل كل موجود في الوجود هو الله، بجميع درجات الوجود, وحتى الشياطين والنجاسات – تعالى الله سبحانه وتعالى عما يقول هذا الأفاك – ونستغفر الله من حكاية قول هذا المجرم الخبيث، فأين كفر فرعون من كفر هذا الخبيث؟! وكل الذين أشركوا بالله عبدوا معه إلهًا أو إلهين أو ثلاثة أو مائة من الأصنام والأوثان والكواكب، وأما هذا المجرم فقد جعل كل معبود عبد هو الله لا غير، وأن كل من عبد شيئًا فلم يعبد إلا الله... فأين كفر المشركين من كفر هذا المجرم الخبيث؟!!(/1)
وكل الزنادقة الذين كانوا في تاريخ الإسلام أوّلوا بالتأويل الباطني نصًا أو أكثر من القرآن، وهذا الخبيث لم يترك آية في كتاب الله ولا حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حملها على عقائد الكفار جميعًا, وعقيدة وحدة الوجود على الخصوص [انظر أمثلة ذلك في ثنايا المقال].
وإن كل الزنادقة الذين كذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكذبوا كما كذب هذا الأفاك الذي ادعى أنه يتلقى عن الله من اللوح المحفوظ بغير واسطة, وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله بواسطة وهو جبريل، وأنه لذلك أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن محمدًا خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وأما هو فخاتم الأولياء، وجعل خاتم الأولياء يعني نفسه أفضل من خاتم الأنبياء.
والزنادقة الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد افتروا عليه في وضع بعض الأحاديث أو تأويل بعض منها، وأما هذا المجرم الخبيث فقد ادعى بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلمه كتاب فصوص الحكم يدًا بيد, وهو أعظم كتاب في الكفر والزندقة ظهر في الأرض إلى يومنا هذا..
وعامة الزنادقة الذين مروا في تاريخ الإسلام لاحقتهم اللعنة، وذاقوا حد السيف، ولكن هذا الخبيث بثعلبية ماكرة والتفاف خبيث ومظاهرة مريديه استطاع أن يفلت من القتل على الزندقة، ووجد من المجرمين من يطبل له ويزمر، ويرفعه فوق مصافّ الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن جميع علماء المسلمين.
ولقد وجدت فيه دوائر الكفر ضالّتهم المنشودة لهدم الإسلام, بل لهدم جميع الأديان، فنشروا تراثه لهدم تراث الإسلام، واعتنوا بكتاباته.. ومن أجل ذلك كانت فتنة ابن عربي من أعظم الفتن التي مرت بالمسلمين.
ولذلك كانت المقارنة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن عربي هي مقارنة بين الصديق والزنديق، بين إمام من أئمة الهدى والصدق والإيمان، وإمام من أئمة الضلال والكذب والكفر
عامة علماء الإسلام قالوا بكفر ابن عربي وزندقته
أقوال أهل العلم في ابن عربي:
1- قال العز بن عبد السلام: 'هو شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجًا' [سير أعلام النبلاء 23/48].
وقال أيضًا: هو شيخ سوء كذاب، فقال له ابن دقيق العيد: وكذاب أيضًا؟ قال: نعم؛ تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن، فقال: هذا محال؛ لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف، ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف. ثم بعد قليل رأيته وبه شجة، فقال: تزوجتُ جنية فرزقت منها ثلاثة أولاد، فاتفق يومًا أني أغضبتها فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة وانصرفت, فلم أرها بعد هذا.اهـ. [ميزان الاعتدال 5/105].
2- قال الحافظ ابن حجر: وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن عربي, فبادر بالجواب: هو كافر.اهـ. [لسان الميزان4/318].
3- أما الإمام الذهبي فقد قال عن كتاب 'فصوص الحكم': 'ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص, فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر'.اهـ. [سير أعلام النبلاء 23/48].
4- تقي الدين السبكي كما في 'مغني المحتاج للشربيني 3/61': 'ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام, فضلاً عن العلماء, وقال ابن المقري في روضه: إن الشك في كفر طائفة ابن عربي كفر'.
5- القاضي بدر الدين بن جماعة: 'حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن في المنام بما يخالف ويعاند الإسلام – يشير إلى زعم ابن عربي أنه تلقى كتاب الفصوص من الرسول مكتوبًا - بل ذلك من وسواس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته.. وقوله في آدم: إنه إنسان العين، تشبيه لله تعالى بخلقه، وكذلك قوله: الحق المنزه، هو الخلق المشبّه إن أراد بالحق رب العالمين، فقد صرّح بالتشبيه وتغالى فيه.. وأما إنكاره ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد: فهو كافر به عند علماء أهل التوحيد.. وكذلك قوله في قوم نوح وهود: قول لغوٍ باطل مردود وإعدام ذلك، وما شابه هذه الأبواب من نسخ هذا الكتاب، من أوضح طرق الصواب، فإنها ألفاظ مزوّقة، وعبارات عن معان غير محققة، وإحداث في الدين ما ليس منه، فحُكمه: رده، والإعراض عنه'' [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص 29، 30].(/2)
6- قال نور الدين البكري الشافعي: 'وأما تصنيف تذكر فيه هذه الأقوال ويكون المراد بها ظاهرها فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك, بل هو كاذب فاجر كافر في القول والاعتقاد ظاهرًا وباطنًا, وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال بجهله، ولا يعذر بتأويله لتلك الألفاظ, إلا أن يكون جاهلاً للأحكام جهلاً تامًا عامًا, ولا يعذر بجهله لمعصيته لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم, أعني معرفة الأدب في التعبيرات, على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه'. [مصرع التصوف ص/144].
7- قال ابن خلدون: 'ومن هؤلاء المتصوفة: ابن عربي، وابن سبعين، وابن برّجان، وأتباعهم، ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها، مشحونة من صريح الكفر، ومستهجن البدع، وتأويل الظواهر لذلك على أبعد الوجوه وأقبحها، مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملّة أو عدّها في الشريعة، وليس ثناء أحد على هؤلاء حجة ولو بلغ المثني عسى ما يبلغ من الفضل؛ لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلاً أو شهادة من كل أحد، وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة وما يوجد من نسخها في أيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي.. فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها إذا وجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب'. [مصرع التصوف ص 150].
8- قال نجم الدين البالسي الشافعي: 'من صدّق هذه المقالة الباطلة أو رضيها كان كافرًا بالله تعالى يراق دمه ولا تنفعه التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعي، ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها'. [مصرع التصوف ص146].
9- قال المفسر أبو حيان الأندلسي عند تفسيره لقول الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ}: ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرًا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم في دمشق.اهـ.
10- قال الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف الجزري الشافعي: 'الحمد لله، قوله: فإن آدم عليه السلام، إنما سمّي إنسانًا: تشبيه وكذب باطل، وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر، لا يقر قائله عليه، وقوله: إن الحق المنزّه: هو الخلق المشبّه، كلام باطل متناقض وهو كفر، وقوله في قوم هود: إنهم حصلوا في عين القرب، افتراء على الله وردّ لقوله فيهم، وقوله: زال البعد، وصيرورية جهنم في حقهم نعيمًا: كذب وتكذيب للشرائع، بل الحقّ ما أخبر الله به من بقائهم في العذاب.. وأمّا من يصدقه فيما قاله، لعلمه بما قال: فحكمه كحكمه من التضليل والتكفير إن كان عالمًا، فإن كان ممن لا علم له: فإن قال ذلك جهلاً: عُرِّف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه ما أمكن.. وإنكاره الوعيد في حق سائر العبيد: كذب وردّ لإجماع المسلمين، وإنجاز من الله عز وجل للعقوبة، فقد دلّت الشريعة دلالة ناطقة، أن لا بدّ من عذاب طائفة من عصاة المؤمنين، ومنكر ذلك يكفر، عصمنا الله من سوء الاعتقاد، وإنكار المعاد. [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص31،32].
11- قال الحافظ العراقي: 'وأما قوله فهو عين ما ظهر وعين ما بطن، فهو كلام مسموم ظاهره القول بالوحدة المطلقة، وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء'. [مصرع التصوف ص64].
12- قال أبو زرعة ابن الحافظ العراقي: 'لا شك في اشتمال 'الفصوص' المشهورة على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإن صحّ صدور ذلك عنه، واستمر عليه إلى وفاته: فهو كافر مخلد في النار بلا شك'. [عقيدة ابن عربي وحياته لتقي الدين الفاسي ص60].
وممن أفتى بكفره من علماء الإسلام أيضًا: شهاب الدين التلمساني الحنفي، وابن بلبان السعودي، وابن دقيق العيد، وقطب الدين القسطلاني، وعماد الدين الواسطي، وبرهان الدين الجعبري، والقاضي شرف الدين الزواوي المالكي، والمفسر الشافعي ابن النقاش، وابن هشام النحوي, وقد كتب على إحدى نسخ الفصوص:
هذا الذي بضلاله ضلت أوائل معْ أواخر
من ظن فيه غير ذا فلينأ عني فهو كافر
وأيضًا الشمس العيزري، وابن الخطيب الأندلسي، وشمس الدين الموصلي البساطي المالكي، وبرهان الدين السفاقيني، وابن تيمية، وابن خياط الشافعي، والمقري الشافعي، وعلاء الدين البخاري الحنفي.
الإمام ابن حجر يباهل على ضلال ابن عربي فيهلك مباهله:(/3)
قال السخاوي في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني: ومع وفور علمه - يعني شيخه الحافظ ابن حجر - إلى أن قال: 'وعدم سرعة غضبه، فكان سريع الغضب في الله ورسوله, واتفق كما سمعته منه مرارًا أنه جرى بينه وبين بعض المحبين لابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي، أدت إلى أن نال شيخنا من ابن عربي لسوء مقالته. فلم يسهل بالرجل المنازع له في أمره، وهدَّده بأن يغري به الشيخ صفاء الذي كان الظاهر برقوق يعتقده، ليذكر للسلطان أن جماعة بمصر منهم فلان يذكرون الصالحين بالسوء ونحو ذلك.
فقال له شيخنا: ما للسلطان في هذا مدخل، لكن تعالَ نتباهل؛ فقلما تباهل اثنان، فكان أحدهما كاذبًا إلا وأصيب. فأجاب لذلك، وعلَّمه شيخنا أن يقول: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال، فالعَنِّي بلعنتك، فقال ذلك. وقال شيخنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعنِّي بلعنتك. وافترقا. قال: وكان المعاند يسكن الروضة 'وسط القاهرة'، فاستضافه شخص من أبناء الجند جميل الصورة، ثم بدا له أن يتركهم، وخرج في أول الليل مصممًا على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى الشختور 'قارب'، فلما رجع أحسَّ بشيءٍ مرَّ على رجله، فقال لأصحابه: مرَّ على رجلي شيء ناعم فانظروا، فنظروا فلم يروا شيئًا. وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي، وما أصبح إلا ميتًا. وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وكانت المباهلة في رمضان منها. وكان شيخنا عند وقوع المباهلة عرَّف من حضر أن من كان مبطلاً في المباهلة لا تمضي عليه سنة. [الجواهر والدرر 3/1001-1002], وكذلك نقل قصة المباهلة صاحب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 2/198.
محمد الغزالي: الفتوحات المكية ينبغي أن تسمى الفتوحات الرومية:
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: 'إنني ألفت النظر إلى أن المواريث الشائعة بيننا تتضمن أمورًا هي الكفر بعينه. لقد اطلعت على مقتطفات من الفتوحات المكية لابن عربي فقلت: كان ينبغي أن تسمى الفتوحات الرومية! فإن الفاتيكان لا يطمع أن يدسَّ بيننا أكثر شرًا من هذا اللغو.. يقول ابن عربي في الباب 333 بعد تمهيد طويل: 'إن الأصل الساري في بروز أعيان الممكنات هو التثليث! والأحد لا يكون عنه شيء البتة! وأول الأعداد الاثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلاً، ما لم يكن ثالث يربط بعضها ببعض, فحينئذ يتكون عنها ما يتكّون، فالإيجاد عن الثلاثة, والثلاثة أول الأفراد. [...لم أقرأ في حياتي أقبح من هذا السخف، ولا ريب أن الكلام تسويغ ممجوج لفكرة الثالوث المسيحي، وابن عربي مع عصابات الباطنية والحشاشين الذين بذرتهم أوروبا في دار الإسلام أيام الحروب الصليبية الأولى؛ كانوا طلائع هذا الغزو الخسيس، ولكن ابن عربي يمضى في سخافاته فيقول – عن عقيدة التثليث-: من العابدين من يجمع هذا كله في صورة عبادته وصورة عمله، فيسري التثليث في جميع الأمور لوجوده في الأصل!! ويبلغ ابن عربي قمة التغفيل عندما يقول: إن الله سمى القائل بالتثليث كافرًا أي ساترًا بيان حقيقة الأمر فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}, فالقائل بالتثليث ستر ما ينبغي أن يكشف صورته، ولو بيّن لقال هذا الذي قلناه!! واكتفى الأحمق بذكر الجملة الأولى من الآية، ولم يُردفْها بالجملة الثانية: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} وذلك للتلبيس المقصود! هذا الكلام المقبوح موجود فيما يسمَّى بالتصوف الإسلامي! وعوام المسلمين وخواصهم يشعرون بالمصدر النصراني الواضح لهذا الكلام. [تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل ص 60 – 61].
والعجب بعد ذلك أن د. محمد عبد الغفار لما سئل عمن يكفّرون ابن عربي قال: 'هذا هو التطرف وبذور الإرهاب' [الأنباء 18/3/2006].
نماذج من كفر ابن عربي:
وحدة الوجود أعظم عقيدة في الكفر, وهذه العقيدة التي لم تعرف الأرض أكفر ولا أفجر منها, والتي فصّلها هذا الخبيث في كتابه الفصوص، قد نثرها وفرقها في موسوعته الكبيرة الفتوحات المكية, والتي تقع في أربع مجلدات كبار كبار.
* بدأها في مقدمته بقوله: 'ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشدت على حكم الطريقة للحقيقة:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف
فهو يطيع نفسه إذا شاء بخلقه...' إلخ.
* ثم فرق هذه العقيدة الكفرية في كتابه هذا قائلاً: 'وأما عقيدة خاصة الخاصة في الله تعالى... جعلناه مبددًا في هذا الكتاب لكون أكثر العقول المحجوبة تقصر...'. [الفتوحات 47].
* وقال هذا الأفاك فيما قال: إن الله لا ينزَّه عن شيء، لأن كل شيء هو عينه وذاته، وأن من نزهه عن الموجودات قد جهل الله ولم يعرفه، أي جهل ذاته ونفسه... قال: 'اعلم أن التنزيه عن أهل الحقائق في الجانب الإلهي عين التحديد والتقييد؛ فالمنزِّه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب'. [الفصوص 86].(/4)
* وقال في وصف نوح: لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} صلى الله عليه وسلم: 'فأجابوه مكراً كما دعاهم, فقالوا في مكرهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. فإنهم لو تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء. فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا} أي حكم, فالعالم يعلم من عَبَد وفي أي صورة ظهر حتى عُبِد، وإن التفريق {إِلَّا إِيَّاهُ} والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود'. [الفصوص 72].
* ولما جعل هذا الخبيث قوم نوح الذين عبدوا الأصنام لم يعبدوا إلا الله, وأنهم بذلك موحدون حقًا فلذلك كافأهم الله الذي هم نفسه, فهي التي خطت بهم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} وذاته بأن أغرقهم في بحار العلم في الله. قال: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} في عين الماء {فَأُدْخِلُوا نَاراً} فغرقوا في بحار العلم بالله، فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً}. [الفصوص 73].
* وقال أيضاً: 'ومن أسمائه العلي: على من، وما ثم إلا هو، فهو العلي لذاته أو عن ماذا؟! وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، ومن حيث الوجود فهو عين الموجودات, فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليس إلا هو'. [الفصوص 76].
* وقال: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك من عين واحدة، لا، بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة. فانظر؛ والولد عين أبيه. فما رأى يذبح سوى نفسه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ماذا ترى, وفداه بذبح عظيم، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم: فما نكح سوى نفْسِهِ. اهـ. ] {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ولد من هو عين الوالد. [الفصوص 78].
* وقال أيضًا: 'فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية, بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومة عرفًا وعقلاً وشرعًا. وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة'. [الفصوص 79].
* وهذا الخبيث لا يكذب الرسل فقط في إخبارهم عن الله والغيب، بل يكذب ويكابر في المحسوس, فإنه بما زعم في وحدة الوجود وأنه ليس إلا الله، مدعيًا أنه هو عين المخلوقات، وبذلك لا يكون هناك فارق بين الملك والشيطان والمؤمن والكافر، والحلال والحرام، ومن عبد الشمس والقمر، ومن كفر بعبادة الشمس والقمر... بل ادعى كذلك أن الجنة والنار كليهما للنعيم، وأن أهل النار منعمون كما أهل الجنة، قال:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابًا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاينُ
ولا يخجل هذا الأفاك من وصف الرب الإله سبحانه وتعالى بكل صفات الذم تصريحًا لا إجمالاً وتلميحًا وفحوى... فهو يصف الجماع بل الوقاع نفسه أنه دليل هذه الوحدة، فالله عنده هو الطيب والخبيث – تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا – فيقول: والعالم على صورة الحق والإنسان على الصورتين.
وقال: 'ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة, أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أُمِرَ بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه؛ إذ لا يكون إلا ذلك. فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه - من حيث ظهور المرأة عنه - شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوَّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة.
فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن؛ إذ لا يشاهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله'. [الفصوص 217].
لا يزكي ابنَ عربي إلا جاهل بحاله، أو من هو على دينه
بقلم/ عبد الرحمن عبد الخالق
أسلوب ابن عربي في كتاباته:(/5)
وبنى ابن عربي كتاباته كلها على الثعلبية والمكر والخداع, وذلك بتحريف الكلم عن مواضعه تحريفًا معنويًا للقرآن الكريم والحديث الشريف، والكذب وادعاء العلم الإلهي، والرؤى، والاطلاع على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق سواه، مع ادعائه العلم والدين والتقوى والصدق، وقد لا يوجد على البسيطة كلها من هو أكذب منه. ووالله إني عندما أقرأ كتابه وأقارن بين ما قاله إبليس في أول أمره عندما امتنع عن السجود لآدم، واستكبر وأبى, فلعنه الله إلى يوم القيامة, { وإن عليك لعنتي إلى يوم يبعثون, } وبين هذا الكذاب الأفاك الذي قال عن الله وفي الله ما لم تقله اليهود والنصارى ولا مشركو العرب والعجم, فأرى أن إبليس في وقت لعن الله له، كان أخف ذنبًا وجرمًا، وإن كان قد أصبح بعد ذلك هو محرك الشرك كله وباعثه، وابن عربي وأمثاله وإن كانوا غرسًا من غراس إبليس اللعين, فإنهم قد فاقوا بكفرهم وعنادهم وعتوهم وقولهم العظيم على الله ما لم يقله إبليس، فإن إبليس كان يفرّق بين الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله القوي القاهر، وبين المخلوق الضعيف الفقير المحتاج إلى إلهه ومولاه، وأما ابن عربي هذا ومن على شاكلته فقد جعلوا إبليس وجبريل والأنبياء والكفار والأشقياء، وكل هذه المخلوقات هي عين الخالق, وأنه ليس في الوجود غيره، يخلق بنفسه لنفسه، وأنه ليس معه غيره، وأن الكفر والإيمان، والحلال والحرام، والأخت والأجنبية، وإتيان النساء، وإتيان الذكور شيء واحد، وكل هذا عين الرب وحقيقته وأفعاله - فتعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - ونستغفره سبحانه وتعالى من ذكر أقوالهم ونقل كفرهم، ولكننا نفعل ذلك لأن هؤلاء المجرمين هم عند كثير من الحمقى المغفلين والزنادقة المخادعين هم عندهم أولياء الله الصالحين.
وقد قام علماء المسلمين الصادقين في كل وقت يردون إفك هؤلاء المجرمين.
ابن تيمية يرد على إفك ابن عربي وعقيدته وحدة الوجود:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - فيهم: 'حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون: هو الراهب في الصومعة؛ وهذه مظاهر الجمال؛ ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله. ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السماوات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك.
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطئها الذي تفترشه؛ وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً.
ومن قال: إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حق، وأنه من الحقائق التي لا يطّلع عليها إلا خواص خواص الخلق: فهو أحد رجلين – إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة الأمر، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادًا من ظاهره؛ فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس'. [الفتاوى 2/378:379].
ويقول أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: 'وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى، فيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى, ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فهو مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطنًا وظاهرًا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام, فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى'. [الفتاوى 2/368].
وقال أيضًا: 'ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال'. [الفتاوى 2/367].
ولما سئل شيخ الإسلام عن كتاب فصوص الحكم قال: 'ما تضمنه كتاب 'فصوص الحكم' وما شاكله من الكلام: فإنه كفر باطنًا وظاهرًا؛ وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين. وهؤلاء نوعان: نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله: مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي والششتري والتلمساني وأمثالهم ممن يقول: إن الوجود واحد، ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق. ويقولون: إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبّاد الأصنام ما عبدوا شيئًا إلا الله. ويقولون: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم.(/6)
ويقولون: إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقًا في قوله: أنا { ربكم الأعلى } , بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص. ويقول أعظم محققيهم: إن القرآن كله شرك؛ لأنه فرّق بين الرب والعبد؛ وليس التوحيد إلا في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحدًا، فلم كانت الزوجة حلالاً والأم حرامًا؟! فقال: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبين قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم'. [الفتاوى 2/364: 365].
وقال ابن تيمية أيضًا: 'وقد صرّح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش، ويمرض ويبول ويَنكح ويُنكح، وأنه موصوف بكل عيب ونقص؛ لأن ذلك هو الكمال عندهم، كما قال في الفصوص؛ فالعلي بنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصى به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية: سواء كانت ممدوحة عرفًا وعقلاً وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلاً وشرعًا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة'. [الفتاوى 2/265].
ويعتذر شيخ الإسلام عن الإفاضة في بيان عقيدة هؤلاء القوم والتحذير منهم قائلاً: 'ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق. وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين: لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال.
ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرّق بين نوع الإنسان؛ فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب، وهو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين'. [الفتاوى 2/357: 358].
وقال في وجوب إنكار هذه المقالات الكفرية، وفضح أهلها: 'فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل، والواجب إنكارها؛ فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لا سيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين، الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}, والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قُدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم، كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة، وأشعار مؤلفة، وكلام يفسر بعضه بعضًا.
وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السُرّاق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة.
فإن هؤلاء: غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببًا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء: فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنًا وليًا لله، فيصير منافقًا عدوًا لله'. [الفتاوى 2/359].
شبهات المدافعين عنه:
والمدافعون عن ابن عربي إما أن يكونوا جاهلين بحاله، أو هم على شاكلته في الكفر والزندقة, ومما دافعوا به عن قولهم: إن كلماته وعباراته جاءت على وجه الشطح والسكر وغلبة الوجد، أو أنها عبارات دقيقة ومعاني عميقة لا يعلمها إلا المتخصصون الراسخون في العلم, أو أنها مدسوسة عليه... وكل هذه الأقوال من الكذب والتلبيس.
فأما أنها شطح وغلبة سكر، وكتبها في غير صحو ووعي فكذب؛ فإنها كتب مدونة، مقسمة الأبواب منسقة الفصول, مسبوكة العبارة، ومن طالعها لم يشك في مكر وخبث مصنفها, وقد ملأ كل صفحة فيها بكفره.
وأما قولهم: كتب بلغة لا يفهمها إلا أهلها؛ فكذب مبين، فإنها مكتوبة شعرًا ونثرًا بعربية فصيحة بمعانٍ محددة ومفصلة, ظاهرها وباطنها الكفر والزندقة، ولا يخفى معناها إلا على جاهل لا علم له بلغة العرب، وقد علم ما فيها علماء الإسلام ممن قرءوها، وخبروها، وعلموا مراد صاحبها على الحقيقة.(/7)
ورحم الله نور الدين البكري الشافعي إذ يجيب على هذه الشبهة بقوله: 'وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال بجهله، ولا يعذر بتأويله لتلك الألفاظ إلا أن يكون جاهلاً للأحكام جهلاً تامًا عامًا ولا يعذر بجهله لمعصيته؛ لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم, أعني معرفة الأدب في التعبيرات, على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه'. [مصرع التصوف ص 144].
وقال أبو حامد الغزالي: 'فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ, وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم'. [إحياء علوم الدين 1/37].
وأما أنها مدسوسة عليه فكذب، وقد شهد معاصروه عليه بها، وما زال المدافعون عنه يفخرون بنسبة الفتوحات والفصوص إليه ويمتدحونه بها.
وقد ذكر الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - حادثة طريفة في معرض رده على من أنكروا عليه بأنه يقول بكفر الكلام الموجود في كتب ابن عربي ما نصه: 'أما قوله في أنني لا أعرف شيئًا عن ابن عربي وعن عقيدة وحدة الوجود فأخبره ولا فخر في ذلك أن الذي جلب كتاب الفتوحات من قونيا ونقله من النسخة المكتوبة بخط ابن عربي نفسه والمخطوطة الآن في قونيا هو: جدنا الذي قدم من طنطا إلى دمشق سنة 1250هـ, فإن كان أخطأ فإني أسأل له المغفرة, وإنني قابلت مع عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي نسخة الفتوحات المطبوعة على هذا الأصل المنقول صفحة صفحة.. وأنا أستغفر الله على ما أنفقت من عمري في قراءة مثل هذه الضلالات'. [منقول من كتاب فتاوى علي الطنطاوي].
ما وراء إحياء أفكار ابن عربي:
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: 'وفي هذه الأيام يوجد تعاون بين قسم الدراسات الإسلامية في السوربون وبين المسئولين عن العلوم والآداب والفنون عندنا على إخراج كتاب الفتوحات المكية في بضعة وثلاثين سفرًا، في نسخ أنيقة فاخرة لتيسير تداولها بين الناس، ولنشر فكر ابن عربي الذي تحتاج إليه أوروبا في هذه الأيام...
والسعي لإحياء أفكار ابن عربي جزء من تضليل أمتنا وتعتيم الرؤية أمامها, أو هو عرض لدين مائع يسوي بين المتناقضات؛ إذ قلب ابن عربي – كما وصف نفسه - دير لرهبان وبيت لنيران وكعبة أوثان، إنه تثليث وتوحيد ونفي وإثبات.. هذا الكلام الغث هو قرة عين الصليبين وأمثالهم, وهو ما يراد الآن نشره على أوسع نطاق...
إن علماء الأزهر في العصر الأيوبي أنكروا تفكير هذا الرجل وحكموا بكفره وأودع السجن ليلقى جزاءه, لكن أصدقاءه نجحوا في تهريبه'. [تراثنا الفكري 72: 74].
وقال الباحث الموسوعي الدكتور عبد الوهاب المسيري: 'العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشارًا الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين بن عربي, وأشعار جلال الدين الرومي. وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية'. [http://www.elmessiri.com/ar]
وفي الختام نسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(/8)
بين عقليتين ونهجين
تأليف: د.عدنان علي رضا النحوي
انطلق العقل الغربي في العصور الحديثة من خلال تاريخ طويل استغرق قروناً ، وتفاعلت فيه عوامل كثيرة وأحداث متعاقبة ، لكنها كلها انطلقت من الوثنية اليونانية وما حملت من علم ونظرة خاصة بالفنون والأدب ، ونظرة خاصة للحياة والكون ، اجتمعت كلها لتكون الفلسفة اليونانية الوثنية .
ولكن لابد أن نسرع فنقول إن هذه الوثنية لم تكن هي أول أمر هذه الشعوب ،
لقد كان أول أمرهم الذي يعنينا هو رسالة الإيمان والتوحيد التي لا شك أنها بلغتهم كما بلغت كل امة أخرى في التاريخ البشري، فقد بعث الله برحمته رسولا إلى كل امة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت :
( ولقد بعثنا في كل امة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ] النحل: 36[
وكما كان شأن كثير من الأمم، فقد انحرفت اليونان عن التوحيد وغلبتها الوثنية بصورة شديدة ، وعبدوا آلهة ابتدعوها من أنفسهم ، وأقاموا لها التماثيل ، ودخلت هذه الوثنية في جميع ميادين حياتهم وتصوراتهم وأدبهم .
ولما قامت دولة الرومان لم يكونوا أهل أدب أو فكر ، فأخذوا كل ذلك عن اليونان وأصبح فكرهم وأدبهم امتداداً لفكر اليونان وأدبهم ، ولما جاءت النصرانية إلى أوروبا اصطدمت بهذه الوثنية الطاغية على الحياة ، وعانى رجال النصرانية معاناة شديدة مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، أمكن بعدها التفاهم مع "قسطنطين" على أن يعينوه على الوصول إلى سدة الإمبراطورية الرومانية، مقابل تنازلات ومقابل رفع الأذى عنهم .
خلال هذه المدة تأثرت النصرانية بالوثنية ، ووقع خلاف بين النصرانيين أنفسهم ، فريق يدعو إلى عقيدة التثليث وفريق يرى أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله ولا شبيها لله ، ولكنْ رسول من عند الله، ونالت طائفة التثليث الدعم من الدولة ، وأخذت بعض طقوسها من الوثنية الرومانية ، وبدأت التساهل مع النصرانية الجديدة التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام ، وفي سنة 311م وقع الإمبراطور جاليريوس مع ثلاثة آخرين بإعطاء حرية العبادة للنصارى .
ولما أصبح قسطنطين الأول (280 – 337م ) هو الإمبراطور اعترف بالدين الجديد ، الذي لم يكن لديه النص الرباني الأصلي الذي جاء به عيسى عليه السلام ، وإنما كان ما تناقله أتباعه وما دوَّنه علماؤه بعد عيسى عليه السلام بزمن غير قصير .
دعا الإمبراطور قسطنطين رجال الكنيسة إلى اجتماع في " نيقية Nicaea " سنة 325م في محاولة لتصفية النزاع بينهم وبين الأريوسيين الذين يقولون بأن عيسى عليه السلام ليس مشابهاً لله في الجوهر، والذين ينتسبون إلى آريوس الإسكندرية (ت:326م) ولكن المجمع المنعقد في "نيقيه" أصدر قراراً يتبنى الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام ( trinity ) وتسمى هذه" بعقيدة نيسين Nicene Creed " .
هذه العقيدة كانت نتيجة التأثر بالتصورات الوثنية تأثراً انحرف بها عن التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام .
ولما جاء الإمبراطور ثيودوسيس ( 346 – 395 ) فرض الكنيسة الكاثوليكية في جميع الإمبراطورية ، وفرض القرار النيسيني والتطور الثلاثي لطبيعة عيسى عليه السلام ، ولإنهاء الصراع مع الأريوسيين دعا إلى لقاء كنسي سُمِّي فيما بعد "المجمع العالمي Ecumenical council " سنة 381م في مدينة القسطنطينية، وأقر هذا المجمع التصور الثلاثي والعقيدة النيسينية، وأخذ في مطاردة الأريوسيين واعتبرهم هراطقة .
لقد انتهى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية التي تتبنى العقيدة النيسينية وتطور الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام ، والتي أصبح مذهب الإمبراطورية الرومانية كلها ، وأصبح للكنيسة سلطان كبير على السلطة المدنية .
وبدأ صراع جديد بين الكنيسة والسلطة الزمنية من ناحية ، وصراع بين الكنيسة والعلماء امتد زمناً غير قليل ، ولقد حملت هذه الأحداث كلها امتداد التأثير الواضح للوثنية اليونانية في عصور أوروبا المختلفة : العصور الوسطى ، أو عصر الظلمات ، عصر النهضة ، عصر التنوير ، والعصر الحديث ، وامتد التأثير إلى أعماق الفكر الأوروبي ، وكان من أهم آثار هذا الصراع الممتد أن برزت العلمانية في أوروبا تحمل الرغبة الحاسمة للتحلل من الدين وعزله عن حياة المجتمع ، وحصره بين جدران الكنيسة ، ولقد حمل هذا الاتجاهَ عددٌ غير قليل من الفلاسفة الأوروبيين ، واستقرَّت العلمانية في العالم الغربي توجِّه الفكرَ والأدب والأخلاق ، والسياسة والاقتصاد ، وأعطت الحرية الفرديةَ تفلُّتاً واسعاً في الجنس ، وحرية في الرأي لا تعطِّل القرار الذي يتخذه القادة بين الكواليس ، ويستغلون الدين كلما احتاجوا إليه .
وقد جعلت العلمانية رأس الأمر كله ومدار اهتمامهم الأول هو المصالح المادية الدنيوية الخاصة، فمن أجلها تدور الحروب أوالسلام ، والوفاق أو الشقاق ،(/1)
ولكن هذه الشعارات كانت تغلف بشعارات عامة مزخرفة كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وغير ذلك .
إلا أن الديمقراطية في حقيقتها لم تشهد إلاّ الحروب التي تشعلها المصالح الخاصة والتنافس عليها واستغلال الشعوب بالإغراء أو القوة والبطش ، ولا أظن أن تاريخ البشرية شهد استبداداً اشد من استبداد الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تطلقها أمريكا على أجزاء كبيرة من العالم لفرض ما تسميه " الديمقراطية والحرية " ، ثم لا تجد إلا الخداع والكذب ، والأشلاء والجماجم .
من خلال مسيرة العقل الأوروبي والغربي مع مسيرة العلمانية قدَّر الله أن ينهض الغرب بنهضة علمية وصناعية كبيرة ، زودتهم بالقوة المادية الكبيرة والسلاح المدمر ، وكان أساس هذا التطور ما أخذوه عن المسلمين عندما كان المسلمون في أوج تطورهم وازدهارهم العلمي ، وأوروبا في ظلال الجهل .
وفي الوقت نفسه قدَّر الله أن يقع المسلمون في غفوة طويلة وغفلة كبيرة من خلال تاريخ طويل من الانحراف .
وعندما كانت أوروبا تغطُّ في ظلمات الجهل والتخلف ، كان المسلمون هم قادة العالم بالعلم في ميادينه المختلفة ، وقدموا العلم ونشروه مع نشر رسالتهم ودينهم حيثما امتدوا .
برزت عبقريات المسلمين في شتى أنواع العلوم كالرياضيات والطبيعيات والطب والفلك والجغرافية ، والاكتشافات الجغرافية ، وفنِّ العمارة وغيرها من العلوم .
كانت العبقريات قد انطلقت من الإسلام من الإيمان ، من جميع الشعوب الإسلامية ، لتخدم البشرية كلها نوراً وهداية ، وعلما وعدالة ، وحرية ومساواة .
مهما وقعت انحرافات أو أخطاء في مسيرة المسلمين ، فإنها لم تصل ابدآ إلى ما بلغه الغرب من إفناء وتدمير ووحشية ، لقد كان الإسلام يكبح نزعات الفتك الإجرامي ، ولقد وجدت الشعوب التي دخلها الإسلام عدالة لم تعهدها في تاريخها ، وحرية كريمة منضبطة تسود الجميع ، وديناً يجمع البشرية كلها في ظلال الإسلام وأنداء الإيمان، ويضع الحقوق الصادقة لكل فئة أو طائفة ، لينسجم الجميع تحت حكم الإسلام وشريعة الله الحق .
لقد جمع الإسلام شعوباً مختلفة الأجناس واللغات لأول مرة في التاريخ البشري ، عندما أعاد الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها ، إلى حقيقة الفطرة السليمة غير المشوهة أو المنحرفة .
فانطلقت قوى الشعوب كلها منسجمة متآلفة ، وجمع الإسلام بذلك طاقات الشعوب ومواهبها بعد أن آمنت وأسلمت لله رب العالمين ، وبعد أن ذابت العصبيات الجاهلية من حزبية أو عائلية أو قومية ، وبعد أن وجد كل شعب أنه آمن ، ينال حقوقه كما تناله الشعوب الأخرى ، على ميزان رباني عادل أمين .
فانطلقت بذلك الحضارة الإسلامية تصب فيها مواهب الشعوب كلها وقدراتها ، وخيرات بلادها في مجرى واحد صافٍ ، تقودها عقلية إسلامية صاغها القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عقلية تنطلق من الفطرة السليمة التي أعاد الإسلام الناس إليها .
هذه الحضارة الإسلامية ، ليست حضارة شعب واحد ولا حضارة بيئة واحدة ، إنها حضارة الشعوب كلها ، الشعوب التي تآلفت على الإسلام فطرةً وإيماناً وتوحيداً ، وعلماً بمنهاج الله ، وصراطاً مستقيماً واحداً ، يجمع الناس كلهم على استقامته التي لا يضلُّ عنها مؤمن ، وعلى تفرُّده بأنه سبيل واحد لا سبل شتَّى ، فلن يختلف عليه المؤمنون .
هذه الحضارة وهذه العقلية تميزت أيضا بأنها جمعت المؤمنين كلَّهم على مدار التاريخ البشري أمة واحدة، على أسس واحدة وحق واحد .
فسورة الأنبياء ، بعد أن تستعرض مسيرة عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتبيِّن أنَّهم كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد هو الإسلام ، ولعبادة رب واحد هو الله الذي لا اله إلا هو، تختم السورة الكريمة هذا العرض بالآية الكريمة:
( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ] الأنبياء: 92[
ويتكرر هذا المشهد العظيم في سورة " المؤمنون " ، حيث تستعرض السورة مسيرة الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى دين واحد هو الإسلام ، وإِلى عبادة رب واحد هو الله ، تختم هذا العرض والمشهد بقوله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وإن هذه أُمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون) ] المؤمنون: 51-52 [
هذه هي معركة التاريخ البشري تدور بين عقليتين ونهجين : عقلية تنطلق من الفطرة السليمة ، ونهج رباني من عند الله على سبيل واحد وصراط مستقيم ، تتلقاه الفطرة السليمة بالإيمان والاتباع ، وعقلية تنطلق من عواطف الأهواء وصراع المصالح ، ومناهج بشرية تتلون من أرض إلى أرض ، ومن مصلحة مادية إلى مصلحة ، فيصارع بعضها بعضاٍ ، كلٌّ يغلف أهواءه ومصالحه بزخارف كاذبة وزينة خادعة ، سرعان ما يكشف الواقع كذبها وخداعها .(/2)
من هنا يعتبر الإسلام أن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها ، حمايتها من أن تفسد أو تلوَّث أو تنحرف ، وجعل هذه الحماية مسؤولية الوالدين أولاً في الأسرة والبيت ، ثم مسؤولية الأمة كلها بمختلف مؤسساتها، ابتداءً من المدارس والمسجد وامتداداً إلى سائر المؤسسات ، ولنتدبَّر هذه الآيات الكريمة تعرض لنا خطورة أمر الفطرة :
( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ] الروم: 30 [
ولنتدبر حديث رسول الله r يرويه أبو هريرة رضي الله عنه :
( ما من مولود إلاَّ يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحس فيها من جدعاء )
[ أخرجه الشيخان وأبو داود ، صحيح الجامع الصغير:5784 ]
هذه القضية ، قضية الفطرة وحمايتها ، أهملتها جميع المؤسسات التي تَّدعي أنها ترعى حقوق الإنسان ، وأهملتها نظريات التربية المادية المختلفة ، وأنى لهذه المؤسسات كلها بعد هذا الإهمال أن تصدق في رعاية حقوق الإنسان ، أو في تربيته وتعليمه وبنائه .
بعد إهمال الفطرة وحمايتها ، ستخرج عقليات مختلفة متعددة متناقضة مضطربة ، وستُخرِج هذه العقليات تبعاً لذلك مناهج شتَّى وسبلاً شتَّى ومصالح شتى يدور بينها الصراع ، ليمثل هذا الصراع الجزء الأكبر من التاريخ البشري بين بحار من الدماء وأكوام هائلة من الجماجم والأشلاء .
ولذلك كانت هذه العقلية ومنهجها منذ بدايتها التي أشرنا إليها في الوثنية اليونانية ، قد أهملت فطرة الإنسان وأهملت حمايتها في مسيرة طويلة حتى يومنا هذا.
ويبين الله لنا هذا الاختلاف الواسع بين هذين النهجين والعقليتين بقوله سبحانه وتعالى:
( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) ] الأنعام: 153 [
فهنا صراط مستقيم وسبيل واحد ، وهناك سبلٌ شتى ودروب معوجة،هنا يلتقي الناس على دين واحدٍ و إيمان وتوحيد ، وشريعة واحدة تنظم الحياة كلها وتبين الحقوق والواجبات والحدود ، وهناك يلتقي الناس على مصالح ويفترقون عليها ، وعلى شرائع شتى لا تلتقي إلاَّ على فتنة وفساد يخفونها تحت زخارف من شعارات الحرية والديمقراطية وغير ذلك .
تسعى أمريكا اليوم حسب دعوة بوش إلى جمع الناس على ما تسميه الديمقراطية ، وما تدعيه من حرية .
وفي هذه وتلك لا يوجد من حقيقة ثابتة إلاَّ الزخرف الذي سرعان ما ينكشف عن أقسى ما عرفته البشرية من مآس نشاهدها جليّة في بقاع متعددة من الأرض،
أنى التفتنا لا نجد إلاّ الأطماع الهائجة المتصارعة التي لا يكون اللقاء معها إلاَّ لقاءً آنيًَّا قد ينقلب بعد حين إلى عداء و صراع .
فلا يمكن لدعوة الديمقراطية ولا الاشتراكية ولا العلمانية ، مهما زينوها بالزخارف أن تجمع الشعوب كلها ، وإن جمعت أحداً فإنها تجمعه تحت قهر القوة الجبارة والسلاح المدمر ليكون جمعاً آنيًّا .
لا يمكن أن تجتمع البشرية إلاّ على الحق البين ، إلاّ على دين الله الحق ، دين الإسلام بجلائه وسموِّه وصدقه ، فهو النهج الوحيد لدى البشرية كلها ، النهج الذي يمكن أن يجمعها لتجد في ظلاله العدالة الأمينة غير المزيفة ، والحقوق الصادقة لكل إنسان : للرجل والمرأة والتوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات ، والحرية المنضبطة للرجل والمرأة ، للناس كافة .
إنه النهج الوحيد الذي يضع المرأة في ميادينها الحقيقية ، والرجل في ميادينه الحقيقية ، ويبني المجتمع على نظام دقيق ، يعرف الرجل فيه مكانه والمرأة مكانها ، ويعرف الجميع ميادين التعاون ، عندما تعرف المرأة دينها وتؤمن به وتخضع له ، ويعرف الرجل دينه ويؤمن به ويخضع له ، سيعرف كلٌّ حدوده على صورة تتكامل فيها الجهود .
أما إذا غلب الجهل وثار الهوى ، فتصدر عندئذ الفتاوى والآراء والاجتهادات مضطربة متناقضة لا تخضع إلى ميزان أمين ، وتنحرف الآراء حتى تطلب المرأة أن تتساوى مع الرجل في كل نشاطاته ، وربما ينقلب الوضع فيصبح الرجل يطلب المساواة بالمرأة ، يسعى كثير من المفسدين في الأرض أن يحرفوا دين الله ويؤوِّلوه ، حتى يكاد يصبح ديناً جديداً منبت الصلة عن دين الله .
وسيدرك بعض المسلمين الذين يدعون إلى شعار مساواة المرأة بالرجل ، عاجلاً أم آجلاً ، أنهم إِنما يدعون إلى هلاك المرأة وهلاك الرجل وهلاك المجتمع .
ومهما حاول المفسدون والضعفاء أن يغيروا في دين الله فإن الله قد تعهد بحفظ دينه ولغة دينه، وإنما هي سنن لله في هذه الحياة الدنيا ، يُبتلى بها الإنسان ويُمحَّص حتى تقوم الحجة له أو عليه يوم القيامة .
ولحكمة يريدها الله جعل من أوجه الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا بروز المفسدين والمجرمين ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، فكم من الناس يخفون الوهن والانحراف في صدورهم ، فتأتي سنن الله فتكشف هؤلاء وما يحملون وما يخفون .(/3)
إننا نعيش اليوم في مرحلة من مراحل التاريخ البشري ، يقف فيها المسلمون موقف الوهن والضعف والهوان ، والمجرمون في الأرض ملكوا القوة القاهرة والتطور المادي الكبير ، على تخلف خطير في قيم الدين ، وعلى كبر واستكبار .
وفي الوقت نفسه جعل الله ما في السماوات والأرض مسخَّرا للإنسان، لكل من يسعى ويبذل ، ويظل السعي والبذل باب ابتلاء واختبار ، الميدان مفتوح للجميع ، للمؤمنين وغير المؤمنين ، كل يجني ثمرة سعيه :
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنه ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)، ] لقمان: 20 [
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبوابا وسرراً عليها يتكئون ، وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ]الزخرف: 33 – 35 [
فالمؤمنون يسعون في الحياة الدنيا ، أو يجب أن يسعوا ، ليمتلكوا القوة من العتاد والعلم ، ليوفوا بالأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها ، وليس لزخرفٍ في الحياة الدنيا ومتاعها ، إن المؤمنين يحملون أمانة عظيمة في الأرض ولا بد أن تكون في يدهم أسباب القوة والمنعة، ليبلِّغوا دين الله للناس كافة كما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتكون كلمة الله هي العليا ، وشرعه هو الذي يحكم ، ليأخذ كل إنسان حقه العادل ويقف عند حدوده العادلة ، وأما المجرمون في الأرض فيسعون ليمتلكوا القوة من عتاد وعلم ، ليفسدوا في الأرض ، ويعتدوا ويظلموا ، وينهبوا ويقتلوا ، ظلما وعدواناً .
( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلاَّ قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين)] هود : 116 [
أيها الناس إنكم تحملون أمانة عظيمة فانهضوا إليها ، واصدقوا الله في أمركم كله ، وكونوا صفا واحداً لتوفوا بأمانتكم ، ولا عذر لكم أن تقولوا إن المجرمين يملكون القوة ، فانهضوا واصدقوا يمكِّنكم الله من القوة ما آمنتم وأطعتم وصدقتم :
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) ] غافر: 51 [
( وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) ] الصف: 13 [
(... وكان حقَّاً علينا نصر المؤمنين ) ] الروم:47[
أيها المسلمون كونوا مؤمنين ينصركم الله :
( يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله ....) ] النساء: 136[(/4)
بين عقليّتين ونهجَين
د. عدنان علي رضا النحوي 13/8/1426
17/09/2005
انطلق العقل الغربي في العصور الحديثة من خلال تاريخ طويل استغرق قروناً، وتفاعلت فيه عوامل كثيرة وأحداث متعاقبة، لكنها كلها انطلقت من الوثنية اليونانية، وما حملت من علم ونظرة خاصة بالفنون والأدب، ونظرة خاصة للحياة والكون، اجتمعت كلها لتكوّن الفلسفة اليونانية الوثنية.
ولكن لابد أن نسرع فنقول: إن هذه الوثنية لم تكن هي أول أمر هذه الشعوب.
قد كان أول أمرهم الذي يعنينا هو رسالة الإيمان والتوحيد التي لا شك أنها بلغتهم كما بلغت كل أمة أخرى في التاريخ البشري، فقد بعث الله برحمته رسولاً إلى كل أمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)] النحل: 36[
وكما كان شأن كثير من الأمم، فقد انحرفت اليونان عن التوحيد وغلبتها الوثنية بصورة شديدة، وعبدوا آلهة ابتدعوها من أنفسهم، وأقاموا لها التماثيل، ودخلت هذه الوثنية في جميع ميادين حياتهم وتصوّراتهم وأدبهم.
ولما قامت دولة الرومان لم يكونوا أهل أدب أو فكر، فأخذوا كل ذلك عن اليونان، وأصبح فكرهم وأدبهم امتداداً لفكر اليونان وأدبهم، ولما جاءت النصرانية إلى أوروبا اصطدمت بهذه الوثنية الطاغية على الحياة، وعانى رجال النصرانية معاناة شديدة مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، أمكن بعدها التفاهم مع "قسطنطين" على أن يعينوه على الوصول إلى سدة الإمبراطورية الرومانية، مقابل تنازلات، ومقابل رفع الأذى عنهم.
خلال هذه المدة تأثرت النصرانية بالوثنية، ووقع خلاف بين النصرانيين أنفسهم، فريق يدعو إلى عقيدة التثليث، وفريق يرى أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله ولا شبيها لله، ولكنْ رسول من عند الله، ونالت طائفة التثليث الدعم من الدولة، وأخذت بعض طقوسها من الوثنية الرومانية، وبدأت التساهل مع النصرانية الجديدة التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام، وفي سنة 311م وقع الإمبراطور جاليريوس مع ثلاثة آخرين بإعطاء حرية العبادة للنصارى.
ولما أصبح قسطنطين الأول (280 – 337م ) هو الإمبراطور اعترف بالدين الجديد، الذي لم يكن لديه النص الرباني الأصلي الذي جاء به عيسى عليه السلام، وإنما كان ما تناقله أتباعه وما دوَّنه علماؤه بعد عيسى عليه السلام بزمن غير قصير.
دعا الإمبراطور قسطنطين رجال الكنيسة إلى اجتماع في "نيقية Nicaea " سنة 325م في محاولة لتصفية النزاع بينهم وبين الأريوسيين الذين يقولون بأن عيسى عليه السلام ليس مشابهاً لله في الجوهر، والذين ينتسبون إلى آريوس الإسكندرية (ت:326م)، ولكن المجمع المنعقد في "نيقيه" أصدر قراراً يتبنى الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام (trinity) وتسمى هذه" بعقيدة نيسين Nicene Creed" .
هذه العقيدة كانت نتيجة التأثر بالتصورات الوثنية تأثراً انحرف بها عن التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام.
ولما جاء الإمبراطور ثيودوسيس ( 346 – 395 ) فرض الكنيسة الكاثوليكية في جميع الإمبراطورية، وفرض القرار النيسيني، والتطور الثلاثي لطبيعة عيسى عليه السلام، ولإنهاء الصراع مع الأريوسيين دعا إلى لقاء كنسي سُمِّي فيما بعد "المجمع العالمي Ecumenical council " سنة 381م في مدينة القسطنطينية، وأقر هذا المجمع التصور الثلاثي والعقيدة النيسينية، وأخذ في مطاردة الأريوسيين واعتبرهم هراطقة.
لقد انتهى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية التي تتبنى العقيدة النيسينية، وتطور الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام، والذي أصبح مذهب الإمبراطورية الرومانية كلها، وأصبح للكنيسة سلطان كبير على السلطة المدنية.
وبدأ صراع جديد بين الكنيسة والسلطة الزمنية من ناحية، وصراع بين الكنيسة والعلماء امتد زمناً غير قليل، ولقد حملت هذه الأحداث كلها امتداد التأثير الواضح للوثنية اليونانية في عصور أوروبا المختلفة: العصور الوسطى، أو عصر الظلمات، عصر النهضة، عصر التنوير، والعصر الحديث، وامتد التأثير إلى أعماق الفكر الأوروبي، وكان من أهم آثار هذا الصراع الممتد أن برزت العلمانية في أوروبا تحمل الرغبة الحاسمة للتحلل من الدين وعزله عن حياة المجتمع، وحصره بين جدران الكنيسة، ولقد حمل هذا الاتجاهَ عددٌ غير قليل من الفلاسفة الأوروبيين، واستقرَّت العلمانية في العالم الغربي توجِّه الفكرَ والأدب والأخلاق، والسياسة والاقتصاد، وأعطت الحرية الفرديةَ تفلُّتاً واسعاً في الجنس، وحرية في الرأي لا تعطِّل القرار الذي يتخذه القادة بين الكواليس، ويستغلون الدين كلما احتاجوا إليه.(/1)
وقد جعلت العلمانية رأس الأمر كله ومدار اهتمامهم الأول هو المصالح المادية الدنيوية الخاصة، فمن أجلها تدور الحروب أوالسلام، والوفاق أو الشقاق.
ولكن هذه الشعارات كانت تغلف بشعارات عامة مزخرفة كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وغير ذلك.
إلا أن الديموقراطية في حقيقتها لم تشهد إلاّ الحروب التي تشعلها المصالح الخاصة والتنافس عليها واستغلال الشعوب بالإغراء أو القوة والبطش، ولا أظن أن تاريخ البشرية شهد استبداداً أشد من استبداد الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تطلقها أمريكا على أجزاء كبيرة من العالم لفرض ما تسميه " الديموقراطية والحرية" ، ثم لا تجد إلا الخداع والكذب، والأشلاء والجماجم.
من خلال مسيرة العقل الأوروبي والغربي مع مسيرة العلمانية قدَّر الله أن ينهض الغرب بنهضة علمية وصناعية كبيرة، زوّدتهم بالقوة المادية الكبيرة والسلاح المدمر، وكان أساس هذا التطور ما أخذوه عن المسلمين عندما كان المسلمون في أوج تطورهم وازدهارهم العلمي، وأوروبا في ظلال الجهل.
وفي الوقت نفسه قدَّر الله أن يقع المسلمون في غفوة طويلة وغفلة كبيرة من خلال تاريخ طويل من الانحراف.
وعندما كانت أوروبا تغطُّ في ظلمات الجهل والتخلف، كان المسلمون هم قادة العالم بالعلم في ميادينه المختلفة، وقدّموا العلم ونشروه مع نشر رسالتهم ودينهم حيثما امتدوا.
برزت عبقريات المسلمين في شتى أنواع العلوم كالرياضيات والطبيعيات والطب والفلك والجغرافية، والاكتشافات الجغرافية، وفنِّ العمارة، وغيرها من العلوم.
كانت العبقريات قد انطلقت من الإسلام من الإيمان، من جميع الشعوب الإسلامية، لتخدم البشرية كلها نوراً وهداية، وعلماً وعدالة، وحرية ومساواة.
مهما وقعت انحرافات أو أخطاء في مسيرة المسلمين، فإنها لم تصل أبداً إلى ما بلغه الغرب من إفناء وتدمير ووحشية، لقد كان الإسلام يكبح نزعات الفتك الإجرامي، ولقد وجدت الشعوب التي دخلها الإسلام عدالة لم تعهدها في تاريخها، وحرية كريمة منضبطة تسود الجميع، وديناً يجمع البشرية كلها في ظلال الإسلام وأنداء الإيمان، ويضع الحقوق الصادقة لكل فئة أو طائفة، لينسجم الجميع تحت حكم الإسلام وشريعة الله الحقة.
لقد جمع الإسلام شعوباً مختلفة الأجناس واللغات لأول مرة في التاريخ البشري، عندما أعاد الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها، إلى حقيقة الفطرة السليمة غير المشوهة أو المنحرفة.
فانطلقت قوى الشعوب كلها منسجمة متآلفة، وجمع الإسلام بذلك طاقات الشعوب ومواهبها بعد أن آمنت وأسلمت لله رب العالمين، وبعد أن ذابت العصبيات الجاهلية من حزبية أو عائلية أو قومية، وبعد أن وجد كل شعب أنه آمن، ينال حقوقه كما تناله الشعوب الأخرى، على ميزان رباني عادل أمين.
فانطلقت بذلك الحضارة الإسلامية تصب فيها مواهب الشعوب كلها وقدراتها، وخيرات بلادها في مجرى واحد صافٍ، تقودها عقلية إسلامية صاغها القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلية تنطلق من الفطرة السليمة التي أعاد الإسلام الناس إليها.
هذه الحضارة الإسلامية، ليست حضارة شعب واحد ولا حضارة بيئة واحدة، إنها حضارة الشعوب كلها، الشعوب التي تآلفت على الإسلام فطرةً وإيماناً وتوحيداً، وعلماً بمنهاج الله، وصراطاً مستقيماً واحداً، يجمع الناس كلهم على استقامته التي لا يضلُّ عنها مؤمن، وعلى تفرُّده بأنه سبيل واحدة لا سبل شتَّى، فلن يختلف عليه المؤمنون.
هذه الحضارة وهذه العقلية تميزت أيضاً بأنها جمعت المؤمنين كلَّهم على مدار التاريخ البشري أمة واحدة، على أسس واحدة وحق واحد.
فسورة الأنبياء، بعد أن تستعرض مسيرة عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتبيِّن أنَّهم كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد هو الإسلام، ولعبادة رب واحد هو الله الذي لا اله إلا هو، تختم السورة الكريمة هذا العرض بالآية الكريمة:
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ]الأنبياء: 92[
ويتكرر هذا المشهد العظيم في سورة "المؤمنون"، حيث تستعرض السورة مسيرة الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، وإِلى عبادة رب واحد هو الله، تختم هذا العرض والمشهد بقوله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ] [المؤمنون: 51-52[(/2)
هذه هي معركة التاريخ البشري تدور بين عقليتين ونهجين: عقلية تنطلق من الفطرة السليمة، ونهج رباني من عند الله على سبيل واحدة وصراط مستقيم، تتلقاه الفطرة السليمة بالإيمان والاتباع، وعقلية تنطلق من عواطف الأهواء وصراع المصالح، ومناهج بشرية تتلون من أرض إلى أرض، ومن مصلحة مادية إلى مصلحة، فيصارع بعضها بعضاً، كلٌّ يغلف أهواءه ومصالحه بزخارف كاذبة وزينة خادعة، سرعان ما يكشف الواقع كذبها وخداعها.
من هنا يعتبر الإسلام أن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، حمايتها من أن تفسد أو تلوَّث أو تنحرف، وجعل هذه الحماية مسؤولية الوالدين أولاً في الأسرة والبيت، ثم مسؤولية الأمة كلها بمختلف مؤسساتها، ابتداءً من المدارس والمسجد وامتداداً إلى سائر المؤسسات، ولنتدبَّر هذه الآيات الكريمة تعرض لنا خطورة أمر الفطرة:
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ]الروم: 30[
ولنتدبر حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يرويه أبو هريرة رضي الله عنه:
"ما من مولود إلاَّ ويولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحس فيها من جدعاء" [أخرجه الشيخان وأبو داود ، صحيح الجامع الصغير:5784]
هذه القضية، قضية الفطرة وحمايتها، أهملتها جميع المؤسسات التي تدّعي أنها ترعى حقوق الإنسان، وأهملتها نظريات التربية المادية المختلفة، وأنى لهذه المؤسسات كلها بعد هذا الإهمال أن تصدق في رعاية حقوق الإنسان، أو في تربيته وتعليمه وبنائه.
بعد إهمال الفطرة وحمايتها، ستخرج عقليات مختلفة متعددة متناقضة مضطربة، وستُخرِج هذه العقليات تبعاً لذلك مناهج شتّى وسبلاً شتّى ومصالح شتى يدور بينها الصراع، ليمثل هذا الصراع الجزء الأكبر من التاريخ البشري بين بحار من الدماء وأكوام هائلة من الجماجم والأشلاء.
ولذلك كانت هذه العقلية ومنهجها منذ بدايتها التي أشرنا إليها في الوثنية اليونانية، قد أهملت فطرة الإنسان وأهملت حمايتها في مسيرة طويلة حتى يومنا هذا.
ويبين الله لنا هذا الاختلاف الواسع بين هذين النهجين والعقليتين بقوله سبحانه وتعالى:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام: 153[.
فهنا صراط مستقيم وسبيل واحدة، وهناك سبلٌ شتى ودروب معوجة، هنا يلتقي الناس على دين واحدٍ و إيمان وتوحيد، وشريعة واحدة تنظم الحياة كلها وتبين الحقوق والواجبات والحدود، وهناك يلتقي الناس على مصالح ويفترقون عليها، وعلى شرائع شتى لا تلتقي إلاَّ على فتنة وفساد يخفونها تحت زخارف من شعارات الحرية والديموقراطية وغير ذلك.
تسعى أمريكا اليوم حسب دعوة بوش إلى جمع الناس على ما تسميه الديموقراطية، وما تدّعيه من حرية.
وفي هذه وتلك لا يوجد من حقيقة ثابتة إلاَّ الزخرف الذي سرعان ما ينكشف عن أقسى ما عرفته البشرية من مآس نشاهدها جليّة في بقاع متعددة من الأرض.
أنى التفتنا لا نجد إلاّ الأطماع الهائجة المتصارعة التي لا يكون اللقاء معها إلاَّ لقاءً آنيًّا قد ينقلب بعد حين إلى عداء و صراع.
فلا يمكن لدعوة الديموقراطية ولا الاشتراكية ولا العلمانية، مهما زينوها بالزخارف أن تجمع الشعوب كلها، وإن جمعت أحداً فإنها تجمعه تحت قهر القوة الجبارة والسلاح المدمر ليكون جمعاً آنيّا.
لا يمكن أن تجتمع البشرية إلاّ على الحق البين، إلاّ على دين الله الحق، دين الإسلام بجلائه وسموِّه وصدقه، فهو النهج الوحيد لدى البشرية كلها، النهج الذي يمكن أن يجمعها لتجد في ظلاله العدالة الأمينة غير المزيفة، والحقوق الصادقة لكل إنسان: للرجل والمرأة والتوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، والحرية المنضبطة للرجل والمرأة، للناس كافة.
إنه النهج الوحيد الذي يضع المرأة في ميادينها الحقيقية، والرجل في ميادينه الحقيقية، ويبني المجتمع على نظام دقيق، يعرف الرجل فيه مكانه و تعرف المرأة مكانها، ويعرف الجميع ميادين التعاون، عندما تعرف المرأة دينها وتؤمن به وتخضع له، ويعرف الرجل دينه ويؤمن به ويخضع له، سيعرف كلٌّ حدوده على صورة تتكامل فيها الجهود.(/3)
أما إذا غلب الجهل وثار الهوى، فتصدر عندئذ الفتاوى والآراء والاجتهادات مضطربة متناقضة لا تخضع إلى ميزان أمين، وتنحرف الآراء حتى تطلب المرأة أن تتساوى مع الرجل في كل نشاطاته، وربما ينقلب الوضع فيصبح الرجل يطلب المساواة بالمرأة، يسعى كثير من المفسدين في الأرض أن يحرفوا دين الله ويؤوِّلوه، حتى يكاد يصبح ديناً جديداً منبت الصلة عن دين الله. وسيدرك بعض المسلمين الذين يدعون إلى شعار مساواة المرأة بالرجل، عاجلاً أم آجلاً، أنهم إِنما يدعون إلى هلاك المرأة وهلاك الرجل وهلاك المجتمع.
ومهما حاول المفسدون والضعفاء أن يغيروا في دين الله فإن الله قد تعهد بحفظ دينه ولغة دينه، وإنما هي سنن لله في هذه الحياة الدنيا، يُبتلى بها الإنسان ويُمحَّص حتى تقوم الحجة له أو عليه يوم القيامة.
ولحكمة يريدها الله جعل من أوجه الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا بروز المفسدين والمجرمين، ليميز الله الخبيث من الطيب، فكم من الناس يخفون الوهن والانحراف في صدورهم، فتأتي سنن الله فتكشف هؤلاء وما يحملون وما يخفون.
إننا نعيش اليوم في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، يقف فيها المسلمون موقف الوهن والضعف والهوان، والمجرمون في الأرض ملكوا القوة القاهرة والتطور المادي الكبير، على تخلّف خطير في قيم الدين، وعلى كبر واستكبار.
وفي الوقت نفسه جعل الله ما في السماوات والأرض مسخَّراً للإنسان، لكل من يسعى ويبذل، ويظل السعي والبذل باب ابتلاء واختبار، الميدان مفتوح للجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين، كل يجني ثمرة سعيه:
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ] لقمان: 20[
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)]الزخرف: 33 – 35[
فالمؤمنون يسعون في الحياة الدنيا، أو يجب أن يسعوا، ليمتلكوا القوة من العتاد والعلم، ليوفوا بالأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها، وليس لزخرفٍ في الحياة الدنيا ومتاعها، إنَّ المؤمنين يحملون أمانة عظيمة في الأرض ولا بد أن تكون في يدهم أسباب القوة والمنعة، ليبلِّغوا دين الله للناس كافة كما أُنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولتكون كلمة الله هي العليا، وشرعه هو الذي يحكم، ليأخذ كل إنسان حقه العادل، ويقف عند حدوده العادلة، وأما المجرمون في الأرض فيسعون ليمتلكوا القوة من عتاد وعلم، ليفسدوا في الأرض، ويعتدوا ويظلموا، وينهبوا ويقتلوا، ظلماً وعدواناً.
( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) ] هود: 116[
أيها الناس إنكم تحملون أمانة عظيمة فانهضوا إليها، واصدقوا الله في أمركم كله، وكونوا صفاً واحداً لتوفوا بأمانتكم، ولا عذر لكم أن تقولوا: إن المجرمين يملكون القوة، فانهضوا واصدقوا يمكِّنكم الله من القوة ما آمنتم وأطعتم وصدقتم:
( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51[ (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ] الصف: 13 ] (...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ] الروم:47[ أيها المسلمون كونوا مؤمنين ينصركم الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ....) [النساء: 136[.(/4)
بين عيدين جورج والعيد
عبدالملك القاسم
دار القاسم
جورج رجل أمريكي بدين الجسم عريض المنكبين تجاوز الخمسين من عمره ويتمتع بصحة جيدة وحيوية ونشاط.. يعيش في بلدة صغيرة شمال مدينة واشنطن،ورغم المغريات المادية في المناطق الأخرى إلا أنه أحب بلدته وأصر على العيش فيها حيث يقضي نهاره في عمله التجاري متنقلا بين أطراف المدينة وإذا أمسى النهار عاد إلى دوحته الصغيرة مستمتعا بالهدوء والراحة مع زوجته وابنتيه وابن شاب تجاوز مرحلة الدراسة الثانوية وبدأ يخطط للالتحاق بالجامعة.
لما أقبل شهر ذي الحجة.. بدأ جورج وزوجته وأبناؤه يتابعون الإذاعات الإسلامية لمعرفة يوم دخول شهر ذي الحجة.. وتمنوا أن يكون لديهم رقم هاتف سفارة إسلامية للاتصال بها لمعرفة يوم عرفة ويوم العيد فلقد أهمهم الأمر وأصبح شغلهم الشاغل.. فالزوج يستمع للإذاعة والزوجة تتابع القنوات والابن يجري وراء المواقع الإسلامية في الإنترنت.
فرح جورج وهو يستمع إلى الإذاعة لمتابعة إعلان دخول شهر ذي الحجة وقال: الإذاعة مسموعة بوضوح خاصة في الليل ولما حدد يوم الوقفة ويوم العيد وتردد في الكون تكبير المسلمين في أرجاء المعمورة شمر جورج عن ساعده وأحضر مبلغا كان يدخره طوال عام كامل.. وبعد الظهيرة من اليوم التالي قال: عليَّ أن أذهب الآن لأجد الخروف الحي الذي لا يتوفر سوى في السوق الكبير شرق المدينة، ساوم جورج على كبش متوسط بمبلغ عال جدا ولما رأى أن المبلغ الذي في جيبه لا يكفي بحث عن أقرب صراف بنكي وسحب ما يكفي لشراء هذا الكبش فهو يريد أن يذبح بيده ويطبق الشعائر الإسلامية في الأضحية.. مسح جورج على الكبش وحمله بمعاونة أبناءه إلى سيارته الخاصة وبدأ ثغاء الخروف يرتفع وأخذت البنت الصغيرة ذات الخمس سنوات تردد معه الثغاء بصوتها العذب الجميل. وقالت لوالدها: يا أبي ما أجمل عيد الأضحى حيث ألعب مع الفتيات دون الأولاد ونضرب الدف وننشد الأناشيد، سوف أصلي العيد معكم وألبس فستاني الجديد وأضع عباءتي على رأسي، يا أبي: في هذا العيد سوف أغطي وجهي كاملا فلقد كبرت.. آه... ما أجمل عيد الأضحى سنقطع لحم الخروف بأيدينا ونطعم جيراننا ونصل رحمنا ونزور عمتي وبناتها ! ياأبي ليت كل أيام السنة مثل يوم العيد.. ظهرت السعادة على الجميع وهم يستمعون للعصفورة كما يسمونها.
انفجرت أسارير الأب وهو يلقي نظرة سريعة إلى الخلف ليرى أن مواصفات الكبش مطابقة لمواصفات الأضحية الشرعية فليست عوراء ولا عرجاء ولا عجفاء.. ولما قرب من المنزل وتوقفت السيارة هتفت الزوجة يا زوجي.. يا جورج علمتُ أن من شعائر الأضحية أن يُقسم الخروف ثلاثة أثلاث: ثلث نتصدق به على الفقراء والمساكين، وثلث نهديه إلى جيراننا ديفيد واليزابيث و مونيكا.. والثلث الآخر نأكله لحماً طرياً ونجعله لطعامنا في أسابيع قادمة.
ولما قرب الكبش إلى الذبح في سوم العيد احتار جورج وزوجته أين اتجاه القبلة ! وخمنوا أن القبلة في اتجاه السعودية وهذا يكفي.. أحدَّ جورج شفرته ووجه الخروف إلى حيث اتجاه القبلة وأراح ذبيحته، بعدها بدأت الزوجة في تجهيز الأضحية ثلاث أثلاث حسب السنة وكانت تعمل بعجل وسرعة... فزوجها قد رفع صوته وبدا عليه الغضب وانتفخت أوداجه: هيا لنذهب إلى الكنيسة فليوم يوم الأحد !! وكان جورج لا يدع الذهاب إلى الكنيسة بل ويحرص أن يصطحب زوجته وأولاده انتهى حديث المتحدث وهو يروي هذه القصة عن جورج وسأله أحد الحضور: لقد حيرتنا بهذه القصة هل جورج مسلم أم ماذا؟!!.. قال المتحدث: بل جورج وزوجته وابنه كلهم نصارى كفار لا يؤمنون بالله وحده و لا برسوله.. ويزعمون بأن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ويكفرون بمحمد و يحادون الله ورسوله !! كثر الهرج في المجلس وارتفعت الأصوات وأساء البعض الأدب وقال أحدهم: لا تكذب علينا يا أحمد.. فمن يُصدق أن جورج وعائلته يفعلون ذلك ! كانت العيون مصوبة والألسن حادة والضحكات متتابعة ! حتى قال أعقلهم: إن ما ذكرت غير صحيح ولا نعتقد أن كافرا يقوم بشعائر الإسلام ! ويتابع الإذاعة ويحرص على معرفة يوم العيد ويدفع من ماله ويقسم الأضحية و... !
بدأ المتحدث يدافع عن نفسه ويرد التهم الموجهة إليه ! وقال بتعجب وابتسامة: يا إخواني وأحبابي.. لماذا لا تصدقون قصتي؟! لماذا لا تعتقدون بوجود مثل هذا الفعل من كافر.. أليس هنا عبد الله وعبد الرحمن و خديجة وعائشة يحتفلون بأعياد الكفار ! فلماذا لا يحتفل الكفار بأعيادنا ! لم العجب؟ الواقع يثبت أن ذلك ممكنا بل وواقعا نلمسه.. أليس البعض يجمع الورود لعيد الحب ويحتفل الآخرون هنا برأس السنة وبعيد الميلاد وعيد.. وعيد.. وكلها أعياد كفار؟!! لماذا يستكثر على جورج هذا التصرف ولا يستكثر على أبناءنا وبناتنا مثل هذا؟!!(/1)
إذا كنتم تتعجبون من فعل جورج فأنا أتعجب من فعل أبناء وبنات التوحيد كيف تكون حال التبعية والانهزام لديهم ! ولما ارتفعت الأصوات وتسابقت السهام نحو أحمد قال: انصتوا إلى هذه المرة لأروي لكم قصة لا تكذبوني فيها: هذه عائشة ابنه هذا البلد ممن أسماها والدها باسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله ، لما علمت بعيد إسمه عيد الحب وهو عيد من أعياد الرومان والوثنيين. يحتفل به الكفار كل عام ويتبادلون فيه الورود وهو يوم فساد وموطن إباحيه ! سارعت عائشة إلى محلات الورود واشترت باقة ورد حمراء باهظة الثمن وهي طالبة جامعية لا دخل لها ومع هذا دفعت مبلغاً لهذه الورود ! وعلقت وردة على صدرها، ولبست في ذلك اليوم فستاناً أحمراً، وحملت حقيبة حمراء، وانتعلت حذاء أحمراً و.. !
هذه عائشة فعلت أتصدقون ! قالوا بتعجب وألم: نعم فعل بعض بناتنا ذلك بل وانتشرت الظاهرة بشكل ملفت !
هز أحمد يده ورفعها وقال: عشت في أمريكا أكثر من عشر سنوات، والله ما رأيت أحداً من الكفار احتفل بأعيادنا، ولا رأيت أحداً سأل عن مناسباتنا ولا أفراحنا ! حتى عيدي الصغير بعد رمضان أقمته ف يشقتي المتواضعة لم يجب أحد دعوتي عندما علموا أ، ما احتفل به عيداً إسلامياً ! لقد أقمت في الغرب ورأيت بأم عيني كل ذلك ولما عدت فإذا بنا نحتفل بأعيادهم وهي رجس وفسق !
والبعض من أهل الإسلام عطل الكثير من شعائر أعيادنا ولم يلق لها بالاً ولم يرفع بها رأساً. العام الماضي بعض من الشباب المسلم لم يصلوا صلاة العيد ! أما أعياد الأم فكم اشتريت فيه الهدايا حتى أحب الصغار عيد الأم وفضلوه على عيد الإسلام !
والأعياد من شعائر الإسلام الظاهرة ومن خصائص هذه الأمة. لقد هجرنا عبادة نتقرب فيها إلى الله عز وجل وأغرقنا في الانهزامية والتبعية وملاحقة أعياد الكفار أعداء الملة والدين، قال ابن تيمية – رحمه الله – (لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم (أي الكفار) في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع يما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة، وبالجملة ليس لهم أن يختصوا أعيادهم بشيء من شائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام).
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنئا بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو يمن المحرمات، وهو بمنزله أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير من لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما يفعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر تعرض لمقت الله وسخطه).
وقال أحمد في صمت من الجميع: أربأ بمسلم ومسلمة أن يسمعوا حديث الرسول فلا يقع في قلوبهم: { من تشبه بقوم فهو منهم }، قال ابن تيمية معلقاً على هذا الحديث: هذا أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كن ظاهرة يقتضي كفر المتشبه بهم ككما في قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم .
عاد أحمد ليقول بمرارة وحزن: أجيبوا هل ضحى جورج بذبيحته وقسمها ثلاثة أثلاث؟! أم أن ذلك محض خيال لا نرى له واقع إطلاقاً !.(/2)
بين يدي رمضان
رئيسي :تزكية :الجمعة 8 شعبان 1427هـ – 1سبتمبر 2006م
مفكرة الإسلام: الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم من كيد الشيطان ؛ إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وصلى الله على عبده ورسوله محمد قائد الغُرِّ المُحجَّلين ومُمَهِّد السُّنَّة، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن حكمة الله اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، وميداناً للتنافس، ومن فضله وكرمه أن يجزي على القليل كثيراً، ويضاعفَ الحساب، ويجعلَ لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة, فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، قال الحسن رحمه الله في قول الله عز وجل: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[62]] [سورة الفرقان]، قال: ' من عجز بالليل كان له من أول النهار مُسْتَعْتَبٌ، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مُسْتَعْتَبٌ '؟.
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلِّها شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن المجيد، ولذا كان حريًا بالمؤمن أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويتفقه في شروط ومستحبات وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل؛ لئلا يفوته الخير العظيم, ولا ينشغل بمفضول عن فاضل، ولا بفاضل عما هو أفضل منه.
التأهب والاستبشار بقدوم رمضان
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان: أن تتأهب لقدومه قبل الاستهلال، وأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره؛ إذ أن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله القائل: [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ[32]] [سورة الحج ].
يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويسبشرون، ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات، وزيادة الحسنات، وهجر السيئات، وأولئك يبشَّرون بقول الله: [قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ[58]] [سورة يونس ]. وذلك لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان، تحن قلوبهم إلى صوم نهاره، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم، وتراهم يمهدون لاستقبال رمضان بصيام التطوع خاصة في شعبان .
باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس ، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان – كما يصنع كثير من الناس اليوم – فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: ' لماذا تصنعون ذلك؟ ' ، قالوا: ' لاستقبال شهر رمضان ' ، فقالت: ' وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان ، لا حاجة لي فيكم ، رُدُّوني إليهم ' ، ورجعت إلى سيدها الأول .
من فضائل الصوم
سمع المؤمنون قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي] رواه البخاري ومسلم ؛ فعلموا أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، كما أشار إلى ذلك مفهوم قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ] رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبو موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك ، قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة ، إذا هاتف فوقهم يهتف :'يا أهل السفينة ! قفوا أخبركم بقضاء الله على نفسه' فقال أبو موسى :' أخبرنا إن كنت مخبراً ' ، قال:'إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف ، سقاه الله يوم العطش' رواه البزار ، وحسنه المنذري، وفي رواية:' فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حراً فيصومه'رواه ابن أبي الدنيا.
وعَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ]رواه البخاري ومسلم .(/1)
وعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ: [ آمِينَ آمِينَ آمِينَ ] ، قَالَ: [ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ: آمِينَ ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَمَاتَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأُدْخِلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ] رواه الطبراني في ' الكبير'، وصححه الألباني.
فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يدعو في هذا الحديث، ثم يؤمِّن الصادق صلى الله عليه وسلم على دعائه؟! وأي عجب ورمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة، ودواعيها متيسرة، والأعوان عليها كثيرون، وعوامل الفساد محدودة، ومردة الشياطين مصفَّدون، ولله عتقاء في كل ليلة، وأبواب الجنة مفتحة ، وأبواب النيران مغلقة، فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن ؟! ، ولا يهلك على الله إلا هالك، ومن لم يكن أهلاً للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها؟! ومن خاض البحر اللجاج ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره ؟! .
ماذا يحدث في أول ليلة من رمضان؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ] رواه الترمذي وابن ماجه.
إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هديه في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا الموسم العظيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أول ليلة من رمضان: [أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ] رواه النسائي وحسنه الألباني.
كيف يستقبل باغي الخير رمضان ؟
أولاً: بالمبادرة إلى التوبة الصادقة، المستوفية لشروطها، وكثرة الاستغفار، قال الله : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ][سورة التحريم: من الآية8] .
ثانياً: بتعلم ما لابد منه من فقه الصيام، أحكامه وآدابه، والعبادات المرتبطة برمضان من اعتكاف وعمرة وزكاة فِطر، وغيرها، قال رسول صلى الله عليه وسلم: [ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ] .
ثالثاً: عقد العزم الصادق والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة، قال تعالى:[فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] [ سورة محمد: من الآية 21]، وقال جلا وعلا:[وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ] [سورة التوبة: من الآية 46 ].، وتحري أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجراً .
رابعاً: استحضار أن رمضان- كما وصفه الله عزَّ وجلَّ- أيام معدودات ، سرعان ما يولي ، فهو موسم فاضل ، ولكنه سريع الرحيل ، واستحضار أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة تذهب أيضاً، ويبقى الأجر، وشَرْحُ الصدر، فإن فرط الإنسان ذهبت ساعات لهوه وغفلته، وبقيت تبعاتها وأوزارها .
خامساً: الاجتهاد في حفظ الأذكار والأدعية المطلقة منها والموظفة ، خصوصاً الوظائف المتعلقة برمضان؛ استدعاءً للخشوع وحضور القلب، واغتناماً لأوقات إجابة الدعاء في رمضان، والاستعانة على ذلك بدعاء: [ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ]رواه أبودلود والنسائي وأحمد.
وهاك الأذكار الثابتة المتعلقة بوظائف رمضان:
ما يقول إذا رأى الهلال- هلال أيِّ شهر ، ولا يختص برمضان-: [ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ]رواه الترمذي وأحمد والدارمي .
- وإذا صام ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: [إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ]رواه البخاري ومسلم .
ماذا يقول عند الإفطار؟(/2)
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ ]رواه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني .
- وأفضل الدعاء الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول إذا أفطر: [ ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ] رواه أبوداود وحسنه الألباني.
سادساً: الاستكثار من الأعمال الصالحات ، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن ذلك :
[1] صيام شعبان: استعداداً لرمضان ، فعن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- قالت: ' مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ'رواه البخاري ومسلم.
[2] تلاوة القرآن الكريم: فإن رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من تلاوته وحفظه ، وتدبره ، وعرضه على من هو أقرأ منه . كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ، وعارضه في عام وفاته مرتين ، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن الكريم كل يوم مرة ، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة ، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً ، وفي رمضان في كل ثلاث ، وفي العشر الأواخر في كل ليلة ، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، ويُقبل على تلاوة المصحف . وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة ، وأقبل على قراءة القرآن ، قال الزهري: ' إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن ، وإطعام الطعام ' .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ' وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقلَّ من ثلاث على المدوامة على ذلك ، فأما الأوقات المفضلة – كشهر رمضان – خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر – أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها ، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان ، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وعليه يدل عمل غيرهم ' .
[3] قيام رمضان: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: [مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من قضاعة ، فقال: يا رسول الله ! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وصمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيت الزكاة ؟ ' فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ الصِّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ] قال الهيثمي في مجمع الزوائد:'رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخي البزار ، وأرجو إسناده أنه إسناد حسن أو صحيح' .
[4] الصدقة: فقد ' كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ' رواه البخاري ومسلم.
ومن صور الصدقة: إطعام الطعام ، وتفطير الصوام ، قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي.
فإن عجز عن عَشائه فطَّره على تمرة أو شربة ماء أو لبن ، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ] رواه البخاري ومسلم.
وقال بعض السلف: 'لأن أدعو عشرة من أصحابي ، فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إليَّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل ' . وكان كثير من السلف يُؤثِر بفطوره وهو صائم ، منهم عبد الله بن عمر ، وداود الطائي ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين ، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه ، فلم يفطر في تلك الليلة .(/3)
وكان من السلف من يطعهم إخوانه الطعام وهو صائم ، ويجلس يخدمهم، منهم الحسن وابن المبارك ، وقال أبو السوار العدوي:' كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده ، إن وجد من يأكل معه أكل ، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد ، فأكله مع الناس وأكل الناس معه' ، قال الإمام الماوردي رحمه الله: ' ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان ، وأن يحسن إلى أرحامه وجيرانه ، لا سيما في العشر الأواخر منه ' .
[5] المكث في المسجد بعد صلاة الفجر: فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ]رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
فعلى المرء أن يجمع همته ليغتنم هذا الزمان الشريف ، ولا يضيره انصراف أكثر الناس عن هذه السُّنَّة ، بل الحازم ينظر في أمر الدين إلى من هو فوقه ، ومن هو أنشط منه: [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ][سورة المطففين: من الآية 26 ]. وقد يُحرم المرء من هذه السُّنَّة الجليلة لإفراطه في السهر أو السمر بعد العشاء .
[6] الاعتكاف: فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً .
[7] العمرة: فعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: [ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟] قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ، قَالَ: [ فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً] وفي رواية: [ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي]رواه البخاري ومسلم .
[8] تحري ليلة القدر: التي قال تعالى في شأنها: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[1]وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ[2]لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ[3]] [سورة القدر] . وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم . وكان صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر أصحابه بتحريها ، وكان يعتكف لذلك ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوها .
[9] الإكثار من النوافل بعد الفرائض: كالسُّنن القبلية والبعدية ، وصلاة التسبيح ، والضحى ، والذكر والاستغفار ، والدعاء خصوصاً في أوقات الإجابة ، وعند الإفطار ، وفي ثلث الليل الآخر ، وفي الأسحار ، وساعة الإجابة يوم الجمعة .
[10] المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد: والاجتهاد في تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ] رواه الترمذي وحسنه الألباني. قال سعيد بن المسيب: ' من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة ؛ فقد ملأ البر والبحر عبادةً ' .
فهذه إلمامة عجلى ببعض مظاهر الخير الذي ينادي من يقصده وينويه في أول ليلة من رمضان: [يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ] .
من محاضرة:'بين يدي رمضان' للشيخ/ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدَّم .(/4)
بينهما برزخ لا يبغيان
وهذه بعض آيات الله تعالى في البحر.
قال تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ { 19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ { 20} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { 21} يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ { 22} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { 23} وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ { 24} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ... [الرحمن: 19 - 25].
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الماء أكبر من اليابس على الكرة الأرضية، فالماء المالح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض، ويشغل اليابس الربع. وتقسيم الماء على هذا النحو لم يجئ مصادفة ولا جزافاً، فهو مقدر تقديراً عجيباً، وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائماً صالحاً للحياة، ويقول العلماء: " وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طوال الدهر ـ ومعظمها سام ـ فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان ".
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس، وهي التي تعود فتسقط أمطاراً يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله.
وتصب جميع الأنهار تقريباً في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها.
واللؤلؤ والمرجان المذكوران في الآية هما من أعجب المخلوقات البحرية التي تنطق بعظمة الله تعالى وقدرته، والمتأمل فيما في البحر من مخلوقات وما سخر الله تعالى في جوفه، يجد العجب العجاب، والحكمة الإلهية، والعظمة الربانية!.
قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ... [النحل:14].
ومن إعجاز القرآن العظيم في البحر قوله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ { 19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ } ... [الرحمن: 19 ، 20]، وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } ... [الفرقان: 53].
وهذا ما أثبته العلم الحديث، بعد دراسة ورحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام وهي تجوب بحار العالم.
فبين البحار والأنهار برزخ وفاصل مائي يفصل بين البحر والنهر، وبين البحار بعضها البعض فاصل وبرزخ يفصل بينها. فسبحان الخلاق العظيم، وتبارك الواحد العظيم!!.(/1)
بينهما برزخ لا يبغيان ...
وهذه بعض آيات الله تعالى في البحر.
قال تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ { 19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ { 20} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { 21} يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ { 22} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ { 23} وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ { 24} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ... [الرحمن: 19 - 25].
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الماء أكبر من اليابس على الكرة الأرضية، فالماء المالح يغمر نحو ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية ويتصل بعضه ببعض، ويشغل اليابس الربع. وتقسيم الماء على هذا النحو لم يجئ مصادفة ولا جزافاً، فهو مقدر تقديراً عجيباً، وهذا القدر الواسع من الماء المالح هو اللازم بدقة لتطهير جو الأرض وحفظه دائماً صالحاً للحياة، ويقول العلماء: " وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طوال الدهر ـ ومعظمها سام ـ فإن الهواء باق دون تلوث في الواقع ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان ".
ومن هذه الكتلة الضخمة الواسعة تنبعث الأبخرة تحت حرارة الشمس، وهي التي تعود فتسقط أمطاراً يتكون منها الماء العذب في جميع أشكاله.
وتصب جميع الأنهار تقريباً في البحار، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغي عليها.
واللؤلؤ والمرجان المذكوران في الآية هما من أعجب المخلوقات البحرية التي تنطق بعظمة الله تعالى وقدرته، والمتأمل فيما في البحر من مخلوقات وما سخر الله تعالى في جوفه، يجد العجب العجاب، والحكمة الإلهية، والعظمة الربانية!.
قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ... [النحل:14].
ومن إعجاز القرآن العظيم في البحر قوله تعالى: { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ { 19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ } ... [الرحمن: 19 ، 20]، وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } ... [الفرقان: 53].
وهذا ما أثبته العلم الحديث، بعد دراسة ورحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام وهي تجوب بحار العالم.
فبين البحار والأنهار برزخ وفاصل مائي يفصل بين البحر والنهر، وبين البحار بعضها البعض فاصل وبرزخ يفصل بينها. فسبحان الخلاق العظيم، وتبارك الواحد العظيم!!.
وجعلنا من الماء كل شيء حي
ومن أعظم آياته هذا الماء الرقراق، والسلسبيل المتدفق، الذي به قوام الحياة، وأساس البقاء: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ... [الأنبياء:30]، والماء بناؤه غريب وخبره عجيب، فإذا تدفق الماء، وأقبلت أمواجه، أقبل معه البشر والعطاء والنماء والرغد والهناء، بالماء تقوم الحقول، وتتكاثر الحبوب، وتميس الحدائق، وتهمهم الجداول، وتتراقص الخمائل، وتشدو البلابل، وتتمايل السنابل.
يأتي إلى أحبابه فيميس بين الزهور، ويتجول في الحدائق، كَيَدِ الطبيب على جفن المريض، ويقبل إلى أعدائه فيزبد ويرعد، ولا تمنعه السدود، ولا ترده الحدود، فيكسر الجسور، ويقتلع الصخور، ويدمر البيوت، ويجعل عاليها سافلها حتى يأذن الله بسكونه، ويأمر بهدوئه، قال تعالى: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي } ... [هود: 44]،فهو جندي من جنود الخالق.
من سيول يمجها الواديان وثلوج يذيبها العصران
ذو استواءٍ إذا جرى والتواءٍ هل تأملت مزحف الأفعوان
فهو حيث استدار وقفُ لجينٍ وهو حيث استطار سيفُ يمان
إن مسته رحمة الله كان لطفاً وهناءً وبركة، وإن مسه غضب الله كان دماراً وهلاكاً وسخطاً ونكداً، قال تعالى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } ... [الأعراف:84].
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً } ... [الفرقان: 40].(/1)
إن الله تعالى يسلط حرارة الشمس على المحيطات والبحار فتتبخر فيصعد إلى السماء ماءً عذباً لا ملوحة فيه، فسبحان الله العظيم، يرفع ماء البحر بخاراً ولا يرفع معه الملح الممتزج به! { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ { 68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ { 69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } ... [الواقعة: 68 - 70] ـ أجاجاً يعني: مالحاً لا يطاق ولا يشرب ـ ومن حكمة الله أن هذا البخار المتصاعد في السماء لا يستمر في صعوده إلى القمر أو المريخ فيصب هناك وتحرم منه الأرض، بل يتكثف في طبقات الجو العالية، حيث درجة الحرارة منخفضة، ويرفع في السماء لكي يبتعد عن مستوى الجبال لئلا تعوق انتقاله من بلد إلى بلد، فبعد أن يتكون السحاب الركامي، ويتكثف ويتجمع ويصدر أمر الله إليه، يهبط حيث يريد مولاه، ويأمره خالقه { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { 48} وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } ... [الروم: 48 ، 49].
ومن لطف الله تعالى بعباده أن ينزل عليهم هذا الغيث بقدر، فلو سقطت جبال السحاب الكثيفة الهائلة كما هي لهلك الناس.
هذا الذي أنزل سيلاً في البلد فكيف لو صَبَّ جبالاً من بردْ
أنزله رفقاً بنا مدْرارا وبعضَه سخره أنهاراً
ومن لطفه تعالى أنه إذا أنزل الماء لم يبقه متجمعاً فوق الأرض فتصبح الأرض غير صالحة للسير عليها، بل سلكه ينابيعٍ في الأرض وحفظه في الآبار والعيون { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } ... [الزمر: 21].
فهو تعالى يحفظ هذا الماء في صحون من الصخور الجوفية من غير أن يغور ويعمق في الأرض { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ } ... [الملك:30].
آية الكرسي
آية جليلة القدر، عظيمة الشأن، رفيعة المنزلة، بعيدة المكانة، بيِّنة المهابة، لها حلاوة وعليها طلاوة، تنزل على القلب برداً سلاماً، يسعد بها الفؤاد، وتأنس لها النفس، وتستروح بها الروح، حبيبة إلى الرحمن، حافظة للإنسان، طاردة للشيطان، حفظها أمن وأمان، وقراءتها روح وريحان، والترنم بها النعيم والسلوان. وهي أعظم وأجل آية في القرآن.
سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُبيّ بن كعب: ( أي آية كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مراراً، ثم قال أُبيّ: آية الكرسي. قال: ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش ).(/2)
أية الكرسي بعيدة أسرارها، عظيمة أخبارها، حتى الشياطين عرفت مقدارها، يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه: ( وكلني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم. قال: دعني، فإني محتاج، وعلى عيال، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالاً فرحمتُه فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت ماهن. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }... [البقرة:255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: ما هي؟ قلت: قال لي، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مُذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت لا، قال: ذاك الشطان).
{ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }: الله علم الأعلام، وأعرف المعارف، الله الذي له جميع معاني الألوهية ولا يستحق العبودية إلا هو، فهو المتفرد بالإلهية على جميع الخلائق، وهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة بعد الرسل، هذه هي الوحدانية الناصعة، فالعبودية لله، والطاعة لله، والحاكمية لله.
{ اللهُ} بداية مشرقة، وكلمة مؤنسة، جاءت في أول الآية كالتاج على الرأس، والفجر في الأفق، والبسمة في الشفاه، ثم أتى بعدها مباشرة بالصفة الأسمى، والقضية العظمى، جاءت كلمة التقوى، وعنوان الدين، وأساس الملة، الكلمة التي من أجلها أنزلت الكتب، وأرسل الرسل، وأقيم سوق الجنة والنار وهي: { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }.
{ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }: الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، المقيم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو الغني عنها، ولا قوام لها بدون فضله، والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق، فالله جل وعلا يتفرد بالحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ... [الحديد: 3]، ولذلك كان دعائه ـ صلى الله عليه وسلم: ( يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث ).
والقيوم بمعنى قيامه سبحانه على كل موجود، وقيام كل موجود به، فلا قيام لشيء إلا مرتكناً إلى وجوده وتدبيره، فالمسلم يعلم أن ضميره وحياته ووجوده وكل شيء من حوله مرتبط بالله الواحد الأحد.
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } ... [البقرة: 255]: أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عن شيء، ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } أي لا تغلبه سِنَة ،وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: { وَلاَ نَوْمٌ }؛ لأنه أقوى من السِّنَة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربع كلمات فقال: ( إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حاجبه النور ـ أو النارـ لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ).(/3)
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ... [البقرة: 255]: إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه ولا يخرج أحد منهم عن هذا الطور { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً { 93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } ... [مريم: 93 ، 94]، وهو الذي له الملك والتصرف والسلطان والكبرياء.
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ... [البقرة:255] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا أن يأذن له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: ( آتي تحت العرش فأخر ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال :ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع ) قال: ( فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ).
إن كل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ... [ الزمر: 44].
والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى، ولا يرتضي إلا توحيده واتباع رسله. وقد جاء الكلام في ثوب من الاستفهام المقصود به النفي، أي لا أحد يملك الشفاعة عنده إلا بإذنه جل وعلا.
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ... [البقرة: 255] دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ... [مريم:64].
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } ... [البقرة:255]. أي: لا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } ... [طه:110].
فالله جل وعلا يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلية التي لا نهاية لها، ويعلم ما خلفهم من الأمور الماضية التي لا عد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ... [غافر:19]، وأن الخلق مهما أوتوا من علم وقدرة فلا يحيط أحد بشي من علم الله أو معلوماته إلا بما شاء منها، وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جداً مضمحل في علوم الباري ومعلوماته: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } ... [الإسراء:85]، وقد قال أعلمُ الخلق به وهم الرسل والملائكة: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } ... [البقرة:32].
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ... [البقرة:255]: يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والأنظمة التي جعلها في المخلوقات.
{ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } ... [البقرة:255] أي: لا يثقله ولا يُكرثُهُ حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء، الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه.
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } ... [البقرة:255] بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب.
{ الْعَظِيمُ } ... [البقرة:255] الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء ـ وإن جلت عن الصفة ـ فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.
وبعد هذا التأمل في رحاب هذه الآية يجد المُتأمِّل الحق هذه الآية أن تكون أعظم آيات القرآن لما احتوته من المعاني، ويحق لمن قرأها متدبراً متفهماً أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظاً بذلك من شرور الشيطان.
يجب أن ننقش هذه الآية الكريمة في أذهاننا، ونزرعها في وجداننا، وتسري مع دمائنا، يجب أن نربي أبناءنا على حفظها، ونأمرهم بتعلمها وقراءتها في كل أوقاتهم وأحوالهم ولا سيما عند نومهم، فهي بعد الله جل وعلا من خير ما يحفظهم به، وهي خير لهم مما تُحشى به أذهانهم وتُصم به آذانهم مما لا فائدة فيه ... ...(/4)
بَرَكَةُ التَقوى مَعَ الغافلين
ذكر أن شابا فيه تقى وفيه غفلة.. طلب العلم عند أحد المشايخ حتى إذا أصاب منه حظا قال الشيخ: لا تكونوا عالة على الناس فإن العالم الذي يمد يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خير فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها.. وليتقِ الله فيها
وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها..؟؟ فاضطربت المرأة فقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله فما بالك وللصنعة التي يشتغل بها..؟؟ فألحّ عليها وهي تتملص منه.. حتى اضطرها إلى الكلام أخبرته وهي كارهة أن أباه كان لصا..!! فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كل بصنعة أبيه ويتقي الله فيها.. قالت الأم: ويحكِ.. وهل في السرقة تقوى..؟؟ وكان في الولد غفلة وحمق فقال لها: هكذا قال الشيخ
وذهب فسأل.. وتسقط الأخبار حتى عرف كيف يسرق اللصوص فأعدّ عدّة السرقة.. وصلى العشاء وانتظر حتى نام الناس وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ.. فبدأ بدار جاره وهمّ أن يدخلها ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى وليس من التقوى إيذاء الجار.. فتخطى هذه الدار ومرّ بأخرى.. فقال لنفسه: هذه دار أيتام والله حذّر من أكل مال اليتيم.. وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني وليس فيه حرس ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيده عن حاجته.. فقال: ههنا.. وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها.. ففتح ودخل فوجد دارا واسعة وغرفا كثيرة.. فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال.. وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئا كثيرا.. فهمّ بأخذه ثم قال: لا يؤدّ زكاة أمواله لنخرج الزكاة أولا.. وأخذ الدفاتر وأشعل فانوسا صغيرا جاء به معه.. وراح يراجع الدفاتر ويحسب.. وكان ماهرا في الحساب خبيرا بإمساك الدفاتر.. فأحصى الأموال وحسب زكاتها فنحّى مقدار الزكاة جانبا واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات فنظر فإذا هو الفجر فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولا
وخرج إلى صحن الدار فتوضأ من البركة وأقام الصلاة.. فسمع رب البيت فنظر.. فرأى عجبا: فانوسا مضيئا..!! ورأى صندوق أمواله مفتوحا ورجلا يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا..؟؟ والله لا أدري.. ونزل إليه فقال: ويلك من أنت..؟؟ وما هذا..؟؟ قال اللص: الصلاة أولا ثم الكلام.. فتوضأ تقدم فصل بنا فإن الإمامة لصاحب الدار.. فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح ففعل ما أمره.. والله أعلم كيف صلى
فلما قضيت الصلاة قال له: خبّرني من أنت..؟؟ وما شأنك..؟؟ قال: لص. قال: وما تصنع بدفاتري..؟؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنوات وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصاريفها.. فكاد الرجل يجن من العجب وقال له: ويلك ما خبّرك..؟؟ هل أنت مجنون..؟؟ فخبّره خبره كله فلما سمعه التاجر ورأى ضبط حسابه.. ذهب إلى زوجته فكلمها.. وكان له بنت ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوّجتك بنتي وجعلتك كاتبا وحاسبا عندي.. وأسكنتك أنت وأمك في داري ثم جعلتك شريكي..؟؟ قال أقبل.. وأصبح الصباح فدعا المأذون بالشهود وعقد العقد (1) وهذه الحادثة إنما ذكرتها لطرافتها على ما فيها من غرابة إستئناسا بها
-----------------------------------------------------------------------------
ـ(1) ذكرها الشيخ عليّ الطنطاوي بتصرف(/1)
بَصَائِرُ
المفاهيم والخواطر
الأستاذ الدكتور كابوري
محمد صالح علي مصطفى
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
بصائر
جاورت بمكة المكرمة أسابيع وأياماً من شهري جمادى ورجب العام الحالي 1425هـ وهناك أعدت النظر في مجموعة "خاتمة المؤلفات" .
وقد فهم غيري كما فهمت من قبل أن المراد من خاتمة المؤلفات هو رفع القلم وطي الصحف والانصراف إلى المسجد للصلاة وقراءة القرآن رغباًَ ورهباً ? فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب *? 7-8/94 ? واعبد ربك حتى يأتيك اليقين *? 99/15 .
ولعل الفهم المذكور توسع لإضافة " بصائر " كعلم وكعبادة ولا منافاة بينهما والفارق إن وجد فهو أن العلم أسبق مرحلة وأعظم مرتبة .
? قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ *? 104/6 .
وبصائر جمع بصيرة من أبصر ومنه البصر للرؤية بالعين وهي أَثْبت من السمع والمس وغيرهما من أسباب العلم ، وضدها العمى والعياذ بالله .
وتقييد البصائر بقيد المفاهيم وقيد الخواطر يتفاوت عند المراجعة ما بين الإضافة والحذف والتعديل والإبقاء على حاله ، وقائمة المفاهيم طويلة وكذا الخواطر سنأخذ ما يمكن أخذه ونترك ما يمكن تركه .
هذا ، وإني لأرجو الله أن يجعل البصائر قرآنيةً ربانيةَ الطريق والغاية .
ومن الله التوفيق إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه .
ms@gabori.net
1
موازين العلم وميادين العمل
العلم والعمل أصلان متلازمان ومتكاملان في حياة الإنسان في هذه الدنيا التي جعلها الله دار تكليف بالعبادة علما وعملا، وللعلم موازينه وللعمل ميادينه :
موازين العلم ثلاثة :
الأول : ميزان الدين الإلهي : دليله الكتاب والسنة ، وحكمه بيان علم الحلال والحرام .
الثاني : ميزان الفطرة الإنساني : دليله العقل السليم ، وحكمه بيان النافع والضار.
الثالث : ميزان العرف الاجتماعي: دليله الإجماع، وحكمه بيان الحسن والقبيح .
وموازين العلم الثلاثة هي زاد السفر ونور الطريق بالنسبة لميادين العمل ، وهذه الموازين مرتبة، فدين الله أولاً لأنه وحي معصوم، ثم الفطرة الإنسانية لأن سننها ثابتة ، وأخيراً العرف الاجتماعي وهو نسبي يتطور ويتغير.
ميادين العمل متعددة نجملها في أربعة :
الأول : ميدان النفس ، وفي النفس يجري الصراع بين الخير والشر أو بين التقوى والفجور ?فألهمها فجورها وتقواها? 8/91 ويغلب أحدهما الآخر ?قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها *? 9-10/91 .
والتزكية و الفلاح في الصراع النفساني هو التخلص من النفس الأمارة بالسوء ومن النفس اللوامة والوصول إلى النفس المطمئنة ..
الثاني : ميدان الأهل في تربيتهم وتعليمهم ورعايتهم ودعوتهم في بشارتهم ونذارتهم ، وهؤلاء الأهلون أولياء و قد ينقلبون أعداءً على الرغم من قربهم وقرابتهم ?إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم? 14/64 فإذا كان هذا حال بعض الأهلين فما بالك بغيرهم من الآخرين من العشيرة والقوم وعموم الناس ؟ ولذا يتوجب الصبر عليهم ومداراتهم وإعذارهم ما أمكن .
الثالث : ميدان القومية بدءا بالعشيرة .
الرابع : ميدان الإنسانية العامة .
وميادين العمل الأربعة تمثل دعوة الأنبياء المرسلين ـ والعلماء ورثتهم ـ وهذه الميادين مرتبة بداية بالنفس ?عليكم أنفسكم? 105/5 ثم الأهل ?قوا أنفسكم وأهليكم? 6/66 ثم العشيرة ?وأنذر عشيرتك الأقربين? 214/26 والقوم ، وفي القرآن بيان وفي السنة كذلك بيان أن كل نبي أرسل إلى قومه خاصة ، وأن خاتمهم أرسل إلى الناس كافة .. صلى الله عليه وعليهم وعلينا وسلم .
والحمد لله رب العالمين
2-3
القراءة والكتابة
بدأ نزول القرآن بالدعوة إلى القراءة والكتابة : ? اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم *? 1-5/96 .
القراءة باللسان من الغايات ، والكتابة بالقلم من الوسائل .. ودائرة البحث وسيعة في الاثنتين نقتصر في الأولى على علاقة القراءة بالتجويد ، ونقتصر في الثانية على علاقة الكتابة بالقواعد :
أ – القراءة والتجويد:
التجويد : إجادة القراءة يريدون به الترتيل الوارد في الكتاب أو التغني الوارد في السنة ، وهو كيفية في الأداء أوجبه بعض القرّاء ، وآخرون لم يوجبوه وردّوا أدلة الموجبين وبخاصة دعواهم أن اللغة العربية في الأداء العام هو التجويد ذاته ، ولا يخفى ضعفه لأن التجويد لم يروَ في الحديث وهو أقرب النصوص إلى القرآن ، ولم يرِد في الشعر وهو ديوان العرب ولا في السجع ولا في النثر والخطب والحكايات والأمثال وغيرها من كلام العرب ..(/1)
فالادعاء بأن التجويد حتماً لازم وأن من لم يجود القرآن حتماً آثم .. مسألة فيها نظر ، يقول ابن تيمية : " ولا يجعل همته فيما حجب فيه أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة بخروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها ونطقٍ بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، وكذلك شغلِ النطق بأءنذرتهم وضم ميم عليهم ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحوِ ذلك ، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت .. " إهـ .
وبعض التجويد حق يشهد له خط المصحف في الحذف والفصل والوصل مثل الإدغام في " أن لا " حيث كتبت " ألاّ " بإدغام النون في اللام وكذا " من ما " حيث كتبت " مما " بإدغام النون في الميم .. وينبغي دراسة هذه الظاهرة في المصحف كله مع محاولة وضع علامات الترقيم حسب المعاني الموضوعية ولم يرَ الشيخ طاهر الكردي بذلك بأساً .
والوزن في رؤوس الآيات شاهد على الوقوف للتغني على شبه بقافية الشعر وفاصلة السجع وليس له علاقة بالوقوف الموضوعية ، فلا مسوغ لرجوع القارئ وإعادته من أجل الوحدة الموضوعية وإتمام المعنى لأنه تكرار يوهم دخوله في النص، تدبر ذلك مع فاتحة سورة الروم ? الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم *? 1-5/30 .
وكثير من التجويد تجاوز الحدود بالمدود والغنن والقلقلات والإقلابات والإخفاءات والإدغامات والمبالغات في مخارج الحروف ، وسبب ذلك قطع الكلام وتداخله حتى أصيب كثير من الكلمات بالغموض على حساب المعاني .. و هذا من أهم الأسباب المؤدية إلى قصور العامة من العرب وهم من أهل العربية عن فهمهم وتدبرهم للقرآن العربي المبين .
ب – الكتابة والقواعد :
لم يلتزم الكاتبون الأولون بقواعد الكتابة الإملائية في الكثير من المواضع ولم يصحح لهم مَن أتى بعدَهم فزيدت حروف وحذفت حروف أو كتبت على خلاف ما قرئت .. والمواضع لا تكاد تحصى ويجب إحصاؤها مهما كثرت لأن الواجب المؤكد هو كتابة القرآن على الوجه المقروء الملفوظ وعلى سبيل الموافقة والمطابقة بلا زيادة وبلا نقصان وبلا تبديل وبلا تغيير .. لكن الواقع مختلف الحال كما قلنا مع الأخذ بعين الاعتبار تطور قواعد الإملاء ، وهاكم أمثلة :
- ... ألف لام ميم أسماء لحروف كتبت ألم حروفاً ، وهي وأمثالها في فواتح تسع وعشرين سورة .
- ... الصلاة والزكاة بالألف كتبتا بالواو الصلوة والزكوة ، والتوراة بالألف كتبت بالياء التورية .
- ... لأذبحنه بالإثبات كتبت لا أذبحنه بالنفي .
- ... سأريكم من الرؤية كتبت بالواو سأوريكم أي سأحرقكم أو سأخفيكم .
- ... المسيطرون بالسين كتبت بالصاد المصطيرون .
- ... ننجي بنونين كتبت بنون واحدة نجي .
- ... ملإه ، بأيد كتبتا بياء زائدة ملإيه ، بأييد ..
- ... الجنة كتبت بالتاء المربوطة وكتبت بالتاء المفتوحة جنت .
ومعروف أن الكتابة العربية فصلت بين الحركات والحروف فلم تعدَّ الحركات حروفاً فلا يمكن استعمالها إلا مع الضبط بالشكل في كل شيء حتى الرسائل العادية والصحف اليومية ، أو إلا بعد معرفة علم النحو والصرف ، وهما علمان يتعذر تعلمهما كما يتعذر استعمالهما , ولو أن كلمة بثلاثة أحرف طرحت دون شكل لأمكن أن تقرأ باثني عشر وجهاً وأزْيد كلها خطأ إلا واحدا ، وذلك كبير وكثير على لغة من اللغات وبخاصة في وقت لا توجد فيه أم عربية تلقن اللغة الفصحى ، ولا توجد مدرسة تيسر علم النحو والصرف ، ولا مطابع تكتب كل شيء بكامل الشكل.
لقد وقع الخطأ من الكاتبين الأولين ولم يكونوا معصومين وكانوا معذورين.. يؤكد ابن خلدون على أن ليس في خطإهم نقص في خلق أو دين بناءاً على أن الكتابة من الصنائع المعاشية المدنية ..
ولقد منع الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الكتابة بخط المصحف وعلله بقوله : " لئلا يوقع الجهالَ في تحريف القرآن " .
وأقول : هو كذلك ، وهو أيضاً لئلا يوقع العلماءَ في كتمان العلم ، والوعيد فيه شديد فعلى الكاتبين الآخِرين واجب الكتابة من جديد ..
وما هذا الشأن إلا كشأن الكعبة المشرفة في إدخال حجر إسماعيل إلى داخل البيت العتيق ، ليكون البناء على قواعد الخليل إبراهيم تحقيقاً لأمنية خاتم الأنبياء المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
4
النسخ
الناسخ والمنسوخ
النسخ هو : رفع حكم شرعي ، أو إزالته وإلغاؤه وإبطاله ، والحكَم في عملية النسخ روايات ندر فيها الصحيح واجتهادات وليس المقام مقام الاجتهادات .
وحسب هذا التعريف فإنه لا يكون في القرآن نسخ لا ناسخ ولا منسوخ .
والمتقدمون توسعوا في مفهوم النسخ فاستعملوه في التدرج في التشريع وفي تخصيص العام وتقييد المطلق والاستثناء والشرط والصفة ..
والمتأخرون وهم ما بعد ومَن بعد الشافعي فالنسخ عندهم هو النسخ المعروف وهو رفع حكم .. إلخ(/2)
ولفظ النسخ استُعمل في معناه الجامع للآية الكونية والشرعية ?ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها? 106/2 وبمعناه المحو ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? 39/13 .
واستُعمل النسخ بالمعنى الخاص للآية الشرعية ?فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته? 52/22 وبمعناه التبديل ?وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ? 10/16.
وفي تاريخ النسخ فريقان :
الفريق الأول نفاة النسخ والحق معهم على الظاهر، والأصل لهم في ثبوت الحكم وعدم النسخ إلا إذا قام تناقض وتحقق تعارض وذلك محال ?ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا? 82/4 .
الفريق الثاني دعاة النسخ –الناسخون- وهم بين حدين في الأعلى لا حد لدعاواهم، فالقرآن كله معرض ومعروض لطروء النسخ عليه ، يليهم الذين حددوا عدداً والمكثرون منهم تجاوزوا الـ 500 ومثل هذا لا يصدق وكذا الذي قبله.
والمشهور عند الناسخين 22 دعوى ناقشتها في رسالة "النسخ في القرآن الكريم" ورددتها جميعاً إلا ثلاثاً هي أيضاً رددتها والحمد لله .
?إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون? 78/56 ?وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد? 41/41 .
في المكتبة القرآنية كتاب معاصر في علوم القرآن عنون له صاحبه بعبارة "لا نسخ في القرآن ... لماذا ؟" و"لا" نافية ناهية .
وفي المكتبة تفسير وسيط للقرآن هو أيضاً معاصر وفي مقدمته عبارة " القرآن لا ناسخ ولا منسوخ فيه" .. والتفسير المذكور أعدّ من أجل عامة المسلمين ولدعوة غير المسلمين .
وكتب أخرى جاء فيها ما جاء من لدن "ابن بحر" وإلى "أبي زهرة".
الأول ضمن مذهبه في تفسيره المشهور وردّ دعاوى النسخ ووجه إحكام الآيات المنسوخة ..
الثاني قرر في كتابه "مصادر الفقه الإسلامي" أن لا ناسخ ولا منسوخ بل الأحكام جميعها متكاملة ثابتة .
في رسالتي "النسخ في القرآن الكريم" ط 1409 قلت :
(إن علم النسخ من أعجب العلوم وأغربها فهو بين طرفين إفراطاً وتفريطاً من غلو في النفي والإثبات ، ولا توجد بين أيدينا دراسات منهجية كافية من موسوعية تجمع الشتات ، أو موضوعية تبت وتحسم تأصيلاً وتفصيلاً لتصل بهذا العلم إلى قرار معلوم سليم .
وكثير من المصادر المتخصصة والمراجع التي تناولت موضوع النسخ –وهي التفاسير وعلوم القرآن وأصول الفقه- اهتمت بالجمع والتكديس والتكريس ، وفي أحيان كثيرة غلب ضعف النقل ووهم العقل حتى كبر هذا العلم ورماً وعظم سقماً ، أو تكدر على طالبيه ، وخفي عن المحتاجين إليه ، واختلط فيه الزَّبد بالزُّبدة .
ومن الشواهد الدالة على مبلغ التساهل دعاوى هبة الله بن سلامة الضرير وقد أورد في كتابه أكثر من مائتين وثلاثين دعوى نسخ ، ونسخ بآية السيف نصفها!!
ومن الطرائف ما حكي عنه في قوله تعالى :
?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً? .
قال هبة الله : منسوخ من هذه الجملة ?وأسيراً? .
فقالت ابنته : أخطأت يا أبت في هذا الكتاب!
فقال لها : وكيف يا بنية؟
قالت : أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعاً .
5
التعريف بالله
الأسماء والصفات
الاسم : ذات موصوفة كاسم العلم واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة.
الصفة : صفة فعلية كالماضي والمضارع ، وصفة اسمية كالمصادر .
والمقصود من الاسم هو مضمونه من الصفة فهي تصف المسمى وتبين ماهيته ووظيفته .
وأول الأسماء أو المسمى الأول هو الله ثم الملائكة و الجن ثم الإنسان والحيوان والنبات وغيرها من المخلوقات في الأرض والسماوات ?ويخلق ما لا تعلمون? 8/16 ولكل شيء اسمه أو أسماؤه الخاصة به .
ويعد علم الأسماء والصفات من أهم علوم القرآن لتعلقه بمعرفة الله في ربوبيته و ألوهيته ولتعلقه بالخلائق وبخاصة الإنسان في تكليفه وعبوديته لربه سبحانه وتعالى.
ولله أسماء أنزلها في كتابه جمعتها في رسالة "أسماء الله في القرآن –إحصاء وبيان" والإحصاء : جمع الأسماء الصريحة بلا اجتهاد وقد بلغت 168 اسماً .
والصفات المأخوذة منها بلغت 115 صفة .
وتناولت الأسماء مع صفاتها بذكر العدد في القرآن مع بيان المعنى اللغوي والدلالة في الدين وناقشت ابن القيم في الأسماء والصفات وسيأتي رأيه ورده .
وقد أعد الأستاذ مصطفى شاهر خلوف بحث "صفات الله في القرآن" و"صفات الإنسان في القرآن" في سلسلة "الصفات في القرآن" .
وبانتظار الحلقات الباقية من أجل التتميم والتكميل .
برفقه الأسماء بالترتيب الهجائي لتحديد مواقعها وتسهيل مراجعتها ، واللوحات المخطوطة هي بالترتيب الموضوعي .
أسماء الله في القرآن بالترتيب الهجائي
وقد ميزت المروية منها بخط تحتها :
1- الآخذ ... 2- الآخر ... 3- الأحد 4- الأحسن ... 5- الأحق ... 6- الأحكم
7- الأرحم ... 8- الأسرع ... 9- الأشد 10- الأصدق ... 11- الأعلى 12- الأعلم
13- الأقرب ... 14- الأكبر ... 15- الأكرم 16- الإله ... 17- الله ... 18- أهل التقوى(/3)
19- أهل المغفرة ... 20- الأولى ... 21- الأول 22- البارئ 23- الباطن 24- البديع
25- البر ... 26- البريء ... 27- البصير 28- التواب 29- الجاعل ... 30- الجامع
31- الجبار ... 32- الحاسب ... 33- الحافظ 34- الحاكم 35- الحسيب 36- الحفيظ
37- الحفي ... 38- الحق ... 39- الحكم 40- الحكيم 41- الحليم 42- الحميد
43- الحي ... 44- خادع المنافقين ... 45- الخالق 46- الخبير ... 47- الخلاق ... 48- الخير
49- خيرالماكرين ... 50- ذوالانتقام ... 51- ذوالإكرام 52- ذوالجلال ... 53- ذوالرحمة ... 54- ذوالطول
55- ذوالعقاب ... 56- ذوالعرش ... 57- ذوالفضل 58- ذوالقوة ... 59- ذوالمعارج ... 60- ذوالمغفرة
61- الراحم ... 62- الرازق ... 63- الرافع 64- الرؤوف ... 65- الرب ... 66– الرحمن
67- الرحيم ... 68- الرزاق ... 69- الرفيع 70- الرقيب ... 71- الزارع 72- السريع
73- السلام ... 74- السميع ... 75- الشاكر 76- الشاهد ... 77- الشديد ... 78- الشفيع
79- الشكور ... 80- الشهيد ... 81- الصادق 82- الصمد ... 83- الظاهر ... 84- العالم ...
85-عدو الكافرين ... 86- العزيز ... 87- العظيم 88- العفو ... 89- العلي ... 90- العلام
91- العليم ... 92- الغافر ... 93- الغالب 94– الغفار ... 95- الغفور ... 96- الغني
97- الفاتح ... 98- الفاصل ... 99- الفاطر 100- الفاعل 101- الفالق ... 102- الفتاح
103- الفعال ... 104- القائم ... 105- القابل 106- القادر ... 107- القاهر 108- القدوس
109- القدير ... 110- القريب ... 111- القهار 112- القوي 113- القيوم 114- الكاتب
115- الكاشف ... 116- الكافي ... 117- الكبير 118- الكريم ... 119- اللطيف 120- المالك
121- الماهد ... 122- المؤمن ... 123- المبتلي 124- المبرم ... 125- المبين 126- المتعالي
127- المتكبر ... 128- المتم ... 129- المتوفي 130- المتين ... 131- المجيب 132- المجيد
133- المحيط ... 134- المحيي ... 135- المخرج 136- المخزي 137- المرسل 138- المستعان
139- المستمع ... 140- المصور ... 141- المطهر 142- المعذب ... 143- المغير 144- المقتدر
145- المقيت ... 146- الملك ... 147- المليك 148- المنتقم 149- المنذر ... 150- المنزل
151- المنْشئ ... 152- المهْلك ... 153- المهيْمن 154- الموسع 155- المولى ... 156- الموهن
157- الناصر ... 158- النصير ... 159- الهادي 160- الواحد 161- الوارث 162- الواسع
163- الوالي ... 164- الوحيد ... 165- الودود ... 166- الوكيل 167- الولي ... 168- الوهاب
6
رأي ابن القيم في الأسماء والصفات
رأي ابن القيم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" وننقل النص على طوله ثم نتبعه بما يفتح الله به ، قال رحمه الله تعالى : "(إطلاق ما أطلقه الله على نفسه) : فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها ، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقاً لمعنى أسمائه وصفاته ، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ، ولاسيما إذا كان مجملاً أو منقسماً إلى ما يمدح به، وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيداً ، وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقاً مقيداً أطلقه على نفسه، كقوله تعالى ?فعال لما يريد? 16/85 ?ويفعل الله ما يشاء? 27/14 و قوله : ?صنع الله الذي أتقن كل شيء? 88/27 .
فإن اسم الفاعل والصانع : منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم ، ولهذا المعنى -والله أعلم- لم يجئ في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير، ولا المتكلم ولا الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها .
ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسماً مطلقاً فأدخله في أسمائه الحسنى ! فاشتق له اسم الماكر ، والخادع ، والفاتن ، والمضل ، والكاتب ، ونحوها من قوله : ?ويمكر الله? 30/8 ومن قوله : ?وهو خادعهم? 142/4 ومن قوله : ?لنفتنهم فيه? 131/20 ومن قوله ?يضل من يشاء? 27/13 وقوله تعالى: ?كتب الله لأغلبن? 21/58 .
(خطأ إطلاق الصفات على الله من غير دليل) وهذا خطأ من وجوه :
أحدها : أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء ، فإطلاقها عليه لا يجوز .
الثاني : أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة ؛ فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق .
الثالث : أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به ، وإلى ما يذم . فيحسن في موضع ، ويقبح في موضع ، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه في موضع ، ويقبح في موضع ، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل .
الرابع : أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي يسمى بها الله سبحانه ، كما قال تعالى : ?ولله الأسماء الحسنى? 180/7 . وهي التي يحب سبحانه أن يثنى عليه ويحمد بها ، دون غيرها .(/4)
الخامس : أن هذا القائل لو سمي بهذه الأسماء ، وقيل له : هذه مدحتك وثناءٌ عليك ، فأنت الماكر ، الفاتن ، المخادع ، المضل ، اللاعن ، الفاعل ، الصانع ، ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة ، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علواً كبيراً والحمد لله رب العالمين ."اهـ .. ص 364-365 ط دار الوطن ص 329 -330
ولنا مآخذ على ما قاله ابن القيم –رحمه الله- من ذلك :
• قوله :" وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه.."
•• قلت ما وجه المنع ولشيخه ابن تيمية موقف أحكم منه وأسلم فبعد أن أشار -رحمه الله- إلى الأسماء في كتاب الله وسنة رسول الله وأن لله في كل لغة أسماء وفي اللغة العربية أسماء .. حتى قال : "أو وصفه به المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم" حيث فتح الأبواب للاجتهاد في التسمية أو في كشف الأسماء .
•• أقول أيضاً : إن الأصل العام في المسألة هو أن الله رب كل شيء وأن كل شيء هو أثر له أي لأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى . ومعلوم بالضرورة تلازم الصفة والموصوف وجوداً و عدماً , فلا صفة بغير موصوف ولا موصوف بغير صفة .. وقل مثله في تلازم الفعل والفاعل ، فلا فعل بلا فاعل ولا فاعل بلا فعل .
• قوله : "والخالق البارئ المصور أكمل من الصانع الفاعل" ..
•• قلت : إن لفظ الفاعل من الأسماء الصريحة فدعواه : "ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى" هي دعوى غير صحيحة فقد ورد اسم الفاعل مؤكداً بصيغة الجمع في ثلاث آيات من سورة الأنبياء أولاها : ?لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين? الأنبياء :17 ، ثانيتها : ?وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين? الأنبياء :79 ، ثالثتها : ?كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين? الأنبياء :104 .
• قوله : "وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقاً مقيداً أطلقه على نفسه كقوله : ?فعال لما يريد? ?يفعل الله ما يشاء? .
•• قلت : كرر التمثيل بلفظ الفاعل ولم يستشهد بالمواضع الثلاثة المذكورة في سورة الأنبياء ، أما فعّال فهو اسم مستقل في صيغة المبالغة فلا يصلح شاهداً لاسم آخر مثل فاعل فلكل مبناه ومعناه ، وكذلك استشهاده بـ يفعل مع وجود الاسم الصريح .
•• أقول أيضاً : إن الأصل في الأسماء هو الإطلاق والعموم وإن كانت هذه الأسماء مقيدة ، والقيد إنما يلزم لموجب عقلي أو نقلي كما في:خير الماكرين وخادع المنافقين وعدو الكافرين وسيأتي ذكره .
• قوله : فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب .
•• قلت : في كلامه شيء بل أشياء حيث مثل لاسم الماكر بقوله?ويمكر الله? وهو فعل مع أن الماكر اسم مصرح به ورد مقيداً بالخيرية ?خير الماكرين? وكذلك الخادع في "خادعهم" أي خادع المنافقين ، واستشهاده على الكاتب بقوله : ?كتب الله لأغلبن? كذلك حيث أن اسم الكاتب صريح في قوله تعالى : ?وإنا له كاتبون?.
• قوله : (خطأ إطلاق الصفات على الله من غير دليل) وهذا خطأمن وجوه :
•• قلت : ذكر ابن القيم –رحمه الله- ستة وجوه لما رآه خطأ , وقد كرر فيها ما سبق أن ذكره من أحكام المنع والنفي من غير دليل ، وقياس الرب على العبد في باب المدح والذم هو قياس عقلي مع الفارق الكبير بينهما و لا ينبغي للعقل أن يحكم النقل .
والأمثلة التي ضربها وهي: الماكر والفاعل و المخادع - صوابه الخادع- هي من الأسماء الصريحة جمع بينها وبين أسماء مأخوذة من الأفعال وهي : الفاتن المضل اللاعن الصانع .. وذلك لا يستقيم لأنه خلط بين ما يجب أن يتفق عليه من الأسماء الصريحة وبين ما يمكن أن يختلف فيه من الأسماء المأخوذة من غيرها ، ثم إنه كرره مع الاسمين الصريحين : الصادق والمنزل جمع بينهما وبين أسماء أخذت من الأفعال وهي : اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والنازل والمدمدم والمدمر .. وذلك أيضاً لا يستقيم للسبب ذاته .
•• أقول أيضاً : إن خلاف ابن القيم في الأسماء والصفات يعود لجملة أمور نشير إلى اثنين منها :
الأمر الأول : تحديد الاسم والصفة .
فالاسم : ذات موصوفة كاسم الفاعل واسم المفعول .
والصفة : فعلية أو مصدرية .
مثاله : اسم الرحيم والتواب والمصور ، الصفة الفعلية فيها : رحم وتاب وصور ، والصفة المصدرية فيها : رحمة وتوبة وتصوير .
الأمر الثاني : التقييد والإطلاق أو العموم .
الأصل في الاسم أو الصفة ليس التقييد كما يتوهم كثيرون بل الأصل هو العموم والإطلاق أي الاستقلال ، ولما كانت عامة الأسماء والصفات مقيدة تصريحا أو تضمينا لذا فقد جرى تجريدها من كل قيد ، وإنما لزم القيد لموجب نقلي أو عقلي كما ذكرنا في : خير الماكرين وعدو الكافرين وخادع المنافقين .. حيث لا ينفك الاسم عن قيده بحال .(/5)
وقد بينت ذلك في -منهج البحث في الأسماء والصفات– عند فواتح كتابي : أسماء الله في القرآن-إحصاء وبيان- فتدبره على بصيرة يا من رعاني الله وإياك بالتوفيق والرضوان .
والحمد لله رب العالمين
7
القدرة فوق القدر
القدر أو القدر العلمي هو : علم الله المكتوب في اللوح المحفوظ ?إنا كل شيء خلقناه بقدر? 49/54 .
القدرة هي : مشيئة الله في تنفيذ القدر العلمي أو ردِّه ?يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب? 39/13 فيمحو منه ويثبت منه ما يشاء .
وبين القدر و القدرة مغالبة فإذا قال العبد يا رب استجاب له ربه بقدرته في رد قدره ?وقال ربكم ادعوني استجب لكم? 60/40 .
ومثله مغالبة الرحمة والغضب في حديث (غلبت رحمتي غضبي) .
وعليه فإن القدرة فوق القدر ..
وقد ذكرت ذلك في رسالة "القدر" والرسالة المذكورة مبنية على دعاء الفاروق: "اللهم إن كنت كتبتني في ديوان الشقاوة فامحه عني واكتبني في ديوان السعادة" فقد طلب الفاروق من قدرته تعالى محو قدره سبحانه .
وتدبر هذه الآيات ?ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها *? 7-10/91 .
فتسوية النفس هي العلم بالتقوى والفجور أو الخير و الشر ، وهذا العلم من عند الله والإلهام به للإنسان هو قدر الله .
والتزكية والتدسية هما من قدرة العبد فإذا جعل العبد قدرته في اللجوء إلى قدرة الله اجتمعت القدرتان بالتزكية والفلاح و إلا اختلفتا بالتدسية والخيبة من قبل العبد .
وفي تاريخ الأمة طرفان غاليان :
الأول : القدرية ومذهبهم أن القدر هو قدرة العبد .
وعرف منهم الشيعة والمعتزلة الذين غلّبوا مسئولية العبد ، وأقاموا في ظلها حضارة سادت زماناً .
الطرف الثاني: الجبرية ومذهبهم أن القدر هو قدرة الله .
ومنهم جموع من السنة وبخاصة الصوفية وهم وهم من قرون وراء تخلف العالم الإسلامي علميا وحضاريا .
والملحوظ أن الطرفين مختلفان في تغليب حق الرب أو تغليب حق العبد وكل على حساب الآخر وهما متفقان في النظر إلى القدر بعين القدرة والشأن كبير وخطير.
8
الترجمة الحرفية وترجمة المعاني
الترجمة : نقل المعنى من لغة إلى لغة ، والترجمة الحرفية قيد لترجمة المعاني بالتزام الحرفية وهي مساواة المعنى للمعنى في اللغتين ، فيخرج عن هذا القيد الترجمة التفسيرية فهي تفسير ،كما يخرج ترجمة التصرف والإضافة والحذف .
لكن الذي قالوه غير هذا قالوا إن ترجمة المعاني هي الترجمة التفسيرية وهي ترجمة التصرف وذلك للوصول إلى أنها ليست ترجمة شرعية وليس لها قدسية النص العربي ، وهذا يذكر بالذين كانوا يمنعون غير العرب من التكلم بالعربية حرصاً على هذه اللغة من أن تلوكها ألسنة الذين هم دون العرب ولغاتهم دون العربية .. وزعموا أن الترجمة نفسها ليست قرآناً لفقدانها الإعجاز البياني ، وكأن اللغة بحروفها وحركاتها وبلاغتها ونحوها وصرفها هي المقصود من رسالة الرب للإنسان ، ورسالة الرب للإنسان هي في المعاني : ?الحمد لله رب العالمين? 1/1 ?الله لا إله إلا هو الحي القيوم? 255/2 ?قل هو الله أحد? 1/111 ?أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير? 14/31 ?ادفع بالتي هي أحسن? 34/41 .. إلى آخر القرآن .
مع الإقرار بأن القرآن في كل شيء معجز للثقلين الإنس والجن وبقية المخلوقات لأنه القرآن كلام الله .
واللغات كلها آيات الله ?ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم? 22/30 .
وعلة التنزيل بلغة من اللغات محصورة في البيان ?وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم? 4/14 ?ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي? 44/41 .
وكنت كتبت في المفاهيم "أفضلية لغة على لغة" ونقلت عن ابن حزم نكيره على الذين يفضلون اللغة العربية على غيرها أو الذين يرون أن غير اليونانية كنقيق الضفادع ونباح الكلاب !.
وكتبت في رسالة ترجمة القرآن الكريم تحت عنوان مشروعية الترجمة :
روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كتب الفاتحة بالفارسية للفرس فكانوا يقرأون بها في الصلاة .
فإذا جازت ترجمة الفاتحة وقامت بها الصلاة دل ذلك على جواز بقية القرآن وصحة الصلاة من باب أولى .
والعرض التاريخي للترجمات لمختلف اللغات دليل على الوقوع خلال مختلف القرون والعصور .
ويبدو أن منع الترجمة جاء متأخراً في نهاية الدولة العثمانية حيث انتشر الجهل بين المسلمين واستغل ذلك المبشرون النصارى مما كانوا يستغلون جهل الناس في التنصير وفتح الأبواب وتمهيد الطريق أمام جيوش الغرب ، ومما يدل على ذلك ما روي أن أحد المبشرين قال لأحد علماء المسلمين : القرآن معجزة حقاً لا تتحمل بلاغته الترجمة ففرح العالم وقال الفضل ما شهد به الأعداء وخطب وكتب أن القرآن تصعب ترجمته ، أو تستحيل ترجمته ، ولا تجوز ترجمته ، وتبعه الناس على هذا !!(/6)
وفي القرآن ترجمة لكثير من اللغات كلغة آدم وحواء ونوح وأصحاب السفينة وإبراهيم الخليل وموسى الكليم والكلمة عيسى ولغة الجنة ولغة النار ولغات أخرى .
ومطلوب من القرآن أن يترجم إلى لغات الناس ما دامت دعوته موجهة إليهم جميعاً وماداموا غير قادرين على تعلم لغة التنزيل العربية ، وهاهم كذلك بعد مئات السنين غير قادرين .
وما يضير العربية وجود اللغات معها ، وما يضير غير العربية كذلك أن تقف جموعها على صعيد واحد مع أصحابها فكل اللغات آيات الله وكل الشعوب عيال الله.
ونحن والناس من أهل الأديان في سباق وبخاصة مع النصارى مستمر.
فلقد حرص النصارى على الدوام على ترجمة الكتب المقدسة لديهم لإثبات عالمية الدعاية النصرانية .
والحق أننا نحن المسلمين مع الإسلام في العالم أولى منهم وأحق .
9
إباحة الحيوان -
(الحلال بيّن والحرام بيّن) -في الحديث- (الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنكم) .
وعليه فالتشريع تحليلاً وتحريماً بيد الله وحده لا مشرع سواه أنزل شرعه في خاتم كتبه على خاتم رسله ، ورسوله يتلقى الوحي من ربه ويبلغه ?وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى*? 3-4/53 بلا زيادة ?ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين? 44-46/69 ولا نقصان ?وما هو على الغيب بضنين? 24/81 وقرئ ?بظنين? .. وعلى خاتم الأنبياء البيان شأنه شأن الأنبياء قبله ?لتبيننه للناس ولا تكتمونه? 187/3 فكان عليه السلام معلماً عاملاً داعياً .
حتى إنه (كان قرآناً يسعى) –في الحديث- (كان خلقه القرآن) ، والرسول الأمين في قوله وفي فعله هو مؤمن بالقرآن مسلم له ، ليس له أن ينسخه بحديثه ، ولا أن يغيره أو يبدله من تلقاء نفسه ، كما أخبر تعالى عنه وعن قومه : ?وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إئت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم? 15/10 .
ولقبول الحديث قيدان هما صحة السند وسلامة المتن ، وميدان صحة السند الرواة والجرح والتعديل ، وأما المتن فمقيد بموافقة المعلوم بالضرورة الشرعية النقلية والضرورة الفطرية العقلية ، ومعلوم أن الحديث قد خضع زماناً لعمل البشر ولم يسلم كثير منه من الدخيل العليل ، بخلاف كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، حتى نزلت درجته وضعفت قوته عن درجة القرآن وقوته ، فلا يجوز بحال ولا يحل مساواة السنة بالقرآن ، فضلاً عن تقديمها عليه ، والله المستعان عليه ، وبخاصة في مسألة إباحة الحيوان :
والأصل حل الحيوان وإباحته إلا ما نهت عنه النصوص وهو قليل مثل لحم الخنزير، وتحريمه للابتلاء والامتحان كابتلاء آدم بالنهي عن أكل الشجرة .
وكثير من العلماء استدلوا بحديث الناب والمخلب على تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وحرموا الكلب لما ورد من غسل لعابه سبعاً إحداهن بالتراب ، وحرموا ما تعافه الطباع وتكرهه النفوس من الحيوان المتقذر ، وظاهر القرآن قصر التحريم على لحم الخنزير كما بين تعالى ?قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير? 145/6 ، قال ابن عباس : ما خلا هذا فهو حلال ، وقال : ليس شيء من الدواب حرام إلا ما حرم الله في كتابه ، وعن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير تلت الآية : ?قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً? 145/6 ، وعن الشعبي أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا الآية .
وفي السنة أيضاً تحريم لحوم الحمر الأهلية كما في حديث جابر وإن كان نسب لابن عباس رده كما روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك ابن عباس وقرأ ?قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً? 145/6 .
ونقل القرطبي في تفسيره أن ابن عمر سئل عن لحوم السباع فقال : لا بأس بها ، فقيل له : حديث أبي ثعلبة الخشني ، فقال : لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي -يبول على ساقيه- وحديث أبي ثعلبة فيه (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وبهذا المعنى روايات وفي بعضها زيادة (وكل ذي مخلب من الطير) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والحديث عند مالك دون الزيادة .(/7)
والمالكية قالوا : يحل أكل كل حيوان طاهر غير ضار، فيجوز أكل الطير الذي له مخلب كالباز والنسر .. والغراب بجميع أنواعه، والمشهور عندهم أن أكل حشرات الأرض جائز إن قبلتها طبيعة الآكل ولم تضر، وقالوا يكره أكل سباع البهائم المفترسة كالأسد والنمر واختلفوا في الكلب والبغال والحمر الأهلية، وقولنا المالكية أي جمهورهم فالمروي عن مالك نفسه تحريم السباع وروى ابن القاسم عنه أنها مكروهة وبه أخذ جمهور أصحابه .
وفي هذا إشكال أصولي لا يخفى والحاجة إلى البيان كانت ولا تزال قائمة بالبحث في عمق المشكلة وجذور المسألة ولذلك فلابد من بيان العلاقة والصلة بين مصادر التشريع المشهورة : كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم .
وهذه المصادر مرتبة في درجتها حسب قوتها والمراد من القوة صحة السند في الرواية وسلامة المتن في النص .
فالقرآن هو في الدرجة الأولى لصحة روايته وسلامة نصه ?لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه? 42/41 ، تليه السنة الموحى بها أما السنة الاجتهادية فهي تحت مراقبة الوحي قبولاً ورداً .
وأقوال الصحابة المنقولة عن النبي لها حكم السنة وأقوالهم الأخرى معرضة للخطأ والصواب ، والخطأ بأجر والصواب بأجرين ، والصحابة هم أفضل الناس وقرنهم هو خير القرون ولهم من الأجر ما شاء الله .
والسنة في حقيقتها بيان للقرآن في التفسير وفي التطبيق ما عدا السنة الموحى بها فإن السنة قد تتعلق بالظروف الزمانية والمكانية والشخصية فتعلل وتؤول ، والتعلق بالظروف الشخصية والمكانية والزمانية يثبت في أقوال الصحابة ومن بعدهم فتعلل وتؤول من باب أولى .
وعلى هذا فيمكن توضيح الصلة بين المصادر الثلاثة في حالة تعارضها الظاهري من خلال الأمثلة التالية بين القرآن والسنة وأقول الصحابة :
- التعارض بين القرآن والسنة مثل آية إباحة عموم الحيوان باستثناء الخنزير وحديث تحريم السباع ، وجحة من لم يأخذ بظاهر الحديث أو علة ذلك أن لفظ التحريم في السنة مؤول يحمل على المنع والمراد منه الكراهة وغيرها .
- التعارض بين السنة والسنة كما في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم الأمر بالإباحة ، والعلة من أجل الدافة ، وكذا النهي عن زيارة القبور ثم الأمر بالزيارة لأنها تذكر بالآخرة .
- التعارض بين القرآن وأقوال الصحابة كما في منع سهم المؤلفة قلوبهم مع ثبوته في القرآن والعلة عزة المسلمين وكثرتهم ، وكذا عدم القطع في السرقة مع ثبوته في القرآن لحاجة السارقين عام الرمادة .
- التعارض بين السنة وأقوال الصحابة كما في منع متعة الحج مع ثبوتها في السنة والعلة دوام الطواف بالبيت طوال العام ، وكذا بقاء بناء البيت مع تمني النبي البناء على قواعد إبراهيم وإسماعيل ... ونحو أو غير هذا وذاك من الأمثلة .
وفي المحرر لابن عطية بعد أن ساق آية إباحة الحيوان عدا الخنزير وساق حديث تحريم السباع قال :
ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها ، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام للحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها لم تخمس ، وتأول بعضهم التحريم المحض ، وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها ، فجاز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها . أهـ .
10
الحرية الدينية -
?...ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون? 217/2 .
الردة نوع من أنواع الكفر بالخروج من الإسلام أو الإيمان .
وقد ورد في الآية أن المرتد إن لم يرجع ويتب حتى مات على كفره فإن عمله الصالح يبطل في الدنيا ، وفي الآخرة يخلد في النار ومفاده أن لا عقوبة عليه في الدنيا .
وفي الحديث أن عقوبة المرتد القتل (من بدّل دينه فاقتلوه) وكذا (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وذكر التارك لدينه المفارق للجماعة ، والمرتد وإن كان كافراً فإنه يقتل حداً –إن كان يقتل- والكفر ليس سبباً للقتل فهو كالسارق تقطع يده ، وشارب الخمر والزاني حيث يجلدون ويعزرون ويُقتلون .
ومفهوم الحديث معارض ظاهرا بآيات تقرر الحرية الدينية ، وتمنع الإجبار والإكراه والسيطرة ?أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين? 99/10 ?وما أنت عليهم بجبار? 45/50 ، ?لست عليهم بمسيطر? 22/88 ?وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? 29/18 .
وهذا الذي في القرآن مقرر في فطرة الإنسان حيث يترك العبد مخيراً بين الكفر والإيمان دخولاً وخروجاً كما يشاء .
وكذا مفاد الآية التالية ?إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً? 137/4 ، ويستقر الأمر بوفاته على الكفر أو الإيمان ، والحياة الدنيا دار تكليف بهما نقلا وعقلا .(/8)
والحديث إذا خالف القرآن –كماقلنا في إباحة الحيوان- فإن الحديث يؤول فيحمل الأمر على الإباحة وغيرها لا على الوجوب وحده ، وذلك حسب القرائن التالية من السنة وقول الصحابي والتابعي :
- لم يصح في السنة تطبيق لظاهر الحديث ، وما روي من قتل المرتد والمرتدة لم يصح سنده ، بل صح في البخاري وغيره أن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الأعرابي المرتد إلى الوثنية كما ترك الكاتب المرتد إلى النصرانية .
- روي أن عمر بن الخطاب رفض طلب أنس بقتل مرتدين واكتفى لهم بالسجن .
- روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي ميمون في مرتدين أن رد عليهم الجزية ودعهم .
وخلاصته أن لا عقوبة على المرتد أو أن عقوبة المرتد تعزيرية تصل إلى حد القتل وذلك حسب الحال .
11
أقسام الكفر بالدين -
الكفر هو : مخالفة الدين في الظاهر والباطن ، وظاهر الدين هو : الإسلام وباطنه هو : الإيمان ، والموصوف بهما هو : المسلم المؤمن ، والمخالف لهما هو : الكافر المنافق . وصفة الإيمان والإسلام بالنسبة للموصوف بهما تنتفيان أو ينتفي أحدهما مع ثبوت الآخر بالكلية أو الجزئية ، وعليه فالكفر المخالف للدين خمسة أقسام :
الأول : كفر الظاهر بانتفاء الإسلام وثبوت الإيمان . كالمكره في قوله : ?إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان? 106/16 .
الثاني : كفر الباطن بانتفاء الإيمان وثبوت الإسلام ، كالمنافق وهو في الآخرة كما قال : ?في الدرك الأسفل من النار? 145/4 وفي الدنيا يعامل كالمسلمين (لنا الظاهر والله يتولى السرائر) كما في الخبر .
الثالث : كفر الظاهر والباطن بانتفاء الإيمان والإسلام لعدم الدخول فيهما ، وهو يترك على حاله بلا إكراه لقوله ?لا إكراه في الدين? 256/2 وعذابه أخروي .
الرابع : كفر الظاهر والباطن بانتفاء الإيمان والإسلام بالخروج منهما ، وهذا عذابه أخروي ، وعليه الحد في الدنيا عند الجمهور وهو المقصود في حديث (التارك لدينه المفارق للجماعة) .
الخامس : كفر الظاهر والباطن في جزئية من الإسلام أو الإيمان ، وعليه حد الدنيا كفارة له ، أو عليه وعيد في الآخرة تحت المشيئة ، وهذا الكفر أو النفاق من باب كفر دون كفر أو نفاق دون نفاق ، وهما لا يخرجان من الملة لأنهما معصيتان داخل أحكام الدين وليستا خارجة .
ويرى الخوارج من الظاهرية الكفر المخرج من الدين في الكبائر كلها ، وبعض الظاهرية يخصون بعض الكبائر ككفر تارك الصلاة ، وآخرون من المعتزلة يجعلون هذا الكفر منزلة بين المنزلتين ، فهم يخرجونه من الدين ولا يدخلونه في الكفر ، والعامة لا يكفرون أهل القبلة ، والباطنية يكفرون غيرهم ، والجبرية منهم لا يكفرون أحداً بسبب قولهم بالفناء والحلول أو الاتحاد ووحدة الوجود .
وفي التاريخ العلمي للإسلام من خلال الفرق والطرق والمذاهب عجائب الخلاف في مفهوم الكفر ومفهوم الدين وما يترتب عليه من اختلاف المسلمين قديماً وحديثاً .
والبصيرة تقول : إن توحيد الأمم قائم على توحيد المفاهيم وبخاصة المفاهيم الدينية .
12
تعريف القرآن *
القرآن مصدر كالقراءة لأنه يقرأ ، وقيل لأنه يقرن بعضه إلى بعض فهو كالمصحف حيث جمعت صحفه بين دفتين .
والمشتهر على الألسنة في تعريف القرآن ، أنه : (كتاب الله القديم ، نزل به الروح الأمين جبريل على خاتم المرسلين محمد ، المنقول بالتواتر ، المتعبد بتلاوته ، المتحدى بأقصر سوره ، المعجز للإنس والجن ، المكتوب في المصاحف ، المفتتح بالحمدلة ، المختتم بالناس ..) وقد يزيدون قيودا أخرى لإطالة التعريف أكثر . وعرفوا الآية القرآنية كما في الإتقان فقالوا الآية : (طائفة من حروف القرآن علم بالتوقيف انقطاعها يعنى عن الكلام الذي بعدها في أول القرآن وعن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن وعما قبلها وما بعدها في غيرهما) واختصروا تعريف الآية فقالوا- كما في بصائر الفيروز آبادي أن الآية : (جملة من القرآن دالة على حكم) ، وفيه أن السورة : (قطعة مفردة من جملة القرآن أو جملة من الحكم والحكم)، وعرفوا القراءة القرآنية كما في المهذب في القراءات العشر فقالوا القراءات : (علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية وطريقة أدائها اتفاقا واختلافا مع عزو كل وجه لناقله) ..
أقول إن هذه التعريفات نماذج لتعريف كثير من الأعلام والمسائل العلمية ، وهي قائمة على صياغة ركيكة في اللفظ والمبنى غير جامعة للمعنى ولا مانعة من الحشو والقصور ، تدخلها نزاعات الفرق وخلافات المذاهب ، دون تركيز على أركان المعرف وماهيته ، ففي تعريف القرآن ساقوا الخلاف في كونه قديماً أو مخلوقاً ، وتركوا مثل أنه وحي منزل .. وحصروا تنزيل الوحي بالروح الأمين وأهملوا الإلقاء في الروع مباشرة أو من وراء حجاب .
أما التعبد باللفظ والتحدي للإعجاز فهي خصائص جزئية وصفات ثانوية لا يقوم بها التعريف ..
وبالإمكان تعريف القرآن بأنه: (آخر كتب الله المنزل على آخر الرسل بلسان العرب بشيراً ونذيراً للناس) .(/9)
وبعبارة أخرى : (كتاب الله المنزل على محمد بلسان العرب لهداية الناس) حيث تضمن : تاريخ نزوله وبيان وظيفته ومضمونه ومن كلف به ومن أنزل عليه ، ويمكن حذف لسان العرب بعد الترجمة إلى لغات الناس ، فلكل قوم لغته الخاصة والقرآن لهم جميعاً .
أما تعريف الآية فهو بين طويل ممل واختصار مخل بل فيهما زيادة في الإبهام والإيهام وقريب منهما تعريفهم للسورة وللقراءة القرآنية . ولست بصدد استعراض التعاريف ومناقشتها إنما تقدمت بهذه الكلمة لأبني عليها مطالبة المتخصصين لبحث أمر التعاريف لبيان قواعدها ووضع ضوابط لها ثم صياغتها بإحكام على ضوء تلك القواعد والضوابط .
ونتيجة لذلك قد يعرف القرآن تبعا لمضمونه ومضمون القرآن هو : (التعريف بالله) ببيان صفاته الاسمية والفعلية ومعرفة ما يرضيه وما يغضبه من معصية ومن طاعة.
ويمكن تعريف الآية بأنها : جملة من حروف القرآن مختومة بفاصلة ، والسورة : جملة من آيات القرآن مبدوءة بالبسملة . والقراءة : طريقة قارئ في اختيار حرف وأدائه .
13
الإجماع *
الإجماع هو اتفاق جماعة على حكم اجتهادي غير منصوص عليه في الكتاب والسنة .
والذين عددوا مصادر الدين في ميدان الفقه والشريعة ، عدوا نحوا من عشرة مصادر ، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة وشرع من قبلنا ...
وكلهم وضعوا الإجماع بين أول المصادر وربما قدموا الإجماع عليها جميعاً .
وقسموا الإجماع باعتبارات كثيرة إلى عام كلي مطلق ، وخاص جزئي مقيد وإلى صريح قولي ، وحكمي سكوتي ، وإلى إجماع المتقدمين والمتأخرين ... ولما قسموا الدين إلى عقيدة وشريعة وأخلاق ، وجدت أقسام للإجماع تبعا لفرق العقيدة ، ومذاهب الفقه ، وطرق التصوف .
ويهمنا إلقاء نظرة على الإجماع وبخاصة الإجماع السكوتي لما له من أثر على فهم الدين في واقع المسلمين ، والإجماع السكوتي في حضرة الرسول يتصور فيما يسمى بالتقرير ، بمعنى أنه إذا حصل أمر في حضرة الرسول ولم ينكره ، فإنه يعتبر حكما لأن السكوت إقرار ، وعلى هذا شواهد منها حديث استئذان البكر ، وفيه يقول الرسول: (وإذنها صماتها) أي سكوتها ، وكذلك العموم المفهوم في قوله : (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) ، وأن الأمة (لا تجتمع على باطل أو ضلالة) . وأصل هذا أن المسلم لا يجوز له أن يسكت على باطل ، وكلمة الحق واجبة ، والبيان مفروض في القرآن ?وقل الحق? 29/18 ?لتبيننه للناس ولا تكتمونه? 187/3 وحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) والحديث يعتبر عمل القلب من وسائل التغيير وهو مستتر غير ظاهر وصاحبه صامت ساكت ، والجمع بين هذا والذي قبله أن السكوت يعتبر إقراراً مع وجود قرينة تدل على الرضى بتوافر الدواعي وانتفاء الموانع وهذا القيد مطلوب في إجماع المتكلمين كما هو مطلوب في إجماع الساكتين … فالإجماع الذي ينعقد في ظل ظروف صعبة، يمارس فيها الاضطهاد والتهديد بقطع الألسنة والرقاب وانتهاك الأعراض وانتهاب الأموال والاغتصاب .. لا عبرة به ، وما بني عليه باطل ، وفي بيعة بعض الخلفاء التي أخذت بمثل هذه الطرق تجاوزات كطلاق الأزواج حتى أعلن بعض الأئمة أن طلاق المكره لا يقع ، ومن ثم لا تكون البيعة مشروعة ، وعلى هذا فالرضى أصل يجب وجوده بوجود القرائن ، فإذا تقرر أنه لا عبرة بالقول فمن باب أولى أن لا يعتبر بالسكوت، فاشتراط قرينة دالة على الرضى أمر لابد منه سواء كان الإجماع مبنيا على القول الصريح أو على التقرير والسكوت ، ويلحق بهذا إجماع جماعة جاهلة ، سيان قولها وسكوتها .
والإجماع المنعقد المعروف هو إجماع مذهبي في الفقه ، أو فِرَقي في العقيدة ، أو طرقي في التصوف ، وأهل كل مذهب وفرقة وطريقة جعلوا إجماعهم ملزما لغيرهم ، فأوجبوا الحق لأنفسهم ، وخطأوا غيرهم وضللوهم وربما كفروهم ، ومن دعاة هذا النوع من الإجماع من قال : كل آية أو حديث ليس عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ، وقال آخر : على المرء أن يذب عن مذهبه ويوهن حجة خصمه ، وهذان من أهل الفقه ، وقال صاحب العقيدة في مسألة خلق القرآن : يكفر من يقول بخلق القرآن ، ويكفر من لا يكفر القائلين بخلق القرآن ... وهم كمن قبلهم أوقفوا التفكير، وأغلقوا باب الاجتهاد ، وألزموا التقليد والإتباع للإمامة والإمامية والمشايخ والحكام ، فلا اعتراض ولا افتراض وكل جديد أو تجديد بدعة ، وأصبح الدين ممزق الأوصال كالبدن الذي أبعد رأسه عن جذعه وأطرافه، فالعقيدة في وادي الفلاسفة والشريعة في وادي المناطقة ، والأخلاق في وادي الطرق .. وكل في واديه بلا تلاقٍ ولا تراءٍ .(/10)
إن الإجماع أيها الملأ ليس دليلاً شرعياً وإنما هو نتيجة النظر في الأدلة فقد ينتج عن النظر في الأدلة إجماع على حكم ما أو اختلاف فيه لأن الجماعة مجموعة أفراد ، ليس لهم منفردين ولا مجتمعين سلطان التشريع ، لأن المشرع هو الله رب العالمين وحده ، والرسول مبين له ، وكل ما في الأمر أن الإجماع دلالة اطمئنان ، أي أن النفس تطمئن بوجود جماعة تشاركها وتأنس بها ، فلا يكون حكمها غريباً شاذاً غير مألوف .
ولو صح أن يكون الإجماع دليل تشريع ، لصح اجتماع الزردشتية على عبادة النار، واليهودية على عبادة عزير ، والنصارى على عبادة المسيح .
- أما قوله عليه السلام : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، فلا يعني إجماعهم على حق وصواب ، وإنما يعني أنهم مجتهدون ، إذا أخطأوا كان لهم أجر ، وإذا أصابوا كان لهم أجران، فالمجتهد مثاب مأجور غير موزور ولا آثم على أي حال .
- وقول الرسول : (عليكم بسنتي) ، فهو بيان للقرآن عن طريق الوحي ، وهو المسمى بالسنة التشريعية العامة ، وفي الحديث : (كان خلقه القرآن) و(كان قرآنا يسعى) ، وقال : (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ، أي أوحي به ، ويدخل هذا في قوله تعالى عن نبيه : ?وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى*? 3-4/53 ، فيخرج من السنة الملزمة ما يتعلق بالفطرة والعادة والاجتهاد .
- و "سنة الخلفاء الراشدين" إلى قيام الساعة هي إتباع سنة الله في كتابه ، وإتباع سنة نبيه المبينة عن طريق الوحي ، والراشدون غير محصورين بعدد ومكان وزمان .
- وأما العترة في حديث (وعترتي) فالمراد حبهم ومودتهم كما قال تعالى : ?إلا المودة في القربى? 23/42 والمودة لا تقتضي الإتباع في الباطل ، ودعوى عصمتهم من أعظم الباطل بسبب تكليفهم كغيرهم ، ولا تجتمع عصمة وتكليف معاً .
وبعيداً عن النبي وعترته ضربت مثلا للمتعصبة في امرئ أحب أباه لتربيته وأخاه لمعروفه وزوجه لجمالها .. أيدفعه حبه إلى طاعة أبيه الزرادشتي وأخيه اليهودي وزوجته النصرانية ؟
14
التصوير والمصورون *
وردت أحاديث بالوعيد الشديد في التصوير والمصورين، منها العام ومنها الخاص، ومعلوم في علم الأصول حمل الأول على الثاني فيخصص العام .
ومن هذه الأحاديث (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) على العموم فيدخل كل مصور في حكم التحريم لكن هذا العموم ورد عليه التخصيص في قوله (يضاهئون بخلق الله) أي يعارضونه ويتحدونه بالإتيان بمثله أو الزيادة عليه، وهذا التخصيص شرط أو علة أي سبب موجب للتحريم .
والأصل جمع النصوص للتوفيق بينها ، وقد انتقض هذا الأصل من قبل الخوارج الظاهرية والغلاة الباطنية لوقوفهم عند بعض النصوص دون بعض ، ولا يمكن فهمها إلا بجمعها كلها لئلا يقع إفراط في حرمة التصوير أو تفريط في حله.
وحرمة التصوير مقيدة بعلة المضاهاة ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فإذا وجدت المضاهاة حرم التصوير ، وإذا عدمت أبيح .
فوجه التحريم في التصوير هو مضاهاة المصور حيث يجعل نفسه نداً للرب في شيء من صفاته كقوته وقدرته ، وهو مردود بمثل قوله ?هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه? 11/31 والمصِّورون لهم حكم المصَّورين إذا كانوا راضين لاشتراكهما ، واجتماعهما في الحكم لاجتماعهما في الفعل .
ولحرمة التصوير علة أخرى هي التعظيم بالنصب أو التعليق، وفي الحديث نهي عائشة عن تعليق الصورة لامتناع الملائكة عن دخول البيت الذي فيه صورة، فأنزلتها وجعلتها وسادة ، وفي هذا منع للتعظيم لا للتصوير .
وفي القرآن حديث عن جن سليمان الذين كانوا يعملون له ما يشاء من تماثيل وحديث عن عيسى الذي كان يصنع من الطين كهيئة الطير ، فإذا جازت الهيئات والتماثيل جاز التصوير من باب أولى… ومعلوم أن باب التصوير من العقائد التي لا تختلف فيها الشرائع فلا يحتج بأنه شرع من قبلنا .
وقد يحتج بالواقع أو الوقوع منذ عهد التابعين بوجود صورة الخليفة عبد الملك المجسمة ذات الظل على الدينار الإسلامي ، وكذا التصاوير في أيامنا على العملات المعدنية والورقية .
وبعضهم فرق في التصوير بين ذوات الأرواح وغيرها ، مع أن النص عام في كل ما خلق الله من إنسان أو حيوان أو نبات أو سماء أو أرض أو جماد .
وبعضهم يرى التفصيل بين ماله ظل وما لا ظل له ، أو يميز بين المرسوم باليد والمصَّور بالآلة الثابتة أو المتحركة …
ثم إن الصور وسيلة معينة على التعليم والتربية ، ومعرفة الأشياء تكون بالإطلاع على ذواتها أو صورها ، وربما أغنت صورة عن كلام كثير .
والتصوير في حد ذاته يكون هواية ، ويكون حاجة ، وكثير من المحرمين رخصوا في تصوير الحاجة ، وحاجات عصرنا الحاضر كثيرة منها التعريف بالأشخاص ، وتثبيت المعلومات ، وتحقيق البيانات ، ونشر العلوم ، وغير ذلك مما يتعذر حصره وإحصاؤه . وقد كثرت رخصهم حتى باتوا لا يفترقون كثيراً عن المبيحين للتصوير .
15
تعريف الإنسان *(/11)
اختلف تعريف الإنسان عند أهل الاختصاص من حيث النظر إلى عناصر تكوينه أو وظائفه ومسؤولياته ، فقيل هو حيوان ناطق ، والحيوانات كلها ناطقة لها لغاتها الخاصة بها في عالمها .. وبعضهم عرفه بأنه كائن عاقل ، ولكنه لا يختص بالعقل دون الكائنات الأخرى . ومن الوجهة الدينية ، يمكن تعريفه بأنه : المكلف المعلم المستخلف .
وفيما يلي بيان موجز حول هوية الإنسان تكوينا ووظيفة ، فقد خلق الله آدم وخلق منه زوجا له ، ومن الزوجين كان التكاثر بأمشاج من ماء مهين يخرج من بين الصلب والترائب ، فكان أصله مهيناً ، وأتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، تبعه حديث الملأ من الملائكة إذ يختصمون في اختيار خليفة للسيادة على الأرض قالوا لربهم : ?أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك?30/2 فبين لهم علم آدم بالأسماء دونهم ، والعلم يرفع صاحبه ، وقد ابتلاهم الله ليظهر المتكبر منهم والمتواضع ، حيث تكبر إبليس ، قال : ?أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين? 76/38 وظهر كبره وإصراره على العصيان في عهده وقسمه ?فبعزتك لأغوينهم أجمعين? 82/38 ?ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق اللهْ? 119/4 ?لأقعدن لهم صراطك المستقيم? 16/7 فكان من الكافرين ، ولم يغن عنه معدنه ولا موطنه ، أما آدم فلم يضعه بُعده في الأراضين ، ولا ضعف بدنه ومهانة طينته من اللحاق بالعليين ، فقد تاب بعدما أذنب بكلمات مقبولة، فكان كالملائكة الذين استجابوا لربهم بالسجود لآدم وهم يقولون : ?سبحانك ، لاعلم لنا إلا ماعلمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم? 32/2 .
والإنسان يتكون من بدن ، وروح ، ونفس :
أما البدن فهو من تراب الأرض اختلط بمائها فكان طينا لازباً آسناً ، ثم جف واشتد حتى قوي كالفخار على صورة الهيكل الإنساني المكون من الأجهزة العظمية والعضلية والعصبية ... ومادة التكوين هي خلايا تتنوع في وظيفتها حسب موقعها .
وأما الروح فهي مادة خفية مجهولة، تنفخ في البدن فيصبح البدن حياً، وهي أشبه بالكهرباء التي تعطي الطاقة لإدارة الأجهزة الإرادية وغير الإرادية ، والروح تدخل بعد أربعين يومًا في بدن الجنين ، وتخرج منه عند الموت .
وأما النفس فهي جوهر الإنسان وحقيقته ، وهي المكلفة المسئولة المسلطة على البدن المادي الحي الروحاني، فالبدن والروح مسخران وموضوعان تحت تصرف النفس ، ولقد أخبر الله عن النفس فذكر أنها لوامة ومطمئنة وأمارة بالسوء كما في قوله : ?ولا أقسم بالنفس اللوامة? 2/75 وقوله ?إن النفس لأمارة بالسوء? 53/12 وقوله ?يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية? 27-28/89 كما ذكر تعالى تسوية النفس وتكليفها ومسؤوليتها ومصيرها فقال : ?ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها *? 7-10/91 .
فالنفس بهذا المفهوم الخاص تختلف عن الروح لكون الروح من أمر الله ، ترجع إلى بارئها ، وتدخل جسم الإنسان وتخرج منه كسائر الأحياء مرة واحدة، وهذه الروح مع أجهزة الجسد وأعضائه شهود يوم القيامة على ما قدمته النفس في حياتها الدنيا ?يوم يقوم الروح والملائكة صفا? 38/78 ?شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون? 20/41 .
ونشير إلى أن النفس بالمعنى اللغوي العام تطلق على جملة الجسد والروح والنفس، وقد استعمل في القرآن بهذا المعنى كما في قوله ، بعد عرض آيات القدرة ?وفي أنفسكم أفلا تبصرون? 21/51 والأنفس هنا كل ما يدرك بالبصر والبصيرة من آيات بدنية وروحية ونفسية ..
ويبدو أن مركز النفس هو تجويف الصدر ، حيث القلب، وقد كثر ذكر الصدر والقلب في الكتاب والسنة كمركز لصلاح الإنسان وفساده وخيره وشره، ومن ذلك إشارة النبي عليه السلام إلى صدره (التقوى هاهنا) وصار يكررها .
ولقد وقع خلط بين النفس والروح قديماً ، ولازال هذا الخلط قائما حيث فسروا النفس بالروح ، وهذا التفسير عطل الدراسات النفسية بسبب الإمساك عن الروح ، كما ورد في الكتاب والسنة ، قال تعالى : ?يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ? 85/17 ، وكان النبي قد وعد بإجابة السائلين عن الروح .
وفي تاريخ الفكر الإسلامي من سمى كتابه بالروح أو سماه بحادي الأرواح ، حتى في أيامنا سمى بعضهم كتابه تربيتنا الروحية .
وفي القرآن تقريرات وإشارات لظواهر وحقائق نفسانية ، والسنة كذلك ، في تربية وتوجيه جيل الصحابة .
ومع أن المدرسة النفسية إسلامية ، ومن أعلامها ابن خلدون ، لكن هذه المدرسة لم تعمر ولم تستمر فخسر المسلمون معرفة النفوس، حيث تنظم العلاقات الإنسانية ويتم التخطيط ، وتعالج الوقائع ، ويقوم بناء الحضارة لخير أمة .(/12)
والتمييز بين النفس والروح صريح في القرآن ، وذلك في قوله تعالى : ?الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى? 42/39 والآية أربعة أقسام : ?الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها? و?فيمسك التي قضى عليها الموت? و?ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى? 42/39 .
فالآية بيان حول :
1- خروج النفس من البدن مع خروج الروح بالموت .
2- إمساك النفس وإمساك الروح وعدم عودتهما إلى البدن بالموت .
3- خروج النفس من البدن مع بقاء الروح بالنوم .
4- عودة النفس إلى البدن عند اليقظة من النوم .
وتخرج النفس في كل نومة أو غفوة وما في حكمها من غفلة وسكرة أو إغماءة ثم تعود فتدخل البدن بعد أجل مسمى .
ونؤكد على أن الخطأ في عدم التميز بين النفس والروح كان وراء تعطيل الدراسات النفسية الفردية في علم النفس ، والجماعية في علم الاجتماع ، ففقدت الأمة ميزانا لتقويم التاريخ ومعالجة الواقع كما أشرنا ، وترك هذا الميزان والميدان للغرب الذي تمكن عن طريق استخدام علم النفس وعلم الاجتماع من السيطرة على الشرق واستعماره وتغريبه .
16
التكفير والتهجير
خرج الإسلاميون من سجون الناصريين عام 1965م بعد تعذيب نفسي وجسدي كبير دام طويلاً .. وكان رد فعلهم على الحكومة والمجتمع شديداً ، وانقسموا على أنفسهم إلى خمس أو سبع وثلاثين فرقة كل فرقة ترى نفسها وحدها على الحق ! قال قائل منهم أنا أمة واحدة ! وكان مصدرهم فكر سيد قطب في تفسير الظلال الذي تلخص في "معالم في الطريق" ومؤلفات أستاذه أبو الأعلى المودودي الذي تلخص في المصطلحات الأربعة .. يروى عن سيد قطب قوله : لقد حمّلوا أفكاري على حصان أعرج .
وقد كفروا الحكومات بناءاً على آيات المائدة في الكفر والفسق والظلم والجاهلية ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون? 44/5 ?فأولئك هم الظالمون? 45/5 ?فأولئك هم الفاسقون? 47/5 ?أفحكم الجاهلية يبغون? 50/5 .
وكفروا المجتمعات لأنها سكتت والسكوت علامة رضا بالكفر فيحكم بكفره أو يحكم بجهالة حاله ولا يحكم بإسلامه ما لم يعلن براءته ويهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام .
ولقد انتشروا في العالم الإسلامي يفعلون ما فعلوه من قبل عندما خرجوا على علي بن أبي طالب إمامهم وقتلوه فيمن قتلوهم إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز واليوم ننتظر من يقوم بدوره الإصلاحي .
وقد عرّفت بهم منذ البداية وضمنت ذلك في "مفاهيم" بعنوان "مذهب التبين بين الكفر والإسلام" قلت :
"إن مذهب التبين يعني : التوقف عن الحكم بإسلام الشخص ولو أدى أركان الإسلام لوجوده في مجتمع جاهلي لم يتبرأ منه ."
وناقشت أدلتهم الداعية إلى التبين وقلت لهم : إن التبين ليس للإسلام وإنما هو للكفر الذي تبنى عليه أحكام الردة ، واستشهدت بيوسف الصديق بوزارته أو نيابته لفرعون الكافر في مجتمعه الجاهلي وبقي يوسف على الرغم من وزارته ونيابته صدّيقاً.
17
المجمع العلمي 1409هـ 1989م
تحديد الدين وتجريده وتجديده *
- ... لقد دعا السلف الصالح إلى تحديد الإسلام لتوحيد المسلمين .. من ذلك قول عمر بن عبد العزيز للناس : (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً . فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها ، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص) وعلى مثل هذا قام المجمع العلمي الإسلامي .
- ... المجمع العلمي الإسلامي : مشروع هيئة علمية عالمية دائمة مكونة من علماء المسلمين لتحديد الإسلام على الأصول الثابتة للكتاب والسنة . وهو يعني تجريده من الدخيل العليل . ويقتضي تجديده بالأحكام المناسبة للوقائع الجديدة. وفي ذلك المعالجة للواقع ، مع التخطيط للمستقبل .
- ... المفاهيم الفكرية مقدمة للعلماء لتقويمها والوصول إلى الأحكام الدينية والفطرية والعرفية وفق خطط منهجية .
- ... أعلن عن المجمع بطريق المكتب القديم في الشرق بباكستان .
- ... وتمت مراسلة العلماء بطريق المكتب المؤقت في الغرب ببريطانيا .
- ... كما تمت مراسلة حكام المسلمين بطريق المكتب السابق بأمريكا .
- ... المجمع العلمي الإسلامي إلى اليوم لا يزال ينتظر أهله من العلماء والحكام والمديرين والممولين للقيام ببناء ورعاية هذا الصرح العظيم ، ولتعود أمة الإسلام كما كانت خير أمة أخرجت للناس .
18
الحزب الإسلامي 1400هـ 1980م
دولة الشعوب الإسلامية *
- ... الحرية حق عام لكل الشعوب التي خلقها الله ولم يستثن أحداً (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) بل وقد خلقهم ربهم أحراراً .؟
- ... القومية فطرة إنسانية مشروعة في دين الله فالفاطر والشارع رب حكيم واحد. واللغة القومية من آيات الله في أفواه الشعوب لا تفاضل بينها كأصحابها الذين يتكلمون بها .(/13)
- ... الديمقراطية بمفهوم الشورى الملزمة هي : حرية الإنسان في اختيار الحاكم ونظام الحكم مع الحفاظ على الثوابت الفطرية العقلية في الإنسان والثوابت الدينية في الكتاب والسنة .
- ... تعدد الأحزاب تعبير عن الفروق الاجتماعية للتعاون على العمل الجماعي المشترك ولتنظيم الخلاف .
- ... العدالة الاجتماعية في التعامل مع الأقليات العرقية والدينية والطائفية ، وكذا في التعايش بين الفرق والمذاهب والطرق الإسلامية .
- ... المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ، مع اختلاف الوظائف .
- ... الجهاد ليس لإرهاب الآمنين ولا لنشر الإسلام بالسيف بل هو لدفع الظالمين والدفاع عن المظلومين .
- ... الطبقية الرأسمالية في مواجهة الشيوعية .. تعالج بمشاركة العمال في ملكية رأس المال .
- ... حكومة كردستان الإسلامية في دولة الشعوب الإسلامية : أمة مسلمة واحدة في منظمة أمم إنسانية متحدة .
19
محبة الله *
- ... الحب عظيم ، وأعظم الحب هو المتوجه إلى الله ذاته وصفاته يتبعه ما أمر تعالى بمحبته من الطاعات والخيرات ، في مقابل كراهية الذوات والصفات وما أمر تعالى بكراهيته من الطواغيت والبواغيت والشرور والعصاة .
- ... ويتنوع الحب إلى ديني مصدره الكتاب والسنة ، وشخصي مصدره العقل والهوى، وفي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فيتقدم الحب الديني على غيره بلا منازع ولا معارض .
- ... ومفتاح الوصول إلى الحب هو التحبيب وطريقُه التزيين والتحسين، في مقابل التكريه عن طريق التخويف والتقبيح .
- ... والتحبيب يعني زرع حب الشيء في أعماق الإنسان وإنظاره لحين استوائه ، كبذور الأشجار التي لا تلبث أن تظهر بالخضرة والنضرة والزهرة والثمرة.
- ... والحب في الأعماق يشحن القلب بالطمأنينة والفكر بالراحة ويملأ النفس بلذة عامرة غامرة دونها اللذات الحسية من الأطعمة الشهية والألبسة الجميلة والمراكب المريحة والمساكن المشيدة ..
- ... والمحب ينشغل بحبيبه وينسى متاعبه ، وقد يتلذذ بالمشاق المبذولة في الطريق ، مصداقه قوله عليه السلام في الصلاة (أرحنا بها يا بلال) وهو صريح في أن الصلاة راحة عند المحبين .
- ... وبعد الصلاة الحبيبة نتساءل عن الراحة في الباقيات الصالحات ، عن الحج وكيف نحب سعيه وطوافه والوقوف بمشاعره ؟ والصوم وكيف نحب جوعه وقيامه ؟ وكيف نحب العطاء في الصدقة والزكاة ؟ وكيف نتحمل آلام الجراحات، ونحب القتال والجهاد ؟ بل كيف نفتح أبواب المحبة كلها ونقع في حب كل عبادة ، عبادة رب أعد جنة عرضها السموات والأرض ، عبادة تجعل الدين كله راحة في نفوس العابدين ؟
- ... وكامل الحب وأحسنه لله الرب الإله وحده ثم لمحمد النبي الرسول بعده ثم للمؤمنين المسلمين المحسنين ، شاهده قول الحق ?إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا? 55/5 والأحباب على هذا الترتيب ، وفي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) وفي الحديث عن المؤمنين أن المتحابين في الله يوم القيامة (في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) .
- ... وبدهي أن يدفع الحب المحب إلى طاعة محبوبه واتباعه ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله? 31/3 وهي محبة متبادلة على سبيل المقابلة فإذا كان حب العبد لربه يدفعه إلى طاعته واتباعه فإن حب الرب لعبده هو مغفرة ذنوبه وستر عيوبه والتفضل عليه بالسعادة الأبدية ..
- ... اللهم إنا نسألك بحبك - حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك .
20
خواطر منثورة *
- ... لو كان لي من الأمر ساعة لهدمت فيها مكة وسويتها من جديد لتجري من تحتها المواصلات والأقوات ، ومن فوقها يرفع البيت العتيق على قواعد إبراهيم وإسماعيل كأعلى بناء حوله من كل الجهات عشرات الملايين من الطائفين الحاجين المعتمرين ومن القائمين الراكعين الساجدين وهم سالمون آمنون لا يخافون .
- ... الاستثناء هو إخراج بعض أفراد النوع أو الجنس من المستثنى منه ، والاستثناء المنقطع انقطاع العلاقة بين المستثنى والمستثنى منه ، وعقلاء اللغة لا يقبلونه ، والذين قبلوه طوعوا اللغة لما أرادوا ، أرادوا إخراج إبليس من بين الملائكة فأوجدوا له عذراً بعدم السجود لآدم !.
- ... قواعد النحو والصرف وكذا البلاغة مبنية على خلافات البصرة والكوفة والحكَم هم أعراب البادية ، والأحق بل الحق أن تبنى القواعد كلها على القرآن لا غير ، وحينئذ لن تكون القواعد نحواً وصرفاً وبلاغةً علوماً ميسرةً فقط بل تكون مقدسةً أيضاً .
- ... ?لا إله إلا هو? ضمير الغائب "هو" من أسماء الله الحسنى عندهم طبعوه في مصاحفهم باللون الأحمر وقالوا هو الاسم الأعظم .
ولا ندري ما قولهم في ضمير المخاطب أنت ?لا إله إلا أنت? والضميران أنا ونحن ?إني أنا الله? ?نحن الخالقون? ؟ .
- ... قالوا السلف أعلم قلت السلف أفضل لا يبلغ أحدنا مدَّ أحدهم ولا نصيفه .. أما العلم فليس وقفاً على سلف ولا خلف ولا على مكان ولا زمان .(/14)
- ... التجديد لا يعني إعادة القديم بل يعني الإتيان بجديد لم يكن موجوداُ من قبل ، والمجدد هو الذي يحكم على الواقع الجديد بحكم جديد وإن كان ذلك من خلال الشريعة والفطرة القديمتين .
- ... تعاريف العلوم الإسلامية تنتظر المنهجية والموضوعية بتدقيق الصياغة في التعبير وتحديد الهوية أو الماهية بعيداً عن هوى الخلفيات والنزاعات الفرقية والمذهبية والطرقية .
- ... التفكير الجماعي وراء الإبداع العلمي .
- ... لولا مذهب الجبرية في القدر لكانت حضارة العصر إسلامية .
- ... الجهل المركب مكون من الجهل بالتشخيص والجهل بالمعالجة .
- ... الحق الواحد يراه بعض الناس متعدداً تبريراً للباطل .
- ... بعضهم كالخفاش يتعلق برجليه ويدلي برأسه ليرى الأشياء مقلوبة .
- ... الزوجة التي تسعى لإحراج زوجها أمام أولادها هي أم غير مربية وهو أب غير قدوة .
- ... الفرق بين المتكبرين والمتواضعين محبة الناصحين .
- ... لإقامة الحجة على عدوه قال إبراهيم : هذا ربي وقال لوط : هؤلاء بناتي وقال خاتمهم : وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال .
- ... لأنهم كانوا سحرة فقد علموا أن نبي الله موسى ليس بساحر ، وقال آخرون : يا أيها الساحر .
- ... قلت ولا أزال أقول : إن إسلام الغرب أيسر من إصلاح الشرق .
- ... لا يغني تاج الرأس عن حذاء الرجل .
- ... لولا صلابة البذرة لأكلت مع الثمرة ولما كانت الشجرة .
- ... لا تقضى الصلاة المكتوبة المتروكة عمداً لأن الزمان لا يرجع إلى الوراء .
- ... غير الله غير معصوم .
- ... الكلاب والذئاب فصيلة واحدة أحدهما يهاجم الإنسان والآخر يحميه .
- ... اللسان من أكثر أعضاء البدن جهداً وأقلها تعباً .
- ... لو بقي الماء في السحاب عالياً ما تحركت الأرض بالحياة .
- ... تتنوع المادة في جنسها ونوعها حسب انتظام ذرات عناصرها .
- ... المجاز يقبل متى علمت الحقيقة وعلم أن الحقيقة غير مرادة .
- ... تفسير النفس بالروح التي نهينا عن الخوض في الحديث عنها هو وراء الإهمال الكبير للدراسات النفسية والاجتماعية ، وعن طريق علم النفس وعلم الاجتماع سيطر اليهود علينا وعلى العالم .
- ... خواطر النفس البشرية محكومة بموازين الشريعة المنقولة والفطرة المعقولة والأعراف المقبولة ، فيؤخذ منها ويرد عليها ويتوقف فيها .
- ... المجتهدون يصيبون ويخطئون ، والذين لا يجتهدون لا يصيبون أبداً .
- ... يقولون من أحصاها دخل الجنة ، ولا يحصون الأسماء من الكتاب والسنة ، وقد أحصيت -والحمد لله- في القرآن مائة وتسعة وستين اسماً .
- ... مات النبي ودرعه مرهونةٌ بدين القوت عند اليهود !.
- ... صفات الله أبدية أزلية والمخلوقات من آثارها ، وصفة الخلق ذاتها غير مخلوقه لكن آثارها مخلوقة ، وقل مثل ذلك في صفة الكلام وخلق الكلمات..
- ... تمنيت أن يسود الأرض أمن وسلام ، فلا أرى باكياً ولا أسمع شاكياً !
- ... البخيل في ماله مسرف في مال غيره .
- ... البراء من الشرق لا يعني الوقوع في ولاء الغرب .
- ... كل وجه يعطي لناظرة قدراً مناسبًا من الإرسال والاستقبال ، فيقع التفاوت والتفاضل .
- ... التاريخ إن لم يتغير بقي واقعاً .
- ... لا تغير النجوم مواقعها بسبب تلبد سمائنا بالغيوم تعكر نفوسنا بالغموم .
- ... في الشرق يلوثون الأرض وفي الغرب يلوثون السماء .
- ... إذا كان الإنسان مجبوراً على الفعل -كما يقول الجبرية- فكل الأفعال عبادات.
- ... كان آدم في جنة الدنيا فأكل من الشجرة المحرمة ولا حرام في جنة الآخرة .
- ... على الرغم من طول الإقامة على الأرض فإن كثيرين من الناس يرحلون عنها قبل معرفتها .
- ... جودي جبل مبارك وشعب عريق ومجلة حكيمة وفتاة كريمة .
- ... الذي يأكل الصبار والسمك يحذر الشوك والحسك .
- ... هذه الخزائن يملؤها الرب وتفرغونها .
- ... الخلق يتطور لا يتكرر .
- ... زاد الداعية علم ومتابعة .
- ... إسلاميون يقولون : لا للديمقراطية ، والمفهوم : نعم للدكتاتورية !
- ... أعظم حريتين في الإسلام الزواج والطلاق .
- ... ما حول الأرض سماوات ، وسماوات الأرض السبع غير سماوات الكون العظيم .
- ... السنة مبينة للقرآن غير مباينة .
- ... السيد الذي يرى نفسه خادماً ، غير الخادم الذي يرى نفسه سيداً .
- ... نصحني أبي أن لا أصاحب الأغنياء ونصحني أحد العارفين أن لا استخدم المشغولين .
- ... قال في مناقشة دكتوراه : الرأي دين ولا إكراه في الدين ، وقال للحكومة الاشتراكية : لا اشتراكية في الإسلام ، وقال للباطنيين : هدمتم الظاهر ، وقال للظاهريين : هدمتم الباطن .
- ... أقمت مع الأحباب لله في أرضه حزباً لمستضعفيه ومجمعاً لمستخلفيه .
- ... قد جمعوا مالاً وعيالاً وجمعت -بإذن الله- ما هو أغلى من المال والعيال جمعت أسماء الله من كتاب الله .
- ... سلام الشرق في إسلام الغرب .
- ... يرى الشيطان -لعنه الله- أن الإنسان غير جدير بخلافة الأرض ولا وراثة السماء.(/15)
- ... الصيام عن الغذاء وليس عن الدواء يا فقهاء .
- ... من نعم الله على عبده تلذذه بالطاعة وتأذيه بالمعصية .
- ... قالوا : الرفيق قبل الطريق قلت : متى عرفتم الطريق وجدتم الرفيق .
- ... إذا كان العالم مدرسة الجاهل فإن الجاهل مدرسة العالم .
- ... مثل الفاروق عمر لعجز ابنه عن ولاية الحكم من بعده بأنه لا يحسن يطلق امرأته!
- ... محمد رسول الله بلا خلاف أفضل البشر ، وفي الملائكة خلاف مشتهر ، وفي الخلق غلو أكبر .
- ... شرب الرسول عسلاً في بيت زوجته فتحدثت الضرائر عن رائحة المغافير .
- ... إذا كان القدرية أخطأوا مرة في حق الآخرة فإن الجبرية أخطأوا مرتين في الدنيا وفي الآخرة .
- ... غلبت قدرتُه علمَه في القدر والقضاء، كما غلبت رحمتُه غضبَه في الحساب والجزاء .
- ... القرآن على عدل معك وعلى فضل فبمقدار ما تأتيه يأتيك ، وبمقدار ما تؤتيه يؤتيك ولديه المزيد .
- ... القرآن كتاب الكون المفتوح للإنسان والجان .
- ... الفرق بين الجبل والوادي اتجاه القمة.
- ... الحضارة التي تعتمد على القوة وحدها تدمر نفسها .
- ... بعضهم يرى القيامة في الاستنساخ أو الانقلاب القطبي وآخرون يرونها في تحريك حصير بباب مسجد صغير بقرية في مجاهل أفريقيا السوداء .
- ... المتكبر لا سلام له ولا سلام عليه .
- ... قال ألم تعلم من أبي ومن أمي ؟ قلت أبوك طين مهين وأمك ضلع أعوج لا يستقيم .
- ... بعض الصغار لا يكبرون وقد يكونون من الصغر بحيث أنهم لا يرَون ولا يرُون .
- ... أسقطوا من العربية أحرفاً مكتوبة كالفتحة والكسرة والضمة فليست أحرف العربية ثمانية وعشرين كما ادعوا ولا يزالون يدعون .
- ... في الغرب بعضهم يقولون : نحن ننشأ منذ الصغر على الخوف من الشعب الكردي .
- ... بارك الخليل إبراهيم جميع الشعوب كما يقول أهل الكتاب ولم يستثن شعبه الكردي كما يقولون .
- ... لا زال الكمبيوتر تحت سيطرة الإنسان .
- ... اللغات من أسرار الشعوب .
- ... المؤتمر العالمي للعلماء عنوانه لنا وتحدث فيه غيرنا .
- ... ليست كل المراكز قوية، فقد تقوى العواصف في الأطراف وتضعف في المراكز .
- ... لا يلتزم الشعراء بقاعدة المعنى قبل المبنى .
- ... المفارِقة تأخذ عندهم نصف الثروة ، والأرملة تأخذ عندنا ربع أو ثمن التركة .
- ... قالت أكثر أهل النار من النساء قلت عدد النساء أكبر من عدد الرجال .
- ... لولا غيرة النساء لحكمن الأرض .
- ... شباب النفس لا يخضع لشيخوخة البدن .
- ... الاكتشافات النفسية قد تكون أعظم من الاكتشافات الفلكية .
- ... لولا النوم لكانت كل الأعضاء إرادية .
- ... كيف تحمل هذه النفس المثقلة كل ذلك الجسد الثقيل ؟
- ... الاتجاه نحو الإعجاز البياني عطل البحث العلمي في القرآن .(/16)
بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَان
( خطبتا الجمعة في مسجد دَبلِن بإيرلندا يوم التاسع عَشَر من شعبان 1423 هـ
الموافق للخامس و العشرين من أُكتوبَر ـ تشرين الأوّل ـ 2002 م )
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم - و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد فيا عباد الله !
أوصيكم و نفسي بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم و بال عصيانه و مخالفة أمره ، و أذكّركم أنّ الله تعالى يصطفي من خلقِه ما يشاء ، و يفيض من بركاته و نعمائه على من يختصُّهم بفضله و كَرَمِه ، من العباد و الأزمان و البلاد .
و نحن اليوم بين يَدَيْ موسمٍ من مواسم الخير و البَرَكة ، اختصّه الله بما شاء من فضله و كَرَمه ، فأنزل فيه أفضَل كُتُبَه ، و تعبّدَنا فيه بالصيام و القيام و الإطعام ، فجَعلَ صيام نهاره فريضةً ، و قيام ليله نافلةً ، و فضّل لياليَه على سائر ليالي السنّة ، و اصطفى من بينها ليلةً ، سلامٌ هي حتى مَطلَعِ الفَجر ، و خيرٌ هي من ألفِ شَهر .
و إنّ غائباً يعود مرّة في العام لأهلٌّ أن يُتهيَّأ لاستقباله ، و يُستعدّ لقدومه ، و بخاصةٍ إذا كان خيره و بركته عمِيمَين ، فطوبى للمشمّرين .
ما فتئ رمضان يعود علينا عاماً بعد عام ، و نحن نخرج منه كما نلقاه ، و قليل منّا من يكون بَعدَه على أحسن ممّا كان عليه قَبْلَه ، أفلَم يأنِ لنا أن نعزم على اغتنام موسم قد لا ندركه فيما نستقبل من أعوام ، و نكفّ عن التسويف و التأجيل و عَدَم المبالاة و قلّة الاهتمام ؟!
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون }.
عباد الله ! إنّها فرصة لا يُفوِّتُها إلا متهاون مغبون ، و لا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم ، أما من أنار الله قلبه ، و نقّى فؤادَه ، فتراه يستعد لرمضان قبل أن يلقاه ، بأمور كثيرة من أهمّها ، أن يُقدّمَ بين يديه صيام شعبان جلّه أوكلّه ، تأسياً بنبيّه صلى الله عليه وسلم الذي دأبَ على ذلك ، حتى قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، و ما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان ، و كان يقول : ( خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ) رواه البخاري .
و ليس المقصود بذلك المواظبة على صيام شعبان كلّه ، و لكن المقصود هو الإكثار من الصيام فيه . قال ابن المبارك كما في سنن الترمذي عنه : جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال : صام الشهر كله ، و يقال : قام فلان ليله أجمَعَ ، و لعله تعشَّى و اشتغل ببعض أمره .
و يؤيد هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن الصدّيقة رضي الله عنها أنّها قالت : ( كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلاً ) .
غير أنّه يُنهى عن تخصيص النصف الثاني من شعبان بالصيام لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، الذي رواه الترمذي و حسّنه ، و الحاكم و صحّحه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ) ، أمّا من صام في أوّل الشهر فلا جناح عليه أن يصوم نصفه الثاني بَعضَه أو كلّه ، و كذلك من كانت له عادة صيام صامها ، كيومي الاثنين و الخميس من كلّ أسبوع ، فيصومهما و لا حَرج .
و لا يجوز للصائم أن يتقدّم رمضان بصيام يومٍ أو يومَين لحديث الصحيحين : ( لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصم ) .
و لهذا النهي حِكَمٌ جليلةٌ منها : الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه ، و منها الفصل بين صيام الفرض و النفل لأن جنس الفصل بين النوافل و الفرائض مشروع ، كما في النهي عن وصل صلاة مفروضة بصلاةِ نافلةٍ حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام ، و منها التقوي على صيام رمضان ، فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض .
و ممّا ينبغي أن يُستقبَل به شهر الصيام و القيام أيضاً ، المبادرة بالتوبة من الذنوب صغيرها و كبيرها ، و الإكثار من الطاعات دُقِّها و جُلِّها ، فهذا زمان التوبة .
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب *** حتى عصى ربه في شهر شعبان(/1)
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما *** فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً *** فإنه شهر تسبيح وقرآن
عباد الله !
كم من أخ نعرفه صام معنا و قام في رمضان الماضي و ما قَبله ، ثمّ صار إلى عالَمِ الدود و اللحود ، بعد أن استلّه هاذم اللذّات من بينِنَا ، و سيأتي الموت على الجميع ، إن عاجلاً و إن آجلاً .
تمر بنا الأيام تترى و إنما *** نساق إلى الآجال و العين تنظر
فليسَ عن لُقيا المنيّةِ صارفٌ *** و ليس من يدري الأوان فيُنذِر
يا نفس فالتمسي النجاة بتوبة *** فبتوبتي نحو النجاة سأُبحِرُ
فهلا اغتنما هذه الفرصة للتزوّد ، فإنّ خير الزاد التقوى ، و هي الغاية الكبرى من مشروعيّة الصيام .
قال تعالى :{ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
فالصائم الصادق الصالح هو الذي يتّّق الله في صومه ، فيصوم جوفه ، و فرجه ، و سائر جوارحه ، صوماً يكفّه عن المعاصي ، و يحجزه عن الحرمات ، فلا يقول إلاّ خيراً ، و لا يسمع إلاّ خيراً ، و لا يفعل إلاّ خيراً ، و يُقلِع عن قول الزور و العمل به ، فمن لم يكن كذلك فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه ، كما صحّ بذلك الخبر عن خير البَشَر فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه .
كيف لا ، و للصيام منزلة رفيعة بين العبادات ، ففي الحديث القدسي الذي رواه الشيخان يقول ربّ البريات : ( كل عمل ابن آدم له , الحسنة بعشر أمثالها إلاّ الصوم فإنه لي و أنا أجزي به ) ، و الحكمة في ذلك أنّ الصوم سرٌ بين العبد و بين ربه ، لا يطلع عليه أحد سواه ، و قيل : ( فإنّه لي ) أي لم يُتعبَّد أحد بمثله إلا أنا ، فالعباد يركعون لبعضهم و يسجدون ، و ينفقون تزلفاً و تملّقاً ، و يقصد بعضهم بعضاً ، إلى غير ذلك مما يصرفه بعضهم لبعضٍ من الأعمال .. أمّا الصوم فلا يُعرَف أنّ أحداً يصوم لأحدٍ غيرِ الله .
و المؤمن الرشيد – يا عباد الله - يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي و المنكرات ، التي تكتظ بها و سائل الإعلام و الإجرام ، و يتزوّد بالتقوى و الإنابة ، قبل تزوده بالطعام و الشراب و الثمار المستطابة .
مضى رجب و ما أحسنت فيه *** و هذا شهر شعبان المباركْ
فيا من ضيَّع الأوقات جهلاً *** بقيمتها أفق و احذر بَوَارَكْ
تدارَك ما استطعت من الليالي *** فخير ذوي الفضائل من تداركْ
و عليكم في رمضان خاصة بكتاب ربّكم خيراً ، فإن القرآن و رمضان شفيعان مشفّعان يوم القيامة ( يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام و الشهوات بالنهار ، و يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان ) كما في المسند .
منع الكتاب بوعده و وعيده *** مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه *** فهماً تذل له الرقاب و تخضع
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل
أقول قولي هذا و استغفر الله الجليل العظيم لي و لكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
الخطبة الثانية
أمّةَ الإسلام !
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله ، و خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، و شر الأمور محدثاتها ، و كل محدثة بدعة ، و عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ، و من شذ شذ في النار .
عباد الله ! إنّ من رحمة الله أن نُدرك شهرَ رمضان في هذه الأعوام في فصل الشتاء ، الذي قال عنه بعض السلَف : الشتاء ربيع المؤمن قَََصُرَ نهارُهُ فصامَه ، و طالَ ليلُه فقامَهُ ، و هذا مصداق لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عامر بن مسعود رضي الله عنهما : ( الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة ) ، و إسناده حسن ، كما في صحيح الجامع .
فاستعينوا بالنعمة على النعمة يا عباد الله .
و لا يفوتني و الحديث عن موسمٍ من مواسم الخير ينبغي لنا اغتنامه ، أن أشير إلى أنّ الأيّام القادمة حُبلى بموسمٍ من مواسم الشرّ ينبغي لنا أن نحذَره و نحذّر منه ، ذلكم هو ما يُعرَف عند أهله بيوم الهَلَوِين ، اليوم الأخير من شهر أكتوبر ( تشرين الأوّل ) كلّ عام .
يومٌ ورثت أوروبا النصرانيّة الاحتفال به عن الوثنيّة الإيرلندية التي كانت تعظّمه قبل الميلاد بزمنٍ طويل ، باعتباره أحد الطقوس الوثنيّة الموغلة في القِدَم ، و تحكي أساطيرُهم قصصاً عن منشأ الاحتفال بهذا اليوم ، أشهرها تلك التي تعتبر اليوم الأول من شهر نوفمبر ( تشرين الثاني ) يوم تتلاقى فيه شهور الحياة و شهور الموت كلّ عام ، فتخرج الأرواح ، و تنتشر الأشباح ، و تروج شعوذات السحرة ، و طلاسم المشعوذين الفجرة .(/2)
و يٌغلِق الناس على أنفسهم الأبواب خوفاً من الأرواح الشرّيرة ليلاً ، و يخرجون في اليوم التالي ذرافاتٍ و وِحداناً في مسيرات تنكّرية هستيريّة ، يلبسون فيها الأقنعة ، و يقرعون الأجراص و الطبول ، و يعزفون الأنغام الصاخبةَ الطاردة للأرواح الشريرة في زعمهم .
أمّا في البيوت ؛ فيعدّون أصنافاً محدّدةً من الأطعمة و الحلوى ، أشهرها ، و يضعون أمام باب كل بيتٍ من بيوتهم قرعةً رطبةً ، أخرجوا لبّها ، و بَقروا قشرها ليصنعوا منها هيكلاً يشبه وجه الإنسان ، فإذا طَرَق بابهُم طارقٌ من الصبيان خَرجوا إليه ببعض ما صنعوه من الحلوى بهذه المناسبة ، إرضاءً له ، و خشية أن يكون روحاً شريرة قادمة من عالم الموتى متنكراً في صورة طفل صغيرٍ ، يلحق بهم الأذى ما لَم يُرضوه .
و في هذه المناسبة الوثنيّة تعطّل دوائر الدولة و المؤسسات العامّة يوماً ، و المدارس و المعاهد أسبوعاً ، لإتاحة الفرصة أمام من يحتفون و يحتفلون بهذه المناسبة .
و لا ريب في أنّ مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات من كبرى المحرّمات ، لما فيها من اللغو و الزور ، و دأب المؤمنين أنّهم ( لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مرّوا كِراماً ) ، و قد روي عن كثيرٍ من السلف قولهم في تفسير قوله تعالى : ( لا يشهدون الزور ) أنّها أعياد المشركين .
و روى أبو داود و النسائي و غيرهما بإسناد على شرط مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ( ما هذان اليومان ؟؟ ) قالوا : كنّا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ، و يوم الفطر ) .
فانظروا رحمكم الله كيف نهى أصحابه عن اللعب في يوم لعبهم في الجاهليّة تأكيداً على تميّز المجتمع المسلم و عدم مشاركة المشركين ، فضلاً عن تقليدهم و متابعتهم في أعيادهم و مناسباتهم .
و إذا كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه منع أهل من إظهار أعيادهم في بلاد المسلمين ، و وافقه على ذلك الصحابة فكان إجماعاً سكوتيّاً منهم على ذلك ، فإنّ قياس الأولى يتّجه إلى تحريم مشاركة المسلم لأهل الذمّة في أعيادهم في ديار الإسلام ، و أشنع منهم و أغلظ في التحريم مشاركتهم في ذلك في دار الكفر أو الحرب .
كما يحسن التحذير ممّا دأب عليه قومٌ لا يعرفون الله إلاّ في رمضان ، حيث يقبلون بشغف على محارم الله فينتهكونها بين يدي هذا الشهر الفضيل ، فيختمون شعبان بالمعاصي التي سيُحال بينهم و بينها بالصيام في رمضان ، و حالهم كما قال قائلهم :
إذا العشرون من شعبان ولت *** فواصل شرب ليلك بالنهار
و لا تشرب بأقداح صغار *** فإن الوقت ضاق عن الصغار
و لهؤلاء و أمثالهم من المقيمين على المعاصي ، و يغفلون عن علاّم الغيوب ، نصيب من قوله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } .
فاتّقوا الله يا عباد الله ، و تزوّدوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه ، و صلّوا و سلّّموا على نبيّه و آله و صحبه و من والاه ، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم ، إذ قال ربّ العالمين : ( إنّ الله و ملائكته يصلُّون على النبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما )
اللهم صلّ و سلّم و بارك على عبدك ، و رسولك محمّد ، و على آله و صحبه أجمعين .
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb(/3)
بُني الإسلام على خمس
( .. بُني الإسلام على خمس ... )
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، و إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ) [ رواه أحمد والشيخان والترمذي والنَّسائي ] ( 1)
إن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا التكاليف الربّانية على الفرد المسلم وعلى الأمة بصورة جليّة في منهاجه الربّاني . كيف لا يبيُّنها وهو الغفور الرحيم ، العزيز الحكيم ، القائل في كتابه المبين :
( الر . كتاب أحكمت آياته ثمَّ فُصّلت من لدن حكيم خبير ) [ هود : 1 ، 2 ]
وبلَّغَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربّه وأدّى الأمانة أدقَّ أداءٍ وأوفاه ، بلسان عربيّ مبين .
كان من بين التكاليف الربانيّة الشهادتان والشعائر من صلاة وزكاة وحجّ وصوم . وجعلها الله أساس التكاليف كلها ، لا تصحّ ولا تقبل دونها ، كما بيّن لنا الحديث الشريف . ولكن هذه لم تكن النقطة الوحيدة التي نفهمها من فقه هذا الحديث الشريف العظيم .
لقد اعتاد كثير من المسلمين اليوم في شتى أنحاء الأرض ، أن يكتفوا بالشعائر ويقفوا عندها ، ثم ينصرفوا بعد ذلك إلى لهو الدنيا ولعبها ، وإلى زخرفها ومتاعها ، وإلى أهوائهم ومصالحهم ، معتقدين أن هذه الشعائر هي غاية التكاليف المفروضة عليهم .
ربما تولَّد هذا التصورّ من بعض فترات التاريخ الإسلامي ، حين كانت الأُمة المسلمة أُمةً واحدةً ، عزيزة الجانب مرهوبة من الأمم ، مستقرَّة الأوضاع . وربما كان ينفر للدعوة إلى الله عدد ، وينفر إلى الجهاد عدد وتبقى الأعداد الكبيرة منصرفة إلى مصالحها ، دون أن يعرّض هذا الانصراف الأمة إلى خطر . وربما تولّد هذا التصوّر من عصور الضعف و الوهن .
ولكن هذه الصورة تختلف عما كان عليه الحال أيام النبوّة الخاتمة ، حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبني دعوة الله في الأرض ، ويبني أمة الإسلام لتكون كلمة الله هي العليا . في هذه المرحلة كان كل مسلم مكلفاً بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس حين فُرض الجهاد . وما كان يُعذَر إلا من كان له عذر شرعيٌّ يقبله الله سبحانه وتعالى . وكان كل مسلم قادراً على القتال ، مستعداً ، مدرّباً عليه ، وكان كل مسلم مكلفاً بتعلُّم القرآن الكريم ومتابعة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليُبلّغ الشاهدُ الغائب . وكان العدد الكبير ينطلق ليبلّغ رسالة الله ويدعو الناس إليها ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة العباد والأوثان والأهواء والمصالح إلى عبادة الله وحده ، حتى كان الجهاد في سبيل الله باباً من أبواب الدعوة والبلاغ .
كانت الأمة المسلمة كلها صفّاً واحداً يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على درب واحد قويم ، وصراط مستقيم ، محدَّد الاتجاه والمعالم والأهداف ، ماضياً إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنّة ورضوان الله والدار الآخرة ـ . كان الجميع يعملون إلا المتخلفين والمنافقين . وكان الجميع ينفقون إلا المتخلفين والمنافقين .
وامتدَّ التاريخ الإِسلامي ، وتبدَّل الواقع ، ولكن دين الله لم يتبدّل . وظل المنهاج الرباني بنوره الممتد يُشرق في قلوب ، وتنصرف عنه قلوب . وأخذ الجهل يظهر ويمتدّ وينتشر بين الناس مع امتداد التاريخ ، إلا أولئك الذين نذروا أنفسهم للعلم والدعوة والتعليم ، ومن تَيسَّرتْ له ظروف العلم حسب إمكانات كل واقع .
ومع مظاهر الاستقرار في الأمة مال الكثيرون إلى دنياهم ، حتى أصبح هذا الميل يولّد مفهوماً خاطئاً لدى قطاع واسع من المسلمين ، مفهوماً لا يقرّه الإسلام ولا يقرّه أئمة الإسلام وعلماؤه المجاهدون ، وكأنه أصبح قضيّة نفسية تهب القناعة والرضى بالعزوف عن بعض التكاليف الربّانية التي وهبهم الله الوسع والقدرة على القيام بها ، كتعلّم القرآن والسنة وتدبرهما ، والدعوة إلى الله ورسوله ، ومتابعة التكاليف الأُخرى ، كلٌّ قدر وسعه الصادق الذي سيحاسِبُه الله عليه ، نفسيّة ترضى بالاكتفاء بالشعائر ثم الركون إِلى الدنيا .
ويذهب هؤلاء إلى البحث عن آيات وأحاديث تسوغ لهم هذا الانقطاع عن التكاليف التي يستطيعون القيام بها ، لا يصدُّهم عنها إلا الدنيا وتجارتها . وربما ظنّ بعضهم أنه يجد ضالته في الحديث الشريف الذي أوردناه أول هذه الكلمة ، فهيئ لهم معنى كلمة ( بُني الإسلام على خمس ) أن هذه الأركان الخمسة هي كل الإسلام ولا تكاليف ربّانيّة بعدها .(/1)
إنّ الحديث الشريف يُشبِّه تكاليف الإسلام كلها بالبناء الذي يقوم على أسسه ، فلا يصلح البناء دون الأسس ، ولا توفّر الأسس وحدها ما يوفره البناء من مأوى وسكن وغير ذلك . وشبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهادتين والشعائر بالأسس التي يقوم عليها البناء كلَّه ، الأُسس التي يقوم عليها الإسلام كله ، والتي تقوم عليها بقيّة التكاليف الربانيّة ، والتي لا تصح التكاليف إلا بها . ولكنها وحدها لا تمثل كامل البناء الذي يقيمه الإسلام ، ولا كمال البناء الذي يقيمه الإسلام ، ولا كامل التكاليف والواجبات والمسؤوليات .
إن هذه التكاليف تمتد على سبيل واحدة ، لا سبل متفرقة . إِنها ( في سبيل الله ) :
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [ يوسف : 80 ]
وحين يتخلى المسلم عن التكاليف الرّبانيّة من تدبّر لكتاب الله ودعوة إلى الله ورسوله وغير ذلك مما فصّله منهاج الله ، ومما هو في حدود وسعه وطاقته . فإنه بذلك يفتح الفرصة لأَعداء الله لينزلوا إلى الميدان بدعواتهم الضالة وجنودهم الكثيرين الذين يعملون ليل نهار لنشر فتنتهم وفسادهم . وكلما تخلّى مسلم قادر عن مسؤولياته فتح المجال لمفسد أن ينزل الميدان ليضلّ ويفسد . فكيف يكون الحال عندما يتخلى ملايين المسلمين عن الميدان ، ومن سيقف عندئذٍ في وجه جنود الشيطان ! وكيف لا ينتشر الفساد في الأرض ، وتمتدُّ الفتنة بعد الفتنة ، والفواجع بعد الفواجع .
إن هذا الحديث الشريف يقدّم لنا فقهاً عظيماً . إنه يضع الأُسس التي لا يصلح العمل دونها ، ويشير إِلى سائر التكاليف التي يجب على المسلمين أن ينهضوا لها ، كلٌّ قَدْرَ وُسْعه وطاقته ، وحدوده ومسئوليته ، والأمانة التي جعلها الله في عنقه .
إن الواقع ، حين يُرَدّ إلى منهاج الله ويُدْرَس من خلاله ، يكشف لنا خطورة هذه المسؤوليات وأهميتها من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه . ويُبرز لنا الواقع عندئذ أهميّة الرجوع إلى منهاج الله وردّ الأمور إليه ، حتى تتبيّن لنا التكاليف من منهاج الله ، ويتبيّن لنا أنها تكاليف ربانيّة .
ونرى من هذا الحديث الشريف كيف يقوم الفقه أولاً على القاعدة الصلبة قاعدة الإيمان والتوحيد ، ثمَّ على الركنين الرئيسين : المنهاج الرباني والواقع الذي يُدْرَس من خلال المنهاج الرباني .
واليوم ، في واقع المسلمين ، أصبح من الضروريّ أن يعرف كلُّ مسلم مسؤوليَّاته وواجباته كما شرعها الله سبحانه وتعالى ، وكما فصَّلها في المنهاج الربَّاني ، لينهض كلُّ مسلم إليها ليوفي بأمانته وعهده مع الله ، ولينصُر دين الله !
ومن هنا ندرك أهمية ربط الفقه بمنهاج الله ، ليكون منهاج الله هو مصدر سائر العوامل التي تساعد على قيام الفقه في الإسلام والتي تُدرَس كلُّها مع ترابطها وتماسكها من خلال منهاج الله .
إن مسؤوليات المسلم والتكاليف الرّبانية الملقاة على عاتقه متناسقة مترابطة كما يعرضها منهاج الله . تنطلق كلها من الإيمان والتوحيد . فقضيّة الإيمان والتوحيد قضية مفاصلة وحسم ، وقضية تكاليف والتزام ، وقضية مسؤولية وحساب . ومنهاج الله يعرض ذلك كله ويُفَصِّله .
ولنستمع إلى قبسات من كتاب الله :
( اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) [ العنكبوت : 45 ]
هذا هو المنطلق إلى ميدان الممارسة والتطبيق : ( اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب ... ) إنه الإيمان والتوحيد والعلم بمنهاج الله .
ثم يأتي أساس كل ممارسة في حياة المسلم . إنه الشعائر التي لا يصحّ عمل إلا أن يكون قائماً عليها . ويكتفي القرآن الكريم بذكر الصلاة في هذه الآية الكريمة وفي غيرها ، وتأتي الزكاة مقترنة معها في بعض الآيات ، ليس إغفالاً لسائر الشعائر ولكن لأن الصلاة أولها ورأسها .
ثم تأتي الإشارة إلى ميدان الممارسة الإيمانية مرتبطة بالإيمان والتوحيد ، وبمنهاج الله ، وبالشعائر : ( إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) .
فهذا المنطلق وهذه الأسس هي التي تضبط الممارسة الإيمانيّة وتوجِّهها ، حتى يظلّ كلُّ عمل يقوم به المسلم مرتبطاً بذكر الله ، مرتبطاً بمنطلقه وأسسه ، وذكر الله هو الذي يجمع الميادين كلها ، وبه يجب أن ترتبط الأعمال كلها ، حتى أصبح ( ذكر الله أكبر ) .
وتتوالى الآيات في كتاب الله لتبيّن لنا امتداد المسؤوليات والتكاليف وترابطها وتناسقها ، لتظل مرتبطة بمنطلقها قائمة على أسسها .
لا بد للمسلم أن يعي هذه الصورة حتى يعلم السبيل إلى نجاته في الدنيا ، إلى نجاته من فتنة الدنيا ونجاته من عذاب الآخرة .(/2)
ويمكن أن نعيد إيجاز التكاليف التي أمر الله بها عباده ليأتوا منها كلٌّ على قدر وسعه وطاقته ، ولتكوِّن حقيقة الأَمانة التي حملها الإنسان ، والعبادة التي خلِق لها ، والخلافة التي جُعلت له ، والعمارة التي أُمر بها : (2)
1ـ أن يفكّر ويتخذ قراره أيؤمن أم يكفر ، وليتحمّل مسؤولية قراره هذا في الدنياوالآخرة.
2ـ فإن آمن أدّى الشهادتين وأقام الشعائر .
3ـ طلب العلم الذي أساسه منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ .
4ـ ممارسة منهاج الله في الواقع ، ومعرفته لحدوده ، ومبادرته الذاتية بحوافز إيمانية ، والاجتهاد في حدود وسعه وعمله ومسؤولياته .
5ـ من أهم أبواب ممارسة منهاج الله في الواقع والتكاليف العامّة الدعوة إلى الله ورسوله إلى الإيمان والتوحيد ، لإخراج الناس من عبادة العباد والأوثان والأهواء إلى عبادة الله وحده . فمن أجل هذا قامت الدعوة الإسلامية .
6ـ المساهمة الجادة في تحقيق الأهداف الربانيّة الثابتة في واقع الإنسان على الأرض .
لابد أن يعي المسلم هذه المسؤوليات الهامّة التي سيحاسب عليها يوم القيامة ، فلا يقعد عنها ، بل ينهض إليها بكلّ ما أوتي من قوة وعزيمة ووسع .
وليُفكِّر المسلم الذي أباح لنفسه أن يترك هذه المسؤوليات ، كيف يكون الحال لو أنّ كلَّ مسلم أباح لنفسه التخلي عن الميدان ، ليجوسه أعداء الله فلا يجدون من يصدّهم عن نشر الكفر والفتنة والفساد ؟
ولْيُفَكِّر المسلم كيف يكون الحال لو تم ذلك ، فلكل مسلم الحقُّ الذي له ، فإن أباح لنفسه التخلّي ، فغيره يمكن أن يبيح لنفسه كذلك .
وإنا لنلمس في واقع المسلمين شيئاً كثيراً من ذلك . الملايين من المسلمين شُلُّوا وتعطلت قدرتهم ، وأخلوا الساحة لأعداء الله تحت أعذار باطلة شتى .
وإذا طال الأمر فسيكونون هم ضحايا العدوان والفتنة والفساد والظلم .
إنها مسؤولية كل مسلم أن ينهض لينهض بناء الإسلام شامخاً عالياً ثابتاً على أسسه المتينة الراسخة ، بنياناً مرصوصاً كما أمر الله سبحانه وتعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 3) ـ ( رقم : 2840 ) .
(2) يراجع كتاب : بناء الأمة المسلمة الواحدة والنظريّة العامة للدعوة الإسلامية ـ الباب الخامس .(/3)
بِنْيةُ التخلّف
د. عبد الكريم بكار 13/11/1426
15/12/2005
ليس على وجه الأرض أمة تستطيع أن تدّعي أن كل ما لديها حسن جميل أو متقدّم متفوّق؛ كما أنه ليس على وجه الأرض أمة يمكن أن تُوصم بأن كل ما لديها سيّئ أو منهار. وهذه الوضعية تعود إلى تعقيد نسيج التقدّم والتخلّف وكثرة العوامل والمظاهر المكونة لكل منهما. نحن في هذا المقال ومقالات أخرى تليه –بحول الله- سنركِّز على هذه المسألة سيراً خلف الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- والذي كان يسأل الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن الشر، على حين كان غيره من الناس يسألونه عن الخير، وكأني به أراد تكميل اللوحة واستكمال المشهد؛ إذ إن الخير المنشود لا تتم المعرفة به من غير معرفة الشر، إذ يُظهر الضدّ حسن الضدّ أو قبحه، وأودّ قبل الخوض في غمار هذا الموضوع أن أوضح عدداً من الأمور المهمة.
1- نحن المسلمين ننظر إلى الأشياء من أفق عقيدتنا وأفق المنهج الرباني الأقوم الذي نؤمن به، ونسعى إلى تكييف حياتنا مع مقولاته ومدلولاته، ومن هنا فإننا قد نرى في بعض الأمور ما لا يراه غيرنا. إن عبادة البقر –مثلاً- تشكل مؤشراً قوياً إلى تخلّف من يقوم بها، ولو كان يترّبع على كرسي رئاسة دولة عظمى أو مركز أبحاث متقدم.
2- إلى جانب ما نجده في معاييرنا من خصوصية، فإن علينا أن نقرر أن ما هو مشترك بين الأمم في تأسيس النظر إلى التخلّف والموقف منه يُعدّ واسعاً وكبيراً، وهذا في الحقيقة يعود إلى ما فطر الله سبحانه عليه العباد من الطموحات والحاجات، وإلى الظروف والتحدّيات المتشابهة، والتي يعيش فيها معظم الناس.
3- من خلال ما هو عام وما هو خاص في تكوين النظرة إلى التخلّف يبرز شيء مهم، هو سلم الأولويات لدى كل أمة. نحن المسلمين ننظر إلى إنعاش التدين والالتزام والسير وفق مراضي الله تعالى على أنه يشكل أولوية الأولويات وغاية كل الإصلاحات التي نُدخلها على نظمنا الحياتية المختلفة، على حين أن كثيراً من أمم الأرض وشعوبها ومفكريها لا يعطون لهذه القضية أي اهتمام؛ إذ يسيطر على الاهتمام دفع عجلة الاقتصاد، ومكافحة الأمراض، وتحسين التعليم، وتحقيق المزيد من الرفاهية.
4- من المهم -ونحن نتحدث عن بنية التخلّف- ألاّ نميّع القضية ونهوّن من خطورة ما نحن فيه بدعوى الخصوصية، مما يدفعنا إلى غضّ الطرف عن المعايير العالمية، وعن تطلعات المسلم للمشاركة في صياغة عصره والعيش في ظلاله.
إن الفساد والتعذيب والاستبداد وأكل الحقوق والكسل والفوضى، والخروج عن القوانين، وتشغيل الأطفال، والتسرب من المدارس، والإعراض عن القراءة، والقسوة في تربية الأبناء، وتفكك الأسرة، وانتشار المخدرات، إلى جانب الفقر والتخلّف التقني.. إن هذه الأمور مكروهة في كل معيار ولدى كل الأمم، ويجب أن نتعاون مع العالم في القضاء عليها. إن التقدم في تقليل هذه الشرور يُعدّ مطلباً عالمياً، وينبغي أن يكون مطلباً لأمة الإسلام، ولا يصح التهاون حيالها لأي سبب من الأسباب.
حين نقول: إن هذا الشعب متخلّف أو هذا النظام غير متقدّم، فعلى أي أساس نبني هذا الحكم؟
نحن المسلمين ننطلق في حكمنا من اعتبارين:
الأول: هو مدى القرب والبعد مما نعتقد ونؤمن أنه وضع صحيح أو خاطئ، أي الخضوع لأدبيات الإسلام وتقريرات الفقهاء.
الثاني: ما نعتقد أنه يساعد المسلم على عيش زمانه بكرامة وكفاءة وفاعلية، وما نعتقد أنه يؤدي إلى الانسجام مع المعايير الدولية المتفق عليها.
ومن هنا فإن معظم مفردات التخلّف تعود إلى نوعين منه:
1- تخلّف عن السويّة التي يتطلبها الالتزام بالمنهج الربّاني الأقوم.
2- تخلّف عن ركب الحضارة المعاصر، ومقتضيات ريادته والتأثير فيه. ومن المهم أن أؤكد على شيء جوهري في هذا الشأن، وهو أن التخلّف الذي نعاني منه يمنعنا من بلورة رؤية جيدة ودقيقة حول الوضعية العامة للمسلمين وحقيقة المعاناة التي يعيشونها على نحو يومي، وهذا يعود إلى أنك حتى تتعرف على الواقع فإنك بحاجة إلى معرفة ومعلومة جيدة. والحقيقة أن العالم الإسلامي يعاني من شح الأرقام التي يستدل بها على فهم ما هو فيه، كما أن الأرقام المتوفرة كثيراً ما تكون غير دقيقة، بسبب عدم نزاهة المصدر، أو بسبب ضعف الإمكانات المطلوبة للقيام بمسوحات إحصائية جيدة!(/1)
هذا يعني أن ما سنقوله عن التخلّف وبنيته ومظاهره سيظل قائماً على الظن والمقاربة. إننا حتى نقلل من التحيّز الناشئ من طبيعة صياغة التعريفات والمصطلحات نحتاج إلى المعارف الكمية، وهذه بعضها متقادم وبعضها مبنيّ على أسس لا تساعد في الكشف عن ظاهرة التخلّف لدى الأمة، ولهذا فإن الحديث عن التخلّف يظل مزعجاً لكثير من الناس، وذلك بسبب ما ينشره من تشاؤم أولاً، وبسبب ضعف قدرته على الحسم ووضع النقاط فوق الحروف أو تحتها ثانياً. لكن مع كل هذا فإن من الثابت أن الحديث عن المرض يسبق دائماً الحديث عن العلاج. وإذا أراد المفكرون والمصلحون إغراء الناس بالحلول التي يقدمونها إليهم فلا بد من جعلهم يستيقنون أن أحوالهم ليست على ما يُرام، وأنهم فعلاً بحاجة إلى ما ينهض بهم، ويحسّن أوضاعهم.
إذا تلقينا الحديث عن المآسي بعواطفنا ومشاعرنا، فإننا سننزعج كما ينزعج المريض حين يسمع من طبيبه عن تشخيص مرض خطير لديه، لكن إذا تلقيناه بعقولنا وما نحمله من تشوّق إلى السعي نحو الأفضل والأحسن، فإن الأمر سيكون مختلفاً؛ إذ سنكون مثل المريض الذي ينتظر بعد سماع الأخبار السيئة ما سيفضي به الطبيب عن إمكانات العلاج والمعاناة.
المحذور في الحديث عن التخلّف هو أن نبالغ في جلد أنفسنا إلى درجة اليأس، ونفض اليد من كل معالجة، والحقيقة أن المعادلة صعبة للغاية؛ إذ إنه لا يمكن الحديث عن التخلّف من غير نقد للذات، ولا يمكن نقد الذات من غير ظن البعض أننا نقوم بجلدها!
ما الحلّ؟
ليس هناك حل حاسم؛ ولكن خلط الحديث عن الدّاء بالحديث عن الدّواء قد يرطّب الأجواء، ويبعث على التفاؤل.(/2)
تأثير الاستثناء في الأيمان [1/2]
د. راشد بن فهد آل حفيظ 5/5/1425
23/06/2004
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الاستثناء من المباحث المهمة، التي لها شأن؛ وذلك لتعلقه بكثرة من أبواب الفقه ومسائله، ولتعلقه كذلك بالعلوم الشرعية الأخرى، كعلم العقيدة، والتفسير، وأصول الفقه وقواعده، لذا فالبحث فيه، والتحقيق ضروري، ونافع لطالب العلم، ومن أجل ذلك أحببت أن أكتب هذا البحث عن مبحث من مباحثه المهمة في الفقه ، وهو : تأثير الاستثناء في باب الأيمان، وقد رتبته في ثلاثة مباحث: كما يلي:
المبحث الأول: تعريف اليمين، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف اليمين في اللغة.
المطلب الثاني: تعريف اليمين في الاصطلاح.
المبحث الثاني:المراد بالاستثناء في باب الأيمان، وتأثيره، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المراد بالاستثناء في باب الأيمان.
المطلب الثاني: تأثير الاستثناء في باب الأيمان، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:تأثير الاستثناء في كل يمين مكفرة.
المسألة الثانية: تأثير الاستثناء في كل ما جرى مجرى اليمين.
المبحث الثالث: شروط تأثير الاستثناء في باب الأيمان، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: قول الاستثناء باللسان، وفيه ثلاثة مسائل.
المسألة الأولى: إسماع النفس بالاستثناء
المسألة الثانية: كتابة الاستثناء، بدون نطق به
المسألة الثالثة: الشك في قول الاستثناء
المسألة الرابعة: الاستثناء بالقلب من مظلوم.
المطلب الثاني:اتصال الاستثناء باليمين.
المطلب الثالث: قصد الاستثناء.
المطلب الرابع: قصد الاستثناء قبل تمام اليمين.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، إنه قريب مجيب.
المبحث الأول
تعريف اليمين وفيه مطلبان
المطلب الأول
تعريف اليمين في اللغة
تطلق اليمين في اللغة على معانٍ، منها:
الأول: القوة، والقدرة(1) ، ومنه قوله – تعالى: "لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ"(2).
الثاني: اليد اليمنى(3)، ومنه قوله تعالى: "فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ"(4).
الثالث: الحلف، والقسم(5) .
الرابع: العهد والميثاق(6)، ومنه قوله تعالى: "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ"(7).
المطلب الثاني
تتعريف اليمين في الاصطلاح
لقد عُرفت اليمن اصطلاحاً بما يلي:
التعريف الأول: "عقد قوي به عز الحالف على الفعل أو الترك"(8).
التعريف الثاني: "تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته"(9).
التعريف الثالث: "تحقيق الأمر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته"(10).
التعريف الرابع: توكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة(11).
وهذا التعريف جامع، مانع.
أما كونه جامعاً؛ فلأمرين:
الأول: شموله لليمين في الماضي، والمستقبل، حيث لم يقيد بزمن، ولا بما يدل عليه، بخلاف التعريف الأول.
الثاني: إطلاق المحلوف به، وفي قولنا: "بذكر معظم"، ليشمل كل عظيم، في نفسه، أو عند الحالف(12)، وبهذا يكون التعريف شاملاً لليمين بالله تعالى واليمين بغيره، بخلاف التعريفيين: الثاني والثالث.
أما كونه مانعاً، فلأن قولنا: "بصيغة مخصوصة" قيد يخرج به أمران:
الأول: ما جرى مجرى اليمين - كالحلف بالطلاق ، والظهار، والحرام، والنذر، والعئاق- لأنه ليس بيمين لفظاً، لتخلف صيغة القسم فيه، وإنما سمى يميناً؛ لوجود معنى اليمين فيه، فهو يمين من جهة المعنى، لا اللفظ(13).
إذاً فقولنا: "بصيغة مخصوصة" يخرج ما جرى مجرى اليمين ، بخلاف التعريف الأول.
الثاني: ما أكد بذكر معظم، لا على وجه القسم، مثال ذلك: إن الله قوي عزيز، سينصر جنده، ويعز أولياءه.
إذاً فقولنا: "بصيغة مخصوصة" يخرج – أيضاً – ما أكد بذكر معظم، لا على وجه القسم، بخلاف التعريفيين الثاني، والثالث.
المبحث الثاني
المراد بالاستثناء في باب الأيمان وتأثيره (وفيه مطلبان)
المطلب الأول
المراد بالاستثناء في باب الأيمان
المراد به: أن يستثني الإنسان في يمينه، قائلاً: إن شاء الله(14).
وذلك إما قبلها، كقوله: إن شاء الله، والله، لأ فعلن كذا وكذا.
وإما بعدها، كقوله: والله، لأ فعلن كذا وكذا، إن شاء الله .
وإما في أثنائها، كقوله: والله، إن شاء الله، لأفعلن كذا وكذا (15).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "الاشتراط بالمشيئة: هو استثناء في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة، والفقهاء، وليس استثناء في الصرف النحوي(16)(17).
المطلب الثاني
تأثير الاستثناء في باب الأيمان
قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه"(18).
وقال – صلى الله عليه وسلم – في قصة سليمان حين أقسم: "لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركاً في حاجته" وقال – صلى الله عليه وسلم – مرة: "لو استثنى"(19).
ففي هذين الحديثين دلالة صريحة على تأثير الاستثناء في باب الأيمان، فلا حنث على من استثنى في يمينه.
وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى: تأثير الاستثناء في كل يمين مكفرة.(/1)
إن تأثير الاستثناء – في هذا الباب – يشمل اليمين بالله – تعالى – بالاتفاق(20)، ، وكل يمين تدخلها الكفارة – كالظهار، والتحريم، والنذر – على الصحيح، وهو المذهب(21)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية(22) رحمه الله-*.
المسألة الثانية: تأثير الاستثناء في كل ما جرى مجرى اليمين.
ويشمل تأثير الاستثناء – في هذا الباب – أيضاً كل ما جرى مجرى اليمين- كالحلف بالطلاق، والظهار، والحرام، والنذر، والعتاق – على الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (23) – رحمه الله – أيضاً.
المبحث الثالث
شروط تأثير الاستثناء في باب الأيمان
وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول
قول الاستثناء باللسان
الشرط الأول: أن يقوله بلسانه، وينطق به.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه" (24).
وقال – صلى الله عليه وسلم - : "لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركاً لحاجته"(25).
والقول إذا أطلق فهو قول اللسان(26)، فإن نواه بقلبه، أو قاله في نفسه، لم يؤثر، وحكي إجماعاً(27).
قال ابن القيم – رحمه الله -: "وهل من شرط الاستثناء أن يتكلم به، أو ينفع إذا كان في قلبه وإن لم يتلفظ به؟ فالمشهور من مذاهب الفقهاء(28)، أنه لا ينفعه حتى يتلفظ به، ونص عليه أحمد فقال رواية ابن منصور: لا يجوز له أن يستثنى في نفسه حتى يتكلم به(29)"(30) .
وقال: "وقد قال الإمام أحمد في رواية حرب: إن كان مظلوماً فاستثنى في نفسه وجرت أنه يجوز إذا خاف على نفسه"(31).
وقال ابن مفلح – رحمه الله : "ويعتبر نطقه – أي بالاستثناء – إلا من مظلوم خائف نص – يعني الإمام أحمد- على ذلك"(32).
ومن المناسب هنا الكلام عن ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إسماع النفس بالاستثناء قال ابن القيم – رحمه الله-:
"وهل يشترط أن يسمع نفسه، أو يكفي تحرك لسانه بالاستثناء، وإن كان بحيث لا يسمعه؟
فاشترط أصحاب أحمد(33)، وغيرهم أنه لابد وأن يكون بحيث يسمعه هو أو غيره، ولا دليل على هذا من لغة ولا عرف، ولا شرع، وليس في المسألة إجماع، قال أصحاب أبي حنيفة – واللفظ لصاحب الذخيرة - : وشرط الاستثناء أن يتكلم بالحروف، سواء كان مسموعاً، أو لم يكن، عند الشيخ أبي الحسن الكرخي(34).
وكان الفقيه أبو جعفر يقول: لابد وأن يسمع نفسه، وبه كان يفتي أبو بكر محمد بن الفضل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول"(35).
لكن قد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بعدم اشتراط إسماع النفس بالاستثناء
فقال -رحمه الله-: "ولا يشترط في الاستثناء والشرط والعطف المغير، والاستثناء بالمشيئة حيث يؤثر ذلك أن يسمع نفسه إذا لفظ به"(36)، وقال ابن القيم – رحمه الله- : " إذا استحلف على شيء، فأحب أن يحلف ولا يحنث فالحيلة أن يحرك لسانه بقوله " إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لابد أن يسمع نفسه، وقال شيخنا : هذا لا دليل عليه،بل متى حرَّك لسانه بذلك كان متكلماً، وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة والقراءة(37)، قلت – القائل ابن القيم- : وكان بعض السلف يطبق شفتيه ويحرك لسانه بلا إله إلا الله ذاكراً، وإن لم يسمع نفسه، فإنه لاحظ للشفتين في هذه الكلمة، بل كلها حلقية لسانية، فيمكن الذاكر أن يحرك لسانه بها ولا يسمع نفسه، ولا أحد من الناس، ولا تراه العين يتكلم،وهكذا المتكلم بقول: إن شاء الله، يمكن مع إطباق الفم(38) فلا يسمعه أحد ولا يراه، وإن أطبق أسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته"(39).
المسألة الثانية: كتابة الاستثناء، بدون نطق به.
إذا كتب الاستثناء، بدون أن ينطق به، نفعه ذلك (40)، لأن الكتابة حروف يفهم منها الاستثناء وغيره، فتقوم مقام قول الكاتب، بدليل أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان مأموراً بتبليغ الرسالة، فبلَّغ بالقول مرة، وبالكتابة أخرى(41).
قال ابن القيم – رحمه الله-.
" الكتابة تدل على المقصود، فهي كاللفظ، ولهذا يقع بها الطلاق (42).
المسألة الثالثة: الشك في قول الاستثناء إذا شك في الاستثناء، فالأصل عدمه، على المذهب(43).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :
الأصل عدمه، إلا ممن عادته الاستثناء " (44).
قال ابن مفلح- رحمه الله-
" وإن شك في الاستثناء، فالأصل عدمه، وقال شيخنا- يعني ابن تيمية- إلا ممن عادته الاستثناء واحتج بالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز، ولم تجلس أقل الحيض، والأصل وجوب العبادة" (45).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :
" الأظهر في قولي العلماء إجراؤه على عادته، وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب" (46).
وما قال ابن القيم: احتجّ به شيخ الإسلام ابن تيمية دليل من الأدلة على ما استقر شرعاً من تقديم العرف والعادة، والظاهر القوي على الأصل (47).
" وأضعاف أضعاف هذه المسائل مما جرى العمل فيه على العرف، والعادة، ونزَّل ذلك منزلة النطق الصريح، اكتفاء بشاهد الحال عن صريح المقال " (48).(/2)
وقال أيضاً: " والمسائل التي يقدَّم فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى" (49).
المسألة الرابعة: الاستثناء بالقلب من مظلوم: قال الإمام أحمد – رحمه الله- : " إذا كان مظلوماً فاستثنى في نفسه رجوت أنه يجوز إذا خاف على نفسه" (50).
هذا وللحديث بقية ستأتي في الحلقة الثانية من البحث - إنشاء الله -.
(1) انظر لسان العرب 13/461 ، والمصباح المنير 2/682.
(2) سورة الحاقة ، الآية رقم (45).
(3) انظر لسان العرب 13/462 .
(4) سورة الصفات، الآية رقم 293.
(5) انظر لسان العرب 13/462.
(6) انظر المصدر السابق 13/311
(7) سورة التوبة، الآية رقم (12)
(8) العنابة شرح الهدابة 5/54
(9) مختصر خليل 1/621
(10) روضة الطالبين 11/3 ، والعزيز شرح الوجيز 12/228
(11) انظر شرح الزركشي 7/64 ، ومنتهى الارادات، وشرحه 3/419 والمطلع ص: 387، وفتح الباري 11/525
(12)انظر شرح الزركشي 7/64 ، وشرح منتهى الإرادات 3/419 .
(13) انظر بداية المجتهد 2/392 – 394، ولمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 47 –48 ، والعقود (نظرية العقد) لشيخ الإسلام كذلك ص: 69-70 ، 88، وزاد الميعاد 5/316 .
(14) انظر بدائع الصنائع 4/40، والكافي لابن عبد البر 1/449، وروضة الطالبين 11/4 ، والمغنى 13/484.
(15) انظر المبسوط 8/158 – 159 ، وبدائع الصنائع 4/345 ، 346 ، وفتح الجليل، وحاشية تسهيل منح الجليل، وحاشية تسهيل منح الجليل 1/629، وروضة الطالبين 11/4 – 5، والعزيز 12/232، والمغنى 13/487، الفروع 6/346 .
(16) وذلك أن الاستثناء في اصطلاح الأصوليين والنحاة: الإخراج بإلا، أو إحدى أخواتها لما كان داخلاً أو منزلاً منزلة الداخل، وقيل هو كلام ذو صيغ محصورة يدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول.
انظر العدة 2/659، المسودة ص: 154 ، وإعلام الموقعين 4/73 ، والقواعد والفوائد الأصولية ص: 325 – 326.
(17) انظر المسودة ص: 154، والقواد والفوائد الأصولية ص: 326 .
(18) أخرجه أحمد في المسند 6/36، برقم (4510)، 6/262 ، برقم (4581) ، والترمذي في أبواب الأيمان ..، باب الاستثناء في اليمين، وسحنه، 5/108 – 109 ، تحفة، وأبو داود، في كتاب الأيمان ..، باب الاستثناء في اليمين 5/63 – 64 ، عون، والنسائي في كتاب الأيمان...، باب الاستثناء في اليمين 7/31 –32 ، سيوطي، والحاكم في كتاب الأيمان .. برقم (7832/33) 4/336، وصححه ووافقه الذهبي، كلهم من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند 6/236، والألباني في الإرواء 8/198 .
(19) أخرجه البخاري ، في كتاب الأيمان ..، باب الاستثناء في الأيمان برقم (6720) 11/610 فتح، ومسلم، في كتاب الأيمان، باب الاستثناء ، برقم (1654) 11/170 نودي، كلاهما من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-
(20) انظر الاجتماع لابن عبد البر ص 306 (مجموع من التمهيد)، ومراتب الإجماع لابن حزم ص:159، وبدائع الصنائع 4/40، وبداية المجتهد 2/399 ، والأم 7/62 ، والعزيز 12/231 ، والمغنى 13/484، وإعلام الموقعين 2/132 ، 4/72 .
(21) انظر المغنى 13/486، والفروع 6/346، وشرح الزركشي 7/112 ، وإعلام الموقعين 4/59 ، 114، والإنصاف 11/25 ، والمنتهى وشرحه 3 .
(22) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/282 – 287 ، 315، 33/190 – 196، وإعلام الموقعين 4/59، 114، والأخبار العلمية ص 383 .
* وقد سألت عالمي زمانهما الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين – رحمهما الله - : هل يؤثر الاستثناء بالمشيئة في نذر الطاعة المحض الذي لم يجر مجرى اليمين ، كوقل: لله عليَّ أن أصوم يوماً إن شاء الله ؟ فأجابا: نعم، يؤثر فيه وإن كان طاعة؛ لأن النذر يمين. أ.هـ.
(23) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 33/190 – 196 ، 232 ، 35/282، 284 ، وإعلام الموقعين 4/58 –59 ، 114 والأخبار العلمية ص:383، وشرح الزركشي 7/112 والإنصاف 9/107 .
(24) تقدم تخريجه هامش (18).
(25) تقدم تخريجه هامش (19).
(26) . وإذا قيد فهو حلى حسب ما قُيِّد به، ومنه قوله تعالى: "ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول" الآية رقم: (8) من سورة المجادلة.
(27) انظر الإجماع لابن عبد البر ص:306، والاستنكار 15/70، ومراتب الإجماع لابن حزم ص:159، والمبسوط 8/143 وأقرب المسالك 2/755، والعزيز 12/231، والمغنى 13/485 –486، والإعلام 4/80.
(28) انظر المبسوط 8/143، والمدونة 2/109، وأقرب المسالك 2/557 ، العزيز 12/231، والمغنى 13/ 485 – 486، والقواعد والفوائد الأصولية ص: 351. .
(29) وقد ذكر بعد ذلك كلاماً قد يفهم منه أنه يميل إلى تأثير الاستثناء بالقلب، وإن لم يتلفظ به انظر الإعلام 4/80-81 . .
(30) إعلام الموقعين 4/80 . .
(31) إعلام الموقعين 4/81.
(32) الفروع 6/346.
(33) انظر الفروع 1/411 ، والإنصاف 2/44 ، والكشاف 1/389، والقواعد والفوائد الأصولية ص: 351.(/3)
(34) انظر المبسوط 8/143 ، وبدائع الصنائع 4/40، 335، 67 ، وفتح القدير 4/120-121، وتنوير الأبصار ، وشرحه الدر المختار ، وحاشية رد المحتار 4/626 – 627 ، والاختيار 3/142 .
(35) إعلام الموقعين 4/81
(36) الأخبار العلمية في الاختبارات الفقهية لشيخ الإٍسلام ابن تيمية ص 372.
(37) قال ابن مفلح في الفروع 1/410 – عن الأقوال الواجبة في الصلاة -: " واختار شيخنا الاكتفاء بالحروف، وإن لم يسمعها، وذكره وجها، (وم)- يعني وفاقاً لمالك وقال بعض الحنفية كقول شيخنا." إ,هـ.
(38) لكن لا بد أن يكون مع ذلك إبانة للحروف، لكي يتحقق التلفظ به، فإذا حرك به لسانه بدون إبانة الحروف لم ينفعه، هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
(39) انظر المغني 10/355، والفروع 5/394، والإنصاف 2/44، وحاشية الشيخ محمد بن عثيمين على الروض 2/847 ، والقواعد والفوائد الأصولية ص 351.
(40) انظر تنوير الأبصار، وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار ( حاشية ابن عابدين) 4/627 ، والمغني 10/503-504، والفروع 5/384-385، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/9، والطرق الحكمية ص 204-213، والكشاف 5/2640,
(41) انظر المغني 10/503-504، والفروع 5/384-385، والكشاف 5/2640
(42) الطرق الحكمية ص 204
(43) انظر الفروع 6/347، والإنصاف 11/27-28، والمنتهى 5/218، والكشاف 6/3185، والقواعد والفوائد ص 351.
(44) انظر الفروع 6/347، والأخبار العلمية ص 382، ومختصر الفتاوى المصرية ص 693، والإنصاف 11/28، والقواعد والفوائد الأصولية ص 351.
(45) الفروع 6/347،
(46) مختصر الفتاوى المصرية ص 693.
(47) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 34/77-82، والأخبار العلمية ص410-411، وإعلام الموقعين 3/352، والطرق الحكمية ص 20،22،24،75 والقواعد والفوائد الأصولية ص 32 .
(48) الطرق الحكمية ص 24
(49) إعلام الموقعين 3/352
(50) الإعلام 4/81، والفروع 6/346، والإنصاف 11/27.
الاستثناء في الأيمان [2/2]
د. راشد بن فهد آل حفيظ 13/5/1425
01/07/2004
كنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية من هذا البحث عن المراد بالأيمان وبالاستثناء وأثر الاستثناء في الأيمان، وعن الشرط الأول من شروط تأثير الاستثناء في الأيمان وهو القول باللسان، وستحدث في هذه الحلقة التي تعتبر الثانية والأخيرة من هذا البحث عن بقية شروط تأثير الاستثناء في الأيمان . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المطلب الثاني
اتصال الاستثناء باليمين
وهذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون الاستثناء متصلاً بيمينه حقيقة، أو حكماً.
فالمتصل حقيقة: المباشر لليمين، بحيث لا يفصل بينهما فاصل.
والمتصل حكماً: ما فصل بينه وبين اليمين بفاصل لا يمكن دفعه، كالسعال ، والعطاس، ونحوهما.
فإن فصل بينهما بفاصل، أو سكوت، لم يصح الاستثناء.
وإليه ذهب جماهير الفقهاء الحنفية (51)، والمالكية (52)، والشافعية (53)، والحنابلة (54).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
قوله – صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله ، فلا حنث عليه"(55).
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث يقتضي أن يكون الاستثناء عقب اليمين مباشرة، وإلا لم يصح (56).
الدليل الثاني:
قوله – صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير "(57).
وجه الاستدلال:
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال : "فليكفر عن يمينه" ولم يقل : فليستثن، مما يدل على عدم صحة الاستثناء منفصلاً عن اليمين، إذ لو صح منفصلاً، لقال : فليستثنِ (58).
وقيل : يصح الاستثناء مع السكوت، أو الفاصل، إذا كان الكلام واحداً.
فإذا فصل بينهما بسكوت غير طويل عرفاً ، أو بكلام متبابع ، قل أو كثر –ولو من الغير- لم يكن ذلك الفصل مؤثراً في صحة الاستثناء ، ما دام الكلام واحداً.
وهذا رواية عن الإمام أحمد(59) –رحمه الله-.
اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (60)، وتلميذه العلامة ابن القيم(61)، والعلامة محمد بن عثيمين(62) –رحمهم الله -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
" والفصل بين المستثنى ، والمستثنى فيه، بكلام الغير، أو بسكوت ، لا يكون فصلاً ، مانعاً من صحة الاستثناء ، والاستثناء ، والشرط، إذا كان بسؤال سائل أثر، وكل هذا يؤيد الرواية الأخرى، وهو أنهما ما داما في الكلام فله أن يلحق به ما يغيره(63)، فيكون اتصال الكلام الواحد كاتصال القبول بالإيجاب"(64).
وقال ابن القيم –رحمه الله -:
" ولو اعتبرنا ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام، والاتصال الشديد، لزالت رخصة الاستثناء، وقلّ من انتفع ، إلا من قد درس على هذا القول وجعله منه على بال"(65).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
قوله – صلى الله عليه وسلم - : "لو قال : إن شاء الله ، يحنث "(66).
وجه الاستدلال :(/4)
أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال ذلك ، مع أن سليمان – عليه السلام- قد سكت بعد يمينه سكوتاً يسيراً، مما يدل على أن السكوت بين اليمين والاستثناء لا يؤثر في اتصالهما، ما دام الكلام واحداً، ولم يطل الفصل عرفاً (67).
الدليل الثاني:
قوله – صلى الله عليه وسلم – عن مكة لما فتحها:
" لا يختلي شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد أهل القتيل".
فجاء رجل من أهل اليمين، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-:" اكتبوا لأبي شاة" فقال رجل من قريش: وهو العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في بيوتنا، وقبورنا، فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "إلا الإذخر" (68).
وجه الاستدلال:
أنه في هذا الحديث قد تأخر الاستثناء ، وفصل بينه وبين المستثنى منه بكلام ، ومع ذلك لم يؤثر في اتصالهما، مما يدل على عدم تأثير ذلك، إذا كان الكلام واحداً (69).
وهذا هو القول الراجح.
ثمرة الخلاف:
إذا حلف على أمر فحنث فيه، فقال – بعد ذلك مباشرة - : إن شاء الله ، فهل ينفعه ذلك؟
فالجواب : أن ذلك محل نظرٍ، لكن لو قيل :إن ذلك ينفعه، إذا تحقق الاتصال كما في القول الثاني، فكان له وجه.
المطلب الثالث
أن يقصد بالاستثناء التعليق
وهذا هو الشرط الثالث:
فإن جرى على لسانه – بدون قصد- أو قصد به التحقيق، أو التبرك، لم ينفعه ولم يؤثر.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء – المالكية (70)، الشافعية (71)، الحنابلة (72).
واستدلوا لذلك بما يلي:
قوله – صلى الله عليه وسلم- : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (73).
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث عام، يقتضي عدم صحة الاستثناء بدون قصد، وأن من قصد به التحقيق، أو التبرك ليس له إلا ما قصده، فلا ينفعه، ولا يؤثر حينئذٍ (74).
وعللوا ذلك بما يلي:
" أن اليمين من أصلها يعتبر فيها القصد، فكذلك يعتر في الاستثناء الواقع فيها"(75).
وقيل: يصح الاستثناء، وينفعه، حتى ولو لم يقصده، أو قصد به التحقيق، أو التبرك.
وإليه ذهب الحنفية(76)، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد(77)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (78).
قال شيخ الإسلام – رحمه الله-
" ولا يعتبر قصد الاستثناء، فلو سبق على لسانه عادة، أو أتى به تبركاً، رفع حكم اليمين " (79).
وقال رحمه الله-
" إنه يكون في الجميع مستثنياً، لعموم المشيئة، ولأن الرجل وإن كانت إرادته للمحلوف به جازمة، فقد علقه بمشيئة الله، فهو يجزم بإرادته له، لا يجزم بحصول مراده، ولا هو أيضاً مريد له بتقدير ألا يكون؛ فإن هذا تميز لا إرادة، فهو إنما التزمه إذا شاء الله، فإذا لم يشأه لم يلتزمه بيمينه، ولا حلف أنه يكون: وإن كانت إرادته له جازمه، فليس كل ما أريد التزم باليمين فلا كفارة عليه(80).
قال المرداوي – رحمه الله-:
" الوجه الثاني: لا يعتبر قصد الاستثناء، وهو ظاهر كلام الخرقي، وصاحب المقنع، وجماعة ... واختاره الشيخ تقي الدين" (81)
"وقال القاضي أبو يعلى – في موضع من كلامه في الاستثناء في اليمين- يتوجه أن يصح من غير نية(82).
واستدلوا لذلك بما يلي :
الدليل الأول:
قوله – صلى الله عليه و سلم- : " من حلف على يمين، وقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه"(83).
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث عام، يشمل كل من حلف، فقال: إن شاء الله، قصد بذلك التعليق أم لا (84).
الدليل الثاني:
قوله – صلى الله عليه وسلم- : " لو قال: إن شاء الله لم يحنث"(85).
وجه الاستدلال:
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- قال : ذلك ، مع أن سليمان لو قالها لقصد بها التبرك – بلا شك- لعزمه على الفعل، مما يدل على تأثير الاستثناء في اليمين، ولو قصد به التبرك.
وعللوا لذلك بما يلي:
أن الاستثناء تبركاً، أو تحقيقاً، لا يمنع التعليق بالمشيئة حقيقة، لأن أكثر الناس يستثنون تبركاً للتقوي على الفعل، مع اعتقادهم أن الأمر بيد الله – عز وجل- ومن ذلك حديث سليمان – عليه السلام – لو قالها، لعزمه على الفعل(86).
ولعل هذا هو القول الراجح – أعني القول الثاني:
وقد سألت الشيخ العلامة محمد بن عثيمين – رحمه الله- إذا جرى الاستثناء بالمشيئة على لسانه من غير قصد بعد اليمين، فهل ينفعه ذلك؟
فقال الشيخ – رحمه الله-: نعم، بناءً على اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أ.هـ.
فقلت: وأنتم – حفظكم الله – ما رأيكم؟
فقال الشيخ – رحمه الله-: الظاهر أنه ينفعه، لعموم حديث : " من حلف فقال: ... الحديث" أ.هـ .
ومن المناسب هنا التنبه إلى أن شيخ الإسلام – رحمه الله-: يفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تعليق الطلاق على المشيئة ( أنت طالق إن شاء الله) فقد اشترط هنا لتأثير الاستثناء أن يقصد به التعليق، فإن قصد به التحقق، أو التوكيد، أو التبرك لم ينفعه ذلك، ووقع طلاقه(87) واختاره أيضاً تلميذه ابن القيم(88) وهو الراجح.(/5)
أما الجمهور – المالكية-(89)، الشافعية(90)، الحنابلة(91)- فذهبوا إلى عدم تأثيره في الطلاق مطلقاً، وإن قصد به التعليق.
وقابلهم في ذلك الحنفية(92) فقالوا بتأثيره الطلاق، واليمن مطلقاً، وإن لم يقصده، أو قصد به التحقق أو التبرك، لأن الاستثناء قد وجد حقيقة والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعاً (93).
ثمرة الخلاف:
إذا طلق زوجته بقوله : أنت طالق، فقيل له: قل إن شاء الله، فقالها تعليقاً ولم يرد بها التحقيق، أو التبرك، فهل ينفعه ذلك؟
الجواب: الظاهر أنه ينفعه ذلك، إذا تحقق الاتصال كما في القول الثاني، الذي اختاره شيخ الإسلام في مسألة الاتصال المعتبر،في المطلب الثاني.
المطلب الرابع
قصد الاستثناء قبل تمام اليمين
وهو الشرط الرابع
فإن حلف وهو غير قاصد للاستثناء، ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى، لم ينفعه ذلك، ولم يؤثر.
وإلى هذا ذهب الشافعية (94)، وهو المشهور من مذهب الحنابلة(95) وعليه أكثرهم (96).
وعللوا لذلك بما يلي:
أنه إذا أتم اليمين، ولم ينو فيها الاستثناء انعقدت، ولزمه موجبها، وبعد لزومه لا يمكن دفعه، ولا تغييره (97).
ونوقش:
" بأنه إنما يلزمه موجب كلامه إذا اقتصر عليه، فأما إذا وصله بالاستثناء، أو الشرط، ولم يقتصر على دونه، فإن موجب كلامه ما دل عليه سياقه، وتمامه من تقييد باستثناء، أو صفة، أو شرط، أو بدل ، أو غاية، فتكليفه نية ذلك التقييد من أول الكلام، وإلغاؤه إن لم ينوه أولاً تكليف مالا يكلفه الله به ولا رسوله، ولا يتوقف صحة الكلام عليه " (98).
وقيل : يصح الاستثناء، ويؤثر، ولو لا لم يقصده إلا بعد تمام اليمين.
وإليه ذهب الحنفية (99)، والمالكية (100)، وكثير من الحنابلة (101)، واختاره موفق الدين ابن قدامة (102) وشيخ الإسلام ابن تيمية (103) وتلميذه العلامة ابن القيم(104) والعلامة المروادي (105) والعلامة الشيخ ابن سعدي (106)، وتلميذه العلامة ابن عثيمين (107)– رحمة الله على الجميع-.
" وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، واختيار أبي محمد – يعني ابن قدامه وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب" (108).
وقال ابن القيم:
" ولا ريب أن هذا أفقه، وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين؛ فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلاً عن النبي – صلى الله عليه وسلم- وحكاية عن أخيه سليمان أنه لو قال: " إن شاء الله" بعد ما حلف وذكر الملك كان نافعاً له، وموافقاً للقياس، ومصالح العباد، ومقتضى الحنفية السمحة، ولو اعتبرنا ما ذكرنا من اشتراط النية في أول الكلام، والاتصال الشديد لزالت رخص الاستثناء، وقلَّ من انتفع بها إلا من درس على هذا القول وجعله منه على بال.."(109) ثم قال – رحمه الله- : " ولم أر عن أحد الأئمة قط اشتراط النية مع الشروع، ولا قبل الفراغ، وإنما هذا من تصرف الأتباع "(110).
واستدلوا لذلك بما يلي:
الدليل الأول:
قوله-صلى الله عليه وسلم- : " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه" (111).
وجه الاستدلال:
إن هذا الحديث عام، يشمل كل من حلف فقال: إن شاء الله، سواء قصد ذلك قبل تمام اليمين أو بعده.
الدليل الثاني:
قوله – صلى الله عليه وسلم- في قصة سليمان: " لو قال: إن شاء الله، لم يحنث" (112).
وجه الاستدلال:
أن الملك قال لسليمان : قل : إن شاء الله، بعد تمام اليمين، مما يدل على أن سليمان لم يقصد الاستثناء، ومع ذلك قال – صلى الله عليه وسلم- : " لو قال: إن شاء الله لم يحنث" مما يدل – دلالة قوية- على عدم اشتراك قصد الاستثناء قبل تمام اليمين.
الدليل الثالث:
قوله – صلى الله عليه وسلم- في خطبته لما فتح قلت: " لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها" فقال العباس : " إلا الإذخر..، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر" (113).
وجه الاستدلال:
إن الرسول – صلى الله عليه وسلم- قد أتم كلامه، ولم يكن يقصد الاستثناء قبل ذلك، فلما قيل له : إلا الإذخر ، قال: إلا الإذخر" مما يدل على صحة الاستثناء وتأثيره، ولو لم يقصده إلا بعد تمام اليمين.
قال ابن القيم:
" إن النبي – صلى الله عليه وسلم- لو كان ناوياً لاستثناء الإذخر من أول كلامه أو قبل تمامه لم يتوقف، استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك " (114).
وعللوا لذلك بما يلي:
" أن لفظ الاستثناء يكون عقيب يمنيه فكذلك نيته" (115).
وبعد كل ما تقدم نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:
أولاً: أن اليمين: توكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة.
ثانياً: أن الاشتراط بالمشيئة استثناء في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم- والصحابة، والفقهاء، وليس استثناء في العرف النحوي.
ثالثاً: أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر في كل يمين مكفرة، وكل ما جرى مجرى اليمين، وذلك بشرطين:
الأول: قول الاستثناء باللسان.
الثاني: اتصال الاستثناء باليمين عرفاً، كما سيأتي سادساً.
رابعاً: أن كتابة لاستثناء كقوله.(/6)
خامساً: أن من شك في قوله للاستثناء فالأصل عدمه، إلا ممن عادته ذلك.
سادساً: أن المعتبر في اتصال المقيَّد، والمخصص، وكل ما يغير الكلام، أن ينسب ذلك إلى أول الكلام عرفاً، وأن المتكلم له أن يلحق بكلامه ما يغيره ما دام الكلام واحداً، ولم يخلطه بغيرة، أو يسكت بعدة سكوتاً طويلاً عرفاً.
وإلى هنا انتهى ما أردناه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(51) انظر المبسوط 80/143، وبدائع الصنائع 4/40، 335 ، والاختيار 3/142 ، 4/54 .
(52) انظر مختصر خليل، وشرحه فتح الجليل 1/630 ، وبداية المجتهد 2/396.
(53) انظر روضة الطالبين 11/4 ، والعزيز 12/232 .
(54) انظر المغني 13/484 ، وشرح الزركشي 7/109 –110 والكشاف 6/3184 ، والقواعد والفوائد الأصولية ص 330 .
(55) تقدم تخريجه هامش (18).
(56) انظر المغني 13/484 .
(57) أخرجه البخاري، في كتاب الأيمان ، برقم : "6622" ، وفي كتاب كفارات الأيمان، برقم : "6721" ، ورقم: "1649" ورقم : "1650" ، 11/156 نووي.
(58) انظر المغني 13/485.
(59) انظر المغني 3/485، وشرح الزركشي 7/110، والنكت لابن مفلح ص 2/437 ، والمسودة ص 152-153، والفروع 6/625، والإعلام 4/78، وزاد المعاد 3/465، والإنصاف 11/26، والمبدع 9/269، ومختصر الفتاوى المصرية ص 692-693 ، والأخيار العلمية ص 371-372-532 ، والقواعد والفوائد الأصولية ص 331-332 .
(60) انظر المسودة ص 153، والفروع 6/625، والنكت لابن مفلح 2/437، ومختصر الفتاوى المصرية ص 693، والإنصاف 9/35، والأخبار العلمية ص 371-532 .
(61) انظر زاد المعاد 3/456، وإعلام الموقعين 4/54، 55، 56، 57، 78، 79.
(62) انظر حاشيته على الروض 2/852، والأصول من علم الأصول ص 46، وتنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام 3/140.
(63) كقيد، أو مخصص: من صفة ( نعت ، بدل ، حال). وشرط ، واستثناء، أو عطف، أو غاية ، ونحو ذلك، انظر المسودة ص 152-153 ، والأخبار العلمية ص 372 ، وإعلام الموقعين 4/57 ، والأصول من علم الأصول ص 45-48 .
(64) الأخبار العلمية ص 371-372-532 .
(65) إعلام الموقعين 4/79 .
(66) تقدم تخريجه هامش (18).
(67) انظر المسودة ص 152-153 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 692-693، وإعلام الموقعين 4/54، 55، 56، 78، 79. وزاد المعاد 3/456.
(68) أخرجه البخاري ، في كتاب العلم، باب كتابة العلم، يرقم : (112)، 01/48، فتح ، ومسلم، في كتاب الحج، باب تحريم مكة -، يرقم : (1355)، 9/182 نووي، كلاهما من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
(69) انظر المسودة ص 152-153 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 692-693، وإعلام الموقعين 4/55-56 والأصول من علم الأصول ص 46.
(70) انظر المدونة 2/109، ومختصر خليل، وشرحه منح الجليل 1/628، 130، والذخيرة 4/2.
(71) انظر روضة الطالبين 11/4، والعزيز 12/231
(72) انظر المغني 3/486، والفروع 6/246-347، والمنتهى، وشرحه 3/425، والقواعد والفوائد الأصولية ص 351،332.
(73) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، برقم"1" 1/15 فتح، ومسلم، في كتاب الإمارة برقم " 1907" ، 13/79 نووي، كلاهما من حديث بن عمر – رضي الله عنه-.
(74) انظر الكشاف 6/3185
(75) انظر العزيز 12/231-232.
(76) انظر تنوير الأبصار، وشرحه، وحاشيته 4/626 – 627، وفتح القدير 4/120-121، والاختيار 3/142.
(77) انظر شرح الزركشي 7/112، والفوائد ص 351.
(78) انظر الفتاوى 7/457، والفروع 6/347.
(79) الأخبار العلمية ص 384.
(80) الفتاوى 7/457
(81) تصحيح الفروع 6/346-347.
(82) القواعد والفوائد الأصولية ص 351،332
(83) تقدم تخريجه هامش (18)
(84) انظر الفروع 6/347.
(85) تقدم تخريجه هامش (19)
(86) انظر إعلام الموقعين 4/60-61، 78-79، والفتاوى 7/457
(87) انظر الفتاوى 33/190-196، 232، 35/282،284 في الإعلام 4/77،والأخبار ص 382-383، والإنصاف 9/105 والقواعد والفوائد ص 334-351.
(88) انظر الإعلام 4/77
(89) انظر المدونة 2/109، والذخيرة 4/2
(90) انظر العزيز 12/231
(91) انظر المغني 13/488، والإنصاف 9/104-105، والإعلام 4/57-61، 78-79، والقواعد ص 344-351
(92) انظر تنوير الأبصار، وشرحه، وحاشيته 4/626-627، وفتح القدير 4/120-121، والاختيار 3/142.
(93) انظر الإعلام 4/61
(94) انظر روضة الطالبين 11/4، والعزيز 12/232.
(95) انظر المغني 13/486، وشرح الزركشي 7/112، والمنتهى 5/218، والكشاف 6/3184
(96) منهم القاضي أبو معلى، وأبو البركات، وقطع به في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير، والنظم، والوجيز، والبلغة، والمنور، وتجريد العناية، غيرهم أ.هـ من تصحيح الفروع 5/414، والاتصاف 11/27.
(97) انظر إعلام الموقعين 4/57، وشرح الزركشي 7/112، والكشاف 6/3184.
(98) إعلام الموقعين 4/57.
(99) انظر تنوير الأبصار، وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار 4/626-627، وفتح القدير 4/140، والاختيار 3/142.
(100) انظر المدونة 2/109-110، وفتح الجليل 1/630(/7)
(101)انظر الفروع وتصحيحه 5/413-414، والإنصاف 11/27.
(102)انظر المغني 13/486
(103) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 33/238، والفروع 5/414، والأخبار العلمية ص 384، والقواعد والفوائد ص 332.
(104) انظر زاد الماد 3/456، وإعلام الموقعين 4/55-57، 79.
(105) انظر تصحيح الفروع 5/414
(106) انظر الفتاوى السعدية ص 368.
(107) انظر حاشيته على الروض 2/852، وتنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام 3/140
(108) الأخبار العلمية ص 383-384
(109) إعلام الموقعين 4/79
(110) المصدر السابق 4/80
(111) تقدم تخريجه هامش (18)
(112) سبق تخريجه هامش (19)
(113) سبق تخريجه هامش (67).
(114) زاد المعاد 3/456
(115) المغني 13/486
مصادر البحث ومراجعه
1-الإجماع: لا بن عبد البر، جمع: قواعد الشلهوب، وعبد الوهاب الشهري، الطبعة الأولى 1418هـ، دار القاسم بالرياض.
2-الأخبار العلمية من الاختيارات العلمية الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لعلاء الدين البعلي، الطبعة الأولى 1418هـ، دار العاصمة بالرياض.
3-الاختيار لتعليل المختار، للموصلي، الطبعة الثانية 1370هـ، المكتبة الإسلامية باستانبول.
4-إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للمحدث الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1405هـ، المكتب الإسلامي ، بيروت.
5-الاستذكار، لابن عبدالبر، دار قتيبة بدمشق، وبيروت ودار الوعي بحلب، والقاهرة.
6-الأصول من علم الأصول، للعلامة فقيه عصره الشيخ محمد بن العثيمين، الطبعة الرابعة 1408هـ، دار عالم الكتب بالرياض.
7-إعلام الموقعين عن رب العالمين، للعلامة ابن القيم،دار الجيل ببيروت.
8-أقرب المسالك إلى مذهب مالك، للدردير، مطبعة عيسى اليابي الحلبي وشركاه.
9-الأم، للإمام الشافعي، الطبعة الثانية 1393هـ، دار المعرفة ببيروت.
10-الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للعلامة المرداوي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي ببيروت.
11-بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، الطبعة الأولى 1418هـ، دار الكتب العلمية ببيروت.
12-بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الحفيد، الطبعة الأولى، مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.
13-تصحيح الفروع للعلامة المرداوي، الطبعة الرابعة 1404هـ عالم الكت ببيروت.
14-تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام، للشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين، الطبعة السابعة 1417هـ، مطابع جامعة الإمام بالرياض.
15-تنوير الأبصار وجامع البحار، للتمرتاش، الطبعة الأولى 1415هـ دار الكتب العلمية ببيروت.
16-الجامع الصحيح للترمذي، المطبوع مع شرحه التحفة، الطبعة الأولى 1410هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
17- حاشية ابن عابدين (رد المحتار)، الطبعة الأولى 1415هـ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
18-حاشية الفقيه العلامة الشيخ ابن عثيمين على الروض المريع، الطبعة الثانية 1418هـ، دار المؤيد بالرياض.
19-حاشية فتح الجليل، المسماة تسهيل منح الجليل، لمحمد عليش مكتبة النجاح، طرابلس.
20-الدر المختار شرح تقرير الأبصار، للحصكفي، الطبعة الأولى 1415هـ،دار الكتب العلمية، بيروت.
21-الذخيرة للقرافي، الطبعة الأولى 1994، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
22-روضة الطالبين وعمدة المغنين، للنووي، المكتب الإسلامي بيروت 395هـ.
23-زاد المعاد في هدي خير العباد، للعلامة ابن القيم، الطبعة السادسة عشر 1408هـ، مؤسسة الرسالة ، بيروت.
24- سند أبي داود، المطبوع مع شرحه عون المعيود، الطبعة الأولى 1410هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
25- سنق النسائي، المطبوع مع شرحه للسيوطي، الطبعة الثانية 1412هـ، دار المعرفة ، بيروت.
26- شرح الزركشي على مختصر الخرقي، الطبعة الثانية 1414هـ، دار المعرفة، بيروت.
27- شرح منتهى الإرادات، المسمى دقائق أولى النهي لشرح المنتهى، للبهوتي، دار الفكر.
28-صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، الطبعة الأولى 1407هـ، دار الريان للتراث ، القاهرة.
29- صحيح مسلم، المطبوع مع شرح النووي عليه، الطبعة الأولى 1412هـ، مؤسسة قرطبة.
30-الطرق الحكمية في السياسية الشرعية، للعلامة ابن القيم، دار الوطن، الرياض.
31-العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى، الطبعة الثانية 1410هـ مطبعة المدني، القاهرة.
32-العزيز شرح الوجيز (الشرح الكبير)، للرافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.
33-العقود ( نظرية العقد) لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار السلفية المحمدية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
34-العناية في شرح الهداية، للبايرتي، الطبعة الأولى 1415هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
35-الفتاوى السعدية، للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، 1411هـ مركز صالح بن صالح الثقافي، بعنيزة.
36-فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، الطبعة الأولى 1407هـ، دار الريان للتراث، القاهرة.
37-فتح القدير لابن الحمام، الطبعة الأولى 1415هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.(/8)
38-الفروع، للعلامة الفقيه ابن مفلح، الطبعة الرابعة 1404هـ، عالم الكتب، بيروت.
39-الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الثالثة 1406هـ.
40-كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، الطبعة الأولى 1417هـ،دار الباز، الرياض، مكة.
41-لسان العرب، لابن منظور، الطبعة الثالثة 1414هـ، دار الفكر.
42- لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، لشيخ الإسلام ابن تيمية 1414هـ ، دار الراية، الرياض.
43- المبدع، لإبراهيم بن مفلح، الطبعة الأولى 1399 المكتب الإسلامي .
44-المبسوط، للرخصي، الطبعة الأولى 1414هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
45- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع الشيخ عبدالرحمنبن قاسم، دار عالم الكتب، الراض 1412هـ.
46- مختصر خليل ، مكتبة النجاح، طرابلس.
47- مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصره بدر الدين البعلي،دار التقوى.
48- المدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.
49- مراتب الإجماع، لابن حزم، مطبوع مع محاسن الإسلام، الطبعة الثالثة، 1406هـ.
50- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، الطبعة الأولى 1411هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
51- مسند الإمام أحمد، دار المعارف بمصر 1392هـ.
52- المسودة في أصول الفقه، جمع شهاب الدين الحنبلي، دار الكتاب العربي، بيروت.
53- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي الطبعة الأولى 1414هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
54- المطلع على أبواب المقنع، لشمس الدين البعلي، المكتب الإسلامي 1412هـ.
55- المغني، لموفق الدين ابن قدامة، الطبعة الثالثة 1413هـ، دار هجر ، مصر.
56- منتهى الإرادات، لابن النجار الفتوحي، دار الفكر.
57- منح الجليل على مختص خليل، لمحمد عليش، مكتبة النجاح، طرابلس .
استدراك
58-القواع والفوائد الأصولية، لابن اللحام، المكتبة العصرية، بيروت
59- النكت والفوائد السنية، لابن مفلح، مكتبة المعارف، الرياض(/9)
تأثير الاستعمار في الأدب العربي المغربي
بقلم : الدكتور/ جمال الدين الفاروقي(*)
المقدمة :
إنّ أكبر حدثٍ شهده العالم منذ القرن السابع عشر هو قضيّة الاستعمار؛ حيث بدأت القوات والدول الأوروبية تسيطر على الدول الضعيفة في القارة الآسيوية والإفريقية عن طريق الاستعمار والاستيطان الذي يهدف إلى مَحْوِ شخصية وهويّة الشعب الأصلي في دولة . وفي الحقيقة لم يكن الاستعمار إلا بقيّة من بقايا عناصر الحروب الصليبية التي شنَّتْ هجمات شعواء ضدّ المسلمين ببلاد الشرف ، والتي وضعتْ أوزارها عام 1291. وكانت الهزيمة التي لحِقَتْهم في تلك الحروب جَعلَتْهم يفكّرون بِكُلِّ جِدِّيَّةٍ في تنفيذ خُطةٍ أخرى ذات الأثر البالغ في تَهْمِيشِ المسلمين العرب ، يدلُّ عليه ما قاله الملك لُويس التاسع ، قائد الحروب الصليبية : Mإن قُواتنا وأسلحتنا لاتُفيد شيئًا في هجومنا على المسلمين، وأقلُّ ما يجب علينا هو أن نردّهم القَهْقَرَى من عقيدتهم التي هي كلُّ قُوتِهم ومَصْدَرُ ثِقَتِهِمْL ولم يكن عام 1291 خِتامًا لتلك الحروب ، بل بَقِي لديهم الكَثِيرُ والمُثِيرُ في جُعْبَتِهم؛ ولكن المجتمع الإسلامي لم يَفْطَنْ إليهم إلا في عام 1917؛ حيث هاجم القائد الإنجليزي (Lamby) بقواته على القدس، وصاح قائلاً : الآن اِنْتَهَتْ الحرُوبُ الصَّليبيّة .
وما احتلال MنابليونL إلا مرحلةُ نُضوج الاستعمار، تَمَّ فيها حَصَادُ ما بذروا من قبلُ. وبالتالي قَسَّمُوا البلاد الشرقية بين بريطانيا وفرنسا، وذلك بِمُوجَبِ مَيثَاق (سَاكْسْ بَاكُو)؛ حيث صارت مصر والسودان والعراق وفلسطين وإيران ونيجيريا في قبضة بريطانيا ، كما سَيْطَر الفرنسُ على سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا والسينغال وإفريقيا الشمالية. وصارت هذه البلاد تَرْزَخُ في بَرَاثِنِ الاستعمار الغاشم ، اِسْتَغَلَّ رجالُهم فَقْرَ أهل الشرق وجهلَهم وضَعْفَ الوعي السياسي لديهم ليَتَخِذُوا من ذلك مَدْخَلاً للقيام بعمليّة الغَزْو الفكري والثقافي الذي هو أدْهَى وأَمَرُّ من القنابل النَوويّة .
وأهدافُ الاستعمار في العصر الحاضر لاتختلف كثيرًا عن أهدافهم في الماضي الغَابِرِ. وهُمْ لا يأتون لعملٍ خيريٍّ ؛ بل لهم أعمال من دون ذلك هُمْ لها عاملون . هذا ما فعله MنابليونL يَوْمَ دخل مِصْر، وما كان فعله – ولايزال يفعله – بُوشْ يوم هَدَم العِرَاق .
وقد نجح الاستعمار إلى حد كبير في تحريف مفهوم المُصْطَلَحات الأدبيّة . وعلى سبيل المثال: الحَدَاثَةُ التي طالما نسمع في المجال الأدبي والتي يَنْشُدها الكتاب والشعراء لِتَجِدَ أعمالُهم الأدبيةُ المزيدَ مِن القبول والرواج . والحداثَةُ في الحقيقة ليست إلاّ النظر إلى تجارب الحياة برؤية إِبْدَاعيّه هادفة مُسْتَقِلّة ، بهدف تطوّر الفكر وغرس النزعات الفعّالة لبناء القِيَم والسلوك ؛ ولكن المفهوم الاستعماري الغَرْبي للحداثة يَنْطلِقُ أصْلاً من القطيعة من الماضي وتُراثه العتيق العريق ، زعمًا منهم أنه أساطير وخُرفات كما يرونها ثَوْرةً على القِيَم وإشاعةً لروح التفسخ والخلاعة .
كما أغاروا باسم الحداثة على اللغة العربية بذاتها. وهي – كما نعلم – اللغة الوحيدة التي احتفظت بتراث أربعة عشر قرنًا ، بدون أن يصيب أصالتها وهويّتها شيء . إلا أن مذهبًا في نهاية القرن الثامن عشر قام بدعوة إلى نشر اللغة العربية العامّية. وأول من تولّى كبرها (William Spita) صاحب كتاب Mقواعد العربية العاميّة في مصرL كما طعن السيد William Cocks في كيان اللغة العربية قائلاً: إن سبب تقهقر المصريين هو عدم قدرتهم للتعبير الأفصح. وقد عرف منهم العالم العربي مخبوء ضميرهم ؛ حيث قال قائلهم: Mالفصحى لغةُ أجيالٍ مضى عهدُهاL . وغرضهم الأثيم من وراء الستار واضح : هو إيجاد الفرصة للتدخل في لغة القرآن والحطّ من شأنها وتحويلها إلى مستوى العامية حتى يبدأ الناس يتشككون في صحة لغته .
وبفضل الوعي الاجتماعي الذي ساد أهلَ الشرق في أوائل القرن الماضي وبمقاومتهم المستمرة، أستقلت تلك البلاد من قبضتهم ، إلا أن فلول تلك القوات نجحوا تمامًا في تنفيذ خطتهم الاقتصادية بين قاطني الشرق ؛ حيث نرى أسواق الدول العربية مائجة بالمنتجات الغربية ، وما من مؤسسة تجارية في الغرب إلا وهي تغزو بمنتجاتها أسواقَ الدول العربية سعيًا وراء الاستقرار الاقتصادي بجلب العملات الأجنبية .
الاستعمار في المغرب العربي :(/1)
أما بالنسبة إلى المغرب العربي فإنّ كل مناطقه قد تعرضت لأعمال العنف الاستعماري في فترات متقاربة ؛ حيث احتل الفرنس الجزائر عام 1830، وولتها تونس ، وأوغلوا فيها عام 1881، كما قاموا باستيطان المغرب عام 1912، ويختلف الاستعمار الفرنسي في هذه المناطق من نظيره في مصر من حيث طبيعته والوسائل التي تذرّع بها . وفي مصر كان دخولهم بمثابة ومضات النهضة العلمية التي هبت البلاد على ضوئها . وقد حمل MنابليونL ومن معه على مناكبهم أعباء تلك النهضة، في حين نرى الفرنس كانوا يختطفون بمخالبهم هوية وثقافة المغرب العربي بصفة عامة وهوية اللغة العربية بصفة خاصة . يد لنا على ذلك قول الوزير الفرنسي صالفندي (Salvandy) وهو يخاطب الأطباء العسكريين عام 1846 حيث قال فيه :
Mمما لاشك فيه أن الحكومة الفرنسية تعترف لكم بجميل إخلاصكم في معاملتكم للجنود ، غير أن لكم مهمة أخرى أكثر أهمية . أنتم مدعووّن إلى القيام بها . وهي مؤازرتكم بقسط كبير في العمل على إدخال حضارتنا في بيئة القبائل العربية والبربريةL.
وامتدادًا لهذه الخطه المسمومة عمدوا إلى محاربة اللغة العربية عن طريق القضاء على مراكز الثقافة العربية وإبعاد المواطنين عن التعليم فيها ونهب التراث العربي الموجود في مكتبات المغرب حتى عشّش الجهلُ بين أبنائها وكاد يتم استئصال الهيكل الفكري والثقافي للشعب المغربي ، كما نتج عن ذلك أن صارت المغرب في عزلة عما يحدث في المناطق الشرقية.
ومن الجدير بالذكر أن الأمة العربية تتميز عن غيرهم من الأمم من حيث التواصل والترابط فيما بينهم . لأن الشعوب العالمية الأخرى إنما يتم الأندماج والالتئام بينهم بوجه من الوجوه : إما بآدابهم أو بلغاتهم أو بتقاليدهم أو بديانتهم أو بقوانينهم العرفية ، ولكن الأمة العربية التأمت وتوحّدت في جميع هذه الميادين . وتجريدهم من هذه الثقافة المتجذرة هو الأول والأهم في جدول أعمال الاستعمار. وليس شيء أقسى على الشعب من أن يجدوا أنفسهم بلا هويةٍ ولا كيانٍ .
ولقد نهضت المغرب الأقصى لنجدة شقيقتها الجزائر لما وقعت في شبكة الاستعمار، مما جعل رجالَهم يحقدون على المغرب ويسومونها أسوأ العذاب . وفي سنة 1844 نشبت الحرب بينهم وبين القوات المغربية وأمكنتهم الفرصة لترسيخ أقدامهم في أرضها . ومن جِهَةٍ أخرى أعلنت إسبانيا حربًا على المغرب ، زعمًا منها أنها اعتدت على بعض أراضيها، وفي سنة 1860 أخذوا منها حديقة (تطوان) وهذه الحادثة مهّدت لهم الطريقَ ليثبتوا هيمنتهم السياسية على المغرب من جديد . وزادت هذه الهيمنة بصورة أكثر استقرارًا عقب توقيع الاتفاقية الذي تمّ عام (1912) والذي بموجبها دخل المغرب قهرًا وكرهًا في حماية فرنسا.
ولكن سرعان ما فَطِنَ أهلُ المغرب إلى الأخطار المحدقة بهم ، ونهض منهم جماعة ، ممن تأثّروا بالحركة الإصلاحية التي تَبَلْوَرَتْ في دعوتهم إلى مبادئ الوطنية الحرة وضرورة الاصطفاف للحصول عليها . وكان زمام هذه المبادرة في يد الشيخ أبي شعيب الدكالي المتوفى سنة 1356. وقد أدركوا أن الاستعمار يعملون لإرضاء أصحاب الطرق الصوفية المشوّهة ويساندونهم ليأمنوا به شرَّ العامة . وقد كان لدعوته وقعٌ طيب في نفوس المواطنين ، واهتزّ لها العامة والخاصة ، ولم ينطووا على أنفسهم متشائمين ، بل حملوا بأنفسهم أعباءَ النهضة بكل تفاؤل وثقة علمًا منهم أن مافي الغرب من حضارة وثقافة إنما أساسه العلم والتفاني فيه . وأن سلطة العلم هي أقوى من سلطة المال والسياسة. وأصبحت المكائد والمحن الاستعمارية بمثابة موقظٍ لهم من سباتهم . ويتمثل روح هذه النهضة في البعثات التي أُرْسِلَتْ إلى جامعة أوروبّا وبلاد الشرق واهتمام المواطنين بانشاء المدارس العصرية وتزويد أبنائهم بالعلوم والثقافة التي ألحقتهم بركب الحضارة الحديقة . ولكن سلطات الحماية الفرنسية وقفت عائقًا لهذه الانطلاقة ؛ إذ كانوا يقعدون لهم كلّ مرصدٍ ، ويحسبون كل صيحةٍ عليهم. ولم يسمحوا لهم بتقرير ومصيرهم الذاتي .
وقد ساعدت على هذه النهضة وجعلتها قوية تلك الرياح التي هبّت عليها من مصر؛ حيث بلغت النهضة أوجَ قمتها بفضل الجامعات والمدارس والصحافة والمجامع العربية . إلا أنّ بقاء المغرب لفترة طويلة على الجمود الثقافي من جراء الحماية الفرنسية جعل للُّغة العربية تيارين : تيار اللغة الإداريّة التي كان يتناولها الخاصة واللغة المحلية الدارجة التي نطق بها العامة . والتي لاكيانَ لها في القراءة والكتابة .(/2)
وإذا تأملنا من هذا المنطلقَ نرى أنّ الاستعمار كان يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات ؛ حيث كان حافزًا إلى حدٍّ كبيرٍ لتغيير مجرى حياة الشعب المغربي تمثلت هذه الايجابيات في نهضة الأدب العربي: اذ تطوّر الأدب وتقدم حتى وسع حقولاً جديدة وأغراضًا متنوعة ؛ وأما السلبيات فإنها تمثلت في الفتور الذي كان يسود الشعب المغربي والذي كان يستثمره المستعمرون لمصالحهم الذاتية. وبالنسبة إلى الأدب المغربي فإنّه قد تأثّر بكل ما حدث في إطار الاستعمار، ليس بما حدث في أرضه فحسب ، بل كان هذا التأثر أوسع وأشمل لجميع المناطق الشرقية التي وقعت في هوة الاستعمار واحدة تلو أخرى . فمن الطبيعي إذًا أن تكون آلامهم وأحلامهم متماثلة متقاربة . فليس الأدب إلا انعكاسات تجارب الحياة ، وكلما تكون معاناة ومضايقات تكون انعكاساتها أرهف وأحدّ . وتتجسد هذه المضايقات في أعمال العنف والتفرقة العنصرية التي كان يمارسها الغرب والتي ترددت أصداؤها في كل أرجاء الحياة المغربية . وصارت قرائح الشعراء بمثابة أبواقٍ تتلقى تلك الأصداءَ . ومن هذا القبيل قول الوزير محمد بن إدريس وكان يدفع المواطنين إلى الجهاد :
يَا أَهْلَ مَغْرِبِنَا حَقَّ النَّفِيرُ لَكُمْ إِلَى الجِهَادِ فَمَا فِي الْحَقِّ مِنْ غَلَط
فَالشِّرْكُ مِنْ جَنْبَاتِ الشَّرْقِ جَاوَرَكُمْ مِنْ بَعْدِ مَا سَامَ أَهْل الدِّيْنِ بِالشَّطَط
فَلاَ يَغُرنَّكُمْ مِنْ لِيْنِ جَانِبِه مَا عَادَ قَبْلُ عَلَى الإِسْلاَمِ بِالسَّخَط
مَنْ جَاوَرَ الشَرَّ لاَيَعْدَمُ بَوَائِقَه كَيْفَ الْحَيَاةُ مَعَ الْحَيَّاتِ في سَقَط
وتعكس هذه الأبيات مدى تأثره بما قد جرى حوله من وحشيات الاستعمار كما قام برثائه على MتلمسانL حينما سقط في أيدي الفرنس . وهو أقرب في تعبيره وأسلوبه فيه إلى رثاء الأندلس للشاعر / الرندى ؛ حيث يقول فيه:
مَصَائِبُ صُبَّتْ عَلَى مَعْشَرٍ يَبْكِيْ مِنَ الإِشْفَاقِ مِنْهَا الْجَمَادْ
يَكَادُ يَقْضِيْ الْمَرْءُ مِنْ مُرّهَا عَلَى حَشَاهُ وَتَذُوْبُ الطِّلاَدْ
إِخْوَانُكُمْ دِيْنًا وَجِيْرَانُكُمْ أَضْحَوْا رَعَايَا الشِّرْكِ بَيْنَ أَعَادْ
وحينما اصطاد الفرنس مدينةَ MتَطْوَانL قام الشاعر / أفيلال برثائه المؤثر وقال:
يَا دَهْرَ قُلْ لِيْ عَلاَمَهْ كَسَرْتَ جَمْعَ السَّلاَمَهْ
نَصَبْتَه لِلدَّوَاهِيْ وَلَمْ نَخَفْ مِنْ مَلاَمَهْ
مَالدِّيْنُ يَبْكِيْ بِدَمْعٍ يَحْكِيْهِ صَوْبُ الْغَمَامَهْ
عَلَى مَساجِدَ أَضْحَتْ تُبَاعُ فيها المُدَامَهْ
ونرى روح التحمس والتفاني لأجل الحربة في شعر الشاعر محمد المشرفى والشاعر طاهر الايغراني، وذلك حينما استدت إِرهاصات المستعمرين في عهد الحماية، كما أن أدباء المغرب وُفِّقُوا للتوجيه بأعمالهم الأدبية إلى إصلاح شؤون المجتمع وقيادتهم إلى طريق العلم والصحوة مستلهمين عناصرها من ثقافتهم المصهرة بالثقافة الفرنسية . يدل على ذلك الأعمال النثرية التي قام بها الأدباء من أمثال محمد السليماني ومحمد الأوراوي وعبد القادر الوزاني .
وقد سار المغرب في نهضته الأدبية على قبسٍ من نور الإيمان والثقة بأنفسهم ونزعة الانتقام من المستعمرين. وهاهو ذا الشاعر/محمد السليماني يقول:
حُمَاتَ الدِّيْنِ هُبُّوْا مِنْ سُبَاتِ فَمَرَكَزُنَا يَؤُوْلُ إِلَى الَخَرَاب
إلى أن قال:
بَنِي الْعِلْمِ الرُّعَاةُ أَلاَ أَفِيْقُوا فَإِنَّ الشَّاةَ في وَسَطِ الذِّئَاب
وتُجِسِّدُ قصيدتُه هذه، الأهوالَ والمخاطرَ التي حدثت عَقِبَ الاستعمار الفرنسي. وفي فجر النهضة كان الشعراء يجندون أقلامَهم يشحذون قرائحهم لتجسيم الخطر الاستعماري والتنبيه إلى ضرورة التحرك ضدّهم ، وموقفهم هذا يجعل أعمالهم الإبداعية من الأدب الملتزم. وأبياتُ الشاعر/ محمد بن عبد الصمد كنون من هذا القبيل: وهو يقول:
أَفِيْقُوا مِنْ سُبَاتٍ طَالَ جِدَّا وصُونوا واحْفَظُوا لِلْمَجْدِ عَهْدَا
كَفَاكُمْ مَا أَحَاطَ بِكُمْ كَفَاكُمْ فَرُكْنُ فَخَارِكُمْ وَ اللهِ هُدًّا
نَرَى أُمَمَ التَمدُّنِ فِي ارْتقَاءٍ وَنَحْنُ كَأَنَّنَا نخُطُّ عَمَدًا
وكانت الأحداث التي اختنق منها المغرب بمثابة وابل أصاب ضمائر شعرائه ، فتفجرت منها خيالاتُهم مما وجد أهله ضالّتهم المنشودة من قوة وتحمسٍ لمواجهة الاستعمار، ولما انتصر الترك على الرومان كان ذلك تهديدًا للفرنس وفي هذا المضمار يقول محمد المجزولي :
ضَرَاغِمَةَ الإِسْلاَمِ أَرْعَبْتُمُ الْعِدَا وَأَسْقَطْتُمْ شَيْخًا وَرَاهُمْ تَرَصُّدَا
رَأَىَ الاَسَدُ الضَّارِي الَّذِيْ كاَنَ رَابِضًا تَجَمَّعَ ثُمَّ امْتَدَ وَانْحَطَّ مُزْبِدَا
ظَنَنْتُمْ بِأَنَّ الْحَرْبَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَنُزْهَةُ جَيْشٍ جَاءَهَا مُتَصَيِّدَا
وَمَا الْحَرْبُ إِلاَّ مَا رَأَيْتُمْ وذُقْتُم وَمَا ذُقْتُمُوْهُ الْيَوْمَ تَلْقَوْنَه غَدَا(/3)
وقد ترك الاستعمار أثرًا بعيد المدى في مشاعر شعراء المغرب وأضرم فيهم التحمس والثبات وروح التضحية ونراهم دائمًا يقومون بتوعية المواطن بهذه الصفات كما يلمح ذلك في أقوال أبي بكر بناني:
يَا بَنِي الْمَغْرِبِ هَيَّا لِلْقِتَالِ وَاسْتَعِدُّوْا لِلْوَغَى قَبْلَ النِّزَالِ
يَا بَنِي الْمَغْرِبِ هُبُّوا هَبَّةً وَاضْرِبُوْا وَجْهَ فَرنْسَا ضَرْبَةً
فقد كان المواطنون المغربيون الغيورون يردّدون هذه السطورَ في جولاتهم وصولاتهم ، وكأنهم رأوها بمثابة نشيد وطنهم ، ونراهم ينهضون للقتال ضد الاستعمار حتى انقصروا عليهم ، ولنستمع إلى ما يقول محمد بن اليمني الناصري وهو يسخرمنهم ويمجد إنجازات وطنه قائلاً :
اُنْظُرْ لِمَا تَلْقَى فَرَنْسَا مِنْهُ إِذْ قَصَدَتْ بِشَامِخِ مَجْدِه اِسْتِخْفَافَا
جَاءَتْ بِمُعْظَمِ جَيْشِهَا وَعُتَادِهَا فَاسْتَنْزَفَتْهُ رِجَالَه اِسْتِنْزَافَا
ومع استهلال سنة 1930 شهد المغرب تيارات الحركة الوطنية التي قدمت إلى الوجود جيلاً جديدًا ، وذلك بعد أن تزعزعت أركان الاستعمار بفضل انتشار الاشتراكية في الغرب، وبعد أن عمدوا إلى تقسيم المغرب قسمين : قسم يشمَل المدن وبعض القبائل التي يتكلم اللغة العربية وهم ينتمون إلى المذهب المالكي . وآخر سكان مناطق جبال الأطلس والبلاد التي تتكلم اللغة البربرية ؛ حيث انتشر بعضُ الفرق الفرنسية ، ولكن سياستهم هذه قد أحدثت رد فعل عنيف من قبل المواطنين في كلا القسمين .
ولعل الشاعر أبا القاسم الشابي هو الوحيد الأكثر صراحة في أشعاره ضد المستعمرين . وهو وإن كان تونسيًا إلا أنه كان يجسّد كل ما يعاني منه أهل المغرب العربي بصفة عامة وهو يقول:
أَلاَ أَيُّهَا الظَّالِمُ الْمُسْتَبِدُّ حَبِيْبَ الظَّلاَمِ عَدُوَّ الْحَيَاةِ
سَخِرْتَ بأَنَّاتِ شَعْبِ ضَعِيْفٍ وَكَفُّكَ مَخْضُوْبَةٌ بِالدِّمَاءِ
وَسِرْتَ تُشَوِّهُ سَحْرَ الْوُجُودِ وَتَبْذُرُ شَوْكَ الأَسَى في رِبَاهُ
رُوَيْدَكَ لاَ يَخْدَعَنَّكَ الرَّبِيْعُ وَصَحْوُ الْفِضَاءِ وَ ضَوْءُ الصَّباحِ
سَيَجْرِفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّمَاءِ وَ يَأْكُلُكَ الْعَاصِفُ الْمُشْتَعِلْ
النشر العربي المغربيّ :
لقد تأثر النشر المغربي أيضًا بالاستعمار حيث تصدى الكثير من الكتاب الذين شحذوا أقلامهم بفكرتهم الانتقامية من الفرنس . وفي هذا الصدد يكتب المكي الناصري :
Mيضحكني والله ما يقوله المتسعمرون المنافقون من مهاترة وسفسطة لاحدّ لهما ، فلا أرى في الحماية إلا جناية ما فوقها جناية ولا أرى في الاستعمار إلا جريمة لاتعد لها جريمة على وجه الأرضL. ونراه يحطّ من شأن الفرنس ويستهزؤهم أيما استهزاء؛ لكلماته الحادة التي تعرف المجاملة؛ حيث يقول:
Mإن الدم ليحترق في قلوبنا وإن حرارة أنفسنا بلغت أعلى درجة الارتفاع، فلم نعد قادرين على العيش تحت ظل هذه الحماية المفروضة علينا.. وإن الشعب المغربي من أقصاه إلى أدناه ليحتدم سخطاً وحنقًا على حماته المنافقينL.
وأما بالنسبة إلى القصة والمسرحية فلم يكن لهما أثر كبير قبل النهضة الحديثة . والفضل في تطور هذه الفنون يرجع إلى احتكاك المغرب بالفرنس حيث نقلت إلى أرضه تلك الصور المستحدثة للقصة والمسرحيات ، شأن غيره من البلاد الشرقية .
وحتى القصة تحركت بالشعب المغربي نحو الاتجاه السائد ، وهو الحرية والاستقلال واللا استعمار الذي تغني به شعراؤه . والكاتب المغربي عبد المجيد بن جلون يبرز في أعماله القصيصة هذا الجانب الحيوي ويقول تحت عنوان (وادي الدماء) Mوتفتحت قلوبنا الصغيرة للربيع، وكانت الطبيعة تقدم إلينا أعز ما فقدناه في المدينة : وهو الحرية. كانت تتمثل لنا في السماء والأرض وفي كل كبيرة وصغيرة .
وكانت أول محاولة روائية في المغرب، Mفي الطفولةL لصاحبها عبد المجيد جلون السابق ذكره. تلتها رواية عبد الكريم غلاب بعنوان Mدفنا الماضيL حيث يصوّر فيها الفترة التاريخية ما قبل استقلال المغرب بما فيها من مكافحة ومقاومة الشعب ، وله رواية أخرى بعنوان Mالمعلم عليL التي يرسم فيها الصراعات الاجتماعية في غضون الاستعمار بمدينة فاس .
كما هو الشأن في رواية Mبوتقة الحياةL و MالمخاضL وكلاهما للبكرى أحمد السباعي . وهما بمثابة مرآة تنعكس فيها مهاجمات الاستعمار على التراث المغربي المكتون . وكذلك نجد الرواية Mجبل الظمأL و Mإكسير الحياةL للكاتب / حمد عزيز الحبابي، وكلاهما تصوير للجانب الاجتماعي المغربي ودعوة إلى الإصلاح ورفع مستوى العيش.
وفي الجملة يمكن القول إن الأدب المغربي بمختلف أنواعه قدّم نموذجًا فريدًا للصمود أمام الإحتلال السياسي والثقافي .
________________________________________
(*) محاضر كلية دار الأيتام المسلمين ويناد ، وعضو المجلس الأكاديمي بجامعة كالكوت ، كيرالا ، الهند.(/4)
تأثير القنوات الفضائية على الطفل والمجتمع!!
لقمان عطا المنان*
القنوات الفضائية هي كالنار تحت الرماد؛ موجودة في كل بيت، ولديها القدرة على الوصول لكل فرد منا.. بعيدة عن أي رقابة منع أو حتى تقييد أو تحديد.. جمهورها يمتد من الأطفال حتى المسنين رجالاً ونساء ومراهقين.. إنه مرض صامت وخطير!!.. فنحن في هذا العالم نعيش فوضى الفضائيات - أو الفضائحيات - مما جعلنا مغرمين بأن نمارس النقد ضد هذة الفوضى الفضائية التي باتت حالة سلبية؛ مما يؤثر على الوعي وعلى الفكر؛ لا سيما على أطفالنا الصغار والمجتمع.. إنه جزء من الغزو الثقافي الذي تمارسه القوى الكبرى لمسخ الهوية الدينية للشعوب الإسلامية!!
لقد أصبحت مشاهد يندى لها الجبين، وأحداثا قد نفرت منها الأخلاق من بث السموم الفكرية الداعية إلى الفوضى والانحراف.. تشرذم عائلي هنا، وخيانة فجريمة هناك!!.. حب مخز، وتبرج فاحش مثير؛ يفسد المرأة، والشباب من مشاهدة (كليبات) فاضحة تشكل خطراً على القيم السماوية، وأخلاقيات الشعوب الإسلامية؛ فهي لا تقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل!!.. وما تبثه بعض الفضائيات يعد تهديماً للبنيان الاجتماعي والفكري والحضاري، بل هو سلاح خطير؛ يستهدف كل من يسعى للحفاظ على تقاليده وعاداته.. همها الأول الأطفال، والمراهقون والشباب.. هدفها واحد وهو الابتعاد عن القيم والأخلاق، وجني ملايين الدولارات على حساب تدني أخلاق المجتمع!!..
إن مجتمعنا يعاني من آثار هذه الظاهرة - هذه (الفضائحات)، وما تبثه من برامج - وساعد على ذلك غياب الأسرة، وكذلك من ما تبثه من عري وفسق، وتقدم المعارف بلا قيود؛ بينما الأطفال الصغار يشاهدون كل هذا القذر!!..
(كم قاد نار العداوة والبغضاء، وأصلّ لكره مفتعل يين الرجل والمرأة
وبين الزوج وزوجته
وبين الأب وأبنائه
فقيل للابن أنت حر
وقيل للبنت تمردي على القيود؛ أنت ملكة نفسك!!
فالحجاب قيدُ أغلال، والزواج ظلم وتعد وتسلط وتجبر
وإنجاب الأبناء عمل غير مجد!!
أما طاعة الوالدين فعبث
والمحبة للزوج ذلة وضعف، وخدمته جبروت وقسوة)!!
هذه هي فتنة الإعلام المنحرف الذي استخدم أدوات متعددة لتغيير عقائد ومفاهيم كثير من الناس!!..
أسباب جلوس الأطفال أغلب الأوقات!!
تعد مسألة مكوث الأطفال أمام الشاشات لوقت طويل واحدة من أكبر المشكلات التي يشتكي منها الآباء، والتي لا يكاد يخلو منها بيت في مجتمعنا المعاصر.. ولعل ذلك راجع إلى عدة أمور منها:
* وقت الفراغ الطويل الذي يعيشه الأطفال في الوقت الحاضر؛ الأمر الذي لا يجدون معه بديلاً للبقاء أمام الشاشة التي يرون أنها جديرة بأن تملأ وقت فراغهم وتشغله.
* عدم توافر البرامج والمناشط الأخرى التي لا شك أن وجودها سيسهم بدرجة كبيرة في صرف اهتمام الأطفال عن كثير من برامج التلفزيون.
* عدم عناية الوالدين بوقت الفراغ عند الأطفال، وعدم إدراكهم لخطورة بقائهم أمام الشاشة (أيا كان نوعها) لوقت طويل.. ويزداد الأمر خطورة عندما نعلم أن البعض ربما يفرح، ويستبشر بذلك؛ لما يترتب عليه من حصول شيء من الهدوء في المنزل.
* وفرة القنوات التي تتبارى في كثرة ما تقدمه من البرامج الجاذبة، المصحوبة بالدعاية الإعلامية القوية؛ التي تسهم في إغراء المشاهد (ولا سيما في هذه السن) بالمكوث فترة أطول أمام الشاشة!!..
* هارون آدم بليلة - رب أسرة
أخطر ما يواجه الطفل هو عدم ملء فراغه؛ خاصة عندما تطل الإجازات الصيفية، وللأسف فإن كثيراً من الأسر تغفل هذا الجانب!!
* عيسى محمد أحمد - طلب بجامعة الخرطوم
عدم عناية الوالدين بوقت الفراغ عند الأطفال، وعدم إدراكهم لخطورة بقائهم أمام الشاشة (أيا كان نوعها) لوقت طويل يمثل خطورة على حياتهم، وصحتهم؛ مما يسببه مكوثهم الطويل أمام الشاشة!!
أفلام العنف الفضائي!!
إن العنف الذي تبثه الأفلام الفضائية، وما يتسرب منه داخل الفضائيات يسهم إلى حد بعيد في انحراف السلوك لدى المشاهدين من المرضى والمراهقين والأطفال، ويمكن أن يظهر على شكل استجابات لدى الكثير منهم.. ولعل من المفارقة أن بإمكاننا تناول العنف والطفولة من جانبين؛ الأول ما يتعلمه الأطفال والصغار من ممارسات عنف يقوم بها الكبار، والثاني ما يقع على الأطفال من عنف يرتكبه آخرون بحقهم..
وللأسف إن أطفالنا عاشوا الحالتين بعد أن طبقت عليهم عملياً قسراً وكرها؛ بسبب الحروب التي عشناها، والبرامج التي رافقتها، ووجدت في الأذهان الصغيرة مستودعات لها!!..
* هاون عبد الحليم علي - معلم
العنف الذي يشاهده الأطفال عبر الفضائيات يسهم بصورة كبيرة وفعالة في انحراف الطفل الصغير بسبب ما تقدمه هذه الفضائيات من الكثير من أفلام أو مسلسلات أو ... الخ مما يحمل العنف البشري؛ مما يرتسم في عقلية هؤلاء الصغار، فيتولد عندهم حب العنف وممارسته في حياتهم البريئة!!
* أبو عبيدة دهب - خريج(/1)
تتركز خطورة هذه القنوات الفضائية التي دخلت أي أسرة مسلمة على الأطفال الصغار الذين هم أمل المستقبل؛ لا سيما المراهقين منهم.. وهذا كله مخطط وفق تصويب محكم نحوهم حتى لا يصيروا أطفالا أسوياء لأمتهم التي تعاني اليوم ما تعاني من جرح نازف!!
* إبراهيم عوض المجيد - طالب بجامعة السودان
أذهان الأطفال دوماً هي مستودع لكل شيء يشاهدونه ويرونه سواء كان ضارا أو نافعا، ويكفي ما يتلقونه من عنف من الكبار!!
* زاهرة عبد الغني الطيب - خريجة
هناك مشكلة إضاعة الوقت، والتأثر بمشاهد متباينة (من العنف إلى الخيال، إلى الطبيعة إلى الحيوان، إلى عالم الفضاء) برامج وبرامج تهجم عليه؛ خطّط لها الكبار وهي لا تحقق الحدّ الأدنى من القيم المعرفية أو الخلقية أو التربوية.. وكذلك برامج الضحك، وبرامج المتعة.. والتلفاز لغز خرافي؛ يهبط على البيوت، ويأسر القلوب، ويلعب دور المحرك والقاطرة، إنه بجرأته يصل إلى أكثر الأمكنة خفاءً وامتناعاً، يصل إلى المدارس، والمشافي، والمآتم، وأقسام الشرطة والسجون؛ ليس هناك مكان لا يستطيع الوصول إليه!! إنه ساحر إعلامي؛ والشاشة الصغيرة وسيلته إلى الأطفال؛ وهي لا تراعي الحدّ الفاصل الهش بين الخيال والواقع لدى الأطفال!!..
* أبو بكر محمد خليل - طالب بجامعة كسلا
لقد حلّت وسائل الإعلام محل الوالدين، بل حلّت محل المدرسة والمعلمين.. صارت تنقل العلوم والمعارف إلى الأطفال، وصار التعليم خارج المدرسة معلومات ومعلومات تصبّ، ومحطات التلفزة لا تتوقف، والقنوات الفضائية تتسارع، وتتصارع لتقدم الأبهى والأروع، وصار هذا الجهاز (التلفاز) الوالد الثالث لكل طفل؛ صارت له رتبة مهمة في الأسرة.. لم يعد ضيفاً؛ بل مشاركاً في مسؤولية إعداد الطفل وتثقيفه.. وهذه شخصية الطفل وثقافته بدأت تتشكل من خلال التلفاز؛ وهو العامل الرئيسي، والمنافس الأول لدور الأهل والمدرسة.. إنه يقدّم الموسيقي، ويقدّم الألوان، يقدّم الحركة، ويقدّم الأشياء الجذابة؛ فماذا يريد الطفل أكثر من ذلك، ونحن ما دورنا تجاه هذا الضيف الهابط علينا، والمحتل أفضل ركن من بيوتاتنا؟!..
* كمال ميسرة عبد المولى - طبيب نفساني
أصبحت المادة الإعلامية الموجهة للمجتمع وللأطفال - على وجه الخصوص - من أخطر الصناعات الإعلامية في العصر الحالي، ومن أكثر الصناعات التي تشهد إقبالاً من طرف المستثمرين وشركات الإنتاج العالمية؛ نظرا لما تدره من أرباح سنوية تقدر بملايين الدولارات؛ بسبب استهدافها لشريحة واسعة تتسع دائرتها باستمرار وهي شريحة الأطفال والشباب واليافعين.. وبفضل انتشار الصحون، وتعدد القنوات الفضائية، وظهور شبكة الإنترنت، وعولمة الصوت والصورة أصبح إعلام الطفل يشهد تنامياً ملحوظاً، وصار أكثر قرباً من الطفل داخل البيت.. وقد حمل هذا الانتشار السريع عدة أساليب جديدة ومتطورة لاستمالة الطفل، والسيطرة على عقله، ودفعه إلى الإدمان.. ولا شك أن هذا التوسع المذهل في تجارة التسلية الموجهة للأطفال يخفي الكثير من المخاطر والسلبيات؛ فجل الشركات المنتجة والعاملة في هذا القطاع هي شركات غربية؛ توجه نشاطها إلى ثقافة غربية، وفهم غربي لمعاني التسلية واللعب والترفيه والتربية، وجل همها السوق والجري وراء الربح والكسب دون اهتمام بالقيم، وفي حالة التعارض بين هدفي الكسب وزرع القيم فإن الغلبة تكون للأول على حساب الثاني..
ويكمن خطر الإنتاج الإعلامي الغربي في سعيه إلى أن يصبح أنموذجا يحتذى، وإنتاجاً مثاليا في ذهن الطفل الراغب في مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تخاطب فيه غرائزه الطفولية وأنماط التقليد والمتابعة؛ مما يخلق حالة من التشوه النفسي والقيمي لدى الأطفال؛ يصبح معها أمر التقويم صعب المنال مع التقدم في السن؛ وانغراس تلك النماذج والأنماط في منطقة اللاوعي؛ ولا يعود الطفل ينظر إلى العالم سوى بمنظار ما يقدم له!!.. وللأسف انساقت وراء هذا التوجه الكثير من القنوات الفضائية ذات رؤوس الأموال العربية؛ حيث أصبحت هذه القنوات لا تقدم إلا المعرب والمترجم من تلك البرامج النصرانية الموجهة إلى أبنائنا!!.. إن أفلام الكرتون والرسوم المتحركة الموجهة للأطفال تصبح خطراً حقيقياً حينما تخرج من سياقها الحضاري الذي نشأت فيه وتتحول إلى سموم قاتلة؛ عندما يكون ابن حضارة مغايرة يتلقى رسالة غريبة من مرسل غريب منه، ويحاول هضمها في إطار خصوصيته وهويته؛ فتصبح الرسالة في هذه الحالة مثل الدواء الذي صنع لداء معين ويتم تناوله لدفع داء آخر؛ فتصبح النتيجة داءً جديدا!!..
* عبد الخالق نمر عيسى - مواطن(/2)
إن الأطفال والمراهقين والشباب يتأثرون بنتائج هذه الثقافة الإعلامية، ومن المحتمل أن تخلق برامج الفضائيات العربية الاضطراب الاجتماعي، وعدم الاستقرار في العلاقات العامة الاجتماعية، وتنمية الفردية والروح الاستهلاكيّة، والهروب من التصدي لواقع الحياة، والاستسلام له، والانبهار بالموديل الأجنبي على حساب الهوية الثقافية، وكذلك تراجع الانتماء للهوية، وازدياد اليأس والإحباط!!
* نميري الصافي نميري - مواطن
جل الشركات المنتجة والعاملة في هذا القطاع هي شركات غربية توجه نشاطها إلى ثقافة غربية وفهم غربي لمعاني التسلية واللعب والترفيه والتربية، وجل همها السوق والجرى وراء الربح والكسب دون اهتمام بالقيم والعادات الأقرب للإسلام!!
* صلاح وداعة الله الزبير - مواطن
إن أفلام الكرتون والرسوم المتحركة الموجهة للأطفال تصبح خطراً حقيقياً حينما تخرج من سياقها الحضاري الذي نشأت فيه، وتتحول إلى سموم قاتلة؛ عندما يكون ابن حضارة مغايرة يتلقى رسالة غريبة من مرسل غريب منه، فيحاول هضمها في إطار خصوصيته وهويته؛ فتصبح الرسالة في هذه الحالة مثل الدواء الذي صنع لداء معين، ويتم تناوله لدفع داء آخر؛ فتصبح النتيجة داءً جديدا!!
الإعلانات الخاصة بالأطفال وأبعادها الجاذبة
لا تكاد تشاهد برنامجاً أو مسلسلاً تليفزيونياً أو حتى الأخبار إلا وتجد نفسك محاطاً بكم هائل من الإعلانات التجارية؛ ولا تلام المحطات الفضائية أو التليفزيونية على ذلك؛ فهي تجني جراء هذه الإعلانات الكثير من الأموال.. غير أن لها أبعادً خطيرة على الأطفال؛ من تعلم سلوك له خفاياه وأجندته من خلال بث الإعلان!!
* إبراهيم حامد عمر - معلم
أخطر ما يواجه الأطفال اليوم هو تلك الإعلانات الخبيثة التي هي في ظاهرها عبارة عن إعلان عن سلعة؛ لكن ما يحويه هذا الإعلان من سموم موضوعة بتحكم له التأثير الخطير على فلزة أكبادنا!!
* الهاهر البلولة صالح - رب أسرة
أكثر ما يجذب الصغار هو ما يوجد بالإعلان؛ إذ هو سريع التأثير، فهم يحفظون ما يحويه هذا الإعلان من ترديد العبارات التي لها أجندة خفية به بغض النظر عن أي شئ مضر!!
* إسماعيل عبد اللطيف - موظف
إن الوعي والإدراك الحقيقي لما يجري حولنا، وما يستجد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة في زمن المتسارعات - زمن الدش والمحطات الفضائية، والاستهلاك التجاري الرخيص، والنزعات الدعائية أحادية البعد، أحادية الرؤية - هذا الوعي هو جزء من المقاومة؛ جزء من الوقوف في وجه المخاطر والتحديات المستقبلية، جزء من التصدي للرياح العاتية، جزء من الواجب علينا فيجب أن نعيد النظر في واقعنا، ولنكون في قابل الأيام أكثر تماسكاً، وأكثر انسجاماً وتلاحماً، وأكثر نهوضاً في مشروع ثقافة الأطفال المسلمين!!
الأبناء يتابعون الفيديو كليب بشغف!!
يقدم الفن الجديد المسمى (الفيديو كليب) لأبنائنا وخاصة الشباب منهم كل يوم جديداً وعصريا، ولكنه في معظمه يقدم لهم على أطباق مذهبة ومزخرفة بنقوش من الزيف والتزوير، يقدم لهم الأفكار التافهة والمعاني الرخيصة، وما نقوشه ولا زخارفه إلا تعرٍ وكشف للمفاتن، ومحاصرة جريئة لأخلاق الأسر وعاداتها ودينها!!
هناك السلبيات الكثيرة لظاهرة الفيديو كليب الموجودة حالياً، ومنها عدم وجود ملامح واضحة للهوية العربية فى هذه الأغاني؛ فالشخصيات إما أجنبية أو عربية بشكل أجنبى، وهذا فى حد ذاته طمس للهوية العربية، كما أن الديكورات وأماكن التصوير والفرق الموسيقية والأحداث لا تعكس واقعاً إسلامياً؛ وتلك هى الخطورة فى تمرير النمط الإسلامي، أو تصويره على أنه الواقع الأمثل؛ وهذا أقوى السلبيات؛ لأنه يرتبط بالفكر والوجدان أكثر مما يرتبط بالغريزة؛ فالإثارة في الأغنية لحظية، بينما التأثير على الفكر يكتسب أبعادا شديدة التأثير؛ يفقد فيها الإنسان صلته بالواقع، ويحدث نوعاً من الإعجاب بالنموذج الغربى، والسعي إلي تقديمه أو تقليده، كذلك أيضاً الإثارة الصريحة، والإثارة هنا ليس المقصود بها مجرد الجنس أو العري؛ بل امتهان خلق حالة من حالات التقمص الوجداني، أو الإعجاب الشديد قد ينتج عنها نوع من أنواع المحاكاة، كما أنه قد ينتج عنها افتتان لعلاقة المرأة بالرجل؛ وهذا فى حد ذاته قد يؤدى إلى تشويه صورة المرأة؛ فالإصرار على هذا المثير الجنسي يقلل من قدرها! فالمرأة فكر ووجدان وشخصية ودور فعال فى المجتمع؛ وليست مجرد مثير للجنس.. ويمكن أن نضيف لبعد الإثارة أنها لا تتفق مع قواعد أو قيم المجتمع أو التعريب؛ وإنما تؤدى لخلق حالة من التعريب، فضلاً عن أنها تجسد أنموذجاً معيناً وسلبياً للمرأة لا يوجد ما يقابله من حيث الجاذبية؛ لأن الأغاني هى أعلي معدل مشاهدة وجاذبية!!(/3)
إن الفيديو كليب يتضمن العديد من مظاهر البعد عن الواقع؛ منها مثلاً أن البيئات التى يتم تصويرها قد تؤدى لارتفاع مستوى الطموح والإحباط فى الوقت نفسه، كذلك ارتفاع التكلفة المادية فى الإنتاج بقدر يفوق تكلفة بعض المطربين؛ وبالتالي أصحبت الأصوات المميزة لا تستطيع مجاراة المطرب صاحب الصوت العالي!! وأيضاً السعى إلي تصوير بيئات شعبية كمدخل ينافي واقعنا؛ وهذا يعكس محاولة الوصول للمشاهد بأي وسيلة ولو على حساب الصورة..
ويشير أيضا إلى أن الكليبات أدت إلى حصر الموديل النسائي فى دور الراقصة أو المثيرة، كذلك استهلاك الثقافة السريعة من اليد إلي الفم دون تدقيق فيما يتم استهلاكه، إلى جانب أنه فى تلك الكليبات يتم استخدام الشخصيات بشكل سلبى وخاصة الأطفال، وهذا قد يضر بالطفل خاصة مع صغر سنة، وقد يؤدي إلي الإضرار الجسدي بالأطفال من طول تصوير المشاهد، وكذلك استنطاق إحساس الطفل، واستغلال براءته بشكل أو بآخر.. ويشير إلى تأثير الكليبات السلبي على الذوق العام؛ حيث تؤدي إلى الهبوط بالذوق العام سواء كان على مستوى اللفظ لو اللحن أو المناظر ولو على مستوى السياق الاجتماعي الذى تدور فيه الأغنية.. ولا يجب أن ننسى أن هذا الهبوط يأتي فى إطار شكل جذاب؛ الأمر الذى يدعو للتساؤل حول مستقبل هذه الأغنية؛ فالواقع أنها فى تزايد مستمر، ولكنها على المدى البعيد سوف تؤدي لحالة من السطحية ما لم يتم التصدي لها!!
أما عن مخاطر الفيديو كليب، وتأثيرها الاجتماعي فيقول علماء الاجتماع: إنه يجب على التليفزيون أن يعمل على تدعيم ثقافة الشباب بدلاً من هدمها فى ظل ما وصلت إليه هذه الكليبات من مستوى أخلاقي منحدر، ويصل الشباب إلى التقليد الأعمى باعتبار أن هذه هي الموضة..
يقول علماء النفس: إن التأثير النفسي من مشاهدة تلك الكليبات المبتذلة يكون سلبياً جداً خصوصاً لدى الشباب غير المتزوجين سواء كانوا بنين أو بنات؛ لأننى أرى مثل هذه الكليبات وهى تعمل للإغواء الجنسي وبطريقة علنية؛ لأن المشاهد عندما يرى مشاهد عارية لمطرب أو مطربة تحدث له حالة لا إرادية من الرغبة الجنسية، وبصفة خاصة الأغاني الإباحية والتي يجب على المسؤولين أن يمتنعوا عن تقديمها تماماً؛ وذلك حرصاً على سلامة شبابنا والذين هم أصل المستقبل لا سيما الأطفال والمراهقين!!
* النور نصر الدين الدابي - معلم
أعتقد أن الخطورة تكمن حين تكثر مشاهدة ما يسمى بالفيديو كليب التي هي خطر على الكبار ناهيك عن الأطفال؛ فتترسب المواقف التي شوهدت في العقل الباطن دون أن يشعر أحد الزوجين بذلك؛ فتكون هي المرجع في تقويم المواقف واتخاذ القرارات، وأحياناً تبذر بذرة الشك في نفس الزوج أو الزوجة في حال تشابه المواقف!!
* ميسرة محمد دفع الله - خريج
معروف أن الصحون الفضائية فيها من الشر العظيم ما فيها لا سيما ما يسمى بالفيديو كليب، وربما تؤدي مشاهدتها إلى أشياء أخرى، ويتطور الأمر، ويحصل ما لا يحمد عقباه عند الأطفال خاصة المراهقين.. فالمعاصي تجر بعضها.. وقانا الله من ذلك!!
* وبنبرة تملؤها الحسرة والأسى يتحدث المواطن السموءل تيراب على:
الخلافات الزوجية تتم مناقشتها عادة بين الزوجين من خلال الموروث المخزون لديهما؛ فإذا كان هذا الموروث مستقى مما يرى ويسمع ويقرأ في وسائل الإعلام فإن القرار الذي سيتخذانه سيكون متأثراً بطبيعة الحال بوسائل الإعلام.. وأغلب الظن أن أكثر حوادث الطلاق تمت بأسباب ووسائل مشابهة تماما لما يحدث في الأعمال التلفزيونية، ولكن الزوجين لا يعترفان بأن قرارهما قد اتخذته الفضائية!!
* عثمان الطيب محجوب
إن الغناء اليوم لم يعد مرتبطاً بتوافر موهبة فنية، أو صوت جيد؛ وإنما أصبح الغناء اليوم للشخص الذى يستطيع أن ينتج فيديو كليب، أو يستطيع أن يجد منتجاً ويتعاقد معه!!.. وهذا هو السائد الآن.. فإذا رأى أي منتج، أو أية شركة إنتاج فتاة؛ ووجدا أن جسدها مناسب للإغراء يقومان بإنتاج فيديو كليب لها.. ولعل الساحة الفنية الآن خير دليل على ذلك.. ومما يزيد الأمر سوءاً وتدهوراً تلك البرامج الغنائية التى تدعىّ أنها تسعى لإخراج موهبة فنية ومغن حقيقي!!
الفضائيات الغنائية!!
هناك تزايد في الاهتمام بعرض هذه الأغاني على شاشات التليفزيون العامه؛ بظهور قنوات متخصصة في هذا اللون عددها حوالى أربع عشرة قناة فضائية، وبدأ البعض من تلك القنوات في تقديم أغان باللغة الإنجليزية مثل MTC، وقناة MCM؛ هذا إلى جانب التخصص داخل القنوات العربية نفسها؛ فأصبحت هناك قنوات خليجية تعرض الأغاني الخليجية فقط مثل قناة الخليجية، وقنوات عامة مثل ميلودى، مزيكا، وقنوات متخصصة في أغانى الطرب القديمة.. ولكن يتبين من تحليل مضمون وشكل هذه الأغاني أنها تتضمن ألفاظاً وإيحاءات جنسية؛ تعمل على نشر الانحلال، وبها الكثير من الإسقاطات التي لها تأثيرها البالغ على المجتمع ككل!!
* فتحي بخيت محمود – مهندس(/4)
هناك قنوات فضائية حولت جسد المرأة إلى سلعة؛ وبالتالي كلما زادت نسبة العري زاد انتشار الأغنية؛ فأصبحت هناك أغان تؤكد على الإثارة والشهوة، وأصبحت هناك أغان فى البانيو، وأغان في حمام السباحة.. وأخطر ما في كل تلك الأغانى هو تمرير القيم التى تشوه صورة المرأة ومكانتها، وتحولها إلى سلعة.. فقد أشارت كثير من البحوث التى أجريت فى بعض الدول العربية - منها مصر، والإمارات، وسلطنة عمان - إلى الإقبال المتزايد على متابعة هذه القنوات سواء الأغاني أو حتى العبارات الإباحية التى تتنافي تماماً مع ميثاق الشرف الإعلامي!!..
* أبوعبيدة عبد السلام حمد - موظف
وسائل الإعلام الفضائية تصور القاعدة العامة للنساء على أنهن يمارسن التجسس والدعارة وتجارة المخدرات والقتل.. كما تستغل المرأة أيضاً كرمز للجنس المكشوف أو الموارب في كثير من الأعمال الأدبية والفنية العربية التي لا تخرج عن علاقة الخيانة بين رجل وامرأتين أو بين رجلين وامرأة!!..
ما هي الآثارالاجتماعية والنفسية على الأطفال؟
* يُحرم الطفل من التجربة الحياتية الفعلية التي تتطور من خلالها قدراته إذا شغل بمتابعة التلفاز.
* يحرم الطفل من ممارسة اللعب الذي يعتبر ضرورياً للنمو الجسمي والنفسي، فضلاً عن حرمانه من المطالعة والحوار مع والديه.
* مشاهدة القنوات الفضائية تعطل خيال الطفل؛ لأنه يستسلم للمناظر والأفكار التي تقدم له دون أن يشارك فيها؛ فيغيب حسه النقدي وقدراته على التفكير.
* يستفرغ طاقات الأطفال الهائلة، وقدراتهم على الحفظ في حفظ أغاني الإعلانات، وترديد شعاراتها الخيثة!
* تشبع الفضائيات في النشء حب المغامرة، كما تنمي المشاغبة والعدوانية، وتزرع في نفوسهم التمرد على الكبار والتحرر من القيود الأخلاقية.
* تقوم بإثارة الغرائز البهيمية مبكراً عند الأطفال، وإيقاد الدوافع الجنسية قبل النضوج الطبيعي؛ مما ينتج أضراراً عقلية ونفسية وجسدية.
* تدعو النشء إلى الخمر والتدخين والإدمان، وتلقنهم فنون الغزل والعشق!!
* لها دور خطير في إفساد اللغة العربية لغة القرآن، وتدعيم العجمة، وإشاعة اللحن!!..
* تغيير أنماط الحياة بالإفراط في السهر؛ فتفسد الدنيا والدين، كما ترسخ في الأذهان أن الراقصات والفنانات ونجوم الكرة أهم من العلماء والشيوخ والدعاة والمبتكرين!!..
الحكم الشرعي
عن تأثير الفضائيات وتأثيرها على الناشئة والمجتمع يقول الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد المحاضر بجامعة إفريقيا العالمية:
إن المسؤولية في الإسلام فردية وتضامنية؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) هذا الحديث عمم ثم خصص بـ (والأمير راع، والرجل راع على أهله بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده)، ثم عمم بـ (وكلكم مسؤول عن رعيته).. ولهذا فقد وصى الله الآباء بالأبناء قائلاً: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة)، وأوجب على الأمة الأمر، والنهي، والمناصحة، وجعلها صمام الأمان لها، وجعل خيريتها مرتبطة بذلك (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وأمر بالذكرى، ونهى عن الغفلة.. ولهذا كان السلف الصالح يعنون أول ما يعنون بتنشئة أبنائهم، وتقويم سلوكهم؛ فإذا أدرك الطفل أُلحق بالكتاتيب؛ ليلقن القرءان الكريم، ثم الحديث، وتقدم له المتون في فنون الشريعة واللغة، ثم بعد ذلك يلتحق بحلقات العلماء في المساجد.. كان هذا هو الحال إلى أن تسلط الكفار على ديار الإسلام، وعملوا على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ حيث أنشئت المدارس والجامعات على غرار ما عند الكفار؛ حيث العناية بالعلوم المدنية، وأغفلت العلوم الشرعية والعربية.. وعندما انتبه البعض لخطورة ذلك وأنشؤوا مدارس ومعاهد أهلية وخاصة ليعوضوا بها هذا النقص، ويسدوا بها هذا الخلل ما فتئ أعداء الإسلام يضغطون على الحكام حتى أغلقت جميع ما بقي من هذه المدارس والمعاهد في كل من باكستان والسعودية؛ بحجة أنها كانت محاضن لتفريغ الإرهابيين كما يزعمون!!.. وليت الكفار وقفوا عند هذا الحد؛ بل وتعدَّوه إلى حذف وشطب كل الآيات والأحاديث والآثار التي لها تعلق من قريب أو بعيد بعقيدة الولاء والبراء، أو التي تبين كفر اليهود والنصارى، أو التي تنهى عن تقليدهم والتشبه بهم..
محاضن التغريب هذه والمسخ آتت أكلها، وقامت بدورها؛ حيث أخرجت أجيالاً ممسوخين لا يعرفون من القرءان إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه؛ هم الذين أسند الكفار الأمر إليهم عند خروجهم، ومنحتهم تلك البلاد الاستقلال الاسمي؛ حيث عادوا وواصلوا استعمارها عن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة التي توجت بالمرئية متمثلة في التلفاز والفضائيات (الاستعمار الإلكتروني)!.(/5)
ويواصل الشيخ الأمين الحاج قوله: إن خطر هذه الفضائيات على الإسلام عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً،وعلى المسلمين ذكوراً وإناثاً،صغاراً وكباراً،لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.فالخطر عام ولكنه يشتد على الناشئة والصغار، ويظهر ذلك جلياً في الآتي:
*الفساد العقدي،بالتشكيك في كثير من المسلمات والثوابت.
*الفساد الأخلاقي،بتزيين الرزيلة وإشاعتها في الذين آمنوا،وإشانة الفضيلة،وقتل الحياء،والعفة،والغيرة.
*كسر الحاجز النفسي بين المسلمين والكفار،وزعزعة عقيدة الولاء والبراء التي إذا فقدها المسلم فقد كل شئ.
*ضياع أفضل فترات العمر_فترة الشباب_ في أفلام الكرتون المدبلجة،وفي الألعاب،بدلاً من اسغلال ذلك فيما ينفعه في دينه ودنياه.
*الإهتمام بسفاسف الأمور وتوافهها،نحو الإهتمام بالأغاني،ومشاهدة المسلسلات،والمباريات سيما المشاركة في كأس العالم.
*الأضرار الصحية الناتجة من الجلوس أمام هذه الأجهزة بالساعات الطوال على البصر والظهر،!!
*الآثار السالبة على التحصيل العلمي.
*التعود على السهر،الذي يؤثر على آداء صلاة الصبح في وقتها،وإلى قلب الليل نهاراً،والنهار ليلاً عكس ما شرعه لنا ربنا(وجعلنا الليل لباساً.وجعلنا النهار معاشا).
*العمل على انتشار الجريمة وسط الشباب والمراهقين..!!
*العمل على تفكيك الأسرة المسلمة كما تفككت الأسرة عند الكفار.!!
*الدعوة إلى النصرانية،حيث توجد شبكات لبرامج نصرانية يشرف عليها مجلس الكنائس العالمي!!
وختم الشيخ الأمين الحاج حديثه منبهاً: هذا قليل من كثير،وغيض من فيض من أضرار الفضائيات الموجهة لإخراج المسلمين من دينهم،ولإشاعة الفاحشة بينهم،فعلى ولاة الأمر من الحكام،والعلماء،وأولياء البيوت أن ينتبهوا لهذا الخطر،ويعملوا على صده،ويحصنوا
الناشئة من سلبياته الكثيرة!!(/6)
تأجير الشهادات لمن يعمل بموجبها
السؤال :
أدرس في أحد المعاهد الجامعيّة ، فهل يجوز لي تأجير شهادتي بعد التخرّج لمن يستخدمها في تسجيل مخبر تحاليل طبّيّة باسمي ، و إن كان هو الذي سيمارس العمل نيابةً عنّي ، و هو ليس من نفس الاختصاص ، و لكن لديه خبرة اكتسبها بالممارسة ؟
الجواب :
دأبَ بعض الناس في هذا الزمان ، و خاصّة المختصّين في العلوم الصحيّة كالصيادلة و الممرّضين و فنّيي المخابر ، و بعض الفروع النظريّة كالقانون على تأجير شهاداتهم إلى من يستثمرها ، و يؤدّي إليهم مبلغاً مقطوعاً أو نسبةً من دَخله لقاءَ ذلك ، و من أمثلة ذلك أنْ يقوم الصيدلي بعد تخرّجه باستخراج ترخيص لافتتاح صيدليّةٍ خاصّة و العمل فيها ، أو المخبَريّ باستخراج ترخيص لتأسيس مخبرٍ للتحاليل الطبّيّة ، فإذا تمّ له الأمر اعتزل المهنة و خوّل شخصاً غيرَ مختصٍ بالعمل في صيدليّته أو مخبره ، و كأنّ الأمر لا يعدو أن يكون استثماراً ، و إن كان فيه توسيد أمرٍ إلى غير أهله .
روى البخاري في صحيحه و أبو داود في سننه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ أعرابياً سأل النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » . قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : « إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » .
و في تأجير الشهادة إلى غير الأكفاء من تضييع الأمانة ، و التفريط في أدائها ما لا يخفى ، و هو مخالفٌ لقوله تعالى : ( و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون ) [ المعارج : 32 ] ، و قوله عليه الصلاة و السلام : « الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ » الذي رواه البخاري معلّقاً و أبو داود عن أبي هريرة و الترمذي عن عَوْفٍ الْمُزَنِىُّ ، و قال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
كما تترتّب على تأجير الشهادات مفاسدُ كثيرةٌ قد تؤدّي إلى الإضرار بالمريض ، و تعريض النفوس للخَطَر .
و مع أنّ الشرع لم يشترِط – من حيث المبدأ – الحصول على شهادةٍ ما لممارسة مهنة مباحةٍ أصلاً ، لا يمكننا تبرير التجاوزات في هذا المجال الخطير بعد أن وَقَفنا على حالاتٍ كثيرةٍ من الإفساد الذي تسببت فيه ، بل نذهَب إلى تحريمه لما تقدّم من أدلّة ، و سدّاً للذرائع .
و بالله التوفيق ، و صلى الله و سلّم على نبيّه محمّد و آله و صحبه أجمعين ، و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .(/1)
تأخير الصلاة عن وقتها أثناء العمل
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
فأنا طالب أتدرب في الصيف.. وأحببت أن استشيركم عن حكم تأخير الصلاة، ففي عملي الصيفي تقام صلاة الظهر وأنا في العمل، وفي أغلب الأحيان أكون فاضي لا يوجد لدي شغل مهم.. ولكن للأسف لا يوجد لدينا مصلى أو مسجد بالقرب منا.. أيضاً عندما أتحدث مع زملائي في العمل من موظفين وهم جميعاً رجال أكبر مني.. يبلغون سن العشرين وما فوق.. فيستهزئون بي.. ويحبطون عزائمي في إقناعهم بأن نصلي جماعة في أثناء الدوام.
فما الحل؟؟
مع العلم أني يومياً أصلي الظهر في المنزل بعد عودتي.. بعد مرور ساعتين على صلاة الظهر في المساجد.
كما أن هذه المشكلة ستستمر معي بعد شهر تقريباً (عند انتهاء مدة تدريبي الصيفي)، في أثناء عودتي للمدرسة.. حيث أن صلاة الظهر تقام خلال الدوام المدرسي.. وأيضاً في المدرسة ليس لدينا مصلى (كما أن إقناع بقية الطلاب بالصلاة صعب علي)..
ساعدوني بارك الله فيكم وجزاكم عني حسن الثواب
الإجابة
الحمد لله، أحب الأعمال إلى الله الصلاة لأول وقتها، ولا يحل لمسلم أن يؤخر الصلاة المكتوبة عن الوقت الاختياري إلاّ لعذر شرعي نحو المرض والسفر، والجماعة اثنان فما فوق، وهي واجبة على الرجال البالغين العاقلين المقيمين. إن استطعت أن تؤذن فأذن وصلِّ وحدك أو مع من يأتي إليك ولا تؤخرها حتى تعود إلى منزلك بعد الدوام وفي أي مكان. قال تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)، وجاء في حديث مالك بن الحويرث في البخاري: ((..فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم))، وبذلك تكون قد عملت سنّة حسنة فلك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة والله أسأل أن يوفقك لذلك إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.(/1)
تأسيسات إسلاميّة للعدل الاجتماعي
أ. د. عماد الدين خليل 17/2/1426
27/03/2005
يطرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبادئ متفاوتة الدرجات إزاء (المال) و (حق الجماعة) ويسلط الضوء على المسألة الاجتماعية من زواياها وأطرافها كافة لكي لا تتبقى منها أية مساحة غارقة في العتمة، وهو في هذا كله إنما يساير القرآن جنبا إلى جنب، يؤكد آياته البيّنات ويعززها ويوضحها. إنه صلى الله عليه وسلم يتحدث عن العمل والأجر والأرض والزراعة، وعن طبيعة العلاقات المتينة العميقة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد وتجعلهم كالبنيان؛ لا يسمحون لأي منهم يسلم أو يظلم … وعن المسؤولية الجماعية التي تحتم على كل فرد أن يعرف مواطن الحق والواجب وإلا عصفت بهم العواصف.
ويقف طويلاً عند الثروة ويبين في أكثر من موضع أنها ليست هدفاً ولا يجب أن تكون كذلك، وإلا قادت عبيدها ومستخدميها إلى الدمار، وكيف أن الموقف الصائب في التعامل معها يضعها في موضعها المناسب من فعاليات الإنسان على الأرض، كوسيلة تحمله والجماعة معه إلى أبعد الآفاق .. وكيف أن حق الجماعة في المال يتدرج من (الزكاة)، حده الأدنى ، صعداً صوب القمة التي تغدو فيها مشتركة في هذا المال الزائد عن حاجة صاحبه، وما وراء ذلك هو ما عبّر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً ، أموت وعندي منه دينار، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا …" وطوّح بيديه يميناً وشمالاً وخلفاً . وسنرى في المقطع الأخير من هذا البحث كيف مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وليس عنده دينار واحد!!
يتحدث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن (العمل) باعتباره الأساس الذي يوليه الإسلام الأهمية الكبرى، والذي تتمخض عنه ابتداء (القيمة) التي يتضمنها المال و(المنفعة) المترتبة عليه، ويجب أن نلاحظ هنا كيف أن القرآن الكريم يورد العمل بتصريفاته المختلفة وأبعاده الجزئية والشاملة، المادية والأخلاقية، الدنيوية والأخروية، فيما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين موضعاً ويسعى صلى الله عليه وسلم إلى أن يحض أتباعه على العمل، لإنهاء ظواهر التبطل والكسل والتواكل والاستجداء التي تتناقص أساساً مع متطلبات العدل الاجتماعي وصورة المجتمع الذي يسوده التوازن الفعال.
قال: "والذي نفسي بيده لئن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو منعه" وقال: "ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده" وقال: "على كل مسلم صدقة. قالوا : يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال : يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فان لم يجد؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة". المهم هو أن يعمل الانسان المسلم، وأن يكون إيجابياً، فإذا عجز عن تفجير طاقاته في بعض مساحات النشاط البشري، فإن هناك مساحات أخرى غيرها.
ومن أجل تأكيد هذه الفكرة في العطاء الاجتماعي قال فيما نقله لنا حكيم بن حزام: "سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى" وقال: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" وقال "العمل عبادة" و"طلب كسب الحلال فريضة" و "طلب الحلال جهاد" و"من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له يوم القيامة" وقال: "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده"، وقبّل يداً ورمت من كثرة العمل وقال: "هذه يد يحبها الله ورسوله" وقال: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف" .
ومرة أخرى يعود إلى إيجابية العمل في الحياة الإسلام ويفضّله على "سكون" العبادة فيقول: "لئن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين" ويبلع من تقييمه للعمل وتقديره للعطاء وإدراكه العميق للدور الذي يمارسه على المستوى الاجتماعي خاصة والحضاري عامة أن قال: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر".
ويؤكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث عن العمل على "حق" الأجير والعامل، هذا الحق الصارم الذي يجب أن يُعطاه لحظة توقفه عن العمل جزاء وفاقاً على ما قدّمت يداه، فيأمر أصحابه: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"، ويصب غضبه الشديد، ويعرب عن خصومته القاطعة لكل من يستأجر أجيراً فيأكل حقه: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه فلم يعطه أجره" .(/1)
ولم يترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسألة من أهم مسائل العمل، تلك هي تكليف العامل أو الأجير بذل جهد أكبر من ذلك الذي تم الاتفاق عليه، أو قضاء ساعات أطول في العمل، أو إنجاز قطع أكثر من المتفق عليها، وضرورة ضمان هذه الزيادة في الجهد الذي تنبثق عنه قيمة أكبر لصاحب العمل. كما أنه لم يترك مسألة العلاقات الإنسانية التي يجب أن تسود بين الطرفين: العامل وصاحب العمل، في أي نشاط اجتماعي، ويتقدم بها صلى الله عليه وسلم صعداً حتى يضعها في مرحلة الأخوة الكاملة حيث يأمر أصحابه حينذاك: عمالاً وأصحاب عمل، أن يأكلوا سوياً ويلبسوا سوياً .. يقول: ".. إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم". وليس ثمة نظام تعرض فيه مسألة "العمل" وفق هذا المثلث الصارم: منح حق العامل كاملاً في وقته المناسب، وزيادة هذا الحق بما يتناسب واتساع الجهد الذي يبذله العامل، ورفع العلاقة بين العامل وصاحب العمل إلى مستوى الأخوة والتعامل المشترك في الطعام واللباس .. ليس ثمة نظام كهذا يُتاح فيه لو نُفّذت تعاليمه في عصر صناعي على سبيل المثال أن تنمو وتترعرع الأخلاقية الرأسمالية الجائرة والطبقية المقيتة. ثم إن هذه التعاليم وغيرها كثير، تُعدّ في الوقت نفسه سبباً في عدم وصول المجتمع الإسلامي إلى مرحلة الرأسمالية، بمفهومها الكامل، رغم ما قدمته له حضارته من معطيات في ميادين التكنولوجيا والعلوم التطبيقية؛ لأن أخلاقية المسلمين التي صنعها دينهم وصاغها رسوله -صلى الله عليه وسلم- تقف حائلاً دون هذا المصير حتى لو لم تجيء "الحروب الصليبية" و"الغزو المغولي" لكي تدمر حيوية الحضارة الإسلام وتنقل البندول إلى عالم الغرب.
وليس أدل على أهمية العمل في نظر الإسلام ، وانه وراء القيمة الحقيقية للإنتاج ، من موقف القران والسنة الحاسم المعروف إزاء العمليات الربوية بكل أشكالها التي لا محل لعرضها هنا ، ومن الأحاديث الشريفة التي وردت عن مسألة الأرض والزراعة وأنها لمن "يزرع" لا لمن "يملك"، وأن الذي يعمل في الأرض التي لا يملكها أحد، أحق بها، ونحن نجتزئ منها بهذه الأحاديث: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها" . وعن رافع بين خديج أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كراء المزارع، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُؤخذ للأرض أجر أو حظ. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "عادِيّ الأرض لله والرسول ثم لكم، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين". ويقول: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها" . وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى بلالاً بن الحارث المزني جميع أرض العقيق، فلما كان زمن عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجزه عن الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.
وكما كانت قواعد العمل الآنفة رهينة بعدم ظهور مجتمع رأسمالي على النمط الغربي، كانت هذه القواعد الخاصة بالنشاط الزراعي رهينة بعدم ظهور المجتمع الإقطاعي على النمط الغربي نفسه، لولا أن انحرف الناس في ميدان التطبيق، بدرجة أو بأخرى، عن قيم الإسلام وتعاليمه، وهذه المسألة شيء والقول بأن الإسلام جاء لكي يعزّز النمو الإقطاعي أو الرأسمالي في المجتمعات البرجوازية شيء آخر يتهافت بمجرد إلقاء نظرة سريعة على نظرية الإسلام نفسها.
ويتحدث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن "الثروة" ويبين في أكثر من موضع كيف أنها ليست هدفاً ولا يجب أن تكون كذلك، وإلا قادت عبيدها ومستخدميها إلى الدمار، وكيف أن الموقف الصائب في التعامل معها يضعها في موضعها المناسب من فاعليات الانسان على الأرض، كوسيلة تحمله، والجماعة معه، إلى أبعد الآفاق، ويحمل على الترف والمترفين الذين لا يعرفون حقوق غيرهم في الجماعة التي ينتمون إليها والذين يأكلون كما تأكل الأنعام. يحدثنا عنهم بأسلوب ينضح بالسخرية والتنديد، ويذكرنا بمواقف القرآن منهم وصوره عنهم. عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها .. وان مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة".(/2)
وفي مقابل هذه الصورة البشعة المنفّرة يطرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك الصورة المضيئة المشرقة التي يحدثنا عنها أبو ذر -رضي الله عنه- هذا الصحابي الجليل "كنت أمشي مع النبي في حرة المدينة، فاستقبلنا أُحُد فقال: يا أبا ذر!! قلت: لبيك يا رسول الله!! قال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً، أموت وعندي منه دينار إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه، ثم مشى فقال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم" .
ولا يعني هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الفقر أو يدعو إليه، أبداً.. لأن هذا الموقف يتناقض أساساً مع نظرية الإسلام عن دور الإنسان الإيجابي البنّاء في العالم، كما يتناقض مع فلسفة العدل الاجتماعي الإسلامي القائمة على ضرورة إشباع حاجات الانسان الأساسية وإسعاده وتمكينه من دوره، بل إنه يتناقض بالكلية مع مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه إزاء الفقر كظاهرة اجتماعية سلبية شاذة ومرض فتّاك … من ثم كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يساويه بالكفر كظاهرة تتميز هي الأخرى بالشذوذ والمرضية على كل المستويات، كان يستعيذ منهما على السواء.. كان يقول: "كاد الفقر أن يكون كفراً". وأنّى للجائع أن يرتفع بأشواقه ووجدانه إلى السماء، ويناجي الله على مكث ويتأمل في ملكوت السماء والأرض وأمعاؤه تتقطع ألماً ومسغبة وجوعاً؟! وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" فقال رجل: أيعدلان؟ أجاب الرسول نعم!!
وعن طبيعة العلاقات الاجتماعية الإيجابية المتينة العميقة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد، وتسوسهم بمنطق التكافل، وتجعلهم كالبنيان، يمنحنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مزيداً من القيم والتعاليم.. عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وعن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" "لا يؤمن" بهذا الجزم!! … والمحبة ليست عواطف تمنح فحسب، بل إنها عطاء وتضحية ونبل وإيثار وإلا فلن تستكمل أبعادها أبداً. والحديث التالي يسلط أضواء أكثر على المسألة: عن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم صدقة. فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة".
ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر المسؤولية الاجتماعية المشتركة الملقاة على عاتق المسلمين جميعاً في المسير بالجماعة إلى بر العدل والخير والأمان قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرواً على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا!! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوٍْا ونجَوْا جميعاً" من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ومن ثم فإن أي خلل يصيب البناء الاجتماعي يجيء بمثابة علامة خطر أكيدة في مسيرة الجماعة الإسلام كلها فان تداركوا الخلل نجَوْا وإلا فان البناء سيتصدع والمركب سيستقر بهم في الأعماق!!
وتقودنا قضية (الترابط الاجتماعي) هذه إلى مسألة من أهم مسائل العدل الاجتماعي في الإسلام، تلك هي التكافل الاجتماعي الذي تأمر به الدولة، أو تقوم به الجماعة تطوعاً واختياراً، ومن وراء الدولة والجماعة أحاديث وقيم طرحها الرسول على طول حياته بين مكة والمدينة متدرجاً وأصحابه بين (الزكاة) كحد أدنى من العطاء مفروض على المال، وبين الاشتراك الكامل فيه، مروراً (بالتصدّق) الذي لا حدّ له، والذي يتراوح هو الآخر بين الكلمة الطيبة والدرهم والدرهمين، وبين التنازل الكامل عن المزارع والأراضي والممتلكات والأموال.
عن ابن عمر أن رسول الله قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".(/3)
وعن أبي عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن فقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُردّ على فقرائهم" وفي مقابل هذا قال: "إن في المال حقاً سوى الزكاة" . ونذكر بهذا الصدد ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى "إذا خلت أيدي الجند من الأموال، ولم يكن من مال المصالح - بيت المال - ما يفي بخراجات العسكر، وخِيف من ذلك دخول العدو بلاد المسلمين، أو ثوران الفتنة من قبل أهل الشر، جاز للإمام أن يوظّف على الأغنياء مقدار كفاية الجند" وما قاله الشاطبي معلقاً على ذلك "وقد نفّذ هذا في زمن الدولة الإسلامية، ومن ذلك في عهد الملك قطز لردّ التتار بناء على فتوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى "واتفق العلماء أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها"، وما قاله الإمام مالك: "يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضاً" .
ويمضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متحدثاً عن المسألة من أكثر من زاوية قال: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم" ، وقال: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً برئت منهم ذمة الله ورسوله" ، وقال: "إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد" . ويعلق الدكتور علي البارودي على هذا الحديث (في كتابه : دروس في الاشتراكية العربية) بقوله: "إنه ما دام في المجتمع جائع واحد أو عارٍ واحد، فإن حق الملكية لأي فرد من إفراد هذا المجتمع لا يمكن أن يكون شرعياً، ولا يجب احترامه ولا تجوز حمايته … ومعنى ذلك إن هذا الجائع الواحد يسقط شرعية سائر حقوق الملكية إلى أن يشبع".
وتعليقاً على حديث آخر بهذا الصدد وهو "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" يقول ابن حزم في كتابه المحلى، باب الزكاة، "من تركه يجوع ويعرى فقد أسلمه" ويضيف: إن للجائع عند الضرورة أن يقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره، فإن قُتل الجائع فعلى قاتله القصاص، وإن قُتل المانع فإلى لعنة الله!!" ويستطرد ابن حزم قائلاً: ".. وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة". وهو يروي حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس"!!
وفي أكثر من مرة يعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن تعهد الدولة للفقراء والضعفاء والعاطلين والعاجزين "من ترك كلا (أي ذرية ضعيفة) فليأتني فأنا مولاه، ومن ترك ضياعاً فعليّ ضياعه" "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة" . وفي حديثه الشهير "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته .." يعلن صلى الله عليه وسلم مسؤولية الحاكم أو الدولة الإسلامية عن كافة رعاياها، مسؤولية شاملة، ولم يستطع أحد أن يقول: إن للحاكم أو الدولة ألا تعتبر نفسها مسؤولة عن أولئك الذين يموتون جوعاً ولا يقدرون على ممارسة أدوارهم الطبيعية في الحياة لأنهم قد أُخرجوا بالفقر والجوع والحرمان عن مواقفهم الصحيحة؛ لأن المسؤولية واحدة لا تتجزأ، وهي تردّ في هذا الحديث (مطلق) مسؤولية لا مسؤولية جزئية عن جانب ما من جوانب العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ويتقدم صلى الله عليه وسلم خطوات أخرى واسعة مدهشة في مجال العدل والتكافل الاجتماعيين وصل بهما إلى الآفاق التي ما كانت (ظروف الإنتاج)، وفق التفسير المادي للتاريخ، تسمح بمجرد التفوه بها. قال: "من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلاً، وليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة" . وقال "طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة". وثمّن ما كان يفعله (الأشعريون) من عرب الجنوب بكلمات توحي انه لم يكن يباركهم فحسب، بل (يأمر) بتنفيذ (أسلوبهم) أيام الأزمات والمجاعات والمهمات (المشتركة) "إن الأشعريين - يقول صلى الله عليه وسلم - إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة فهم مني وأنا منهم" "اقتسموه في إناء واحد بالسويّة" "فهم مني وأنا منهم"، تلك كلمات وإشارات ما كان لها أن تفلت من بين أيدينا وتغيب عن أذهاننا حتى لو مضى عليها آلاف من السنين!!(/4)
ثم ها هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلن في إحدى الإسفار مخاطبا أتباعه: "من كان معه فضل ظهر فليعُد به على مَن لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعُد به على من لا زاد له …" ويضيف الرواة إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذكر حينذاك من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل(/5)
تأسيسات إسلاميّة للفعل الحضاري (1 ـ 3)
أ. د. عماد الدين خليل 3/8/1427
27/08/2006
لم تنشأ الحضارة الإسلامية من الفراغ، وإنما تخلقت عبر شبكة من التأسيسات القرآنية والنبوية .. ثم ما لبثت أن أخذت تتنامى حتى بلغت هذا الذي بلغته.
ولن تتسع مقالات كهذه للاستفاضة في هذه التأسيسات ولذا سيتم الوقوف عندها بقدر كبير من الإيجاز.
1 ـ المعرفة هي حجر الزاوية:
إن الكلمة الأولى التي تنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء لم تكن نفياً أو سلباً، لم تقل: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن ... الخ، وإنما كانت تأكيداً وإيجاباً وأمراً بفعل معرفي هو القراءة : ( اقرأ بإسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * أقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) [القلم :1 ـ 5] القراءة والعلم والقلم، تلك هي المفردات التي تضمنتها الآيات الأولى في السورة الأولى من التنزيل، والتي وضعت المسلم في قلب العالم، وليس بعيداً عنه أو منفياً منه.
ليس هذا فحسب، بل إن الدلالة المعرفية تمتد إلى عمق زمني أبعد، إلى لحظة خلق آدم عليه السلام الذي علّم الأسماء كلها ومنح ذريته من بعده، الاستعداد العقلي والجسدي لممارسة دورهم العمراني في العالم: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟)
[البقرة: 31 ـ 33].
2 ـ النزوع إلى الأمام:
تضمّن القرآن الكريم دعوة واضحة مؤكدة إلى أن ننظر إلى الأمام، وألاّ نلتفت إلى الوراء. إن هذا الالتفات له ضرورات محددة في حالة التلقي عن الآباء والأجداد معطيات تشريعية أو تراثاً معرفياً، قد تستهدي به الأمم لتبين مواقع الخطأ والصواب، أما أن يكون عملاً لا وعياً يقوم على التقليد الأعمى فسيجعلنا في حالة تعارض مع ما يريده القرآن الذي نعى على المشركين والمتخلفين أنهم كانوا يتشبثون بما فعله الآباء والأجداد بغض النظر عن مدى سلامة هذا الفعل ومنطقيته: (قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ؟) [يونس: 78].
(إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). [الزخرف: 22].
وهي هداية معكوسة يرفضها الإسلام أشد الرفض.
إن توينبي، المؤرخ البريطاني المعروف، يشير إلى نمطين من التعامل مع معطيات
الآباء، نمط التقليد الأعمى في مرحلة السقوط الحضاري، ونمط الاقتداء بالنخبة المبدعة وخبراتها الحيوية في مرحلة النهوض الحضاري، والقرآن الكريم يرفض الأولى؛ لأنها تقود إلى التخلف والسكون.
إن القرآن الكريم يضعنا ـ في مساحات واسعة منه ـ في قلب التاريخ بحثاً عن المغزى .. عن صيغ العمل في الحاضر والمستقبل (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف:111].
ولكنه في الوقت نفسه يحررنا من التاريخ لكي نتمحض للحاضر، ونتحرك صوب المستقبل دون أن تعيقنا وتثقل كواهلنا أعمال الأجيال الماضية: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة: 134].
3 ـ التحذير من هدر الطاقة:
طالما أكدت المعطيات القرآنية والنبوية على رفضها لهدر الطاقة التي تعمل أحياناً في
غير مجالاتها المرسومة. إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله".
إنه ـ ها هنا ـ يدعونا للتفكير في الخلق الذي يقود إلى العلم والتكنولوجيا، بموازاة تأكيد إبداعية الله في العالم، والإيمان بوحدانيته سبحانه، ويحذرنا من التفكير في الذات الإلهية التي تعلو على الإفهام، وتستعصي على القدرات البشرية، وهو التفكير الذي يقود إلى الماورائيات والتعامل التجريدي مع "واجب الوجود" و "متناهي الأول" والميتافيزيقا، وما يتمخّض عن هذا كله من هدر للطاقة العقلية.
إنه يريدنا أن نتعامل مع الكتلة الكونية، وأن نكشف عن قوانينها لتنمية الحياة التي سخرت إمكاناتها للإنسان من أجل التحقق باستخلافه العمراني في العالم، بدلاً من هدر الطاقة فيما هو خارج عن حدودها وإمكاناتها وضرورات صيرورتها الحضارية في الأرض.
4 ـ مبدأ الاستخلاف:
لقد استخلف الله سبحانه الإنسان في هذا العالم، وأناط به مهمة تطويره وإعماره، وتذليل صعابه، والاستجابة لتحدياته من أجل تسوية أرضيته كي تكون أكثر ملاءمة لحياة مطمئنة تعلو على الضرورات، بعد أن تتحرر منها، وتكون أكثر قدرة على التوجه إلى السماء، إلى خالقها جل وعلا، دون أن يحني ظهورها ثقل الجاذبية وضرورات المادة الصلبة.(/1)
إن مبدأ الاستخلاف يتكرر أكثر من مرة في القرآن الكريم: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا، ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا )
[فاطر:39]. (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم). [الأنعام :165]. (...واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) [الأعراف:69].(...قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) [الأعراف: 129].(...ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله؟ قليلا ما تذكرون). [النمل :62].
ومسألة الاستخلاف تبدو من خلال هذه الآيات مرتبطة بالخيط الطويل العادل من طرفيه: العمل والإبداع ومجانبة الإفساد في الأرض من جهة، وتلقي القيم والتعاليم والشرائع عن الله سبحانه، والالتزام الجاد بها خلال ممارسة الجهد البشري في العالم من جهة أخرى.
والعلاقة بين هذين الطرفين علاقة أساسية متبادلة بحيث أن افتقاد أي منهما سيؤول إلى الخراب والضياع في الدنيا والآخرة، ويقود إلى عملية استبدال للجماعة البشرية بغيرها ممن
تقدر على الإمساك بالخيط من طرفيه: العمل والجهد والإبداع، والتلقي الدائم عن الله لضبط وتوجيه هذا العمل والجهد في مسالكه الصحيحة التي تجعل الإنسان يقف دائماً بمواجهة خالقه، خليفة مفوضاً لإعمار العالم: (...قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها .. ). [هود: 61].
ولن يكون بمقدور المسلم تنفيذ مطالب مهمته الاستخلافية ومنحها الضمانات الكافية، وإعانتها على تحقيق أهدافها، ما لم يضع خطواته على البداية الصحيحة "للتحضر" فيكشف عن سنن العالم والطبيعة ونواميس الكون القريب من أجل الإفادة من طاقاتها المذخورة، وتحقيق قدر أكبر من الوفاق بين الإنسان وبين محيطه. وبدون هذا فإن مبدأ الاستخلاف لن يكون بأكثر من نظرية أو عقيدة تسبح في الفراغ.
5 ـ مبدأ التسخير:
وهو يرتبط بسابقه أشد الارتباط، ويُعد بدوره ملمحاً أساسياً من ملامح التصور الإسلامي للكون والعالم والحياة والإنسان، ويتطلب اعتماد مناهج العلم وآلياته لتحويله إلى أرض
الواقع، والتحقق بعطائه السخي.
إن العالم والطبيعة، وفق المنظور الإسلامي، قد سُخّرا للإنسان تسخيراً، وإن الله سبحانه قد حدد أبعادهما وقوانينهما ونظمهما وأحجامهما بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في العالم وقدرته على التعامل معه تعاملاً إيجابياً فاعلاً.
وهناك آيات ومقاطع قرآنية عديدة تحدثنا عن هذا التسخير، وتمنحنا التصور الإيجابي لدور الإنسان الحضاري، ينأى عن التصورات السلبية للعديد من الفلسفات والمذاهب الوضعية التي جردت الإنسان من كثير من قدراته الفاعلة وحريته في حواره مع كتلة العالم، وتطرف بعضها فأخضعه لمشيئته هذه الكتلة وإرادة قوانينها الدينامية الخاصة التي تجيء بمثابة أمر لا رادّ له، وليس بمقدور الإنسان إلاّ أن يخضع لهذا الذي تأمر به.
إننا نشهد في كتاب الله صيغة أخرى للعلاقة بين الإنسان والعالم تختلف في أساسها.
صيغة السيد الفاعل الذي سُخّرت له وأخضعت مسبقاً كتلة العالم لتلبية متطلبات خلافته في الأرض وإعماره للعالم على عين الله: )...وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر ..) [النحل:12]. )وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا(. [النحل: 14] . )...وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار(. [إبراهيم : 32ـ 33].
(فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب). [ ص: 36]. )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات
وما في الأرض...؟( [لقمان: 20]. )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن
الله ...(. [العنكبوت:61].
إن (التسخير) هو الموقف الوسطي الفعّال الذي يقدمه القرآن الكريم بصدد التعامل مع العالم بدلاً من الخضوع والتعبد أو الغزو والانشقاق اللذين هيمنا على المذاهب الأخرى.
6 ـ روح العمل ... والإبداع..
نقرأ في كتاب الله هذه الدعوة الشاملة للعمل :
(وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). [التوبة :105].
ونستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ينادينا:
"إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألاّ تقوم حتى يغرسها فليغرسها، فله بذلك أجر" .. فنعرف جيداً كيف أن الدور الحضاري للإنسان المسلم يقوم على العمل والإبداع المتواصلين منذ لحظة الوعي الأولى وحتى ساعة الحساب!! ونعلم تماماً كيف أن الحياة الإسلامية إنما هي فعل إبداعي مستمر.(/2)
ويبلغ من تأكيد القرآن على العمل والجهد البشري لإعمار العالم، على عين الله وتوجهه، أن ترد اللفظة بتصريفاتها المختلفة فيما يزيد على الثلاثمائة والخمسين موضعاً، وهي كلها تشيرـ سلباً وإيجاباً ـ إلى أن المحور الأساسي لوجود الإنسان ـ فرداً وجماعة ـ على الأرض هو العمل الذي يتخذ مقياساً عادلاً لتحديد المصير في الدنيا والآخرة، وهو "موقف" ينسجم تماماً مع فكرتي "الاستخلاف" و "الاستعمار" الأرضي..
إن القرآن الكريم يحدثنا أن مسألة خلق الموت والحياة أساساً إنما جاءت لابتلاء بني آدم، أيهم أحسن عملاً:
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور). [الملك:2] .
كما يحدثنا في سورة العصر أن موقف الإنسان في العالم سيؤول إلى الخسران بمجرد افتقاد شرطيه الأساسيين: "الإيمان والعمل الصالح" .. ويصدر أمره الحاسم إلى الأمة المسلمة أن تلتزم دورها الإيجابي الفعّال في قلب العالم:
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). [آل عمران: 104 ـ 105].
وفي مكان آخر يصف هذه الأمة بأنها:
( ... كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...)
[آل عمران: 110] .
إن "الإيمان" الذي يقوم عليه بنيان الدين يجيء دائماً بمثابة "معامل حضاري" يمتد
أفقياً لكي يصب إرادة الجماعة المؤمنة على معطيات الزمن والتراب، ويوجهها في مسالكها الصحيحة، ويجعلها تنسجم في علاقاتها وارتباطاتها مع حركة الكون والطبيعة ونواميسها، فيزيدها عطاء وقوة وإيجابية وتناسقاً.. كما يمتد عمودياً في أعماق الإنسان ليبعث فيه الإحساس الدائم بالمسؤولية، ويقظة الضمير، ويدفعه إلى سباق زمني موصول لاستغلال الفرصة التي أُتيحت له كي يفجر طاقاته، ويعبر عن قدراته التي منحه الله إياها على طريق
"القيم" التي يؤمن بها و "الأهداف" التي يسعى لبلوغها، فيما يعتبر جميعاً ـ في نظر الإسلام ـ عبادة شاملة يتقرب بها الإنسان إلى الله، وتجيء مصداقا للآية:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [الذاريات:56].
ويتحدث القرآن الكريم عن هذا "السباق" الحضاري عندما يصف المؤمنين بأنهم *يسارعون في الخيرات* وأنهم (لها سابقون)، وفي كلا التعبيرين نلمس بوضوح فكرة "الزمن" ومحاولة اعتماده لتحقيق أكبر قدر ممكن من المعطيات، ما تلبث أن ترتقي ـ بمقاييس الكم والنوع ـ بمجرد أن يتجاوز "المسلم" مرحلة "الإيمان" إلى المراحل الأعلى التي يحدثنا القرآن عنها
في أماكن عديدة: "التقوى" و "الإحسان" .. وهكذا تجيء "التجربة الإيمانية" لا لكي
تمنح الحضارة وحدتها وتفردها وشخصيتها وتماسكها، وتحميها من التفكك والتبعثر والانهيار، فحسب، وإنما لكي ترفدها بهذين البعدين الأساسيين اللذين يؤول أولهما إلى تحقيق انسجامها مع نواميس الكون والطبيعة:
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يُرجعون ؟ )[آل عمران:83].
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85].
ويعطيها ثانيهما قدرات إبداعية أكثر وأعمق، تفجر على أيدي أناس يشعرون بسمؤوليتهم، ويعانون يقظة ضمائرهم، ويسابقون الزمن في عطائهم؛ لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر
و ( ... لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا...) [القصص: 83].(/3)
تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد … فإن البشرية تعيش منذ قيام الثورة الصناعية في أوروبا صراعاً بين العلم والدين اتسعت ساحته حتى شمل معظم ميادين العلم والمعرفة في أنحاء العالم .ولقد شقيت البشرية بهذه المعركة التي كان الدين المحرف هو المتصدر في هذا الصراع حيث رؤى أن الدين خرج منهزما في حلبة الصراع وبانهزامه بقيت البشرية تتخبط في متاهات الظلام والحيرة ، تجرب بدون هدى ، وتسير إلى غير هدف ، تتجرع غصص الفشل المتكرر وتتكبد مرارته بين الحين والآخر .لقد حدث هذا في غياب الإسلام عن ساحة المعركة والإسلام هو الدين الحق الذي يتفق مع الحق في كل صوره ، بل يحتضن الحق ويدعمه أنى كان ، وحيثما كان ومن أية جهة جاء (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها)(1).والإسلام هو الدين الذي يتبنى العلم منهجاً لمعرفة الله سبحانه معرفة رسوله rومنهجاً لمعرفة الدين نفسه وتبين صدقه ولمعرفة الوجود من حولنا. وحسبنا قول ربنا جل وعلا :? وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ?(الإسراء: 36).وقوله :? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ?(محمد:19) .ولقد تنبه علماء المسلمين إلى هذا الصراع الدائر بين العلم والدين المحرف وإلى محاولة أعداء الإسلام نقل المعركة إلى بلاد المسلمين فبدأوا يكتبون عن الإسلام والعلم فإذا بهم يضعون أيديهم على معجزة تجلت في هذا العصر أيد الله بها دينه الحق ألا وهي:الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.وكان ذلك تحقيقاً لوعده جل وعلا?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق?ُّ( فصلت:53).وبدأت الكتابات تتوالى في هذا الباب ، ومنها ما أجاد فيها أصحابها ومنها ما يحتاج إلى تصويب وتقويم .ولذلك بادر المجلس العالمي الأعلى للمسجد باتخاذ قرار إنشاء هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ليكون من أولى مهماتها :
1-تطوير أبحاث الإعجاز العلمي .
2- تمحيص وتقويم ما يكتب في هذا المجال .
3- نشر الصالح من هذه البحوث .
4- وضع الضوابط للكتابة في هذا الموضوع .
وتحقيقاً لذلك قامت الهيئة بعقد المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد بباكستان في الفترة من 25-28 صفر 1408هـ الموافق 18-21/10/1987م وكان من أهم ما عرض في هذا المؤتمر بحوث التأصيل لهذا العلم الجديد في عصرنا .ويسر الهيئة أن تقدم للباحثين وللقراء عموماً بعض بحوث التأصيل التي قررت الهيئة – في اجتماعها مع اللجنة الإستشارية في 14-16 رمضان 1409هـ نشرها للاستفادة منها .كما يسر الهيئة أن تلحق بها توصيات المؤتمر .سائلة المولى جل وعلا أن يأخذ بأيدي العاملين للإسلام وأن يوفقهم ويهديهم سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
1-المعجزة العلمية في القرآن والسنة
الشيخ عبدالمجيد الزنداني
أمين هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
تقديم
بقلم : سماحة الشيخ جاد الحق على جاد الحق – شيخ الأزهر(/1)
الحمد لله علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على رسول الله r، الذي خاطبه ربه بقوله? وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ?(النساء:113) .. وعلى آله وأصحابه الذين حملوا مشاعل علوم هذه الرسالة فأصلوا وفصلوا ما فيها من كنوز…وبعد :فمع كثرة الشواغل تزاحم الأعمال : طالعت على عجل البحث المقدم من السيد الشيخ عبدالمجيد الزنداني بعنوان "المعجزة العلمية في القرآن والسنة" .. وقد ساق فيه جملة من الأفكار التي تخدم بحثه مستنداً فيها على الأدلة النقلية من الكتاب والسنة ، وعلى الأدلة العقلية التي تستمد دلالاتها من الواقع المحس، وتعتمد على نتائج النظريات والتجارب العلمية الحديثة..ولقد بدأ البحث بحد عرف فيه الإعجاز ، ثم عرف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.ثم تحدث عن أن لكل رسول معجزة تناسب ما تميز به قومه وقال : إن المعجزة العلمية هي التي تناسب الرسالة العالمية الخاتمة والمستويات البشرية المختلفة ، وأنه قد حان الوقت لاستظهار رؤية حقائق العلم الذي أنبأ به القرآن سَنُرِيهِمْ والسنة وساق لذلك أمثلة متعددة من أنباء الأرض والسماء في القرآن والسنة ، التي تجلت في عصر الاكتشافات?آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ?(فصلت:53)? لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ? (الأنعام:67) ?إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ? (ص:87-88) وغير ذلك من الآيات. وجاء في ذلك بأقوال السلف من المفسرين والمحدثين وغيرهم .وقد خلص إلى أن أبحاث الإعجاز العلمي وقواعده ضرب من التفسير للقرآن يدخل تحت النوع الثالث من الأنواع الأربعة ، التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: التفسير على أربعة أوجه :
1-وجه تعرفه العرب من كلامها .
2-تفسير لا يعذر أحد بجهالته .
3-تفسير يعلمه العلماء .
4-تفسير لا يعلمه إلا الله .
ثم تحدث عن الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي ، وأبان عن مصادر أبحاث الإعجاز العلمي ، وأنها فرع من فروع التفسير وجزء من شرح الحديث وإنه لما كانت هذه المصادر قائمة على إظهار التوافق بين نصوص الوحي وبين ما كشف العلم التجريبي من حقائق الكون وأسراره فهي كذلك تقوم على مصادر العلوم التجريبية إلى جانب العلم المتعلق بتاريخها .وقد تناول قواعد أبحاث الإعجاز العلمي وصاغها ورتبها بما يجعلها تحيط بالموضوع، جامعة موجهة لمن يتصدى لهذه الأبحاث عن علم وهدى ، مانعة لمن قعدت به مواهبه، عن إدراكها ، وغابت عنه مصطلحات هذه العلم ، ودلالات النصوص الظنية منها والقطعية ، وما قد يقع بينها من توافق أو تعارض على نحو ما أجمل وفصل في هذا البحث المفيد .ثم تحدث عن أوجه الإعجاز العلمي وأوجزها في نقاط خمسة ، وبين أهمية أبحاث الإعجاز العلمي وثمارها .واختتم البحث بيان ميادين أبحاث الإعجاز العلمي مشيراً إلى أنها المجالات الكونية التي جاء ذكرها أو الإشارة إليها في القرآن والسنة ، وتمكن العلم البشري من كشف أسرارها ، وذلك إلى جانب الميادين التي يحتاجها الباحث لتفسير النصوص الشرعية تفسيراً صحيحاً لا شطط فيه مع معرفة بتاريخ العلوم وتقدمها.وأضاف أن مسائل أبحاث الإعجاز العلمي: هي المسائل التي يتصدى الباحث لحلها ، وأنها تجمع القضايا الشرعية ، والكونية ، والتاريخية ، التي تبرز جوانب المعجزة العلمية في آيات الله الكونية والنفسية .وإذ أقدم هذا البحث أشكر للأخ الجليل الشيخ عبدالمجيد الزنداني هذا الجهد في خدمة العلم والدين ، فإن الإسلام كرم العلم وحث على الاستزادة والنظر المستمر في خلق الله استثماراً في هذه الدنيا من خير للإنسان في دينه ودنياه وليزداد الذين آمنوا إيماناً ، وليذكر أولوا الألباب .والله المستعان وهو ولي التوفيق ….
المعجزة العلمية في القرآن والسنة
الإعجاز العلمي :
تعريف الإعجاز :
الإعجاز مشتق من العجز. والعجز : الضعف أو عدم القدرة .والإعجاز مصدر اعجز : وهو بمعنى الفوت والسبق.(2)والمعجزة في اصطلاح العلماء : أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، سالم من المعارضة.(3)
وإعجاز القرآن : يقصد به : إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله. أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الآتيان بمثله .
تعريف العلم :
وصف الإعجاز هنا بأنه علمي نسبة إلى العلم .
والعلم : هو إدراك الأشياء على حقائقها. أو هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافاً تاماً.(4)والمقصود بالعلم في هذا المقام : العلم التجريبي. وعليه فيعرف الإعجاز العلمي بما يلي:(/2)
تعريف الإعجاز العلمي:هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي ،وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشريةفي زمن الرسول r.وهذا مما يظهر صدق الرسول محمد rفيما أخبر به عن ربه سبحانه.لكل رسول معجزة تناسب قومه ومدة رسالته :ولما كان الرسل قبل محمد rيبعثون إلى أقوامهم خاصة ، ولأزمنة محدودة فقد أيدهم الله ببينات حسية مثل : عصا موسى عليه السلام ، وإحياء الموتى بإذن الله على يد عيسى عليه السلام ، وتستمر هذه البينات الحسية محتفظة بقوة إقناعها في الزمن المحدد لرسالة كل رسول ، فإذا حرف الناس دين الله بعث الله رسولاً آخر بالدين الذي يرضاه، وبمعجزة جديدة ، وبينة مشاهدة .(/3)
المعجزة العلمية تناسب الرسالة الخاتمة والمستويات البشرية المختلفة:ولما ختم الله النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ضمن له حفظ دينه ، وأيده ببينة كبرى تبقى بين أيدي الناس إلى قيام الساعة ، قال تعالى? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ?(الأنعام:19) ومن ذلك ما يتصل بالمعجزة العلمية .وقال تعالى ? لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ? (النساء:166) .وفي هذه الآية ، التي نزلت رداً على تكذيب الكافرين ، بنبوة محمد(5)rبيان لطبيعة المعجزة العلمية ، التي تبقى بين يدي الناس ، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم ، والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي.قال الخازن عند تفسير هذه الآية :"لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة ، بواسطة هذا القرآن ، الذي أنزله عليك"(6)وقال ابن كثير :"فالله يشهد لك بأنك رسوله ، الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو القرآن العظيم … ولهذا قال : أنزله بعلمه : أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ، من البينات والهدى ، والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب ، من الماضي والمستقبل(7).وقال أبو العباس بن تيمية :فإن شهادته بما أنزل إليه ، هي شهادته بأن الله أنزله منه ، وأنه أنزله بعلمه ، فما فيه من الخبر ، هو خبر عن علم الله ، وليس خبراً عمن دونه ، وهذا كقوله :? فَإِْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ? (هود:14)وليس معنى مجرد كونه أنزله أنه معلوم له ، فإن جميع الأشياء معلومة له ، وليس في ذلك ما يدل على أنها حق ، لكن المعنى : أنزله فيه علمه ، كما يقال: فلان يتكلم بعلم ، فهو سبحاه أنزله بعلمه ، كما قال:? قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (6)? (8)(الفرقان:6).وإلى هذا المعنى ذهب كثير من المفسرين(9)وهكذا تسطع بينه الوحي ، المنزل على محمد –صلَّى الله عليه وسلَّم – بما نزله فيه من علم إلهي، يدركه الناس في كل زمان ومكان ، ويتجدد على مر العصور ، ولذلك قال:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً ، أو حاه الله إلى ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".(10)قال ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث :"ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ، وخرقه للعادة في أسلوبه ، وفي بلاغته ، وإخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعصار ، إلا ويظهر فيه شئ مما أخبر به أنه سيكون ؛ يدل على صحة دعواه … فعم نفعه من حضر ، ومن غاب ، ومن وجد، ومن سيوجد"(11).? إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ?وبينة القرآن العلمية يدركها العربي والأعجمي ، وتبقى ظاهرة متجددة إلى قيام الساعة .ففي القرآن أنباء تعرف المقصود منها ، لأنها بلسان عربي مبين ، لكن حقائقها وكيفياتها لا تتجلى إلا بعد حين.قال تعالى : ? إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ? (ص:87-88) .قال الفراء في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه :"بعد الموت وقبله أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول (بعد حين) أي في المستأنف"(12)وذهب السدي الكبير إلى هذا المعنى(13)وقال ابن جرير الطبري ، بعد ذكر الأقوال المتعددة ، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية )وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : أن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين ، من غير حد منه لذلك الحين بحد ، ولا حد عند العرب للحين، لا يجاوز ولا يقصر عنه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا قول فيه أصح من أن يطلق ، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت(14).?لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ? (الأنعام67).وشاء الله أن يجعل لكل نبأ زمناً خاصاً يتحقق فيه ، فإذا تجلى الحدث ماثلا للعيان أشرقت المعاني ، التي كانت تدل عليها الحروف والألفاظ في القرآن ، وتتجدد المعجزة العلمية عبر الزمان ، وإلى هذا الزمن أشار القرآن في قوله تعالى: ?لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون َ(67)الأنعام ? (الأنعام67).ويبقى النبأ الإلهي محيطاً بكل الصور ، التي يتجدد ظهورها عبر القرون.وقال ابن جرير الطبري :"لكل نبأ مستقر ، يقول : لكل خبر مستقر ، يعني قرار يستقر عنده ، ونهاية ينتهي إليها ليتبين حقه وصدقه ، من كذبه وباطله .وسوف تعلمون. يقول : وسوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبر به"(15)وقال ابن كثير :قال ابن عباس وغير واحد : أي لكل نبأ حقيقة ، أي لكل خبر وقوع ، ولو بعد حين ، كما قال تعالى: ?وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين ?ٍ(ص:88) ?لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ? (الرعد:38).(16)إلى هذا(/4)
ذهب كثير من المفسرين(17)أنباء الأرض والسماء في القرآن والسنة ، تتجلى في عصر الاكتشافات :وأن خبر القرآن والسنة ، وما فيهما من أوصاف لما في الأرض والسماء ، هو نبأ إلهي عما في الأرض والسماء ، ممن هو أعلم بما خلق فيهما من أسرار .?... قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ... ? (يونس: 18)فالخبر بما في الأرض والسماء ، نبأ عما في الأرض والسماء .ولقد زخر القرآن والسنة ، بأنباء الكون وأسراره ، وتفجرت في عصرنا علوم الإنسان ، باكتشافاته المتتالية ، لآفاق الأرض والسماء فحان الحين لرؤية حقائق العلم، الذي نزل به الوحي في القرآن والسنة .?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? (فصلت53).ولقد أعلنت البشرية اليوم قبولها العلم طريقاً إلى معرفة الحق ، بعد أن كبلت طويلاً بأغلال التقليد الأعمى ، فشيدت للعلم البناء ، وفرغت لخدمته العلماء ، ورصدت له الأموال ، وما أن وقفت العلوم التجريبية على قدميها إلا وبدأت في تأدية رسالتها ، التي حدد الله لها في جعلها طريقاً إلى الإيمان به ، وشاهداً على صدق رسوله .لقد نزل القرآن في عصر انتشار الجهل ، وشيوع الخرافة ، والكهانة ، والسحر، والتنجيم، في العالم كله ، وكان للعرب النصيب الأوفى، من هذه الجاهلية والأمية ، كما بين القرآن ذلك بقوله : ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? (الجمعة:2).لقد نزل القرآن على قوم استماتوا في الصد عنه ، دفاعاً عن أصنامهم ، التي كانوا عليها عاكفين ، وتعلقاً بما آمنوا به من خرافات السحر، والكهانة،والتنجيم ، وأوهام الازلام ، والتشاؤم من بعض الشهور ، ومن مرور بعض أنواع الحيوان ، وجادلوا عن ضلالتهم في طلب الحماية من ملوك الجان ، في الشعاب والوديان .وهذا مثل من الضلال الفكري ، الذي كان عليه العرب عند نزول القرآن وكان العرب أمة أمية ، وبعد أن حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة والكتابة والعلم. والحساب ، لم يجدوا أمامهم من أدوات الكتابة إلا الجلود ، والأحجار الرقيقة، وعسب النخل ، وعليها كانوا كتبون.(18)في ذلك العصر ، وعلى تلك الأمة ، نزل الوحي ، وفيه علم الله ، يصف أسرار الخلق في شتى الآفاق ، ويجلي دقائق الخلق في النفس البشرية ، يقرر البداية ، ويصف أسرار الحاضر، ويكشف غيب المستقبل الذي ستكون عليه سائر المخلوقات.وعندما دخل الانسان في عصر الاكتشافات العلمية ، وامتلك أدق الأجهزة للبحث العلمي ، وتمكن من حشد الجيوش من الباحثين ، في شتى الآفاق، وجمعهم في ميادينه، على اختلاف الأجناس ، يبحثون عن الأسرار المحجوبة في آفاق الأرض والسماء ، وفي مجالات النفس البشرية ، يجمعون المقدمات ، ويرصدون النتائج ، في رحلة طويلة عبر القرون ، فإذا ما تكاملت الصورة ، وتجلت الحقيقة وقعت المفاجأة الكبرى ، بتجلي أنوار الوحي الإلهي ، الذي نزل على محمد rقبل ألف وأربعمائة عام ، بذكر تلك الحقيقة في آية من القرآن أو بعض آية ، أو في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض حديث بدقة علمية معجزة، وعبارات مشرقة، وبهذا أنبأنا القرآن.قال تعالى : ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) ? (فصلت:52-53) فهيا لنتدبر بعض معاني هذا النص القرآني:لقد ورد الأفق في اللغة بمعنى : ما ظهر من نواحي الفلك وأطراف الأرض، وآفاق السماء: نواحيها(19)وآيات الله في آفاق الأرض والسماء تحمل معاني ثلاثة: الأول : المخلوقات التي خلقها الله في شتى آفاق الأرض والسماء مثل قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ... ?(الشورى:29).
الثاني : آيات القرآن التي تخبر وتصف أنواع المخلوقات ، وهي آيات كثيرة.(/5)
الثالث : البينات والمعجزات التي يظهرها الله تصديقاً لرسول rفي شتى آفاق الأرض والسماء برؤية مصداقها من حقائق الخلق حينا بعد حين.قال الشوكاني :?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ?: سنريهم صدق دلالات صدق القرآن ، وعلامة كونه من عند الله في الآفاق وفي أنفسهم …. والمعنى : سنريهم آياتنا في النواحي وفي أنفسهم(20).وقال ابن كثير :?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ?: أي ستظهر لهم دلالاتنا ، وحججنا ، على كون القرآن حقاً منزلا من عند الله ، على رسول الله rبدلائل خارجية في الآفاق(21).وقال الزمخشري :ومعناه أن هذا الموعود ، من إظهار آيات الله في الآفاق ، وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدون، فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب ، الذي هو على كل شئ شهيد ، أي مطلع ومهيمن ، يستوي عنده غيبه وشهادته ، فيكفيهم ذلك دليلاً على أنه حق وأنه من عنده(22) .بهذا قال كثير من المفسرين عند تفسير قوله تعالى: ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? وقال أبو العباس بن تيمية :وأما الطريق العياني : فهو أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ، ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته الرسل عن الله حق ، كما قال تعالى: ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53 ) ? أي: أولم يكف بشهادته المخبرة بما في علمه ، وهو الوحي الذي أخبر به الرسول rفإن الله على كل شئ شهيد وعليم به.(23)ولقد قرر عطاء وابن يزيد أن معنى (الآفاق) المذكورة في الآية هو ما نقله عنهما القرطبي في تفسيره:"وقال عطاء وابن زيد أيضاً : في (الآفاق) يعني أقطار السموات والأرض، من الشمس والقمر ، والنجوم والليل والنهار ، والرياح والأمطار ، والرعد والبرق، والصواعق ، والنبات والأشجار ، والجبال والبحار ، وغيرها"(24).وروى هذا عنهما عدد من أئمة التفسير(25).وفي الجلالين :?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ?: أقطار السموات والأرض من النيران والنبات والأشجار.?وَفِي أَنْفُسِهِمْ ? : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة(26).فهذه آيات الله في كتابه تتحدث عن آياته في مخلوقاته ، وتتجلى بمعجزة علمية بينة تسطع في عصر الكشوف العلمية في آفاق الكون .
اللقاء حتمي والمعجزة واقعة
إننا على وعد من الله عز وجل بأن يرينا آياته ، فيتحقق لنا – بهذه الرؤية – العلم الدقيق بمعاني هذه الآيات ، قال تعالى : ?وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا... ? (النمل:93).ومخلوقاته من آياته ، ومنها ما جاء في القرآن وصفاً ونبأ عن آياته في السموات والأرض.وروى الطبري عن ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد ، أنه قال في تفسير هذه الآية:"قوله : ? سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ?قال : في أنفسكم والسماء والأرض والرزق".(27)(/6)
وقال ابن كثير في تفسير الآية :"أي الحمد لله الذي لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه والانذار إليه ، ولهذا قال تعالى?سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا،?كما قال تعالى: ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? .(28)وبمثل هذا قال القرطبي في تفسيره(29). والألوسي في تفسيره(30).وقال أبو حيان في البحر المحيط :"سيريكم آياته : تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته ، التي تضطرهم إلى معرفتها ، والإقرار أنها آيات الله … وقيل آياته في أنفسكم ، وسائر ما خلق ، مثل قوله : ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ?وقيل معجزات الرسول ، وأضافها إليه لأنه هو مجريها ، على يدي الرسول ، ومظهرها من جهته.(31)وبمثل ما قال أبو حيان ، قال البقاعي ، في نظم الدرر(32):ومما سبق يتبين لنا أن البشرية على موعد من الله متجدد ومستمر بكشف آياته في الكون ، وفي كتابه أمام الأبصار ، لتقوم الحجة وتظهر المعجزة .إنه الوحي في القرآن والسنة ، يفيض بالخبر عن أوصاف المخلوقات ، وهذه الأبحاث العلمية التجريبية ، تتجه بدراستها وبحثها إلى نفس الميدان ، الذي وصفه القرآن ، وتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاللقاء حتمي ، والمعجزة لا شك واقعة .لقد جاءت العلوم البشرية التجريبية شاهدة بصدق ما أخبر به القرآن ، من تحريف سائر الأديان(33) وجاءت شاهدة ومجلية لدقائق المعاني ، في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ذات التعلق بالأمور الكونية. وهذه مناكب دعاة الإسلام ، على اختلاف تخصصاتهم العلمية ، تتزاحم لبيان هذه المعجزات العلمية ، وبدأ عدد من كبار علماء الكون، من غير المسلمين ، يتجهون إلى نفس الميدان(34)، فمنهم من أسلم(35)، ومنهم من شهد بحقيقة المعجزة العلمية، فحان حين تجلى معاني كثير من آيات القرآن الكونية ، وعدد – في نفس المجال – من الأحاديث النبوية و? لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ? (الأنعام67).وإذا كان النقص يعتري بعض الدراسات ، في مجال الإعجاز العلمي ، في القرآن والسنة ، فلا يصح أن يكون ذلك حكماً على جميعها ، وإن هذا ليوجب على القادرين من علماء الإسلام ، أن يسارعوا لخدمة القرآن والسنة ، في مجال العلوم الكونية ، كما خدمهما السلف ، في مجال اللغة والأصول ، والفقه ،وغيرها من مجالات العلوم الشرعية ، فنحن أمام معجزة علمية كبرى ، تنحني أمامها جباه المنصفين من قادة العلوم الكونية في عصرنا .فالاعجاز العلمي أكده ذلك النوع من التفسير ، الذي يعلمه علماء المسلمين ، الذي يعلمون بأسرار المخلوقات كما أشارت هذه الآيات الكريمة: ? إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95)فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون َ(97) ? (الأنعام:95-97) . يعلمون بآيات القرآن. وآيات الأكوان، وهناك فرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي
فالتفسير العلمي : هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية
أما الإعجاز العلمي : فهو إخبار القرآن الكريم ، أو السنة النبوية ، بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيراً، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية ، في زمن الرسول r.وهكذا يظهر اشتمال القرآن أو الحديث على الحقيقة الكونية، التي يؤول إليها معنى الآية أو الحديث، ويشاهد الناس مصداقها في الكون ، فيستقر عندها التفسير، ويعلم بها التأويل، كما قال تعالى: ?لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ? (الأنعام67).وقد تتجلى مشاهد أخرى كونية عبر القرون ، تزيد المعنى المستقر وضوحاً وعمقاً وشمولاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتى جوامع الكلم(36) فيزداد بها الإعجاز عمقا وشمولاً ، كما تزداد السنة الكونية وضوحا بكثرة شواهدها المندرجة تحت حكمها.
مصادر أبحاث الإعجاز العلمي
ولما كانت أبحاث الإعجاز العلمي متعلقة بالتفسير العلمي للآيات الكونية ، ومتصلة بشرح الأحاديث في هذه المجالات ، فهي فرع من فروع التفسير ، وجزء من شرح الحديث وتقوم على مصادر هذين العلمين ، ولما كانت قائمة على إظهار التوافق بين نصوص الوحي وبين ما كشف العلم التجريبي من حقائق الكون وأسراره ، فهي كذلك تقوم على مصادر العلوم التجريبية ، إلى جانب العلم المتعلق بتاريخها ، كما تتصل أيضاً بعلم أصول الدين .
قواعد أبحاث الإعجاز العلمي :(/7)
ولقد قامت هذه الأبحاث على قواعد نوجزها فيما يلي:-
(أ) علم الله هو العلم الشامل المحيط الذي لا يعتريه خطأ ، ولا يشوبه نقص، وعلم الإنسان محدود ، يقبل الازدياد ، ومعرض للخطأ.
(ب) هناك نصوص من الوحي قطعية الدلالة ، كما أن هناك حقائق علمية كونية قطعية.
(ج) وفي الوحي نصوص ظنية في دلالتها ، وفي العلم نظريات ظنية في ثبوتها .
(د) ولا يمكن أن يقع صدام بين قطعي من الوحي وقطعي من العلم التجريبي، فإن وقع في الظاهر ، فلابد أن هناك خللا في اعتبار قطعية أحدهما(37).
(هـ) عندما يري الله عباده آية من آياته ، في الآفاق أو في الأنفس مصدقة لآية في كتابه، أو حديث من أحاديث رسوله يتضح المعنى، ويكتمل التوافق ، ويستقر التفسير ، وتتحدد دلالات ألفاظ النصوص ، بما كشف من حقائق علمية وهذا هو الإعجاز.
(و) إن نصوص الوحي قد نزلت بألفاظ جامعة(38) تحيط بكل المعاني الصحيحة في مواضيعها التي قد تتتابع في ظهورها جيلا بعد جيل .
(ز) إذا وقع التعارض بين دلالة قطعية للنص ، وبين نظرية علمية رفضت هذه النظرية، لأن النص وحي من الذي أحاط بلك شئ علما ، وإذا وقع التوافق بينهما كان النص دليلا على صحة تلك النظرية ، وإذا كان النص ظنيا والحقيقة العلمية قطعية يؤول النص بها .
(ح) وإذا وقع التعارض بين حقيقة علمية قطعية ، وبين حديث ظني في ثبوته ، فيؤول الظني من الحديث،ليتفق مع الحقيقة القطعية،وحيث لا توجد مجال للتوفيق فيقدم القطعي .
أوجه الإعجاز العلمي :
إن معجزة القرآن العلمية ، تظهر لأهل العلم ، في كل مجال من مجالاته ، فهي ظاهرة في نظمه ، وفي إخباره عن الأولين ، وفي إنبائه بحوادث المستقبل، وحكم التشريع ، وغيرها .. ولقد شاع مصطلح الإعجاز العلمي في عصرنا، للدلالة على أوجه إعجاز القرآن والسنة ، التي كشفت عنها العلوم الكونية والطبية.والمتأمل في أحوال العالم قبل نزول القرآن ، يرى التخلف الهائل في مجال العلوم الكونية، وكيف اختلطت المعارف الكونية للانسان ، بالسحر والكهانة والأوهام ، حتى غلبت الخرافة ، وسادت الأساطير ، على الفكر الإنساني .ولقد انتظرت البشرية طويلاً – بعد نزول القرآن – إلى أن امتلكت من الوسائل العلمية ، ما يكشف لها أسرار الكون ، وإذا بالذي يكتشفه الباحثون بعد طول بحث ودراسة ، تستخدم فيها أدق الأجهزة الحديثة ، يرى مقررا في آية ، أو حديث ، قبل ألف وأربعمائة عام ، وذلك فيما تعرض له الوحي من حقائق. وما كان العرب الذين خوطبوا بهذا القرآن ، بحاجة إلى هذه الأوصاف ، والأنباء المستفيضة فيه ، وفي السنة، عن الكون وأسراره ، لاثبات صدق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، لكنه الوحي المعجز؛ الذي يحمل بينه صدقه معه ، لجميع البشر، في عصورهم المختلفة ، وأطوارهم المتباينة ، كما قال أبو العباس بن تيمية في وصف القرآن.وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع في غيره ، فإنه هو الدعوة والحجة ، وهو الدليل والمدلول عليه ، وهو البينة على الدعوى ، وهو الشاهد والمشهود به(39).
وتتمثل أوجه الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فيما يلي:
1- في التوافق الدقيق بين ما في نصوص الكتاب والسنة، وبين ما كشفه علماء الكون(40) من حقائق كونية ، وأسرار علمية،لم يكن في إمكان بشر أن يعرفها وقت نزول القرآن .
2- تصحيح الكتاب والسنة لما شاع بين البشرية،في أجيالها المختلفة ، من أفكار باطلة ، حول أسرار الخلق(41) لا يكون إلا بعلم من أحاط بكل شئ علما.
3- إذا جمعت نصوص الكتاب ، والسنة الصحيحة ، وجدت بعضها يكمل بعضها الآخر ، فتتجلى بها الحقيقة ، مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة في الزمن، وفي مواضعها من الكتاب الكريم ، وهذا لا يكون إلا من عند الله ؛ الذي يعلم السر في السموات والأرض .
4- سن التشريعات الحكيمة ، التي قد تخفى حكمتها على الناس ، وقت نزول القرآن، وتكشفها أبحاث العلماء في شتى المجالات.(42)(/8)
5- في عدم الصدام بين نصوص الوحي القاطعة ؛ التي تصف الكون وأسراره، على كثرتها ، وبين الحقائق العلمية المكتشفة على وفرتها ، مع وجود الصدام الكثير، بين ما يقوله علماء الكون ، من نظريات تتبدل مع تقدم الاكتشافات، ووجود الصدام بين العلم ، وما قررته سائر الأديان المحرفة المبدلة.وصدق الله القائل : ? وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ(49)وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51)قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(52) ? (العنكبوت:48-52).
تنبيه :
وكلامنا هنا محصور في قضايا الإعجاز العلمي؛ الذي تسفر فيه النصوص عن معاني لكيفيات وتفاصيل جديدة عبر العصور ، أما ما يتعلق بالعقائد والعبادات ، والمعاملات والأخلاق ، فقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضح تفسيرها(43).
أبحاث الإعجاز العلمي في ضوء منهج السلف وكلام المفسرين
للسلف منهج سديد ، في التعامل مع الأمور الغيبية ؛ التي جاء بها الوحي ، وخاصة فيما يتعلق بأمر الصفات الإلهية ، وأحوال يوم القيامة ، وما لا سبيل إليه من غير طريق الوحي ، ويتمثل هذا المنهج في الوقوف عندما دلت عليه النصوص، بدون تكلف ، لمعرفة الكيفيات والتفاصيل ؛ التي لم يبينها الوحي ، لأن البحث فيها كالبحث في الظلام ، وهي قسر لحقائق الوحي الكبرى في قالب تصورات ذهنية بشرية ، بحدود الحس والزمان والمكان ، المحيط ببيئة الإنسان .وكلام الخالق سبحانه ، عن أسرار خلقه ، في الآفاق والأنفس ، غيب ، قبل أن يرينا الله حقائق تلك الأسرار ، ولا طريق لمعرفة كيفياتها وتفاصيلها قبل رؤيتها ، إلا ما سمعنا من طريق الوحي، وكان السلف لا يتكلفون ما لا علم لهم به.إن معاني الآيات المتعلقة بالأمور الغيبية ، ودلالتها اللغوية معلومة ، لكن الكيفيات والتفاصيل محجوبة ، وإن من وصف حقائق الوحي الكونية ، بدقائقها وتفاصيلها ، بعد أن كشفها الله ، وجلاها للأعين ، غير من وصفها من خلال نص يسمع، ولا يرى مدلوله الواقعي، لأن وصف من سمع وشاهد غير من سمع فقط ، ومثلهما كمثل اثنين استمعا وصفا لمكتبة كبيرة من صاحبها ، وكان بعضها مشاهدا، وبعضها محجوبا بالستائر والظلام ، وكان أحدهما لا يملك قدرة على إزاحة الستائر، وتبديد الظلام ، فوصف ما حجب عنه في ضوء ما سمع، وقياسا على ما رأى ، وتمكن الثاني من كشف بعض الستائر ، وتبديد بعض الظلام ، فرأى دقائق، وتفاصيل ، وكيفيات، ما وصف له من قبل سماعا، فجاءت المشاهدة متوافقة مع السماع .ولقد وفق السلف الصالح من المفسرين كثيرا في شرحهم لمعاني الآيات القرآن ، رغم احتجاب حقائقها الكونية ، مع أن المفسر الذي يصف حقائق وكيفيات الآيات الكونية ، في الآفاق والأنفس ، وهي محجوبة عن الرؤية في عصره ، قياسا على ما يرى من المخلوقات ، وفي ضوء ما سمع من الوحي ، يختلف عن المفسر ؛ الذي كشفت أمامه الآية الكونية ، فجمع بين ما سمع من الوحي ، وبين ما شاهد في الواقع.ونظراً لعدم خطورة ما يتقرر في مجال الأمور الكونية ، على أمر العقيدة يوم ذاك، لم يقف المفسرون بها عند حدود ما دلت عليه النصوص. بل حاولوا شرحها بما يسر الله لهم من الدراية ؛ التي تيسرت لهم في عصورهم ، وبما فتح الله به عليهم من أفهام ، وكانت تلك الجهود العظيمة التي بذلها المفسرون عبر القرون ، لشرح نصوص الوحي ؛ المتعلقة بالأمور الكونية ؛ التي لم تكشف في عصرهم؛ مبينة لمستوى ما وصل إليه الإنسان من علم ، في تلك المجالات ، ومبينة لمدى توفيق الله لهؤلاء المفسرين .فإذا ما حان حين مشاهدة الحقيقة ، في واقعها الكوني ، ظهر التوافق الجلي بين ما قرره الوحي وما شاهدته الأعين ، وظهرت حدود المعارف الإنسانية ؛ المقيدة بقيود الحس المحدود ،والعلم البشري المحدود بالزمان والمكان ، وازداد الإعجاز تجليا وظهوراً.وكتب الله التوفيق للمفسرين ، فيما شرحوه من آيات وأحاديث ؛ متعلقة بأسرار الكون وخفاياه ؛ بفضل اهتدائهم بنصوص الوحي ؛ المنزل ممن يعلم السر في الأرض والسماء ، مهتدين بما علم لهم من دلالات الألفاظ ، ومعاني الآيات .
سرور رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بظهور التوافق بين الوحي ، وبين الواقع:(/9)
روى مسلم في صحيحه(44) عن فاطمة بنت قيس قال : … فلما قضى رسول الله rصلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال : "ليلزم كل إنسان مصلاه. ثم قال: أتدرون لم جمعتكم ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري ، كان رجلا نصرانيا ، فجاء فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال" ثم ذكر لهم خبر تميم الداري ورحلته ؛ التي استغرقت أكثر من شهر في البحر، وجاءت موافقة لما أخبر به الرسول rمن قبل.وكان الناس يشككون في نسب أسامة بن زيد ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها – قالت : إن رسول الله دخل علىَّ مسروراً ، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم ترى أن مجززاً (45)نظر آنفا إلى زيد بن حارثة ، وأسامة بن زيد (وفي رواية، وعليهما قطيفة ، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما)(46) فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض .وهكذا جاء الدليل من الواقع المشاهد ؛ ليحسم الخلاف ، فبرقت له أسارير وجه الرسول r.وكم يسر المؤمن في عصرنا ، وهو يشاهد حقائق الواقع،والمشاهدات الكثيرة،قد جاءت مصدقةلما جاءبه الوحي،قبل ألف وأربعمائةعام .
أهمية أبحاث الإعجاز العلمي وثمارها
1-تجديد بينة الرسالة في عصر الكشوف العلمية :
إذا كان المعاصرون لرسول الله قد شاهدوا بأعينهم ، كثير من المعجزات ،فإن الله أرى أهل هذا العصر ، معجزة لرسوله تتناسب مع عصرهم ، ويتبين لهم بها أن القرآن حق ، وتلك البينة المعجزة هي : بينة الإعجاز العلمي ، في القرآن والسنة ، وأهل عصرنا لا يذعنون لشئ مثل إذعانهم للعلم، وبيناته ودلائله ، على اختلاف أجناسهم وأوطانهم وأديانهم ، وأبحاث الإعجاز كفيلة بإذن الله بتقديم أوضح الحجج ، وأقوى البينات العلمية ، لمن أراد الحق من سائر الأجناس. وفي حجج هذه الأبحاث قوة في اليقين ، وزيادة في إيمان المؤمنين .? وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ? (الأنفال:2).وظهور هذه البينات العلمية ، يسكب الثقة مرة ثانية ، في قلوب الذين فتنهم الكفار من المسلمين عن دينهم باسم العلم ؛ الذي قام عليه التقدم والحضارة .
2- تصحيح مسار العلم التجريبي في العالم :
لقد جعل الله النظر في المخلوقات ؛ الذي تقوم عليه العلوم التجريبية طريقاً إلى الإيمان به، وطريقاً إلى الإيمان برسول الله ، ولكن أهل الأديان المحرفة كذبوا حقائقه، وسفهوا طرقه ، واضطهدوا دعاته ، فواجههم حملة هذه العلوم التجريبية ، بإعلان الحرب على تلك الأديان ، فكشفوا ما فيها من أباطيل، وأصبحت البشرية في متاهة ، تبحث عن الدين الحق ؛ الذي يدعو إلى العلم، والعلم يدعو إليه .إن بإمكان المسلمين أن يتقدموا لتصحيح مسار العلم في العالم، ووضعه في مكانه الصحيح، طريقاً إلى الإيمان بالله ورسوله ، ومصدقا بما في القرآن ، ودليلا على الإسلام ، وشاهدا بتحريف غيره من الأديان .
إن البشرية بحاجة إلى الدين الحق ؛ لإنقاذها مما حل بها من خواء في الروح ، وضياع في الشعور ، وشقاء في النفس ، بحاجة إلى الدين الذي يجمع لها بين الدين والعلم، والمادة والروح ، والنظام والخلق وسعادة الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، ولكنها بحاجة إلى دليل من العلم يثبت لها صحة الدين ، وفي هذه الأبحاث جواب .ومما يبشر بإمكانية تحقيق هذا الهدف ، وجود قاعدة كبيرة من علماء الكون المنصفين، الذين لا يترددون في إعلان ما يقتنعون به من الحق ، وهم أهل الكلمة في شعوبهم ، ولا يستطيع المكابرون والجاحدون أن يحجروا عليهم في كثير من بلدان العالم ، فيما عدا البلاد الشيوعية ؛ التي جعلت الالحاد منهجاً لها في الحياة. ولكن وسائل الإعلام المعاصرة قد تكون سبباً لإبلاغ أهل تلك البلاد حقائق العلم والإيمان، وربما فتح الله فيها ما لا يتيسر في غيرها .
3-تنشيط المسلمين للاكتشافات الكونية ، بدافع من الحوافز الإيمانية :
إن التفكر في مخلوقات الله عبادة ، والتفكر في معاني الآيات والأحاديث عبادة، وتقديمها للناس دعوة إلى الله ، وهذا كله متحقق في أبحاث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وهذا من شأنه أن يحفز المسلمين إلى اكتشاف أسرار الكون ؛ بدوافع إيمانية ، لعلها تعبر بهم فترة التخلف؛التي عاشوها فترة من الزمن،في هذه المجالات.وسيجد الباحثون المسلمون ، في كلام الخالق عن أسرار مخلوقاته ، أدلة تهديهم أثناء سيرهم في أبحاثهم ، وتقرب لهم النتائج ، وتوفر لهم الجهود .(/10)
واجب المسلمين :وإذا علمنا أهمية هذه الأبحاث في تقوية إيمان المؤمنين ، ودفع الفتن التي ألبسها الكفار ثوب العلم ، عن بلاد المسلمين ، وفي دعوة غير المسلمين ، وفي فهم ما خوطبنا به في القرآن والسنة ، وفي حفز المسلمين للأخذ بأسباب النهضة العلمية، تبين من ذلك كله أن القيام بهذه الأبحاث من أهم فروض الكفايات .وصدق الله القائل:?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?(البينة:1).
ميادين أبحاث الإعجاز العلمي
إن كل موضوع تحدث عنه القرآن أو السنة ، في أي مجال من مجالات العلم ، التي ظهرت حقيقتها ، والتي لا يمكن نسبة خبرها الذي جاء به الوحي ، إلا إلى الله، هو ميدان من ميادين أبحاث الإعجاز العلمي،ولكن هذا المصطلح،يقصدبه الإعجاز العلمي ، الذي كشفت عنه العلوم الحديثة.وميادينه على هذا المفهوم :هي الميادين والمجالات الكونية ؛ التي جاء ذكرها أو الإشارة إليها في القرآن والسنة ، وتمكن العلم البشري من معرفة أسرارها ، إلى جانب الميادين التي يحتاجها الباحث؛لتفسير النصوص الشرعية، تفسيرا صحيحا لا شطط فيه،مع معرفةبتاريخ العلوم،وتقدمها،تعينه على توضيح جوانب الإعجاز(/11)
(1) الترمذي كتاب باب ما جاء في فضل العلم على العباد 5/51.(2) انظر لسان العرب لابن منظور (مادة عجز) 5/370 ط دار بيروت , و المفردات للراغب الأصفهاني ص 322.(3) انظر معنى ذلك في تفسير القرطبي 1/96 وفتح الباري 6/581.(4) راجع الراغب الأصفهاني : المفردات ص 343؛ والشوكاني : إرشاد الفحول ص 4.(5) انظر سبب النزول ابن الجوزي : 2/257؛ الطبري 5/122؛ ابن كثير :1/590؛ الجلالين: ص 137.(6) الخازن في مجموعة من التفاسير : 2/210.(7) ابن كثير : 1/560.(8) الفتاوى: 14/196.(9) ابن الجوزي : 2/257؛ الزمحشري : 1/584؛ أبوحيان : 3/399؛ الألواسي :6/19-20؛ الشوكاني : 1/539؛ البيضاوي والنسفي و الخازن فى كتاب مجموعة من التفسير :2/210؛ الجلالين: ص 137.(10) البخاري : فتح الباري: 9/3, مسلم- كتاب الإيمان.(11)فتح الباري لابن حجر: 9/7.(12) القرطبي: 15/231.(13) أبو حيان: 7/412.(14) الطبري: 23/121.(15) الطبري: 7/147.(16) ابن كثير: 2/144(17) القرطبي: 7/111 الشوكاني: 2/128؛ الرازي: 7/25-26؛ القاسمي:6/575؛ أبو السعود: 3/147؛ البقاعي: 7/145-146.(18) قال زيد بن ثابت عندما أمره أبو بكر الصديق أن يجمع القرآن بعد أن كثر الشهداء من حفظة القرآن: فتبعت القرآن أجمعه من العسب و اللخاف وصدور الرجال(رواه البخاري-كتاب فضائل القرآن). والعسب:جمع عسيب وهو جريد النخل, واللخاف: الحجارة الرقاق.(19) انظر:مقاييس اللغة لابن فارس:1/114-115 لسان العرب:10/5-6؛الصحاح للجواهري:4/1446؛تاج العروس:1/279؛ المفردات للأصفهاني: 19.(20) فتح القدير: 4/523.(21) تفسير ابن كثير: 4/106.(22) الكاشف:3/458.(23) الفتاوي: 14/189.(24) القرطبي: 15/374-375.(25) انظر : الطبري : 25/24؛ أبو حيان: 7/505؛ الخازن في مجموعة من التفاسير: 5/395؛ الشوكاني: 4/523.(26) الجلالين: 638.(27) الطبري: 20/18.(28) ابن كثير: 3/380.(29) القرطبي: 13/246.(30) الآلوسي: 20/40.(31) أبو حيان: 7/103.(32) البقاعي: 14/229-230.(33) انظر الكتاب الذي ألفه الطبيب الفرنسي المشهور: موريس بوكاي بعنوان: "التوراة و الإنجيل والقرآن في ضوء المعارف العلمية الحديثة", وأثبت فية تحريف التوراة والإنجيل وصدامهما مع العلم, وسلامة القرىن من التحريف وسبقه للعلوم الحديثة.(34) انظر الأبحاث التي شارك فيها سبعة من كبار علماء الأجنة والتشريح وأمراض النساء, من غير المسلمين في لجنة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, في القاعة الكبرى في المؤتمر الطبي السعودي الثامن المنعقد في الرياض, في محرم عام 1404هـ.(35) مثل البرفيسور: تاجاتات تاجاسن الذي أعلن إسلامه في قاعة المؤتمر الطبي السعودي الثامن في نهاية أبحاث الإعجاز العلمي.(36) انظر فتح الباري: 13/247.(37) هذه قاعدة جليلة يقررها علماء المسلمين,وألف أبو العباس بن تيمية كتابا من أحد عشر مجلدا لبيانها تحت عنوان: "درء تعارض العقل و النقل".(38) قال صلي الله عليه وسلم "بعثت بجوامع الكلم". (أخرجه البخاري في الجهاد) ومسل المساجد برقم 4523, والنرمذي في السير برقم 1553 والنسائي في الجهاد باب وجوب الجهاد. وقال ابن حجر في الفتح 13/247: كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني, ونقل عن البخاري قوله: بلفني أن جوامع الكلم: أن الله عزوجل يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمرالواحد أو الاثين.(39) الفتاوي: 14/190.(40) البروفيسور: كيث ل. مور وهو من أشهر علماء العالم في علم الأجنة , وكتابه في علم الأجنة مرجع علمي مترجم إلى سبع لغات, منها : الروسية و اليابنية و الألمانية و الصينية. بعد اقتناعه بأبحاث الإعجاز العلمي, ألقى محاضرة في ثلاث كليات طبية في المملكة العربية السعودية عام (1404هـ) بعنوان: " مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة".(41) مثل ماكان شائعا بين علماء التشريح من أن الولد يتكون من دم الحيض واستمر ذلك الاعتقاد إلى أن اكتشف المجهر, في القرن السادس عشر الميلادي,ونصوص القرآن والسنة,تقررأن الإنسان يخلق من المني,وقد رد ابن القيم وابن حجر,وغيرهما من علماء المسلمين,أقوال علماءالتشريح أن مني الرجل لا أثرله في الولدإلا في عقده,وأنه إنما يتكون من دم الحيض,وأحاديث الباب تبطل ذلك".(42) مثل ماكشفه العلم حديثا من حكم في تحريم أكل لحم الخنزير.(43) التفسير والمفسرون للذهبي: 1/34.(44)صحيح مسلم " كتاب الفتن وأشراط الساعة" باب قصة الجساسة" حديث رقم 119" (2942).(45)مجزز: كان قائفا, والقائف: هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر.(46)انظر فتح الباري ج 12 ص 56.
2-مستندات التوفيق بين النصوص القرآنية وبين النتائج العلمية الصحيحة
أ. د. سعاد يلدرم رئيس قسم التفسير – جامعة أتاتورك – تركيا(/12)
الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ..إن اصطلاحات "الإعجاز العلمي" و "التفسير العلمي" و "معجزة علمية" أو "فنية" من التعابير ، التي استحدثت ، وشاعت في العصر الحديث ، ومعلوم أن هذه التعابير ، تفيد تأويل بعض الآيات القرآنية ، بما يتفق وبعض النظريات ، أو الاكتشافات الحديثة ، في العلوم الطبيعية .وعدد المؤلفين المعاصرين الذين حاولوا التوفيق ، بين المعنى القرآني ، وبين المسائل الفنية ليس بقليل. غير أن قسماً منهم أفرطوا في هذا الأمر، وتكلفوا في كثير من الأحيان. وهذا القسم تسبب في ظهور أهل تفريط ينكر هذا التوفيق رأساً. ومعظم المفسرين، الذين عاشوا في القرن الأخير ، اقتصدوا في هذا الأمر ولم يضلوا عن سواء السبيل.ونحن في بحثنا هذا نريد أن نؤصل هذا الموقف المعتدل ، ونظهر بعض أسانيده وبالله التوفيق .
آراء المعترضين في التفسير العلمي :
وقبل أن نخوض في الموضوع ، يحسن بنا أن نذكر بعض آراء المعترضين ، وفي مقدمتها :
1- آراء أبي اسحق الشاطبي المتوفي سنة 790هـ. قال رحمه الله في الموافقات : 2/55-56 .
"أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ ؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين ، أو المتأخرين ، من علوم الطبيعيات والتعاليم ، والمنطق، وعلم الحروف ، وجميع ما نظر فيه الناظرون ، من أهل الفنون ، وأشباهها ، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم :(1) لم يصح ..وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح ، من الصحابة ، والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن ، وبعلومه ، وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شئ من هذا المدعى ، سوى ما تقدم ، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف ، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك ، ولو كان لهم في ذلك خوض ، ونظر ، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة ، إلا أن ذلك لم يكن ، فدل على أنه غير موجود عندهم ، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ ، مما زعموا"وفيما بعد : ادعى الشاطبي أن المعاني ، التي لا عهد للعرب بها ، غير معتبرة فقال :"وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?(النحل:8).وقوله?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ?(الأنعام:38) .ونحو ذلك …، فأما الآيات فالمراد بها ، عند المفسرين : ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله? مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ?(الأنعام:38)اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم ، النقلية ، والعقلية "…" فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه ، على كل ما يضاف علمه ، إلى العرب خاصة ، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية ، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ، ضل عن فهمه ، وتقول على الله ورسوله فيه ، والله أعلم وبه التوفيق" "الموافقات 2/55-56" في المسألة الرابعة من النوع الثاني ، في بيان قصد الشارع ، في وضع الشريعة للافهام .
2- آراء.محمد حسين الذهبي
ويمكن أن نعتبر الأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي ممثل المنكرين للتفسير العلمي. يعرف الدكتور الذهبي: التفسير العلمي بأنه هو : التفسير ، الذي يحكم الاصطلاحات العلمية ، في عبارات القرآن ، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم ، والآراء الفلسفية منها .ويعترض الدكتور الذهبي على التفسير العلمي من النواحي الآتية :
أولاً : الناحية اللغوية :
كثير من الألفاظ القرآنية ، تغيرت وتوسعت دلالاتها ، بمرور الزمان. وهذه المعاني كلها تقوم بلفظ واحد ، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن ، وبعضها لا علم للعرب به ، وقت نزول القرآن ، نظراً لحدوثه ، وطروئه ، على اللفظ ، فهل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب ، في فهم ألفاظ القرآن ، وجعلها تدل على معان ، جدت باصطلاح حادث ؟.
ثانياً : الناحية البلاغية :
البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال ، والتفسير العلمي للقرآن ، يضر بلاغة القرآن. لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله : إن كانوا يجهلون هذه المعاني ، وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ ، لأنه لم يراع حال المخاطب ؟ وإن كانوا يعرفون هذه المعاني ، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية ، من لدن نزول القرآن ، الذي حوى علوم الأولين والآخرين ؟
ثالثاً : الناحية الاعتقادية :(/13)
أنزل الله القرآن ، إلى الناس كافة حتى قيام الساعة. ولو ذهبنا مذهب من يحمل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم ، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك ، في عقائد المسلمين ، نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم ، وما تقوم عليه ، من نظريات ، لا قرار لها ولا بقاء . ولو نحن ذهبنا إلى تقصيد القرآن ، ما لم يقصد ، من نظريات ، ثم ظهر بطلان هذه النظريات فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يكذب اليوم ، ما صححه بالأمس.(2)هذا ما قاله الدكتور الذهبي ملخصاً ! ونحن نظن أن الذهبي بمطالعاته هذه يرد على المفرطين ، والمسرفين ، في التوفيق بين النصوص القرآنية ، والمسائل العلمية. وإلا فهو ليس معترضاً – فيما يبدو – على كون القرآن يشير إلى بعض الحقائق العلمية رأسا. وهذا يظهر في آخر ما كتب في هذا الموضوع :"وحسبهم أن لا يكون في القرآن نص صريح ، يصادم حقيقة علمية ثابتة. وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه ،وبين ماجد ويجد من نظريات وقوانين علمية، تقوم على أساس من الحق ، وتستند إلى أصل من الصحة".أليس كون القرآن لا يصادم حقائق علمية ثابتة معجزة علمية ؟(3)
3- الإعجاز العلمي للقرآن وآراء ابن عاشور ، وسعيد النورسي :(/14)
وفي الصفحات التالية سنعالج هذه الآراء ،وننتقدها ، مستفيدين من المفسرين المعاصرين، ولا سيما الأستاذ "محمد الطاهر بن عاشور" من "تونس" والإمام "سعيد النورسي" من "تركيا". لأن لهما فضلا كبيراً ، في هذا المضمار ، وقد وفقاً جداً في تأصيل هذا المنهج القويم ، في تفسير القرآن الكريم. ولأنهما لم يشتهرا بين المفسرين كما ينبغي لهما .قال ابن عاشور – رحمه الله – في تفسيره " في المقدمة العاشرة 1/127/-129" عند البحث عن إعجاز القرآن ما نصه :"وأما النوع الثاني ، من إعجازه العلمي ، فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لادراكه فهمه وسمعه ، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم ، فينبلج للناس شيئاً فشيئاً انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم. وكلا القسمين : دليل على أنه من عند الله ، لأنه جاء به "أمي" في موضع ، لم يعالج أهله دقائق العلوم ، والجائى به ثاوٍ بينهم لم يفارقهم. ولقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص:? قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(49)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ?( القصص:49-50) .ثم إنه ماكان قصاراه إلى مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة ، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه ، وتجاوز ما درسوه ، وألفوه .قال ابن عرفة عند قوله تعالى ? تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ?في سورة آل عمران آية (27) "كان بعضهم يقول : إن القرآن يشتمل على ألفاظ ، يفهمها العوام، وألفاظ يفهمها الخواص ، وعلى ما يفهمه "الفريقان". ومنه هذه الآية ؛ فإن الايلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص ، والفصول التي يدركها سائر العوام" .أقول ،وكذلك قوله تعالى?أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا?(الأنبياء:30).فمن طرق إعجازه العلمية(4) أنه دعا للنظر والاستدلال. قال في الشفاء :" ومنها جمعه لعلوم ومعارف ، لم تعهد للعرب ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب ، من كتبهم ، فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجة العقلية ، والرد على فرق الأمم ، ببراهين قوية ، وأدلة كقوله?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?(الأنبياء:22).وقوله? أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ? (يس:81) .ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم ، بأن شبه العلم بالنور ، وبالحياة ، كقوله:? لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا?(يس:70).وقوله :?يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ? (البقرة:257).وقال:?وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ?(العنكبوت:43).وقال:?هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ? (الزمر: 9)وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن ، أساليب الشعر ، وأغراضه مخالفة واضحة.هذا والشاطبي قال في الموافقات : (إن القرآن لا تحمل معانيه ، ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب). ولعل هذا الكلام صدر منه في التَّفَصي(5)َّ من مشكلات في مطاعن الملحدين ، اقتصاداً في البحث ، وإبقاءً على نفيس الوقت ، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن ، لأهل كل العصور ، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد العصر العربي ، على الاستدلال بعجز أهل زمانه ، إذ عجزوا عن معارضته .وإذ نحن نسلم لهم بالتفوق في البلاغة والفصاحة ، فهذا إعجاز إقناعي ، بعجز أهل عصر واحد ، ولا يفيد أهل كل عصر ، إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن .ثم يستدل الأستاذ ابن عاشور بحديث "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي – أو أعطى– من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" (البخاري فضائل القرآن1 ومسلم ، كتاب الإيمان 239"(6) "…" فالمناسبة بين كونه أوتي وحياً وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعاً لا تنجلي ، إلا إذا كانت المعجزة صالحة ، لجميع الأزمان ، حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته ، أمما كثيرين ، على اختلاف قرائحهم ، فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا ، لا محالة ، وقد تحقق ذلك ، لأن المعنى بالتابع : التابع له ، في حقائق الدين ، لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول "…" .وهذه الجهة من الإعجاز : إنما تثبت للقرآن بمجموعه ؛ إذ ليست كل آية من ، آياته، ولا كل سورة من سوره ، بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ،ولذلك فهو إعجاز حاصل،من القرآن،وغير حاصل به التحدي،إلا إشارة نحو قوله?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?( النساء:82).وقال الأستاذ ابن عاشور في المقدمة الرابعة "تفسير التحرير والتنوير 1/42-45""وفي الطريقة الثالثة : تجلب مسائل(/15)
علمية ، من علوم لها مناسبة بمقصد الآية، إما على أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ، ولو بتلويح ما ، كما يفسر أحد قوله تعالى :? وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ? (البقرة:269).فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها ، مدخلا ذلك تحت قوله (خيراً كثيراً) فالحكمة،وإن كانت علماً اصطلاحياً ، وليس هو تمام المعنى للآية،إلا أن معنى الآيةالأصلي، لا يفوت ، وتفاريع الحكمة تعين عليه. وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى?كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ?(الحشر:7) .تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي ، وتوزيع الثروة العامة ، ونعلل بذلك مشروعية الزكاة، والمواريث ، والمعاملات المركبة ، من رأس مال وعمل ، على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وإن بعض مسائل العلوم ، قد تكون أشدّ تعلقاً بتفسير آي القرآن ،كما نفرض مسألة كلامية، لتقرير دليل قرآني ، مثل برهان التمانع(7) لتقرير معنى قوله تعالى? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ?(الأنبياء:22).وكتقرير مسألة المتشابه ؛ لتحقيق معنى نحو قوله تعالى?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد? (الذّاريات47).فهذا كونه من غايات التفسير واضح.وكذا قوله تعالى?أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ?(ق:6).فإن القصد منه الاعتبار، بالحالة المشاهدة. فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة ، وبين أسرارها ، وعللها ، بما هو مبين ، في علم الهيئة ، كان قد زاد المقصد خدمة. وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني ، وبين المسائل الصحيحة من العلم ، حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى :? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ?( الكهف:47) .أن فناء العالم يكون بالزلازل ، ومن قوله تعالى ? ِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ? (التكوير:1) .أن قانون الجاذبية يختل عند فناء العالم .وشروط كون ذلك مقبولاً أن يسلك فيه مسلك الايجاز ؛ فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ، ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له ، لئلا يكون كقولهم "السى بالسى يذكر"(8).وللعلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة على الاجمال آراء : فأما جماعة منهم فيرون من الحسن : التوفيق بين العلوم غير الدينية ، وآلاتها ، وبين المعاني القرآنية ، ويرون القرآن مشيراً إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد "هو محمد ابن أحمد بن رشد المتوفي 1198م" في فصل المقال : "أجمع المسلمون ، على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها ، على ظاهرها ، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها، بالتأويل. والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن، هو : اختلاف نظر الناس ، وتباين قرائحهم ، في التصديق" .وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب "قطب الدين الشيرازي" في شرح حكمة الاشراق ، وكذلك الغزالي ، والامام الرازي، وأبوبكر بن العربي ، وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق المسائل العلمية، فقد ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية ، بقواعد العلوم اُلحكْمِية(9) وغيرها .وكذلك الفقهاء : في كتب أحكام القرآن. وقد علمت ما قاله ابن العربي فيما أملاه، على سورة (نوح) وقصة (الخضر). وكذلك ابن جني ، والزجاج. وأبوحيان قد أشبعوا تفاسيرهم ، من الاستدلال على القواعد العربية ، ولاشك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى ، وتقدس ، لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ، ولكن معانيه تطابق الحقائق ، وكل ماكان من الحقيقة في عمل من العلوم، وكانت الآية لها اعتلاق بذلك ، فالحقيقة العلمية مرادة، بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر ، وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم ، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ العربي ، ولا يبعد عن الظاهر ، إلا بدليل، ولا يكون تكلفاً بينا ، ولا خروجاً عن المعنى الأصلي ، حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية .وأما "أبو اسحق الشاطبي" ، فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة : "لا يصح في مسلك الفهم والافهام إلا ما يكون عاماً لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه". وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني : "ينقل ابن عاشور قول الشاطبي الذي اقتبسناه آنفاً وتعقبه بقوله" :"وهذا مبني على ما أسسه ، من كون القرآن ، لما كان خطاباً للأميين ،وهم العرب ، فإنما يعتمد في مسلك فهمه ، وإفهامه ، على مقدرتهم وطاقتهم وأن الشريعة أمية. وهو أساس واهٍ لوجوه ستة.الأول : أن ما بناه عليه : يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال ، وهذا باطل لما قدمناه ، قال تعالى? تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ?(هود:49).وهذا صريح في أن القرآن يحتوي على كثير من الحقائق التي يجهلها قومه ، والتي هي من قبيل(/16)
أنباء الغيب والمعجزات .
الثاني : أن مقاصد القرآن ، راجعة إلى عموم الدعوة ، وهو معجزة باقية ، فلا بد أن يكون فيه ، ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة."وقال ابن عاشور في موضع آخر من تفسيره (1/104) : "إن وجوه الإعجاز ترجع إلى ثلاث جهات "…" الجهة الثالثة : ما أودع فيه من المعاني الحكمية والاشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية ، مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن ، وفي عصور بعده متفاوتة ، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن ، من علمائنا ، مثل أبي بكر الباقلاني ، والقاضي عياض ، "…" والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة ، إعجازاً مستمراً على ممر العصور ، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين : إن القرآن هو المعجزة المستمرة ، على تعاقب السنين ، لأنه قدر يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية ، بواسطة ترجمة معانيه التشريعية ، والحكمية، والعلمية ، والأخلاقية وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني ، وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك. "انظر أيضاً تفسيره 1/127-128".
الثالث:أن السلف(10) قالوا : إن القرآن لا تنقضي عجائبه ، يعنون معانيه،ولو كان كما قال الشاطبي لا نقضت عجائبه،بانحصار أنواع معانيه .
الرابع : أن من تمام إعجازه : أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة .
الخامس : أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقتضى ، إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوماً لديهم ، فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام ، وتحجب عنه أقوام ، "ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(11).
السادس : أن عدم تكلم السلف عليها : إن كان فيما ليس راجعاً إلى مقاصده ، فنحن نساعد عليه ، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات ، بل قد بينوا ، وفصلوا ، وفرعوا ، في علوم عنوا بها ، ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم ، في علوم ن أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية ، أو لبيان سعة العلوم الإسلامية. أما ما وراء ذلك ، فإن كان ذكره لإيضاح المعنى ، فذلك تابع للتفسير أيضاً. لأن العلوم العقلية تبحث عن أحوال الأشياء ، على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك ، فذلك ليس من التفسير ، لكنه تكملة للمباحث العلمية ، واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ، ليكون متعاطي التفسير ، أوسع قريحة في العلوم.ثم قال ابن عاشور : "وأنا أقول" إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب :
الأولى : علوم تضمنها القرآن،كأخبار الأنبياء ، والأمم ، وتهذيب الأخلاق، والفقه، والتشريع ، والاعتقاد ، والأصول ، والعربية ، والبلاغة .
الثانية : علوم ، تزيد المفسر علماً ، كالحكمة والهيئة ، وخواص المخلوقات.
الثالثة : علوم ، أشار إليها ، أو جاءت مؤيدة له ، كعلم طبقات الأرض والطب ، والمنطق.(/17)
الرابعة : علوم ، لا علاقة لها به ، إما لبطلانها ، كالزجر ، والعيافة ، والميثولوجيا(12)، وأما لأنها لا تعين على خدمته ، كعلم العروض ، والقوافي ، "تفسير التحرير والتنوير ، 1/45" .وقال الأستاذ ابن عاشور في المقدمة التاسعة من تفسيره "1/94" "في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة منها" :"ولما كان القرآن نازلاً من المحيط علمه بكل شئ ، كان ما تسمح تراكيبه الجارية ، على فصيح استعمال الكلام البليغ ، باحتماله ، من المعاني المألوفة للعرب ، في أمثال تلك التراكيب، مظنوناً بأنه مراد لمنزله ، ما لم يمنع من ذلك مانع، صريح ، أو غالب ، من دلالة شرعية ، أو لغوية ، أو توفيقية. وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة. كلها ، وفيه هديها ، ودعاهم إلى تدبره ، وبذل الجهد في استخراج معانيه ، في غير ما آية ويدل على تأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية ، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لآيات، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب ؛ ولكننا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ، ما أراد بتفسيره ، إلا إيقاظ الأذهان، إلى أخذ أقصى المعاني ، من ألفاظ القرآن. ويمثل الأستاذ ابن عاشور لذلك بأمثلة متعددة من تفسير النبي r.والأستاذ "بديع الزمان سعيد النورسي" طار صيته ، في جميع أنحاء العالم الإسلامي كمجاهد. وهو كما اشتهر. إلا أنه لا ينبغي لنا أن نغض البصر عن ناحيته العلمية. كان رحمه الله عضوا في دار الحكمة الإسلامية. وهذه المؤسسة كانت كبرى المؤسسات العلمية في أواخر الدولة العثمانية. والأستاذ النورسي ألف تفسيره باللغة العربية. لسورة البقرة المسمى "باشارات الاعجاز في مظان الايجاز" عندما كان يحارب مع طلبته ضد الروس في الحرب العالمية الأولى ، أي ما قبل سبعين عاماً تقريباً. وألف كتبه المسماة "بكليات رسائل النور" باللغة التركية، في تفسير بعض الآيات القرآنية بعد هذا وانتهى من تأليفه سنة 1930م أي ما قبل خمسة وخمسين عاماً تقريباً. وتوفي – رحمه الله – في عام 1960م في السابع والثمانين من عمره ، الملئ بالعلم والجهاد ، حتى آخر أنفاسه. وفي الصفحات الآتية نعالج ونترجم قسماً من أفكاره إلى اللغة العربية للتوفيق بين المعنى القرآني، وبين الحقائق الصحيحة ، من العلوم الطبيعية ."قسم من آيات القرآن يزداد وضوحاً ، بمرور الزمان ، وبتطور العلوم. وهذا يعني أن القرآن الكريم خزينة ، لا تحصى جواهرها ، ولا تنقضي عجائبها. له محكمات ونصوص ، لا تتغير معانيها ، وأحكامها ، في كل الأزمان. ولكن له أيضاً معان ثانوية، تشير إلى بعض الحقائق العلمية ، التي تنكشف شيئاً فشيئاً، حسب تقدم المستوى العلمي البشري. أما الحقائق الظاهرية، التي بينها السلف الصالح فمسلمة محفوظة ، لا تعتريها شبة. لأنها نصوص ، ومحكمات ، وأسس ، وقواعد ، يجب الإيمان بها. والكتاب الكريم موصوف بأنه "قرآن عربي مبين". وهذا يقتضي كونه واضحاً ، في معانيه الأساسية. والخطاب الالهي يدرو حول هذه المعاني ، ويقويها ، ويظهرها. ومن ينكر هذه المعاني المنصوصة ، فكأنما يكذب الله تعالى ويتهم فهم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم. للقرآن الكريم. إذن لا شك في أن المعاني المنصوصة مأخوذة من منبع الرسالة إلخ "المكتوبات 400-401".ويتساءل الأستاذ النورسي ، بعد أن تعرض لبعض المعاني الاشارية ، من قبيل الإعجاز العلمي فيقول :"فإن قلت : كيف نستطيع أن نعلم : أن القرآن أراد هذه المعاني ، وأشار إليها ؟ فالجواب : مادام القرآن خطة أزلية ، ومادام هو يدرس، ويخاطب كل طبقات البشر، المصطفة. جيلاً بعد جيل ، إلى يوم القيامة ، فلابد له من مراعاة تلك الأفهام المختلفة ، ودرج المعاني المتعددة ن وإرادتها ، ووضع القرائن للإرشاد بأنه أرادها. وكل هذه الوجوه والمعاني تعد من معاني القرآن ، بشهادات واتفاق أهل الاجتهاد ، وأهل التفسير ، وأهل أصول الدين ، وأهل أصول الفقه، بشرط كونه صحيحاً،من ناحية العلوم العربية ، وحقاً من جهة الأصول الدينية ، ومقبولاً من الناحية البلاغية . والقرآن وضع أمارة لكل وجه من هذه الوجوه:إما لفظية وإما معنوية.والأمارة المعنوية إما أن تفهم من سياق الكلام وسباقه،وإما أمارة مستنبطةمن آية أخرى تشير إليها "يعني إلى هذا المعنى" .وكتب التفاسير التي تعد بالآلاف ، والتي ألفها المحققون : تشهد بجامعية القرآن هذه وخارقيته "سوزلر(13) : أي الكلمات، 414-415". ويقول :(/18)
"فإن قلت : من شأن الهداية ، والبلاغة : البيان والوضوح ، وحفظ الأذهان عن التشتت ، فما بال المفسرين ، في أمثال هذه الآية ، اختلفوا ختلافاً مشتتاً وأظهروا احتمالات مختلفة ، وبينوا وجوه تراكيب متباينة ، وكيف يعرف الحق من بينها ؟ قيل لك : قد يكون الكل حقاً ، لكن الأمر يختلف من سامع إلى سامع، إذ القرآن مانزل لأهل عصر فقط ؛ بل لأهل جميع الأعصار. ولا لطبقة فقط ، بل جميع طبقات الإنسان ، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر ، ولكل فيه نصيب من الفهم. والحال : أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة .. وذوقه يتفاوت جهة جهة.. وميله يتشتت جانباً جانباً .. واستحسانه يتفرق وجهاً وجهاً .. ومتعته تتنوع نوعاً نوعاً .. وطبيعته تتباين قسماً قسماً .. فكم من أشياء يستحسنها نظر طائفة ، دون طائفة ، وتستلذها طبقة ، ولا تتنزل إليها طبقة ، وقس. فلأجل هذا السر وهذه الحكمة ، أكثر القرآن من حذف الخاص للتعميم ، ليقدر كل مقتضى ذوقه واستحسانه .ولقد نظم القرآن جملة ، ووضعها في مكان ، ينفتح من جهاته وجوه مختلفة ، لمراعاة الأفهام المختلفة ؛ ليأخذ كل فهم حصته ، وقس ، فإذا يجوز أن تكون الوجوه بتمامها مرادة ، بشرط أن لا تردها العلوم العربية ، وبشرط أن تستحسنها البلاغة ، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة . فظهر من هذه النكتة : أن من وجوه إعجاز القرآن : نظمه ، وسبكه في أسلوب ، ينطبق على أفهام عصر فعصر .. وطبقة فطبقة ( إشارات الإعجاز 40-41) .لنأخذ مثلاً قوله تعالى? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ?( الأنبياء:30). هذه الآية تفهم من لم يتوغل في المسائل الفلسفية ، هذا المعنى : بينما كانت السماء صافية بدون صحاب والأرض جافة ، ليست قابلة للتوليد ، فتح الله السماء بالمطر والأرض بالخضروات، وزاوج بينهما ، وخلق من هذا الماء كل شيء حي ، وتفهم الآية الحكيم المحقق: أنه في ابتداء الخليقة كانت السموات والأرض كوماً ، بدون أي شكل ، وعجيناً بدون نفع ، ليس عليها أي كائن أو مخلوق ، ولكن الفاطر الحكيم فتحهما ، وبسطهما فجعل كلتيهما نافعة مثمرة ، مزينة ومنشأ لكثير من المخلوقات. يفهم هذا ويعظم حكمة الله تعالى . وتفهم الآية أيضاً في نظر حكيم معاصر : أن أرضنا وسائر (السيارات) التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في ابتداء الأمر ممزوجة مع الشمس ، عجيناً ، ولكن القيوم القدير بسط هذا العجين ، ووضع السيارات في أمكنتها وخلق التراب فوق الأرض ، وأنزل المطر من السماء، وأرسل الأشعة من الشمس ، وعمر الدنيا بالحياة . يفهم هذا ويتخلص من شرك الطبيعة (سوزلر أي الكلمات 411-412) .إن الإنسان يتساءل : إن الواقع الذي نشاهده ضد ما أشار إليه القرآن في بعض الأحيان . فمثلاً نرى الشمس تشرق ، وتغرب ، والأرض منبسطة ساكنة ، ماذا تقول في ذلك ؟ نجيب عن هذا السؤال بأن القرآن كتاب هداية وإرشاد . والإرشاد إنما يكون نافعاً ، إذا كان على درجة (استعداد) أفكار الجمهور الأكثر . والجمهور باعتبار المعظم عوام . والعوام لا يقدرون على رؤية الحقيقة عريانة ، ولا يستأنسون بها ، إلا بلباس خيالهم المألوف . فلهذه النكتة صور القرآن تلك الحقائق بمتشابهات ، وتشبيهات ، واستعارات ، وحافظ على الجمهور الذين لم يتحملوا ، عن الوقوع في ورطة التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ، فأجمل في المسائل التي يعتقد الجمهور بالحس الظاهر مخالفتها للواقع ، لكن مع ذلك أومأ إلى الحقيقة بنصب أمارات . فإذا تفطنت لهذه النكتة فاعلم : أن الديانة ، والشريعة الإسلامية ، المؤسسة على البرهان العقلي ، ملخصة من علوم وفنون ، تضمنت العقد الحيوية في جميع العلوم الأساسية ، من فن تهذيب الروح ، وعلم رياضة القلب ، وعلم تربية الوجدان ، وفن تدبير الجسد ، وعلم تدبير المنزل ، وفن السياسة المدنية ، وعلم الحقوق والمعاملات وفن الآداب الاجتماعية ، وكذا وكذا … إلخ . مع أن الشريعة فسرت ، وأوضحت في مواقع اللزوم ، ومظان الاحتياج ، وفيما لم يلزم في حينه أو لم تستعد له الأذهان ، أو لم يساعد له الزمان ، أجملت بفذلكة(14) ووضعت أساساً، وأحالت إلى الاستنباط منه ، وتفريعه ونشوء نمائه ، على مشورة العقول ( إشارات الإعجاز 175).فمثلاً يراعي القرآن ، ويتلطف مع الحس الظاهري ، الذي يشاهد أن الأرض ساكنة ومنبسطة ، ولا يقول بصراحة : أن الأرض كروية ، تدور حول نفسها ، وحول الشمس بسرعة . لا ، ما أراد القرآن أن يلبس على الناس ويشوش أفكارهم، فيبعدهم عن هداية القرآن . ولو قال القرآن هذا وأمثاله ، من الحقائق العلمية ، لانفض الناس من حوله ، ولأنكروا ذلك ، لم يكن من ذلك شيء . إلا أن القرآن لم يهمل الإشارة إلى العصر ، وإلى المستوى ، الذي أدرك الناس فيه حقيقة شكل الأرض أو حركتها .وبناء على هذه الحقيقة لا بد للمفسرين المتأخرين ، من أن يوفقوا بين الحقائق الكونية المنكشفة ، وبين(/19)
النص القرآني ، المشير إلى هذه الاكتشافات . لأن هذه الحقائق كانت توجد في القرآن مجملة ، وفي شكل الفذلكة . وليست هذه المسائل من قبيل العقائد ، والعبادات ، والأحكام ، والمعاملات . ولهذا يجوز أن تفهم ، وتؤمن الأجيال المتقدمة ، بالمعنى الإجمالي ويكتفوا به . وهذا لا يسبب أي نقيصة ، لا للقرآن ، ولا للمتقدمين من الأمة ، الذين لم يكن في استطاعتهم أن يعرفوا هذه المسائل بالتفصيل ، بل يكون دليلاً آخر للإعجاز القرآني .. لأن القرآن يعلن بصراحة : أنه يحتوي على بعض الحقائق ، التي لم تظهر حقيقتها في وقت النزول:?بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ?(يونس:39).والجملة الأخيرة من الآية صريحة ، في أن القرآن يحتوي على بعض الحقائق ، التي ستتضح بمرور الأزمان .يقول المفسر شهاب الدين الآلوسي في تفسيره المسمى بروح المعاني ، عند تفسير الآية المذكورة ما نصه : " فالتأويل : نوع من التفسير ، والإتيان : مجاز عن المعرفة والوقوف ، ولعل اختياره للأشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها . وجوز أن يراد بالتأويل : وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه . وهو المعنى الحقيقي عند البعض ، فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه أي : " ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الإخبار بالغيب ، حتى يظهر أنه صدق أم كذب .. والمعنى : أن القرآن معجز من جهة النظم ، ومن جهة الإخبار بالغيب ، وهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ، ويتفكروا في معناه،أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة(روح المعاني 11/120).وكذا قوله تعالى?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? (فصلت:53).هذه الآية صريحة في أن الله يظهر بعض الآيات أي بعض الحقائق القرآنية ، بعد زمن النزول .فلنقرأ ما كتبه المفسر ابن كثير (المتوفي سنة 774هـ) الذي هو أبعد المفسرين، عن التفسير المسمى بالعلمي ، قال رحمة الله في تفسير هذه الآية الكريمة : " أي سنظهر لهم دلالاتنا ، وحججنا ، على كون القرآن حقاً ، منزلاً من عند الله عز وجل على رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بدلائل خارجية ، في الآفاق من الفتوحات ، وظهور الإسلام على الأقاليم ، وسائر الأديان ( … ) ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه ، وفيه ، وعليه، من المواد والأخلاط ، والهيئات العجيبة ، كما هو مبسوط في علم (التشريح الدال ، على حكمة الصانع ، تبارك وتعالى) تفسير ابن كثير 7/175. وقال ابن زيد : (آفاق السموات) : نجومها ، وشمسها ، وقمرها ، اللاتي يجرين، وآيات في أنفسهم أيضاً (تفسير الطبري 25/5) . ويصرح ابن كثير بأن هذه الآية تشير إلى بعض الحقائق ، التي يدرسها علم الأحياء ، وعلم التشريح ، وابن زيد من السلف يفسر (الآيات) بعلوم الكون ، بينما كان ابن جرير الطبري لا يلتزم هذا التفسير ، ناً بأن السموات والشمس والقمر ، كانت مشهودة ومعلومة عندهم .وقال الأستاذ النورسي ، دفعاً لبعض الشبه ، في هذه الموضوع : ثم اعلم أن آية: ? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? (البقرة:23).تشير إلى أن أناساً بسبب الغفلة عن مقصود الشارع في إرشاد الجمهور وجهلهم بلزوم كون الإرشاد بنسبة استعداد الأفكار وقعوا في شكوك وريب منبعها ثلاثة أمور ( … ) .
والثاني : أنهم يقولون : إن القرآن الكريم أطلق وأبهم ، في حقائق الخلقة ، وفنون الكائنات، مع أنه مناف لمسلك التعليم والإرشاد .
والثالث : أنهم يقولون إن بعض ظواهر القرآن الكريم أقرب إلى خلاف الدليل العقلي فيحتمل خلاف الواقع وهو مخالف لصدقه .
والجواب وبالله التوفيق : أيها المشككون : اعلموا أن ما تتصورونه سبباً للنقص، إنما هي شواهد صدق ، على سر إعجاز القرآن …. .(/20)
أما الجواب عن الشبهة الثانية : وهو إبهام القرآن ، في بحث تشكيل الخلقة ، على ما شرحته الفنون الجديدة ، فاعلم : أن في شجرة العالم ميل الاستكمال وتشعب منه في الإنسان ميل الترقي ، وميل الترقي كالنواة يحصل نشؤه ونماؤه بواسطة التجارب الكثيرة ، ويتشكل ويتوسع ، بواسطة تلاحق نتائج الأفكار ، فيثمر فنوناً مترتبة ، بحيث لا ينعقد المتأخر ، إلا بعد تشكل المتقدم ، ولا يكون المتقدم ، مقدمة للمؤخر ، إلا بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة . فبناء على هذا السر لو أراد أحد تعليم فن أو تفهيم علم – وهو إنما تولد بتجارب كثيرة – ودعا الناس إليه قبل هذا بعشرة أعصر ، لا يفيد إلا تشويش أذهان الجمهور ووقوع الناس في السفسطة ، والمغالطة .مثلاً : لو قال القرآن : (يا أيها الناس انظروا إلى سكون الشمس وحركة الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة ، لتتصوروا عظمة الخالق) لأوقع الجمهور : إما في التكذيب ، وإما في المغالطة مع أنفسهم ، والمكابرة معها ، بسبب أن حسهم الظاهري أو غلط الحس يرى انبساط الأرض ، ودوران الشمس ، من البديهيات المشاهدة . والحال أن تشويش الأذهان – لا سيما في مقدار عشرة أعصر، لتشهي بعض أهل زماننا – مناف لمنهاج الإرشاد ، وروح البلاغة ، يا هذا، لا تظنن قياس أمثالها ، على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة . إذ الحس الظاهري لما لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الإمكان ، فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها ، لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الإمكان والاحتمال في نظرهم – بحكم غلط الحس – إلى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الإبهام ، والإطلاق ، احتراماً لحسياتهم ، وحفظاً لأذهانهم من التشويش . ولكن مع ذلك أشار القرآن الكريم ، ورمز ، ولوح ، إلى الحقيقة ، وفتح الباب للأفكار ، ودعاها للدخول ، بنصب أمارات وقرائن . فيا هذا ، إن كنت من المنصفين إذا تأملت في دستور (كلم الناس على قدر عقولهم)(15) ورأيت أن أفكار الجمهور ، لعدم استعداد الزمان ، والمحيط ، لا تتحمل ، ولا تهضم التكليف ، بمثل هذه الأمور ، التي إنما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار – لعرفت أن ما اختاره القرآن من الإبهام والإطلاق ، من محض البلاغة ، ومن دلائل إعجازه . أما الجواب عن الشبهة الثالثة : وهو إمالة بعض ظواهر الآيات إلى منافي الدلائل العقلية ، وما كشفه الفن . فاعلم ، أن المقصد الأصلي في القرآن : إرشاد الجمهور ، إلى أربعة أصول هي : إثبات الصانع الواحد ، والنبوة ، والحشر ، والعدالة ، فذكر الكائنات في القرآن: إنما هو تبعي ، واستطرادي للاستدلال ، إذ ما نزل القرآن لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا ، بل إنما ذكر الكائنات للاستدلال بالصنعة الإلهة ، والنظام البديع على صانع النظام الحقيقي جل جلاله. والحال : أن أثر الصنعة . والقصد ، والنظام، يتراءى في كل شيء . وكيف كان التشكل فلا علينا إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي . فحينئذ ما دام أنه يبحث عنها للاستدلال ، وما دام أنه يجب كونه معلوماً قبل المدعي ، وما دام أنه يستحسن وضوح الدليل – كيف لا يقتضي الإرشاد والبلاغة ، تأنيس معتقداتهم الحسية ، ومماشاة معلوماتهم الأدبية ، بإمالة بعض ظواهر النصوص إليها ، لا ليدل عليها ، بل من قبيل الكنايات ، أو مستتبعات التراكيب ، مع وضع قرائن وإمارات تشير إلى الحقيقة لأهل التحقيق .مثلاً لو قال القرآن الكريم في مقام الاستدلال : أيها الناس ، تفكروا في سكون الشمس مع حركتها الصورية ، وحركة الأرض اليومية والسنوية ، مع سكونها ظاهراً ، وتأملوا في غرائب الجاذب العمومي ، بين النجوم ، وانظروا إلى عجائب الكهرباء ، وإلى الامتزاجات غير المتناهية بين العناصر السبعين ، وإلى اجتماع ألوف ألوف الحيوانات في قطرة ماء ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ) لكان الدليل أخفى وأغمض ، وأشكل ، بدرجات من المدعي . وإن هذا لمناف لقاعدة الاستدلال ، ثم لأنها من قبيل الكنايات ، لا يكون معانيها ، مدار صدق وكذب . ألا ترى أن لفظ (قال) ألفه يفيد خفة ، سواء كان أصله واواً أو قافاً أو كافاً .الحاصل:بما أن القرآن الكريم نزل لجميع البشر في جميع الأزمان،فالنقط الثلاث المذكورة من دلائل إعجازه (إشارات الإعجاز 180 – 182).ويرى الأستاذ سعيد النورسي في قصص معجزات الأنبياء عليهم السلام إشارات إلى المكتشفات العلمية الحديثة أيضاً .ومعلوم أن القصص القرآنية ليست مسوقة لتعليم الحوادث التاريخية فقط . بل لها عدة أغراض ، من بينها الإشارة والإرشاد إلى بعض الأمور الدنيوية . يقول الأستاذ : كما أن قصص معجزات الأنبياء ترشد إلى الاستفادة من كمالات الأنبياء الدينية ، في نفس الوقت ترشد إلى الاستفادة من معجزاتهم المادية أيضاً . نعم حقق الله هذه الخوارق على أيديهم معجزة، إلا أن هذه القصص تثير في الناس الميل إلى محاكاتهم . لأن الله لم يحقق هذه المعجزات بدون سبب ، بل جعل لها وسائل مادية. فمثلاً جعل(/21)
الريح سبباً لسير سليمان عليه السلام مسيرة شهرين . يريد القرآن أن يقول من خلال هذه القصص : (فاعتبروا يا أولي الأبصار) لكم في معجزات الأنبياء عبرة من عدة وجوه ، فاستفيدوا من كل هذه الوجوه ، حاولوا وسيروا في هذا الطريق ، لعلكم تستطيعون أن تحققوا ، عن طريق سنن الله الكونية ، ما تشبه هذه المعجزات ، التي أعطاها الله لأنبيائه معجزة خارقة . ونستطيع أن نقول : إن بعض الكمالات المادية الدينية ، والخوارق الدنيوية أهديت إلى البشرية – مثل الكمالات الدينية – على يد الأنبياء ، فمثلاً السفينة ، أهديت إلى البشرية على يد نوح عليه السلام . ويقول الأستاذ النورسي : "ثم إني– نظراً إلى :? وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ? (الأنعام:59) ، ومستنداً إلى أن التنزيل كما يفيدك بدلالاته و نصوصه ، كذلك يعلمك بإشاراته ورموزه – لأفهم من إشارات أستاذية إعجاز القرآن ، في قصص الأنبياء، ومعجزاتهم : التشويق والتشجيع ، للبشر على التوسل ، للوصول إلى أشباهها ، كأن القرآن ، بتلك القصص ، يضع إصبعه على الخطوط الأساسية ، ونظائر نتائج نهايات مساعي البشر ، للترقي في الاستقبال ، الذي يبني على مؤسسات الماضي ، الذي هو مرآة المستقبل . وكأن القرآن الكريم يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع ، قائلاً له : " اسع واجتهد في الوسائل ، التي توصلك إلى أشباه بعض تلك الخوارق " .أفلا ترى أن الساعة والسفينة أول من أهداهما للبشر ، يد المعجزة . وإن شئت فانظر إلى ? وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا? (البقرة: 31). وإلى: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ? (سبأ:10). وإلى: ? وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ? (سبأ:12). أي النحاس. وإلى: ? فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا? (البقرة:60). وإلى: ?وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ? (آل عمران:49). ثم تأمل فيما مخضه تلاحق أفكار البشر ، واستنبطه من ألوف فنون، ناطق كل منها – بخواص ، وأسماء – نوع من أنواع الكائنات ، حتى صار البشر مظهر : ? وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ...? (البقرة:31) ، ثم فيما استخرجه فكر البشر ، من عجائب الصنعة ، من السكة الحديدية ، والآلة البرقية ، وغيرهما بواسطة تليين الحديد ، وإذابة النحاس ، حتى صار مظهر: ?وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ? (سبأ:10) الذي هو أم صنائعه. وفيما أفرخته أذهان البشر ، من الطائرات ، التي تسير في يوم شهراً حتى كاد أن يصير مظهر : ?... غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ? (سبأ:12)، وفيما ترقى إليه سعي البشر من اختراع الآلات ، والعصى ، التي تضرب في الأرض الرملة اليابسة ، فتفور منها عين نضاخة ، وتصير الرملة روضة ، حتى أوشك أن يصير مظهر :?... فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ... ? (البقرة:60) وفيما أنتجه تجارب البشر ، من خوارق الطب ، التي طفق : أن تبرئ الأكمه والأبرص والمزمن بإذن الله ، وترى مناسبة تامة تصحح لك أن تقول تلك عبرها ومحاكاتها وذكرها يشير إليها ، ويشجع عليها …وكذا انظر إلى قوله ? يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا ? (الأنبياء:69). وإلى: ?لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? (يوسف:24) أي صورة يعقوب عليه السلام عاضاً على إصبعه في رواية(16) وإلى :? وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ?(يوسف:94) وإلى :?... يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ...? (سبأ:10) وإلى : ?...وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ...? (النمل:16) وإلى : ?... أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ...? (النمل:40) وأمثالها . ثم تأمل فيما كشفه البشر، مرتبة النار التي لا تحرق ، ومن الوسائط التي تمنع الإحراق ، فيما اخترعه من الوسائل ، التي تجلب الصور ، والأصوات ، من مسافات بعيدة ، وتحضرها إليك قبل أن يرتد إليك طرفك ، وفيما أبدعه فكر البشر ، من الآلات الناطقة بما تتكلم ، وفي استخدامه لأنواع الطيور ، والحمامات، وقس عليها ، لترى بين هذين القسمين ملاءمة يحق بها أن يقال : (في هذه رموز إلى تلك) إشارات الإعجاز 253 – 255 .
تتلخص من هذه المطالعات الأسس التالية :
1)إن القرآن الكريم ، هو كلام الله تعالى : وكلامه تعالى جاء من العلم الإلهي، الذي يحيط بكل شيء علماً . ولهذا السبب كانت معاني كلام الله واسعة، بدرجة لا يقاس بها كلام البشر ، الذي يستند إلى علم محدود .
2)إن القرآن ذاته يصرح ،بأن قسماً من حقائقه ،ستظهر بعد ،زمن التنزيل.
3)القرآن الكريم لا يتجه بالخطاب إلى جيل ومكان معينين،بل إلى البشريةكافة،في كل زمان ومكان،إلى قيام الساعة(/22)
4)إن محكمات القرآن من عقيدة ، أو عبادة ، أو عمل ، أو أحكام ،مفهومة تماماً بالتفصيل ،منذ عهد السلف الصالح ، وهذه المعاني الأساسية للقرآن لا تتغير ،ولا تتبدل ، بمرور الزمان.ولكن القرآن دون هذه المقاصد الأساسية . ويحتوي على معاني ثانوية،من المتشابهات الإضافية،معاني هذه المتشابهات تفهم على وجه الكمال والتفصيل،بعد زمن التنزيل بقرون.وقد يكون فهم سلف الأمة من بعض هذه المتشابهات الإضافيةفهماً ظاهرياً إجمالياً .
5)حكمة الله الحكيم المطلق أرادت أن يحوي كتابه على المتشابهات بأنواعها وبفضل هذه المتشابهات احتوى القرآن الكريم على معان لا تعد ولا تحصى. " لم يرد الله أن يكلف عباده في مثل هذه المسائل بقضية معينة ، بل فتح الله باب الاجتهاد للعقل البشري ليسلكه الإنسان ويحقق به نعمة الله عليه في الإدراك والفهم "محمود شلتوت ،تفسير القرآن الكريم ،القاهرة 67 – 68. " إن المتشابهات لا تعني إبهاماً كلياً بدون معنى ، كما يظنه بعض الناس . هذا الظن خطأ كبير . المتشابه ليس مهملاً ، ولا كلاماً بدون معنى ، بل لاحتوائه على معان كثيرة لا يمكن لنا أن نتبين المعنى المراد الذي يبدو مبهماً ، إنما يبدو مبهماً لأن الحقائق المحيطة التي تفيدها المتشابهات ، لا يستطيع أن يستوعبها فكر البشر . وإن المتشابه في الحقيقة : هو البيان الذي يحتوي على مجموع وجوه البيان:من حقيقة ومجاز ، وصريح وكناية ، وتمثيل وتحقيق ، وظاهر وخفي . ومن أجل ذلك وصفنا المتشابه بأنه (المعلوم المجهول)آنفاً . ومعلوم أن الإبهام في الكلام في بعض المواقع يعد من أثمن وجوه البلاغة ، كما أن كل شخص لا يكون أهلاً لكل خطاب ، وكذلك لا تستطيع القدرة البشرية على العموم أن تتحمل أفهام وتبليغ كلية العلم المحيط الإلهي "محمد حمدي باوزير، المفسر التركي المعاصر في تفسيره الثمين باللغة التركية المسمى بـ (حق ديني قرآن دلي) استانبول، 1935، 1/48 .وهكذا نستطيع أن نشبه بعض المتشابهات القرآنية بمصباح بلوري (كريستال ) ضوءه لا يتغير في الأصل ، ولكن بسبب الزوايا الكثيرة التي توجد على زجاجات البلور تتغير الألوان والأشعة،وتزداد بحسب الزوايا ، أي بحسب اختلاف نظر الناس ، وهذه الإشعاعات تتجدد دوماً .
6)إن لمعاني القرآن طبقات متعددة ،تحت معناه الصريح . والمعنى الإشاري والرمزي من هذه الطبقات . وكذا المعنى الإشاري أيضاً هو كلي له جزئيات وأفراد في كل عصر . وهذه الجزئيات ، فضلاً عن أن تنقص من قدر القرآن ، تخدم وتقوي إعجازه وبلاغته (سعيد النورسي،شعاعلر ،644 ).وليس معنى هذا أن القرآن مبهم تستطيع أن تجره إلى حيث تشاء ، بل معناه : أن لبعض الآيات القرآنية معاني متداخلة ، ( مثل الحلقات ، التي تشاهد على سطح الماء إثر غمس شيء فيه " بدون تغير المعنى الأصلي ، فالآية تحتوي على سطح ، وقعر ، وجذور ، كثيرة . أسلوب الآية يشمل كل هذه العناصر . من أجل ذلك يختلف فهم الناس ، بحسب مبلغهم من العلم .
7)قال الله تعالى ، واصفاً للقرآن الكريم :?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ?(النحل:89) وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الشريف : " لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد " (رواه الترمذي في سننه في كتاب فضائل القرآن ، 14)(17) . ولو كان الحق مع الشاطبي والدكتور الذهبي وأمثالهما لانقضت عجائبه ، بانحصار أنواع معانيه . والآثار كثيرة في : أن القرآن ذو وجوه كثيرة . وكتب التفاسير التي تعد بآلاف المجلدات ، باختلافاتها ، واتفاقاتها ، تشهد بكثرة المعاني هذه . وكتب محمد رشيد رضا عندما تصدى لشرح إعجاز القرآن تحت عنوان . إعجاز القرآن بتحقيق مسائل كانت مجهولة للبشر) ما نصه :" الوجه السابع : اشتمال القرآن ، على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية ، التي لم تكن معروفة في عصر نزوله ، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين ، والمحققين ، من طبيعة الكون ، وتاريخ البشر ، وسنن الله في الخلق (وبعد أن ذكر أمثلة متعددة لهذا ختم قائلاً) : فكتابه تعالى مظهر لقوله 55/29 ? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ?(الرحمن:29) تفسير المنار 1/210 – 212 .
8)ورغم أن المقصود الأسمى من القرآن الكريم هو:الهدايةوالإرشاد، ا أنه مع ذلك حوى أصول الإعجاز:التشريعي ،والنفسي،والبياني ،والعلمي،الدكتور عبدالله شحاته ، تفسير الآيات الكونية ، القاهرة 1400/1980 ، ص 22 .(/23)
9)لا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس ، لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ، ولكن معانيه تطابق الحقائق ، وكل ما كان من الحقيقة في علم من العلوم وكانت الآية لها تعلق بذلك ، فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه ، وذلك يختلف باختلاف المقامات ، ويبنى على توفر الفهم ، وشرطه : أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ العربي ، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل ، ولا يكون تكلفاً بيناً، ولا خروجاً عن المعنى الأصلي ؛ حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية،كما قال محمد الطاهر بن عاشور.
10)إن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة ، وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس ، في عصور انتشار العلوم في الأمة .
11)إن عدم تكلم السلف عليها : إن كان فيما ليس راجعاً إلى مقاصد القرآن فنحن نساعد عليه ، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات ،بل قد بينوا ،وفصلوا ،وفرعوا ،في علوم عنوا بها ،ولا يمنعنا ذلك أن نقفي على آثارهم،في علوم أخرى،راجعة لخدمة المقاصد القرآنية،كما قال المفسر )الطاهر بن عاشور) رحمه الله
وهذا المسلك المعتدل الذي يقول : إن القرآن الكريم أتى بأصول عامة ، لكل ما يهم الإنسان معرفته ، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً ، وترك الباب مفتوحاً لأهل الذكر ، من المشتغلين بالعلوم المختلفة ، ليبينوا للناس جزئياتها ، بقدر ما أوتوا منها، في الزمان الذي هم عائشون فيه – سلكه عدد من العلماء ، في العصر الحديث مثل : الطاهر بن عاشور ، وسعيد النورسي ، ومحمد رشيد رضا : انظر على سبيل المثال : تفسير قوله تعالى: ? خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ٍ? (الأعراف:54) في تفسير المنار ، 8/445-448 .وتفسير قوله تعالى : ? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ?( البقرة:23) في تفسير المنار ، 1/210 – 212 .والأستاذ المراغي : انظر على سبيل المثال :تفسير قوله تعالى :?... وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ?(الحجر:19) في تفسير المراغي ، 14/15 . وتفسير قوله تعالى ?وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? (يس:40) في تفسير المراغي ، 23/10 –11. وتفسير قوله تعالى: ? يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ? (الزمر:5) في تفسير المراغي ، 23/145 . والأستاذ الدكتور / محمد عبد الله دراز انظر قوله تعالى ? فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) ?( الطارق:5-6) يخبر عن منشأ خلقة الإنسان. وقوله? فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ? ( الحج:5) وقوله ? ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا? ( المؤمنون:14) يخبران عن صفات الجنين في بطن أمه . وقوله :?وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ?(الأنبياء:30) يخبر بأن كل الحيوانات من أصل مائي . وقوله تعالى? اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ?( الروم:48) يخبر عن تكون المطر . وقوله تعالى ? يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ?(الزمر:5) يخبر عن كروية الأرض . وقوله تعالى ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا? (الرعد:41) و(الأنبياء : 44) يخبران بأن الأرض كروية إلا أن كرويتها ناقصة في أطرافها.وقوله تعالى?وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا?( يس:38) يخبر بأن الشمس تجري إلى نقطة معينة . وقوله تعالى(/24)
? وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ?( الأنعام:38) يخبر بأن طوائف الحيوانات تعيش حياة جماعية مثل الإنسان ولا سيما النحل وقوله تعالى: ? سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ... ? (يس:36) و(الذاريات: 49) يخبران بأن الله خلق كل شيء أزواجاً . وقوله تعالى ? وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ?( الحجر:22) يخبر عن التلقيح بواسطة الرياح وما إلى ذلك. وبعد أن انتقد الدكتور دراز الإسراف في التوفيق بين النص القرآني وبين النتيجة العلمية ، تحدث عن فائدة التفكر في الآفاق وفي الأنفس إلى أن قال: نحن لا نفسر نهائياً الآيات المذكورة بالمكتشفات المشار إليها ، ولكننا نشاهد التطابق المدهش بين النص القرآني وبين المكتشفات العلمية الناتجة عن بحوث المتخصصين المتلاحقة خلال القرون الكثيرة "وهذا لا يمكن أن يكون صدفة ، بل لابد من أن تكون معجزة.( المدخل في القرآن الكريم، ص 144) .والأستاذ / محمد المدني ، و الشيخ محمود شلتوت ، والأستاذ الشهيد حسن البنا(18) ،والأستاذ سيد قطب.قال الأستاذ الشهيدسيد قطب عند تفسير قوله تعالى?يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ? (الزمر:5) : ( وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كشف حديثاً عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريص على أن لا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان ) … مع هذا الحرص ، فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض … إلخ ) في ظلال القرآن ، 24/12 – 13 .وعند قوله تعالى ? وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ? ( الذاريات:49) تلكم عن عموم الزوجية بما فيها ززوجية الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء موجب وسالب وفي ظلال القرآن 27/25.وعند قوله تعالى ? وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ? (فصلت:10) تكلم الأستاذ عن تكون السموات والأرض وعن تكون القشرة الأرضية بالتفصيل ونقل أشياء عن الكتب العلمية الحديثة( في ظلال القرآن 24/114-119).وانظر أيضاً على سبيل المثال:تفسير قوله تعالى?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ?(الأعراف:172) في ظلال القرآن 9/98 . وتفسير قوله تعالى ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ?(البقرة:183) في ظلال القرآن 2/74- وتفسير قوله تعالى? ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ? ( المؤمنون:14) في ظلال القرآن 18/15-16 . وتفسير قوله تعالى ? يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ?(الطارق:7) في ظلال القرآن30/199 .وتفسير قوله تعالى? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ? ( البقرة:173) في ظلال القرآن 2/57.والعلامة الطباطبائي صاحب الميزان . انظر تفسير قوله تعالى : ? وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ? (الحجر:22) في تفسير الميزان 12/146. وتفسير قوله تعالى : ? وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ? (يس:42) في تفسير الميزان 17/ 92 . وتفسير قوله تعالى: ? سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ? (يس:36) في تفسير الميزان 17/87 . وتفسير قوله تعالى? أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا? )الأنبياء:30)في تفسير الميزان 14/277 . وتفسير قوله تعالى ? وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ?( الأنبياء:31) في تفسير الميزان 11/288. وقوله تعالى? وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ? (يس:39) تفسير الميزان 17/90قوله تعالى ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ?(الذاريات:47) تفسير الميزان 18/382 وقوله تعالى? وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا?( يس:38)في تفسير الميزان 17/89.
(1) يعني ماذكره سابقا في كتابه الموافقات – لم يصح.(2) انظر التفسير و المفسرون للدكتور الذهبي.(3) بلى: لكن هذا شئ , وكون القرآن الكريم مصدرا مباشرا للحقائق العلمية المفصلة شئ آخر ؟ "تلك وجهة نظر الذهبي, رحمه الله" المراجع د. إبراهيم الخولي "الهيئة".(4) دعوة القرآن للنظر و الاستدلال ميزة , تفوق بها وتميز من سائر الكتب السماوية , لكن إدخال هذا تحت الإعجاز العلمي ربما كان غير دقيق؟ " المراجع د.إبراهيم الخولي "الهيئة".(5) تفصى من الشئ , وعنه: تخلص منه. المعجم الوسيط ص. 692.(/25)
(6) هو في أوائل فضائل القرآن حديثة رقم 4981 وأيضا في الاعتصام باب 2 حديث رقم 7274. وفي صحيح مسلم في كتاب الإيمان باب 69 حديث 239/152, ورواه النسائي وفي التفسير وفي فضائل القرىن كما قال: المزي في الطراف, وكلهم عن أبي هريرة- " الهيئة".(7) لست ادري: ما الذي ينتهي إليه النظر, وبرهان التمانع يعرفه المناطقة مثلا, وعرفه أرسطو, وتحت الجاحظ وابن المعتز عما سمى: بالمذهب الكلامي؟ "المراجع د. إبراهيم الخولي " الهيئة".(8) السى: بسين مهملة مكسورة وتحية مشددة: النظير والمثل. لسان العرب جـ 14 ص 411- 412.(9) لكن السؤال الآن : ما قيمة هذا الذي حشوا به كتبهم من قواعد العلوم الحكمية وما إليها؟ وما مصيره في نظر العلم اليوم؟ "المراجع د. إبراهيم الخولي " الهيئة".(10) ليسوا السلف, وإنما ورد هذا الوصف في حديث الحارث العور عن علي- رضي الله عنه باسناد ضعيف. يرفعه للنبي صلي الله عليه وسلم.. أنظر : التاج الجامع للأصول. كتاب فضائل القرآن, وسنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن.(11) هذه الجملة من حديث طويل رواه عمرو بن الأحوص عن النبي صلي الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع, رواه ابن ماجه في المناسك في باب 76 حديث رقم 3056- "الهيئة".(12) الميثولوجيا: الأساطير.
(13) سوزلر: مطبعة باستانبول.(14)حاشية: فإن قلت : إن القرآن وكذا مفسره(أعني الحديث النبوي) إنما أخذ من كل فن فذلكة, وإحاطة فذلكات كثيرة ممكنة لشخص؟ قيل لك : إن الفذلكة بحسن الإصابة في موقعها الماسب,واستعمالها في أرض منبتة, مع أمور مرموزة, غير مسموعة- قد أشرنا إلهيا في النكتة الثانية- تشف كالزجاجة عن ملكة تامة, في ذلك الفن , واطلاع تام في ذلك العلم, فتكون الفذلكة في حكم العلم, ولا يمكن لشخص أمثال ذلك.(15)كذا قال الباحث,ولكن لم نعثر عليع بهذا اللفظ في كتاب الحديث,وإنما ورد بلفظ( أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا, وعزاه ابن حجر لمسند الحسن بن سفيان عن ابن عباس بلفظ" أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم " قال: وسنده ضعيف جدا, وفي صحيح البخاري في كتاب العلم باب 49 عن علي موقوفا حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله و رسوله" حديث رقم 127.وفي مقدمة صحيح مسلم في باب 3 عن ابن مسعود قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلاكان لبعضهم فتنة, ملخصا عن العجلوني حديث 592-الهيئة.(16)ذكره السيوطي في تفسيره فقال:أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس- وفيه – حتى رأى برهان ربه, جبريل عليه السلام, في صورة يعقوب عاضا على إصبعيه فذكره. وقد ذكر الطبري في تفسيره روايات كثيرة, بألفاظ مختلفة, في كلها مقال, وأقل ماقيل: كلها مضطربة- الهيئة.(17)رواه الترمذي في أبواب فضائل القرآن في باب 14 حديث رقم 2906, ورواه الدرمي في سننه 2/435 كلاهما عن الحارث عن علي. وفي إسناد هذا الحديث: أبو المختار الطائي وابن أخي الحارث العور وهما من المجاهيل, والحارث العور فيه كلام مشهور, وليس له متابع سليم من المقال وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة نقلا عن الصنعاني موضوع, وقال المعلمي في الهامش: سنده ضعيف ومتنه حسن فلا يتجه الحكم بوضعه- راجع صفحة 296, وقال الألباني ضعيف- راجع ضعيف الجامع.تنبيه: في الترمذي "ولا يخلق على كثرة الرد, ولاتنقض عجائبه" يعني خلاف ماذكره المصنف- الهيئة.(18)انظر إلى كتاب (تفسير الآيات الكونية للدكتور شحاتة, ص 9).
خلاصة بحث التفسير العلمي للقرآن بين المجيزين والمانعين
للشيخ محمد الأمين ولد الشيخ
ينقسم أعلامنا الفضلاء في (موضوع التفسير العلمي للقرآن) إلى فريقين : فريق يجيز التفسير العلمي للقرآن ، ويدعو إليه ، ويرى فيه فتحاً جديداً وتجديداً في طرق الدعوة إلى الله،وهداية الناس إلى دين الله.وفريق يرى في هذا اللون من التفسيرخروجاً بالقرآن عن الهدف الذي أنزل من أجله،وإقحاماً له في مجال متروك للعقل البشري،يجرب فيه، ويصيب ويخطئ.لذلك كان لا بد من بحث القضية ، ولا بد من استعراض الأدلة ، ومناقشة حجج الفريقين المجيزين والمانعين .
المجيزون للتفسير العلمي للقرآن الكريم :
أما مجيزوا التفسير العلمي وهم الكثرة ، فيمثلهم الإمام محمد عبده ، وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ عبد الحميد بن باديس ، والشيخ محمد أبو زهرة، ومحدث المغرب أو الفيض أحمد بن صديق الغماري ، ونستطيع أن نعد منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، صاحب أضوء البيان في تفسير القرآن بالقرآن .وهؤلاء الذين يتبنون التفسير العلمي للقرآن يضعون له الحدود التي تسد الباب أمام الأدعياء الذين يتشبعون بما لم يعطوا .
ومن هذه الحدود :
1-ضرورة التقيد بما تدل عليه اللغة العربية فلا بد من :
أ) أن تراعى معاني المفردات كما كانت في اللغة إبان نزول الوحي .(/26)
ب) أن تراعى القواعد النحوية ودلالاتها .
ج) أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها.خصوصاً قاعدة أن لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية . 2- البعد عن التأويل في بيان إعجاز القرآن العلمي .
3- أن لا تجعل حقائق القرآن موضع نظر ، بل تجعل هي الأصل : فما وافقها قبل وما عارضها رفض .
4- أن لا يفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم لا بالفروض والنظريات التي لا تزال موضع فحص وتمحيص . أما الحدسيات والظنيات فلا يجوز أن يفسربها القرآن،لأنها عرضةللتصحيح والتعديل إن لم تكن للإبطال في أي وقت.
المانعون من التفسير العلمي
أما المانعون من التفسير العلمي فيمثلهم في هذا العصر شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت ، والأستاذ سيد قطب ، ود . محمد حسين الذهبي .
وهؤلاء المانعون يقولون :
1- إن القرآن كتاب هداية ، وإن الله لم ينزله ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ، ودقائق الفنون ،وأنواع المعارف .
2-إن التفسير العلمي للقرآن يعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان ،والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير.
3-إن التفسير العلمي للقرآن يحمل أصحابه والمغرمين به على التأويل المتكلف الذي يتنافى مع الإعجاز ،ولا يسيغه الذوق السليم .
4-ثم يقولون : إن هناك دليلاً واضحاً من القرآن على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون ،وهذا الدليل هو ما روي عن معاذ أنه قال يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة . فما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ، يم ينقص حتى يعود كما كان . فأنزل الله هذه الآية : ? يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...?(البقرة:189) .
ولكن هل تكفي هذه الحجج لرفض التفسير العلمي ؟
· إن كون القرآن كتاب هداية لا يمنع أن ترد فيه إشارات علمية يوضحها التعمق في العلم الحديث ، فقد تحدث القرآن عن السماء ، والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، وسائر الظواهر الكونية . كما تحدث عن الإنسان ، و الحيوان والنبات .
· ولم يكن هذا الحديث المستفيض منافياً لكون القرآن كتاب هداية ، بل كان حديثه هذا أحد الطرق التي سلكها لهداية الناس .
· أما تعليق الحقائق التي يذكرها القرآن بالفروض العلمية فهو أمر مرفوض ، وأول من رفضه هم المتحمسون للتفسير العلمي للقرآن .
· أما أن هذا اللون من التفسير يتضمن التأويل المستمر ، والتمحل ، والتكلف، فإن التأويل بلا داع مرفوض ، وقد اشترط القائلون بالتفسير العلمي للقرآن شروطاً من بينها أن لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة التي تمنع من إرادة الحقيقة .
أما الاستدلال بما ورد في سبب نزول الآية : ? يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ? فهو بحاجة إلى أن يثبت وإلا فهو معارض بما رواه الطبري في تفسيره عن قتادة في هذه الآية: قالوا سألوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم جعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون ? هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ...? فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدة نسائهم ومحل دينهم في أشياء والله أعلم بما يصلح خلقه .
وروى عن الربيع وابن جريج مثل ذلك . ففي هذه الروايات التي ساقها الطبري(1)، إن السؤال هو : لم جعلت هذه الأهلة؟ وليس السؤال ما بال الهلال يبدوا دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ثم ينقص . ولذلك فإنه لا دليل في الآية على إبعاد التفسير العلمي .
والخلاصة :
· أن التفسير العلمي للقرآن مرفوض إذا اعتمد على النظريات العلمية التي لم تثبت ولم تستقر ولم تصل إلى درجة الحقيقة العلمية .
· ومرفوض إذا خرج بالقرآن عن لغته العربية .
· ومرفوض إذا صدر عن خلفية تعتمد العلم أصلاً وتجعل القرآن تابعاً .
· وهو مرفوض إذا خالف ما دل عليه القرآن في موضع آخر ، أو دل عليه صحيح السنة .
· وهو مقبول بعد ذلك إذا التزم القواعد المعروفة في أصول التفسير من الالتزام بما تفرضه حدود اللغة ، وحدود الشريعة ، والتحري والاحتياط الذي يلزم كل ناظر في كتاب الله .
· وهو – أخيراً – مقبول ممن رزقه الله علماً بالقرآن وعلماً بالسنن الكونية لا من كل من هب ودب ، فكتاب الله أعظم من ذلك .
· وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
التوصيات الصادرة عن المؤتمر
مقدمة :(/27)
تم – بعون الله تعالى وتوفيقه – عقد المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مدينة إسلام آباد بباكستان في الفترة من 25-28 من صفر 1408هـ الموافق 18-21 أكتوبر 1987م ، وذلك تحت الرعاية المشتركة للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد ، وهيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، ورابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة .وقد اشترك في هذا المؤتمر 228 عالماً ينتمون إلى 52 دولة كما شارك في هذا المؤتمر 160 مراقباً . ولقد قدم للؤتمر 78 بحثاً علمياً غطت 15 تخصصاً علمياً ، تم اختيارها من بين أكثر من 500 بحث وردت للجنة المنظمة للمؤتمر من كل أنحاء العالم . ولقد تمت مناقشة تلك البحوث عبر ست جلسات عامة بالإضافة إلى عدد من جلسات العمل المتخصصة . وتم استبعاد ستة بحوث لعدم حضور أصحابها لإلقائها بالمؤتمر . والإعجاز العلمي يعني تأكيد الكشوف العلمية الحديثة الثابتة والمستقرة للحقائق الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة بأدلة تفيد القطع واليقين باتفاق المتخصصين . وتهدف دراسته وإجراء البحوث فيه إلى إثبات صدق محمد صلَّى الله عليه وسلَّم فيما جاء به من الوحي بالنسبة لغير المؤمنين ، وتزيد الإيمان وتقوى اليقين في قلوب المؤمنين وتكشف لهم عن عجائبه وأسراره ، وتعينهم على فهم حكمه وتدبر مراميه . ويعتمد الإعجاز العلمي على الحقائق المستقرة التي تثبت بأدلة قطعية ، ويشهد بصحتها جميع أهل الاختصاص ، دون الفروض والنظريات . كما يجب أن يدل نص الكتاب أو السنة على الحقيقة العلمية بطريق من طرق الدلالة الشرعية ، وفقاً لقواعد اللغة ومقاصد الشارع وأصول التفسير ، فإن خرجت الحقيقة العلمية المدعاة عن جموع معاني النص لم تكن حقيقة في الواقع ونفس الأمر . ويجب أن يكون الباحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة من العلماء المشهود لهم بالتأهيل العلمي في مجال تخصصه ، إضافة إلى قدرته على فهم النصوص الشرعية من مصادرها ، والاستنباط منها ، وفق قواعد اللغة وأصول التفسير وعليه أن يستشير المتخصصين في العلوم الشرعية فيما يخفى عليه وجه الإعجاز فيه . ويستحسن أن تقوم بهذه البحوث مجموعات عمل تجمع الخبراء في العلوم الكونية والشرعية .وتقوم لجان الخبرة ومجموعات العمل التي تجمع المفسرين والعلماء الكونيين بإعداد البحوث وإجراء الدراسات في مجال الإعجاز العلمي حتى توجد المؤسسات التعليمية التي تخرج العالم بمعاني التنزيل وحقائق العلم .
توصيات المؤتمر
التوصية الأولى :
دراسة الإعجاز العلمي في الجامعات :
يوصي المؤتمر الجامعات والمؤسسات التعليمية بالعناية بقضايا الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مناهجها الدراسية ، والعمل على إعداد وتدريس مادة جديدة في كل كلية أو معهد تعنى بدراسة آيات وأحاديث الإعجاز العلمي الداخلة في تخصص هذه الكلية أو المعهد،وذلك لربط حقائق العلم بالوحي، تعميقاً للإيمان وتقوية لليقين في قلوب الدارسين .
التوصية الثانية :
إعداد تفسير ميسر :
يوصي المؤتمرهيئة الإعجازالعلمي في القرآن والسنة،بالتعاون والتنسيق بين الجامعات ومراكزالبحوث والهيئات والمنظمات الإسلاميةفي البلاد الإسلامية،بإعداد تفسيرميسرللقرآن الكريم يعني بوجه خاص الآيات الكونية الواردة فيه
التوصية الثالثة :
ترجمة معاني القرآن الكريم :
يوصي المؤتمر هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بالتعاون والتنسيق بين الجامعات ومراكز البحوث والهيئات والمنظمات الإسلامية بإعداد ترجمة دقيقة لمعاني القرآن الكريم ، مصحوبة بتعليقات وافية عن الآيات الكونية الواردة فيه ، لتعين الباحثين من غير الناطقين بالعربية في مجال الإعجاز العلمي في القرآن .
التوصية الرابعة :
إصدار مجلة علمية :
يوصي المؤتمر هيئة الإعجاز العلمي بإصدار مجلة علميةذات مستوى عالمي رفيع باللغتين العربيةوالإنجليزيةتعنى بنشر البحوث المتخصصةفي مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنةبعدإجازتها من المتخصصين في العلوم الإسلاميةوعلوم الكون
التوصية الخامسة :
تشجيع بحوث الإعجاز :
يوصي المؤتمر الجامعات ومراكز البحوث في البلاد الإسلامية بتشجيع البحوث والدراسات في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، وتخصيص المنح الدراسية لطلاب الدراسات العليا ، ورصد الجوائز المالية لغيرهم من الباحثين في هذه المجال
التوصية السادسة :
مراكز بحوث الإعجاز العلمي :
يوصي المؤتمر الجامعات والمؤسسات العلمية والهيئات والمنظمات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية في العالم الإسلامي بإنشاء مراكز متخصصة لبحوث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، كما يوصي الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد بأن تبادر بإنشاء أول مركز لهذا الغرض .
التوصية السابعة :
تمويل نشاط الهيئة :(/28)
يناشد المؤتمر الحكومات والهيئات والمؤسسات المالية ورجال الأعمال في البلاد الإسلامية أن يقدموا الدعم المالي لهيئة الإعجاز العلمي ومراكز البحوث التي تنشئها لتمكينها من تمويل نشاطاتها تحقيقاً للهدف الذي قامت من أجله من عقد المؤتمرات والندوات وحلقات البحث،وإعداد البحوث والدراسات التي تعمق الإيمان وتقوي اليقين في قلوب المؤمنين وتخاطب غيرهم بلغة العصرالتي يحتكمون إليها في قبول الإيمان،قياماً بواجب الأمةفي تبليغ دعوةالإسلام بالحجةوالدليل والبرهان.
التوصية الثامنة :
الدعوة للبحوث العلمية الأصلية :
يوصي المؤتمر هيئة الإعجاز العلمي وغيرها بالاهتمام بعقد الندوات المتخصصة وحلقات البحث ، وتكوين مجموعات العمي ولجان الخبرة ، لتطوير البحوث في مجال الإعجاز العلمي، ووضع خطة متكاملة لها توزع على الجامعات والمراكز البحوث في داخل البلاد الإسلامية وخارجها تمهيداً لعقد المؤتمرات الدورية التي تعرض فيها هذه البحوث الجديدة .
التوصية التاسعة :
البحوث العلمية والكشوف الحديثة :
يدعو المؤتمر الجامعات ومراكز البحوث في البلاد الإسلامية والعلماء المسلمين في العالم، إلى التعاون على إعداد خطة بحوث متكاملة في المجالات العلمية المختلفة والعمل على تنفيذها بالتعاون والتنسيق فيما بينهما ، امتثالاً لدعوة القرآن الكريم للمسلمين إلى البحث والنظر والتدبر في آيات الله في آفاق الكون وفي النفس لاكتشاف الحقائق العلمية والسنن الكونية واستخدامها في توفير سبل القوة وأسباب العزة للمسلمين ، وانتشالهم من التبعية الكاملة لغيرهم في مجال العلوم والتكنولوجيا.كما يوصي المؤتمر الحكومات الإسلامية باتخاذ الخطوات العلمية لجذب العقول الإسلامية المهاجرة للمشاركة في تنمية وتقدم مجتمعاتهم كما يوصي الهيئات والمؤسسات المالية ورجال بالمساهمة الأعمال في تمويل مشروعات البحوث التي تقوم بها الجامعات ومراكز البحوث والأفراد .
التوصية العاشرة :
نشر بحوث المؤتمر وإعلان نتائجها :
يوصي المؤتمر هيئة العلمي بنشر بحوث المؤتمر بعد مراجعتها على ضوء المناقشات التي دارت في جلسات المؤتمر وكذلك التقارير والتوصيات باللغتين العربية والإنجليزية واستثمار نتائجها . في الدعوة إلى الإسلام ، تحقيقاً للهدف من هذه البحوث،مع الاستعانةفي ذلك بتقنيات العصرفي الإخراج والعرض ووسائل الإعلام الحديثة في التأثير والإقناع ،كما يوصي المؤتمر الهيئةبإعداد سلسلة من المحاضرات في الجامعات ومعاهد العلم وتكليف العلماءالمهتمين بهذاالموضوع بإلقائها ودعوة الصحف ووسائل الإعلام في البلاد الإسلاميةللمشاركة بإعداد البرامج ونشرالمقالات في هذا المجال .
(1) الطبري المحقق ج 3 ص 554 (الهيئة).(/29)
تأصيل العلوم الاجتماعية
د. حسن علي الساعوري*
أصبحت قضية تأصيل العلوم الاجتماعية من القضايا الأساسية في العالمين العربي والإسلامي فبعد ما يقارب نصف القرن من الزمان أدرك الناس أن ركب الحضارة لا يمكن أن يدرك بتقليد الغرب في التصور، في هذه الورقة تشير إلى كيفية الخروج من أزمة التقليد هذه.
إن الخروج من أزمة التقليد لا يكون إلا بالعودة إلى الجذور ... أعني بذلك ربط العلوم الاجتماعية بالبيئة، أي الثقافة القومية. وقد جاء تناولنا لهذه القضية عبر أربع مراحل. الأولى تعريف العودة إلى الجذور وربط ذلك بأصالة المجتمع، والثانية تحديد المؤشرات العامة لثقافة المجتمع في ما أسميناه وضوح الرؤية، والثالثة بيان المنهجية الواجب اتباعها في التأصيل، وأخيراً محاولة تطبيق وضوح الرؤية ووضوح المنهجية في مجال العلوم الاجتماعية سواء أكان ذلك في مناهج التدريس في الجامعات أم في مراكز الأبحاث العلمية.
الأصالة:
الأصالة في اللغة تعني فيما تعني الثبات وجودة الرأي، وهي كذلك القاعدة والأساس المتين الذي يقوم عليه الشيء (1) فالأصالة كل ما خالف الفروع وهو الذي تعتمد عليه هذه الفروع في النشأة والوجود والاستمرارية، فإذا غاب الأصل أو انعدم بالضرورة ينعدم كل ما تفرع منه أو ما أسس عليه، كيف لا وقد قيل إن الأصل تتبعه الفروع. أما في علم الاجتماع السياسي فالأصالة تتعلق بما يرتبط بحياة الناس وبثقافتهم وبأعرافهم وبتقاليدهم ... أو بأنماط حياتهم العامة في التصور وفي السلوك وكل ما يرتبط بذلك فهو أصيل وعريق. وكلما كانت المفاهيم وأنماط السلوك والمؤسسات والأشياء انعكاساً لثقافة المجتمع اتصفت بالأصالة.
الأصالة هنا تشكِّل بناءً فكرياً متميزاً في مقابلة التيارات الفكرية للثقافات الأخرى، هذا البناء أو النموذج الفكري يشكِّل دائماً النسق المعياري الذي يصوغ جوانب السلوك الاجتماعي، والتباين الذي يمثله هذا النموذج المتميز هو الذي يعطي باعتباره تراكماً ثقافياً على أساس خاص محدد المعالم. وذلك ما يعرف عند كثير من الكُتَّاب بتراث الأمة، أياً كانت هذه الأمة. والمراد به عادة ( ذلك الميراث المعنوي الذي تركه السلف للخلف، والذي يتعلق بجماعة معينة تشعر بأنه يعنيها ويخصها، حيث يصير بالنسبة لها مدخلاً للفهم بحيث تخضع كل القوالب والأشكال الوافدة إلى واقع جديد يكيفها لأوضاعه وأساليبه في الحياة من منطلق اصطباغها بصبغة وثقافة ذلك المجتمع الذي نقلت إليه مما يجعله ـ يغدو أصيلاً في تعامله مع الأمم الأخرى، حيث أنه لم ينغلق على نفسه ولكن أخذ من غيره لنفسه ومن ثم يكون قد شارك مشاركة واضحة في تطوير ما نقل من أدوات أو أشكال فتكون بذلك كأنها من صنعه لا من صنع غيره فتتصف بصفته وتتسم بسمته لا صفة وسمة القوم الذين نشأت أصلاً في بلادهم.
أما إذا قُدِّر أن تعامل الناس مع الأشكال والأساليب الوافدة من غير تصرف ومن غير اعتبار لاختلاف البيئة الجديدة التي نقلت إليها، فالنتيجة من غير شك، تكون الفشل والفشل المركّب. إن استعارة الأشكال والمؤسسات من غير تصرف يعني أنها نقلت إلي بيئة غريبة عنها، ويعني ذلك أيضاً أن الناس الذين بدأوا يستغلونها هم في الواقع لا يحسنون التعامل معها إذ يستحيل عليهم استيعاب الأساليب والأعراف المتعلقة بها (6). فقد نشأت في مجتمع ذي ثقافة مغايرة، ثم تطورت بمرور الزمن ومن جيل إلى جيل حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ذلك المجتمع فهي منه وإليه، ذلك لأن صانعها هو الذي يعرف من غير عناء كيف يتعامل معها وكيف يسخرها لخدمته دون مجازفة أو مخاطرة.. والواقع أن الأشكال والمؤسسات عندما تنقل نقلاً إلى مجتمع آخر فأنه يتعذر معرفة كل أطوارها وكل التجارب التي مرت بها، وبالتالي فلا مناص من أن يعول فيها على أخذ آخر تطور بلغته. ومن ثم يكون من الصعب فهم أساليب الاستغلال والتسخير في البيئة الغريبة. إذن فإن الناس الذين يتعاملون معها لا يكادون يستوعبون أساليبها وأعرافها فتسقط بالتالي في أداء المهمة ويسقطون هو كذلك في بلوغ الغايات التي من أجلها كانت الاستعارة (7). وتصبح النتيجة أنه لا هم استغلوها الاستغلال الأمثل كما هو الحال في بيئتها التي نشأت وتطورت فيها، ولا هم كذلك استوعبوها وكيفوها بما يتناسب وبيئتهم وثقافتهم ثم أخضعوها للمراجعة والتطوير اللذين يكون معهما العطاء الذي تبدو فيه الأصالة.
وعندها يكون الخسران المبين لأن المجتمع المقلد تقليد القرود، إنما يكون قد قفل باب الإبداع والخلق أمام نفسه لينشيء ويطور قوالب وأشكال ومؤسسات بأعراف وأساليب أصيلة تمكنه من بلوغ الغايات فيصبح تقليده، بذلك مسخاً لا يشبه أصله ولا يشبه المجتمعات التي ينقل إليها.(/1)
وقد أشار إلى هذه الظاهرة المفكر الجزائري مالك بن نبي، ولا نجد تفسيراً لها أجود مما قدم حيث قال: ( لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة ـ فهي تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، بحيث لا يمكن أن تطبق عليها دائماً حلول تستقى براهينها من الخارج ...
فجميع أنواع الحلول ذات الصبغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها ... هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد ولكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتي معها، ولا يمكن أن تأتي معها. ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها، أي لا يمكن فصلها عن الذات وتحديد الهوية، على ضوء الخبرة الماضية، وحيث يمثل أصلاً يجتمع عليه أفراد هذه الجماعة ويشعرون عن طريقه بالانتماء. )(2) تلك هي النظم الاجتماعية والقيم السلوكية التي أصبحت راسخة في تكوين النفس الإنسانية، فانطبعت عليها أعرافه وتقاليده حتى بلغت ( مبلغ الطبيعة الثابتة والصفة الموروثة يمارسها المخلوق بالضرورة والطبع. ) (3) على الرغم من أن اجتماعية البشر مكتسبة وليست غريزية. ولكن حدوثها أو وجودها بشكل منتظم عند جميع أفراد المجتمع يجعلها تبدو وكأنها فطرية لا مكتسبة.
هذا التراث تبالغ المجتمعات عادة في احترامه وتقديسه كما توارثوه أباً عن جد وكابر عن كابر. وهذا بالطبع عنصر محافظة لديمومة المجتمع في شكل أعراف وتقاليد ما دام الأشخاص لا يدومون. فالتراث إذن وسيلة من وسائل حفظ النوع الذي فطر الإنسان عليها، ولذلك قالوا ( من شب على شيء شاب عليه ). ( الإنسان ابن العادة ) (4).
ولذلك معناه أن أصالة أي شعب من الشعوب صفة نابعة من دواخله، صفة يتميز بها عن غيره بل ويعرف بها في كثير من الأحيان. وهذا لا يعني أن تكون حياة الناس جامدة في قوالب لا تتغير بظروف الزمان وظروف المكان ولكن يظل الأصل ثابتاً مهما تغيرت الأشكال والأنماط. والأصل دائماً صبغة تصطبغ بها الأشكال المختلفة في التصورات وأنماط السلوك، فكلما قارب الأصل أو كان انعكاساً له مباشرة كانت درجة أصالته عالية وقمتها هي تلك التي تنبع من صميم ثقافة الشعب العامة مخاضاً وميلاداً.
إذن الأصالة درجات وتنعكس مباشرة على الشكل والمضمون، وبالتالي تكون هي الأصالة المتقدمة والمتفردة والتي تماثلها أو تدانيها أصالة أخرى. فالشكل والمضمون في هذه الحالة نتاج طبيعي لفكر الشعب المعين وجهده، وكلما تغيرت حياته بتغير الظروف تغير الشكل دون المضمون لأنه يظل مرتبطاً بتصورات الناس العامة في الحياة، معتقداتهم وتقاليدهم ومثلهم ... الخ.
وقد تتعدد الأشكال والصور، لكن المنطلق واحد. وهو منطلق نابع وصادر عما هو ثابت في ضمير الأمة ووجدانها. هذا ومن المعلوم أن التعدد يأتي فتتطور الأشكال وتتجدد، وبذلك تنشأ الحضارات.
التأصيل:
وهنالك أنواع أخرى من الأصالة أقل درجة من التي سبق الحديث عنها. فإن ضرورات التغيير الملحة عادة ما تفرض على المجتمع التخلي عن كثير مما فيه من أعراف وتقاليد ولكنها لا تفرض إلغاء التراث أو استئصال الثقافة والهوية، وإنما تؤدي الاستجابة بالضرورة إلى ابتداع صيغ توفيقية ملائمة ( فتتحقق الازدواجية التي يتعايش في إطارها القديم والجديد ) (5). وهنا نجد بعض الشعوب تستعير من غيرها الأشكال والصور والمؤسسات لتبلغ بها حاجة من الحاجات المستجدة لديها، ولكنها لا تتعامل معها تعامل القرود، فهي لا تقلد التقليد الأعمى بل تتأثر وتؤثر فيه. وقد تتكيف بها من غير أن تصاب في هويتها أو وجهتها الحضارية. فتظل ثقافة الأمة هي الموجهة لكل مناشط الحياة ولا يمنع ذلك أن تتغير الأدوات والأساليب بها ولكن تظل الدوافع والغايات محكومة بتصورات الحياة الخاصة بهذه الأمة، أو ذلك الشعب روحها. ( هل يمكن أن ندين كل اقتباس؟ لا بل بشرط أن نرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة ) (8).
ورد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة يعني فيما يعني أن نهيئ المحيط اللازم لتطبيق ما نتصور من حلول لمشكلاتنا الاجتماعية فنأخذ الوافد من أساليب وأشكال ثم نستوعبه ونصيغه بصبغة قيمنا حتى نجعله مناسباً للبيئة الجديدة التي أستعير إليها.
ولكن المجتمع الذي لم يستطع الابتداع لسبب أو لآخر، فيلجأ إلى الاستعارة مشكلته معقدة ومركبة. فالاستعارة يصعب توطينها ومن ثم تأصيلها بمستوى رفيع من الوعي. وإن محاولة التأصيل هذه تجيء لتجاوز أزمة اجتماعية خطيرة. وهي أزمة حضارية في المقام الأول.(/2)
وأساليب هذه الأزمة تكمن في البون الشاسع بين معدل التغيير في المجال الخلقي والسلوكي ومعدل التغيير في البيئة المادية المحيطة بالإنسان. فتطور المجتمع في مجال التصورات، والقيم، والأعراف والتقاليد تطور بطيء جداً. إذ أن الإنسان يبدو وكأنه محافظ بطبعه يخشى الجديد في ما يتصل بالأخلاق والسلوك، لأن الجديد فيه مغامرة الفشل أو يمكن أن يكون تغييراً يهدد وجود واستمرارية كيان المجتمع وبالتالي فإنه لو حدث تغيير في هذا الشأن يكون بطيئاً جداً. أما الجديد في البيئة المادية فهو تغيير في الأدوات والأساليب والأشكال التي تستعمل لتحقيق الأهداف المرجوة في الحياة الاجتماعية كتحسين مستوى وسبل الحياة المعيشية ولما كان تغيير هذه الشئون لا يكتنفه أي نوع من المغامرة الحيوية فسرعان ما يقبله الناس من غير تردد. فيصبح التغيير سريعاً جداً. وهنا تنشأ الأزمة ... إنها أزمة الصراع بين معدل التغيير البطيء في الأصول الاجتماعية، ومعدل التغيير السريع في الفروع. ( ولذلك يحدث هذا الاحتكاك والتنازع بين أنماط السلوك التي فرضتها ظروف الحياة في فترة سابقة والأنماط الجديدة التي تفرضها ظروف الحياة الماثلة وبما أن القيم يصعب فصلها عن أشكالها التغييرية يزداد أمر التحول تعقيداً ويختلط الجوهر بالعرض ويبدو التغيير الاجتماعي وكأنه ثورة على كل قيم الماضي ) (9) لا على الأشكال التعبيرية. أي الأدوات والأساليب فقط.
وهنالك حقيقة أخرى تؤدي إلى هذا التقابل السلبي ألا وهي الفارق النوعي بين التطور المادي والتطور النفسي فالتقدم العلمي سيظل صاعداً أبداً لأن فطرة الإنسان تطلب مزيداً من المعرفة ومزيداً من التحسين ولأن كل تحسين يحقق مزيداً من الراحة فإن التطور العلمي يسير في خط واحد على الإطلاق فهو يصعد ويهبط لأن في فطرته استعداداً للهبوط واستعداداً للصعود على السواء إذ النفس الإنسانية تتأثر بالتوجيه إما أن تكون فاجرة، وأما أن تكون تقية ) (10).
في هذا الخلط بين تغير وتغير تكمن الخطورة، ومن ثم لا بد للمجتمع وقياداته بصفة خاصة أن يفرقوا بين ما هو أصل، وما هو فرع لكي لا تكون ثورة التغيير على كل شيء، .. على الصالح والطالح سواء بسواء. وبنفس القدر لا بد المحاولة الجادة لتوطين المناسب من كل ما هو وافد من الفروع وذلك يكون بتكييفه بلون وطعم الأصول من قيم وتصورات ... أي تأصيله تأصيلاً يجعله يبدو وكأنه جزء من كل، وعند ذلك نتجاوز الصراع بين قيم أصيلة وأشكال تعبيرية وافدة. هذا هو مستوى الوعي المطلوب وحتى نتحاشى الذوبان في كل ما هو وافد بالتقليد الأعمى. وذلك لا يتم إلا بإعادة النظر في قراءة التراث وتفسيره، ومن ثم تجديده على ضوء هذه القراءة. هذه القراءة الجديدة لأصول المجتمع تقود إلى عملية التمسك والتأكيد على خير ما في الماضي من تراث مع طرح ما لم يعد صالحاً ومواكباً للعصر من أشكال ومؤسسات ومفاهيم. فنعطي القيم الأصيلة الضاربة في جذور المجتمع أشكالاً تعبيرية جديدة تنسجم مع روح العصر. هذه العملية بعينها هي ما نعنيه بالتأصيل والمعاصرة.
إذن فيما سبق نقاشه نستطيع القول بأن الأصالة أو التأصيل نوعان؛ الأول هو الأصالة العريقة التي يكون المجتمع فيها حيوياً منفعلاً بما فيه من قيم وتصورات فيبتدع الأشكال التعبيرية كالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فتصبح أعرافاً وتقاليد راسخة هي سمة الثقافة القومية السائدة. ثم تستمر عملية الابتداع هذه من جيل إلى جيل فتتطور الأشكال والوسائل مرتقية مع رقي المجتمع في سلمه الحضاري.
أما النوع الثاني فهو الأصالة الأقل درجة من الأول ... هو ما أسميناه بالتأصيل. والتأصيل عملية ليس فيها ابتداع، وإنما هي استعارة الأشكال والمؤسسات من مجتمعات أخرى ولكن بتصرّف، فتؤخذ هذه الأشكال الوافدة وتضاف إليها تعديلات لتتكيّف مع الثقافة المحلية. ومن بعد ذلك نضيف إليها تطويراً فيه نكهة التراث المحلي ... أي تصبغه بصبغة أصول المجتمع وقيمه، لا بصبغة الذين ابتدعوها وبذلك يصبح المستعار والمنقول أصيلاً لأنه قد ألحق بالأصل ثم نما عليه وصار فرعاً من فروعه بل وأصبح جزءاً لا يتجزأ منه. وبالتالي لا تبدو الأشكال المؤصلة وكأنها غريبة في المخبر أو الجوهر.(/3)
ونحن اليوم، وفي نهاية القرن العشرين مواجهون بتحدي التأصيل لا تحدي الأصالة فلم تعد أمتنا تزخر بالحيوية والنماء كما كانت لتبتدع، وإنما هي أمة تحسب بأنها متخلِّفة، ومن ثم تتهددها الأخطار من كل جانب. إذ أخذت تستقبل الكثير من الغرب، وطغى التقليد الأعمى، لا الاستعارة بتصرّف، لكل ما هو آت من حضارة الغرب. ثم جاءت النداءات من هنا وهناك بأن الجري خلف الغرب لن يلحقنا بركب الحضارة، بل ستكون النتيجة أمة ممسوخة لا هي غربية ولا هي شرقية. وإن كان لا بد من الاستعارة فكيف السبيل إلى الاستعارة المأمونة والمثمرة في ذات الوقت. أي أنه ينبغي علينا أن ندخل في عملية واثقة للتأصيل لنربط كل ما هو وافد بما عندنا من قيم وتصورات واعتقاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي هذه القيم والتصورات التي نبني عليها عملية التأصيل هذه والإجابة الصريحة من غير تردد أنها هي قيم وتصورات الإسلام. وفيما يلي بيان ذلك وكيفية التعامل به لتبدأ عملية التأصيل المبتغاة بما أسميته وضوح الرؤية: رؤية الأهداف ورؤية الوسائل.
وضوح الرؤية:
إن للمجتمع الإسلامي صبغة خاصة لم تتغير ولم تتبدل على الرغم من اختلاف ظروف الزمان وظروف المكان.
هذه الصبغة الخاصة هي نتاج لوحدة التصور المنبعث من وحدة الاعتقاد. ونعني بالتصور المنظار الذي يرى به المسلم الأشياء ويميزها؛ ومن ثم يدرك الصواب من الخطأ وبمعنى آخر إن التصور هو عبارة عن انعكاس القيم والمفاهيم في عالم الواقع فتكون سلوكاً وتكون أعرافاً، وتكون تقاليد، وتكون نظم الحياة الاجتماعية. وبهذا التصور أو المعيار الأخلاقي ينفعل المسلم بالأحداث من حوله، فيأخذ ويعطي ولكنه لا يأخذ ما يناقض به القيم العليا الراسخة في كيانه والمكونة لشخصيته وهويته إذاً ما هي هذه المكونات الشخصية التي نهيئها للتفاعل مع كل وافد حتى نحتويه ونكيّفه. تلك هي المفاهيم والقيم التي تكوِّن تصور كل مسلم. فكلما غرست وروعيت حتى استوى عودها، رسخت تصورات ورؤى تكون هي الدليل وصمام الأمان الذي يضمن التفاعل المثمر والبناء مع كل وافد في شتى الأشكال التعبيرية لما يعتمل في نفوس البشر. وكلما ضعفت هذه القيم والمفاهيم في شخصية الإنسان، جاءت تصوراته ضعيفة تجعل صاحبها ينجرف في اتجاه أي تيار وافد بغير ما هدى أو بصيرة. هذه القيم العليا والمفاهيم تتمثل في الربانية، التوحيد، الثبات، الشمول، التوازن، والايجابية والواقعية (11). وسنحاول أن نشرح هذه الخصائص واحدة تلو الأخرى.
الركن الركين لخصائص التصور الإسلامي هو الربانية ومنها تنبثق بقية التصورات. والربانية تعني الاعتراف بأن هناك منهجاً قويماً لحياة البشر جاء به من عند الله ولا مجال للاعتماد على الفكر البشري المحدود الذي لا يستطيع حسم كثير من الأمور مثل كنه الذات الإلهية، والمشيئة الإلهية، وكشف الغيب وقيام الساعة. فهذه مجالات نرجع فيها لتلقي التوجيهات من الله عن طريق الرسل. وما دام الإسلام هو الرسالة الوحيدة التي بقيت محفوظة الأصول فكان لزاماً علينا من الوصول لمحاولة تفسير الوجود وعلاقة الإنسان به، ومن ثم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وفيما عدا ذلك فالإنسان مدعو للتدبر والتفكر والتكيف في عالم الواقع.
ومن الربانية تنبثق خاصية الثبات في التصور الإسلامي إذ أن تصور علاقة الإنسان بالكون الذي تلقاه الإنسان من الله تعالى يقتضي وجود حقائق ثابتة لا تتغير مع تغيير الظروف وهو ثابت لا ينفي وجود المرونة والحركة. فهي إذن حركة داخل إطار ثابت أو حركة حول محور ثابت.. فتأتي اجتهادات البشر المختلفة داخل هذا الإطار.
هذه الثوابت تشمل الحقائق الآتية:
• حقيقة وجود الله بكل صفاته وانعكاس التوحيد على سائر جوانب الفكر والعمل.
• حقيقة عبودية الإنسان والأشياء لله.
• حقيقة أن الإيمان بالله شرط لقبول الأعمال وصحتها.
• حقيقة أن الدين عند الله الإسلام.
• حقيقة أن غاية الوجود الإنساني هو عبادة الله.
• حقيقة أن العقيدة هي رابطة المجتمع الإنساني لا العرق ولا الجنس.
• حقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل والآخرة دار حساب.
• حقيقة أن الإنسان مستخلف في الأرض وتسخير الكون له.
• حقيقة الإيمان بكمال الوحي وكونه مصدراً للمعرفة كالوجود والعقل وسيلة لهذه المعرفة.
• الإيمان بعموم هذه الحقائق في الزمان والمكان والإنسان.
إن قيمة خاصية الثبات هذه هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره وبذلك تستقر حياته وحياة المجتمع... وذلك مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي النظم والأوضاع، وبالتالي لا جمود ولا انفلات (12).(/4)
والشمول من أهم خصائص التصور الإسلامي المبعوث من الربانية فالمنهج الذي تلقاه البشر من الله تعالى شامل لكل شيء، لم يهتم ببعض الأمور ويهمل الأمور الأخرى، وإنما اشتمل على كل مجالات الحياة. أما إن ترك الأمر للفكر البشري فسيأتي محدوداً محدودية البشر. سيجيء تفكيره جزئياً فإن صلح لزمان لا يصلح لزمان آخر وإن صلح لمكان، لا يصلح لمكان آخر. ومن هنا فإنه ( ما دام الأصل في الحياة هو التوحيد فالأصل والمنهج في الأحكام إن تغطى جوانب الحياة كافة، وتحيط التكاليف بالإنسان حيثما كان، وتتجلى من خلال الصور كلها ) (13).
وتتصل بالشمولية خاصية التوازن، ونعني به عدم الإفراط في جانب مع تجاهل الجوانب الأخرى. ونجد هذا التوازن في وجوه متعددة. هناك توازن بين ما يتلقى الإنسان من الله ليدركه ويسلم به، وبين الجانب الذي يتلقاه ليدركه ويبحث براهينه، ومن ثم محاولة معرفة علله وغاياته ثم يفكر في مقتضياته العملية ويطبقها في الحياة. وهناك ثانياً، توازن بين طلاقة المشيئة الإلهية ـ ) كن فيكون ( ـ وثبات السنة الكونية إذ أن إرادة الله كسنن ونواميس يدركها البشر ليكيفوا حياتهم وفقها، بل يتعاملون مع الكون وفقها، لأن الإنسان ينتفع بثبات هذه السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العلمية، وهو في ذات الوقت يستشعر أنه موصول بالله. وذلك هو التوازن في القضية المشهورة بين القضاء والقدر. فقدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادتهم وأفعالهم .. ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( (14)
ثم هناك ثالثاً التوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله ومقام الإنسان الكريم في الكون. فقيام العبودية لله هو سبب الرفعة. ) إني جاعل في الأرض خليفة ( ) وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض (.
هناك رابعاً التوازن في علاقة العبد بربه، فالإنسان يخاف الله ويخشاه ثم هو في ذات الوقت يرجو رحمته... وذلك توازن بين الخوف والرجاء.
وأخيراً هنالك توازن بين مصادر المعرفة ... توازن بين ما هو غيب وما هو مشهود توازن بين الوحي والنص وبين الكون والحياة من ناحية أخرى.
خاصية التوازن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخاصية أخرى هي إيجابية الإنسان في الحياة. وهذه الإيجابية تتمثل في الإيمان واليقين بأن ـ الإنسان قوة فاعلة ومؤثرة في نفسه وفي الكون من حوله. فإيمان المسلم يعني في المقام الأول اليقين الذي ينعكس في العمل والممارسة. ولهذا دائماً يقرن العمل مع الإيمان في القرآن الكريم.. ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ومن ثم تتكون إيجابية المسلم مع نفسه، ومع الآخرين، ومع الكون من حوله، ففي حالة الإيجابية مع الذات يطابق المسلم بين واقع حياته الشخصية وبين التصور الإسلامي هذا. أما إيجابيته مع الآخرين ففي دعوتهم إلى إتباع منهج الله، وبيانه لهم... فهم إخوانه في العقيدة فيحب الخير لهم كما يحبه لنفسه، ثم يتعاون معهم لتحقيق منهج الله في الحياة إذ لا وجود للإسلام دون قيام مجتمع يعيش على هديه. والمؤمن بهذه الإيجابية ... والحركة الفاعلة يدرك أنه معان من الله، وذلك لأن الله تعالى يجعل نواميس الكون معاونة له إن هو أخلص التوجه لله. فيسخر الكون له حتى يحقق ما يريد. ) إن تنصروا الله ينصركم (. ومن هنا فإن شعور الإنسان بأنه مكلف بالعمل ومعان عليه، ينفى عنه الشعور بالسلبية، بل يدفعه ذلك إلى أعلى درجات الفاعلية. كيف لا وهم يعلمون ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (.
وأخيراً فإن إيجابية الإنسان تفرز فيه خاصية الواقعية، وهي البعد عن المثاليات، والتعامل مع الحقائق الموضوعية. إذ إن التصور الإسلامي له تصميم للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية... أي أنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية حياة الإنسان ذي النوازع والأشواق... يحيا ويموت، يحب ويكره، يؤمن ويكفر. ولهذا يتفكر في نواميس الطبيعة فيدرك قوانينها ومن ثم يسخرها لتسيير حياته الدنيا فيحقق بذلك وعد الله تعالى بالاستخلاف في الأرض. وهنا يكمن السر في وضوح رؤية المسلم في تعامله الواقعي مع الكون، ومع المجتمعات من حوله.
مما تقدم رأينا كيف أن التصور الإسلامي يخلق بالضرورة رؤية واضحة للمسلمين أفراداً وجماعات وتعينهم على أداء رسالتهم في الحياة. هذا التصور ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.... هذه الرؤية أبانت أن هنالك حقائق ثابتة هي معالم الطريق، معالم تؤمن الإنسان من التيه والتخبط. فيتحرك بحرية كاملة في إطار هذه الثوابت وهي ثوابت شملت كل جوانب الحياة الإنسانية ومن ثم لا خوف عليه من الضلال في جانب من هذه الجوانب.(/5)
يتطابق إيمان الفرد مع عمله، وإيمان الفرد مع إيمان الجماعة، وإيمان الجماعة مع واقعهم. ولا تكتمل هذه الرؤية إلا بالإشارة إلى واقعية الإنسان لا مثاليته فالإنسان لا يتحرك إلا وهو يدرك واقعه فيتفاعل مع هذا الواقع..... ثم يجني ثمار هذا التفاعل.
هذه هي الرؤية الواضحة التي يتسلح بها المسلم في تعامله وتفاعله مع كل ما هو وافد من الخارج. فلا يرفضه، وهو بهذه الرؤية يدرك الصالح من الطالح فيه، ثم يعيد صياغته ليستفيد منه ليحقق دوره في خلافة الله في الأرض.
بيد أن المسلم ليست لديه رؤية واضحة للتفاعل المثمر فحسب، وإنما قد مكّنه الله سبحانه وتعالى من الوصول إلى منهجية واضحة في كيفية التعامل مع الواقع وهي نتيجة تلقائية لطبيعة تصور المسلم للأشياء، ورؤيته الواضحة في هذا الشأن.
وضوح المنهجية:
إن التصور الإسلامي الذي أدى إلى الرؤية الواضحة في تحسس معالم الطريق في حياة البشر ( الحلال بيِّن والحرام بيِّن ) قد أدى أيضاً إلى وجود منهج واضح لكيفية التفاعل مع الأحداث في المجتمع سواء أكانت داخلية أم وافدة من مجتمعات أخرى. هذه المنهجية تتكون من ثلاث شعب: السببية، والقانونية التاريخية، ومنهج البحث الحسي أو التجريبي. (15) فيما يتعلق بالسببية فقد أشار الإسلام إلى قدرة العقل البشري التركيبية ـ أي قدرته على الجمع، والمقارنة، والقياس والتقاط عناصر الشبه، وعزل عناصر الاختلاف، وهي المقدرة على ربط الأسباب والمسببات فتنظر إلى الظواهر والأشياء، ومن ثم القدرة على استخلاص القوانين العامة التي تحكم مثلاً الكون.
هذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء قد دعمت بدعوة الله المتكررة في القرآن للإنسان لأن يستعمل حواسه المختلفة للنظر لما حوله لكي يصل إلى منهج تجريبي بحت. فيستكشف ثم يستغل القوانين العامة في عالم الطبيعة... ومن هنا كان أن أعطى الله تعالى الحواس مسئوليتها الكبيرة عن كل خطوة يخطوها الإنسان المسلم في مجال البحث ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( (16) وبالتالي فإن العلم في القضايا المشاهدة لا بد أن يتأسس على منهج تكون الحواس هي الوسيلة الوحيدة إلى بلوغه. وذلك منهج كان سبباً أساسياً في النهضة الأوروبية وحضارتها التي طغت على جميع ثقافات العالم اليوم.
وأخيراً فإن المنهجية الواضحة هذه لا تعتمد على إعمال العقل المسلم برؤيته السببية للظواهر واستعماله البحث الحسي في عالم المحسوسات فحسب، وإنما أشار إشارات واضحة إلى وجوب استعمال القانونية التاريخية، فيقرر أن التاريخ البشري لا يتحرك في فوضى بل تحكمه سنن ونواميس كتلك التي تحكم الكون. فالقرآن يقدم هنا أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ ثم الانتقال من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية. وهذا يتمثل في قصص الأنبياء وتاريخ الأمم السابقة... ) فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ( (17) إذن فالتاريخ لا يكتسب أهمية إلا بأن يتخذ ميداناً للدراسات والاختبار، نستخلص منها القيم والقواعد الاجتماعية التي تدلنا على الصراط المستقيم. ومن ثم فيكون ذلك منهجاً حركياً للجامعة المؤمنة لتتحاشى مواقع الخطأ التي قادت البشر سابقاً إلى الدمار.
إذن فإن المنهجية الواضحة التي يفترض أن تقدر حق قدرها في حياة المسلم هي استعمال القدرة التركيبية للعقل البشري لاكتشاف العلة والسبب في مجال علوم الطبيعة من ناحية وفي مجال الاجتماع والتاريخ من ناحية أخرى.الأولى تنادي باستعمال الحواس التي تؤدي إلى العلم الحسي والتجريبي، والثانية اعتبار أحداث التاريخ البشري معملاً اجتماعياً يفرز قوانين تاريخية اجتماعية يمكن الاعتماد عليها. والحقيقة أن في هذه الظواهر التاريخية دفعاً حركياً يفرض على الجماعة تجاوز أخطاء الآخرين.
السلف والتحدي الحضاري:(/6)
ما يعنينا في قضية التأصيل هو القانونية التاريخية المرتبطة بالظواهر الاجتماعية لأن المنهجية هنا تقول ليس كل ما يفعله السابقون صحيحاً وأن مسببات هلاك قوم يمكن أن تهلك قوماً آخرين لو لم يعتبروا بأسباب الهلاك هذه ـ فالقانونية التاريخية ماضية في كل زمان ومكان. وبالتالي ليس بالضرورة أن نسير في ركابهم ولكن علينا أن نميِّز بين الصالح والطالح ما دام أن تصور المسلم للأشياء والأفعال واضح. ومن هنا فإننا لو تحاشينا أخطاء السابقين بهذه المنهجية الواضحة، فأنه من باب أولى أن نعرف كيف نتعامل مع المعاصرين... بالطبع لا يجوز أن نقلدهم تقليداً أعمى، وما ينبغي لنا ذلك ونحن نملك الرؤية والبصيرة مع المنهجية السليمة، والإسلام ( يواجه الواقع دائماً، ولكن لا يخضع له، بل ليخضعه لتصوراته هو، ومنهجه هو وأحكامه هو، وليستبقي منه ماهو فطري وضروري من النمو الطبيعي، وليجتث منه ما هو طفيلي وما هو فضولي، وما هو مفسد ... لو كان حجمه ما كان ) (18) بهذه العقلية ذات الرؤية التصورية الواضحة مع المنهجية الاجتماعية فما كان التحول الحضاري بالتقليد، وإنما بالتأصيل، وقد جاء ذلك على شاكلتين: الأولى هي احترام التراث البشري في عملية انتقاء حضاري، والثانية هي الإبداع والانتشار. لم يكن عقل المسلمين ( يرفض معطيات غيره ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يتقبلها بالكلية ... لقد كان يملك في تركيبه الخاص، ومن خلال منظوره العقدي، المقاييس الدقيقة والموازين العادلة التي يمرر من خلالها تلك المعطيات فيعرف جيداً ما يأخذ ويعرف جيداً ما يدع ) (19) كانت تلك الحضارات العالمية وتراث مختلف الشعوب ميداناً فسيحاً مفتوحاً انفعل وتفاعل به المسلمون، فكان الأخذ وكان الرفض وكان العطاء وكان أخيراً الانتقاء الحضاري إذ إن الناس لم يقفوا عند حد الاقتباس وإنما ( الإضافة والتجديد والإغناء وإعادة التركيب لمعطيات حضارية كانت بأمسَّ الحاجة للتغيير والتبديل وتوسيع نطاق البناء ) (20)، ومن ثم كانت النتيجة إبداعاً وحضارة جديدة سادت عهوداً يشهد لها التاريخ قبل أي جهة أخرى. بل كانت حضارة هي سبب النهضة الأوروبية وحضارتها المعاصرة. (21)
هكذا تحدث التاريخ عن تفاعل المسلمين ـ أسلافنا ـ بالحضارات من حولهم، وكان منطلقهم التصور العقدي الذي انعكس في وضوح الرؤية وتحديد معالم الطريق، وكان منطلقهم أيضاً المنهجية القائمة على السببية والقانونية التاريخية .... كل ذلك كان حصانة لهم في تفاعلهم مع الأحداث والأشياء من حولهم، وقد تركوا لنا الدروس والعِبر في كيفية مواجهة الواقع ... وكيفية التعامل مع ما وجد من تراث .... فكانت مواقفهم عبراً ماضية في الاقتباس لا التقليد الممسوخ ... وكانت عبراً لكل معتبر في أن الاستعارة من الغير هي استعارة انتقاء لا محاكاة ... ثم هي الانتقاء الذي يكون بعده الإبداع. فإن أردنا أن نكون مثلهم كي نستطيع مواجهة الحضارة الغربية المعاصرة فلنتسلّح بسلاحهم ... وهو سلاح النفس لا سلاح المادة لأن منهجية المسلم في التغيير هي ) .. حتى يغيروا ما بأنفسهم ( فليعودوا للتصور العقدي السليم، وليتحركوا بمنهجية القرآن ـ السببية والقانونية التاريخية ) عندها سيجدون أنفسهم في أعلى درجات الاستعداد للتعامل مع الواقع لا تقليداً بل انتقاء وإبداعاً.
العلوم الاجتماعية بين الأصالة والتأصيل:
في الصفحات السابقة تحدثنا عن ماهية الأصالة والتأصيل بصفة عامة، ثم أبنا خطورة عدم الاهتمام بالتأصيل في مواجهة الحضارة الغربية الماثلة اليوم، ومن بعد ذلك أوضحنا الأسس التي يقوم عليها التأصيل، وهي الرؤية الواضحة في تصور المسلم العقدي والمنهجية القائمة على نداءات القرآن الكريم بأن هنالك قوانين اجتماعية مثلما هناك قوانين طبيعية تمثلت في السببية والقانونية التاريخية. ثم أشرنا إلى أن أسلافنا لم ينجحوا في ريادة التاريخ إلا بعد أن اتصفوا بهذه الصفات، وكانت النتيجة تأصيلاً رائداً أنتج حضارة مشهودة. ونحن هنا نريد أن ننتقل إلى جانب من الجوانب التي يكون التأصيل فيها ضرورياً. ذلك هو مجال العلوم الاجتماعية: الاقتصاد، والإدارة، والعلوم السياسية، والتربية، وعلم النفس والتاريخ، والجغرافيا، واللغات ... الخ. جميع هذه المواد مرتبطة بالفكر الغربي في النشأة، وفي المناهج التفصيلية، وفي الأهداف سواء أكان ذلك في الجامعات أم المعاهد، أم مراكز البحوث العلمية، هذه التصنيفات العلمية، بصورتها الحالية، نشأت لتخدم وتعالج مشاكل مجتمعات مغايرة لمجتمعنا، وبالتالي فهي دراسات رهينة ببيئتها. كان ينبغي لنا أن نوطِّن هذه المواد فنوجهها لتهتم بمشاكل مجتمعاتنا فتقوم فيها الدراسات والنظريات، بدلاً من أن نعيش منهجنا عالة على أهل الغرب. وقد نسينا أو تناسينا أن حضارة الغرب ما قامت إلا بعد أن تتلمذت على يد المسلمين في جامعاتهم في الأندلس وغيرها من البلاد الإسلامية.(22)(/7)
إذن المطلوب هو تأصيل هذه العلوم الاجتماعية لتكون في المقام الأول علوم مسلمين .. علوماً تعنى بشئون مجتمع المسلمين، فتكون علوماً تبحث في الظواهر الاجتماعية في البيئة المسلمة، لأنها أساساً لم تنشأ لتتناول كمعارف نظرية بحتة، ولكنها نشأت لتتناول المشاكل التي تدور في المجتمع. ومن ثم لا تكون هذه العلوم غريبة على من يتعاطاها. فيسهل استيعابها، وبالتالي يتيسر على المهتمين بها المشاركة الفاعلة في إثرائها وبالضرورة يلعب هذه الإثراء دوراً. لكي تكون علوماً تتناول قضايا، فتقترح الحلول سواء أكانت حلولاً مبتكرة أم حلولاً تجوَّزت فيها السلبيات.
والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة شافية هو كيف يتم هذا التأصيل في مجال العلوم الاجتماعية؟
والإجابة هنا تقتضي في المقام الأول معرفة إن كان لهذه العلوم الاجتماعية صلة تربطها بالأصل ـ والأصل عندنا كما ذكر آنفاً هو القيم الاجتماعية والثقافية العامة السائدة في المجتمع ... تلك هي قيم الإسلام وأعرافه وتقاليده. ولما كانت هذه العلوم تتعلق بكل النشاطات الإنسانية خارج نطاق علوم الطبيعة (الفيزياء، والأحياء، والكيمياء) فهي بالتالي علوم في صميم علاقات البشر مع بعضهم البعض بشتى أصناف وأنواع هذه العلاقات عبر الزمان وعبر المكان: من ذلك الارتباط بعنصر الدين والقيم والسلوك والأعراف العامة أو باختصار التراث، ومن ذلك النشاط الاقتصادي، ومن ذلك القوانين العامة والخاصة، ومن ذلك السلطة وآثارها ماضياً وحاضراً، ومن ذلك تطور الثقافة وانتقالها من جيل إلى جيل. وبعد ذلك الكثير الكثير المتعلق بالبشر وأنماط حياتهم وكل ذلك من غير شك، جزء لا يتجزأ من رسالة الإنسان في الحياة وهي خلافة الله في الأرض ) وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة ( (23) إذن فإن علاقة هذه العلوم بالأصل الذي أشرنا إليه هي علاقة أصيلة، وذلك لأن كل هذه العلوم تدخل في مهمة الإنسان في الأرض. فهي، بالتالي على ثقة وثيقة بالأصل ـ والكون كله مسخَّر من الله تعالى يؤدي الإنسان مسؤولية الخلافة وهي مسؤولية حفظ نظام العالم واستدامة صلاحه، وذلك بدوره لا يتم إلا ( بإصلاح حال الإنسان نفسه بحسبانه المهيمن على ذلك العالم من جهة الخلافة .. لأن صلاحه يعني تعلّقه بأسباب الخير والسعي الجاد في الحياة، والبعد عن الضرر والفساد. ) (24) وهذه المعاني تتردد في القرآن كثيراً ) إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ( (25)، ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (، ) أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( (27). ومن هنا فإن صلاح الإنسان لا يتم إلا بترسيخ المصلحة ودرء المفسدة.
وقد أجمع فقهاء المسلمين على أن جلب المصالح ودرء المفاسد كانت هي المقاصد العليا للتشريع الإسلامي. وهذه المصالح لخصت في أصول خمسة تجب حمايتها والمحافظة عليها ورعايتها حق رعاية: تلك هي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال وكل ما يشمل هذه الأصول الخمسة، وكل ما ساعد في رعايتها وتنميتها فهو مصلحة وكل ما فوتها فهو مفسدة ودفعها مصلحة (28).
تتعلق الأصول الخمسة المشار إليها بالآتي: علاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان بالخالق وعلاقته بأخيه الإنسان بكل ما يحيط بالإنسان من جوانب الحياة ـ السلطة .. الخ. والبعد الثاني هو الجوانب المتغيِّرة والمتطوِّرة في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وهذا هو الجانب الذي يتعامل مع الخبرة الإنسانية حركة وتطوراً ... وذلك التفاعل مع مشكلات الوجود الاجتماعي وظواهره، وكيف أن هذا التطور مرتبط مع الأصول الثابتة قوة وضعفاً، وبعداً وقرباً. (29)
ولم تكن هذه الثورة العلمية في مجال العلوم الاجتماعية من غير منهجية، وذلك لأن التصور الإسلامي للأشياء كان هو الحادي والدليل في كل شيء فتوصل العلماء إلى المعايير وطرق بحث وتحليل كانت هي سلاحهم في كل العلم الذي توصلوا إليه. في الفقه مثلاً انبثقت هذه المنهجية من المصالح الأصولية الخمس التي تقوم عليها حياة البشر، ومنها جاءت كل الدراسات في شتى مجالات العلوم الاجتماعية ـ التي سبقت الإشارة إليها ـ وقد رؤي أن تكون هذه المصالح على ثلاث مراتب: مصالح ضرورية، ومصالح حاجية، مصالح تحسينية. المصالح الضرورية هي كل ما يحفظ الكليات الخمس المعروفة وهي بالتالي في أعلى المراتب، وتليها مباشرة المصالح الحاجية التي لا ضرورة فيها، ولكن فيها حاجة ثم تجيء بعد ذلك أدنى المراتب، وهي المصالح التحسينية. وهي ضرب من المصالح المتعلقة بمحاولة تحسين ظروف الحياة حتى لا تكون مستقبحة. في النظر إلى كل ما جد من أمور في حياة الناس فيما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة يقوم العالم بوضع موازنة بين هذه المراتب الثلاث من المصالح بعد أن يقدم جلب المصلحة على المفسدة ولا تقدم المفسدة إلا لو كانت أعظم من المصلحة.(/8)
والمصالح مرتبة كذلك حسب ترتيبها الذي جاءت به الضرورات الخمس: الدين فالنفس، فالعقل، فالنسل، فالمال. فلو تعارضت مصلحة الدين مع مصلحة أخرى تقدم عليها وهكذا. وتقدم المصلحة الضرورية على الحاجية، وتقدم الحاجية على التحسينية وهكذا. وأخيراً تقدم المصلحة الكلية على الجزئية، أو العامة على الخاصة. وتقدم المصالح القطعية على الظنية الاجتهادية.
مما سبق ذكره ندرك أن القضية ليست قضية تأصيل فحسب، بل هي قضية أصالة لأن العلوم الاجتماعية عندنا أصيلة، ولم تبعد من دائرة الضوء إلا بعد أن سيطر الاستعمار الأوروبي على مجتمعاتنا ردحاً من الزمن، ومن ثم نشأت أجيال جديدة متأثرة بثقافة الغرب، وذلك بسريان قانون الغلبة الاجتماعي: من طبع البشر تقليد القوة المسيطرة.(30)
وكان الذي كان، فنشأت هذه الأجيال في القرن العشرين وسارت في ركاب الغرب ظانة أن العلوم الاجتماعية جاءت من هناك وبالتالي نقلت بحذافيرها من غير أي تصرف وبعد منتصف القرن العشرين، ولما اكتشف بعض المفكرين الوطنيين أن تقليد الغرب في كل شيء فيه مسخ وهدم لشخصية المسلم، بدأ الحديث عن ضرورة التأصيل أي عن ضرورة التأصيل أي عن ضرورة ربط هذه العلوم الاجتماعية بالبيئة الثقافية لمجتمعاتنا. وقد توصلنا في هذه الدراسة إلى أن القضية ليست ربط هذه العلوم بالبيئة المحلية، وإنما هي بعث للتراث العلمي كله في هذه المجتمعات، ومن بعد يبعث هذا التراث ويعرف معرفة تامة تأتي مرحلة التأصيل. أي التفاعل الأصيل مع ما جاء من الغرب في مجال العلوم الاجتماعية.
والمعرفة التامة للتراث تقتضي التمكن من أصول الإسلام الأساسية: القرآن الكريم والسنة النبوية ـ فلا بد من الإحاطة بسائر النصوص المتعلقة بالعلوم الاجتماعية ومن ثم التمكن من التراث نفسه، وذلك بغربلته واستخلاص الصحيح المفيد من عيونه وما يحتويه من الفكر الذي صدر عن روح الإسلام وغاياته ـ فتحدد المختارات التراثية في كل مجالات العلوم الاجتماعية، ثم تحلل تحليلاً يمكن الناس ( من إدراك وفهم الرؤية إلى مناهج قويمة قادرة تنعكس في الأفعال، وفي السلوك مكنتهم من حل ما واجههم من قضايا وصعوبات حياتية ). (31)
وعندما يتم التمكن من التراث تأتي مرحلة التأصيل ... بمعنى الانتقال من الأصالة إلى التأصيل. وذلك لا يكون ميسراً إلا بإتقان العلوم الحديثة أولاً. وإتقان العلوم يكون في القضايا والمناهج. فيعرف الباحث غايات هذه العلوم، وظروف نشأتها وتطورها ونموها التاريخي. ومن ثم معرفة أوجه النقد الموجّه لهذه العلوم في إطارها الغربي. وأخيراً محاولة تقويمها وفقاً للتصور الإسلامي.... فيعرف الصالح منها ليبقى وتسلط عليها الأضواء ومحاولة الاستفادة منه. وكذلك يعرف الطالح منها فيكشف ثم يبعد من دائرة الاهتمام لا يتجاهله، ولكن بمعرفته وتجاوزه عن علم لا عن جهالة.
ومرحلة التأصيل لا بد أن تعقبها مرحلة انطلاق وإبداع بالوصول إلى مناهج أصيلة نابعة من مشكلاتنا وحاجاتنا، وموجهة المنظور الأصيل، أي التصور الإسلامي للأشياء. ومن هنا تبرز الحاجة إلى وجود ثلاثة شروط، وهي الباحث المؤهل، واعتبار التاريخ معملاً لإجراء التجارب، واتخاذ المنهجية الأصيلة. (32) الباحث المؤهل المقصود هنا هو المطلوب لإحياء التراث ثم الانطلاق به في سلم الرقي والإبداع. وذلك هو الباحث الذي يملك أدوات التحليل العلمي للظواهر الاجتماعية، فيستطيع دراستها على مستوى الفكر والحركة. فيعرف اجتهادات الفقهاء، وتصورات الفلاسفة وتسجيل المؤرخين. ولا بد أن يكون إتقان اللغة العربية واحدة من أدوات التمكن المشار إليها حتى يستطيع الباحث تفسير النصوص والشواهد لاستخلاص المفاهيم وكيفية التعامل معها ـ مثل الخلاف، والشورى، والقطعية، والظنية.... الخ وأهمية ذلك تكمن في الخوف من التأثير بالألفاظ والمصطلحات الوافدة من الغرب.
ولا بد لهذا الباحث المؤهل من اتخاذ المنهجية الإسلامية الواضحة في دراساته، وهي منهجية توحيدية اشتمالاً واعتدالاً، وهي منهجية قوامها العدل والاستقامة والتوازن بين الأضداد. أما كونها توحيدية وشاملة لأن الحياة في التصور الإسلامي هي منهج موحّد لعبادة الله، وبالتالي لا بد من تغطية جوانب الحياة كافة، ولا بد من الإحاطة بالبشر أجمعين ما كان متصلاً بالعام وما كان متصلاً بالخاص. (33)(/9)
هناك الشمول في مدى الأحكام وصورها الذي يضم ضرورة التشريع السلطاني مع ضرورة وجود الفقه الخاص، وضرورة الجمع بين فقه العقيدة وفقه العمل. ثم هناك الشمول في المصادر الوضعية الذي لا يجعل الصفوة تحتكر الاجتهاد وإنما الباب مفتوح لكل مسلم عالم بشيء نوعاً ودرجة أن يكون دوره في الأمور، وهو شمول الجمع بين الأصالة والعالمية.... أي الجمع بين التمسك بالأصول والانفتاح على بقية الثقافات العالمية، ويمكن ربط ذلك بمفهوم ( شرع من قبلنا )، أو مفهوم ( الاستصحاب ).وهناك الشمول في مسالك النظر للأحكام المنطلقة من نظرة توحيدية بين التجرد نحو الحق من جانب وبين التجارب الإنسانية المتعاملة مع الواقع الذي ينتج صوراً وأشكالاً مختلفة من جانب آخر. ويقتضي الشمول هنا الموازنة بين النظام الظاهر والباطن، وبين الإجمالية والفروعية، وبين القطعية والمرانة، وأخيراً هناك الوحدة والتوازن بين النظام والحرية إذ أن سنن الله في الطبيعة تتسق مع سنن الله التكليفية في الشريعة. فتكليف الفرد هو تكليف للجماعة، والإيمان بالوحي لا ينفي دور العقل. فلا بد من الإحاطة بكل المنقول عن الوحي أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو المأثور عن السلف ثم ما تفاعل مع كل علم معقول سواء جاء ذلك من النظر أو من التجريب. وهذا لا يعني أن الاتباع ينفي الإبداع، والسلف والخلف، والتقليد والاجتهاد. والتوازن المطلوب في المنهجية الإسلامية لا بد أن يضم توازناً بين الالتزام بمذهب فقهي معين وبين الحرية في النظر والاعتبار بما في المذاهب الأخرى حتى لا تكون هنالك عصبية مذهبية تؤدي إلى الجمود العلمي والضمور الحضاري.
ومن بعد التأكد من هذه المؤهلات المطلوبة عند الباحثين تبدأ حركة الإبداع بعد التأصيل فيتخذ التاريخ معملاً للتجارب، فمنه نختار الفرضيات والفروض حتى نتجنب السرد التاريخي البحت، ونتجاوزه إلى دراسة الوجود الاجتماعي والسياسي ومن ثم نتناول القضايا، والمفاهيم والنظم دون الوقوف عند زمان معيَّن أو أحداث بعينها، أو حتى صور وأشكال بعينها.
خاتمة:
وبعد فقد أوضحنا في هذا البحث ما هي الأصالة وما هو التأصيل ثم حاولنا ربط ذلك بثقافة المجتمع العربي والإسلامي، ثم أبنا كيف تكون الأصالة، وكيف يكون التأصيل في هذا المجتمع فكان الحديث عن وضوح الرؤية كمنظور أصيل للأشياء وكان الحديث عن وضوح المنهجية المنطلقة من هذا المنظور، ومن ثم كانت الإشارة إلى آثار ذلك في حياة السلف، وكيف أنهم كانوا رواد حضارة بالأصالة والتأصيل. ومن بعد ذلك عرجنا إلى أهمية هذا الأمر في العلوم الاجتماعية وقضاياها، عندها وجدنا أننا في هذه المجالات نحتاج إلى التمسك بأصالتنا أولاً ثم نحاول التأصيل، وكان أن أوضحنا كيف يتم هذا التأصيل بصفة عامة.
ونحتاج بعد ذلك أن ندخل في المراحل العملية لتأصيل العلوم الاجتماعية واحداً بعد الآخر. ويمكن وضع خطة عامة يمكن تنفيذها في كل علم. هذه الخطة العامة لا بد أن تشتمل على نشأة العلم وأهدافه وطرقه، وقضايا العلم والمشاكل المتعلقة به، وأخيراً علاقة هذا العلم بقيم وثقافة المجتمع. في النشأة تطور التخصص المعني والمؤثرات التصورية والظروف التي جعلت أفكارهم تصبح جزءاً أساسياً من المنهج. ومن ذلك تحدد التصنيفات الجوهرية والقضايا المهمة مع تحديد الأهداف والغايات ثم نوضح المدارس المختلفة التي يضمها العلم، وبيان أوجه الشبه والاختلاف بين هذه المدارس.
وأخيراً ندخل في مرحلة التأصيل: كيف يمكن أن نلائم بين منطلقات ومحتويات هذا العلم وقيم وتراث المجتمع الإسلامي للأشياء؟ وأين يمكن أن نبحث عن هذا التلازم في القرآن أم في السنة أم في كتابات الفقهاء والعلماء؟ وهنا يمكن تقديم بعض الأسئلة كنماذج واضحة للملاءمة الممكنة؛ ومن ثم ينطلق العلماء من هذه الملاءمة إلى بلوغ الغايات المنشودة وهي كتابة مناهج أصيلة في كل مواد العلوم الاجتماعية.
----------
1. راجع معنى لفظ الأصالة في: بطرس البستاني، محيط المحيط: قاموس مطول للغة العربية ص 26.
2. نفين عبد الخالق، ( إشكالية التراث والعلوم السياسية )، مجلة المسلم المعاصر، 43، رمضان 1405هـ، ص 71.
3. عون الشريف قاسم، من قضايا البعث الحضاري، ( الخرطوم: الدار السودانية 1971م، ص 13.
4. المرجع السابق، ص 16.
5. قضية التراث أو التأصيل قضية خاض فيها علماء الاجتماع، وعلماء التربية وعلماء السياسة. أنظر مثلاً محمد قطب، التطور والثبات في حياة البشرية ( القاهرة: مكتبة وهبة )، ص 122- 137، و 141- 148.
6. أنظر عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، ( بيروت مؤسسة الأبحاث العربية، 1984م ) ص 29.(/10)
7. إن خطورة وعواقب النقل والاستعارة من غير تصرف أشار إليه كثير من المفكرين عند مناقشة أثر الاستعمار الغربي على الشعوب المغلوبة في آسيا وأفريقيا. أنظر تفاصيل ذلك في: مدثر عبد الرحيم، بين الأصالة والتبعية: تجربة الاستعمار وأنماط التحرر الثقافي في البلاد الآسيوية والأفريقية، ( الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1978م ) ص 11- 15.
8. مالك بن نبي، ميلاد المجتمع: شبكة العلاقات الاجتماعية ترجمة عبد الصبور شاهين، ( دمشق دار الفكر، 1981م ) ص 96.
9. أنظر عون الشريف قاسم، نفس المرجع السابق لنفس المؤلف ص 37. وقد أشار آخرون للفارق النوعي بين التغيير في القيم والتصورات وبين التغيير في الأدوات والأساليب.
10. أنظر تفاصيل الصراع الذي ينشأ في النفس الإنسانية من جراء عدم التوافق بين التطور النفسي والتطور المادي، ومضافاً إلى ذلك النقاش حول الثابت والمنظور في حياة المسلم: كل ذلك في كتاب: محمد قطب، التطور والثبات في حياة البشرية، ( القاهرة: مكتبة وهبة، 1961م )، ص 75- 174.
11. القيم العليا والمفاهيم هذه سمّاها سيد قطب خصائص التصور الإسلامي، ( القاهرة الطبعة الثانية 1967 ).
12. أنظر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إسلامية المعرفة، ( هير ندن فيرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية، 1986م )، ص 78- 117.
13. د. حسن عبد الله الترابي، منهجية الفقه والتشريع الإسلامي، ص10 .
14. سورة الرعد، 11 ...أنظر عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، ( دار العلم للملايين، 1975م ).
15. منهجية الإسلام في كيفية التفاعل المثمر بين المسلم وبيئته بواسطة هذه الشعب الثلاث أفاض فيها بعض دعاة العودة إلى الأصول الثقافية للمجتمعات الإسلامية، أنظر: عماد الدين خليل، حول إعادة تشكيل العقل المسلم ( قطر: كتاب الأمة، الطبعة الثانية، 1983م )، ص48- 61.
16. سورة الإسراء، آية رقم (36).
17. سورة فاطر، آية رقم (43).
18. أنظر سيد قطب، الإسلام ومشكلات الحضارة، ص 189.
19. عماد الدين خليل، إعادة تشكيل العقل المسلم ص65.
20. المرجع السابق، ص76.
21. اهتم عدد كبير من الكتاب والمفكرين بالثورة الحضارية التي حدثت تحت كنف المسلمين وبأيديهم. أنظر: جي. تي غرنباوم ( تحرير )، ترجمة صدقي حمدي، الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، ( بغداد: مكتبة دار المتنبي، 1966م ). عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، القاهرة: دار المعارف، 1960م ).
22. العقاد، المرجع السابق.
23. سورة البقرة، آية رقم (30).
24. أنظر خليفة بابكر الحسن، فلسفة مقاصد التشريع في الفقه الإسلامي، ( الخرطوم: دار الفكر، دون تاريخ ) ص11.
25. سورة هود، آية رقم (88).
26. سورة القصص، آية رقم (77).
27. سورة الأعراف، آية رقم (142).
28. راجع تفاصيل ذلك في الشاطبي، الموافقات ( إبراهيم بن موسى محمد اللخمي الشاطبي، طبعة صبيح، وعز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة دار الكتب العلمية، حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، طبعة دار النهضة العربية.
29. كيفية تحليل التراث والاستفادة منه في تطعيم مناهج العلوم الاجتماعية أشارت إليه نفين عبد الخالق ولكن فقط في مجال العلوم السياسية. ونحن هنا نشير إلى القاسم المشترك بين جميع العلوم الاجتماعية. أنظر نفين عبد الخالق، المرجع السابق لنفس المؤلف: ص 75- 76.
30. قانون الغلبة الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية التي حللها المفكر الإسلامي المشهور بابن خلدون. لمزيد من التفاصيل أنظر: بن خلدون المقدمة.
31. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الوجيز في إسلامية المعرفة، ( الطبعة الثالثة 1408هـ 1987م )، ص51.
32. أنظر نيفين عبد الخالق، المرجع السابق لنفس المؤلف ص 74- 75.
33. أنظر حسن عبد الله الترابي، المرجع السابق لنفس المؤلف ص10- 22.
* مدير جامعة النيلين(/11)
تأملات تربوية سورة مريم
د عثمان قدري مكانسي
(1)
هذه بداية تأملات تربوية في كتاب الله - تعالى -، ليس فيها من التفسير إلا ما يخدم الفكرة التربوية في القرآن الكريم، أجلّي فيها الأسلوب التربوي، وأشير إليه دون الخوض في المعاني إلا بما يناسب الهدف التربوي نفسه. وقد أشير إلى هدف بلاغيّ أو تعبير لغويّ أو توجيه نحوي يخدم الهدف التربوي الذي أريد تجليته....والله ولي التوفيق.
1- أسلوب التنبيه:
أساليب التنبيه في القرآن الكريم كثيرة كلما مررنا على واحد منها ذكرناه إن شاء الله - تعالى - في موقعه.. وهنا نجد السورة تبدأ مثل كثير من سور القرآن الكريم بالحروف المقطعة، ك. ه. ي. ع. ص. فالأول والرابع والخامس منها ممدودة والثاني والثالث غير ذلك، مما يشد انتباه السامع والقارئ على حد سواء بطريقتين مجتمعتين قبل البدء بقراءة الجمل والمعاني، هما " الحروف المبهمة " و " الأداء الموسيقي "
والمفسرون يوردون تفسير هذه الحروف منسوبة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، فالكاف " كريم " والهاء " هادٍ " والياء " قوي، ذو الأيدِ " والعين " عليم " والصاد " صادق الوعد ".... إن البدء بحروف متقطعة ذات جرس موسيقيّ مختلف يجعل المتلقي يرهف السمع، إليها لغرابتها فلا يضيع عليه ما بعدها.... ومن ناحية أخرى نجد المتلقي يتساءل في قرارة نفسه عن معناها وطريقة أدائها ليصل إلى تأويلات عدّة، منها: أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف وأخواتها، فإن استطعت أن تأتي بمثلها فافعل. وإلا ثبت أنها من لدن عليم خبير.
2- التأمل والتدبر:
إن كلمة " ذكر " في قوله - تعالى -" ذكر رحمة ربك عبدَه زكريا " توحي بأمور كثيرة يتفاعل بها المتلقي سامعاً وقارئاً. منها:
- إعمال الفكر، وتقليب المعاني في ذكر الله - تعالى -عبده الصالح زكريا، وسبب تخصيصه بهذا الفضل العظيم حين ذكره
- وأن التذكر ليس ضد النسيان دائماً، فالله - سبحانه وتعالى - منزه عن النقائص، والنسيان نقيصة. " لا يضل ربي ولا ينسى " " وما كان ربك نسيّا " " أحصاه الله ونسوه ". إنما التذكر هنا رفع لمقام زكريا - عليه السلام -، واستجابةٌ لدعوته، وخصُّه بالرحمة.
- وأن ذكر الله - عز وجل - يرفع مقام صاحبه في عليين " فاذكروني أذكرْكم " " ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأً ذكرته في ملأٍ خير من ملئه "...
- وانظر معي إلى هذا الربط الرائع بين النبيين الكريمين، فهما أخوان كريمان يستقيان من نبع واحد، ويستضيئان من مشكاة واحدة، فكلمة " ربك" خطاب لنبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - تدل على أعلى مراتب الإنسان: العبودية لله - تعالى -، فمادام اللهُ ربَّه فهو - عليه الصلاة والسلام - عبدُه. وزكريا - عليه الصلاة والسلام - عبده، فاجتمعا في هذه المكانة العلية. وبما أنهما مثال يُحتذى كانت الدعوة لنا من الله - تعالى -أن نكون من عباده.
3 - إغاثة الملهوف:
فزكريا - عليه السلام - لجأ إلى الله - تعالى -، واتجه إليه في دعائه وسأله من فضله، " إذ نادى ربه نداء خفيّا "، فأجابه الله إذ رحمه ووهبه غلاماً زكياً. وهذه لفتة كريمة تحض على مساعدة الآخرين وتقديم العون لهم إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
4 أدب الخطاب: ويتجلى ذلك في أمور عدّة:
أولها: التحبب: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وأنت حين تخاطب من تحب يتكرر اسمه على لسانك. فزكريا - عليه السلام - ذكر ربه خمس مرات في جمل قليلة: " رب إني وهن العظم مني " " ولم أكن بدعائك رب شقيا " " واجعله رب رضياً " " قال رب أنى يكون لي غلام.. " " قال رب اجعل لي آية ". وعلى هذا قبل الله - تعالى -ربوبيته لعبده زكريا حين قال - سبحانه -: " إذ نادى ربه نداء خفيّاً ".
ثانيها: النداء الخافت: فالله - تعالى -يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وحين سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً ينادي الله بصوت عالٍ، قال: له إنك لا تنادي أصمّ بل سميعا بصيراً. وحين سأله رجل: هل ربك قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل قوله - تعالى -: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعانِ.. ". " نداء خفياً ". لأنه معه، " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ".
ثالثها: التذلل إلى الله قبل الطلب: فقد عرض الحال بتسلسل منطقي، وأدب جم، فبدأ بذاته الداخلية " إني وهن العظم مني " ولم يقل وهن عظمي فكان صادقاً فليس كل عظمه واهناً وإلا لم يستطع الحركة، وإنما أراد أن يقول: إنه ضعف وشاخ. وثنّى بجزء منه لكنه الإطار الخارجي منه " واشتعل الرأس شيباً. فلئن كان شعره منه إلا أن بعضه خارج جسمه، أما العظم فمختلط بلحمه وشحمه. ثم التمس تقبل الدعاء وإجابة الرجاء مادحاً ربه: " ولم أكن بدعائك رب شقيّاً " فأنت يا رب سميع الدعاء، ولن تردني خائباً.(/1)
رابعها: الحرص عل الدعوة حين خاف على الدعوة إلى الله أن تضعف و لم يجد من حوله من يقوم بأدائها ويحمل عبئها، " وإني خفت الموالي من ورائي " فلا بد من خلف يكمل عمل السلف. وأمرأته عقيم " وكانت امرأتي عاقراً " فليس لي ذرية يتمون ما أمرتني بالقيام به.
خامسها: البوح بالطلب أن يرزقه الله ولداً صالحاً تقر به عينه حين يراه حاملاً أمانة الرسالة وهم الدعوة إلى الله - عز وجل - بين اليهود قساة القلوب. " فهب لي من لدنك وليّاً، وقد لا يكون الولد وليّاً. فالولي الذي يسير على هديك وخطاك، ويكمل ما بنيته، لا الذي يهدم ما تعبت في بنائه وإقامته. فهو لن يكون ولياً ولو كان من لحمك ودمك. وكم من شوكة تخلف وردة! " ما مهمته؟ " يرثني، ويرث من آل يعقوب "... وهنا نجد الدقة في بيان السبب: أن يرثه في كل شيء كان يقوم به، ويرث الصالحين من آل يعقوب في المهمة نفسها.
سادسها: أن يكمل المنة، فيجعله رضياً. وهنا نجد الأسلوب البلاغي الرائع في قوله - تعالى -" رضياً " فالغلام راض بما قسم الله له شاكر لله فضله، والله راض عنه مكمل عليه نعمته. فـ" رضيٌّ " أدت معنى اسمي الفاعل والمفعول معاً، ولن تكون " راضٍ " و" مرضِيٌّ " لتغني إحداهما عن الأخرى!.... وكم يتمنى الناس الذرية دون أن يقوموا بواجبهم في تربية النشء، ويهتمون بجني المال لأولادهم من حل وحرام، وقد كفل الله لهم الرزق، وكفاهم مؤونته ويتناسون أن الله أمرهم بحسن التربية، وسيحاسبهم على ذلك، أحسنوا أو أساءوا؟.
5- الإجابة السريعة: فإن استطعت أخي الحبيب أن تلبي أخاك فلا تتكاسل. إن الله - تعالى -أجاب عبده المطيع بسرعة فلا نجد حرف عطف ولا حرف استفهام، ولا الفعل " قال":... إنما قرأنا مباشرة: " يا زكريا، إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سمياً ". وتجلت الإجابة السريعة بما يلي:
أولاً: النداء، ما إن نادى ربه حتى سمع نداء ربه: " يا زكريا " فعرف أنه المقصود لا سواه فأصاخ السمع، خافق القلب راغب الخير.
ثانياً: البشرى وهذا أسلوب رائع في طمأنة الفؤاد وإراحة النفس قبل زف البشرى نفسها. ولعل الإنسان يظل مستوفز الأعصاب لا يدري أيسمع بشرى أم إنذاراً حتى يقال له ما يُقال. لكنه حين يسمع كلمة البشرى قبل إلقائها ترتاح نفسه، ويكون أكثر وعياً لتلقّيها. ومما زاد في جمال البشرى أنها جاءت بعد التأكيد " إنا " والفعل المضارع الذي يسمعه، فثبت حصولها.
ثالثاً: تحقيق المطلوب: فهو غلام سيبلغ الحلم وتقر به العينان. وقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً وهي ترغب في الولد، ففوجئت بأنثى، خيبت في البدء أملها في الوفاء بالنذر فـ " قالت رب إني وضعتها أنثى " " وليس الذكر كالأنثى "، لكنها حزمت أمرها ووفت بنذرها. لكنه هنا ذكر يافع. وزاد في تمام الفضل أن الله سماه يحيى من فوق سبع سماوات. ولم يجعل له من قبل سمياً.
6- الضعف البشري: المخلوق ضعيف.. ضعيف مهما علا شأنه، ورسخ إيمانه. ولو كان نبياً إلا من عصمه الله - تعالى -. لكن أخطاء الأنبياء ليست كأخطاء الآخرين، إنما هي هَنات تدل على بشريتهم. لكنهم يظلون مثال الكمال الإنساني ومما يدل على ذلك في قصة سيدنا زكريا ما يلي:
أولاً: أنه ذكر ضعفه وهرمه، وعرف أن زوجته لا تنجب لسببين اثنين أحدهما شيخوختها، وثانيهما عقمها. ومع ذلك فأمله بالله أن يرزقهما ولداً صالحاً كبير... فلما أجاب الله سؤله تعجب من ذلك.
ثانياً: انه حين سأل الله - تعالى -الولد قدّم شيخوخته على عقم زوجته. وكأنه السبب الأول في عدم الإنجاب. فلما تعجب من البشرى نأى بنفسه أن يكون السبب الأول لعدم الإنجاب، فقدم زوجته عليه. وهنا نلحظ الرغبة في الكمال وتفضيل النفس على الآخرين.... ولعله تعجب أن تلد امرأة عقيم بلغت سن الشيخوخة، فنبهه المولى - سبحانه - أنه على كل شيء قدير، فقد خلقه من العدم.
7- تصحيح الخطأ مع التعليل: إذا ترك الإنسان لنفسه فقد يزل ويقع في المحظور، فإدراك العقل محدود، وفهمه قاصر، ولا بد من تصويب الأخطاء كي يبقى الصحيح فقط، فيتمثله القلب والعقل. مع التعليل لدواعٍ عديدة. منها: أن يكون الحكم واضحا بيناً، والدليل ساطعاً فينقطع الشك، وليكون الجواب شافياً. فلما تساءل زكريا - عليه السلام - عن إمكانية حمل زوجته، وبشرى الله لهما بالغلام قيل له: ".. كذلك قال ربك هو علي ّ هين، وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ".
فبين له أن الله - تعالى -خلقه من عدم. وهو - سبحانه - قادر على كل شيء.
8- الاستيثاق من الأمر: وهو أسلوب تربوي ذو فوائد جمة، منها: التأكد، والاطمئنان، والمتابعة. لكن الله هو الذي وعده بالغلام، فهل يطلب منه إثباتاً؟ ! وهو - سبحانه - إن شاء وهب، ويمنع إن شاء. فهل أخطأ زكريا حين سأل ربه العلامة فـ " قال رب اجعل لي آية "؟!(/2)
لو كان هذا السؤال من قبيل الشك فهو الكفر بعينه، وهو قلة الأدب ذاتها. لكنه نبي الله فوق الشبهات، وقد أرادها ليعلم وقت حدوثها. هذا من ناحية. ثم لا بد من الاطمئنان فهذه هي الطبيعة البشرية السوية. والدليل على ذلك ما قاله إبراهيم - عليه السلام - لربه: " رب أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي " والقصة معروفة. كما أن قصة عزير تسير على هذا النسق حين قال وهو في طريقه إذ رأى القدس هدمها الآشوريون: " أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله مئة عام ثم بعثه. قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم. قال: بل لبثت مئة عام.... "فلما رأى قدرة الله في بديع صنعه قال: " أعلم أن الله على كل شيئ قدير ". ومثله قول مريم: " أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر، ولم أك بغيّا " فهي تتساءل للتأكد والتثبت.
9- الدعوة إلى الله في كل الظروف: فإذا مرض الإنسان أو امتنع أن يقوم بواجبه المعتاد بالطريقة التي اعتادها لأمر طارئ اتخذ ذلك ذريعة للتفلت أو الراحة ومن حقه أن يرتاح فترة ليشحذ همته لكن النفس الطموح للنبي الكريم زكريا أبت أن تبتعد عن طريقها المرسوم. فحين حملت زوجته بيحيى و ما عاد يتكلم ثلاثة أيام كما أعلمه ربه بذلك لم يتوانَ عن دعوته، ولم يتخل عن مهمته، إنما التزم المحراب يصلي ويجتهد في عبادة ربه شاكراً فضله، معترفاً بنعمته عليه. وأوحى لأتباعه بالإشارة أن " سبحوا بكرة وعشيّاً "
10- اختيار زمان الذكر ومكانه: أما المكان فالمحراب لمقابلة المليك العظيم، فينبغي أن يكون أفضل مكان في البيت أو المسجد. والمحراب في العربية (صدر البيت، أو المسجد، وأشرف موضع فيه، ومجلس الملوك الذي ينفردون به عن العامة). وأما الزمان فالذي يدل على قدرة الله - عز وجل - في بديع صنعه، حين يتداخل الليل والنهار في الفجر والمغرب هذا التداخل بين الظلام والضياء، وبين الموت والحياة " وسبّح بالعشي والإبكار ".
11- الاهتمام بالجوهر والبعد عن الحشو: يختصر القرآن المسافات التي لا يغني ذكرها. فلم يحدثنا عن طفولة يحيى - عليه السلام -، إنما فاجأنا باللب والمراد من القصة، فإذا هو فتى ذكي الفؤاد قويّ العزيمة، ذو حكمة وفهم، يحمل رسالة ربه بكل ما أوتي من صبر واجتهاد.
12- بر الوالدين: ولن يرضى الله - تعالى -عن الإنسان ما لم يكن الوالدان راضيين عنه. ولن يستطيع حمل رسالة ربه ما لم يحمل في قلبه حباً لهما وتقديراً ووفاءً. ولهذا شمله الله - تعالى -بالسلام والطمأنينة يوم ولد، ويوم مات وبالسلام يوم القيامة والنجاة من النار في ذلك اليوم المهول. حين تبعث الخلائق، فمنهم شقيّ وسعيد....
(2)
الناظر في هذه السورة الكريمة يجدها تتحدث في التربية الأسرية. وعلاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض:
فالمقطع الأول بتحدث عن سيدنا زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام -... وهمّ الدعوة، وحمل الأمانة، وبر الولد بأبويه.
والمقطع الثاني يتحدث عن العلاقة الحميمة بين الأم وولدها، الأم الطاهرة النقية مريم العذراء التي وهبت نفسها لدين الله ودعوته، والولد الصالح عيسى - عليه السلام - الذي دافع عن طهر أمه وشرفها، وحمل الدعوة إلى الله - عز وجل -.
والمقطع الثالث يتحدث عن الصدّيق إبراهيم - عليه السلام - الذي هداه الله إليه، وعلاقته بوالده حين دعا الولد أباه بأدب جم إلى عبادة الله الواحد، ثم اعتزله وقومه إذ أصروا على الكفر، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى ربه، فأكرمه الله - تعالى -بالذرية الصالحة التي رباها فأحسن تربيتها. فكان بذلك قدوة للعالمين جميعاً.
والمقطع الرابع يتحدث عن النبي العظيم موسى صاحب العزم القوي في الدعوة إلى الله، إذ أكرمه ربه فجعله مُخْلَصاً ورسولاً كريماً، ومنّ عليه في أخيه هارون فوهبه أعلى درجات الإنسان في الوصول إلى ربه " النبوة ". فكان موسى لهارون أكرم منّةٍ لأخ على أخيه مرّ الدهور وكرّ العصور.
والمقطع الخامس يتحدث عن دور رب الأسرة في تربية أهله زوجةً وأولاداً ومواليَ فهذا إسماعيل - عليه السلام - كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضياً بسبب تربيته إياهم. فكان قدوة لمن بعده في الاعتناء بالأسرة ووصلها بالله.. فمن كان بحبل الله موصولاً سعد وأُكرم، وحاز القبول.
وقد كنا الأسبوع الماضي نتأمل في رياض المقطع الأول، في رحاب النبيين الكريمين الأب زكريا وابنه يحيى.. فهلمّ إلى الروضة الغناء في رحاب العذراء البتول وابنها السيد الكريم عيسى - عليهما السلام -.
1- تقييد العلم: العلم في الصدور، وتقييده في السطور، وكلمة " اذكر في الكتاب " ترددت خمس مرات في هذه السورة الكريمة:
" واذكر في الكتاب مريم "
" واذكر في الكتاب إبراهيم "
" واذكر في الكتاب موسى "
" واذكر في الكتاب إسماعيل "
" واذكر في الكتاب إدريس "(/3)
والفائدة التربوية الأولى من كلمة " اذكر " العلم: فالعلم بالشيء ومعرفته أمر لا بد منه لأهل الدعوة (ففاقد الشيء لا يعطيه).
والفائدة الثانية الكتابة: إن تقييد العلم في كتاب يحفظه من الضياع، ويثبته في الذاكرة بين الحين والحين.
والفائدة الثالثة التعليم: وهذه رسالة الأنبياء والدعاة والمعلمين، لا ينبغي التفريط فيها، " فمن كتم علماً لجمه الله بلجام من نار".
2- شفافية التبتل إلى الله: من كان مع الله كان الله معه، ومن أخلص في عبادته اجتباه الله وأدناه. فقد انقطعت مريم عن اقرب الناس إليها وعن الدنيا، واجتهدت في التقرب إلى مولاها، فاستقلت عنهم بأدب جم دون أن تسيء إليهم " فانتبذت " منهم ولم يقل: " نبذتهم " ففي الأولى ابتعاد وانقطاع مع احترام وتوقير، وفي الثانية احتقار واستعلاء. فالانتباذ بالنفس، والنبذ للآخرين!... أرأيتم جمال التعبير؟!... إلى أين؟ " مكاناً شرقياً "... إلى مصدر النور عند إشراق الشمس. ومن كان قصده خالق النور والضياء احتجب عن الناس " فاتخذت من دونهم حجاباً".
3- الجزاء من جنس العمل: حين انقطعت إلى الله - تعالى -ورغبت فيما عنده ورجت رضاه لم يخيب أملها... وصلها حين وصلته. وقبلها حين قصدته. " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني أعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه ". لقد أرسل إليها كبير الملائكة " جبريل " - عليه السلام -. ليكرمها بسيد من سادات البشر.
4- المنطقية في التعامل: لجبريل - عليه السلام - ست مئة جناح، كما ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام -. وكان يملأ السماء حين رآه النبي - عليه الصلاة والسلام - مرتين على هيئته التي خلقه الله - تعالى -عليها. فلو أنه دخل على مريم بهذه الهيئة لسقطت ميتة أو مغمىً عليها. فلم يكن تباسط، ولا حديث، ولما عرفت سبب دخوله عليها ولا ماهيته. إذاً دخل عليها على هيئة رجل " فتمثل لها بشراً سويّاً " لتفهم منه، فيخاطبها وتخاطبه.. وقد نبه المولى - سبحانه وتعالى - إلى المثليّة فقال رادّاً على الذين رغبوا أن يكون الرسول ملكاً حتى يؤمنوا به: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً؟! قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملَكاً رسولاً".
5- الحوار: هو أسلوب راق في التربية، له فوائد كثيرة. منها:
1- أنك تسمع حديثاً فيه آراء وحجج يدلي بها المتحاورون، ليبرهن كل منهم على صواب ما يرتئيه.
2- إن الحوار يثري السامع والقارئ والرائي بأفكار تطرح أمامهم، بالحجة والبرهان، فيعتادون التفكير السليم والأسلوب القويم.
3- أن الحوار أثبت في النفس لأن السامع يُعمل أكثر من حاسّة في تفهّم أ بعاد الحوار ومراميه
وعلى هذا تعال معي إلى متابعة الحوار بين الملَك ومريم:
" قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنتَ تقيّاً "
" قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً "
" قالت: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر، ولم أكُ بغيّاً "
" قال: كذلك قال ربك: هو عليّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمةً منّا،
وكان أمراً مَقضيّاً".
وفي هذا الحوار فوائد جمة، نذكر منها:
1- اللجوء إلى الله - تعالى -في الملمات، فهو حصن حصين وركن ركين.
2- الرجل التقي لا يقتحم مخادع النساء، وينأى بنفسه عن الشبهات.
3- لا بد من تعليل يبعد هذه الشبهات، ولو كان المشبوه به تقيّاً فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجلين رأياه مع صفية ليلاً: هذه أمكم صفية. كي لا يبوءا بالكفر حين يظنان السوء بنبيهم... فقال الملَك: لأهب لك غلاماً زكيّاً.
4- المرأة المسلمة الشريفة لا تزني، ولا يكون الحمل إلا بالزواج أو الزنا.
5- إذا أراد الله شيئاً قال له: كن فيكون. ومريم تعلم أن الله - تعالى -قادر على كل شيء لكنها أبدت تعجبها أن يختارها الله لهذا الشرف العظيم
6- توخي الحذر والستر: يعلمنا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - التستر. فيقول: إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا " ونعى القرآن تساهل اليهود في السكوت عن المنكر " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " ووبخ لوط - عليه السلام - قومه الذين استحلوا اللواط وجهروا به " إنكم لتأتون الفاحشة، ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل، وتأتون في ناديكم المنكر.. " اما الطاهرة العفيفة مريم فقد استترت في مكان قصي وهي لم تفعل المنكر، فكانت مثالاً للشرف المصون والفتاة التقية. حتى إنها تألمت ألماً شديداً، وتمنت أنها لم تخلق، ولم يعرفها أحد. بل لو كانت شيئا لا قيمة له.(/4)
7- الدعم والتأييد: إذا كلفت أحدهم بمهمة فلتكن قدر استطاعته " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وإذا لم يستطع القيام بها لكونها فوق طاقته أو كانت ثقيلة فأعنه عليها، وسهّلْ له سبلها وهذا ما وجدناه في قصة مريم فقد:
- سمعت من يكلمها في وحدتها ويشد من أزرها.
- جرى إلى جانبها جدول ماء عذب شربت منه.
- هزت جذع النخلة فتساقط عليها رطب لذيذة سهلت الطلق والولادة.
- الامتناع عن إجابة المتطفلين.. فهي صائمة عن الكلام. ومن الذي سيتكفل بالإجابة؟ إنه ولدها الذي يدافع عنها بإذن الله. وسينطقه الله بما يبرئ أمه ويرفع قدرها بين الناس.
وعلى هذا استمدّت قوة وشجاعة، وعادت إلى قومها تحمل وليدها. وكان ما كان من أمر الناس، وحق لهم أن يسألوها، فهي ابنة سيدهم المعروف بدينه وخلقه وأمها مثال الصون والعفاف، كما أنهم يعرفونها شديدة التدين مشهورة بالعفة والطهارة.
8- الرد المفحم: قد يكون الإنسان صاحب حق، إلا أنه عيي أو أحمق أو غبي ساذج لا يعرف كيف يستخرج حقه أو يحتفظ به أو يدافع عنه، فيضيع منه كلّه أو جلّه، وقد يكون أحدهم مبطلاً لكن لسانه طليق وحجته حاضرة وأساليبه ذكية، فيسلب حق غيره ويحتال على الضعفاء فيغمطهم نصيبهم.
لكن الله - تعالى -لقّن الوليد حجته، فكان قوله الفصل وبيانه الفصل
أولاً: عرّف بنفسه. فهو عبد الله. ومن أعلن عبوديته لله فقد عرف ربه وهذه أسمى المراتب
ثانياً: ومن كان عبداً لله - تعالى -فتح عليه ينابيع العلم وكنوز المعرفة، وآفاق الحكمة.
ثالثاً: ثم خصه الله بمرتبة النبوة الكريمة، وهذه قمة الإنعام والفضل.
رابعاً: أفاض عليه الخيرات والبركات، فكان مع الله قلباً وقالباً في حله وترحاله، ونومه ويقظته،
خامساً: وأوصاه أن لا يفتر عن ذكر الله وأن يكثر من الصلاة وهي الصلة بالله والزكاة الإحسان إلى عباد الله وكأنه - سبحانه - يقول: عبدي أحسنت إليك فأحسن إلى عبادي، وأحب عباد الله إليه أنفعهم لعياله.
سادساً: والأقربون أولى بالمعروف. وفضل الأم لا يدانى. وقد قرن الله - تعالى - عبادته بالإحسان إلى الوالدين. ثم يكتمل الإحسان بتعميمه على الناس أجمعين.
سابعاً: ويتوج ذلك كله بسلام الله عليه في حياته وفي موته، وحين يبعث يوم القيامة.
ومن الطريف أن المفسرين يوردون حواراً بين ابني الخالتين، عيسى ويحيى.
فيقول عيسى: أنت خير مني يا يحيى.
فيقول يحيى: بل أنت خير مني، أنت من الخمسة أولي العزم.
فيقول عيسى: بل أنت خير مني، فقد سلمت على نفسي، فقلت: والسلام عليّ وأنت سلم الله عليك فقال: وسلام عليه.... صلى الله عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين.
1- الداعية مؤتمن:
تفيد كلمة " اذكر " ذلك الخطاب خطاب التكليف من الله - تعالى - لنبيه الكريم يأمره أن لا يغفل شيئاً مما أمره الله به، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - مؤتمن على الدعوة. وعليه أن يبلغها كاملة. فهي أمانة في عنقه. كما أن كل مسلم داعية في محيطه، كبر هذا المحيط أم صغر... وبما أنه - صلى الله عليه وسلم - مخاطب في القرآن الكريم من أوله إلى آخره فهذا دليل على أن القرآن ليس من عنده. فالإنسان لا يأمر نفسه أمام السامعين أو القارئين.. صحيح أنه يفكر أحياناً بصوت عال إلا أن كثرة الأوامر والتعليمات في القرآن تدل على أن الرسول المعلم ينفذ تعليمات خالق سيد آمر.
2 المديح: أسلوب راق يستعمله المربون:
ا للتعبير عن الرضا بما يصدر من أعمال أو أقوال تسر وتُحمد.
2 لدفع الممدوح إلى التزام ما يرفعه في أعين الناس.
3 يوحون به للآخرين أن يكونوا مثل الممدوحين في شمائلهم.
وقد مدح المولى عبده إبراهيم - عليه السلام - بصفتين لا يتصف بهما إلا من كان في القمة البشرية " كثرة الصدق والنبوة ". مع تعليل الوصول إلى هاتين المرتبتين العظيمتين. فقد كان داعية مخلصاً لدعوته لا يمالئ فيها أحداً أبداً. وهذا أبوه أقرب الناس إليه يفاتحه بها ويدعوه إليها بأكثر من طريقة تربوية رائعة.
نذكر أولاهما متسلسلة بعد أسلوب المديح:
3- التحبب: يدخلك القلب دون استئذان، ويبوئك المكانة العالية في صدور السامعين ونفوسهم. أما المتعالى فعلى العكس من ذلك ينفر الناس منه، ويجدونه ثقيلاً على قلوبهم... وكرر كلمة " يا أبت " متحبباً إلى أبيه، محاولاً دخول قلبه:
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟
يا أبت: إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً.
يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن عصياً.
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً.
ولعل
4- التكرار: وهو أسلوب أصيل في التربية أفاد هنا بالإضافة إلى التحبب التأكيد والتفصيل والتنبيه غلى خطر عظيم وأمر مهم. إن الطرق يلين الحديد لكن قلب الأب الكافر أقسى من الحديد، أو قد من صخر فلم ينفع معه الاستعطاف واللطف.(/5)
5- الترتيب والتتابع في العرض: ففي الآية الأولى من كلام إبراهيم - عليه السلام -
لوم لطيف لوالده وعتاب: فكيف يعبد آلهة ضعيفة ليس لها سمع ولا بصر، ولا تنفع؟! ويقدم السمع على البصر لأنه أوسع فجعل له الأولوية، وهذا شأن القرآن الكريم في تقديم الأهم ويتجلى هذا الترتيب من حيث الأهمية في قوله - تعالى -" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " الآية 14 من سورة آل عمران. فالمرء يبذل المال ليتزوج فينجب البنين.. فالنساء أولاً ثم إنجاب البنين، والمال في خدمتهما فهو الثالث من حيث الأهمية. وقدم من المال الذهب على الفضة، وتأتي الخيل ثالث المال والأنعام رابعها من إبل وبقر وغنم.. ثم أخيراً دور الزرع...
وبعد اللوم على الضلال يدعوه إلى اتباعه على علم: وعلى الجاهل مهما كبر أن يتبع العالم مهما صغر. فالحق أحق أن يُتبع والعلم يهدي إلى الصراط السوي - فليس سواء عالم وجهول.
ثم يأتي التحذير من الشيطان: لأنه عدو للرحمن، يحيد بمن اتبعه عن الحق ويغويه فيغضب الله - تعالى -عليه ومن عصى الله كان إلى النار نهايته.
ثم يأتي التخويف من الله الذي يعاقب بالنار الشيطان ومن تبعه، فإبراهيم - عليه السلام - يخاف على أبيه لأنه يحبه. وقد جاء في تفسير قوله - تعالى -: " ولا تخزني يوم يبعثون " في سورة الشعراء أن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة، فيقول: يا رب: إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون. فيقول الله - تعالى -: إني حرمت الجنة على الكافرين. وفي رواية أخرى: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إن وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟. فيقول الله تعال: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقول: يا إبراهيم، انظر تحت رجلك. فينظر، فإذا بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه، فيُلقى في النار. نعوذ بالله من سوء المصير...
وهذا الأسلوب التدرجي من اللوم إلى الدعوة إلى التحذير إلى التخويف أسلوب تربوي ينتقل بالمدعوّ خطوة خطوة.
6- الحلم: ولا بد للداعية أن يكون في دعوته للآخرين حليما واسع الصدر يحتوي المدعوين وإن أساءوا إليه. هذا ما نراه من سيدنا إبراهيم حين جبهه أبوه بقوله: " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ " وهدده بالرجم والطرد: " لئن لم تنته لأرجمنك، واهجرني مليا " فرد عبه بألطف كلام يدل على الحلم والروية:
" سلام عليك، سأستغفر لك ربي، إنه كان بي حفياً"
أسلوب يدل على اهتمام الداعية بدعوته ومن يدعوهم إليها وعلى اهتمام المربي ومن يربيهم. إن الإجابة بالعنف والارتجال القائم على ردة الفعل يضر ولا ينفع، فهو إن حصل لم يعد للتفاهم مكان، ولا للنصح قبول، وضيع الداعية الفرصة في اكتساب الناس.
وهذا ما فعله الصالحون في كل زمان ومكان وقالوه: " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ". وهذه صفات عباد الرحمن الذين مدحهم الله - عز وجل -: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً "
7- والشفاعة: وهي طلب الخير للغير والوساطة لهم عند من يرجونهم. وهذا ماعناه النبي الكريم إبراهيم حين قال: " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً " إن المدعو حين يرى من الداعية اهتماماً واعتناءً يلين قلبه ثم يتقبل منه ما يقول، ثم يؤمن بما يقول، ثم يعتنق ذلك ويكون منافحاً عن هذه الدعوة " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ".. كان الصحابة متحلقين حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل رجل من بعيد إلى مجلسه - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت إليهم - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " هذا الرجل قادم يريد مني مسألة، وإني معطيه إياها إن شاء الله، ولكن إذا سألنيها فاشفعوا له، والله يُؤجركم على شفاعتكم، وليقض الله على لسان نبيه ما يشاء ". جاء الرجل وجلس ولم ينبس ببنت شفة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألك حاجة يا رجل؟. " قال: نعم يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم. وذكر حاجته. فكان أصحاب رسول الله يقولون:
- هو أهلٌ لفضلك يا رسول الله.
- ما علمنا عنه إلا خيراً يا رسول الله.
أحسن إليه يا رسول الله. فما عهدناك إلا محسناً.
كان الرجل ينظر إليهم مسروراً من شفاعتهم، وقد أحبهم وشعر أنه منهم وأنهم منه.... يا لهذا المجتمع المتحاب المتكافل... وابتسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد اكتسب إلى المسلمين واحداً آخر، وعلم أصحابه أن يناصر بعضهم بعضاً.... وقضى للرجل حاجته.(/6)
8- اعتزال الجاهلين: المسلم داعية. فكيف يدعو الناس إذا اعتزلهم؟.. إنه يعيش بينهم ليؤثر فيهم لا ليتأثر، يعيش بينهم مادة لكنه مع ربه قلباً وروحاً وفكراً. يعاملهم بالحسنى ويتحملهم، ويشاركهم حياتهم إلا أنه ينأى عن مفاسدهم وكيف يعتزلهم منقطعاً عنهم تماماً والرسول الكريم يقول: " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم "؟! فإبراهيم - عليه السلام - قال: " واعتزلكم وما تدعون من دون الله " هو اعتزال المسلم للمنكر والجهالة، إلا أنه حاضر بينهم يعمل على هدايتهم، يقوم بخدمتهم والسهر على مصالحهم. وتنبيههم إلى الصواب وحضهم عليه
9- ثواب الصالحين: " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علياً " وهبه الله - تعالى - بعد العقم ولداً صالحاً وحفيداً صالحاً، وزاده نعمة أن جعلهما نبيين كريمين، وأكرمهم ببقاء ذكرهم مكرما وذريتهم على مر الدهور وكر العصور، فكل المسلمين وغيرهم من اهل الأديان يكبرونهم ويجلونهم. بل إن الله - تعالى -أخبرنا أنه أكرم الأولاد بسبب صلاح الآباء، " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك. " سورة الكهف. وقد قتل الرجل الصالح في سورة الكهف الغلام السيء وأبدله فتاة صالحة لأن الأبوين كانا صالحين. فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
http://saaid.net المصدر:(/7)
تأملات تربوية في سورة الشعراء (1)
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
في هذه السورة الكريمة – كبقية أخواتها - مواقف تربوية جمة تنير الفكر ، وتنشط القلب والعقل ، وتضيف كنوزاً من فيض التربية القرآنية يظهر فيها واضحاً جلياً . من أهمها :
التكرار . فما فائدة التكرار هنا ؟
ذكرت في كتابي " صور من التربية في القرآن الكريم " قريباً من اثني عشر هدفاً للتكرار . وقلت فيما سبق من تأملات : إن التكرار ظاهرة تربوية وأسلوب تعليمي أصيلان ... يدخل إلى النفوس والقلوب من أبواب متعددة ، تفتحها بطرق مختلفة ، قوية حيناً وبسيطة حيناً آخر ، مخيفة تارة ومحبِّبة تارة أخرى . فتحقق الأهداف التربوية والأخلاقية والتعليمية . فأين التكرار في هذه السورة ؟
جاءت السورة في أقسام تسعة تؤصل في قلب الإنسان التوحيد وإفراد المولى عز وجل بالعبادة ، وتنبه إلى اتباع الرسل والأنبياء ، وتدعو إلى تقوى الله ومراقبته سبحانه وتعالى ، وتخوّف من نتائج الكفر والعصيان .
ففي القسم الأول والأخير يخاطب الله تعالى رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام . وفي الأقسام الأخرى يحدثنا عن الأنبياء الكرام موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم صلوات الله وسلامه بشكل متتابع ، وما لاقَوْه من عنت أقوامهم ، وتكذيبهم إياهم حين دعَوهم إلى عبادة الله وحده والعمل الصالح ، مع ذكر العقوبة التي كانت فيها نهاياتهم .
وفي نهاية الحديث عن كل نبي نجد الخاتمة في قوله تعالى " إن في ذلك لآية ، وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الحكيم " تكررت سبع مرات توضح :
1- أن الله تعالى أيد رسله بأدلة وبراهين . ولا بد لإنجاح المهمة أن تزود المكلَّف بأية مهمة تريد إنجاحها بآيات واضحة وبراهين دامغة .
2- وأن أكثر الناس يتبعون أهواءهم ، ويتنكبون طريق الهداية . فالشيطان والهوى يميلان بالنفس إلى التخفف من الأعباء ، ونبذ التكاليف ، والانحراف عن الحق .
3- وأن الله تعالى قوي عزيز يفعل ما يشاء ، وهذه قمة التهديد . ولأنه سبحانه عزيز قادر على كل شيء فسيعاقبهم إن شاء وقت ما شاء ، كيفما شاء .
4- وأن الله تعالى يقبل توبة من تاب وأناب مهما فعل . فهو الرحيم بعباده ، يُقبل عليهم إن أقبلوا ، ويتجاوز عن سيئاتهم إن عادوا إليه ولاذوا بحماه .
5- كما كانت هذه الآية إيذاناً بانتهاء قصة وبدء أخرى كلاهما متشابه يؤدي إلى المعنى الذي تريده السورة والهدف المنشود منها ، وبمعنى آخر أن هذه الآية الكريمة تعالى " إن في ذلك لآية ، وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الحكيم " رابط يجمع عمل الأنبياء في عمل واحد وهدف واحد هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى .
ونجد في بداية قصص الأنبياء الخمسة الكرام " نوح وهود وصالح ولوط وشعيب " تكراراً في الدعوة إلى التقوى والتعريف بالمهمة " كذّبت ... المرسلين إذ قال لهم أخوهم .... ألا تتقون ؟ إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ، وما أسألكم عليه من أجر ، إن أجريَ إلا على رب العالمين " تكررت خمس مرات تؤكد فيها
1- وجوب التبليغ " إذ قال.... " وذلك ليقيم عليهم الحجة وهذا مصداق قوله تعالى " يا أيها الرسول : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته "
2- وأنه " أخوهم " يحب لهم الخير ، ويودّه لهم إلا في الحديث عن شعيب فلم تُذكر كلمة الأخ لأن المفسرين قالوا : إن أصحاب الأيكة لم يكونوا من قوم شعيب ، وإن كان قد أرسل إليهم بعد أن دعا قومه . أما قومه الذين أرسل إليهم أولاً فهم أهل مدين . وعلى هذا ذكر القرآن الكريم في سورة هود أنه أخوهم – أي منهم – " وإلى مدين أخاهم شعيبا ".
3- ولو تتبعنا قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب لوجدنا أنهم أُرسلوا إلى أقوامهم فقط . فكل نبي إرسل إلى قومه وليس معه رسول آخر. فكل قوم كذّبوا نبيّهم وحده !! فلماذا أكد الله سبحانه وتعالى أنهم كذبوا المرسلين ؟ والجواب أن من يكذّب نبيا فقد كذّب الأنبياء كلهم ،ومن صدّق نبياً فقد صدّق الأنبياء جميعهم . فالأنبياء يصدرون عن مشكاة واحدة .ومن هذا نفهم قوله تعالى يمدح المسلمين أتباع محمد عليه الصلاة والسلام " والمؤمنون .. كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير "
4- وطلب إليهم أن يتقوا الله ، فالتقوى طريق الإيمان ودعامته. ولا تكون التقوى إلا بطاعة الرسول ، فالرسل كل الرسل مؤتمنون على الرسالة وصادقون في تبليغها. ولذلك أعلن الرسل جميعهم مقولة واحدة " إني لكم رسول أمين " والأنبياء رمز الأمانة ، ألم يأمر الله تعالى موسى وهارون حين يأتيان فرعون " فقولا إنا رسول رب العالمين ، أن أرسل معنا بني إسرائيل " ؟ لو لم يكونا أمينين ما اختارهما الله تعالى لقيادة بني إسرائيل إلى بر الأمان .(/1)
5- وأمروهم بالتقوى بأسلوبين يقوّي أحدهما الآخر أما الأول " ألا تتقون ؟ " فقد جاء باسلوب الاستفهام التحضيضي . وهذا أدعى إلى التفكير واتخاذ القرار دون ضغط ولا إكراه . وأما الثاني " فاتقوا الله .." فقد جاء بصيغة الأمر بعد التفكير و التعليل وتقرير أمانة الرسل وأن الأمرقد اتضح الأمر وظهر الحق لذي عينين .أما موسى فقد أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه فهم
- ظالمون
- لا يتقون
" وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ، قوم فرعون ألا يتقون ؟ !!
6- وقد يأمرك أحدهم بأمر لك فيه مصلحة وله فيه – منك – مصلحة دنيوية . أما الرسل الكرام فهم يدعون لوجه الله لا يريدون منا جزاء ولا شكوراً " وما أسألكم عليه من أجر ، إن أجري إلا على رب العالمين " وثواب الأنبياء على دعوتهم كبير جداً وعظيم جداً لا يقدر عليه البشر ، ويؤديه إليهم رب البشر واهب النعم ، وجزاؤه خير الجزاء ، ألم يعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نقول لمن أدى إلينا معروفاً ونريد له المكافأة الكبيرة " جزاك الله عنا كل خير "؟
أما الآية " فاتقوا الله وأطيعون " فقد وردت في الحديث عن نوح وهود وصالح مرتين وذلك لطغيان قوم نوح وقوم هود وقوم صالح فقد مكث نوح عليه السلام بينهم الف سنة إلا خمسين عاماً يحاجّونه ويؤلبون عليه سفهاءهم ويكذبونه وطال عليهم الأمد حتى مل منهم ويظهر ألمه هذا في سورة القمر " فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر. وأما قوم هود فلأنهم تجبروا وبطشوا بالمؤمنين وبمن حولهم من القرى ، واعتمادهم على قوة أجسادهم وضخامتها ، ولبطرهم وغناهم وما أمدهم به الله تعالى من مال وبنين وأنعام وجنات وعيون فكانوا لنعمه جاحدين . وأما قوم صالح فلأن الله تعالى هيّأ لهم حياة هنية وغنى فاحشاً وقوة جسدية مكنتهم من حفر الجبال واتخاذها بيوتاً، ثم طلبوا آية فأرسل الله لهم الناقة فظلموا بها وعتَوا عن أمر ربهم
أما في الحديث عن قوم لوط وعن شعيب مع أصحاب الأيكة فقد وردت الآية " فاتقوا الله وأطيعون " مرة واحدة ولعل المتتبع للسورة يجد أن مفاسدهم كانت فيما بينهم ، وأن مكوث النبيّيْن الكريمين بينهم كان أقل – والله أعلم -.
وثاني التأملات في هذه السورة الكريمة التعليل وذكر السبب :
والتعليل لأسباب كثيرة أيضاً منها :
البراءة والإعذار .
توضيح الأمور وتبيانها .
أن يتحمل المعنيّ مسؤولية قوله وفعله .
أن يكون صاحبَ القرار الأخير فيما يتصرف.
وسأذكر بعض الأمثلة :
- فسيدنا إبراهيم أعلن عداوته للأصنام ورفض عبادتها ، وأكد عبوديته لله رب العالمين للأسباب التالية :" الذي خلقني ، فهو يهدين .
والذي هو يطعمني ويسقين .
وإذا مرضت فهو يشفين .
والذي يميتني ثم يحيين .
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . "
ولأن الله تعالى صاحب الأمر والنهي الذي يستحق العبادة فأنا أدعوه وحده فهو المجيب الذي يلجأ إليه كل المخلوقات في الدعاء وهو الذي أسأله " وإذا سألتَ فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " فقال : "رب هب لي حكماً ، وألحقني بالصالحين .
واجعل لي لسان صدق في الآخِرين .
واجعلني من ورثة جنة النعيم .......................
ولا تخزني يوم يُبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا
من أتى اللهَ بقلب سليم "
- والشياطين لا يمكنهم أن يسترقوا السمع " وما تنزلت به الشياطين ، وما ينبغي لهم ، وما يستطيعون " فلماذا ؟ وما السبب؟ " إنهم عن السمع لمعزولون "
- وأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يتوكل عليه " وتوكل على العزيز الرحيم " فلماذا؟ السبب: أنه تعالى هو " العزيز الرحيم
الذي يراك حين تقوم ، وتقلبك في الساجدين
إنه هو السميع العليم . "
- ويقول الله تعالى " والشعراء يتبعهم الغاوون " فلم يارب ؟ فالجواب :
" ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ؟!
وأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟! ................ "
وثالث هذه التاملات الاعتبار بمصائر الآخرين
فمن كان ذا قلب حي وبصيرة نافذة ادّكر ووعى ، وعمل صالحاً ونأى عن مواطن الخطأ ، وأقبل على الله تعالى بقلب منيب . والله تعالى حين يقص علينا مصارع الظالمين ونهايتهم المخيفة يحذرنا أن نسير سيرتهم وأن نسير على منوالهم كي لا ننتهي نهايتهم .
- فكيف كانت نهاية فرعون وملئه؟ " قال سبحانه " فأخرجناهم من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم " كانوا يتمتعون بها في مصر ثم استدرجهم إلى خليج السويس لينجي المؤمنين بقيادة النبيين موسى وهارون وليقضي عليهم غرقاً " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين " .
- وكيف قُضي على قوم نوح ؟ أغرقهم الله تعالى بالطوفان العظيم فلم يبق منهم أحداً ، ونجّى نوحاً والمؤمنين معه بالسفينة التي صنعها النبي الكريم " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ، ثم أغرقنا بعدُ الباقين "(/2)
- أما قوم هود فقد استأصل الله تعالى شأفتهم " فأهلكناهم " وذلك بالريح الشديدة التي دمرتهم يقول تعالى في سورة الذاريات مصوراً نهايتهم المفجعة : " وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، فهل ترى لهم من باقية ؟ "
- وقوم صالح أبيدوا كذلك " فأخذهم العذاب " وذلك بالصيحة التي صعقتهم فماتوا لساعتهم . يقول الله تعالى في سورة القمر " إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر " .
- وأما قوم لوط فأنهاهم عن بكرة أبيهم ، وكأنهم ما كانوا " ثم دمرنا الآخرين " وكان عقابهم على شقين كما ورد في سورة هود " فلما جاء أمرنا
جعلنا عاليَها سافلها
وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ، مسومة
عند ربك ... "
- وأما أصحاب الأيكة فقد أحرقوا بنار انبعثت من سحابة حسبوها تظلهم من حر الشمس " فكذبوه ، فأخذهم عذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم "
ورابع هذه التأملات الاستكبار يمنع الإيمان :
فقوم نوح وجدوا ضعاف القوم هم الذين يؤمنون ، فهل يتنازلون ليكونوا مثل عبيدهم ، وفي مصافهم ! لا خاصة أن هؤلاء الضعفاء سبقوهم إلى هذا الدين الجديد ، فهل يرضى السادة أن يكونوا في الصف الثاني ؟! لا وألف لا " قالوا : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ؟!! " فنبههم النبي الكريم نوح إلى أن مكانة الإنسان بعمله لا بنسبه وغناه . والداعية لا يفرق بين غني وفقير ، ولانسيب وغير نسيب ألم يضحك الصحابة رضوان الله تعالى من دقة ساق عبد الله بن مسعود – الذي قطع ابو جهل أذنه ودعاه رويعيّ الغنم - فأخبرهم النبي الكريم عليه الصلاة والسلام " أن ساقه عند الله تعالى أثقل من جبل أحد " ؟ فأجابهم نوح عليه السلام ".. وما علمي بما كانوا يعملون ؟ إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون " بل قربهم إليه واعتنى بهم واحتفى بهم لأنهم لبوا دعوته حين أنذر وبشر " وما أنا بطارد المؤمنين ، إن أنا إلا نذير مبين " ويتكرر الأمر بشكل أوضح في سورة هود حين يشتد الجدال بين نوح عليه السلام وبين قومه في الآيات/ 25- 31 / ولقد فعل المشركون مع النبي صلى الله عليه وسلم الشيء نفسه حين قالوا له مثل ما قال أسلافهم لنوح فأمره الله تعالى أن يحافظ عليهم ويقربهم ، ويُدنيهم من مجلسه وأن يترك الغافلين الذين اتبعوا أهواءهم " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، يريدون وجهه.
ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زهرة الحياة الدنيا .
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطاً " بل حذره من طردهم فهم عباد الله الذين يذكرونه في كل وقت بيغون رضاه سبحانهفقال في سورة الأنعام : " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين " . وكان صلى الله عليه وسلم يحتفي بابن أم مكتوم فيقول له : أهلا بمن عاتبني فيه ربي .
كما أن قوم نوح هددوه بالرجم " قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين "
ومن صيغ الاستكبار الإعراض والتكذيب والاستهزاء : " وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين . فقد كذّبوا ، فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون "
ومن صيغ الاستكبار وصف فرعون النبي موسى بالسحر والجنون " قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " . وقوله للملأ حوله " إن هذا لساحر عليم " ثم تهديد موسى بالسجن وتهديد السحرة بالصلب والتقطيع " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين " " لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنّكم أجمعين "
كما أن قوم هود استهجنوا الدعوة واعتبروه مخرّفاً فقالوا مستهجنين العذاب الذي هددهم به إن كفروا " أنْ هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين " .
وهؤلاء قوم صالح اعتبروه مسحوراً ، وتحدوه بعقر الناقة " قالوا : إنما أنت من المسحَّرين ...... فعقروها "
وقوم لوط هددوه في هذه السورة بطرده من القرية " لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين "
وأما شعيب فقد نعته أصحاب الأيكة بأنه مسحور ، وأنه كاذب " قالوا : إنما أنت من المسحَّرين ..... وإنْ نظنك لمن الكاذبين " .
وخامس هذه التأملات : مخاطبة المدعوين بلغتهم :
يخاطب الله تعالى العرب أنفسهم حين يخاطب نبيه الكريم بلسان عربي واضح لا لبس فيه " ... لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " وهذا له فوائد جمة ، منها:
أنه منهم ، يتكلم بلغتهم ، ويخاطبهم بما يفقهون .
وأنه يعرف أساليبهم ولهجاتهم بأفصح لغة وأعذب بيان.
فيقيم بذلك الحجة عليهم فلا بيقى لهم عذر للإنكار .
وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها في سورة يوسف :
" إنا أنزلناه قرآناً عربياً ، لعلكم تعقلون "
وفي سورة الزمر " قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون "
وفي سورة الزخرف " إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون "(/3)
وعلى هذا فينبغي أن يتعلم المسلمون اللغات الأخرى ليوصلوا القرآن الكريم والدين الكامل للأمم كلها بما يفهمون ليقيموا الحجة علي الناس .وليعذروا إلى ربهم .
كما أن تعلم اللغات يفيد في التعرف إلى الآخرين في أفكارهم ، والدخول إلى قلوبهم ، وأمن مكرهم . فقد أمر النبي الكريم زيد بن ثابت وغيره أن يتعلم العبرية ففعل . وقال صلى الله عليه وسلم : " من تعلم لغة قوم أمن مكرهم "(/4)
تأملات تربوية في سورة الشعراء ( 2 )
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
وحديثنا هنا إن لم يكن كله عن موسى عليه السلام فجلّه عنه .. وأول ما نقف عليه :
1- تجسيد الفكرة وذلك بالعودة إلى زمان القصة ليعيش المتلقي في أجوائها ، ويتصوّرها أمامه ، وكأنه يراها . وأداة ُالانتقال الظرفُ الماضي المتحرك " إذ " الذي ينقلك إلى الحدث فتتصورُه أمامك بصراً وسمعاً فإذا بك تسمع صوت الله تعالى من أعماق قلبك " وإذ نادى ربك موسى " فتصيخ السمع .. وأنت لا تملك إلا أن تسمع ، فهو الصوت الحق الذي يمتلك الوجودَ زمانَه ومكانَه ... كيف لا وهو خالق الزمان والمكان !!! والنداء الحق لا بد أن يطرُق شغاف قلوب المؤمنين ماذا يقول الله تعالى لموسى ؟
إنه يأمره أن:
2- يدعو الناس إلى تقوى الله عز وجل ، فالتقوى مِلاك الحياة وسبيل السالكين إلى مرضاة رب العالمين وعلى المرء السويّ أن ينحو في دعوته إلى تحقيق هدفين اثنين
أولهما أن يدعو نفسه التي بين جنبيه إلى البعد عن الهوى وسبل الغواية .
وثانيهما أن يدعو الآخرين إلى ما اعتقده من الحق ليحيَوا نقاء الحياة التي يحياها ، وليكونوا عونه في نشر دعوته التي ارتضاها .
وعلى الدعاة أن يكونوا بين الناس ، وفي حقل الدعوة ، وما أفلح داعية يطل على المدعويين من برجه العاجي ! وكيف يصل إلى قلوبهم فينتزعُها من وهدة الضلال وينتشلها من حفر الفساد إذا لم يكن بينهم يقاسمهم هموم حياتهم ؟!.. ومن هنا نفهم قوله تعالى " أن ائت القوم ... " فلا غرو أن الاندماج في الوسط الذي ندعوه أول طريق النجاح .... وقد يسأل سائل : فأين التمايز ؟ وأين المفاصلة ؟ فالجواب : إنهما في القلب ففيه يتجذر الإيمان ، وفي التصرف الذي يدل على صدق التوجه في الدعوة . وهذا كان دأبَ الأنبياء والمصلحين .
3- معرفة الهدف : فمن هم هؤلاء الذين على موسى أن يدعوهم ؟ وما صفاتهم ؟
إنهم " ... القومَ الظالمين .. قومَ فرعون ..." وتصور معي أخي الحبيب أنهم لفسادهم وشدة كفرهم ذُكِر وصفهم قبل التعريف بهم فعرّفهم بالظلم قبل البوح بهم ليتعرف شِرّتهم فيعدّ العُدّة للتعامل معهم ، وليطلب من البراهين والأدلة ما يعينه عليهم ، وهنا نقول – كما ذكرنا مراراً – لا بد من التعريف بالهدف ليكون الأمر واضحاً لا لبس فيه ، وليتخذ المنفذ له كل احتياطاته ، ويستعدَّ للقيام به على أكمل وجه . والقرآن بهذا يعلمنا أن على المسؤول أن يكشف الهدف تماماً ، ويقدم الوسائل المعينة على إدائه على الوجه الأفضل ، كما أن على المنفّذ أن يطلب ما يراه مناسباً لنجاح المهمة .
وقد عرفنا الهدف : قوم فرعون . فما المهمة ؟ إنها التقوى " ألا يتقون ؟!... " إن التقوى سبيل الحياة الطيبة ، ومدعاة إلى مرضاة المولى سبحانه .. وعودة إلى عشرات الآيات في القرآن الكريم توضح ثمرات التقوى .. الرحمة ، الغفران ، الفلاح ، الرزق ، النجاة من المهالك ......وقد جاءت التقوى أمراً ونصيحة مشوبين بأسلوب التهديد والوعيد ، وهذا الأسلوب أمضى من الأمر والنصيحة متفرقَين .
4- التوثّقُ للأمر :5- والاستعانة بالموثوقين : موسى عليه السلام بشر :
- يخاف : " قال ربِّ إني أخاف أن يكذّبون " .
- يضيق صدره : " ويضيق صدري .." .
- يتلعثم في الحديث : " ولا ينطلق لساني ... " .
فيطلب أخاه هارون ليكون معه يؤازره ويعينه في دعوته فهو يثق به ، ومن التوثيق للأمر أن يكون الصاحب أميناً موثوقاً . وهو يعرف أخاه معرفة تامة فطلب إشراكه في مهمته :" فأرسل إلى هارون " .
فهارون تتوافر في الفصاحة ، وسيتولى عنه توضيح الفكرة -إن ضعف - ودخولهما معاً على فرعون يخفف من وطأة الموقف ، ويخفف من الحرج وضيق الصدر ، وما ينتج عنهما .
ولا ننسَ أن الخوف يؤدي إلى ضيق الصدر ..كذلك يفعل التكذيب .. وضيق الصدر يؤدي إلى ضعف البيان وتهاوي الحجة ، واستهزاء المدعويين به ....
– يخاف من القِصاص ، فقد قتل القبطي : " ولهم عليّ
ذنب ، فأخاف أن يقتلون... " .
قد يستغل فرعون مقتل القبطي والرغبةَ في القصاص – لا للقصاص ففرعون يقتل وقت ما يشاء دون رادع أو سبب- ويرى الفرصة مناسبة لوأد كلمة الحق ، فيقتلُ الرسولَ موسى عليه السلام .. إذاً كيف يدخل عرين الأسد برجليه ؟ ويمكّنه من نفسه، وهو الذي هرب منذ سنوات طويلة خوف القِصاص ؟صحيحٌ أنه عليه السلام تاب لفعلة لم يكن يقصِدها فتاب الله عليه واجتباه ...لكن فرعون سيقتله ليتخلص من دعوته .
6- تلبية المطالب المنطقية : مادامت المهمة صعبة لا يقوم بها إلا المخلَصون الذين اُعدّوا لها ، والله تعالى أعدّ موسى لها فرباه في رعايته " ولتُصنعَ على عيني " أجاب الله تعالى مطالبَ موسى ،(/1)
- فأرسل إلى هارون ، فجعله نبياً – والله تعالى يعلم منذ الأزل أن موسى سيطلب أخاه مساعداً ومعيناً فكان لهارون من الرعاية والعناية ما لموسى فكان يُضرب المثل بعفة هارون عليه السلام وأخلاقه ، وجَمِّ أدبه " يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء ، وما كانت أمك بغيّاً "
- وزودهما بالأدلة والبراهين " ... فاذهبا بآياتنا ...." . إن الأدلة عنوان القوة ، وداعية إلى الأمان ، وبرهان على صدق المقال والفعال .
- وثبّتهما بالمعية ، " إنا معكم مستمعون فمن كان الله تعالى معه كان راضياً مطمئن النفس ثابتَ القدم ، ومضى في مهمته جريئاً لا يخاف إلا الله .
7- التصريح بالأمر دون لبس : دخل النبيان الكريمان على فرعون ثابتَي الجأش واثقَيْن بالله ، وقالا كلمة الحق التي جاءا لها فذكرا : 1- المرسِلَ والمُرسَلَ: " إنا رسول رب العالمين " .
2- الغاية من الرسالة : " أن أرسل معنا بني إسرائيل " .
إن الوضوح يزيل اللبس ويقوّي الموقف ويمهد للحوار وهنا يبدأ الحوار بين النبي موسى عليه السلام وفرعون فماذا كان في الحوار ؟
8- الحوار : فصلت في أسلوب الحوار في مواقف متعددة وأعيده هنا مختصراً :
فهو أسلوب راق في التربية له فوائد جمة منها :
سماع الحجج والبراهين من الطرفين المتحاورين ، وإثراءُ الأفكار ، واعتياد
التفكير الصحيح ، وإشغال أكثر من حاسة في الحوار ، واعتمادُ الدقة في الاستنتاج والطرح ....
وهنا نجد فرعون يلقي التهم جزافاً وبشكل متتابع ليضعف موقف الخصم ويوهن من عزيمته ويزرع فيه الخوف ويجرئ عليه الآخرين ، ويشكك في دعوته ، ويوحي للسامعين أنه كذاب لا يؤبه له وأن له ماضياً أسود من قتل وإجرام يمنعه أن يكون داعية صالحاً :
" ألم نربك فينا وليداً ؟!
ولبثت فينا من عمرك سنين ؟!
وفعلت فَعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ؟! "
وكانت معية الله تعالى تحرس موسى أن يضعف أو يهتز ، فقال ينقض من هذه الاتهامات ما يستحق النقض والنوضيح :
" فعلتها إذاً وأنا من الضالين " فلم يكن كافراً كما يزعم فرعون ، ولم يعبده لحظة من اللحظات ، إنما كان تائهاً عن الحق يبحث عنه فوجده ، والفرق بين الكافر والتائه كبير كبير : ......................." ففررت منكم لما خفتكم " وهذا أكبر دليل على أنه كان منهم بعيداً ، قد صنعه الله على عينه . فلما لا حقوه هرب منهم إلى بلاد الشام ، وهناك أكرمه الله بالنبوة :
" فوهب لي ربي حكماً ، وجعلني من المرسلين "
ثم رد على اتهام فرعون له بقتل القبطي بأسلوب الهجوم فالهجوم خير وسيلة للدفاع" وتلك نعمة تمنّها علي أن عبّدت بني إسرائيل ؟! " وتدبّر معي أيها الأخ الكريم كلمة " عبَّدْتَ بني إسرائيل " تجدِ التجبّر والظلم الشديد وفرض الهيمنة العاتية .
لئن قتل موسى القبطي خطاً ، وما كان يريد ذلك فاستغفر الله تعالى فغفر له إن فرعون كان يقتّل أبناء بني إسرائيل ويستبقي النساء لخدمته وخدمة قومه ، واستعبدهم يفعل بهم ما يشاء دون رادع ... وانظر معي إلى التهويل في كيل الاتهام " وفعلت فعلتك التي فعلت "
والعجيب أن فرعون وهو القاتل بالجملة عمداً دون رحمة ولا رأفة يرى أن موت القبطي بضربة موسى ذنبٌ عظيم يلام فيه سيدنا موسى ويحاسب عليه ! وهنا يحضرنا قول الشاعر :
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يرى أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه " .
هذا دأب المجرمين في كل مكان وزمان ، يرون لأنفسهم من الحق ما يحرّمونه على غيرهم ...
طرح موسى الكليم حجته الدامغة " وتلك منة تمنها عليّ أن عبّدْتَ بني إسرائيل " فأسكتت فرعون وألقمته حجراً ، لقد قابل السخرية بسخرية أشد منها، فانطلق فرعون إلى سؤال آخر يحوّل فيه مسار الحوار، لكنني أراه قد حُصِر حين ألجأه موسى أن يسأل السؤال الذي ينبغي أن يصل إليه : " قال فرعون : وما رب العالمين ؟! " فأجاب النبي الكريم الإجابة الشافية التي عصفت بفرعون فألجمته : " قال : رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين " فإذا كان الله تعالى ربَ السموات والأرض وما بينهما فما الذي بقي لفرعون؟ وازداد الجواب إحكاماً حين جاءت الفاصلة المحكمةُ " إن كنتم موقنين " لتدفع الحاضرين أن يوقنوا بذلك وكأنه يقول لهم : إن فكرتم التفكير الصحيح عرفتم الإله الحقيق ، وهذا لا شك تعريض بفرعون الذي شعر بمقصد موسى فحرّض الغوغاء وإثارة النعرات والتهييج يستعديهم عليه " قال لمن حوله : ألا تستمعون ؟ " وهنا نبّه موسى الحاضرين إلى أن الله تعالى خلق آباءهم قبل أن يكون فرعون موجوداً وخلقهم كذلك كما خلق فرعونَ نفسه " قال : ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين : فما فرعون إلا واحد ممن خلقهم الله . وهنا يطيش صواب فرعون فيصف موسى عليه السلام بالجنون ، ويصعّد الموقف :
" قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " فما الذي نستشف في هذه الآية مما يدل على غضبه الشديد ؟(/2)
1- بدأ بحرف التوكيد إن .
2- استهزأ به حين ذكر إرساله إليهم " رسولكم الذي أرسل إليكم" وأراد إهانته ، فهو يرفض أن يكون مرسلاً إليه وانتبهوا إلى كلمة "الذي " الدالة على الاستبعاد.. مع الفعل المبني للمجهول أُرسِل إليكم وهو بهذا ينكر الله تعالى .
3- اللام المزحلقة زيادة في تأكيد غضبه وسخريته .
4- وصرح باتهامه موسى بالجنون .
ونرى موسى عليه السلام يصعّد الموقف أيضاً بجوابه المفحم ليلجم غوغائية الحاضرين وليرد على السخرية بمثلها :" قال : رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون "
1- في الآية السابقة اخبرهم أن الله تعالى ربهم ورب آبائهم الأولين
وهنا زاد حين أكد أنه رب المشرق والمغرب وما بينهما.
2- وكما صرح فرعون بجنون موسى صرح موسى عليه السلام أن
من لا يعمل عقله ويتفكرُ ويتدبّر هو المجنون الحقيقي .
وهنا يستعمل المتكبر الجبار سلاح البطش والإرهاب ، سلاح التخويف " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين " ونجد أن هذا التهديد بالسجن سلاح المفلسين ممن لا دليل لديهم ولا برهان ،
وهذا مافعله فرعون حين عرف السحرة ُالحقيقة وفضلوا النعيم الدائم على الدنيا الفانية ، فهددهم بالقتل والصلب فثبتوا ثبات الجبال الرواسي " قالوا لا ضير ، إنا إلى ربنا لمنقلبون ، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين "
1- وهذا التجبر الفرعوني دأب التافهين الفارغين الذين يعتمدون على القوة والجبروت في وأد الحق وفرض الهوى وما أكثرهم في كل زمان ومكان ، كأنهم اتعدوا على ذلك ، وأوصى به بعضهم بعضاً ....
2- ونراه يحقر النبي الكريم موسى ويريد أن يجعله من جملة المساجين الكثر التي تزخر بهم سجونه ، وهذا ما يفعله الطغاة حين يضعون كرام القوم في السجون مع المجرمين والفسقة ليزيدوا عليهم آلامهم .
3- وهنا دليل على أن الباطل يعتمد الإرهاب واعتقال الرأي وطمس الحقيقة دون اعتبار لبشرية المفكرين وإنسانية الإنسان.
9- إظهار المعجزة آخر المطاف : فموسى عليه السلام أراد أن يؤمنوا بالعقل والدليل المنطقي ، فلم يظهر العصا أول اللقاء فالأولوية للنقاش وإقامة الحجة ، لكن حين يعمى القلب وتظهر الغوغائية وينسدُّ الطريق ، ويتنادى الظلمة إلى التهديد والوعيد واستعمال القوة بدل الفكر تأتي المعجزة الباهرة ." أوَلوْ جئتك بشيء مبين ؟.......... فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " وهنا يبلس المجرمون فآيته التي جاء بها باهرة عقلت ألسن الجميع وفي مقدمتهم إلههم الدجال .
تهييج الرعاع واستعانة فرعون – الإلهِ المزيف – بهم - والإله لا يحتاج إلى عباده إلا إذا كان ضعيفاً -جاء ملفتاً للنظر فمن ذلك قول فرعون للملأ حوله " إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ، فماذا تأمرون ؟! "
إله ديموقراطي !، يستشيرهم " فماذا تأمرون "
ويشيرون عليه : " أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم " ...... وهل يخاف الإله سحر الساحرين ؟!
ومن ديموقراطيته أنه قال للملأ حوله في سورة أخرى " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " .........
ثم هو إله يترك لعبيده أن يساعدوه بسحرهم ، ويبذل لهم المال والمناصب إن هم نصروه وثبتوا ملكه :
" فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ؟ "
فهم سينصرونه لمكاسب يحرزونها ،ليس لأنه إلههم، وأن عليهم أن يبذلوا الغالي والنفيس لأجله ! ويجيبهم بلهفة المستجير الغارق المتورط:
"قال : نعم وإنكم إذاً لمن المقربين "
والعجيب أنهم يرجون انتصار السحرة الذين سيثبتون - بانتصارهم إن فعلوا – ألوهية فرعون !
" لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " وهذا من وهن العقول وسذاجة التفكير .
10- الله أعلى وأجل : قال أبو سفيان بعد معركة أحد : اعلُ هبلْ أعلُ هبلْ فرحاً بانتصار قريش على المسلمين ، فيعلّم النبي الكريمُ المسلمين أن يقولوا : الله أعلى وأجل ، ويقول أبو سفيان : لنا عزّى ولا عزّى لكم ، فيأمر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يقولوا : الله مولانا ولا مولى لكم . أما سحرة فرعون فقد قالوا حين ألقَوا حبالهم وعصيّهم :" بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " وألقى موسى عصاه بتدبير الإله العظيم " فإذا هي تلقف ما يأفكون " ... وكانت النتيجة أن انقلب السحر على الساحر " فألقي السحرة ساجدين ، قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " .
11- نهاية الظلم والظلام : وحين ينطلق ركب المؤمنين نحو بلاد الشام بعيداً عن فرعون وجبروته يحشد فرعون أعوانه وجنوده ليتابعوهم ويستأصلوهم :
" فأرسل فرعون في المدائن حاشرين
إن هؤلاء لشرذمة قليلون
وإنهم لنا لغائظون
وإنا لجميع حاذرون " . ...(/3)
والعجيب أنه يكذب ويكذب ويكذب .. وهذه طبيعة الطغاة الذي يريدون استئصال الدين والإيمان ، ويخافون من المؤمنين الصادقين ويتآمرون عليهم .. فلم الحذر كله ولم حشد القوى كلها للقضاء على الصفوة المؤمنة وأنت تدّعي أنهم قليلون ؟؟!! إن صوت الحق قوي يؤرق ليل الظالمين وترتجف له فرائص المتغطرسين فلا بد لهؤلاء أن يبيدوهم حتى يصفو لهم الجو ولكن الله تعالى يجعل في ملاحقة الظالمين المؤمنين الفرج والنصر ، فلا بد بعد الصبر من الظفر ، ولا بد بعد المجاهدة من بلوغ الأرب .. أصحاب موسى يقولون خائفين حين تراءى لهم فرعون بجنوده يجدّون السير نحوهم : " إنا لمدركون " .
فيقول بلهجة المؤمن بربه المعتمد عليه : " كلا ، إن معي ربي سيهدين " ...
كذلك قال إبراهيم عليه السلام : " إني ذاهب إلى ربي سيهدين "
وكذلك قال سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام حين خوفه المنافقون من المشركين بعد أحد : " الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فوادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء "
ومن كان مع الله كان الله معه ، فنجى الله موسى ومن معه كما نجى إبراهيم ومحمداً عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه .." وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الباقين " ...(/4)
تأملات تربوية في سورة النمل
سيدنا سليمان عليه السلام ( 1)
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
1- العلم مفتاح الخير :
آتى الله تعالى داوود وابنه سليمان علماً ، والعلم الحق يوصِل إلى معرفة الله تعالى المعرفة التي تجعل صاحبها يؤمن به ويجلّه تعظيماً وحباً وخشية " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ " و من جهل الحقيقة لم يحفل بها، ولم يعِرْها ما تستحق من جلال المقام .. أما داوود وسليمان فإنهما حين أكرمهما الله بالنبوّة وفضلهما " ولقد آتينا داوود وسليمان علماً " أقرّا بفضله تعالى وحمداه على ذلك " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " .
فالعلم شرف ، محله منيف ، وأهله وحَمَلتُه متقدمون . وهو من أجلّ النعم وأجزل القِسَم ، ومن أوتيَه فقد تقدم على كثير من عباد الله المؤمنين . والبون شاسع بين الجاهل والعالم ، ذاك يتخبط في جهله في ليل مظلم ، وهذا يسير في أضواء المعرفة وسبل الهداية ، فلا يستويان " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب " " قل هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون"! وقال الشاعر في الحث على العلم :
تعلّم ، فليس المرء يولد عالماً وليس سواءً عالمٌ وجهولُ
2- التحدّث بالنعمة :
وقد عُلّم النبيّان الكريمان منطق الطير " وقال- سليمان عليه السلام – يا أيها الناس عُلِّمْنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ، إن هذا لهو الفضل المبين " قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام " في وجوب التحدث بنعمة الله " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا يكون الحديث بالمفاخرة والتعاظم ، إنما بالعمل الصالح ، وخدمة العباد ، والسهر على راحتهم . والإقرار بفضل الله عملاً وقولاً ، وإن مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم والسير فيها من التحدث بنعمة الله .
ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ، فإن الله تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والوحش وآتاه ما لم يؤتِ أحداً من العالمين .
يقول القرطبي في في تفسير هذه الآية :
" قوله تعالى: " وقال يا أيها الناس " أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله " علمنا منطق الطير " فتفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أنْ فهّمَنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها. قال مقاتل في الآية :
كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه- الطائر - سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت. فأخبرهم سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق.
وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا لا يا نبي الله. قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهدُ! فقال : يا نبي الله! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به. ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده، فقال : هدهدُ ما هذا؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله. قال : ويحك! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر.
وقال كعب. صاح ورشان- طائر يشبه الحمام - عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت فاختة- وهي ضرب من الحمام المطوّق صوّيت - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا.
وصاح عنده طاوس، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : كما تدين تدان.
وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : فإنه يقول : من لا يَرحم لا يُرحم. وصاح صُرَدٌ- طائر فوق العصفور ، كانت العرب تتطير منه - عنده، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين؛.. فمن ثَمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت. وهو أول من صام؛ ولذلك يقال للصرد الصوّام؛ روي عن أبي هريرة.
وصاحت عنده طِيطوى – نوع من القطا طِوال الأرجل - فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : كلُّ حي ميت وكل جديد بال.(/1)
وصاحت خطّافة – عصفور أسود ، وتسميه العامّة عصفور الجنة - عنده، فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه؛ فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم. قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته} الحشر 21 إلى آخرها وتمد صوتها بقوله {العزيز الحكيم} البقرة 129.
وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول؟ قالوا : لا. قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه.
وصاح قُمري عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن.
وقال كعب : وحدثهم سليمان، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشّار- الذي يأخذ عشر أموال الناس ويستحله - .
والحدأة تقول {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص 88 .
والقطاة تقول : من سكت سلم.
والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه.
والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس.
والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده.
والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان، فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : إنه يقول{الرحمن على العرش استوى} .
وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين).
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : (النسر إذا صاح قال يا ابن آدم عش ما شئت فآخرك الموت .
وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس الراحة .
وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد .
وإذا صاح الخطاف قرأ {الحمد لله رب العالمين} الفاتحة إلى آخرها فيقول {ولا الضالين} الفاتحة ، ويمد بها صوته كما يمد القارئ.
قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة، لقوله {علمنا منطق الطير} والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة. قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين.
وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته؛ ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير.
وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد. قال ابن العربي : من قال إن سليمان لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا، أنفع من كذا وأضر من كذا؛ فما ظنك بالحيوان.
فمن تكريم الله تعالى سليمان أنه عليه السلام
1- نال النبوة .
2- عُلِّم منطق الطير والحيوانات .
3- جنوده من كل المخلوقات ، إنسهم وجنّهم وطيرهم ووحشهم .
4- حمل الريح له ولجنوده في ساعات مسيرة شهر " ولسليمان الريح غدُوُّها شهر ورواحها شهر " .
5- أسال الله تعالى له النحاس ، فذاب وسال كما تسيل عيون الماء ليستعمله فيما يريد ومن ثم انتفع الناس به " وأسلنا له عين القِطْر" .
3- الداعية مثال الإنسان الواعي :
وكان النبي الكريم سليمان عليه السلام يجند كل جيشه في نشر دعوة الله وبناء صرح الدين في الأرض " وحشر لسليمان جنودُه من الجن والإنس والطير ، فهم يوزعون " مرتبين ومنظمين . يصله خبرهم وحالهم على كثرتهم ، ولا يغيب عنه- بإذن الله- شاردة منهم ولا واردة . وهكذا يكون المسؤول ، فمن يتسنم أمراً من أمور المسلمين عليه أن يتابعهم ، والعين الساهرة المتابعة تحفظ النظام والبلد وتهيئ الأمان والراحة للأمة صغيرها وكبيرها، قريبها وبعيدها ، ضعيفها وقويّها . ومثال ذلك :
أولاً - إيقاف المسير في وادي النمل للحفاظ على حياة النمل ، وخوف أن يباد تحت مداس الجيش الجرار دون أن يشعر بها لضآلتها – وقد توقف العلماء في العصر الحديث عند قوله تعالى :" لا يحطمنّكم سليمان وجنوده ... " فذكر التحطيم بدل الدهس والقتل أو الكسر حين اكتشفوا أن في تركيب النمل قدراُ من الزجاج ، والزجاج يتحطم ثم يتفتت ويصير كالرمل حين يتكسر تحت وطئه المستمر . .. وهذا من بديع بلاغة القرآن
والداعية لا يتكبر ولا يتجبر على غيره حين يمتلك القوة وأسباب الغنى ، إنما يتواضع لله ، ويحافظ على عباده فهو مسؤول أمامه فيما يفعل أيشكر أم يكفر؟ ، أيرحم أم يظلم ؟ .. وكلما ازداد شعوره بفضل الله تعالى عليه تضاعفت همته في العمل الصالح والشكر لله على فضله وكرمه وهكذا سيدنا سليمان عليه السلام ، فبعد أن تبسم ضاحكاً من قولها حين سمعه وفهمه :
1- سأل الله أن يعينه على أداء المهمة .
2- وأن يعينه على حسن شكرالنعمة .
3- وأن يسدد خطاه في العمل الصالح .
4- وأن يرزقه المثابرة عليه بالطريقة التي ترضي الله تعالى
5- وان يجعله برحمته في عباده الصالحين .(/2)
" فتبسم ضاحكاً من قولها ، وقال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ ، وأنأعمل صالحاً ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين "
ولا ننس أن على العاقل أن ينصح أهله وأمته ، وينبههم إلى الخير ويحذرهم من المهالك كما فعلت النملة حين حذرت جماعتها من موت محقق إن غاب عنها الحذر ولم تسارع إلى مساكنها تتوقاه . وتعال معي إلى الحوار بين سليمان والنملة، ففيه - على الشك بصحته لإسرائيليته – فوائد تربوية وحكمة .. والحكمة ضالة المؤمن أين وجدها التقطها . .. يقول القرطبي :
قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال للنملة لم حذرت النمل؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل؟ فلم قلت " لايحطمنكم سليمان وجنوده " ؟ فقالت النملة : أما سمعت قولي " وهم لا يشعرون " .. مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت، أو يفتتِنّ بالدنيا، ويُشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان : عظيني. فقالت النملة : أما علمت لمَ سمي أبوك داود؟ قال : لا. قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده؛... هل علمت لم سميت سليمان؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك، وإن لك أن تلحق بأبيك- بالفضل- .. ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح؟ قال : لا. قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح. " فتبسم ضاحكا من قولها " متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت : حسنة؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها، فأمر الله الريح فحملتها، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط، حتى وقعت بين يديه، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه، وأنشأت تقول :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله وإلا فما في مُلكنا ما يشاكله
فقال لها : بارك الله فيكم؛ فهُم- أي النمل - بتلك الدعوة أشكَرُ خلق الله وأكثر خلق الله.
وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في الأعراف . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم، فنفت عنهم الجور.
ثانياً – قصته مع الهدهد الذي غاب دون إذن من القائد فكانت عقوبته العذاب الشديد أو الذبح . أو إظهار العذر ، فإن كان له عذر بيّن عفا عنه . وجاء الهدهد بعد قليل ، موضحاً أنه عرف ما لم يكن النبي سليمان على جلال قدره يعرفه ، فالأنبياء لا يعلمون الغيب ، ولا يحيطون بكل شيء . وجاءه من بلاد سبأٍ بخبر يتشوفه النبي الكريم " فقال : أحطت بما لم تحط به ، وجئتك من سباٍ بنبأٍ يقين " لم يكن الهدهد خائفاً فحجته معه ، وسينجو من العذاب فهو واثق بنفسه وبما يحمل من نبأٍ يسر له الداعية الذي وهب نفسه لدين الله ودعوته . والهدهد جندي من جنود هذه الدعوة ، فعليه أن يكون له دور في نشرها .
وليؤكد أنه لم يضيّع وقته هباء فصّل فيما رآه ليصدقه النبي سليمان
" إني وجدت امرأة تملكهم
وأوتيت من كل شيء
ولها عرش عظيم "
ثم بين تفاهة ما يعبدون من دون الله ، فقد أضلهم الشيطان عن الطريق القويم ، وأزلهم في اعتقادٍ باطل فضاعوا في متاهة الكفر والفساد " وجدتها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون " وتصوروا معي : كم يسقط الإنسان ويتضاءل حين يكون الطير أكثر منه هدى وبصيرة " ..ألا يسجدوا لله
الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض
ويعلم ما تخفون وما تعلنون
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ".
4- التحري عن الحق : أسلوب يدل على الحرص في الوصول إلى العدل ، والحكم به ، والبعدعن ظلم الرعية ، فسليمان عليه السلام كان أدنى إلى تصديق الهدهد من تكذيبه ، والدليل على ذلك أنه بدأ في خطابه بكلمة سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين .. ونلحظ هنا قاعدة تقول : إن الصدق في الناس قليل ، والكذب كثير بدليل أنه قال :أصدقتَ – بصيغة المفرد – أم كنت من الكاذبين – بصيغة الجمع .
وليتأكد من ذلك مع التصديق له أرسله بكتابه وحده ، فلم يكن معه شاهد ، وكلفه بأمرين :
أ - إيصال الكتاب ... ب- متابعة الأمر وتقديم تقريره .
وامتاز الكتاب بثلاث صفات مهمة :(/3)
أ - البدأ بالبسملة : وقد قال نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام : " كل كلام لا يُبدَأ فيه ببسم الله ، فهو أجذم " والمسلم يبدأ بأعماله كلها باسم الله تعالى . وقد اتفق المسلمون على كتابة " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول الكتب والرسائل لأنه أبعد عن الريبة . ولا يسمى الكتاب كتاباً إلا إذا ختم ، وعلى هذا اصطنع الرسول عليه الصلاة والسلام خاتماً ونقش عليه " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله "
ب-الاختصار غير المُخِل : " ألاّ تعلوا عليّ " فهو يخاطبهم بالعقل والقوة .
" وائتوني مسلمين " مؤمنين بالله وحده بعد الفهم والاقتناع أو مستسلمين للحق صاغرين . والمسلم يجب أن يكون عزيزاً قوياً .
ت- التعريف بالمرسِل : ليكون الأمر على بينة ، وليُعرف خطرُه ومكانته ، فيُحترم .
وقد شعرت الملكة بعزة المسلم وقوته حين قرأت الكتاب واستشارت بطانتها ثم علقت قائلة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، وكذلك يفعلون "
حين استشارت قومها في أمر سليمان عليه السلام مستنصحة ، أجابوها : نحن أقوياء أشداء ، فافعلي ما ترينه مناسباً " قالوا : نحن أولو قوة ، وألو بأس شديد ، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " وأعتقد أنّ آراءهم خانتهم بهذا الجواب ، فلم يكونوا على دراية بعظم مكانة من أرسل الكتاب ، ولو فكروا قليلاً معتمدين في تفكيرهم على الطريقة التي وصلهم بها الكتاب إليهم ، وهذا أمر غريب عجيب " إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم " ولم تعرف من الذي ألقاه ، ولا كيف وصل . ولم تدر أن الرسول الذي ألقى الكتاب طيرٌ يتابع لقاءها ببطانتها دون أن تشعر به .
والحاكم العاقل - ولو كان امرأة – يتدبر الأمر ، ويجنّب قومه المهالك . ولا بد من سلوك الأمر الهيّن السهل في استكناه ردّة فعل المرسِل حين يصله الجواب . وقد فعلت ذلك " وإني مرسلة إليهم بهدية ، فناظرة بما يرجع المرسلون " فإن كان ملكاً طامعاً بالمال بذلناه له ، وإن كان الأمر شيئاً آخر تلافينا ضرره بما نستطيع .... وكانت موفقة بما قررت .
وهنا تنتهي قصة الهدهد ، فقد صدق فيما ادّعاه ، وأدى واجبه ، فلم يعاقب .
5-التصرف الحكيم : يجب أن يكون الفعل وردة الفعل مدروسين بتأنٍّ ورويّة ، قائمَيْن على قواعد مدروسة ، وخطط سليمة . فالداعية لا ينبهر بالأموال والهدايا التي تأتيه ، إن هدفه أكبر من هذا بل هو غير ذلك على الإطلاق . ولا يأنس للزخرف الدنيوي .. فماذا فعل النبي سليمان ؟
أ- أظهر الزهد في هداياهم ، فما عند الله خير مما جاءوه به ، وليس هذا هدفه ." فلما جاء سليمانَ قال : أتمدونني بمال " ونكّر لفظ المال استهانة به وتحقيراً لشأنه ، ليلقي الرعب في قلوبهم ، فيفكروا بالإسلام ، والخضوع للحق ، فقد قال لهم من قبل " ألاّ تعلوا عليّ ، وأتوني مسلمين " .
ب- أظهر القوة وهدّد بها " ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها "
ت- حاربهم نفسياً حين أكمل قائلاً: " ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون "
وكان لما فعلَ التأثيرُ الإيجابي السريع ، فقد اظهر القوة عملياً حين جيء بعرشها وأدخل الملكةَ الصرح المبنيّ على الماء فبهرها ، والانبهار دليل الاستسلام والخضوع . وهذا ما يفعله القوي بالضعيف دائماً ، فيستذله إلا المؤمن فإنه يبدي القوة ، ويبهر العدو ليستنقذه من الضلال إلى الهداية ، وينتشله من الكفر إلى الإيمان ، ويكون أخاً له يحبه ويكرمه .
وهذا ما فعله النبي سليمان عليه السلام بملكة سباً وأهلها، وهذا ما فعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة ، فقد دخلها متواضعاً لله متذللا لمولاه ، شاكراً فضله ، ولم يعمل السيف في أهلها ، بل عفا عنهم وأكرمهم ، إذ قال لهم حين جمعهم في الحرم الشريف : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
ومن الحرب النفسية التي بهر الملكة بها المجيءُ بعرشها – وقد كان عظيماً – بطرفة عين ، جاء به من كان عنده علم من الكتاب ، وكان يعلم اسم الله الأعظم . ، وتراه عليه السلام فاضل بين هذا الرجل ، والمارد القوي الذي عرض حمل عرشها بساعات ، فجاء به الربّاني بلحظة خاطفة " قال : أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ؟
قال عفريت من الجن : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وإني عليه لقويٌّ أمين .
قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفُك . "
فهل تعاظم ، وانتفش كما ينتفش أهل الدنيا ممن يتيهون حين يمتلكون ؟! إنه نبي كريم من أنبياء الله تعالى ربّاه على عينه فأحسن تربيته .. لقد قال سليمان مقراً بفضل الله وكرمه ، منبهاً إلى أن كل هذه الكرامات العظام إنما هي ابتلاء للمؤمن واختبار لإيمانه ، وقد فاز من نجح في هذا الامتحان : " قال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر , ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم ."(/4)
6- تعّرفْ إلى الناس : ينبغي التعرف على قدرات من تعاشرهم حتى تنزلهم منازلهم .. يروى أن رجلاً جسيماً يرتدي حلة فاخرة جلس بوقار إلى حلقة أبي حنيفة النعمان وهو بين تلاميذه يناقشهم في بعض المسائل ، وكان يمد رجله متعباً في جلسته متباسطاً معهم ، فجمعها إليه حين جلس هذا الرجل بينهم ، ثم بدا للرجل أن يتكلم فسأل سؤالاً لا يدل على ذكاء وفهْمٍ ، فضحك ابو حنيفة ، وقال : آن لأبي حنيفة أن يمد رجله .. وهنا نجد نبي الله سليمان يريد أن يختبر الملكة بلقيس ، ويتعرف جدارتها في حكم أهل سباٍ ، فقال لمساعديه : " نكّروا لها عرشَها ننظرْ أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون " فغيّروا في عرشها بعض معالمه ، فلما وصلت واستقبلها أشار إلى عرشها يسألها بذكاء الأنبياء ولباقتهم : " أهكذا عرشُكِ " ولم يسألها أهذا عرشك؟ والفرق بين الطريقتين واضح . فالأول فيه شك وجواب الثاني نفي أو إثبات . فكان جوابها على قدر السؤال حين قالت : كأنه هو " فلم تنفِ ولم تثبت وتركته في دائرة الشك . هذا كان الاختبار الأول .
أما الاختبار الثاني فكان أن طلب إليها دخولَ الصرح المبني بصفائح الزجاج فوق الماء ، فلم تتبين الزجاج ، فكشفت عن ساقيها تظن أنها ستخوض لُجّته ، فلما قيل لها " إنه صرح ممرد من قوارير " علمت أنه يريد أن يريها ملكاً أعظم من ملكها ففطنت إلى مراده فاستسلمت ، وأذعنت ثم أسلمت بعد أن أقرّت بما كانت عليه من الكفر . وقيل كما في القرطبي - بتصرف - : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. "وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن، فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها " إنه صرح ممرد من قوارير" والممرد المحكوك المملس
. ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها تزوجها عند ذلك وأسكنها الشا(/5)
تأملات تربوية في سورة النمل (2)
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
1- الدعوة إلى التفكير : خلقنا الله تعالى " .. في أحسن تقويم " فجعل لنا - معشر الإنس والجن لأننا مكلفون - العقول التي تميزنا عن بقية المخلوقات لنتدبر ما نجده أمامنا ولنتفكر فيه . أما الحيوانات الأخرى فإنها تعيش غريزياً . لا رسالة لها في هذه الحياة سوى ما قدره الله تعالى لها في حياتها الدنيا ثم يقال لها – في الآخرة حين تحشر ليقتص منها ذلك الاقتصاص الذي لا يقارن مطلقاً بالاقتصاص من الثقلين - كوني تراباً .. فيتمنى الكافر لما يراه من العذاب الشديد الخالد في نار جهنم أن تكون نهايته مثل نهايتها " يا ليتني كنت ترابا " ولكن هيهات هيهات .
وعلى الرغم أن البشر جميعاً لهم عقول يفكرون بها إلا أن أكثرهم لا يريد أن يعي حقيقة وجوده وسبب خلقه ، فهو يحيا في هذه الدنيا وكأنه خالد فيها ، أو سينتهي دون عودة " وما يهلكنا إلا الدهر " وينكرون حياة أخرى تنتظرهم هي الحياة الحقيقية " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وهؤلاء لئن كانوا بشراً إنهم لينزلقون إلى درجة الأنعام التي لا تعي ولا تعقل ، بل إنهم أقل منها مستوىً ، فالحيوانات ليس لها عقول وقد سقط عنها القلم، وهؤلاء لهم عقول لا يستعملونها في مرضاة الله ، فانحدروا عن مستوى البهيمية بفعلهم – عنادِهم وضلالهم - يقول الله تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون " .
والقرآن الكريم يدعو المكلف إلى التدبر وإمعان التفكير في مئات الآيات المنبثة فيه ، وفي هذه السورة الجليلة نجد الكثير منها ، وإليك بعضاً منها :
ففي الآية الستين نجده يدعونا إلى معرفة خالق السماوات والأرض الذي أنزل الماء فكان سبباً في الحياة المتجددة الجميلة في الأرض ، وأنه سبحانه واحد لا شريك له
" أمّن خلق السموات والأرض ،
وأنزل لكم من السماء ماءً ،
فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ؟ أإله مع الله ؟! بل هم قوم يعدلون " .وتأمل التسلسل في " خلق ، وأنزل ، وأنبت " فترى المشركين يميلون عن الحق وينغمسون في الضلال .
وفي الآية الحادية والستين ينبههم إلى بديع صنعه سبحانه ، فالأرض ثابتة صالحة للعيش ، تجري فيها الأنهار ، وتثبتها الجبال الرواسي ، وجعل الماء مالحاً وحلواً فلا يطغى هذا على ذاك – بأمر الله خالقها – بل إن لكل بحر ماءَه بخواصه المختلفة عن ماء غيره ،
" أمّن جعل الأرض قراراً ،
وجعل خلالها أنهاراً ،
وجعل لها رواسيَ ،
وجعل بين البحرين حاجزاً ؟ أإله مع الله ؟! بل أكثرهم لا يعلمون " وانظر معي إلى تكرار كلمة " جعل " التي تدل على جميل صنعه وعظيم حكمته سبحانه، وأنه الخالق الأوحد ... ولكن غالب البشر يجهلون هذا فيشركون بالله تعالى ويتوهون في مزاريب الضلال .
وفي الآية الثانية والستين يذكرهم برأفته بهم ، وحنوّهم عليهم ، فهو سبحانه يجيب الداعي ، ويتلطف به ، وهو وحده خالقهم لكن الدنيا ببريقها وزخرفها تنسيهم الحقيقة وتبعدهم عنها
" أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ،
ويكشف السوء ،
ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ؟! قليلاً ما تذكّرون " .
وهي دعوة صريحة إلى إفراده سبحانه باللجوء إليه والاعتماد عليه وانظر إلى المنطقية في العرض، فهو سبحانه " يجيب المضطر ، ويكشف السوء " لماذا؟ إنه الخالق الوحيد " يجعلكم خلفاء الأرض "
وفي الآية الثالثة والستين ينبه أن الله تعالى هو الهادي والحافظ ومدبر الحياة في البر والبحر أفلا يستحق الإفراد بالعبادة ؟ " أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ؟
ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته؟ أإله مع الله ؟! تعالى الله عما
يشركون " . وتأمل معي هاتين الكلمتين " يهديكم ، يرسل الرياح "
هداية وعون ، فهو سبحانه لا يدع عباده يتخبطون في حياتهم إنما ييسر لهم السبل ويعينهم .
2- التصوير الحسي : ذكرت في كتابي " من أساليب التربية في القرآن الكريم " تحت عنوان – التصوير ص 385 : أن التصوير من الأساليب الراقية في التربية ، فالإنسان روح وفكر وقلب .. وهو كذلك عين وسمع وذوق ولمس وشم .... فهو معنوي ومادي بآن واحد ، فإذا عجز أحياناً عن الوصول إلى الفكرة الشفافة ذهناً وصل إليها مادة وحسّاً .. المهم أن يصل إلى المعلومة ، وتتركز في ذهنه ، ويتفاعل معها .
والصور في هذه السورة ملفتة للنظر إذ جمعت بين اللون والحركة والصوت . من ذلك قوله تعالى :
" ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ..."
" ويوم ينفخ في الصور ، ففزع من في السموات والأرض إى من شاء الله ، وكلٌّ أتَوْه داخرين "
" وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب " .
" وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلمهم ..." .(/1)
" .. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ..هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ؟ "
" ... قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم ، إنهم أناس يتطهّرون " .
وانتبه إلى الكلمات التي تحتها خط في الآيات السابقة لـ ترى اللون
في الليل والنهار والجبال والسحاب والنار
وتسمع الصوت
في النفخ والكلام : قال ويتطهر، تجزى
وترى الحركة
الفزع وحركة النفخ والسكون والجمود وخروج الدابّة والمجيء
وكب الوجوه..
والتصوير يثبت الفكرة في الذهن لأن أكثر من حاسّة تتضافر في توكيدها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤديها في حديثه، وتبعه في ذلك المربون .
3- الطيَرة والتفاؤل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يسمع : يا راشدُ، يا نجيحُ . – أخرجه الترمذي – وكان يعجبه الفأل لأن النفس تنشرح له وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ، فتحسن الظن بالله . وقد قال : " أنا عند ظن عبدي بي " وكان صلى الله عليه وسلم يكره الطِّيَرة لأنها من سمات أهل الشرك وتجلب سوء الظن بالله تعالى . قال الخطّابي كما يروي القرطبي عنه : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا طيرة ، وخيرُها الفأل " . قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم "
فلما قال قوم صالح لنبيهم عليه السلام حين دعاهم إلى الإيمان بالله وحده : " اطَّيرنا بك وبمن معك " رد عليهم مؤنباً وناصحاً " طائركم عند الله ، بل أنتم قوم تُفتنون " فقد تشاءموا ، والشؤم نحس . ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة . ومن ظنّ أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء أو يدفع مقدوراً فقد جهل . وقد قال مقاتل في قوله تعالى في سورة" يس " على لسان الذين كفروا بأنبيائهم " إنا تطيّرْنا بكم " : حبس المطر عنهم ثلاث سنين ، فظنوا أنّ حبسه كان بشؤم الأنبياء عليهم ! فرد أنبياؤهم مصححين منبهين " طائركم معكم " أي شؤمكم ملازمكم بأعمالكم وفسادكم لا بسببنا ، فأنتم مسرفون في كل شيء حتى التشاؤم ." بل أنتم قوم مسرفون " قال الشاعر :
طيرةُ الدهر لا يرد قضاءً فاعذرِ الدهرَ ، لا تَشُبهُ بلَوم
أيُّ يوم يَخُصّه بسعود والمنايا ينزلن في كل يوم
ليس يومٌ إلا وفيه سعودٌ ونحوسٌ تجري لِقومٍ فَقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرةً ، وكانت إذا أرادت سفراً نفرت طائراً ، فإذا طار يمنة سارت وتيمّنَتْ ، وإن طار شمالاً تشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : " أقِرّوا الطير على وُكُناتها " .
4- عاقبة المفسدين : يقول تعالى :" .. ومن جاء بالسيئة فكبّت وجوههم في النار ، هل تُجزون إلا ماكنتم تعملون ؟ " فنهايتهم في الآخرة الاحتراق في النار والعذاب المهين . أما في الدنيا فقد بين الله تعالى عاقبة كل قوم كفروا بالله ... أما في هذه السورة الكريمة فكان عاقبة الرهط المفسدين الذين عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، ومكروا بنبيهم وأهله والمؤمنين به
" ..... أنا دمّرناهم وقومهم أجمعين "
فكانوا عبرة لمن جاء بعدهم " فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا ..... "
وأما قوم لوط الذي استمرءوا فاحشة اللواط ، ففعلوها في أنديتهم – وكانوا يتلذذون بالنظر إلى الفاعلين والعياذ بالله ، وهم يصرون على فعلها على علمهم ببهتان ما يعملون ، بل صمموا على إخراج لوط وآله لأنهم " يتطهّرون " والطهارة يكرهها الأبالسة في كل زمان ومكان فقد عاقبهم الله تعالى عقابين شديدين . أما الأول فإرسال الحجارة عليهم تحصبهم حصباً " وأمطرنا عليهم مطراً ، فساء مطر المنذَرين " وأما الثاني فقد قلب قراهم رأساً على عقب . وذكر الله تعالى الأمرين في سورة هود " فلما جاء أمرنا... 1- جعلنا عاليَها سافلها
2- وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود
مسوّمةً عند ربك .... "
والعاقل من يستلهم من مصير الغابرين العبر والعظات فيزدجرعن ضلاله وغيه ، وينأى بنفسه وأسرته وقومه عن نهاية الفاسدين " قل سيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين "
5- مهمة الداعية :
والداعية يتوكل على الله تعالى ويدعو إليه ، وهناك من يسمع لكنّ في أذنيه وقراً فلا يفقه ما يقال ولا ما يُراد . وإذا سمعوا هربوا من الحق الذي تكرهه نفوسهم الآثمة . واستمروا في غيهم وضلالهم ، أما المسلم ذو القلب الشفاف والفؤاد الواعي فإنه يقبل على الداعية يستفيد منه ويتقبل منه ويكون له عونا في دعوته إلى الله .
: " فتوكل على الله ، إنك على الحق المبين
إنك لا تسمع الموتى ، ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولّوْا
مدبرين ......
وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون "(/2)
والحقيقة أن دور الدعاة التنبيهُ إلى طرق الخير والتحذير من سبل الغواية ، وأن يبدأوا بأنفسهم أولا، فهم القدوة . فمن تبعهم نجا ، ومن استنكف غوى وضل ، وليس لهم عليهم سلطان . هذا ما نبه إليه الله تعالى نبيه الكريم حين قال سبحانه
" 1- إنماأمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها ......
2- وأمرت أن أكون من المسلمين .
3- وأن أتلوَ القرآن ........
4- فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه
5- ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . "(/3)
تأملات تربوية في سورة النور ( 1 )
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
سُمّيَتْ سورةَ النور لأحد سببين أو لكليهما . فهي أولاً : تحوي قوانين اجتماعية ونظماً تربوية تملأ حياة من التزمها نوراً وسعادة . وفيها ثانياً : قوله تعالى في الآية الخامسة والثلاثين " الله نور السماوات والأرض " . وقد جاءت تسميات السور الكريمة حسب ما ورد فيها من أسماء مميزة كـ " آل عمران ، والأنبياء ، والضحى . " أو ما جاء من قصص صبغت السورة بصِبغتها كـ " البقرة ، والأحقاف ، وهود . "
ومن المفارقات الذكية أن الشاعر " أبا تمام " مدح الأمير الواثق بالله قبل أن يرث الخلافة عن أبيه المعتصم بالله ، فكان مما قاله فيه يستعير صفات بعض الرجال المشهورين :
إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ في حلم أحنف في ذكاء إياس
وقد كان عمرو بن معديكرب مشهوراً بالقوة والشجاعة . وحاتم الطائي معروفاً بالكرم والجود . والأحنف بن قيس علماً في الحلم وسعة الصدر . وإياس القاضي الذكي الألمعيّ عادلاً تقياً ... فجمع للواثق صفاتهم جميعاً في البيت السابق .... فقال الحاسدن يبغون الكيد له : الأمير فوق ما ذكرتَ – قاصدين إحراجه والنيل منه – فلا هو قادر أن ينفي ذلك ، فيجعلهم فوق الأمير- فالمشبه به فوق المشبه - فيغضبه . وإن أقر لهم بالدونيّة فسوف يُقالُ له : كيف تشبهه بمن هم دونه ؟! إنك إذ ذاك تقدح فيه ذماً ولاتقول مدحاً !! فارتجل بيتين رائعين يدلان على ذكائه وعبقريته ، ألقم بهما الحاسدين أحجاراً :
لا تعجبوا ضربي له مَن دونَه مثلاً شَروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس !
فنال لذكائه في حسن التخلص الجائزة مضاعفة . ونظروا في قرطاس القصيدة فلم يجدوا هذين البيتين . فعرفوا أنه الذكي الأريب قالهما ابتداءً من قافية القصيدة ووزنها. فعلا ذكره وذاع صيته.
والسورة الكريمة – كبقية السور – آفاق تربوية راقية ، ولا يدّعي لبيب الإحاطة بها إلا كما يغرف الناهل من النهر الدفّاق ، وينحت المثّال في الجبل العملاق ، أو يجول الفلكيّ بمنظاره في أُوْلى السبع الطباق .
أول معْلم تربوي التعظيم فيتلقّاها السامع والقارئ بالهيبة والإجلال . فهي " سورة ". والسورة : المنزلة العظيمة التي يتطلع إليها كل ذي همة ، ويتشوف إلى بلوغها أصحاب العزائم ...مدح النابغة الذبياني النعمان بن المنذر بالمنزلة العالية والمكانة الرفيعة فقال :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كلَّ ملْك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكب
ولإبراز عظَمتها جعلها المبتدأَ وهي نكرة .واستهل بها السورة للتهويل في قدرها وشرفها . واستعمل ضمير العظمة " نا " في الأفعال الثلاثة التي تلت كلمة " السورة " " أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكّرون " . وقد جعل آياتها بيّنات وهذا من التفخيم والعظمة كذلك.
وانظر معي إلى الترتيب – وهو أسلوب تربوي رائع - في الحديث عنها : فقد أنزل الله سبحانه سورة النور من السماء إلى الارض ، وفرضها لتكون النور الذي يضيء للسالكين طريقهم وأنزل فيها الأيات الساطعة والبراهين الواضحة لتكون المعالم المضيئة للناس أجمعين . فكان إنزالها وفرضها وبيانها متتابعاً مرتباً . والترتيب يساعد على الفهم وحسن التنفيذ ... ونجد الترتيب ثانية في غض البصر الذي يؤدي إلى حفظ الفرج " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ،... ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن " .كما نجده في ذكر الأهم ثم الأقل أهمية في إظهار محاسن المرأة للمحارم :فتظهر المرأة زينتها لزوجها ثم لأبيها ثم لأبي زوجها ثم لأبنائها ثم لأبناء زوجها ثم لإخوتها ثم لبني إخوتها ثم لبني أخواتها ثم لنساء المسلمين ثم لملك اليمين من الرجال ثم لمن لايرغب في النساء لعلة قاهرة ثم للأطفال غير المميزين . ونجد الترتيب وذكر الأهم ثم الأقل أهمية أيضاً في عدم الحرج في الأكل في الآية الحادية والستين إذ تتحدث بالتفصيل المرتب عن دخول بيوت المذكورين منهم .
ولاننس أن نشير إلى أن التفصيل في آيتي الحجاب 31 والأريحية في التواصل مع الأهل والأصدقاء 61 أسلوب تربوي راق . لأنه يجلّي الأمور ويوضحها ويزيل الإبهام، ويضع النقاط على الحروف ، ويشير إلى المهم من الأشياء والأقل أهمية سوء بسواء .(/1)
ومن الأساليب التربوية ذكر الأهم ليتنبه المتلقي إليه .... على سبيل المثال في هذه السورة الكريمة تقديم الزانية على الزاني " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة .. " لأن المرأة هي الداعي الأول إلى جريمة الزنا ، فلو تعففت تعفف الرجل ، أو ضعفت ولانت جرؤ الرجل . أما في السرقة فالرجل يذكر أولاً " والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما .. " إذ الرجل مكلف بالصرف على الأسرة والحصول على المال ... ولعل في إنهاء آية الحجاب بنصيحتين غاليتين هما " ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهنّ ، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون... " نهي النساء عن عادة ذميمة لاستجلاب انتباه الرجال ومِن ثَم الفتنة ، وأمر الرجال والنساء معاً بالتوبة والعودة إلى الله فهو – سبحانه – كهف التائبين ...وقد ذكرت قبل قليل ذكر الأهم في آيتي الحجاب وتواصل الاهل والأصدقاء ، ففيهما الدليل على ذلك .
من الأساليب التربوية هنا المماثلة أو قل ( إن الطيور على أشكالها تقع ) . فـ " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك ، وحرم ذلك على المؤمنين " فقد طلب مرثد ابن أبي مرثد من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عناقاً فهو مايزال يحبها ، وهي بغيٌّ كان يأتيها في الجاهلية ،وما زالت على فجورها وجاهليّتها فنزلت هذه الآية الكريمة تحدد العلائق بين المؤمنين أهل الطهر والعفاف وبين المشركين وأهل الفسق والفجور ... كما أن آيات الملاعنة 04- 10 تفصل بين الزوجين حين يكون الزوج عفيفاً طاهراً والزوجة غير ذلك .. إن البيت لا تقوم دعائمه إلا على الفضيلة والطهارة . وما أجمل قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الزوجة الصالحة " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة " وحديثَه صلى الله عليه وسلم في اختيار ذات الدين مشهور " تنكح المرأة لأربع ...فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، يؤيده قول الله تعالى " الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات . والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " . ولن يرتاح الزوجان إلا حينما يكونان متطابقين أخلاقاً وديناً وإلا كانت الحياة قاسية ومتعبة . ولعل في أمر الله تعالى لكلا الفريقين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم مماثلة في الطيب والطهارة والحياة النظيفة .
ومن الآداب التربوية حسن الظن بالمسلم : على المسلمين حين يسمعون القذف بحق الأطهار الشرفاء أن ينفوا القذف ، وينكروا الطعن فالأصل في المجتمع المسلم الطهارة " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وقالوا : هذا إفك مبين " وهذا ما فعلته أم أيوب وزوجها رضوان الله عليهما حين سمعا المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين يتحدثون بشأن عائشة رضي الله عنهما وصفوان بن المعطل رضي الله عنه ذلك الصحابي الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفضيلة والطهر فقالت أم أيوب : أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟! قال : نعم ، وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟! قالت : لا والله . قال : فعائشة خير منك ، وصفوان خير مني . فإذا رُمي اثنان أو أحدهما بالزنا قيل للقاذف هات شهداءَك الأربعة وإلا كنت عند الله كاذباً ، فأعراض المسلمين غالية . وما ينبغي لأحد أن يرميهم دون بيّنة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " إن هذا طعن بطهر المجتمع ونشر للفحشاء فيه ، وإفساد للأخلاق يستحق صاحبه به – لولا رحمة الله بعباده في دنياهم وأخراهم - العذاب العظيم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " وتصور معي أخي المسلم الحالة التي وقع فيها كثير من المسلمين- وما يزالون يقعون حين تغيب شفافية الإيمان – فأخذوا يتناقلون الفرية دون إنكار أو تمحيص ، فانتشرت القالة السيئة بينهم انتشار النار في الهشيم . والعادة أن الإنسان يفهم الفكرة بعقله وقلبه . لكنه حين يهتم بالأقاويل دون تفكير وفهم فكأنه يستقبل الخبر بلسانه فقط لا يتجاوزه ، ثم يلقيه كما يلقي القيء فيؤذي نفسه ومن حوله " إذ تلقّوْنه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ، وتحسبونه هيّناً ، وهو عند الله عظيم " فعاتبهم الله تعالى في هذه الآية بأمور ثلاثة :الأول : تلقيه بالألسنة دون السؤال عنه . الثاني : التكلم به ونشره بين المسلمين . الثالث : استصغار الذنب حيث حسبوه هيّناً وهو عند الله عظيم .وكان عليهم حين سمعوه أن ان ينكروه ويؤكدوا نزاهة بيوت الأطهار من المسلمين ، ولا سيما بيت النبوّة ، فلا يغوصوا في نشر الإفك لأنه كذب وافتراء شديد " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، سبحانك هذا بهتان عظيم " .
وهنا ننبه إلى الحذر من الإشاعات المغرضة التي تبلبل الصفوف ، وعلينا أن نتثبت من الأمر كي نصون المجتمع المسلم مما يسيء إليه ويضعفه .(/2)
ومن الأساليب التربوية الخطأ المعلِّم: يخطئ بنو البشر كثيراً ، ويصيبون كثيراً . والعاقل من اتعظ بأخطائه ، واللبيب من اتعظ بأخطاء غيره . والطامّة الكبرى أن يتكرر الخطأ ونعيش حياتنا أخطاء متوالية ، فنقع فيما كنا نقع فيه ، ونستمر على هذا ... أما إذا عرفنا الخطأ وأسبابه ودواعيَه ، ونتائجه علينا وعلى مجتمعنا وأمتنا ، واحترزنا الوقوع فيه مرة أخرى ، ونبهنا الآخرين إليه كان درساً مفيداً وتربية راقية .. هذا ما يقرره القرآن الكريم حين يقول :"إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم ، بل هو خير لكم " فلِمَ لم يكن شراً مع أن المجتمع تأذّى منه؟ ولِمَ كان خيراً ؟
فالجواب : أولاً : أن الخطأ قد يحصل حتى في المجتمع النقي المتماسك لأننا بشر.
ثانياً : أن الأشرار في المجتمع لا يفتؤون يكيدون له ليحرفوه عن الحق .
ثالثاً : أن بعض الصالحين قد ينجرّون إلى الخطأ ويقعون فيه دون أن يشعروا .
رابعاً: أن من ثبت خطؤه يعاقب أيّاً كان ، ويتوب الله عليه فكل امرئ بما كسب رهين .
خامساً: أن من اجترح الذنب الكبير ونجا من العقوبة في الدنيا لعدم ثبوت الجرم
المادي عليه فلن ينجو في اليوم الآخر من العقوبة الشديدة المناسبة.
ومن الأساليب التربوية الإثارة : وقد يسميها بعضهم التهييج وهو أسلوب – كما نرى – يحمِّس المتلقّي للتفاعل مع المطلوب منه إيجاباً قبولاً وامتناعاً ، وكلاهما إذا حصل كما نريد إيجابيٌ . ومن أمثلته الكثيرة في هذه السورة الكريمة :
أن الله تعالى يقول بعد الأمر بجلد الزاني والزانية غير المحصنين " ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فلو تمعنا في الشرط " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " في معرض الأخذ بالشدة في معاقبة الزناة لقلنا متحمسين : نعم يارب نحن نؤمن بك وباليوم الآخر، ولسوف نشتد بعقوبتهم دون رأفة حتى نكون ممن يؤمن بك وبيوم القيامة . ألا ترى معي أن هذا الشرط أثار فينا الالتزام بما أمر الله تعالى لنكون عند حسن ظن الله بنا؟
ومنه في قوله تعالى " .. وحُرّم ذلك على المؤمنين " في منع زواج المؤمن من الزانية أو المشركة وإلا كان من صنفهما قلنا جازمين: أجلْ يا رب نحن مؤمنون ننأى بأنفسنا أن نتزوج الفاسدين. وحين يعاتب المؤمنين في نقل الشائعة دون بصيرة " إذ تلَقَّوْنه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " يحذر من عقوبته الشديدة " وتحسبونه هيناً ، وهو عند الله عظيم " نسرع في القول : نعوذ بالله أن نغضب ربنا فنقع في سخطه . وحين يعلمنا الأدب في قوله تعالى " ولولا إذ سمعتموه قلتم :ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، يعظكم الله أن تعودوا لمثل هذا إن كنتم مؤمنين ... " نردد فوراً : سبحانك يا رب تبنا إليك ، لن نعود إلى ما يغضبك فنحن مؤمنون .... وحين تأخذنا العزة ونعاقب من يسيء إلينا قادرين ينبهنا الله تعالى إلى فضيلة العفو والغفران قائلاً " ولْيعفوا ، ولْيصفحوا ،ألا تحبون ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ " نسرع إلى القول :بلى يارب ، نحب أن تغفر لنا . وما دمنا نخطئ ونحن نرجو الله أن يرحمنا فلنرحم من يسيء إلينا . وحين يأمرالحق تعالى عباده أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ثم يعقب بأن " ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون " اشتدت رغبتهم في الزكاء ، وعلموا أن الله تعالى مطّلع عليهم خبير بهم وقالوا راغبين خائفين : زكّ نفوسنا يا رب ، فأنت خير من زكّاها ، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .
ثم نجد الإثارة الرائعة للفتيات أن يبتعدن عن الفواحش ويلزمن غرز التقوى حين يأمرهن بالتحصن عن الفساد ، بأن ترك لهن الخيار ظاهراً بأسلوب الشرط وهو سبحانه يحثهن على الطهر والعفاف متلطفاً بهنّ لأنهنّ ضعيفات ،ومعنفاً أهل الدياثة من الرجال في قوله تعالى "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، ومن يكرهْهن فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " فما يكون من الفتيات المسلمات إلا أن يقلن : بل نبغي التقوى والطهر يارب ، رضي من رضي وأبى من أبى .
ومن أساليب التربية مَنُّ المتفضل : أنْ أمُنّ على غيري ضياع للفضل والثواب ، وسوء في التصرّف . أما مَنّ الوالدين على أولادهما فتربية وتعليم وتذكير بالفضل ، ودفع إلى ردّ الجميل ... وأعظم من ذلك منُّ الله تعالى على عباده " يمنون عليك أن أسلموا ،قل لا تمنوا عليّ إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان أن كنتم صادقين " وهو الذي يقول سبحانه " ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده " . فمنّ العباد على العباد إذلال واستكبار . ومَنُّ الأبوين على أولادهما تربية وتهذيب . ومنُّ الله على عباده إسعاد لهم ورحمة .(/3)
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وان الله تواب حكيم " إن حذف خبر لولا لتهويل الأمر ، تقديره : لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة . ورُبَّ مسكوت عنه أبلغ من المنطوق . وكذلك نجد المنّ في قوله تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وأن الله رؤوف رحيم " وكذلك نجده في قوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " إن الذي يزكي هو الله تعالى . ألا يقول الله في ذلك " فلا تزكوا أنفسكم . هو أعلم بمن اتقى " ؟ فهنا يؤكد الله تعالى المعنى في قوله سبحانه " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ، ولكن الله يزكي من يشاء ، والله سميع عليم " .
من الأساليب التربوية العقوبة وهو أن ينال الإنسان جزاء ما اقترفت يداه من قول مخلٍّ أو فعل مؤذٍ يضر الآخرين ففيه أولاً : العدل الذي ينصف المظلوم ويردع الظالم .
ثانياً :لأن الإنسان خلق ينازعه الخير والشر . فإن بغى الشر على الخيروجب كبحه .
ثالثاً : والعقوبة عنوان القوة ، والحق بغير قوة يضعف ويضيع .فلا بد من عقوبة ضعيف النفس حتى يرعوي هو وغيره .
فكانت عقوبة القذف ثلاثة أنواع . أولاها جسدية : ثمانين جلدة . وثانيها مدنية : لا يعامل كبقية الناس إذ لا تقبل شهادته فيتصاغر أمام المجتمع . وثالثها أخروية : فهو في عداد الفسقة من أهل جهنم .لكن إن اعترف بخطئه وتاب عنه وأصلح ما أفسده تاب الله عليه وغفر له .
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً
وأولئك هم الفاسقون
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم "
وكانت عقوبة الزنا لغير المحصن نوعين أولاهما جسدية مئة جلدة لكل منهما . وثانيهما التشهير . – وهي عقوبة نفسية - إذ يحضر العقوبة رهط من المؤمنين حتى يعرف الناس بهذه العقوبة فيرعوي ذوو النفوس الضعيفة أن يقعوا فيها .
ومن أساليب التربية التوثيق : ومن فوائد التوثيق :
أولاً : التنبيه إلى أهمية الأمر والتركيز عليه .
ثانياً : الاحتكام إليه واتخاذه قاعدة في الحكم .
من الأمثلة على التوثيق قوله تعالى :" وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ففيه تأكيد على وقوع العقوبة أمام أنظار فئة من المؤمنين . ثم وجود أربعة شهداء يشهدون على واقعة الزنا وإلا جلد الرامي مئة جلدة " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " ويؤكد الحكم في معرض عتاب المؤمنين الذين جازت عليهم الشائعة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " كما أن الزوج في ملاعنته زوجته وليس هناك شهود أربعة يقسم أربع مرات إنه لصادق في دعواه " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " وفي رد دعواه تشهد الزوجة أربع مرات أنه كاذب فيما ادّعاه في حقها " ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " .
كما أن في هذا التوثيق أسلوباً تربوياً آخر هو الوقاية وقد قالوا قديماً : درهم وقاية خير من قنطار علاج . فما التشديد في وجود الشهداء الأربعة وفي الأَيْمان الأربعة للزوجين إلا وقاية للمجتمع من كثرة القذف واسترخاص أعراض المسلمين .وهناك أمثلة أخرى للوقاية في هذه السورة الكريمة منها قوله تعالى : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ..... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهنّ .. " الم يقل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه في النظر : " يا علي ، لك الأولى وليست لك الثانية ؟! " وغض البصر وعدم رؤية المفاتن يريح القلوب . كما أن في قوله تعالى " ولا يضربن بأرجلهنّ ليُعْلم ما يخفين من زينتهنّ " حماية للنساء من وسوسة الشياطين في جلب انتباه الذكور ، وحماية للرجال من تتبُّع اصوات الخلاخيل !!(/4)
إن تزويج الذكور من الإناث أحراراً وعبيداً يحفظ الجنسين من الرذيلة والفساد " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .. " ألم يقل النبي الكريم في هذا المعنى " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّجْ ، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ؟ فالزواج حصن من الفحشاء حصين ، والصوم كسر لحدة الشبق مؤقت ريثما يسهل الله زواجاً ولو بعد حين ... يؤكده قوله تعالى " ولْيستعْفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله " كما أن الله تعالى شنّع على تجار النخاسة والديايثة الذين يقدّمون النساء لفرش الرجال ، والعياذ بالله من افعالهم . وعفا عن الفتيات اللواتي اضطررن إلى ذلك ثم تبن في أول بارقة خلاص ، وشجعهن على ذلك بأن يكن عفيفات " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، ومن يكرهْهنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " .وعلى الرغم أن القرآن سمح للعجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً أن يضعن ثيابهنّ غير متبرجات بزينة فقد حثهن على العفة والستر " وأن يستعفِفْن خير لهنّ .." ثم إن عدم التكلم فيما يضر نوع مفيد من أنواع الوقاية " ما يكون لنا أن نتكلم بهذا " إن صون اللسان عن القيل والقال يئد الإشاعة في مهدها .ويقطع دابر الفتنة .
ومن الأهداف التربوية الواقعية وقل : الدقة في التعبير وإن كان من هذه الناحية يدخل في البلاغة إلا أنه تعويد للمتعلم على الفهم السليم والتحليل المحيط .
مثال ذلك قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ " لا يستطيع الإنسان أن يمشي في طريقه مغمض العينين ، لا بد من الرؤية كي يتحاشى المآزق والمخاطر ، فهو لا يغض بصره بل يغض منه، فلا يرى المفاسد والمفاتن ويمتنع عن النظرات الزائغة . لكنه يحفظ فرجه كله أن يقع في المحرمات . ومثال آخر نجده في آية المحارم فـ "أبناء " جمع قلة يناسب أبناء المرأة وأبناء زوجها مهما كثروا . وبنين – بنون – جمع كثرة يناسب بني الإخوة والأخوات على الأغلب . وهذا يعلمنا الدقة في الحديث أو التعبير .
من أساليب التربية ترك مجال الإصلاح مفتوحاً فمن يئس من الخلاص تمادى في غيه ، وازدادت نقمته ، وألّب غيره ، وتهوّر فآذى نفسه وغيره . ومن وجد منفذاً للإصلاح والنجاة ، فكّر وتدبّر وارعوى . ولا نريد لأبنائنا وأهلنا ومجتمعنا سوى الهداية ما استطعنا ، وهذه مهمتنا التربوية . وفي هذه السورة كغيرها من السور الكريمة أمثلة على ذلك ، منها مانراه في التعقيب على من رمى المحصنات دون وجه حق " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فمن تاب واعترف بخطئه غفر الله تعالى له .ثم اقرأ معي تذييل بعض الآيات " وأن الله تواب حكيم " " وأن الله رؤوف رحيم " " وأن الله غفور رحيم " . والله تعالى الكريم الرحيم يدعونا إلى التوبة فهو الإله الودود الذي يقبل توبة عباده مهما ابتعدوا ثم عادوا " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " أفلا نتوب إليه ونستغفره؟! بلى إن باب التوبة مفتوح ، فهلمّ أخي نسارع إلى الله إنه حبيبنا وسيدنا يفرح لتوبتنا ويسارع إلينا إن سارعنا إليه ، ويقبلنا مهما ارتكبنا من ذنوب ثم لجأنا إليه " ففروا إلى الله "
ياسيدي ومولاي : أفر إليك منك ، وأين إلاّ إليك يفر منك المستجير(/5)
تأملات تربوية في سورة النور ( 2 )
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
من هذه الأساليب في هذه التأملات
العلاقة مع القيادة :
فالرسول صلى الله عليه وسلم مثال القائد الفذ المعصوم ، وأصحابه الكرام مثال للجندي والمواطن الصالح . فكيف كانت العلاقة بينهم في هذه السورة الكريمة ؟ .
حين نزلت الآية " والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون " شق هذا في بداية الأمر على عاصم بن عديِ الأنصاري ، فقال : جعلني الله فداك ، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً ، فتكلم ، فأخبر بما جرى جُلِد ثمانين وسماه المسلمون فاسقاً فلا تُقبل شهادته ! فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء ؟ وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرَغ الرجل من حاجته! فقال عليه الصلاة والسلام " كذلك أُنزلتْ يا عاصمُ بن عدي " فخرج عاصم سامعاً مطيعاً فالسمع والطاعة للقائد المؤمن الذي يحكم بأمر الله تعالى .
وحين يكون المسلمون مجتمعين في إمرة القائد لا ينفلتون إلا بإذن منه لحاجة وضرورة ، فإن أذن انطلقوا وإلا فعليهم البقاء سمعاً وطاعة . على أن يكون السماح والمنع مبنيين على تفهم القائد لضرورة الأمر ، وأن يكون أباً رحيماً لهم ، وأخاً عطوفاً عليهم . ووصف الله تعالى الملتزمين الأمرَ بالمؤمنين " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم واستغفرلهم الله ، إن الله غفور رحيم " . فالعلاقة بين القائد والجندي والرئيس والمرؤوس متوازنة . فالجندي يحترم قائده ويستأذنه ، والقائد يعطف على جنديّه ويستغفر له .
أما الذين ينسحبون من اللقاء دون أن يشعروا النبي القائد متوارين بإخوانهم رويداً رويداً فقد أتَوْا خطاً جسيماً يستحقون عليه العقوبة . وهنا يأتي التحذير من مغبة هذا التصرف الدالُّ على عدم الشعور بالمسؤولية من مخالفة الأمر ، فلئن غاب عن النبي الكريم خروجهم وتواريهم فلن يغيب عن الله تعالى خطأ تصرفهم " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ، فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " .
كما أن على المسلم أن يتأدب بحضرة قائده المتمثل بهدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، فلا يناديه بصوت عالٍ ، إنما يسعى إليه ويخاطبه بصوت منخفض مسموع ، يدل على احترام وتقدير ، لا على ذل وخنوع " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً " .
كانوا يصيحون من بعيد ينادون الرسول الكريم : يا أبا القاسم ، فنبههم القرآن إلى تعظيم نبيهم عليه الصلاة والسلام ، فلا يرفعون أصواتهم عنده ، ويشرفونه ، ويفخمونه في رفق ولين وينادونه بقولهم : يا رسول الله .
وقد مُنِع المسلمون في سورة الحجرات أن يرفعوا اصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم في حضرته " يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " . وأن لا ينادوه بأحمد ومحمد وأبي القاسم ، لابصوت عالٍ ولا صوت خفض، خوفاً من ضياع أعمالهم الصالحة لهذا التصرف الشائن ، ولكن : يا رسول الله ويا نبي الله " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضاً ان تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " .
ثم مدح الذين يخاطبون الرسول الكريم بأدب جمّ ولطف زائد وصوت منخفض ووعدهم بالغفران والأجر العظيم :" إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم " .
إن العلاقة في الإسلام بين القيادة والأمة قائمة على الحب والاحترام والعطف والود ، ليس فيها طغيان الحاكم على الرعية ، ولا استبداد وظلم وتعالٍ على العباد ، وليس فيها ذل المواطن والخسف به وسلبه ونهبه ! وبمثل هذه الحياة تقوى لحمة الأمة ويعلو شأنها وتسمو مكانتها .
ومن هذه الأساليب التربوية
أدب الزيارة :
الأماكن التي يرتادها الناس ثلاثة :
أولها : بيت الإنسان وسكنه الخاص . فهو يدخله وقت يشاء دون حرج ، ودون استئذان من أحد . إلا أنّ من الأدب إشعار من في داخله –زوجة وولداً وضيفاً- أنه قادم كي لا يفاجأ بدخوله أحد . هذا ما كان يفعله النبي عليه الصلاة والسلام حين يدخل بيته مسلماً على أهله .
أما الدخول على غرف البيت فلا بد من الاستئذان على من في داخلها كي لا تقع العين على عورة . روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمي ؟ قال : " نعم " قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ . قال " أتحب أن تراها عُريانة؟ " قال : لا . قال : "فاستأذنْ عليها " .
وكان الفاروق عمر رضي الله عنه يتنحنح بصوت عال قبل أن يُسلّم ويدخل ، فالمرأة تحب أن يراها زوجها على أفضل حالاتها .(/1)
والاستئذان على أهل البيت في غرفهم في ثلاث أوقات واجب لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا : ليستأذنكم 1- الذين ملكت أيمانكم ، 2- والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات
1- من قبل صلاة الفجر .
2- وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة .
3- ومن بعد صلاة العشاء .
ثلاث عورات لكم . "
ففي هذه الأوقات الثلاثة يتجرد الإنسان من ثيابه للنوم والراحة . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار إلى عمر رضي الله عنه ظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما قد أغلق عليه بابه ، فدق عليه الغلام الباب ودخل ، فاستيقظ عمر وجلس ، فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن . ثم انطلق إلى رسول الله ، فوجد هذه الآية قد نزلت ، فخر ساجداً شكراً لله .
فإذا بلغ الأطفال الحلم وجب معاملتهم كغيرهم من الكبار أكانوا غرباء أم من المحارم .
ثانيها : دور الأهل والأصدقاء . فهؤلاء لا يُدخل عليهم إلا بإذنهم . فكيف يكون الاستئذان؟
يُطرق الباب ثلاث مرات ، بين الواحدة والأخرى مقدار ركعة خفيفة كما يذكر الفقهاء ، ليُترك لأهل البيت مجالٌ مريح في الردّ . ولم يكن للبيوت كلها على عهد الرسول الكريم أبواب ، إنما ستائر. يقف القادم قريباً من الباب ، ليس أمامه حتى لا ينكشف عن أهل البيت سترهم ، ويغض بصره ، فقد روى علماؤنا أن الفاروق رضوان الله عليه قال : من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق . ورويَ عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في في جُحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدْرىً( مشط) يرجّل به رأسه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أعلم أنك تنظر لطعنتُ به في عينك ، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر " . وروى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن رجلاً اطّلع عليك بغير إذن ، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح " .
ويسلم بصوت مسموع على أهل الدار ثلاث مرات ، بين الواحدة والأخرى زمن يسير .. هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الاستئذان ثلاث ، فإن أُذن لك ، وإلا فارجع . " واستأذن رجل من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه : " اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟ " فسمعه الرجل ، فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل . وقد زار الرسولُ الكريمُ سعدَ بن عبادة زعيمَ الخزرج ، فلما وقف بالباب قال : السلام عليكم .
والسلام عليكم سلام المؤمنين.... فإذا دخل الرجل بيتاً فيه غيره قال : السلام عليكم . فليردوا عليه : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
وإذا دخل بيتاً ليس فيه أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وإذا دخل المقابر قال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ، ونحن إن شاء الله بكم لاحقون .
الفرق بين الاستئذان والأنس
قد يأذن لك أحدهم في الدخول حين تطرق بابه خجلاً منك ، وهو لا يريد في قرارة نفسه أن تدخل بيته ، فقد يكون تعباً يريد النوم أو الراحة ، وقد يكون مشغولاً في أمر لا يحب أن يطّلع عليه أحد ، أو كان يجهز نفسه لموعد ضربه أو لأسباب أخرى ... يدعوك للدخول بلسانه ، وبريق عينيه يظهر عكس ذلك . أما الأنس فشيء آخر . إنه الترحيب الذي تشترك فيه الحواس كلها تدعوك مشتاقة إليك ، راغبة فيك مسرورة بلقائك . فكانت كلمة ( تستأنسوا ) رائعة في التعبير عن دخيلة النفس في الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " أما إذا كان صاحب البيت شجاعاً وقال للزائر : لن أستطيع الآن دعوتك للدخول فارجع . فقد وجب الرجوع دون أية حفيظة تبدو من الزائر أو امتعاض منه ، " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا " وهنا يظهر أدب الزائر في ردة الفعل ، وحسن تصرفه بالتزامه أدب الإسلام في العودة ، إنْ بعذر ، أو بغير عذر ، وبذلك يروّض نفسه على احترام خصوصية الآخرين . وحسبه جائزةُ الله تعالى " فارجعوا هو أزكى لكم " كما فعل سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابو موسى مع عمر .. إنها طهارة النفس من الغضب وردة الفعل السيئة التي قد يمليها الشعور بالإهانة ، فيبادر إلى القطيعة والعداوة ، ويكون الرابح الأول فيها شيطانه الوسواس الخناس .
يقول أحد المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية ، فما أدركتها ، أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا منبسط لقوله تعالى " فارجعوا هو أزكى لكم " ولعله عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذ يقول : فيقولون ابن عم رسول الله ، لا نرده .(/2)
ومن أدب الاستئذان أن يعَرّف الزائر بنفسه تعريفاً واضحاً ولو ظنّ أن المزور يعرفه . عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي ،فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ، فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت فرآني فقال : " من هذا ؟" فقلت : أبو ذر . وقد استأذن جابر على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فدققت الباب فقال : " من ذا ؟ " فقلت :أنا . فردد النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أنا؟ "، كأنه كرهها .
ثالثها : الفنادق والأسواق والمؤسسات العامة المشرعة الأبواب لمن يأتيها . فهذه لا يتطلب دخولها الإذن ، ففيها متاع الناس من بيع وشراء وإيواء ومنافع . يدخلها السابلة كلهم إن شاءوا ، متى شاءوا ، مادامت مفتوحة ليلاً أو نهاراً . لكن لا بد من أدب اللقاء من غض للبصر وإعطاء الطريق حقه ، وإلقاء تحية الإسلام ....
ومن هذه الأساليب التربوية كذلك
الآداب اجتماعية :
يحرص الإسلام على تنمية العلاقة الأسْرية بين الأهل والأقارب ، ويحض على التواصل بينهم ليستمر الحب والود ، ولتقوى الأواصر بينهم . فيتزاورون ويتراحمون . يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة : " إن الله خلق الخلق، حتى إذا فَرَغ منهم قامت الرحِم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : نعَمْ ، أما ترضَيْن أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى . قال : فذلك لك ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوا إن شئتم : فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ؟ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم ، وأعمى أبصارهم " . وهذا نجده في الآية الحادية والستين التي تحث على زيارة بيوت الآباء والأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ، والأخوال والخالات والأصدقاء ، و تناول الطعام عندهم دون حرج ، والمباسطة في التفاعل الإيجابي . ولئن كان المذكور فيها الأكل دون غيره إن الأكل يزيل الكلفة بين الأهل والأصحاب أكثر من غيره ، ويبني جسور التفاهم والتمازج والألفة . ويقرب القلوب والنفوس ويزاوجها . ولا ننسَ ذكر الأهم فالأقل أهمية فهذا منطقي جداً فالإنسان يبدأ من القريب لينتقل إلى البعيد ، ثم يعم الأمر بين الجميع .
ومن هذه الأساليب التربوية :
الإعذار : " من أنذر فقد أعذر " مثل مشهور يوضح أنه ما عاد هناك من عذر، فقد قدم المربي أو المسؤول أو ما في معناهما كل النصح والعون ، ووضح وأرشد ، وبيّنَ وفصّل . فعلى الآخرين أن يتحملوا المسؤولية ، ويكونوا أهلاً للقيام بالواجب الملقى عليهم .... نجد مثال هذا في قوله تعالى في الآية الرابعة والثلاثين " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيِّنات ، ومثلاً من الذين خلََوا من قبلكم ، وموعظة للمتقين " فالله تعالى أنزل إلينا هذا القرآن فيه أدلة وبراهين واضحة لما ينبغي أن نعمله ، فنرضيه سبحانه . وقصّ علينا ما حدث للأمم السابقة حين عصت أمر ربها وكذّبت رسله الكرام . فمن أطاع جوزي خيراً ، ومن عصى عوقب بشر أعماله . فقمن اتقى فقد اتعظ .
ونجده مكرراً بأسلوب قرآني فريد في قوله تعالى في الآية السادسة والأربعين " لقد أنزلنا آيات مبيِّنات ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " حين أخبرنا سبحانه عن بعض صور عظمته في جميل صنعه .وعلى هذا جاءت الآية الأولى مسبوقة بالواوواللام الموطئة للقسم لأن الآيات التي سبقتها كانت حصراً بالمؤمنين وما عليهم أن يفعلوه إذ هو تشريع لهم . وكانت الثانية موضحة نور الله تعالى وبديع صنعه ، ودعوة للإيمان به سبحانه . وأن الهدى هدى الله .
ومن أساليب التربية :
التدرج والخطوات المتتالية :
الشيطان لعنه الله مُربٍّ ، نعمْ هو مُرَبٍّ ، ولكنه شرّير يربي أتباعه على الكفر والفساد ، ويشدهم بالتدرّج إلى المهالك لينكسوا على رؤوسهم في جهنم معه ، ثم يتبرّأ منهم كعادة الخبيثين في كل زمان ومكان . يدّعي الإصلاح ليوقع أصحاب الأهواء في حبائله . يتابعهم خطوة خطوة ويمنّيهم مّرة وراء مّرة ، ويقسم لهم أغلظ الأيمان ليضلهم عن سبيل الله
والله تعالى حذرنا منه ، ومن طريقته فلم يقل لا تتبعوا الشيطان ، إنما قال سبحانه " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ، ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " وإليك هذا المثال : فالشيطان لا يأمرك بالزنى مباشرة لأنك ستعرف مقصده وتتعوّذ منه فوراً . وهو يريد ابتداء أن يكسب ثقتك ،
- انظر إلى هذه الفتاة الجميلة .
- أعذ بالله ، إنه الفساد بعينه .
- ولم يا صاحبي ؟
- إن النظرة سهم قاتل من سهامك يا إبليس .
- هل تراني أسدد السهام إلى قلبك؟!
- إن النظرة بريد الزنى ، يشغل القلب ، ويبعده عن الله .
- أنا لا أريد ان تصل إلى هذا صدّقني .
- كيف أصدّقك وأنت تأمرني أن أنظر إليها ، والعين تزني ، وزناها النظر .
- إن الله جميل يحب الجمال ، وأنت رجل مؤمن يزيدك النظر إلى صنع الخالق الجميل إيماناً ، ويزيدك تقوى .(/3)
- فانظر إليها يارجل واذكر الله تعالى ... ينظر إبليس إليها ، ويذكر الله مظهراً الخشوع .
- ينظر الفتى إليها فيشدَهُهُ جمالها ، ويذكر الله بقلبه ، ثم بلسانه فقط لأن إبليس يتمثل بها ، ويبدأ بإغوائه .
- ابتسم لها يا رجل .
- أعوذ بالله منك ، كيف ابتسم لها ؟
- كيف تبتسم لها؟ ! أتجهل طريقة الابتسام؟!
- لست أقصد هذا ولكن الابتسامة دعوة لها أن تجاملني . وبدء بحديث .
- أنسيت أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة؟
- هي ليست رجلاً ، إنها امرأة ، وقد أتقدم بالابتسامة خطوة أخرى .
- إنها أختك في الله . بل إن تبسمك في وجهها جزء من الدعوة إلى الله تعالى .
- ويبتسم لها . فتبادله الابتسام ويحييه إبليس المتمثل بها بابتسامة عريضة تأسره وتستجِرّ قلبه وعقله .
- أرأيت الحب الأخويّ الطاهر أيها المتزمّت؟ نعم إنه لطاهر حقاً – يقولها مشدوداً إليها راغباً بها ، منعطفاً إليها .
- ألا تسلم عليها أيها الأبله ؟!
- لا أبداً إنما أدعوك إلى شعيرة إسلامية ضاعت منك .
- يا أيها الشيطان تكاد توقعني في حبائلك .
- أنسيت يا رجل قوله تعالى " فسلموا على أنفسكم تحية من الله مباركة طيبة " وهي منكم معشر المسلمين ، ومن أنفسكم .
- يسلم عليها و.. و.. و..
قال شوقي :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
هذه واحدة من خطوات الشيطان ، والقياس واضح بيّن أخي الحبيب .(/4)
تأملات تربوية في سورة طه (1)
د. عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
في هذه السورة الكريمة معان تربوية عديدة ورائعة . ولن نستطيع الإحاطة بها . ومن ذا يدّعي ذلك في القرآن – كلام الله سبحانه- الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بروائع الوصف والمعاني فقال : ... وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ... وحسبنا أن نقتطف منه ثماراً يانعة ووروداً ناضرة .
1- التحبب وإنزال الناس منازلهم : فكلمة " طه " لها معان كثيرة عددها المفسرون ، لكنني سأقف على معنيين اثنين يوضحان المقصود . فقد ذكر القرطبي في تفسيره الكبير " الجامع لأحكام القرآن " أن بعض العرب مثل – عك وطيّء- درجت على مناداة من تحب بكلمة طه ، ذكره عبد الله بن عمرو وقطرب . ودرجت بعض القبائل مثل – عكل – على مناداة الرجل العظيم المحترم بالكلمة نفسها طه ، ذكره الحسن البصري وعكرمة . وكأن الله سبحانه وتعالى –على فهمنا لهذين المعنيين – ينادي رسوله الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام يا حبيبي ، فهو حبيبه المصطفى وأيها الرجل الكريم ، فهو الرجل الذي كان النور الهادي إلى الله – وما يزال إلى يوم القيامة – ولو عدنا إلى الآيات التي تذكر كلمة رجل ومثناها وجمعها لرأيناها مدحاً كلها ما خلا سورة الجن في قوله تعالى " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً " والقرآن على هذا يعلمنا أن يكون خطابنا للآخرين لطيفاً محبباً ، وأن نحفظ لهم مكانتهم ونكرمهم ، فاحترام الناس وإنزالهم منازلهم يعود على الداعية بالحب والود ، ويفسح له في قلوب الناس القبول والطاعة ، وما كان الجفاء في يوم من الأيام سبيلاً إلى الدعوة " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..."
2- الإطناب : البلاغة كما يقول أهلها " مراعاة مقتضى الحال " فالإيجاز في الحديث حين يفيد الإيجاز . والإسهاب فيه حين يقتضي الأمر ذلك . وسورة طه مكية ، تهتم كأخواتها من السور المكية بتوضيح عقيدة التوحيد وتثبيتها في قلوب الناس ، فلا بد من الإسهاب الدقيق المركز . ومثاله في هذه السورة الكريمة الآيات الخمس ، من الآية الرابعة إلى الآية الثامنة
فالقرآن الكريم أنزله من أبدع الأرض والسماوات العلا .. من هو وما صفاته؟ إنه الرحمن الذي استوى على العرش فدانت له الخلائق كلها !!... وهو – سبحانه – الذي ملك كل شيء .. ملَك السماوات وملك الأرض وملك مابينهما وملك ما تحت الثرى ، فهل بقي شيء لم يسيطر عليه – سبحانه- ؟ كل ما علا وما سفل وما كان بينهما في قبضته فهل هناك مفرمنه إلا إليه ؟
أفر إليك منك ، وأين إلا إليك يفر منك المستجير
ثم إنه سبحانه مطلع على الظواهر والسرائر وعلى ما هو أخفى من السرائر . أتدرون ما أخفى من السرائر؟! ... إنها الخواطر التي تلمع في أذهاننا والأفكار التي تسطع في عقولنا ثم تمضي سريعاً في عالم النسيان ... نعم ننساها ولا نتذكرها ، لكنها في علم الله سبحانه وتعالى لا تغيب.... وكيف يغيب شيء - مهما قل وخفي - عن العليم الخبير !!
فإذا خالط الإيمان بشاشة قلوبنا ، وامتزج بأرواحنا وأنفاسنا نادينا مقرين بـ " الله لا إله إلا هو " وسألناه الخير مترنمين بأسمائه الحسنى وصفاته العليا..... وتعال نقرأ هذه الآيات الكريمة ليكتمل المشهد الحسي الروحي العجيب
" تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلا
الرحمن على العرش استوى
له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى
الله لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى "
3- حسن الربط بين المعاني : إ ن سرد الأفكار او الأحداث مسلسلة مرتبة يقيد المتلقّي بأمور عدة منها :
استيعاب الأفكار والأحداث دون انقطاع .
حسن المتابعة لما يُلقى عليه وحُسن التعامل معها .
قدرة المتلقي على الحكم السليم على ما يسمع .
الاستجابة لعدد أكبر من المعلومات والأفكار .
فبعد أن عشنا في جو الآيات السابقة جاءت قصة موسى عليه السلام توضح لقاءه بربه الكريم بإسلوب شائق غير منقطع يوضح العلاقة بين الخالق الرحيم والمخلوق الباحث عن الحق ، بين المعبود والعابد ، والرب الآمرالسيد والعبد المأمور المطيع. ... فكيف يصطفيه الله تعالى ويكلمه دون أن يكون بينهما آخرون ؟ لقد رأى ناراً هم بحاجة إليها عله يأتي منها بقبس أو يجد حولها من يدله على الطريق إلى مصر ، فقد أخطأه في هذا الظلام الشديد . فوجد درب الهداية وسبيل السلام وفتح له باب السعادة على مصراعيه ، فولج منه إلى الكرامة في الدنيا والآخرة ... ذهب إلى النور مقتبساً فعاد نوراً بذاته ، يهتدي بهديه المهتدون ، فقد رأى النور وكلمه . " عرفه بذاته القدسية " إني أنا ربك "(/1)
" أني أنا الله لا إله إلا أنا " وعلمه التأدب مع العظيم " فاخلع نعليك " وكأنه يقول له اترك الدنيا وزحرفتها الفانية فأنت مؤهل لأمر جلل " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " ولا بد من الاستعداد لهذا التكليف الشاق والاستعانة بالعبادة والتزكية لتكون الصلة بالله قوية تعين على حمل الأمانة " فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " .وكرر موسى هذا حين طلب الاستعانة بأخيه فقال : " كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً " .
4- التسلح بالبراهين والأدلّة : لا بد حين تكلف إنساناً بمهمة أن تجهزه بما يناسب من مستندات ووثائق – إن كان الأمر يتطلب ذلك – وتوضحها له بمعلومات تساعده على إنجازها بشكل صحيح خال من الأخطاء أو بقليل منها ما كان إلى ذلك من سبيل . .. وهذا ما قدمه الله تعالى لأنبيائه في دعوتهم .
فقد كان لصالح الناقة وفصيلها ، ولسليمان الريح تجري بأمره حيث يشاء ، ولداود تليين الحديد ، ولإبراهيم جعل النار المحرقة حديقة غناء ، ولعيسى إحياء الموتى وإخبار الناس بما يدّخرون في بيوتهم ... وأيد الله تعالى موسى " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " ذكر منها في سورة طه اثنتين : أولاهما انقلاب العصا حية تسعى ، وثانيهما وضع اليد في جيب الثوب وإخراجها بيضاء تلمع كالشمس في بريقها . وكان لكل نبي من المعجزات الباهرات ما يبهر المدعويين ويعجزهم .
5- التجريب : أسلوب تربوي عملي ، يفيد في أمور عدة نذكر اثنين منها :
الأول : أن تثبت الفكرة في النفس كقصة إبراهيم عليه السلام إذ أراد أن يزداد بصيرة في قلبه وعقله فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى . مع العلم أنه شديد الإيمان بربه وقدرته سبحانه ، فأجابه إلى ذلك في سورة البقرة الآية 260ولم يشك إبراهيم في قدرة الله ، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ، ويدل عليه وروده بصيغة " كيف " وموضوعها السؤال عن الحال . ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " ومعناه : نحن لم نشك ، فلأن لا يشك إبراهيم أولى . والثاني : تعويد المرء على شيء يخافه ليطمئن قلبه ، فيستعد لما قد يستجد، ومثاله ما ورد في هذه السورة حين سأله الله تعالى عما في يده ليجعلها إحدى معجزاته " وما تلك بيمينك يا موسى " فأجابه بما يدل على استعمالاتها الكثيرة . فأمره أن يلقيها ، " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد جاء في سورة النمل أنه هرب خوفاً منها " فما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقّب " . وتصور معي أنه لم يجربها بين يدي الله تعالى فكيف يكون موقفه وهو داعية يلقيها لأول مرة أمام فرعون وملئه فيكون أول الهاربين مع أنهم- وإن خافوا - تماسكوا فلم يهربوا .... لن يكون الموقف لصالحه . ومع هذا فقد كان الموقف أمام السحرة رهيباً " فاوجس في نفسه خيفة موسى " فهدأه الله تعالى " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى" .
6- الاستعانة بالصالحين : لقد هيأ الله تعالى لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام رجالاً يعتمد عليهم في نشر الدعوة يكونون عوناً له وأزراً . وانظر معي وصفهم في آخر سورة الفتح " محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّدا ، يبتغون فضلا من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وهيأ الله تعالى لنبيه الكريم عيسى عليه السلام حواريين يؤازرونه في الدعوة ، ويعينونه في نشرها : " كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ . قال الحواريون : نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمونا على عدوهم ، فأصبحوا ظاهرين " . وهذا موسى عليه السلام حين كلفه ربه أن يذهب إلى فرعون ناصحاً وداعياً سأل ربه أن يعينه بأخيه هارون " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري " . فأعانه به لأنه سبحانه يريد للدعوة أن تؤتي أكلها ، فلا بد من تيسير سبلها والإعداد لها " قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى " .(/2)
7- ذكر الأفضال : ليشعر من تفضلت عليه أنك هيأت له الأسباب واعتنيت به وقدمت له الخدمات ليكون عند حسن ظنك فيما يفيده ويفيد أسرته ومجتمعه ، كأن يخاطب الأب ولده فيذكره بتربيته له وإيثاره عليه واعتنائه به وتدريسه ووو... ليكون ولداً باراً بوالديه محسناً لإخوته وأخواته وكفعل المحسنين دون منّة ولا تفاخر وتفضل وإلا نفرالمدعوّ ولم يدنُ مرة أخرى . فإجابة الله تعالى دعوة موسى في إرسال أخيه منّة ما بعدها منّة ، وهنا مننٌ كثيرة ذكرها الله تعالى لموسى ليدلل اعتناءه به وتزكيته له وتهيئته ليكون الرسول الداعية إلى الله : " ولقد مننّا عليك مرة أخرى " فحفظه أن يقتله فرعون . بل إنه ربّيَ في قصره وعلى عينه ، وأعاده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن فلم يقبل إلا حليبها ، وتبعته أخته لتعود به إلى أمه ، وحفظه أن يقتص منه فرعون لقتله القبطي ، فهاجر إلى الشام ليعيش في بيت أحد الصالحين ويتزوج ابنته ويعمل عنده ليخف عنه الطلب ، ويقتبس الخير من الرجل الصالح ، ويعيش من كد يمينه وعرق جبينه لا أن يظل عالة على فرعون يعيش حياة هينة لينة ، ، فحياة الدعة لا تربي الدعاة ، ولن يرفع أحد رأسه ويصدع بكلمة الحق أمام ولي نعمته والمتفضل عليه . ومن أفضل المنّة أنه رباه على عينه واصطنعه لنفسه سبحانه .
8- احترام الكبير : من الآداب التي حض عليه الإسلام توقير الكبير. وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال : " أن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم " . وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف قدر كبيرنا " وقال كذلك صلى الله عليه وسلم : أُراني في المنام أتسوك بسواك ، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر . فناولت السواك الأصغر . فقيل لي : كبر . فدفعته إلى الأكبر منهما ". .. والأحاديث في هذا الباب وافرة . أما في القرآن الكريم فالآيات كثيرة في هذا الباب ، منها :أن يعقوب عليه السلام حين حضرته الوفاة سأل بنيه : " ما تعبدون من بعدي ؟ " فبماذا أجابوا ؟ " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون "سورة البقرة ، الآية 133 .أبوهم يعقوب وجدهم إسحاق وأبو جدهم إبراهيم . أما إسماعيل فعم أبيهم . ولأدبهم الذي درجوا عليه قدموا إسماعيل على جدهم لأنه أكبر منه واحتسبوه من جملة الآباء . والعم بمقام الأب . واقرأ معي هذا الترتيب الأدبي التربوي الرائع " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ..." .
وقد أمر الله تعالى موسى وهارون بتبليغ فرعون : لكن خطاب الرب كان لموسى مباشرة ولهارون عن طريق موسى " اذهب أنت وأخوك بآياتي ، ولا تنيا في ذكري " فكان الأمر للاثنين ولكن عن طريق موسى
كما أننا نتعلم الأدب حتى ممن ليسوا مسلمين إن نطقوا بالصواب ، فحين ذهبا إلى فرعون بأمر ربهما يدعوانه، فتكلما كما ورد في القرآن وأحسنا ، وجه فرعون لهما السؤال ولكنه طلب الجواب من موسى " قال : فمن ربكما يا موسى " . فكان موسى هو الذي يحاوره .
تأملات في سورة طه (2)
د. عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
1- الاستعداد والإعداد للمهمة : الإنسان ضعيف بنفسه مهما كان قوياً ، قوي بإخوانه .كما أن عليه أن يجهز نفسه بما يستطيع للقيام بمهمته أفضل القيام . وهذا مانراه في طلب موسى عليه السلام :
- اللجوء إلى الله تعالى والاعتماد عليه . فقد سأله أن يشرح صدره . .. إن المؤمن بقضيته إيماناً عميقاً يبذل في سبيلها كل شيء ، ماله ووقته وصحته . وعلى هذا كان أول ما طلبه موسى " قال : رب اشرح لي صدري . " وهذا مابدأ به الله تعالى مع نبيه الكريم محمد " ألم نشرح لك صدرك " .
- ثم سأله موسى عليه السلام أن يسهل له عمل الدعوة ليحيا فيه الأمل والقدرة على الاستمرار " ويسر لي أمري " . وهذا نجده أيضاً في نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام " ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك " . وما وضع الوزر إلا تسهيل للعمل الدعوي حين يرى الداعية نفسه خالياً من الآثام بعيداً عن السيئات ، مقبلاً على فعل الخير .
- كما أن الفصاحة والقدرة على التعبير عن الأفكار تقلب الباطل حقاً في نظر كثير من الناس ، فما بالك حين تكون هذه الفصاحة وتلك البلاغة أداة في تجلية الحق والدعوة إليه ؟ ألم يقل النبي الكريم " إن من البيان لسحراً " ؟ ولهذا سأل موسى عليه السلام ربه سلاح البيان فقال : " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي " . وقد كان نبينا الكريم محمد أفصح الناس وأكثرهم بلاغة . روى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قوله صلى الله عليه وسلم " أنا أعرب العرب ، ولدت في بني سعد ، فأنّى يأتيني اللحن ؟! " .(/3)
- الاستعانة بأولي العزم وأصحاب الهمم من المؤمنين وخاصة إن كانوا من الأقارب والأهل أو الأصدقاء والمعارف ، فهم : أعلم بصدق الداعية ، وأشد رغبة في مؤازرته والذود عنه وعن دعوته ، وهم عون له على الدعوة وأمان من الضعف وحرز من الشيطان . " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ". وقد مدح القرآن الكريم أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم " محمد رسول الله .... والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً
سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة .
ومثلهم في الإنجيل : كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ،
فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار . "
- والجليس الصالح عون لأخيه على ذكر الله ، يذكره إذا نسي ، ويقويه إذا ضعف " كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً " . وكذلك صحابة رسول الله كما ورد في الآية قبل قليل .
2 - خطوات مدروسة : قبل الذهاب إلى فرعون لدعوته وإقامة الحجة عليه أوصاهما الله تعالى بأمور عدة تكون عوناً لهما في مهمتهما ، منها :
- الشجاعة وعدم الخوف : وهذه أولى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية ، وإلا لم يستطع تبليغ الدعوة . فحين " قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " شجعهما وأوحى إليهما بصريح العبارة أنهما لن يكونا وحدهما " قال لا تخافا ، إنني معكما أسمع وأرى "ومن كان الله معه يسمع ويرى فأنى يخاف ؟. وكانا ثابتي الجنان حين أعلنا بوضوح لا خوف فيه ولا لبس أن الرسالة " من ربك " وهو الذي يدعي الربوبية ويمارس بسيفها كل مفاسده ، فهما ينزعانها عنه دون خوف ولا وجل . بل يعلنان أنهما على هدى ، وهو وأتباعه على باطل . وأن الخير كل الخير في اتباعهما " والسلام على من اتبع الهدى " .
-التلطف في الدعوة من أقوى الأساليب لإنجاحها ، وفيه فوائد عديدة منها :
أ -امتصاص الغضب والتخفيف من الرغبة في الانتقام .
ب - دفع المدعو إلى الاستماع والتفكير بما يطرح عليه .
ت - قطع الطريق على المناوئين الذين يصطادون في الماء العكر .
ث - محاولة اكتساب بعض ذوي الأحلام من الحاضرين إلى الدعوة .
ج - شق صف المناوئين
وهكذا كان أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمصلحين من أصحابه والدعاة إلى يومنا هذا . فالله مدح نبيه بالرحمة واللطف واللين " فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولوكنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " . دخل رجل على المأمون يعظه ، فأغلظ له القول . فقال المأمون معاتباً : لقدأمر الله موسى وهو خير منك أن يذهب إلى فرعون وهو شر مني يدعوه " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فانقلب الواعظ موعوظاً والموعوظ واعظاً .
- العمل الجماعي أفضل من العمل الفردي " إذهب أنت وأخوك .. " " واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ، اشدد به أزري و أشركه في أمري " .
- التسلح بالبراهين والأدلة ، فهي تنفي الشك وتزيل اللبس وتقوي الموقف وتدعم الفكرة " اذهب أنت وأخوك بآياتي ... " . على كل من يريد أن ينجح في مسعاه أن يتجهز بالوثائق والبراهين ، وأن يدعم من ينوب عنه بها .. إن القرائن آيات صدق وعامل إثبات ودليل قوة : " قد جئناك بآية من ربك " .
- الاتصال الدائم بالمرسل لتقديم التقرير بما يستجد من أمور ومواقف ، ولتجديد المعلومات وتلقي التأييد : " ولا تنيا في ذكري " . وحين أبدى النبيان خوفهما من بطش فرعون نبههما الله تعالى إلى أنهما في معيته " قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى "
- معرفة الهدف والتوجه إليه ، وصب الاهتمام عليه : " اذهبا إلى فرعون ...." فهو الرأس ، وهوالهدف الأول فإن دان فمن بعده أسهل منه . ويحضرني قول سعد بن زرارة أحد أوائل من أسلم من الأنصار وقد نزل عنده مصعب بن عمير سفير رسول الله حين قدم المدينة المنورة داعياً إلى الله وسمع به سعد بن معاذ سيد الأوس فجاء ومعه أسيد بن حضير يزجران مصعباً ليطرداه من يثرب .. يقول سعد بن زرارة : هذان سيدا قومهما ، وقد جاءاك فاصدق الله فيهما . فلما وقفا عليه هزسعد حربته وقال : ما جاء بك تسفه ضعفاءنا ؟! اعتزلنا إن كان لك بنفسك حاجة . فقال مصعب : أو تجلسان فتسمعان ، فإن رضيتما أمراً قبلتَماه ، وإن كرهتماه فكففنا عنكما ما تكرهان ؟ فقرأ عليهما آيات من القرآن فاستحسنا دين الإسلام ، وهداهما الله إليه، فكان لهما من الخير على قبيلتهما ما كان إذ أسلم منها خلق كثير .
- معرفة سبب الذهاب إلى المدعو . إنه ادعى الألوهية وقال : " أنا ربكم الأعلى " فكان لا بد من التنبيه إلى أنه تعدّى حدوده ، وادّعى ما ليس له : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى " والطغيان مجافاة الحقيقة وقلب الحقائق .(/4)
- المواجهة الواعية الحكيمة : إن الدعوة عمل ينبغي دراسة خطواته بإتقان وتخطيط ، وينطبق عليه ما ينطبق على أي عمل يراد له النجاح . وقد أوصى الله سبحانه موسى وهارون أن يقفا وجها لوجه أمام المدعو فرعون " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " وسواء أكان المدعو إنساناً عاديّاً أم كان طاغية حوله الأعوان والحاشية التي تؤزه إلى الشر أزّاً وتزين له فساده وتطاوله على الحق فلا بد من أن يُصدع أمامه بالحق : فاتياه . والمواجهة ليست سلبية إنما هي إيجابية تتجلى في قول الحق والجأر به والدعوة إليه . ولكن بأسلوب حكيم : فقولا له قولاً لينا "
- وضوح الرسالة ، فقد أرسلهما الله تعالى لإنقاذ بني إسرائيل من الذل والاستعباد الذي يعيشونه تحت تسلط الأقباط في مصر وجبروت ملكهم فرعون . فكان قولهما واضحاً " فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " لقد يئس اليهود من العدل الفرعوني ، فلا بد أن يخرجوا من مصر عائدين إلى فلسطين دون أن يمنعهم من الرحيل . فقد كان الاقباط يستخدمونهم كما يستخدم العبيد ، ويكلفونهم بمهام دونية لا يرضى الأقباط القيام بها .
3- الحوار الهادف : لم يعترف فرعون أن الله تعالى ربه . وقد نبهه النبيان الكريمان إلى ذلك حين قالا " قد جئناك بأية من ربك " فحين سأل فرعون موسى السؤال الأول المتوقع ممن يعاند وينكر ويكابر : " .. فمن ربكما ياموسى " كان الجواب مفحماً " .. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ..... ثم هدى " . وكأنه يقول له : الخالق الحقيقي الذي يخلق ويبدع فيما يفعل ، فترى كل ما يفعله رائعاً مكتملاً . ومن ثم ييسر لكل مخلوق حياته ... فأين دليل ربوبيتك أنت ؟! وهنا يبتلع فرعون الإهانة في هذا السؤال الذي عرّاه فانتقل إلى سؤال آخر يظن أن يداري فيه جهالته ، فوقع فيما أراد تجنبه فسأل موسى عن أسلافه الذين ماتوا ... وهذا سؤال لا يطرحه "إله" ! لأنه يعرف جوابه . لكن فرعون – لجهله – يظن أن من مات فات . ولا يعتقد أنهم سيبعثون في اليوم الآخر ،فكان في سؤاله خائباً . وكان جواب موسى عبه السلام شافياً مستفيضاً
4- التفصيل " أهناك فائدة من الحديث إن كان مبهماً ؟ أو ملخصاً لا يفي بالغرض ؟ إن السائل سيحتاج مرة أخرى إلى إجابة وإجابة حتى يصل إلى الجواب المريح ... وهذا ما كان من جواب موسى عليه السلام حين سأله فرعون عن القرون الأولى :
- فقد بيّن أن ما مضى هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى " علمها عند ربي " وهل يضيع على الله تعالى شيء مهما صغر ؟ إنه " في كتاب " فالأمور تختلط على الإنسان الضعيف ، أما الله تعالى فهو الكامل كمالاً مطلقاً " لا يضل ربي ولا ينسى " .
ومن علامات عظمة الله تعالى أنه حين خلقنا جعل الأرض صالحة لحياتنا
" الذي جعل لكم الأرض مهدا ...
وسلك لكم فيها سبلاً .....
وأنزل من السماء ماءً ...
فأخرجنا به ازواجاً من نبات شتى ... "
ما الفائدة من هذا كله ؟ تيسير الحياة للناس ولحيواناتهم ..أرض منبسطة...وماء... وزروع ...
" كلوا وارعوا أنعامكم ... " فمن أعمل فكره وفتح قلبه عرف أن هذا الترتيب والنظام الكوني لم يكن عبثاً .. ولن يكون ... فمن الأرض خلقنا وإليها نعود وقد عاد فيها أسلافنا .. ثم يشاء الله سبحانه أن يخرجنا منها تارة أخرى للحساب والعقاب أو الثواب .
" إن في ذلك لآيات لأولي النهى ...
منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ....
ومنها نخرجكم تارة اخرى .... " .
تأملات تربوية في سورة طه (3)
د. عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
1- التوبيخ والتقريع : هو التعنيف أيضاً ، وهو التعيير مع التهديد . وهذا الأسلوب دواء لمن أخطأ فاصر على الخطأ . يستوي فيه من أخطأ وهو يعرف أنه يخطئ وأصر على خطئه ، ومن أصر على فعلته وهو يظن الصواب فيما يفعل . وإن كان الأول أشد زلة . .... فالتوبيخ والتقريع نتيجة لتكرار الخطأ دون الرغبة في تركه إلى الصحيح من القول والفعل .
وقد يكون هذا الأسلوب :
أ - للمصرين على موقفهم فكرة وعملاً ، وأنت تعلم أنهم لا يرعوون ، لإقامة الحجة عليهم ، كي لا يتنصلوا فيما بعد من مواقفهم هذه .
ب - لتتخذ العقوبة المناسبة في حقهم معتمداً على القاعدة التي تقول : ( قد أعذر من أنذر ) ، فيكون موقفهم في تذرعهم ضعيفاً .
ج- لتنبه الآخرين ان لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الأخطاء والتصرفات الذميمة .
وموسى عليه السلام حذرهم من الافتراء الذي يجر عليهم العذاب " ويلكم لا تفتروا على الله كذباً ، فيسحتكم بعذاب " فمصير الافتراء الخيبة والخسران " وقد خاب من افترى " ونحن نرى أن هذا يصب في خانة التهديد والوعيد بشكل واضح . ونجد التوبيخ العنيف من موسى لهارون وهو في سورة غضبه قبل أن يعرف الحقيقة فيعود ليستغفر لنفسه ولأخيه " ... ياهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاّ تتبعنِ ؟ أفعصيت أمري ؟ " قاله وهو آخذ بلحيته وبرأسه يعنفه .(/5)
ولعل من التهديد الشديد اللهجة قوله تعالى لمن يُعرض عن القرآن ويتناساه " من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً " وليته يحمل وزره فقط ! بل ومن أوزار الذين يضلونهم معهم بغير علم.
2- التحدي والثبات : فالتحدي نوع شديد من المنازعة في أمر يظن كل من الطرفين أنه على صواب أو أنه قادر على المضي فيما أراد . فهذا فرعون وعد السحرة بالخير والقرب إن أثبتوا جدارة في نزالهم السحري ! لموسى .. فحين يرون الحق فيما يدعوهم إليه النبي الكريم ويقرون بألوهية الله وأن موسى على حق يهددهم فرعون " فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم في جذوع النخل ، ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى " تحداهم أن يصبروا على عذابه إياهم ، فقابلوه بالثبات والاستعلاء على حطام الدنيا وآثروا رضاء الله على رضاه " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض " فرضا الله باق وأما فرعو ن ورضاه فزائلان . " إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا " . إن الإيمان حين يمس شغاف القلوب ويملأ حنايا الأفئدة يستعلي على الدنايا ويتشوف للباقي الخالد .
3- التريث : قديماً قالوا ) العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن ) . وما دام قوم موسى حديثي الإيمان فما ينبغي تركهم يتلاعب بهم الشيطان ويتقاذفهم . فحين اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله تعالى تركهم مع أخيه هرون وتعجل يوماً قبلهم للقاء الله تعالى فارتد كثير منهم بفعلة " السامري " . فعاتبه ربه " وما أعجلك عن قومك يا موسى " كان موسى يظن فيهم الخير ، وهاهم يتبعونه " هم أولاء على أثري " وكان استعجاله إلى جبل الطور مدعاة للشيطان أن ينفرد بهم ويغويهم .... ولم يكن هرون من أولي العزم ، فلم يستطع الوقوف أمام عنادهم وارتدادهم حين أصروا " لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " . فلا بد من متابعة الأتباع وخاصة الجدد منهم ومراقبتهم ، لتثبت فيهم الدعوة الجديدة، وإلا ضاعوا وذهبت الجهود سدى . وهذا ما رأيته بوضوح في الدعوة الأفقية التي تهتم بالكمية دون الكيفية . فيدخل الناس الدعوة ومعهم بعض معتقداتهم السابقة فيحدث الاختلاط في العقيدة والشوائب في التصرفات غير الواعية فيكون هؤلاء عبئاً ثقيلاً على الدعوة لا يقل سوءاً عن أعدائها .
4- الفتنة و الاختبار : هذا الأسلوب يبين قدرة الإنسان على :
أ – الصبر على الشدائد ، والقدرة على تحملها .
ب – فهمِ الدعوة والثبات على المبدأ .
ج – تمحيص أبناء الدعوة وبلورة موقفهم
د – ومن ثم التألق في الدعوة ورفع في الدرجات ، أو سقوط في الهمة وفشل في المهمة
وهنا نذكر النجاح في تصرف السحرة المؤمنين ، والسقوط في من تبع السامري وارتد على عقبه .
أما السحرة الذين عرفوا الحقيقة فالتزموها فإنهم قالوا لفرعون الذي هددهم بالقتل والصلب " فاقض ما أنت قاض ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ... إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر " ثم نطقوا الجوهرة الحقيقية التي انغرست في جذور قلوبهم وصدورهم فاعتنقوها " والله خير وأبقى " . وسنقف على سبب هذا الموقف الرائع منهم في التأمل السادس لنرى الفهم العجيب للحياة الحقيقية .
وأما قوم موسى فقد سقطوا في الامتحان سريعاً حين انفرد بهم السامري وشيطانه فظنوا العجل ربهم وافتروا على موسى فزعموا أنه ذهب يبحث عن ربه وهو هنا بينهم يعبدونه " فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي " . وما كانت هذه الفتنة إلا لبيان ضعف إيمانهم الهش الذي لم يتعدّ اللسان فكان إضلال السامري لهم سريعاً " فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " . فقد كان العجل يخور ولا يتكلم وحاشا أن يكون الإله هكذا ، ثم هو لا يتحرك ولا يملك لمن يعبده ضرا ولا نفعاً . فكيف يكون إلها ؟! .
5- المحاكمة العقلية : يدعونا القرآن دائماً إلى التفكير وإعمال الذهن للوصول إلى الحقيقة . والآيات في هذا الصدد كثيرة ... إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.. لأولي الألباب ... لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... لقوم يذّكرون ... لأولي الأبصار .. فهذا موسى عليه السلام ينكر عليهم سرعة وقوعهم في الضلال ولم يتركهم إلا يوماً واحداً "
ألم يعدكم ربكم وعداً حسنا ؟
أفطال عليكم العهد؟ ( هل غبت عنكم كثيراً فشككتم )
أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي؟!"
ويظهر القرآن التعجب من عدم تفكيرهم السليم وسقوطهم في عبادة ما صنعوه بأيديهم ...
" أفلا يرون ألآّ يرجع إليهم قولاً ،
ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ؟! " .
" إنما إلهكم الله الذي لا إله إلاّ هو ،
وسع كل شيء علماً . " .
ولو فكروا قليلاً في ماهية هذا الإله ما عبدوه فهو اصم أبكم ضعيف الحيلة لا يتحرك .(/6)
6- الموازنة : نحن – معاشر البشر – إذا خيرنا بين أمرين في الدنيا كلاهما جيد نقف متأملين نفاضل بينهما ، ونسأل أنفسنا وغيرنا أيهما أفضل ونكثر الاستشارة لنصل إلى الجواب الأمثل فنطلبه . أفليس ذلك أحرى في التفاضل بين الدنيا الفانية والآخرة الباقية ؟ ... مهما كانت الدنيا رغيدة والإنسان على كفر وضلال فالنهاية الخلود في نار جهنم أبد الآبدين .. ومهما عانى المؤمن من ضنك في الدنيا فجنةالآخرة خالدة ونعيمها لا ينفد .. ومهما طالت الحياة فهي إلى اللا نهاية صفر لا قيمة له . .. وتعال معي إلى هذه الموازنة ، وسمّها إن شئت " المقارنة " .
" أنه من يأتّ ربه مجرماً فإن له جهنم ، لا يموت فيها ولا يحيى
ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا
جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها .
وذلك جزاء من تزكّى " . فأي دار يختار اللبيب العاقل ؟ .
وانظر معي كذلك إلى هذه المقارنة بين الغضب والغفران :
" ولا تطغوا فيه ، فيحل عليكم غضبي
ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى .
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " . فايهما يختار
الذكي الأريب؟.
7- تهويل الموقف : ليس في عذاب الآخرة خروج عن الحقيقة إنما هو عذاب شديد أليم نسأل الله تعالى أن يرفعه عنا وأن يجيرنا منه ... والتهويل يزرع الخوف في فؤاد من يعي ويعقل ، فيجتهد ألا يقع في المحظور . وهو أسلوب تربوي فائدته أوقع في النفس من البشرى ... فالبشرى تؤثر تأثيراً عجيباً فقط في نفس من يحمل نفساً شفافة ولا يكاد يظهر فيمن لا يرعوي ... فالقلب القاسي الذي لا يردعه سوى الأخذ بالقوة .. وهنا جاءت فائدة التهويل . " يوم يُنفخ في الصور ... ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً ...
يتخافتون بينهم : إن لبثتم إلا عشراً .....
نحن أعلم بما يقولون . إذ يقول أمثلهم طريقة : إن لبثتم إلا يوماً "
أليس مخيفاً أن يشتدّ العذاب ، ويطول بالكفار حتى إذا سئلوا عن المدة التي لبثوها في الدنيا ضيّعوا فقال أكثرهم – لبعد عهدهم عن الدنيا ولسوء ما يلقون في الآخرة من العذاب – ما عشنا في الدنيا سوى يوم واحد ؟! نعوذ بالله من هذا المصير المرعب .
8- السؤال : ذكر في القرآن الكريم كلمة " يسالونك " أكثر من أربع عشرة مرة منها على سبيل المثال : " يسألونك عن الأنفال .... يسألونك عن المحيض .. ويسألونك عن الجبال .....يسألونك ماذا ينفقون .." فماذا نفهم من هذا السؤال ومن جوابه " قل .." ؟
أ - جاء السؤال بصيغة الجمع يسألونك ... فالمجتمع المسلم ينبغي أن يكثر فيه العلماء والمتعلمون وإلا كان مجتمعا جاهلا .
ب - وجاء بصيغة المضارع للدلالة عل استمرارية السؤال ، فالمسلم متعطش للمعرفة يرغب دائما فيها .
ج - وكاف المخاطب إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو العالم الذي يستقي الجميع منه دينهم .. وهذا تنبيه إلى وجوب سؤال العالم الذي ينصح ويدل على الخير ويشير إلى الصواب . أما الجاهل فيضل ويُضل .
د - يجب تحديد السؤال ليجيب عنه العالم لا عن غيره .. عن الأنفال .. عن المحيض .. عن الجبال .. وهكذا
ه - والكلمة " قل " دليل على وجوب إجابة السائل ، فمن كتم علماً لجمه الله بلجام من نار .
و - الإجابة بشكل واضح لا لبس فيه ولا اختصار يريح السائل فيفهم . ومن ثم لا يحتاج أن يسأل مرة أخرى .. ومثال ذلك ما نحن فيه في هذه السورة :
" ويسألونك عن الجبال : فقل : ينسفها ربي نسفاً
فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً . "
ثم تسهب في الجواب الذي يلازم نسف الجبال في اليوم الآخر
" يومئذ يتبعون الداعي ، لا عوج له
وخشعت الأصوات فلا تسمع إلا همساً ..... " والجواب مستفيض استغرق الآيات 106 -114 وهذا ما نجده في ما ذكرنا من مجيء الفعل " يسألونك " إلا في علم الساعة " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " فلا تجد كلمة قل . لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم وقت حدوثها ، فلا ينبغي التقوّل على الله تعالى . أو يأمر الله تعالى نبيه أن يقول " علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " .
تأملات تربوية في سورة طه
(4)
د. عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
وأول ما نتحدث عنه من تأملات في الحلقة الرابعة والأخيرة من سورة طه
1- التصوير : وقد يتساءل القارئ : ما علاقة التصوير في التربية ؟ فأقول :
هو من الأساليب الراقية في التربية . فالإنسان روح وفكر وقلب ... وهو كذلك عين وسمع ولمس وشم ... فهو معنوي ومادي بآن واحد . فإذا عجز أحياناً عن الوصول إلى الفكرة ذهناً وصل إليها مادةً وحسّاً ... والمهم أن يصل إلى المعلومة ، وتتركز في ذهنه ، ويتفاعل معها .
وهذا الأسلوب الرفيع يتخذه الأدباء للسموّ ببيانهم ، ويحتاج إليه العاميّ البسيط كما يحتاج إليه المثقف العالم لأغراض عدّة . منها :
- توضيح الفكرة واستجلاء المعنى ، والتأكيد عليه .(/7)
- التأثير في النفس ... يقول الجرجاني رحمه الله .... فإن كان – المعنى – مدحاً – كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهزّ للعطف – سروراً وزهواً- وأسرع للإلف ، وأجلب للفرح ، وأغلب على الممتدَح ، وأسْيَرَ على الألسن وأذْكَرَ ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدرَ .
- وإن كان حِجاجاً كان برهانه أنْوَر، وسلطانه أقهرَ ، وبيانُه أبْهر.
- وإن كان افتخاراً كان شأوُه - أمدُه - أبْعَد ، وشرفُه أجدَّ ، ولسانه ألَدَّ – أشدّ - .
- وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب ، ، وللقلوب أخْلب ، وللسخائم أسَلّ- والسخيمة ( الغل والضغينة . وسلَّ السخيمة انتزعها وأخرجها )، ولغَرب الغضب أفلّ . ( العضب حدّ السيف . وفلّهُ: ثلمه ).
- وإن كان واعظاً كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكْر ، وأبلغَ في التنبيه والزجر ....
وقد أطلت عن الوصف للتصوير كي لا أعود إليه مرة أخرى حين أعرّفه . بل أحيل إليه .
وانظر معي إلى التصوير المخيف في تدمير الجبال يوم القيامة وتسويتها بالأرض كأنها لم تكن ، وهي الممتدة جذورها في الأرض ، الآخذة سموّاً في السماء : " ويسألونك عن الجبال : فقل : ينسفها ربي نسفاً ، فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً " فلم يعد هناك علوّ ولا سفول ، فهي مستوية كمياه البحر في اليوم الساكن الرياح ، وكالمرمر المصقول ... ثم انظر معي إلى خروج الناس من الأرض يوم البعث ، يتبعون الصوت الصادر عن بوق النشور مسرعين إلى مصدر النداء دون جلبة ولا صوت سوى الهمس " يومئذ يتبعون الداعيَ لا عِوَج له ، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً " وتأمل الوجوم وخضوع الناس الذليل التام لعظمة الله تعالى " وعنت الوجوه للحي القيوم " ... وتصور الظالم يحمل ما اقترفته يداه كما يحمل العتال الحمل الثقيل " وقد خاب من حمل ظلماً " . ولعل الصورة الممتدة تتجلى في اجتماع الناس على صعيد واحد.... وتأمل الحوار الذي جرى بين موسى عليه السلام والسحَرَة وتصور إلقائهم حبالهم وعصيهم وسحرهم الناس ثم إلقاء موسى عصاه لتبطل هذا السحر العظيم ، وانقلاب السحرة إلى الإيمان بالله تعالى وغيظ فرعون وتهديده إياهم بالصلب وتقطيع الأيدي والارجل ، واستعلائهم على الدنيا حين عرفوا الحق وآمنوا به ... كانت الصورة متحركة فرأينا ما فعله السحرة ثم ما فعله موسى ، ورأينا السحر الكبير يتحول فجأة هباء منثوراُ ، وسمعنا الحوار بين السحرة وفرعون ، ثم بينهم وبين موسى ، وسمعنا التهديد والوعيد من فرعون بالبطش والتنكيل ، وإصرارهم على الإيمان بعد أن ذاقوه ودخل أفئدتهم ولامس شغاف قلوبهم ... إن التصوير حين يمر أمامنا كأنه فيلم سينمائي شاغلاً حواسنا السمعية والبصرية يرسخ الفكرة والمعنى في الأذهان والنفوس فتنطبع في ذاكرتنا فلا ننساهما ... ونجد هذا التصوير البديع من الآية السادسة والخمسين إلى إلى الثالثة والسبعين .. والصور تملأ السورة فتموج فيها الحركة ، وتبعث في القصة الروح والحياة . فتشد انتباه القارئ أو السامع وكأنه يعيش معها واحداً من شخوصها .
2- الوضوح في التعامل : يجلي الفكرة ، ويزيل اللبس ، ويضع النقاط على الحروف . وهذا واضح في السورة الكريمة . من ذلك قول السحرة لموسى عليه السلام " قالوا يا موسى : إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ، قال : بل ألقوا " فكان التنافس أن يبدأ السحرة برضى من موسى .... فقد تركوا له الخيار ، فاختار أن يكونوا هم البادئين ، وكانت خطتهم أن يبهروه بسحرهم فيشلّوه من الخوف ، فيربحوا في الجولة الأولى دون عناء فيستسلم لهم دون مقاومة ولو كان أمر موسى من عمله لنجحوا في خطتهم ، لقد خاف موسى لأنه بشر" فأوجس في نفسه خيفة موسى " .... وكانت خطته التي أمره الله بتنفيذها أن يتركهم يظنون ما يظنون منتشين بما فعلوا ثم يفجأهم بالضربة القاضية فيزلزل أركانهم فيستسلموا ابتداءً ... هكذا كان . والله غالب على أمره فقد طمأنه المولى تعالى حين أوحى إليه " قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى " فماذا حصل؟ " فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى " .
ونجد الوضوح في موقف آخر ،إذ أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون بمهمة محددة " اذهبا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى " " فقولا : إنا رسولا ربك أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم .... إنا قد أوحي أن العذاب على من كذب وتولّى " لقد طغى، فوجب تذكيره ليعود إلى الصواب ويسرح اليهود الذين استعبدهم وإلا وقع العذاب عليه .. وليكن التهديد بأسلوب هيّن ليّن ، إن الرفق أدعى إلى الاستجابة . هذا ما طلب إليهم ، وهو أمر واضح لا لبس فيه .
3- التحذير : أسلوب يتبعه المحب لمن يريد تهذيبه ، والمبغض لمن يود تنبيهه ، والمربي لمن يريد تعليمه . ليكون الطرف الثاني على بينة مما قد يكون ، فلا يقع في الخطأ .(/8)
وقد يكون التحذير مبطّناً بالنصيحة. فالخاسر من يلقى ربه آثماً فيكون خالداً في النار " إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا " وكذلك في قوله سبحانه محذراً من الإعراض عن القرآن تلاوة وفهماً وتطبيقاً " وقد آتيناك من لدنّا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً " . أما الإعراض عن ذكر الله في الدنيا فله عقوبتان : الأولى دنيوية " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً " والثانية أخروية " ونحشره يوم القيامة أعمى " .
وقد يكون التحذير من العدو الأول للإنسان : الشيطان وأحابيله .. فقد أعلن هذا المخلوق عداوته لآدم وذريته :" فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " وذلك حين رأى نفسه أعلى مرتبة من آدم وذريته ، فكيف يسجد له ؟ " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى " فكان التحذير منه فضلاً من الله تعالى علينا وتنبيهاً " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك ، فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " ولكن لأمر أراده الله تعالى سقط آدم عليه السلام في شرك إبليس فغوى ، وأنزله الله إلى الأرض بعد أن تاب عليه ليختبره وذريته وليكون الامتحان .. ففيه يُكرم المرء أو يُهان .
4- الأمر والنهي : فالأمر بالشيء : تكليف به وحث عليه ، وهو الأصل ،لأن فيه دفعاً إلى العمل . ولا حياة بلا عمل ينشئ سعادة للإنسان ... والنهي عنه : منعه وتحريمه ، لأنه ينقي الحياة من الشوائب التي تعترض سبيل الإنسان وتنغص عليه . والحياة تجري بين الأمر المباح والنهي الممنوع . فمن أمثلتهما في هذه السورة :" ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيُه ، وقل ربِّ زدني علماً " ومن الأمر كذلك " فاصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ... ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى " ومن النهي :" قال لا تخافا ، إنني معكما أسمع وأرى " وقوله سبحانه " فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها " .
5- الحوار : مر معنا في مقالة سابقة أن الحوار يثري المخاطب سامعاً وقارئاً ، ببراهينه وأدلته وطريقته ، ويثبت الفكرة بإشغال أكثر من حاسة . وفي هذه السورة الكريمة نجد أطرافاً عدة من المتحاورين ..
ففي أول السورة حوار بين الله تعالى وموسى عليه السلام إلى الآية الثالثة والأربعين ....... ونجد حواراً آخر عند جبل الطور ...
ثم هناك حوار قصير بينه تعالى وبين نبييه الكريمين موسى وهارون إذ أمرهما أن يذهبا إلى فرعون .
ثم حوار بين موسى وفرعون من الآية 49 إلى الآية 59
ثم حوار بين موسى والسّحّرة من الآية 61 إلى الآية 65
ثم حوار بين السحرة المؤمنين وفرعون من الآية 71 إلى الآية 76 على أرجح الأقوال .
وحوار قصير بين هارون وقومه .
ثم حوار بين موسى وهارون حين رجع إلى قومه بعد ما أضلهم السامري .
ثم حوار بين موسى والسامريّ .
ثم جمل قصيرة فيها حوار بين الله تعالى وآدم .. ثم وسوسة الشيطان لآدم .................... وأخيراً الحوار بين الله تعال والذي صار أعمى في الآخرة لعمايته عن الحق في الدنيا .......... وهكذا يثري الحوار الموضوع بالصوت والصورة ولا سيما حين تدخل " إذ " على الحوار فتنقلنا إلى مكانه وزمانه
" إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا ........
إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ...
إذ تمشي أختك فتقول ...
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا للآدم ....... " .
6- العرض المنطقي : لا يترك الله تعالى للكافرين حجة يوم القيامة يحاجونه بها. فأرسل لهم في الدنيا رسولاً كريماً يذكرهم بالله تعالى ويدلهم عليه ويعرفهم به ، فلا يبقى لهم ما يتعللون به إذا سألهم يوم القيامة ... " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا : ربنا لولا أرسلت رسولاً إلينا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ؟ " ولأنه سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً جلّى الأمور، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين . بل إنه سبحانه يرد ابتداء على من طلب من أهل مكة المعجزات من النبي عليه الصلاة والسلام : حيث سبقتهم الأمم فطلبت المعجزات من أنبيائهم فكانت الناقة والعصا وإبراء المرضى وإحياء الموتى فما زادهم إلا ضلالاً وكفراً ... ولئن اقترح هؤلاء الدليل على نبوته فقد جاءت الكتب السابقة مبشرة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام بصفاته واضحة : " وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ؟ او لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى "
ثم انظر إلى الجواب المنطقي لسؤال الكافر الذي كان في الدنيا مبصراً ، وحشر يوم القيامة أعمى " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ؟ قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ، وكذلك اليوم تنسى " .
7- التقعيد : كل بناء له أساس يقوم عليه ، وقاعدة يرتكز عليها . ولن تجد بناء متيناً إذا لم يقم على أسس صلبة وقاعد ثابتة . وأولى القواعد المتينة وحدانية الله تعالى
" قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد " .(/9)
ومن هذه القواعد الرئيسة في هذه السورة أن الرزق من عند الله تعالى " لا نسألك رزقاً ،
نحن نرزقك " والقاعدة الثانية : أن الغلبة لمن اتقى :" والعاقبة للتقوى " والقاعدة الثالثة " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " . والقاعدة الرابعة " ولولا كلمة سبقت من ربك " وهذه الكلمة التي سبقت " أن الساعة آتية لا ريب فيها " وإلا حل العذاب على الكافرين بمجرد كفرهم . ونظرة متأنية في هذه السورة ترينا كثيراً من القواعد الثابتة في الحياة والكون أدعها للقارئ الكريم .
8- البداية والنهاية الموفقتان : براعة الاستهلال تستقطب المخاطب سامعاً وقارئاً .. وهذا ما نراه واضحاً في أول السورة " طه .. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ..." فـ " طه " كما قدّمنا أ- تحبّبٌ للرسول الكريم ومدحٌ له وتعظيم لشأنه ثم نجد
ب-أن القرآن تنزيل من الله تعالى ذي الصفات المجيدة . مما يجذب المخاطب إلى قراءة السورة بشغف وحب واطمئنان .
ونجد النهاية تقسم الناس إلى قسمين .. مؤمن وكافر .. وكل منهما يتربص بالنهاية وينظر إليها ..فمن الفائز ياترى؟ أهم المؤمنون الأتقياء أم هم الكافرون الأشقياء ؟ ومن على الصراط المستقيم ؟ .. أهم الذين رضي الله تعالى عنهم ؟ أم من غضب عليهم ؟! ... إن عداً لناظره قريب ." قل كل متربص فتربصوا ، فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ".(/10)
تأملات تربوية في قصة أهل الكهف
د. عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
المتأمل في سَوْق القصة يجدها جواباً لما ذُكر في افتتاحية السورة ودليلاً على صحته وإمكانِ حدوثه . ففي المقدمة أولاً: تنبيه إلى العقاب الشديد للكافرين " لينذر بأساً شديداً من لدنه " وفيها ثانياً : مدح وبشرى لمن آمن وعمل صالحاً " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً " . وفيها ثالثاً :أن الحياة دار ابتلاء :" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً " وفيها رابعاً: أنه سبحانه يعيد الأرض كما كانت لا نبات فيها ولا عمارة :" وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزاً " . وجاءت القصة تحمل في حناياها آداباً تربوية رائعة نجملها فيما يلي :
1- ليس في قصة أصحاب الكهف عجب ، فقدرة الله تعالى لا حدود لها ، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس . ولئن عجب الكفار من بعثهم بعد الموت إن الأنبياء وأولي البصائر يدركون قدرة الله عز وجل ، فيزيدهم ذلك إيماناً " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ؟ "
2- اللجوء إلى الله تعالى سمة المؤمن ، فهوسبحانه عونه ونصيره " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً " فلما لجؤوا إليه داعين ، وأسلموا قيادهم له سبحانه واعتمدوا عليه آواهم الله وحفظهم إذ دلهم على الكهف ، وأغدق عليهم مما طلبوا من الرحمة والهدى والرشاد " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً " ولا حظ معي التوافق بين الإيواء إلى الله سبحانه ونشر الرحمة . وهكذا العلاقة بين العبد وربه . ومن لجأ إلى ربه واعتمد عليه ثبته الله وأيده " وربطنا على قلوبهم " .
3- القصة في القرآن حق لا مراء فيه " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقد ادعى طه حسين أن قصة إبراهيم وغيرها في القرآن ليست على سبيل الحقيقة إنما على سبيل العبرة والعظة فقط . وهو بذلك ينفي حقائق التنزيل " نحن نقص عليك أحسن القصص " وأحسن القصص ما كان حقيقة . وعلى هذا نفهم قوله تعالى " إن هذا لهو القصص الحق " فما ورد في القرآن الكريم حق لا مراء فيه .
4- للشباب الدور الكبير في نشر الدعوة والذود عنها . فإيمان الشباب اندفاعي قوي " إنهم فتية آمنوا بربهم ، وزدناهم هدى " ويصدعون بالحق " إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض " ويعلنون دعوة التوحيد بثبات " لن ندعو من دونه إلهاً " من أشرك فقد تطاول على الحق وابتعد عنه " لقد قلنا إذاً شططاً " . وهنا نلحظ في كلمة الشطط التشنيع على المتطاولين الذين يغيرون الحقائق وينشرون الباطل .
5- لا بد لكل فكرة أو مبدأ من دليل أو برهان وإلا سقط في أول لقاء " لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن " وإذا لم يكن هناك حجة قوية أو دليل ساطع فهو ضعيف ، ولن تقنع أحداً بفكرتك إن لم تؤيدها بالنور الساطع الذي يكشف الغشاوة عن العيون وينير سبيل الحق . أما فرض الفكرة بالقوة والإرهاب المادي فدليل على الإفلاس وضحالة ما تدعو إليه وُيعَدّ افتئاتاً عل الحق وظلماً له " فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً " فالميل عن الحق افتراء على الله وتضليل للناس .
6- يعلمنا الله تعالى بقوله :" فأووا إلى الكهف " اعتزال الناس في الفتن ، وقد يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " ... ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مجيء المسيخ الدجال ، أو عندما تشتد الفتن وتطغى . وقد جاء في الخبر :" إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانك وكُفَّ لسانك " ولم يخص موضعاً . . ومن هذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر حين سأله : ما النجاة يا رسول الله ؟ " يا عقبة أمسك عليك لسانك ، ولْيسعْك بيتُك ، وابك على خطيئتك "
وقد جعلت طائفة العلماء العزلةَ اعتزالَ الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهر الناس . قال ابن المبارك رحمه الله في تفسير العزلة : أنْ تكون مع القوم ، فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام – من مراسيل الحسن- " نعْمَ صوامع المؤمنين بيوتهم " اي وهم في مجتمعهم يدعونهم ويتعرضون إليهم بالنصح والموعظة ، فإن اشتدوا عليهم أوَوْا إلى بيوتهم ، ثم عاودوا الكرّة . ويؤكد هذه الفكرة قول النبي صلى الله عليه وسلم :" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم .(/1)
7- لا بد من الجهر بالدعوة بين الناس لتصل إليهم ، وتكون حجة عليهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الواضحة البيّنة ، ولنا بهؤلاء الفتية الأطهار القدوة الحسنة ، فحين سألوا الله القوة أمدّهم بها " وربطنا على قلوبهم " فثبتهم على الحق فقاموا يدعون إليه سبحانه فأعلنوا عقيدة التوحيد خالصة دون لبس ولا خوف " .. إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعوَ من دونه إلهاً .. " . فكانوا قدوة للدعاة يأتسونهم .. قالوها ،فخلّدهم الله في كتابه الكريم إلى يوم القيامة .
8- كما أن مقامهم في الكهف أكثر من ثلاثة قرون ، تميل الشمس عنهم حين طلوعها – ولاحِظْ كلمة تزاور الدالة على قدرة الله في حركة مخلوقاته – وانظر كلمة تقرضهم عند غروبها فلا تصيبهم البتة في حركتها بزوغاً وغروباً وقد قيل : تقرضهم : تنثر عليهم شعاعاً خفيفاً لإصلاح أجسادهم ، وهم في فجوة من الكهف لا يتأذون بقرّ ولا حرّ عيونهم مفتحة ، " و تحسبهم أيقاظاً وهم رقود " يحركهم الله تعالى كي لا تأكل الأرض أجسادهم " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " يحرسهم كلبهم في مدخل الباب ماداً قائمتيه كأنه حي متوثب " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ... تصوير بديع لهم في رقدتهم الطويلة هذه التي تدل توهم من يراهم أنهم أحياء .. مع إدخال الهيبة في قلوب من اطلع عليهم – إن اطلع – أن يتجاوزهم مبتعداً عنهم . مقامهم هذا دليل على قدرة الله تعالى في إماتتهم وحفظهم من التلف ، وإخافة من ينظر إليهم ، ثم على بعثهم .. فسبحان الله مالك الملك ، المتصرف في مخلوقاته كما يشاء .
9- الحذر في كل حالات الحياة – حلوها ومرها ، أمنها وخوفها – مطلوب ، فالتخفي والكتمان والتلميح من أنواع الحذر . فماذا فعل الفتيان حين أحياهم الله تعالى ؟ شعروا بالجوع .. فقد استيقظوا بعد ساعات طويلة استغرقت يوماً أو بعض يوم – كما ظنوا – والطعام والشراب وسيلة الحياة . والعدو الذي هربوا منه يطلبهم ويرسل العيون والجند بحثاً عنهم . فينبغي الحذر في التحرك . ماذا يفعلون ؟
- أرسلوا واحداً فقط يشتري لهم طعاماً فالواحد أقدر على التخفي ولا ينتبه له
أحد . وهروبه أسهل إذا شعرت به عيون العدو وإذا وقع في أيدي الظلمة
فهو فدائي واحد ، ولن تسقط المجموعة كلها .
- وأمروه باللطف في الشراء واللين في الطلب ، وليتكلم المختصر المفيد.
- وليكن تصرفه حكيماً وحركاته بعيدة عن الريبة لكي لا ينطبق عليه المثل القائل " كاد المريب أن يقول خذوني " .
- وليختر أطيب الطعام وأزكاه ، فالطعام الطيب الحلال أنفع للجسم ، وأرفع للروح.
صحيح أن الحذر لا ينجي من القدر لكن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب ، ويعد للأمر عدته كي لا يُؤْخذ على غرة ، فالعدو الذي لا يخاف الله تعالى لا يرحم " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أويعيدوكم في ملتهم " ألم يعلن كبير المجرمين فرعون رغبته في قتل النبي موسى عليه السلام ؟" ذروني أقتلْ موسى .. " مدعياً أنه بذلك يقضي على الفتنة ويحفظ الناس من الفساد؟! " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد "؟َ ! . وقد دمغهم الله تعالى بالعدوان وكره المؤمنين ونقض العهود " لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون " وإذا قتل المسلم في سبيل الله فقد نال الشهادة ، أما إذا كان إيمانه ضعيفاً فلم يحتمل العذاب وكفر بدينه لينجو منه فقد خاب وخسر ".. أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذاً أبداً " .
10- لا ينبغي أن نمر على قصص القرآن مروراً سريعاً إنما يجب التفكر والتدبّر للعظة والعبرة واستخلاص الدروس، فتكون نبراساً نسير على هديه ونستضيء بنوره ، وإلاّ كنا كمثل الحمار يحمل أسفاراً . قال المفسرون : إن الملك الذي هرب الفتيان من ظلمه وبطشه مات ، ومات الكفر معه . وانتشر الإسلام في البلاد ، واختلف المؤمنون في طريقة البعث والنشور . فمن قائل تحشر الأرواح فقط ، ومن قائل يحشر الناس بأرواحهم وأجسادهم . فكان عثورهم على الفتية دليلاً على حشر الناس بأجسادهم وأرواحهم كما كانوا في الدنيا ، فالله قادر على كل شيء . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى كان بعث هؤلاء الفتية دليلاً باهراً على أن يوم القيامة حقيقة لا شك فيها " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها " .
11- المراء في أمر لا فائدة فيه لا حاجة إليه . وقتك أيها المسلم ثمين ، وحديثك موزون ، ولن يزيدك علماُ وفهماً أن تخوض فيما لاطائل له ، .. فماذا يزيدك لو عرفت عدد الفتية ؟ أو أسماءهم ، أو أعمارهم ؟ أو أعمالهم؟ .. الفائدة المرجوة تجدها في أفعالهم وثباتهم على المبدأ وفرارهم بدينهم يحافظون عليه . وحذرهم في تصرفاتهم ، وأخوّتهم في الله تعالى ...(/2)
12- أمر أخير ينبغي الوقوف عنده ، هو تعليق الأمر بمشيئة الله " ولا تقولن لشيء : إني فاعل ذلك غدأ إلا أن يشاء الله " فقد عاتب الله تعالى نبيه الكريم على قوله للكفار حين سألوه عن الفتية والروح وذي القرنين : غداًأخبركم بجواب أسئلتكم . ولم يستثنِ في ذلك ، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليه ، وأرجف الكفار به . فنزلت عليه هذه السورة مفرِّجة ، وأمر في هذه الآية أن لا يقول في أمر من الأمور : إني أفعل غداً كذا وكذا إلا أن يعلق الأمر بمشيئة الله تعالى(/3)
تأملات تربوية في قصة ذي القرنين
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
1- السؤال أسلوب تربوي فصلت فيه الحديث في تأملاتي ذات الرقم ثلاثة ( 3 ) في سورة طه . وأضيف هنا ما يناسب الموقف ، فأقول :
قد يكون السؤال للتحدي .. " ويسألونك عن ذي القرنين " و التحدي نفسه أيضاً أسلوب تربوي يدل على صدق الدعوة والداعي ، فاليهود طلبوا من المشركين في مكة قبل الهجرة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ثلاثة ... عن أهل الكهف ، وعن الروح .. وعن ذي القرنين .. ولا يعرف جواب هذه الأسئلة سوى الأنبياء . وقد قبل القرآن التحدي فأنزل الله تعالى فيه خبر ذي القرنين فقال مخاطباً النبي الكريم : " قل : سأتلو عليكم منه ذكراً ... " .
وقد يكون السؤال لمجرد المعرفة فعلى الداعية قبل دخول غمار الدعوة أن يلم قدر المستطاع بدعوته والأساليب المقنعة التي تجتذب المدعوين .
2- التعظيم أسلوب يضفي هالة على الرموز الرائعة التي لها دور متميز في الدعوة إلى الله ، ويشجع المدعوين أن يتأسَّوْا بهم ويسيروا على هداهم . ولا ننسَ أنه ينبغي أن يكونوا أهلاً لهذا التشريف ، فلن ينال أحد في الإسلام إلا ما يستحق .... وقد تنبه الرسول الكريم إلى هذا الأسلوب فأسبغ على الصحابي الجليل عبد الله بن أبي قحافة رضي الله عنه لقب الصديق فعرف به ، وعلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقب الفاروق ، وعرف علي بفتى الإسلام وعثمان بذي النورين وخالد بسيف الله المسلول ، وهكذا ... والقرآن الكريم لم يعرفنا اسم ذي القرنين إنما اكتفى بلقب ذي القرنين كما أننا لا نعرف عن أحد الأنبياء الكرام سوى أنه ذو الكفل . ووصف النبي الكريم " يونس بن متّى " بذي النون لأن الحوت ابتلعه ، فأراه الله تعالى عجائب قدرته في البحر – أحد مخلوقاته – وأعاده إلى قومه يدعوهم إلى الله سبحانه . أما لماذا لقّب ذا القرنين فقد تضاربت الأقوال فيه ، فمن قائل : إنه حكم الأرض غرباً وشرقاً ، ومن قائل : إنه حكم مئتي سنة أو عاش قرنين من الزمان ، ومن قائل : إن ملكه كان قوياً يرمز إليه قرنا الثور . ولن نهتم بمعنى الاسم قدر اهتمامنا بصاحبه . فالجوهرَ نريد لا العرضَ .
3- قوله تعالى " قل : سأتلو عليكم منه ذكراً ، إنا مكنا له في الأرض ، وآتيناه من كل شيء سبباً
فأتبع سبباً " فيه فوائد تربوية عديدة ، منها :
أ- قبول التحدي : فمن كان على حق ، وكان على ثغرة يدعو إلى الإسلام وينافح عنه لا يسعه غير ذلك .
ب- العلم بالشيء قبل الدعوة إليه : وكلمة " سأتلو.. " دليل على المعرفة بالأمر والعلم به . والتلاوة أثبت في الإجابة من غيرها ، فهي القراءة.. ، والقراءة من شيء من ذاكرتك تحفظه عن ظهر غيب ، أو تقرؤه في كتاب أقوى حجة وأسطع دليلاً . كماكلمة " ذكراً " تعني القرآن لقوله تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك " .
ت- وقوله تعالى " سأتلو عليكم " بدل لكم دليل التمكن والاستعلاء . والمؤمن هكذا دائماً .
ث- وقوله تعالى " سأتلو عليكم منه ذكراً " هذه البعضية التي دلت عليها منه توضح أن على الإنسان أن يقتصر في حديثه على ما يفي بالغرض . وهذا ما نجده في قوله تعالى " إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ، فأتبع سبباً " .
4- الإيجاز والإطناب : وهذه البلاغة بعينها . فقد جاء الإيجاز في مكانه ، والإطناب في مكانه . فلا داعي لذكر التفاصيل في التمكين لأنه يكون في كثرة العدد والعُدّة ، والمال الوفير والعدل وبذل الجهد ، واستفراغ الهمة والتحضير لكل أمر ... ولم يكن القرآن ليهتم بهذه التفاصيل . ويكفي أن يقول : " ... مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً " ليدل على عظمة أمره ، وسعة الستعداده . وهذا هو الإيجاز الذي رأيناه كذلك في الحديث عن " مطلع الشمس " بعد الإطناب في الحديث عن مغرب الشمس لأن التكرار ممل فيما ليس له لزوم . لكن قبل أن نتحدث عن الإطناب نلقي الضوء على ورود كلمة " سبباً " مرتين في هذه الآية ، وإيحاءات كل منهما :
أما الأولى في الآية الكريمة فالعلم بالشيء والطريق الموصل إليه . وهذا يعني أن الله جل شأنه لم يكلفه بشيء دون أن يعلمه الطريقة التي يسلكها إليه ، بل أمدّه بأسباب النجاح . وعلى الرغم أن ذا القرنين مكن الله تعالى له ، وآتاه الحكمة بدليل " إنا مكنا له " فأنا لست مع الذي يقول :
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... ... فأرسل حكيماً ولا iiتوصِهِ
بل أقول:
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... ... فأرسل حكيماً كذا iiأوصِهِ
لقوله تعالى " فذكّر إن نفعتِ الذكرى " ولقوله تعالى " وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .." فإذا وصى الله تعالى أنبياءه فمَن دونهم أحق أن يوصى .(/1)
وأما الثانية فسلوك هذا الطريق واستعماله . إنّ من عرف الطريق الصحيح سلكه فوصل إلى مبتغاه ، وإلا ضل وتاه . وهل رأيت عاقلاً يعرف السبيل فيحيد عنه إلى غيره ؟!.. وفي كل يوم نقرأ عشرات المرات قوله تعالى : " اهدنا الصراط المستقيم .." لماذا نسأل الله صراطه المستقيم إذا كنا نتنكبه بعد أن نعرفه؟! كما فعلت النصارى فتاهوا . وحادت عنه بنو إسرائيل ، فغضب الله تعالى عليهم ! .
وجاء الإطناب في وصف أهل مغرب الشمس الذين كانوا قسمين حين دعاهم ذو القرنين إلى الإسلام ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر . فأكرم المؤمنين وعنّف الكافرين ، وهددهم بعذاب الآخرة . وجاء كذلك في وصف الضعفاء من أهل السد الذين كان أبناء قبيلتي يأجوج ومأجوج يسلبونهم أموالهم ويقتلون أبناءهم ويسومونهم الخسف كلما جاءوهم . فسألوه أن يبني سدّاً يقيهم أذاهم ويدفع عنهم غائلتهم . .. ولو اختصر القرآن حديثهم ما فهمنا المراد من أخبارهم . فالبلاغة إذاً مراعاة مقتضى الحال.... . الاختصار حين يكون الختصار مفيداً ....والإسهاب حين يكون التفصيل لازماً ... وهذا ما ينبغي للمعلم أن ينتبه إليه .
جزاء من جنس العمل :
قال تعالى : " أما من ظلم فسوف نعذبه
ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً "
" وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى
وسنقول له من أمرنا يسرا "
وقال تعالى " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ،فحبطت
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ، ذلك جزاؤهم جهنم
بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً "
" أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات
الفردوس نُزُلاً ، خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلاً "
" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ،
ولا يشرك بعبادة ربه أحداً . "
6- وجوب المساعدة : لما بلغ ذو القرنين بين السدين وجد قوما اجتمع عليهم الظلم والجهل وهاتان الصفتان إن اجتمعتا في أمة – وهما غالباً ما تجتمعان – أصابتهم نوائب الدهر وعصفت بهم حدَثانه ، فنالهم الذل وطوّح بهم الفساد . .. فلما وصل إليهم الملك الصالح ذو القرنين طلبوا مساعدته ... فولد السد الذي أبعد الله به عنهم ظلم الظالمين وعدوان المتجبرين .
ولم يطلب الملك الصالح مالاً منهم ، ولا أجرة ، وهذا من سمات الحاكم الذي يبذل في سبيل شعبه كل ما يستطيع ، ولا يكلفهم شططاً . بل طلب إليهم أن يعينوه بقوةف فالقضية تهمه أولاً، والحاكم خادم لشعبه ، استرعاه الله إياه ،وجعله أمانة بين يديه ، وعليه أن يؤدي الأمانة .
كان الملك عنواناً للجد والإخلاص ، أعان شعبه على التخلص من المفسدين . وهذا واجب كل مسلم يستطيع أن يقدم النفع لإخوانه . ولم ينسب الفضل لنفسه بل عزاه لله سبحانه " قال : هذا رحمة من ربي " وأكد ذلك حين قال :" ما مكنّي فيه ربي خير " فالله تعالى هو الذي مكنه من فعل ذلك وأعانه عليه .. ثم بين أن الله قادر على أن يسوّيه بالأرض إذا شاء ، وقت يشاء " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقاً " .
باحثة مصرية تكتشف كيف بنى ذو القرنين حاجز يأجوج ومأجوج
المجتمع 13/5/2005 :
توصلت الباحثة المصرية المهندسة ليلى عبدالمنعم عبدالعزيز الخبيرة بإحدى الموسوعات الأمريكية إلى تركيبة جديدة من "الخرسانة المسلحة" تقول عنها إنها استخدمت فيها نفس المواد التي اعتمد عليها ذو القرنين في إقامة الحاجز الذي يفصل بيننا وبين يأجوج ومأجوج ولا يعرف أحد مكانه حتى الآن.
وهذه الخرسانة التي توصلت إليها الباحثة تتكون من أحد منتجات البترول مضافاً إليه الحديد المنصهر مع الإسفلت فتنتج خلطة شديدة التماسك ، لها قدرة على مقاومة الزلازل وعوامل التعرية وغيرها من القوى المؤثرة على المباني مهما بلغت شدتها. وأوضحت أنه لإقامة المباني بهذه الخرسانة المبتكرة فإن الأمر يقتضي الاستعانة بالبوتامين والحديد المنصهر، مشيرة إلى أن المصانع المختصة يمكنها بناء هذه الحوائط ثم نقلها بعد ذلك إلى مكان البناء.
واستلهمت الباحثة دراستها من الآيتين الكريمتين في سورة الكهف اللتين نزلتا في ذي القرنين " آتوني زبر الحديد حتى" إذا ساوى" بين الصدفين قال انفخوا حتى" إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " .
توقفت الباحثة أمام هاتين الآيتين وتدبرت موقف نزولهما جيداً. وبعد عدة تجارب توصلت إلى هذه التركيبة.(/2)
وفيما يتعلق برأي الإسلام في الآيات التي استندت إليها الباحثة يقول المفكر الإسلامي د. زغلول النجار : إن ما توصلت إليه الباحثة هو لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في العلم الذي يتكشف لنا يوماً بعد يوم. وأضاف : إن الباحثة استمدت سر تركيبتها من قصة ذي القرنين الذي ألهمه الله استخدام مادة القطران التي اختلف الفقهاء حول تعريفها، فقال عنها البعض إنها من النحاس المنصهر، بينما عرَّفها البعض الآخر بأنها أحدى مشتقات البترول. وأضاف عليها ذو القرنين قطع الحديد المنصهر لتكوين مادة صلبة يستحيل طرقها ثم بنى فوقها السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج.
وأكد د.النجار أن السد من علامات الساعة وسيظل قائماً حتى قيام الساعة ومكانه مجهول ولن يُعرف حتى يظهر يأجوج ومأجوج، وقيل إنه ببلاد ما وراء البحار أو بلاد التركستان. وتمنى د. النجار أن تستفيد الجهات المعنية من هذه التركيبة الجديدة وتطبقها في عمليات البناء في عصرنا الحالي.
7- أدوات التنبيه : متعددة في هذه القصة كما تتعدد في القرآن الكريم منها :
التكرار : " فأتبع سبباً " مرة واحدة ." ثم أتبع سبباً " مرتين . " حتى إذا بلغ... " ثلاث مرات . " حتى إذا ساوى بين الصدفين .." " حتى إذا جعله ناراً .. " ومهمتها وصل المنقطع وقطع الموصول . وذلك بالانتقال من مشهد إلى مشهد ضمن سياق واحد .
أداة الاستفهام " هل " التي لا تحتاج للجواب " هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً " فقد جاء الجواب بعد ذلك مباشرة " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "
" قل " فهي تقرع الأسماع ، وتنشط الذاكرة
" قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "
" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر ......"
" قل إنما أنا بشر مثلكم ، يوحى إليّ ..... " .(/3)
تأملات تربوية في قصة موسى والرجل الصالح
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية . فهلم إليها من بدايتها :
- " وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً " إن لموسى عليه السلام هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه ..
ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته .
ب- في مكان محدد يلتقيان فيه .
ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .
- وعلى التلميذ أن يسعى إلى العلم لا أن يسعى المعلم إليه فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
- ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه – لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو امضى عمره يبحث عنه " أو امضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! .إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه . ألم يرد في الأثر :" نعم الأمراء على أبواب العلماء ، وبئس العلماء على أبواب الأمراء " ؟ ... وهذا نبي كريم موسى عليه السلام على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وفوق كل ذي علم عليم " .
- مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ، ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " عليه السلام إذ بعثه الله تعالى نبياً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف .
- " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً " وكلمة " مجمع بينهما " حار فيه كثير من المفسرين فمنهم من جعله الأرض الشاسعة بين بحر قزوين وخليج فارس !، ومنهم من قال : إنه بين خليج الإسكندرون وبحر إيجة ! ومنهم من ذكر أنها الأرض بين بحر غزة وخليج العقبة ! وقد ظنوا بكلمة " البحرين " المياه المالحة ، فتاهوا في أقوالهم ... إنه ليس من الممكن أن يلتقي أحد بمن يريد على مساحات ضخمة شاسعة تبلغ آلاف الكيلومترات تضيع فيها الجيوش والأمم !! وهل من المعقول أن يُضْرَبَ موعدٌ لرجلين في صحراء سيناء الواسعة الشاسعة ، أو أن يشد موسى الرحال إلى إيران ، أو أسيا الوسطى وهو في فلسطين ؟! وقد غاب عن كثير منهم أن البحر يطلق على الماء المالح والماء الحلو في قوله تعالى : " وهو الذي مرج البحرين ، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " والنهر يصب في البحر ، فهو مجمعهما . أي : في قطعة من الأرض لا تتجاوز عشرات الأمتار، قريبة من مقام موسى عليه السلام يقطعها إن جدّ السيرَ بساعات قليلة أو ببعض يوم . وسياق الحديث يدل على ذلك . وهل يجوز لموسى أن يدع قومه اليهود أياماً وشهوراً وهم على ما هم عليه من ضعف الإيمان وشوائب العقيدة ، ويلتقي رجلاً مدة ليست باليسيرة ، قد تطول أياماً وشهوراً أيضاً فيعود ليجدهم قد تاهوا في الضلالة وهو العالم بشؤونهم الحريص على هدايتهم ؟!
- الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم . وأول دليل على ذلك أنّ موسى أصر على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً " وكان غداؤُه السمكة المشوية التي تحركت بعد أن عادت إليها الروح بإذن الله تعالى حين استلقى نائماً على الصخرة التي كان من المفروض أن يلتقي صاحبه عليها وغابت في شقوقها عائدة إلى الماء بقدرة خالقها وبارئها الذي يعيد الخلق كما بدأه وقتما يشاء . والدليل الثاني أن النسيان ضعف يضيّع على الإنسان كثيراً مما خطط ودبّر . فقد نام موسى على الصخرة حين سرب الحوت إلى الماء ولم يكن الفتى نائماً فرأى بأم عينه الأمر الغريب ، ولم يشأ أن يوقظ نبيه الكريم احتراماً وتقديراً ولسوف يخبره حين يستيقظ .
- ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى عليه السلام وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة السمكة على غرابتها وعجيب أمرها .(/1)
- ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر السمكة إلى الشيطان ، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .
- والحقيقة أن موسى وفتاه نسيا المكان وسارا لأنهما لم يقولا " إن شاء الله " فيما عزما عليه ، فموسى أخبر فتاه عن عزمه على بلوغ مجمع البحرين دون أن يربط ذلك بمشيئة الله تعالى ، وكذلك فعل فتاه فدمجهما الله تعالى بذكرهما في النسيان " .... نسيا حوتهما ..." وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الروح والفتية – أصحاب الكهف – وذي القرنين إنه سيعطيهم الجواب غداً دون أن يربط ذلك بمشيئة الله فتأخر الجواب خمسة عشر يوماً ثم نزل عليه قوله تعالى : " ولا تقولنّ لشيء : إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " وأمره أن يذكر الله تعالى ، فقال : " واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً " .
- ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما
أ – عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء – حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." .
جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .
- بعض صفات المعلم الرباني :
أ - هو عبد من عباد الله تعالى ، والعبودية لله أعلى مراتب الإنسانية ، لأن صلة العبد بربه تسمو به، وتفتح له مغاليق الأمور . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل الصالح هو الخضر ، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " هذا حديث صحيح غريب ، والفروة هنا وجه الأرض . ... قيل : إنه عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي . والإنسان يتعلم عادة ممن فوقه ، ولا يتعلم نبي إلا من نبي ، ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي . وقيل غير ذلك ، ولا يهمنا هذا الأمر بشيء ، وذكرناه للعلم به فقط .
ب - " آتيناه رحمة من عندنا " قيل هي النبوة . وقيل النعمة أيضاً . فهو رحيم . والمعلم الرحيم بتلاميذه يعمل على تعليمهم برفق ، ويتقرب إليهم ، ويتحبب إليهم ليأنسوا إليه فيحبوه ويأخذوا عنه علمه .
جـ- كان علم موسى بظواهر الأحكام ، وعلم الخضر معرفة بواطنها . كما أن العلم اللدني من الله مباشرة ، ليس لأحد من البشر فضل تعليمه .
- من أدب التعلم :
أ - التلطف في الطلب ، فلم يفرض موسى عليه السلام نفسه على الخضر عليه السلام على الرغم أن الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه . إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالاً للمسؤول أن يتنصل إن أراد .
ب - جعل نفسه تابعاً حين سأله " هل أتبعك .." فالتلميذ تابعٌ أستاذه مسلمٌ إليه قياده ، وهذا أدعى إلى التناغم بينهما .
ت - العلم يرفع صاحبه . وهذا ما أقرّ به موسى للخضر حين عرض عليه أن يتابعه شرط أن يعلمه " على أن تعلمن .. " وهذه التبعية ترفع المتعلم . أما التبعية من ذل أو لعاعة من دنيا يصيبها فسقوط للمتبوع ، وكبر للتابع .
ث - الواقعية في الطلب : فهو لم يطلب منه أن يعلمه كل شيء ، إنما طلب أن يعلمه شيئا مما علمه الله تعالى : " ... مما عُلّمْتَ .. " وهذا تواضع في الطلب فهو عليه السلام لم يكلف أستاذه شططاً ... لقد طلب العلم المفيد الذي تسمح به نفس معلمه .
ج - طلب النفيس من العلم : فالله تعالى علم الخضر علماً لدنياً نفيساً يريد موسى بعضه ، ولم يطلب العلم الدنيوي ، وإن كان مفيداً إنما طلب الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة ، وحدد نوع العلم فقال :" مما علمت رشداً " وضد الرشد الهوى والضلال ، وهذا ما لا نريده .
ح - قوله تعالى " مما عُلّمْت رشداً " تذكير للمعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالرشاد والهدى والسداد . ومن شُكْرِ النعم أن يعلّم عبادالله بعضاً مما أكرمه الله به ، فتزداد حظوته عند خالقه ، ويزيده علماً. ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله .(/2)
- وقد يشترط المعلم على تلميذه أن لا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن يحين الوقت المناسب لشرحه " قال : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً " . فقد لا يرغب بالتوضيح حتى يستكمل الأمر . وقد يرى المعلم اختبار تلميذه في الصبر . وقد يكون المعلم نفسه قليل الكلام . وقد يكون ممن يعتمدون في التعليم على الملاحظة ... ولكل شيخ طريقته ، إن جاريته فيها تعلمت منه ، وإن خالفته فارقك وفارقته .
- لابد أن يخطئ الإنسان فقد خلق من عَجَل ، أي من النقصان فوجب أن يترك له فسحة يستدرك فيها خطأه فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى عليه السلام مايجري دون أن يتدخل مستنكراً أو معلقاً على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور . لكن التلميذ لم يف بالوعد فقال في الأولى " لقد جئت شيئاً إمراً " وشدد النكير في الثانية حين قال : " لقد جئت شيئاً نكراً " وقال في الثالئة معترضاً ومقترحاً" لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
ونبهه أستاذه في الأولى " ألم أقل : إنك لن تستطيع عليه صبراً ؟ " وعاتبه في الثانية بزيادة " لك " في قوله : " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ " وأعلن في الثانية أن الفرصة الممنوحة انتهت فلا بد من الفراق لأنه استنفدها " هذا فراق بيني وبينك " . ولكنه لم يشأ أن يتركه يجهل أسباب الحوادث فأخبره بها " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً "
- زيادة المبنى لزيادة المعنى : قبل أن يخبره بالأسباب اضاف للفعل تاء التعدية " تستطع " على وزن تفتعل وحين أخبره بها حذف التاء لأن المعنى انتهى " تسطع " على وزن تفعل . وسوف نجد هذا في قصة ذي القرنين " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً " فعلوّ الجدار على صعوبته أسهل من نقبه فحذف التاء مع علو الجدارفي قوله " فما اسطاعوا " وأثبتها في صعوبة النقب " وما استطاعوا " .
- وانظر إلى أدب الأستاذ مع ربه فقد نسب عيب السفينة إلى نفسه " فأردت أن أعيبها " كما فعل إبراهيم عليه السلام ذلك في المرض وأسند الشفاء إلى الله تعالى تأدباً " وإذا مرضْتُ فهو يشفين " . وفي قتل الغلام نسب الخير في البدلية إلى الله تعالى " فأردنا أن يبدلهما ربهماخيراً منه زكاة وأقرب رحماً " ولما كان العمل في الثالثة كله بناء وخيراً نسي تفسه وأفرد الله تعالى بالخير " فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " مع أن الأمر كله من الله تعالى ، وهو لم يفعل إلا ما أمره الله به " وما فعلته عن أمري " .
- قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى : أوصني : قال : كن بسّاماً ولا تكن ضحّاكاً ، ودع اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعِب على الخطّائين خطاياهم ، وابك على خطيئتك يابن عمران . وقيل : إن موسى لما أنكر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم ؟! فلما أنكر قتل الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه ؟! فلما أنكر الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر ؟! .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، لكنه قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً " .
- صلاح الآباء يُرى في الأبناء فقد حفظ الله تعالى الولدين بصلاح أبيهما " وكان أبوهما صالحاً " فأمر الخضر عليه السلام أن يرفعه إلى أن يكبرا فلا يأخذ الكنزَ أحدٌ وهما صغيران ، ويظل بعيداً عن أعين الآخرين حتى يشتد عودهما فيكون لهما . وحين علم الله أن الولد خلق مطبوعاً على الكفر، وانه سيسيء إلى والديه المؤمنَيْن ويجعل حياتهما جحيماً أماته ، وأبدلهما خيراً منه فتاة مؤمنة طيبة كانت زوجة لنبي كريم .
- ونرى التدرج في هذه القصة - وهو أسلوب تربوي راقٍ- في تعامل الخضر مع موسى ،فقد أبى موسى عليه السلام إلا أن يصاحب الخضر عليه السلام فكان التخلص من هذه الصحبة – إن جاز لنا هذا التعبير فصاحب الشريعة غير صاحب الحقيقة – على قول الصوفية – لا بد له من الوضوح والتعليل والتفكير المنطقي . والخضر يفعل اموراً غير مفهومة وغير معللة ، لا تعرف إلا بعد شرحها - ولا بد أن ينفرط عقد هذه الصحبة عاجلاً أم آجلاً ... فكانت اعتراضات موسى وتنبيه الخضر المتسلسلة في إيقاعاتها التي ذكرناها آنفاً تدرّجاً واضحاً في ذهاب كلٍّ منهما في سبيله الذي رسمه الله له في دورة الحياة المنتظمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .(/3)
- لماذا كان الملك وراءهم؟ " وكان وراءهم ملك " لقد كانت السفينة تحمل أصحابها ومعهم موسى والخضر إلى الميناء التالي .. كانوا متوجهين إلى " أمام " .. فقد كان الملك في الميناء الذي يقصدونه فهم متجهون إلى " الأمام " فلماذا قال القرآن الكريم " وكان وراءهم ملك ؟" .. أعتقد أن الجواب على شقين . أما الأول : فلأنهم متجهون إلى غيب لا يدرون ما ينتظرهم . وكل غيب وإن كان أمامهم فهو " وراء " إن كان لا يُرى ، وأما الثاني فلأن الملك ظالم متجبر مغتصب لحقوق العباد " يأخذ كل سفينة غصباً " والملك ينبغي أن يكون رحيماً برعيته عطوفاً عليها ، يريد بها الخير ويسعى لصلاحها ن فإن كان على عكس ذلك فلا يستحق أن يكون في " الأمام " ومكانه الحقيقي في الخلف ، ولذا كان " وراء وراء " .(/4)
تأملات فقهية في قضايا المرأة المعاصرة
مسفر بن علي القحطاني(*) 20/5/1425
08/07/2004
يتفق الكثير من المهتمين بقضايا المرأة في المملكة أن جغرافيا المشاركة والانفتاح في جميع المجالات الحياتية ترسم حدودَها توسعة وتضييقاً فتاوى العلماء وآراء الفقهاء ومدى وعيهم بالنوازل الحادثة في هذا الباب . والنظر الشرعي يؤكد أهمية الرجوع لأهل العلم في كافة القضايا الواقعة والمستجدة؛ لأن الشريعة جاءت وافية بمصالح المرأة ونصت على كثير من حقوقها وواجباتها الواقعة والمتوقعة .
والمقطوع به من أحكام وقضايا المرأة لا يسوغ للمسلم الاجتهاد فيه فضلاً عن الاعتراض عليه . ولا أعتقد أن هناك خلافاً كبيراً حول هذه الثوابت والقطعيات . ولكن الإشكال يكمن متراكماً في الأمور التي يسع فيها النظر والاجتهاد فينغلق النظر فيها نحو رأي لا يقبل الخطأ أو اجتهاد لا يتسع للنقاش .
والحقيقة أن واقع فتاوى المرأة في البلاد الإسلامية يشهد تبايناً واختلافاً كثيراً بين مدارس الفتيا، والتنافر والتباعد بين بعض الفقهاء والأعلام ، إضافة للحيرة والاضطراب التي اعترت كثيراً من المسلمات من جرّاء هذا الاختلاف .
وهذا ماحملني أن أسطر بعض التأملات الفقهية والأصولية في هذا الموضوع الحيوي المتشعب ببعض الإشارات الموجزة , من خلال النقاط التالية :
أولاً: ضرورة التمييز في قضايا المرأة وأحكامها بين القطعي والظني وبين الثابت والمتغير, وأعتقد أن الخلط بينهما زاد من ضراوة الاختلاف بين المتنازعين . في حين أن أصل المسألة لم يحرر من الناحية الفقهية , ولم يعرف ما هو من قبيل السائغ من الاجتهاد أو مما لا يجوز الاجتهاد فيه . ولهذا يعذر المخالف في الظني الذي يسوغ فيه النظر والاجتهاد ولا يعذر المصادم للنصوص والإجماعات القطعية التي لا تقبل النسخ أو التأويل .
و القاعدة في هذا الباب : "لا إنكار في موارد الاجتهاد" (1).
يقول ابن تيمية : " مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به ، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين "(2).
فلا إنكار إلا ما ضعف فيه الخلاف أو كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كما ذكره القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية .(3).
ثانياً: من المقرر شرعاً أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة يقول عز وجل : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " (4)، ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ((إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً))(5).ولكن المتأمل في حال كثير من فتاوى المرأة المعاصرة يجد أن هناك نوع تشدد وتضييق يخالف مقاصد التيسير ورفع الحرج , وقد يكون السبب في ذلك : التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء بحيث يجعل منها نصوصاً للولاء والبراء ويعتقد فيها الحق الذي لا يحيد عنه إلا ضال , وهذا لا شك نوع انغلاقٍ في النظر وحسن ظنٍ بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس , مما يولد منهجاً متشدداً يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء و المذاهب ؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة .
يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم))(6).
مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول (7).
فيصبح حال أولئك النساء إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها ، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في شؤون حياتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسَّع الفقهاء على الناس في بعض المسائل التي أضحت من أولوياتهم واحتياجاتهم كمجالات عمل المرأة ومشاركاتها الاجتماعية ومعاملاتها المالية والاقتصادية وبعض مسائل الترويح والترفيه والرياضة ؛ وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك القضايا النازلة .(8).
ومن مظاهر التشدد والانغلاق التمسك بظاهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها . والحكم بالحل والحرمة على ظاهر اللفظ دون اعتبار دلالات فهم النصوص أو العوارض المؤثرة عليها من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويلات معتبرة كما هو الشأن في صوت المرأة ووضع عباءتها وبعض مسائل الزينة واللباس ..(/1)
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته ..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه))(9).
أما الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف فهذه سمة واضحة ومعلم بارز لهذا المنهج حمل كثير من الفتاوى المتعلقة بالمرأة نحو الغلو والتشدد .
وقد دلت نصوص كثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :-
((فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه ، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به )) (10).
ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه ؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً ، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا ، أو من منع فتح المدارس للبنات خشية الفجور والوقوع في الفساد , .. فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده ، لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة (11).
ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلَق المفتي فيه على الناس الحكم وشدّد من غير دليل وحجة ؛ لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال ، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وإن كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة .(12).
ومن الغلو والتشدد الأخذ بالاحتياط في كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سدّاً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمرٍ فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها ، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف . فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه (13).
ويجب التنبيه ـ في هذا المقام ـ على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب ، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى العنت وضع الحرج عليهم .(14).
ثالثاً: ظهر ضمن مناهج الفتيا في مسائل المرأة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير ، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية ، والأنانية على الغيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد في كثير من الأحيان مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه .
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم (15).
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين ؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع .
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات , أو التنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور . فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان .
و المصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل .(16)..( ) وبناءً على هذا الخلل التقعيدي خرجت بعض الفتاوى تبيح للمرأة ممارسة الرياضات المختلطة بالرجال , وتسمح لها بالترشح في منا صب الدولة العليا , ولاتمنع سفور المرأة وخروجها من غير حجاب زاعمين خصوصية الحجاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ...(/2)
ومن سمات هذا المنهج في الفتيا تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي ، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص ، كمن أفتى بجواز تمثيل المرأة وغناها أمام الملأ , وجواز الاختلاط مع الرجال من غير حاجة ..إلى غيرها من الفتاوى الطائرة في هذا الباب . فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه ، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : (( إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تفتح عليكم )(17) فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله . وقد تظهر ملامح هذه المدرسة من خلال التحايل الفقهي على أوامر الشرع ؛ وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل )) (18).
وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويز الحيل الموقعة في المحارم بتلبيسها ثوب الآراء الشاذة والفتاوى الملفقة .(19).
وذهب الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ إلى أبعد من ذلك بقوله : (( لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين ))(20).
رابعاً: الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر ولذا ينبغي للناظرين في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ : (( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال . والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ؛فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين ؛ خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين ))(21).
ومن الإشارات المهمة التي ينبغي للمفتي في قضايا المرأة الاهتمام بها والسير بها على المعهود الوسط :
1. أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة بتتبع طرق الاستنباط المعروفة والجري في ذلك على سنن النظر المعهودة ، فقد يجد الحكم منصوصاً عليه أو قريباً منه ، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة ، أو التخريج على أقوال الأئمة ؛ مع مراعاة عدم مصادمة حكمه للنصوص والإجماعات الأخرى أو مخالفتها للعقول الصحيحة والفطر السليمة فهذا مسلمٌ اعتباره في الشريعة .
كذلك عليه أن يبين البديل المباح عند المنع من المحظور وهذا الأدب له من الأهمية في عصرنا الحاضر القدر العظيم ، وذلك أن كثيراً من المستجدات الواقعة في مجتمع المرأة قادم من مجتمعات كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإسلامية كبعض مظاهر اللباس والزينة والتجمل وحتى في بعض الميول والهوايات النسوية ؛ فالعالم أصبح بيتاً واحداً مشرع الأبواب والنوافذ . فيحتاج الفقيه إزاء ذلك كله أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعاً ويمنع ما هو محظور أو محرم مع بيانه لحكمة ذلك المنع وفتح العوض المناسب والاجتهاد في وضع البدائل المباحة شرعاً حماية للدين وإصلاحاً للناس، وهذا من الفقه والنصح في دين الله عز وجل .
كما قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكانت حاجته تدعو إليه ؛ أن يدله على ما هو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه))(22) ولا ينبغي للفقيه المبصر أن يترك النظر إلى المآلات المفضية لفتواه , ومعناه أن ينظر المجتهد في تطبيق النص ؛ هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا ؟ فلا ينبغي للمفتي في قضايا المرأة التسرع في حكمه بالحظر أو الإباحة حتى يعرف مايؤول إليه الحكم من مفاسد ومضار فيسد الذرائع المفضية إليها , أو يرى المصالح و المنافع المترتبة على حكمه فيفتح الذرائع المفضية إليها بالإباحة والجواز.
وقاعدة اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام (23).
2. فقه الواقع المحيط بالنازلة :
ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيراً زمانياً أو مكانياً أو تغيراً في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعاً لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه .(/3)
وذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية ؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة ، فكم من حكم كان تدبيراً أو علاجاً ناجحاً لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق . والمتأمل في واقع المرأة المعاصر يلحظ التغيرات التي اعترت حياتها والتبدل الذي أصاب واقعها الراهن , فالجمود على فتاوى وقعت في زمن تغير حاله دون تغيير هذه الفتوى غلط على الشريعة وتعدٍ على صلاحيتها في كل زمان ومكان .
وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : (( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )) (24).
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل :( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ) : (( هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة إلى ضدها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل ))(25).
3. مراعاة العوائد والأعراف .
وقد جرى الفقهاء على اعتبار العادة والعرف والرجوع إليها في تطبيق الأحكام الشرعية في مسائل لا تعد لكثرتها.(26).
ولهذا كانت قاعدة ( العادة محكمة ) بناءً على ما جاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً : (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )) (27).
فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع ، مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس ، فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير بقدر الإمكان . وخصوصاً ما كان من قبيل الفتيا في الأمور الواقعة أو المستجدة لعظم شأنها وسعة انتشارها .
يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ في ذلك :((إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد : يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة )) (28).
والمتأمل في واقع فتاوى المرأة في بلادنا يلحظ اختلاط الأعراف والعادات بالشرع , حتى أصبح العرف مقيداً ومخصصاً لكثير من النصوص الشرعية , و من المقرر عند أهل العلم والأصول أنهم لم يعتبروا عرفاً يستشهدون به ويحتجون له إلا عمل أهل المدينة , ولا يخفى فضل المتقدمين منهم لصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتهم للتأويل ومشاهدتهم للتنزيل , ومع ذلك فالمتأخرين منهم لا حجة في عملهم على مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة وهو قول المحققين من أصحاب مالك(29)فكيف يجعل عمل بعض المناطق والبيئات حجة على الناس وعياراً على السنة وفهم دلالاتها .
وختاماً : أجد من المهم التأكيد على أن ما سبق عرضه إنما هو إشارات عاجلة لبعض الضوابط العاصمة في مجال فتاوى المرأة , ولم أرغب في الغوص في ذكر الوقائع والمسائل المستجدة في هذا المقام حتى لا يُشغل الفكر بها عما هو أهم وأحرى في البيان . كما أحب التأكيد علىعِظم منزلة الإفتاء في الشريعة وأنها التوقيع عن رب العلمين فيما ينزل بالمسلمين من قضايا وأحكام , ولذا كان الاجتهاد الجماعي صيانة وحفظاً لهذا المقام من الزلل أو الوقوع في الخطأ ؛ فينبغي لأهل الفتوى تحري هذا الأمر والعمل به قدر المستطاع , ولا يعني هذا التقليل من شأن الفتاوى الفردية فلها أهمية واضحة بشرط أن لا ينساق المفتي مع هوى العامة أو الخاصة أو يتأثر بضغط الواقع والظروف الراهنة .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
________________________________________
(*) الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1) انظر: الاشباه والنظائر للسيوطي ص 292
(2) مجموع الفتاوى 20/221 .
(3) جامع العلوم والحكم 2/254 تحقيق الأرناؤوط .وانظر :شرح مسلم 2/23 .
(4) سورة الأنبياء ، آية : 107 .
(5) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق،باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بنية ، رقمه ( 1478 )2/ 1104.
(6) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 45 .
(7) انظر : تحرير النزاع في المسألة : المجموع 1 / 90 , 91 ؛ شرح المحلى على جمع الجوامع 2 / 393 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 432 ؛ المسودة ص 465 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 574 ؛ الوصول إلى علم ألأصول لابن برهان 2 / 369 .
(8) انظر : الفكر السامي للحجوي 1 / 215 .
(9) إعلام الموقعين 4 / 134 .
(10) إعلام الموقعين 3 / 109 .(/4)
(11)انظر : شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 448-449 ؛ الفروق للقرافي 2 / 33 ؛ مقاصد الشريعة الإسلامية د . اليوبي ص574-584
(12)انظر : شرح تنقيح الفصول ص 449 ، إعلام الموقعين 3 / 109 .
(13)انظر : مركز المرأة في الحياة الإسلامية د .القرضاوي ص 130 – 150 ، ؛ المرأة ماذا بعد السقوط ، تأليف : بدرية العزاز ص 199- 216 .
(14)انظر : الموافقات 1 / 184- 194 ؛ العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي تأليف : منيب محمود شاكر ص 118 .
(15) انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب د . القرضاوي ص 111 .
(16) انظر : ضوابط المصلحة د . البوطي ص 110 .
(17) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 186 من حديث معاذ وقال : " رواه الطبراني في الثلاثة وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو متروك الحديث " وذكر له شواهد لا تخلو من ضعف ، ورواه البيهقي في الشعب 2 /3 / 347 ، وهذا الحديث له شواهد مرفوعة وموقوفة يقوى بها إلى الحسن لغيره . انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 980 ، الفقيه والمتفقه 2 / 26 ، حلية الأولياء 4 / 196 .
(18) أورده الحافظ ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود وقال فيه : رواه ابن بطة وغيره بإسناد حسن ، وقال أيضاً : وإسناده مما يصححه الترمذي . انظر : عون المعبود 9 / 244 .
(19) انظر : أدب المفتى والمستفتي ص 111 ؛ المجموع 1 / 81 ؛ تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 51 ؛ الموافقات 5 / 91 ؛ إعلام الموقعين 4 / 175 ؛ حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 442 .
(20) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 250 .
(21) الموافقات 5/276.
(22) إعلام الموقعين 4 / 122 . انظر : الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 83 ؛ المجموع 1 / 87 , 83 .
(23) انظر : الموافقات 5 / 179 .
(24) انظر : القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص227 ؛ الوجيز في القواعد للبورنو ص254.
(25) إعلام الموقعين 3 / 11 .
(26) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص102-114 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص182,183؛ أصول مذهب أحمد ص736 .
(27) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1 / 422 ، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 855 ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 177 و 178 وقال : " رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثوقون " .
(28) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص218 .
(29) انظر : مجموع الفتاوى 20/ 304 .(/5)
تأملات في المحددات القرآنية للتوحيد
د. فريدة صادق زوزو * 13/3/1425
02/05/2004
إن القرآن الكريم باعتباره كتاب هداية قد جعل محوره الأساس التوحيد، الذي هو مسألة مركزية في الاعتقاد، لذا نجد القرآن قد فصل فيه بشكل دقيق وشامل، وأعطاه من العناية ما لم تبلغه أية مسألة أخرى.
ويهدف هذا المقال إلى استخراج أهم المحددات القرآنية للتوحيد. حيث إننا إذا ما قمنا باستقراء -ولو بصيغة غير كاملة- لآيات القرآن الكريم، فإننا نجده يعتبر أن:
أولاً: التوحيد هو ملة إبراهيم عليه السلام
أي الحنيفية الإبراهيمية؛ إذ يقرر القرآن في عدة مواضع أن التوحيد الإسلامي القرآني هو التوحيد الإبراهيمي المؤسس على الاعتقاد الفطري الغريزي في الإنسان. قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين) (آل عمران: 67].
قال تعالى : ( قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) (المائدة: 111].
ثانيًا:فيما يخص موقفه من الشرك فإنه يعتبره موقفا ارتكاسيًا عن التوحيد بسبب نفسي أو اجتماعي أو غيره.
قال تعالى : (وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا فبشره بعذاب أليم) (لقمان: 7].
وقال أيضا : (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله) (الفتح: 26].
وقال : (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو) (المدثر: 31].
قال تعالى : (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً) (النساء 155].
ثالثا: إن القرآن يوجه خطاب التوحيد إلى الإنسان من حيث هو إنسان دون نظر إلى لونه أو لسانه أو جنسه، إذ يعد الخطاب القرآني خطابًا عالميًا.
قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا) (سبأ: 28]، (آلر كتاب أنزلناه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) (إبراهيم:1]، (كنت خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: 110]، (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) (البقرة: 185] (قال إني جاعلك للناس إمامًا) [البقرة: 124]، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]،
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) [الأعراف: 54]
(ولكن الله ذو فضل على العالمين) [البقرة: 251].
رابعًا:ويعتبره رسالة الأنبياء جميعًا، حيث ما من نبّي إلا ودعا قومه إلى توحيد الله.ابتداء من سيدنا آدم عليه السلام ونهاية بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثمة يتأكد لدينا تصور عام لخط النبوة المتسلسل والمتواصل بين آدم عليه السلام والمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هذا الخط المؤكد على وحدانية الله تعالى والدعوة إلى عبادة الله الواحد الصمد.
قال رب العزة :(إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران: 19].
قال تعالى:(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) [الأنعام: 185].
وقال تبارك وتعالى :(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) [ آل عمران: 85].
وقال أيضًا: (وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) [المائدة: 3].
وقد جاءت بعض الانعطافات في خط النبوة للتأكيد على التسلسل والتتابع النبوي والتواصل مع الخط العام، ثم لتوضح معالم ومرتكزات جديدة في عقيدة الإنسان الموحد حسب ما يستدعيه ويتطلبه تطور العقل البشري، والرقي في منظومته الفكرية التي تتعامل مع أبعاد الزمان والمكان.
فالأنبياء جميعهم بدعوتهم إلى عبادة الله الواحد الفرد، جاءت دعواتهم ترتكز على خطاب فطرة الإنسان وجبلته الطبيعية المؤسسة على نوازع خير وشر، وبالفطرة تترجح دوما نوازع الخير بإرادة العلّي القدير. قال تعالى:(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [الزمر: 22]،
ثم بمجيء سيدنا إبراهيم عليه السلام أضيف إلى التوحيد الفطري الاستدلال العقلي تماشيًا مع نمو العقل وتساؤلاته حول طبيعة الوجود والواجد. ويؤكد هذا القول السرد القرآني لقصة سيدنا إبراهيم كاملة تامة، والتي تبدأ بتساؤلات وتختتم بالوصول إلى التوحيد بإرادة العلّي القدير. قال تعالى :
وقال تعالى :(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [البقرة: 132].
ويأتي موسى -عليه السلام- وفي دعوته مجموعة شرائع وأحكام ربانية عملية، ومن بعده عيسى -عليه السلام- المخاطب للإنسان وأخلاقياته وسلوكياته، بتركيزه على المواعظ.
قال تعالى :(وإن أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون) [المائدة: 111].(/1)
وتختتم الرسالة الربانية بمجيء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لتكتمل معالم كل توحيد داعٍ إلى عبادة الله الفرد الصمد، وليكون المصدّق لما سبقه، والمهيمن عليها، محيطًا بكل الأبعاد الزمنية والمكانية للبشرية جمعاء إلى أن ينقطع أصل التكليف. قال تعالى : (أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) [المائدة: 3].
خامسًا: ومن جهة أخرى؛ فإن التوحيد في الخطاب القرآني، مسألة تستغرق حياة الإنسان وأخراه، كما تستوعب كل أبعاد شخصيته لتحقيق وحدة التوجه إلى الله تعالى، وهو في ذلك –أي القرآن- يخاطب كل القوى الإدراكية والشعورية والحسية في الإنسان لتتكاتف على تحقيق التوحيد والعبودية لله تعالى. والترقي في مدارج العبودية والصفاء الروحي والنفسي والعقلي. فهو حينًا يخاطب الناحية المادية في الإنسان، وحينًا آخر يخاطب الناحية العقلية، وحينًا آخر يخاطب الناحية الروحية؛ أي أن الخطاب القرآني يخاطب القوى الثلاث المكونة للإنسان؛ ففي تكامل العمل بينها يمكن للإنسان أن يؤدي الوظيفة المنوطة به، وفي اختلال إحدى هذه الجهات الثلاث اختلال في الوظيفة الإنسانية ومن ثم الإعراض عن طريق الله.
ففي الخطاب الروحي جاء قوله تعالى :( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) [آل عمران: 79]، وقال :(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل:128]، وقال :(وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة: 197].
وفي خطابه للناحية المادية من الإنسان قال تعالى :(اليوم أحل لكم الطبيات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) [المائدة: 5]، وقال الله سبحانه وتعالى :(يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) [البقرة: 167]، وقال :(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) [الإسراء: 70].
وفي خطابه للناحية العقلية قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [الروم: 21].، فإيداع الله تعالى في النفوس البشرية هذه العواطف والمشاعر، ما هو إلا تلبية لحاجتهم الفطرية؛ نفسية وعقلية وجسدية، وهنا مجال التدبر والتفكر.
قال تعالى: ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج: 46]، وقال الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص: 29] ، وقال رب العزة:(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء: 10 ].
سادسًا: كما أن القرآن يجعل من مسألة التوحيد مسألة ذات طابع أخلاقي متين من خلال الربط بين جانبي التوحيد في مظهره وجوهره، أي الربط بين الإيمان والعمل الصالح.
قال تعالى :( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) [البقرة: 25]، وقال تبارك وتعالى : (من آمن وعمل بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 62]، وقال رب العزة : (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) [البقرة: 82]، وقال :(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) [الانشقاق: 25].
سابعًا: أما إذا جئنا إلى التوازن، فإن التوحيد في الاستعمال القرآني قائم على التوسط في كل شيء والاعتدال فيه بلا إفراط مضل ولا تفريط مخل، وهو توحيد متوجه إلى تحقيق كل أبعاده من خلال توحيد العبودية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وقد اتفق أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، أي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط باتباع الهوى في قوله تعالى:(ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، والإفراط في قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)، وهو منبع الكمالات عند الله تعالى، وإلا لما وصف به الأمة الإسلامية، قال تعالى :(وكذلك جعلناكم أمة وسطًا).
والاعتدال والتوسط الداعين إلى السماحة في الشريعة، أوجب أن تكون الشريعة دين الفطرة لتنفذ بين النفوس بسهولة ويسر، وهذه دعوة التوحيد الخالص المخاطب لفطرة الإنسان.
قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) [الإسراء: 29]،(ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعو فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً) [الإسراء: 110]، (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) [الفرقان: 67]، (وكذلك جعلناكم أمة وسط لتكونوا شهداء على الناس) [البقرة: 143].
ثامنًا وأخيرًا: الإقرار بحرية التدين.(/2)
الحق إن الإسلام في إقراره لحرية التدين بقوله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) [البقرة: 256] أرسى قاعدة حرية التدين، لأن العقيدة لا تكون عقيدة حتى تصدر عن اعتقاد، والإيمان لا يكون إيمانًا حتى ينبع من القلب والضمير عن رضا خالص، وطمأنينة صادقة، قال تعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس:99].
فهذا الإقرار لحرية الاعتقاد يلقي على الناس تبعة اختياره ويحمّله مسؤولية حريته، ولذلك يؤكد القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن مهمته هي التبليغ لا الإكراه. قال تعالى: (فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) [آل عمران: 20]، وقال أيضًا: (فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) [المائدة: 92].* دكتوراه في الفقه وأصوله، أستاذة الفقه وأصوله وتاريخ التشريع، كلية الشريعة والقضاء، جامعة العلوم الإسلامية بماليزي(/3)
تأملات في بناء الفكر الإسلامي
محمد عبد الله السمان 29/7/1426
03/09/2005
كنت على صلة وثيقة بالشيخ محمود شلتوت -رحمه الله- وحين عُين وكيلاً للأزهر قبل أن يتولى مشيخة الأزهر، دعاني وعتب عليّ؛ لأني لم أزره بعد المنصب، قلت له: كنا نتمنى أن يظل فضيلتكم عالماً بلا مناصب، قال: ادع الله لي.... والشيخ شلتوت -رحمه الله ـ من أفاضل العلماء في العصر الحديث بل يُعدّ امتداداً -بلا جدال- للإمام محمد عبده الذي ما زال فكره سائداً حتى اليوم.
وللشيخ شلتوت دراسة قيمة تحت عنوان " الإسلام والوجود الدولي للمسلمين"، وهي من الموضوعات الحية، التي نحن بحاجة إليها في هذا العصر الذي أصبح فيه الإسلام هدفاً للتحدّيات الشرسة من أعدائه وأتباعه معاً، هؤلاء الأتباع العلمانيون الذين خُيّل لهم أن الإسلام اليوم جدار مائل بلا حراسة، فانتهزوا الفرصة ليهيلوا عليه الطوب والحجارة، تزلّفاً إلى الأنظمة في ديار المسلمين التي يُرهبها أن يستردّ الإسلام اعتباره، وتقرّباً إلى خصوم الإسلام من الغرب الصليبي للحصول على المال.
لقد كان للمسلمين ـ باعتبارهم جماعة ـ أحداث هي عناصر قوية في بناء الوجود الدولي لهم .. وكان شأنهم في تذكرها، شأن كل مجتمع بشري يتحسّس مواضع الضعف في سيره فيتقيها .. وعوامل القوة فينميها .. إن صاحب العقيدة العالمية، والمبادئ الإنسانية العامة، لا يقف بجهوده في سبيل عقيدته أو مبدئه في أماكن محدودة، وإنما يسمو بعقيدته ومبدئه عن التقيد بالجنسيات والأقاليم. والعالم كله ميدان لعمله "فإذا ما نبا به مكان تحوّل إلى غيره، حيث يجد التربة الخصبة للإنبات والإثمار". فلكل مجتمع فيما سلخ من حياة: أحداث كان لها في قوته أو ضعفه، في علمه أو جهله، في نظامه أو فوضاه، في استقراره أو اضطرابه، في أمنه أو خوفه، كان لها في كل ذلك أثر بارز، ينعم المجتمع بخيره إن كان خيراً، ويشقى بشره إن كان شراً، وإن هذه الأحداث التي يسجلها التاريخ وأسبابها، وأحداث الشر وعواملها- قد لفت الله في كتابه الكريم أنظار المسلمين إلى هذا الشأن الطبيعي للمجتمعات، وأخذ يقص عليهم كثيراً من أنباء السابقين: صالحين ومفسدين، ويقول:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران:137]. ثم لا يقف القرآن عند هذا الحد من توجيه النفوس إلى الذكريات: ذكريات الأحداث التي كان الزمن مسرحها والبناء الإسلامي ملتقاها، وذكريات المعاني التي كانت النفوس البشرية صحائفها .. بل عرض في كثير من آياته إلى تذكير المسلمين ـ وهم في المرحلة الثانية للدعوة (بعد الهجرة) بأحداث المرحلة الأولى (المكية) . قال:( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [لأنفال:26] والإسلام ـ كما هو معروف ـ شريعة وبناء، الشريعة نزلت على محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليؤسس بواسطتها البناء الإنساني العالمي. الذي يساهم في نهضة البشرية قاطبة، دون ما نظر إلى جنس أو لون أو دين. ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو المؤسس الأول. إذن .. فقد كان مولده، هو مولد مؤسس دخل التاريخ من أوسع أبوابه. وأصبح فيما بعد حدثاً تاريخياً، شغل ـ ولا يزال يشغل الأذهان إلى اليوم، وسيظل يشغلها إلى أن تقوم الساعة؛ إن عظمة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم تكن من جنس العظمات البشرية المألوفة، فهي ليست من عظمة الحكام الطغاة الجبارين الذين يستعذبون أنين الإنسانية .. إنها عظمة رحمة وعطف، عظمة هداية وإرشاد، عظمة إصلاح وتعمير، عظمة سلم وأمان، عظمة تهيئ للحياة الفاضلة عدتها، وتعبّد سبلها، عظمة تساير الدهر وتستقر في صفحة الخلود، ويستمد العالم منها غذاء حياته الروحية والاجتماعية.
وتعد الهجرة النبوية هي نقطة التحوّل في ميلاد دولة الإسلام، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة.(/1)
إلا أن المؤرخين قد عنوا كثيراً ـ وهم يتكلمون عن هذا الحادث الفذ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تصيب الرسول وأصحابه، ومن هنا ألبست أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة النبي العربي .. ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يطلقوا عليه :"النبي الفار" وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلفوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه"، والتي لم تلبث بعد الوصول إلى المدينة أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعادات وتقاليد كان لها في هدم الإنسانية ما ليس للمعادلة القوية في تقويض البناء الشامخ العتيد. وهكذا مع الهجرة، وكان مبدأ الوجود الدولي للمسلمين، الذين لم يكونوا قبلها إلا أفراداً مضطهدين معذبين مبعثرين، وصار لهم بها وحدة. لها شعارها الخاص، ونظامها الخاص، وهدفها الخاص، وقيادتها الخاصة.
* وأخيراً: فمما يبعث على الأسى المرير: أن المسلمين في الآونة الأخيرة، لم يعوا مثل هذا الفكر الإسلامي البنّاء، فقد أهملوا البناء الذي شيده خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ شغلتهم الدنيا عنه، وهو حصنهم وملاذهم، تفرّقوا سدى، وهانت أمتهم التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس، أصبحت مطمعاً حتى لأخس خلق الله من سلالة القردة والخنازير، لم يعد لها وزن يذكر في موازين القوى العالمية على الرغم من أنها تمثل (خُمس) سكان المعمورة. هم اليوم غثاء كغثاء السيل، نزع الله المهابة منهم من قلوب أعدائهم، وقذف في قلوبهم الوهن، حب الدنيا وكراهية الموت ـ كما تنبّأ به لك الرسول الصادق ـ صلوات الله عليه وسلام(/2)
تأملات في سورة العلق
{اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1] ابتدئ قراءتك باسم ربك، ليبارك الله عملك، ويثبتك على عملك، فربك هو الخالق الذي تفرد بالخلق وحده، فهو المستحق للعبادة وحده، وهذا يتضمن توحيد الربوبية والألوهية، وفيه إشارة لفضل العلم، وشرف منزلته، وفضل طلبه، والبحث على تعلمه، وأخذه من أهله القائمين به. وأفضل البدء : بسم الله في كل طاعة، وأمر شريف. {خلق الإنسان من علق} [العلق: 2] هذا الخالق العظيم أوجد هذا الإنسان السميع البصير من قطعة حقيرة من دم غليظ، هذا هو أصل الإنسان فلا يتكبر، هذا هو أوله فلا يتجبر، لأنه لم يكن شيئا يذكر، فسبحان الذي قدر ودبر وصور. {اقرأ وربك الأكرم} [العلق: 3] حث وتأكيد على قراءة العلم الرشيد، مع الاستعانة والتوكل، والبدء باسم الله الذي لا يوازيه في الكرم كريم، فكل جود إنما هو من جوده، وكل بذل باذل فما هو إلا ذرة من موجوده، فسبحان من جمع المكارم في صفاته، وجل عن الشبيه والمثيل والنديد والشريك والكفؤ من مخلوقاته. {الذي علم بالقلم} [العلق: 4] كل من خط بالقلم حرفا فالله علمه، وكل من رسم باليراع لفظا فالله ألهمه، وكل من سطر بكفيه سطرا فالله فهمه، فهو الذي علم كل كاتب أن يكتب بآلة القلم الصامت كلاما يقرأ ويفهم، وفيه فضل الخط بالقلم، فهو يقضي بخطه على السيوف، ويحرك الجيوش، ويفصل الركاب، وتقع به الولاية والعزل، والعطاء والمنع، وبه تدار الدول وتحكم الملوك، وتؤلف العلماء. {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 5] هذا الإنسان لم يكن يعلم شيئا فعلمه الله كل علم وفن وصناعة، ألهمه كيف يفكر ويعمل وينتج، بصره بمصالحه، كشف له أسرار حياته، أوضح له ما خفي عليه، بين له ما غاب عنه، فتح له أبواب المعرفة ووفقه لأسباب التعلم، وقرب له ما بعد، وسهل له ما صعب، ويسر له ما عسر.(/1)
{كلا إن الإنسان ليطغى} [العلق: 6] إذا تجرد من التقوى طغى وبغى، وتمرد وعتى، فهو بلا دين مارد مهين، وهو بلا استقامة فاجر خوان، تجمح به نفسه، يغلبه هواه، يقوده طمعه، يرديه جشعه، يسوقه شيطانه، تتلفه نفسه الأمارة. {أن رآه استغنى} [العلق: 7] إذا رأى نفسه استغنى بالمال بطر، وأشر، وأصر واستكبر، فتجده يختال بما أنعم الله عليه، فيجحد النعمة، وينسى الفضل، وينسب الخير لنفسه، ويمنع حق المال، ويتيه على العباد، ويعرض عن الطاعة، ويصد عن الهدى، الا من رحمه الله بتقوى، {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8] المصير إلى العلي القدير، النهاية إلى الله، الغاية والعافية عند من لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد، هنالك يجازى من بغى وطغى، ومن تكبر وتجبر، هنالك يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ويظهر المستور، ويبين أهل التقوى وأهل الفجور. {أرأيت الذي ينهى} [العلق: 9] انظر بعجب واستغرب إلى هذا المارد الكذاب، الذي يصد عن هدى الله، بعد ما أعرض عن دين الله. يا له من سيىء حقير، ومن نذل شرير، أما كفاه أن يكفر حتى وقف لعباد الله ينهى ويأمر. {عبدا إذا صلى} [العلق: 10] هو محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر بالعبودية، لأنها أشرف المنازل، وأجل الصفات، وأحسن المناقب، وأجمل المدائح، وواجب هذا العبد، وكل عبد أن يصلي لله الملك الحق، فمن نهاه عن هذه الصلاة، فهو عدو لله لدود، وهو حسود كنود جحود. {أرأيت إن كان على الهدى} [العلق: 11] أرأيت أن كان صلى الله عليه وسلم على هدى من ربه، وهذا هو الحق، فإنه هو ومن اتبعه على دين قويم، وصراط مستقيم، فلا هدى إلا ما جاء به، ولا حق إلا ما كان عليه، ولا صواب إلا في شريعته، ولا نور إلا في رسالته، ولا حياة إلا في دينه، ولا نجاة إلا بسنته، ولا سعادة إلا في موكبه. {أو أمر بالتقوى} [العلق: 12] كل أوامره صلى الله عليه وسلم تقوى، كل نصائحه هدى، كل وصاياه حكم وفوائد، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، ولا يقول إلا صدقا، ولا يحكم إلا بحق، ولا يرد إلا باطلا {أرأيت إن كذب وتولى} [العلق: 13] أرأيت هذا الناهي إن كان كاذبا مكذبا بالحق، قد تولى عن الرشد، أمثله يأمر بخير؟ أمثله ينهى عن شر؟ هل هو أهل أن ينصح غيره؟ هل هو في مكان التوجيه والنصح والإرشاد؟ إنه متهم في دينه، زائغ في رشده، ضال في سعيه، مأفون في عقله، مظلم في نهجه، مريض في رأيه،{ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14] يكفي أنه يرى فيحاسب، ويطلع فيعاقب، وهذا أعظم تهديد، وأشد وعيد إذا كان يرى ذو البطش الشديد، والعذاب الأكيد، ويرى وكفى، يرى عمل الصالح فيثيبه، وكيد الكائد فيخزيه، وظلم الظالم فيجازيه، فحسبك به ناصرا ووليا، أنه يرى جل في علاه.{كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية} [العلق: 15] قسما، لو لم يترك هذا الفاجر الكافر أفعاله السيئة، وأعماله القبيحة لنجرن بناصيته جرا، وهذا نهاية الإذلال، وغاية الإهانة، لأنه متكبر متجبر مناسب أن يصغر هكذا، ويذل علانية، فيجر كما تجر الدابة بناصيته، وهو موضع عتوه وجبروته، وكبره وغروره. {ناصية كاذبة خاطئة} [العلق: 16] ناصية لا تحتمل إلا الكذب والزور،البهتان والفجور، ناصية كلها معاص وذنوب، وخطايا وعيوب، ناصية هي رمز الخسة والنذالة، ومحل الوقاحة والعدوان، ناصية ما سجدت لله، ولا تشرفت بالخضوع له، وحملت دينه، لا عرفت كتابه، ولا استوعبت هداه. {فليدع ناديه} [العلق: 17] إذا حل به العذاب، ووقع به النكال، فليدع أعوانه وأنصاره، إن كان صادقا إن له ناديا وأنصارا ومحبين، وهذا تحد لهذا الذليل، فأي قوة مع قوة الله، وأي حول أو طول مع حوله وطوله؟ وأي جنود مع جنود الله؟ إن هذا الفاجر أذل وأقل وأحقر من أن ينصر، فهو مغلوب مخذول مهزوم. {سندع الزبانية} [العلق: 18] أن دعا أعوانه في ناديه، دعونا ملائكة غلاظا شدادا، أهل قوة وبطش، وقدرة وفتك، ليرى من أضعف ناصرا وأقل عددا، هؤلاء الزبانية مهيؤون له ولأمثاله، منحهم الله القوة، وأعطاهم المنعة، ورزقهم القدرة، لا تطاق مقاومتهم، ولا تستطاع مصاولتهم، لأنهم ملائكة وكفى، وجند من جنود الله وحسب. {كلا لا تطعه واسجد واقترب} [العلق: 19] لا توافق هذا المخذول، لا تلتفت إليه، لا تسمع كلامه، لا تنصت لمقاله، بل أسجد واقترب منا، واعبدنا، سجودك لنا عز لك، خضوعك لنا شرف لك، ذلك لنا رفعة لك، اقترب منا بالطاعة لنقترب منك بالمحبة والرعاية، والنصرة والولاية. أفضل طريق للقرب منا: السجود لنا وأجمل وسيلة لمحبتنا: عبادتن. واقترب لتكرم، ذل لتعز، اخضع لترفع.
الشيخ / عايض القرني(/2)
تأملات في عالم المرجعيات المعقد بين قم والنجف
أحمد فهمي
لن نستطيع أن نفهم حقيقة العلاقة الحالية والمستقبلية بين الدولة الشيعية الإيرانية وبين العراق في ظل الاحتلال الأمريكي حاليا ، إلا بإلقاء مزيد من الضوء على عالم المرجعيات الغامض والمعقد ، والذي تخفى على الكثيرين خفاياه وتأثيراته في عالم السياسة .. وللشيعة منذ نشأتهم طريقة خاصة في التعامل مع علماءهم ، فهم يقدسونهم إلى درجة كبيرة ، ويعتبرون أن تفخيم العلماء وإطلاق الألقاب الضخمة عليهم كمين بأن يحفظ لهم بقاء المذهب في ظل تعرضه لحملات من النقد والتهميش والكشف لفضائحه وانحرافاته عبر تاريخه الطويل ، ولذلك أسسوا لنظام المرجعيات المعروف ، وكانت حوزاتهم العلمية تقام في أي مكان يكون لهم فيه سطوة وسيطرة ، نظرا لما تتضمنه عقائدهم من مخالفات لا يمكن بحال أن ينتعش تدريسها في ظل أغلبية سنية ، والحال هكذا كانت مكانة العالم أو المرجع لدى الشيعة عالية ومرتفعة في كل زمان ، ولذلك كان الإقبال كبيرا من الشباب الشيعي المتطلع إلى طلب العلم في الحوزات لعله ينال المكانة السامقة التي لا تخلو من منافع مالية هائلة كما سيأتي .. ولكن كانت المشكلة في قلب الحل الشيعي ، فتقديس المرجعيات الدينية من ناحية ، وانتعاش نشاط الحوزات العلمية من ناحية أخرى ساهم في تعدد المرجعيات بصورة جعلت من الداخل الشيعي هشا ممزقا ، على خلاف ما قد يبدو للكثيرين ، ولذلك كتبت مجلة النيوزويك الأمريكية تصف المجتمع الشيعي العراقي من الداخل بالقول : " قد يبدو شيعة العراق من الخارج مجموعة متجانسة، ولكن عند النظر إليهم من الداخل يتبين أنهم يشكلون تركيبة معقدة وغاضبة من التنافس على المال والسلطة " .. وكما قلنا لأن المجتمع العلمي الشيعي بصورته البدعية تلك لا يمكن أن ينشأ بحرية وينتعش أبدا في ظل الأغلبية السنية ، كان لا بد من السعي لتأسيس مجتمعات علمية واسعة النطاق والتأثير تعد بمثابة العاصمة العلمية للشيعة والقبلة الدينية لهم ، والمقر الطبيعي لعلمائهم ، وعبر التاريخ الشيعي وقع الاختيار على عدة مدن تتركز أغلبيتها في العراق وإيران باعتبار التواجد الشيعي الأكثر كثافة ، خاصة بعد الجهود الحثيثة للدولة الصفوية البدعية في إيران لتشييع الأكثرية السنية التي كانت موجودة حتى القرن العاشر الهجري .. وتأتي النجف بوصفها المرجعية الأكبر للشيعة باعتبارها من ناحية دينية مقر لقبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما يزعم الشيعة ، وقد تأسست الحوزة العلمية في النجف في القرن الخامس الهجري ويقودها حاليا علي السيستاني ويعتبر مرجعا أعلى للشيعة ، وقد خلف أبو القاسم الخوئي الذي توفي عام 1992 ، وقد تعرضت النجف باعتبارها القيادة الدينية للشيعة إلى حملات مستمرة من قبل النظام البعثي بسبب ميول زعماءها للتمرد والمطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي ، وبرزت في هذا الصراع بين البعث والنجف أسر شيعية كبيرة مثل : أسرة الحكيم وأسرة آل الصدر التي قتل منها عام 1980 محمد باقر الصدر، وهو صاحب مؤلفات في الفكر الإسلامي بينها "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، و محمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999 بعد إصراره على إقامة صلاة الجمعة للشيعة وإمامتها في مسجد الكوفة ، وهو ما أثار غضب النظام الحاكم حينذاك خوفا من أن تتحول إلى حافز للتمرد .. وقد احتلت عدة مدن مكانة المرجعية لفترات قليلة مثل سامراء وكربلاء ومشهد ، لكن تبقى الأكثرية للنجف ثم لمدينة قم في إيران ، والتي أسسها الطوسي ، ثم انتعشت مع الدولة الصفوية ، ثم مع قيام الثورة الخمينية بتأسيس الدولة الشيعية الحديثة ، وكانت النجف وقتها تعاني من الحصار البعثي ، وتضاءلت مكانتها الدينية ونشاطها العلمي ، وحدثت هجرات كثيرة من رجال الدين الشيعي العرب إلى قم في إيران وهو ما مهد لسيطرة إيرانية على المرجعية الدينية في عالم الشيعة ، وهذا أمر له تبعاته السياسية الواضحة .. ورغم محاولة الرموز الشيعية إلقاء التراب على الصراع المستفحل بين مرجعيات قم ومرجعيات النجف خاصة بعد سقوط النظام البعثي في العراق ، إلا أن بوادره وجذوره لا يمكن إخفاؤها ، ويمكن أن نلخص أهم منابع الخلاف بين قم والنجف في عدة نقاط :
أولا : ولاية الفقيه :(/1)
ينص مبدأ ولاية الفقيه الذي دعا إليه الخميني على أن يتولى المرجع الديني الأعلى مسؤولية الإنابة عن الإمام الغائب الذي ينتظر الشيعة ظهوره في آخر الزمان ليتملكوا وليسحقوا تحت قيادته أعداءهم من السنة ، وقد دفع الخميني إلى تبني هذه الرؤية المستحدثة في مذهب الشيعة غيابهم الكبير عن أداء دور فعال في مجتمعهم ، أو في الدولة التي يعيشون فيها ، واستغلال حكامهم لهذه السلبية المتوارثة وذلك بسبب انتظارهم للفرج – وإن كان ذلك لا يمنع من تحالفهم دوما مع الأعداء ضد السنة - وحتى صلاة الجمعة لا يصلونها لنفس السبب ، لذا كانت ولاية الفقيه تعتبر نقلة هائلة للفقيه من مهمة الإفتاء إلى مهمة قيادة الدولة بأسرها .. وهذا المبدأ من الخلافات الكبيرة لدى الشيعة ، وقد زادت حدة الخلاف بعد وفاة الخميني ، وحتى حفيده حسن الخميني الذي يعارض النظام القائم في إيران حاليا يرفض هذا المبدأ ، وعلى المستوى العراقي ، يغلب على مرجعيات النجف رفض ولاية الفقيه ، وحزب الدعوة الشيعي الذي تبناه النظام الإيراني أثناء حكم صدام وساعده في تأسيس فيلق بدر يرفض مبدأ ولاية الشيعة ، وهذا أحد الأسباب الرئيسية في الخلاف بين الحزب ونظام الملالي .. والملاحظ أن رؤية مرجعيات النجف لدور الفقيه السياسي وتحكيم الشريعة تختلف تماما عن الرؤية الإيرانية ، على الأقل في الوقت الحالي ، إذ يكتفي مرجعيات النجف بلعب دور من وراء الستار ودون تقلد منصب رسمي واضح ، وحتى مواقفهم السياسية يبدو فيها البعد الطائفي أكثر وضوحا من البعد الديني ، فعلى سبيل المثال كانت معارضتهم لبند اعتبار الشريعة مصدرا من مصادر التشريع بدلا من أن يكون المصدر الرئيس أو الوحيد ، أخفت بكثير جدا من معارضتهم للبند الذي أتاح للأكراد حق الاستقلال الذاتي أو معارضة الدستور الدائم بأغلبية ضئيلة في محافظاتهم الثلاث .. وهذا التنازل من قبل مرجعيات النجف يتيح لهم قدرة على التقية والمناورة السياسية بصورة أكثر من قدرة حكام إيران الذين يتقيدون بمبدأ ولاية الفقية ، بل الأصح أنهم واقعون في أسره ، ولا قدرة لهم على العبث به لان هذا سيعني بعبارة واحدة انتهاء حكم الملالي في طهران ..
ثانيا : زعامة الطائفية الشيعية :
احتلت قم مكانة سامقة في تاريخ المرجعيات الشيعية لمدة تربو على 25 عاما ، وهذا يعني أن كل مميزات هذه المكانة كانت من حق مرجعيات قم ، بما فيها الخمس الذي سنفرد له بندا مستقلا لأهميته ، وبينما كانت الحركة العلمية تتضاءل وتموت في النجف ، كانت قم تبدو مزدهرة تحت حكم الملالي ومزدحمة بآلاف الطلاب القادمين إليها من مختلف التجمعات الشيعية في العالم ، ويعبر عن ذلك محمد رضا ابن علي السيستاني المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف بالقول بحسرة واضحة : لقد مرّت النجف في أدوار من النشاط في السنوات الأخيرة ولاسيما سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية ، لم يكن يوجد طلاب ، والوافدون كانوا قلة نادرة خاصة من الدول الإسلامية ، والذين كانوا من خارج العراق من عراقيين وغيرهم توجهوا إلى الجهات الأخرى أي إلى الحوزات المنتشرة بقم، وأنتم تعرفون أن ثمة حوزات منتشرة في مشهد وغيرها ، الآن بدأ الطلاب يتوافدون رويداً رويداً، ذلك أن مساحة العمل محدودة ، قبل سقوط صدام، جاءني أحد رجال المخابرات وقال لي أن تلفزيون الجزيرة يريد أن يعمل برنامجاًً عن الحوزة في النجف بعد أن أخرج تحقيقاً عن الحوزة في قم، ونريد أن تتحدث في هذا البرنامج، فقلت له: عما أتحدث ، عن مجد سابق أم عن حاضر تعيس ؟ ، لا مجال للمقارنة بين الحوزتين في النجف وقم ، فهنا كتاب صغير لا يُسمح به – يعني بطباعته - في قم تتم طباعة أفضل الكتب وعشرات أخرى في أفضل طباعة وإخراج ، انظر وأنت داخل إلى النجف، لا شك رأيت أبنية كثيرة ، لقد بنوا فنادق ولم يبنوا مدارس " , ويعترف محمد رضا بان والده نفسه – إيراني الأصل – له في قم مدارس متعددة : " السيد الوالد السيستاني ليس له هنا مؤسسة بينما في قم توجد مدارس وجمعيات ومراكز تابعة له ، إلى جانب أكثر من300 منزل للطلاب ، نحن ننتظر الظروف المواتية لإنشاء المجمعات وبناء المدارس " .. أما الحديث عن الخمس ، وتأثير البعد المالي في أنشطة المرجعيات الدينية و الحوزات العلمية فهو حديث ملئ بالفضائح والتجاوزات ، وسيكون له مقام آخر إن شاء الله ..(/2)
تأملات في قوله تعالى لقد تاب الله على النبي ) ... ... ...
الحمد لله مقلب القلوب غفار الذنوب علام الغيوب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقبل توبة من تاب و يغفر زلة من أناب و يستر العيوب واشهد أن محمد عبده و رسوله ما زال يلهج بدعاء ربه ليثبت قلبه ويستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة و يتوب صلوات الله و سلامه عليه وعلى آله و صحبه و من سلك سبيلهم إلى أن يأمر الله الشمس أن تشرق من جهة الغروب أما بعد:
أخوة الإسلام إن المتأمل في قوله - جل وعلا -: (لقد تاب الله على النبي و المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) الآية..... إن المتأمل في هذه الآية ليعجب أن تكون التوبة على النبي وأن يتاب على النبي وأن يتاب على المهاجرين و هم من هم في سبقهم للإسلام و بذلهم مهجهم وأموالهم في سبيله يبتغون فضلاً من الله و رضواناً وينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون كما يتاب على الأنصار الذين آووا و نصروا و تبوءوا الدار والأيمان يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ثم أن يوصف هؤلاء المهاجرون والأنصار بإتباعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس إتباعهم في ساعة الرخاء و الميسرة بل إتباعهم في ساعة العسرة وكل هذه الصفات موحية بكمال الإتباع والانقياد والبذل و العطاء هذا في جانب المهاجرين والأنصار أما في جانب النبوة فيكفيك و صفه بالنبي فيا ترى كيف يتاب على من هذه أوصافه ومم يتاب عليهم إنها علامات تعجب كثيرة يثيرها هذا التعبير بالتوبة على من هذه أوصافهم.
إن المراد منا أن ندركه - والله اعلم - أن التوبة ليست بالضرورة توبة المذنبين بل قد تكون توبة لمقصرين والتقصير حاصل من كل البشر لا محالة مهما فعل المرء تجاه ربه ومولاه فهو مقصر, لم يعبده حق عبادته و لم يشكره حق شكره ولم يقم بما يجب عليه من حق خير قيام ولم يخشه حق خشيته ولم يقدره حق قدره أما ترى الحبيب - صلى الله عليه وسلم - يستغفر الله و يتوب إليه في كل يوم مائة مرة!
ألا وان التوبة في حال فعل الطاعة أوجب منها في حال المعصية حيث يهلك المرء في طاعته حين تعجبه تلك الطاعة فيمن بها على ربه أو يرى أنه استوجب أجرها ولم يلتفت إلى ما فيها من قصور لهذا يقول الله - تعالى - مذكرا نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في بداية بعثته (يا أيها المدثر قم فانذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر والرجز فاهجر) قال (ولا تمنن تستكثر) قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. قلت و لو تدبر الناس آيات الكتاب لوجدوا هذا المنهج واضحا جليا: و منهم طلب سليمان لتدارك نفسه من الهلكة حين رأى عرش بلقيس إمامه في طرفة عين فقال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم اكفر وهو نفسه المعنى الذي تنبه له إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - حين قال: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)
فالتوبة المنصوص عليها هنا أشمل من التوبة بسبب الذنوب والمعاصي إنها توبة المقصرين مهما بذلوا , توبة المعترفين بنقصهم و فضل الله عليهم , وان ما هم فيه من نعمة الإسلام والإتباع هو من الله فضلا و منا , توبة المصلين , توبة الصائمين , توبة المزكين أموالهم , الباذلين مهجهم في سبيل ربهم توبة المخاطبين بالإيمان (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (يا أيها الذين امنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا)
عباد الله لو تأمل كثير من المسلمين هذا المعنى لعلموا أنهم أحوج إلى التوبة من أي وقت مضى ولما قال قائلهم: قد صلينا - قد زكينا - قد صمنا - قد حججنا. فقد نصلى و نصوم و نزكي و نحج ولا يقبل ذلك -عياذا بالله - لأي سبب من الأسباب أقل ذلك ما يعتريها من نقص وخلافة و لذا وصف المؤمنون بأنهم يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سألت عائشة - رضي الله عنها -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات, أهو الذي يسرق و يزني و يشرب الخمر و هو يخاف الله - عز وجل -, قال لا يا ابنت الصديق و لكنه الذي يصلي و يصوم و يتصدق وهو يخاف الله - عز وجل -) أخرجه الإمام احمد و عند الترمذي و أبي حاتم (قال لا يا ابنت الصديق و لكنهم الذين يصلون و يصمون و يتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم)
فتأمل أخي كيف قادنا هذا التعبير إلى تلك المعاني الغزيرة وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. اسأل الله بمنه و كرمه أن يتوب عليا و أن يسبغ علينا نعمه و أن يوفقنا لما يرضيه.
الشيخ عادل بن سالم الكلباني ... ...
... ...(/1)
تأمّلات قرآنيّة
الكاتب: الشيخ أ.د.سعود بن عبدالله الفنيسان
جاءت آيات كثيرة تدعو إلى تدبر القرآن وتأمله كقوله تعالى:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:82]. وقوله:(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون:68]. وقوله:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29]. وقوله:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] والتدبر هو التأمل والتفكر الممزوج بالعمل عند النظر في آيات الكون المنظورة وآيات الكتاب المسطورة للاعتبار؛ فآيات الكون المنظور هي ضمن آيات الكتاب المسطور، لنتأمل سوياً قوله تعالى:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]. صح عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"أثيروا" وفي رواية:"ثورا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين" وقال كما في المسند (5/217):"إن للقرآن مناراً كمنار الطريق فما عرفتم فيه فتمسكوا به، وما شبه عليكم فوكلوه إلى عالمه" فعلى المسلم أن يتمسك بالمعلوم له، وما كان في الحلال والحرام مما يحتاج إلى اجتهاد فيوكل إلى أهله وهم العلماء. وإثارة القرآن هي تدبّره وتأمله، لقد صوّرت آية آل عمران وما بعدها النموذج الفريد من البشر أولئك الذين تدبروا القرآن حق تدبره حتى أصبح كل واحد منهم، وكأنه مصحف يدب على الأرض ويمشي في الأسواق، لقد كان رجال ذلك الجيل من البشر على مدار الزمان يتخففون من تلاوة القرآن أو حفظه، من أجل أن يتقصدوا ويتزودوا من تأمله والعمل به، قال أبو عبد الرحمن السلمي من كبار التابعين حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن حتى يعلموها ويعملوا بها، قال فتعلمنا العلم جميعاً.
ويقول عبد الله بن عمر بن الخطاب:"لقد عشنا برهة من دهرنا وأن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وأنتم اليوم تتعلمون القرآن قبل الإيمان، فيقرأ الواحد ما بين فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره".(/1)
نعم إن أجر تلاوة القرآن عظيم كما جاء في الحديث "إن في كل حرف عشر حسنات لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، ولكن أجر تأمله وتدبره أعظم من أجر تلاوته، وهذا ما فهمه الصحابة وهم رواة أحاديث فضل التلاوة، فقدموا أجر التدبر على ما دونه وهو أجر التلاوة نظراً أو حفظاً، ومن الملاحظ في آيات التدبر السابق ذكرها أنها جاءت بصيغة الخبر والزجر والحكاية عن أقوام أعرضوا عن تدبر القرآن فخسروا الدنيا والآخرة. تدل آية النساء على أن تدبر القرآن بتأمل معانيه ودلالاته سبب للألفة والوحدة والاتفاق، والإعراض عن تأمله أو الاكتفاء بتلاوته فقط سبب للفرقة والاختلاف والنزاع، وتدل آية (ص) على أن القرآن لم ينزله الله إلا من أجل التدبر، وفي التدبر بركة في العلم والعمل، ومن أعرض عن تدبره فهو مسلوب العقل، أما الآيتان من سورة (محمد) ففيهما أن من لم يتدبر القرآن فهو مقلّد جامد فيه شبه بأهل الجاهلية حيث أقفلوا عقولهم فلا يصل إليها من ضياء العلم والنور شيء، وهذا على مستوى الأفراد والشعوب والأمم، وها هو القرآن بين أيدي الناس اليوم يتلونه صباح مساء، وهذه أحوالهم التي لا تُحمد!! فلم يغن عنهم شيئاً، وأما آية سورة (المؤمنين) فتدلّ على أن كل من لم يتدبر القرآن، ويتأمل آياته فهو جاهل بليد ومتخلف جامد، ولو كان يُشار إليه بالبنان عند قومه، نعم لقد وردت نصوص وآثار عن السلف توحي بالتحرّج والتأثم في تفسير القرآن وجاءت نصوص أخرى تدعو إلى وجوب التدبر والتأمل فاتخذ الناس الأولى إلى ما شاء الله لهم منهجاً؛ لأنها أسهل وأدعى إلى الركود والدعة بحجة التدين والورع وأعرضوا عن الثانية لما فيها من النفع والجد وامتثال الأمر، فمن النصوص المشعرة بالتأثم في تفسير القرآن وتأويله حديث جندب بن عبد الله عند أبي داود والترمذي "من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ" ومثل حديث ابن عباس عند الترمذي "من قال برأيه في القرآن أو بلا علم فليتبوأ مقعده من النار" وثبت عن أبي بكر وعمر لما سُئلا عن قوله (وفاكهة وأبا) قال أبو بكر: أي سماء تظلّني، وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وقال عمر: هذه الفاكهة عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه، وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر؟! أما حديث جندب وابن عباس فلا يصح إسنادهما؛ ففي الأول سهل بن حازم القطيعي ضعفه البخاري وأبو حاتم وغيرهما، وفي الثاني عبد الأعلى بن عامر التغلبي ضعفه الإمام أحمد والنسائي وأبو زرعة وآخرون، وكذلك العكس، وإنما قد يصيب الرجل الأمر ولا يحصل له الأجر، أما الحديث الثاني فيتعين حمل معناه لو صح سنده على من فسّر القرآن أو قال فيه برأيه من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله كالآجال وحقيقة الجنة والنار، وكيفية صفات الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك، أو في الأحكام الشرعية من التحليل والتحريم.
ثم إن الذين حفظوا القرآن عن ظهر الغيب من الصحابة لا يتجاوز عددهم أربعة فقط (علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود) وأبو بكر وعمر ليسا منهم مع فقههما وعلمها بالقرآن، كما ذكر ذلك الإمام الذهبي وغيره، بل إن أبا بكر توفي ولم يختم القرآن، وعبد الله بن عمر بقي يحفظ سورة البقرة ثماني سنين، وهو أكثر الصحابة بعد أبي هريرة حفظاً ورواية لأحاديث رسول الله، ولما أتم حفظها ذبح بقرة شكراً لله. أكان يعجز عن حفظ هذه السورة ببضع دقائق؟! لا والله، ولكنه الفقه والتدبر قبل الحفظ وأثناء التلاوة.
قال ابن تيمية في جامع المسائل (5/41) :"إن نقلة الآثار قل فيهم الفقه والعقل كما أن ذوي النظر والاعتبار ضعف علمهم بآثار النبيين، ولن يتم الدين إلا بمعرفة الآثار النبوية، وفقه لمقاصدها الشرعية".
أما الآثار المروية عن السلف كأبي بكر وعمر في التوقف من التفسير بالرأي، فغير صحيح؛ إذ كيف يجهل أبو بكر وعمر وهما عربيان كلمة (الأبّ) في اللغة؟ وتفسير القرآن باللغة أحد أنواع التفسير كما يقول ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير تعلمه العرب من كلامها، وتفسير من ادّعى علمه فهو جاهل، وتفسير تعلمه العلماء".
ثم إذا كانت آيات الأحكام (500) آية على أكثر تقدير فإن جملة آيات القرآن كما يقول ابن عباس (6600) آية، فهل يترك أكثر من ستة آلاف آية من القرآن بدعوى الورع والزهد، ثم هذه وأمثالها قضايا أعيان لا عموم لها، فلا تصح دليلاً، فكل من روي عنه التوقف من السلف في تفسير القرآن بالرأي في موضع فقد روي عنه التفسير بالرأي في موضع آخر، فهذا أبو بكر صاحب المقولة السابقة في تفسير (الأبّ) في سورة عبس فسر (الكلالة) في آية النساء برأيه لمّا سُئل عنها قال: إني سأقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان: الكلالة ما عدا الوالد والولد".(/2)
أما عمر بن الخطاب فهو أكثر أهل بدر تفسيراً للقرآن بالرأي وكثيراً ما ينزل القرآن وفق رأيه، وهذا عبد الله بن مسعود يقول في تفسير آية البقرة (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة...) أقول فيها برأيي فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان "لها الصداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث"، ثم إن أغلب التفاسير المأثورة عن السلف من الصحابة والتابعين غير مسندة إلى الرسول فهي تفاسير بالرأي، بل كتب التفاسير المطبوعة المتداولة أغلبها تفسير بالرأي والدراية والقليل منها تفسير بالأثر والرواية.
ثم هل التفسير بالأثر المحمود إلا عين التدبر والتأمل الذي أمرنا الله به؟ وأوجبه على كل مخلوق من ذكر أو أنثى وصغير وكبير عامي ومتعلم فكيف يوجب الله علينا تدبر القرآن ومنه تفسيره، ثم يعرض الناس عنه بدعوى الورع وتعظيم القرآن؟ إنها –والله- دسيسة من دسائس الشيطان زيّنها للخاصة والعامة، وألبسها لباس الدين والورع، ورحم الله ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يوم قال:"يأتي على الناس زمان يخلق يدرس ويبلى القرآن في قلوبهم يتهافتون فيه تهافتاً قيل وما تهافتهم؟ قال يقرأ أحدهم فلا يجد حلاوة ولا لذة يبدأ أحدهم بالسورة وإنما نهمته قصده آخرها ثم تلا قوله تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:23) وإليك يا أخي طريقة سهلة للتأمل والتدبر في آيات القرآن:
1) اقرأ الآيات المراد تفسيرها من حفظك أو من المصحف مرتين أو ثلاثاً.
2) ثم اقرأ تفسيرها في تفسيرين على الأقل، واحرص على أن تكون طريقة كل مفسر تختلف عن طريقة الآخر.
3) ثم ارجع إلى تلك الآيات السابقة، واقرأها في المصحف – ولو كنت لها حافظاً- وحاول الوقوف عند كل كلمة أو حرف من الآية، وأحضر معك ورقة سجل فيها ما فهمته، وظهر لك من الآية والآيات.
4) ثم ارجع مرة أخرى إلى قراءة تفسيرها في واحد من كتب التفسير وقابله بما سجلته في ورقتك، ستجد أن نسبة كبيرة في التفسير المقروء بين يديك موجود في ورقتك، وإن اختلف الأسلوب، بل ربما ظهر لك معان صحيحة لم يذكرها ذلك المفسر.
وإذا أردت التأكد والطمأنينة على هذا المعنى الجديد الذي ظهر لك فعاود الخطوات السابقة (1، 2، 3، 4) فسيزول عنك الإشكال، وتزداد يقيناً وإن بقيت في المعنى الجديد متردّداً فأعرضه على من هو أعلى منك في التفسير فستجده يوافقك عليه أو بعضه.
اللهم إني أسألك العلم النافع والعمل الصالح. آمين.(/3)
تاج المدائح
مقدمة الشاعر
وأحببت الشعر زمناً طويلاً ، ذقته حلوا سائغا، وحسوته لذيذا فاترا، حفظت من الكثير، ونظمت الكثير، وأعجبت بالكثير.
أسمعه فأترنح منتشيا علي أبياته، وأقرؤه فأبقي مسرورا برائعة أتركه زمنا فلا يتركني، وأهجره حينا فيعود إلي غضا طريا.
وعجبت للشعر، واحة غناء، وارفة الظلال، ندية الظل باسمه الروض، حانية الأفياء، مترعة الجداول، باسقة الدوح.
وعجبت للشعر زاداً للمسافر، وملهاة للسامرن مسلاة للمهموم ، وسلوة للمكظوم.
وعجبت للشعر يهز المشاعر، ويحرك العواطف ويسجيش الذكريات، ويهدهد الخاطر.
والشعر الجميل، يشجع الجبان، فلا يهرب ويغري الشحيح بالبذل فلا يبخل! ويذهب سخيمة الحقود فيعفو.
الشعر المؤثر عالم من المشاعر والإيحاءات والفتات.
والشعر المؤثر عالم أيضا لوحة فنية، رسمت بريشة مبدع، حاكها ببراعة، فسنابل، وعصافير وورق، وحمائم، وتلال تحتضن خمائل ، ورواب تداعب جداول.
يري ابن الأطنابة الحجازي الموت رأي العين، فيركب فرسه هاربا! فيتذكر:
أقول لها وقد جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تسرتيحي
فيعود ويقاتل الرجال، ويثبت ثبات الأبطال.
وقطري بن الفجاءة كاد ينهار ، لما رأي الكماة في حومة الوغي ، فهتف بنفسه شعرا:
أقول لها وقد طارت شعاعا
من البطال ويحك لن تراعي
فيتنازل الأقران، ويفتك بالأعداء.
ويقتل القائد الشهيد محمد بن حميد الطوسي ، فتبكي البواكي، وتنتحب الثكالي، فيسجل فيه أبو تمام إلياذة:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
فيقول الخليفة : ما مات من قيلت فيه هذه الأبيات:
صلب عضد الدولة الوزير ابن بقية عند باب الطاق ببغداد ، فكانت فجيعة لأحبابه ، وقد نصب علي خشبة الموت ممزقا، فقام أبو الحسن الأنباري ليقول:
علو في الحياة وفي الممات
بحق أنت إحدى المعجزات
فيقول عضد الدولة: والله إنني وددت لو صلبت وقيلت في هذه القصيدة!!
ويهدر المعصوم ، عليه الصلاة والسلام، دم كعب بن زهير، فلا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، فيأتي مستسلما نادما تائبا منشدا:
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
فيعفو عنه المصطفي ويكسوه بردته.
ويهضم علي بن الحسين زين العابدين من حساده ومنوئيه، فيتوجه الفرزدق برائعته:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
فتصبح القصيدة تأريخا لزين العابدين ، لا يذكر إلا وتذكر معه
ويحكم النعمان علي النابغة بالإعدام فينشده.
وإنك شمس النعمان والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فيعفو عنه ويكرمه.
هذا غيض من فيض، فهل عرفت الآن تأثير الشعر؟
إن هرم بن سنان رهين لشعر زهير بن أبى سلمى، لأنه دون اسمه في التاريخ.
وسيف الدولة وافد علي بساط المتنبين لأنه أبقاه للسائلين.
والمعتصم أبو البطولات شهادة أبي تمام في:
السيف اصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
يقول جرير الشاعر: لو تركني الفرزدق لأبكيت العجوز علي شبابها. يبكيها بالقوافي، ويهيجها بالقصائد.
هذا هو الشعر إذا حسن عرضهن وأصاب المحز وشفي ما في النفس، والشعر ليس أسلوبا جميلاً بلا معني ولا معني بلا أسلوب، وليس أسلوباً جميلا بلا معني، ولا معني بلا أسلوب ، وليس أسلوبا ومعني بلا خيال، بل أسلوب ومعني وخيال.
الشعر شيء، والنظم شيء آخر.
لأن النظم يهتم بالمعني علي حساب اللفظ، والأسلوب والديباجة والتأثير.
والشعر الجميل هو الذي يترك في نفسك أثرا، ومشاعر وإيحاءات.
وأحببت الشعر لأنه ديوان العرب، وترجمان الصحراء، ولسان القافلة، وحديث السمار.
وأحببت الشعر لأنه بيت العرب، وترجمان الصحراء، ولسان القافلة، وحديث السمار.
وأحببت الشعر لأنه بيت العربية، وقانون اللسان، وذاكرة العربي الأصيل.
ثم أحببت الشعر أجمله وأرقاه، وأروعه وأحلاه.
وأخيراً أحببت الشعر مثلا وشاهدا ودعوة وسلوة ، وعزاء وموعظة.
اللهم فاجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعدما ظلموا.
عائض القرني
الرياض
1/1/1420هـ
تاج المدائح
أنصت لميمة من أمم
مدادها من معاني نون والقلم
سالت قريحة صب في محبتكم
فيضا تدفق مثل الهاطل العمم
كالسيل كالليل كالفجر اللحوج غدا
يطوي الروابي ولا يلوي علي الأكم
أجش كالرعد في ليل السعود ولا
يشابه الرعد في بطش وفي غشم
كدمع عيني إذا ما عشت ذكركم
أو خفق قلب بنار الشوق مضطرم
يزري بنابغة النعمان روانقها
ومن زهير؟ وماذا قال في هرم
دع سيف ذي يزن صفحا ومادحه
وتبعا وبني شداد في إرم
ولا تعرج علي كسري ودولته
وكل أصيد أو ذي هالة وكمي
وانسخ مدائح أرباب المديح كما
كانت شريعته نسخا لدينهم
رصع بها هامة التأريخ رائعة
كالتاج في مفرق بالمجد مرتسم
فالهجر والوصل والدنيا وما حملت
وحب مجنون ليلى ضلة لعمي
دع المغاني وأطلال الحبيب ولا
تلمح بعينك برقا لاح في أضم
وانس الخمائل والأفنان مائلة
وخيمة وشويهان بذي سلم
هنا ضياء هنا ري هنا أمل
هنا رواء هنا الرضوان فاستلم(/1)
لو زينت لمرء القيس انزوى خجلا
ولو رآها لبيد الشعر لم يقم
ميمية لو فتي بوصير أبصرها
لعوذوه برب الحل والحرم
سل شعر شوقي أيروي مثل قافيتي
أو أحمد بن حسين في بني حكم
ما زار سوق عكاظ مثل طلعتها
هامت قلوب بها من روعة النغم
أثني علي منظ أتدري من أبجلة؟
أما علمت بمن أهديته كلمي
في أشجع الناس قلبا غير منتقم
واصدق الخلق طرا غير متهم
أبهى من البدر في ليل التمام وقل
أسخى من البحر بل أرسى من العلم
أصفى من الشمس في نطق وموعظة
أمضى من السيف في حكم وفي حكم
أغر تشرق من عينيه ملحمة
من الضياء لتجلو الظلم والظلم
في همة عصفت كالدهر واتقدت
كم مزقت من أبي جهل ومن صنم
أتي اليتيم أبو اليتام في قدر
أنهى لأمته ما كان من يتم
محرر العقل باني المجد باعثنا
من رقدة في دثار الشرك واللمم
بنور هديك كحلنا محاجرنا
لما كتبنا حروفنا صغتها بدم
من نحن قلبك إلا نقطة غرقت
في اليم بل دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حرقي
إذا ذكرتك أو أرتاع من ندمي
لما مدحتك خلت النجم يحملني
وخاطري بالسنا كالجيش محتدم
شجعت قلبي أن يشدو بقافية
فيك القريض كوجه الصبح مبتسم
صه شكسبير من التهريج أسعدنا
عن كل إلياذة ما جاء في الحكم
الفرس والروم واليونان إن ذكروا
فعند ذكراه أسمال علي قزم
هم نمقوا لوحة للرق هائمة
وأنت لوحك محفوظ من التهم
أهديتنا منبر الدنيا وغار حرا
وليلة القدر والإسراء للقمم
والحوض والكوثر الرقراق جئت به
أنت المزمل في ثوب الهدى فقم
الكون يسأل والأفلاك ذاهلة
والجن والإنس بين اللاء والنعم
والدهر محتلف والجو مبتهج
والبدر ينشق والأيام في حلم
سرب الشياطين لما جئتنا احترقت
ونار فارس تخبو منك في ندم
وصفد الظلم والأوثان قد سقطت
وماء ساوة لما جئت كالحمم
قحطان عدنان حازوا منك عزتهم
بك التشرف للتأريخ لا بهم
عقود نصرك في بدر وفي أحد
وعدلا فيك لا في هيئة الأمم
شادوا بعلمك حمراء وقرطبة
لنهرك العذب هب الجيل وهو ظمي
ومن عمامتك البيضاء قد لبست
دمشق تاج سناها غير منثلم
رداء بغداد من برديك تنسجه
أيدي رشيد ومأمون ومعتصم
وسدرة المنتهى أولتك بهجتها
علي بساط من التبجيل محترم
دراست جبريل آيات الكتاب فلم
ينس المعلم أو يسهو ولم يهم
اقرأ ودفترك الأيام خط به
وثيقة العهد يا من بر في القسم
قربت للعالم العلوي أنفسنا
مسكتنا متن حبل غير منصرم
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعة
كأن خصمك قبل الحرب في صمم
إذا رأوا طفلا في الجو أذهلهم
ظنوك بين بنود الجيش والحشم
بك استفقنا علي صبح يؤرقه
بلال بالنغمة الحرا علي الأطم
إن كان أحببت بعد الله مثلك في
بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتقي ناظري من منظر حسن
ولا تفوه بالقول السديد فمي
محمد في فؤاد الغار
محمد في فؤاد الغر يرتجف
في كفه الدهر والتأريخ والصحف
مزمل في رداء الطهر قد صعدت
أنفاسه في ربوع الكون تأتلف
من الصفا من سماء البيت جلله
نور من الله لا صوف ولا خصف
والكفر يا ويحه غضبان من أسف
لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسف
ولا حمته سيوف كلها كذب
في صولة الحق والإيمان تنقصف
أتي الرسول إلينا والربى جثث
مطورة وعليها يضحك القرف
والظالم المارد الجبار محترم
جماجم الجيل في أسيافه نطف
نجوع نأكل موتانا وسهرتنا
كأس الضياع وليل أحمر دنف
جباهنا قبلة تعنو إلي حجر
وحفنة من لفيف التمر نعتلف
أعراب ويحكم ماذا يقيمكموا
قومية ليس في آنافها الأنف
علي موائد كسرى كسرت وانقشعت
تيجان من قتلوا الأحرار واعتسفوا
وحررت من بلال الحق مهجته
وظل ما نسج الباغون واقترفوا
وعاد أعظم قد لفت عمامته
علي الشريعة يحويها ويلتحف
أنا الجزيرة في عيني عباقرة
الفجر والفتح والرضوان والشرف
أنا الجزيرة في أعماقها رقدت
اشلاء أحمد تحوي نورها الغرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها
وفي حمى عرفات دهرنا يقف
جبريل يروي لنا الآيات في حلل
من القداسات والأملاك قد دلفوا
من السموات تهمي كل غادية
علي ديار بنوها بالهدى شغفوا
شكان دار العلا رواد كعبتها
حجاب وجه الحيا والحق قد عرفوا
من الحثالات طهرنا مرابعها
هزت مدافعنا الباغين فانصرفوا
وغسلت أدمع الأبرار تربتها
الدر يبقى ويفني الطين والخزف
الساكبون دماء الحق فما ظمئت
روح ومن دمنا الموار تغترف
والساجدون ونجم الليل يشهد ما
أضاعنا فيه من غنوا ومن عزفوا
وقاتلت معنا الأملاك في أحد
تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا
إياك نعبد من سلسالها رشفوا
أكفانهم بدماء البذل قد صبغت
الله أكبر كم في ساحاتها هتفوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا
جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم
من غير ترجمة زيحت له السجف
العرش يهتز من هول ومن حزن
لسعد إذ سفراء الوحى قد وقفوا
وسدرة المنهي غريدة بسمت
لأمة الضاد تهمي عندها التحف
لا اللوح ينسى ولا التأريخ يغفل عن
مسيرة النور تروي مجدها الصفف
سل المجرة هل نامت علي حلم
أحلي لها يوم أعلي نجمها السلف
وسل سهيلا مع الزهراء هل نظرت(/2)
أبها من الثلة الأخيار يوم صفوا
كل البرايا علي أصنامها عكفت
وقومنا عند بيت الله قد عكفوا
جبلة العدل نيطت في تمائمنا
إذا تظاهر دجال ومحترف
وهالة النور شعت بين أضلعنا
وغيرنا عن سناء النور قد ضعفوا
ثوب من الهدي والفاروق ينسجه
فيه صلاح ومأمون ومنتصف
هل أذن الفجر إلا في منائرنا
والشرق والغرب بالطغيان ملتحف
ذابت عيون وأسماع وأفئدة
حبا لمن نوره في الغار مكتنف
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده
من بحر علمك كل الجيل يغترف
أن لم تصغ منك أقلام معارفها
فالزور ديدنها والظلم والصلف
تأريخنا أنت أمهرناك أنفسنا
نمضي علي قبسات منك أو نقف
علي جماجمنا خص كل ملحمة
أغلى الرؤوس التي في الله تقتطف
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف
علي الصراط وفي أرواحنا طرف
فكن شهيدا علي بيع النفوس فما
تحوي الضمائر منا فوق ما نصفوا
سل قلبي
سل قلبي بأحاديث السمر
وانثر الأخبار في ضوء القمر
واترك الليل طويلا بالمنى
إن ليل الصب مطموس البصر
فإذا أغرى بك النجم فقل
أيها النجم رويدا فاستتر
أسق بالذكر فؤادا طالما
فقدت أحشاؤه طعم المطر
رب سبحانك فارحم مبلسا
واجم الفكر معمى بالسهر
يتهادى بذنوب جمة
تحت بردية ولكن ما كفر
يستبيح العذر منهوش القوى
سار في الركب عليلا فعثر
فأعد يا رب في أجفانه
دمعة الخشية أو نور الفكر
وارحم اللهم جسما ناحلا
ذابل المهجة في السير فتر
شوقه يسري ولكن جسمه
في خيام الحي شلو ينتظر
من وحي الهجرة
عد بذكراك علي قلب كسير
راعه الحزن واضناه المسير
حزنا من أمة غارقة
في الأمالي وهي في أمر نكير
سامها الأعداء خسفا فجثت
تتحامى سطوة الباغي الحقير
خالفت نهج رسول الله بل
نسيت سيرته وهو البشير
في ضمير الكون سجلت الهدى
وسقيت القلب من وحي نمير
كلما أبصرك القلب هفا
حولك البيد رغاء وزئير
قاطع الصحراء وثبا للعلا
دونما أي جواد أو بعير
هل درت أم القرى ماذا جرى
لبست بعدك ثوبا من سعير
وبكي الغار علي فرقاك لو
اسعفته الرجل اضحي في مسير
والرمال العفر صارت حللا
تتلقاك بتصفيق مثير
والبشارات همت في يثرب
كهنيء الغيث في اليوم المطير
والمحبون قليل صبرهم
قبل لقياك ألا اين البشير؟
فدموع الحب تروي قصصا
إنما الحب دموع وزفير
شخصت نحوك أبصار الورى
طلع البدر فذا الليل منير
اشرقي يا طيبة الخير علي
جبهة الدنيا وتيهي بالنذير
ثم مدي كفك الأقوي علي
هامة التأريخ فالله النصير
واسحقي كسرى ودكي قيصرا
واكتبي التوحيد في لوح الأثير
مسلم يخاطب الكون
قف في الحياة ترى الجمال تبسما
والظل من ثغر الخمائل قد همى
وشدت مطوقة العروس ورجعت
وترعرع الفنن الجميل وقد نما
وسرى النسيم يهز عطف عبيره
والماء في عطف الجداول تمتما
وتفتح الأزهار واعتنق الندى
هدر الغدير وكان قبل ملثما
والنبت قد شق الثرى فعيونه
فاقت إلي ضوء تألق في السما
والشمس أرسلت الأشعة في الفضا
بددا وقبلت الجليد فهمهما
وسرت طيور القاع تنشد في الربا
بيت القصيد سعادة وترنما
والنحل قد ترك الخلية مولعا
برحيق زهر ظل يسكب في اللما
وفراشة البستان ألقت نفسها
في سندس فوق البطائح وسما
وبكى الغمام من الفراق مشامت
في الأرض يضحك ترحة وتلوما
وتطاولت شم الجبال ونافرت
قمم التلال فلم تكن أبدا كما
والمؤمن اطلع الوجود مسلما
أهلا بمن حاز الجمال مسلما
فجثت لطلعته الجبال وأذغنت
إذ كان منها في الحقيقة أعظما
وقد اشرأبت كل كائنة له
فكأنه ملك يسير معلما
ورأي الحياة بنظرة قدسية
وبها إلي عز المهيمن قد سما
كشف الحجاب عن الغيوب فأشرقت
سبل الهداية قبله فتقدما
عرف الحقيقة واستنار بنورها
فتراه في عمق التفكر ملهما
في كل ماثلة تمر بعينه
عبر تعرفه الإله الأعظما
حبل الرجاء غدا به متمسكا
أنعم بحبل قط لن يتصرما
أتري الجمال بغير منظار التقي
حسنا ولو ملكت يداك الأنجما
أتظن أن الأنس يسكن برهة
قلبا ولم يك في الحقيقة مسلما
لا والذي جمع الخلائق في مني
وبدا فأعطى من أحل وأحرما
ما في ربوع الكون أجمل منظر
من مؤمن للسعد جد ويمما
إن مت يا جامي الحياة فإنما
هي نقلة تلقى حياة أوسما
في ظل رب كنت قد وحدته
تلقاه في الأخرى أبر وأكرما
بل كيف ترحل والحياة تقودها
ما للعوالم حول قبرك جثما
فأسعد فقد ظفرت يداك بصفقة
واهنا فإنك بعد لن تتندما
إلي الرفيق الأعلى
طلبت الهجر من بعد الوصال
ومن مثلي بنار البعد صال
ولكني عن الدنيا عزوف
رمتني بالسهام وبالنصال
ومهما فاتني منها قليل
وعندي ما يوازن بالجبال
عقيدة شرعة ألقت عصاها
وحطت رحلها بعد ارتحال
بها أنسي وتسليني وجاهي
سفينة رحلتي يوم انتقال
فقل للمؤمن احتقر الأعادي
نصرت أخا العقيدة بالجلال
حياتك من جمالك في جمال
وروحك رفرفت فوق المعالي
ضياؤك في الدجي إشراق بدر
أنار بوجهه سفح الرمال
ترنم للرحيل بكل لحن
أذان الفجر من فحوى بلال
وتحتقر الحطام فأنت أغنى
بما أحرزت من مال حلال
وتضحك للمصائب وهي تبكي
كفعل السيف يضحك في القتال
إلي الرحمن سافر بعد بعد
فذو الشوق المبرح لا يبالي
فكم لك من حبيب في جنان(/3)
ستلقاه وتظفر بالمنال
فبع دنياك تظفر عن قريب
تبيعك بالفناء وبالزوال
تاريخنا أنت
من أجل عينيك يروى الشعر والزجل
ناديت فيك الرجال الصيد يا رجل
عساك ترضى وكل الناس قاطبة
فدتك هامات من شيكت لها الحلل
عيب لغيرك أبياتي أرصعها
وخيبة إن سرت في غيرك السبل
وبسمة منك تكفيني وواطربي
فما أبالي أجاد الناس أم بخلوا
نشيدة أنا في كف الهدى نسجت
من لحن داود في الأحشاء تشتعل
دم ودمع وأحلام مسهدة
وأنهر من هيام في الهوى عسل
ذقت الصبابة في كأس الجوى أجلا
للعاشقين فصاحت مقلتي أجل
طرحت في عتبات الغار ملحمتي
والغار يعرف من حلوه وارتحلوا
غار الهدى وعيون الدهر رانية
تغازل الفجر طاب الحب والغزل
غار وفي مقلتيه كل أمنية
أملودة تتهادى عنده الأمل
فالليل فجر وآيات الهدى حلل
والمشرفية عند الغار ترتجل
واللوح يروي أحاديثنا مرتلة
والبيد يسجع في أسماعها الخجل
نعم أنا الغار في أرجائه ولدت
عقيدتي وشبابي فيه مكتمل
فيه اليتيم أبو الأيتام مرتجف
والوحي يهتف والأملاك تبتهل
اقرأ ولو كنت أميا فمحبرة
في راحتك مداد النور ينهمل
اقرأ ودفترك الدنيا وما حملت
واكتب علي هامة الصحرا أنا الأمل
اقرأ وأصحابك للأقلام خط بها
وثيقة النصر يروي متنها الأزل
هجرت في الغار كأس النوم فاغتسلت
بك الدياجي وقام الليل يرتحل
وصنت صوت الهدى يسري فراعده
يزلزل البغي والأصنام تقتتل
والمشرفيات في غار المنى صقلت
بكف خالد لم يفلل لها نفل
اسقيتها من سلاف النور وانتصبت
باسم الهدى وعليها الموت منسدل
جددتها في هوى بدر يلاعبها
عشاقها من كرام فيك قد قتلوا
تراقصت أنفس الكفار من جزع
يوم الكريهة والطغيان مبتذل
أعداؤك القدم شادوا الأرض من ذهب
وفي صحاف من الإبريز قد أكلوا
ومت درعك مرهون علي شظف
من الشعير وأبقي رهنك الأجل
لأن فيك حديث اليتم أعذبه
حتى دعيت ابا الأيتام يا بطل
تأريخنا أنت لا نرضى به بدلا
لو أن تأريخ أمجاد الورى بدل
ومنك صحوتنا الكبرى متوجة
في نفحة من عليل المسك تحتفل
كأن زاكيها أنفاسك ائتلفت
فالطيب من طيبك المأهول يتصل
تغدو إلي طيبة الآمال سافرة
يغني عن الكحل في أجفانها الكحل
إلي رياضك قي قبر ثويت به
فيه الهداية والتاريخ والدول
الدفاتر المرهونة
ضاع المداد وملت الكتاب
وتهاوت الأحراس والحجاب
وتنكست راياتنا وزحوفنا
فرت وفوق خصومنا أنصاب
نحن الأشاوش في المجالس كلما
طرب الندامى هزنا إطراب
غفرانك اللهم من تقصيرنا
القول مين والوعود سراب
غفرانك اللهم صرنا ضحكة
في العالمين أولو المعالي غابوا
غفرانك اللهم إما كاتب
يشري الحروف وشاعر كذاب
أوتارنا مسلولة وسيوفنا
قد أغمدت ورماحنا أخشاب
وأذننا من غير سحر في الربى
آذاننا قد شاقها زرياب
ما عاد يبهجني الحديث ولا اللمى
أبدا وصرت بمهجتي أرتاب
وأشك في الجدران وهي صديقة
فكأن حائطنا له أنياب
وصدفت عن نظم القريض معطرا
للمفلسين فكلهم نهاب
وحلفت يا جرح الأباء لأهجرن
تلك الديار فما لها أصحاب
ولأعبرن بمهتجي متقدما
فالمجد نهب ما له حجاب
مجدي متابعتي الرسول وشاهدي
فيما ادعيت الدمع والأهداب
ودمي تراقص في ملاعب نهجه
فيضا وأجفاني له أحباب
وأعيش في زمن قديم كله
سعد وفوق جبينه خطاب
هي هجرة الأرواح في دنيا الهدى
ما زارها وغد ولا هياب
فاعرف علي بدر الخلود قصيدة
تسبي القلوب ولونها جذاب
النهج توحيد وظهر مطيتي
زهد وزادي سنة وكتاب
أبدا سماويا ويحدو ناقتي
صوت اليقين وخيمتي المحراب
ونشيدتي علوية قد صاغها
جبريل في جو العلا جواب
بل عالمي مولدي في مكة
شرفات داري الغرب والبنجاب
لم يسب قلبي أغيد في طرفة
لغة الهوى وحديثه ينساب
ونسيت كل مراتع ميادة
فيها سعاد وزينب ورباب
وأتيت للتأريخ أدعو طارقا
لا طارق يدعى ولا بواب
أنا من أنا والناس حولي اصبحوا
مثل اليتامى ما لهم أثواب
أنا من أنا ودفاتري مرهونة
ويراع فكري ثائر مغتاب
أهوي برأسي وهو أشجع من يدي
وأحرك الأشجان وهي يباب
لا من حزيران استفدت رجولتي
ورجال سينا في الملاهي ذابوا
رشفوا بكأس الذل حتى اسكروا
وشعارهم يوم الوغى أحزاب
إن الذي قتل الحسين تعاقدوا
من شاركوا في قتله أو غابوا
للحاسدين علي المحاسد نعمة
تركوا جليبيباً له جلباب
السامري يظن موسي واهما
وهو الكليم وخصمه قصاب
فعلام تحرق أدمعا قد وضيت
وتظل تقلق ليلك الأعصاب
وكل بها ربا رحيما كلما
هجع الخلي تفتحت أبواب
فهناك فتح الله جل جلاله
وهناك فوز العبد والأطياب
وهناك كل رغيبة محبوبة
ما نالها الأمراء والحساب
الوحي مدرستي الكبرى
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن
أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
وفي ربى مكة التأريخ ملحمة
علي ثراها بنبينا العالم الفاني
دفنت في طيبة روحي ووالهفي
في روضة المصطفي عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرني
وفي الجزائر آمالي وتطواني
دمي تصيب في كابول منسكبا
ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فاينما ذكر أسم الله في بلد
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني(/4)
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا
ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت
آياتها فاسألوا يا قوم قرآني
جبريل يغدو علي قومي بأجنحة
من دوحة الطهر في نجواه عرفاني
بدر أنا وسيوف الله راغفة
كم حطمت من عنيد مارد جاني
كتبت تاريخ أيامي مرتلة
في القادسية للتاريخ شرواني
وما استعرت تعاليما ملفقة
من صرح واشنطن أو رأس شيطان
وما سجدت لغير الله في دعة
وما دعوت مع معبودنا ثاني
وما مددت يدي إلا لخالقها
وما نصبت لغير الحق ميزاني
فقبلت الكعبة الغراء تعشقها
روحي وأوارها في عمق أجفاني
وليس لي مطلب غير الذي سجدت
لوجهه كائنات الإنس والجان
لا أجمع المال مالي كل أمنية
طموحة تصطلي بركان وجداني
وكل فدم جبان لا يصاحبني
علي الشجاعة هذا الدين رباني
ليت المنايا تناجيني لأخبرها
أن المنايا أنا لا لونها القاني
ليرم بي كل هول في مخالبه
ما ضرني وعيون الله ترعاني
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهبا
أنعي المخاطر في الدنيا وتنعاني
مريض جسم صحيح الروح في خلدي
حب لأحمد من نجواه عرفاني
بلال صوتي هتاف كله حسن
آذانه في المعالي نبع آذاني
وعزم عمار في دنيا فتوته
أسقي شبابي به من نهره الداني
عصا الكليم بكفي كي أهش بها
علي تلاميذ فرعون وهامان
ونار نمرود أطفيها بغادية
من الخليل فلا النيران تصلاني
في حسن يوسف تاريخي وملحمتي
من صنع خالد لا من صنع ريحاني
داود ينسج درعي والوغي حمم
لا يحلع الدرع إلا كف أكفاني
يا جيل يا كل شهم يا اخا ثقة
يا ابن العقيدة من سعد وسلمان
يا طارقا يا صلاح الدين يا ابن جلا
يا عين جالوت يا يرموك فرقاني
يا بائعي الأنفس الشماء في شهب
في شقحب النصر أو في أرض أفغاني
يا صوت عكرمة المبوح يقطعه
قصف العوالي من سمر ومران
هيا إلي الله بيعوا كل فانية
فصوت رضوان ناداكم وناداني
مع الركب إلي الله
طويل الشوق يبقي في أغتراب
فقير في الحياة من الصحاب
ومن يأمنك يا نيا الدواهي
تدوسين المصاحب في التراب
وأعجب من مريدك وهو يدري
بأنك في الورى أم العجاب
ولولا أن لي معني جميلا
لبغت المكث فيها بالذهاب
ولكني كشفت الحجب عني
فكان النور من بعد الحجاب
رأيت الله في ذا الكون ربا
جميع الكائنات له تحابي
شواهد أنه فرد جليل
علي رغم المجادل بالكذاب
تأمل قدرة الرحمن وأنظر
سيهديك التأمل للصواب
ومد الطرف فيشتي النواحي
سؤالك سوف يرجع بالجواب
سماء لا عماد لها وأرض
تسير وفوقها قمم الروابي
فضاء لا انتهاء له وشمس
تضيء بحسبه بين السحاب
وماء من صخور بات يسري
يتيم في السهول وفي الهضاب
فشد كيانك الأدني برب
تنال بقربه شرف الجناب
أترضي أن تكون رهين طين
شبيها بالأرانب والذئاب
وإلا كيف يدعونا المنادي
هلموا إنه سوق المتاب
وكيف وحكمة الناموس تجري
وتصدق بالنبوة والكتاب
ابعد الطور إثر الطور ننسي
ونترك لا نقابل بالحساب
فعد للعقل واسأله يقينا
وحاول عتبه بعد العتاب
تمر بك السنون وأنت باق
علي عهد الفتوة والشباب
وكيف وشمس عمرك في دنو
وقد مازحت شيبك بالخضاب
ايافل نجمك الوضاح غبنا
بليل في متاه العمر خابي
ويمحى كل كتبت بغير جهد
ويغمد سيف ذكرك في النصاب
فقدم ما ترجى النفع منه
تزود فالرحيل علي اقتراب
وودع هذه الدنيا زهيدا
فقد أدمتك من كأس العذاب
وكيف تقيل والحادي ينادي
إلي الأخرى ورجلك في الركاب
تفيأ من ظلال الأرض حينا
ولا تغتر يوما بالسراب
وقف فوق القبور فرب ذكرى
ستحمدها وتؤي بالأياب
وإن أدنت في شك ووهم
فأنت أقل من قدر الذباب
فباعد باليقين الشك حتى
بنسبته ستظفر بانتساب
ورتل نغمة القرآن تلقي
يباعدك الثواب عن العقاب
وتابع مرسلا هاد حكيما
أشعة حكمة من كل باب
ملوك الإيمان
يا إله الكون قد أسلمت لك
رب فاغفر زلتي ما أحكمك
أبتغيها مدحة طهرية
تبهر البدر بليل محتلك
راجيا منك إلهي رحمة
تغسل الذنب وقد أمسيت لك
ايها المؤمن يا سعد الوجود
أنت بالإيمان في الدنيا ملك
فاخلص النية لله الذي
من تراب الأرض هذي صورك
وافتكر في الكون وأنظر وسعه
وتبصر يا أخي هذا الفلك
سترى الدنيا فضاء هائلا
منه آيات عجاب وحبك
وعمى قلبك لا طب له
وإذا دمت عليه قتلك
وعبيد الأرض لا حول لهم
وزوال الملك عنهم في وشك
أيها المؤمن لا تحفل بمن
يرفع السوط ومن يلقي الشبك
فارفع الذل ولا ترضى الخضوع
لرئيس مستبد أو ملك
أنت كالبركان لا يدري به
فإذا ثار تلظى واحترك
دمك الطهري لا تبخل به
وابذل النفس بساح المعترك
أو ما تدري بأخبار الشهيد
فاستمع مني فإني أخبرك
هو حي لم يمت في قبره
يا حبيب الله كم عز معك
فأنزل الجنة واقطف طلعها
واحتكم في ملكها ما أعجبك
وهنيئا ومريئا مفعما
بصفاء الحب قد أهديت لك
فاسأل التاريخ كم من بطل
اضرم السيف عليه وفتك
يا جميل الوجه ما غيره
فاشتك المولى عسى يقتص لك
الدمعة الخرساء
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها
إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة الأجيال فتنعشهم
ويدرك الموت أجيالا فيقنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها
وأكنف البيت قد عادت لبانيها(/5)
والأنيق العشر قد هضت أجنتها
وثلة الورق قد ضمت بواكيها
لا شيء يبهج عيني حين نظرتها
ولا جميل لنفسي قط يشفيها
سيان عندي شدو الورق في طرب
أو الوقوف علي قصر لتبكيها
أيقنت أني غريب الدار مرتحل
أنا المسافر آلامي أقاسيها
أعمي عن الحور قد غيبن في حلل
كأن بي رمدا في العين يؤذيها
كفى بديني عن الأدناس موعظة
وحسب قلبي من الإسلام توجيها
الشيب في القلب إن حل الوقار به
شيب الفتى هو أن النفس يعصيها
أني تعاف الخنا صماء خلت بها
وقدا من الهدى لا زيغ يناجيها
فإن يخالف فعلي ما أعتقدت به
فالقلب أفعم للرحمن تأليها
يا رب نفس كبت مما ألم بها
فزكها يا كريم أنت هاديها
أحفاد معاذ ومصعب
إفرحي كليتي ثم اطربي
ثم جودي للعلا واحتسبي
قلدي التأريخ عقدا زاهيا
وامنحي من نورك المرتقب
أخبري العلم عن أمجادنا
ببنيك الغر لا بالخطب
من بلادي يطلب العلم ولا
يطلب العلم من الغرب الغبي
وبها مهبط وحي الله بل
أرسل الله بها خير نبي
قبلة العالم فيها لم تزل
من زمان ضارب في الحقب
اطرح باريس واهجر لندنا
أتريدون الهدى من مذنب
أتعب الظمآن حقا نفسه
كيف يرجو ربه من سبب
أيها الخريج يا رمز الوفا
يا شعاع الأمل المرتقب
سر إلي الله بقلب مفعم
بالهدى وانفض غبار العجب
قل هو الرحمن آمنا به
واتبعنا هاديا من يثرب
لك عندي صحبة باقية
ليس نسيان الوفى من أدبي
وهو بعض الحق إن قمت به
كلنا خدن الطريق المتعب
قلتها صادقة اثبتها
ما القوا في يا أخي تلعب بي
فاهجر الدنيا ولا تحفل بها
لطوع أو شقي أو غبي
أنت أغني الناس بالعلم فلا
تشتغل عنه ببعض السبب
أخلص النية واصعد سلما
للمعالي خالصا للنجب
إن أردي الناس عندي جافيا
طلب العلم لجمع النشب
أنت من نسل معاذ فانتسب
وأعد شجوا لذكرى مصعب
وأعد لحن بلال في الورى
يتوالى عجبا من عجبي
مسهرا عينيك تمسي واجما
كم أطار النوم سامي المطلب
تارة بالوحي تتلو ضارعا
أو حديث المصطفي المطلب
وتراه والها بالفقه لا
يغتني من مطعم أو مشرب
والألى ناموا عن العليا بقوا
والمعالي ليس يؤتاها صبى
هكذا علمني ديني بأن
لا أري غير المعالي مشربي
خذ قصور الأرض وأملك كنزها
فكنوزي كلها في الكتب
ورسول الله دوما قدوتي
ناصر الحق بأمي وأبي
سالفي الأبطال من شاد العلا
في سماء المجد بين القضب
لا تحدثني عن الدنيا فكم
أقعدت من ماجد عن مطلب
خذ التقوى أخانا مركبا
إن تقوى الله خير المركب
والشهادات إذا لم تقترن
بالتقى صارت كخبث المكسب
فالأساطين من الكفار قد
أقحم العلم بهم في العطب
لا تبع ذمتك العظمى ولو
ألبسوك بشتا ذهبي
واطرح كل غفول آثم
إن شر الداء داء الجرب
فيراع العلم في كفك لا
يعدلنه السيف في كف الأبي
حقق الله بكم آمالنا
يا نجوما سطعت في الحجب
وسلام الله أهديه لكم
لبني داري وللمغترب
البازية
هذه القصيدة قيلت في سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ورعاه. عام 1406هـ.
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي
فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا
فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفوا لك الله قد أحببت طلعتم
لأنها ذكرتني سير أسلافي
والمدح يا والدي في غيركم كذب
لأنكم لفؤادي بلسم شافي
يا دمع حسبك بخلا لا تجود لمن
أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا
بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم
ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم
أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت
لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها
كما غدا الطل في إشراقه الصافي
تشفي بفتياك جهلا مطبقا وترى
من دقة الفهم درا غير أصداف
تهوى الدليل فلا رأي ولا هذر
وما اعتمادك قول المذهب الطافي
فعلمك الوحي لا من علم حضرته
رأي الرجال ومن كاف وكشاف
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حللا
منسوجة لطفيلي وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف
لا ترتضي عيش أوغاد وأجلاف
فأنت فينا غريب الدار مرتحل
من بعد ما جئت للدنيا بتطواف
سريا أبي واترك الدنيا لعاشقها
في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
أراك كالضوء تجري في محاجرنا
فلا تراك عيون الاغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها
في نغمة الوحي من طه ومن قاف
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة
وعذرها انها في عصر إنصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره
من حبكم والدي أضعاف أضعاف
يفديك من جعل الدنيا رسالته
من كل أشكاله تفدى بآلاف
تألق وإشراق
يا نفس هذا نداء الخير ناداك
فاستوقفيه إذا ما جاء يلقاك
ما أنت إلا حياة في جوانحنا
ونفقد العيش طرا إن فقدناك
طيري إلي فنن العلياء والتمسي
جنات من أوجد الدنيا وسواك
فأنت إن لم تنالي ضوء طلعته
فلا رأت قبسا في الكون عيناك
تألقي وألبسي ثوب اليقين فما
جدوى الحياة إذا فاتته يمناك
حومي علي دوحة الإيمان ثم قفي
لقد ملكت العلا منها فبشراك
الضيف المحبوب
مرحبا أهلا وسهلا بالصيام
يا حبينا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم
كل حب في سوى المولى حرام(/6)