فهناك حكمه لاشك في ذلك لأن كل شيء من خلقنا محكم، ولكن هذه الحكمة غابت عنا لماذا غابت عنا؟ لأنها تختفي في نفس الخالق سبحانه وتعالى، أرأيت لو جئت بجهاز الكتروني معقد غاية التعقيد، وأردت أن تعلم الحكمة منه كيف السبيل لكي تعرف الحكمة من هذا الجهاز المعقد الثمين الغالي، أن تتصل بالذي صنعه أو بمندوبه الذي أرسله فعندئذ تعلم الحكمة من هذا الجهاز، وإلا فستفسده والإنسان لم يتمكن بعد أن يعرف أسرار تركيبه فهو يسأل نفسه هذه الروح ما هي ما حقيقتها؟, العقل ما حقيقته كيف أعي كيف أفهم أسرار كثيرة يجهلها من نفسه، فأنى له أن يعرف الحكمة من خلقه ووجوده فلا سبيل إلا أن يتصل بالذي خلقه وأن يعرف خالقه.
بعض الناس يتعجل ويحدد لنفسه هدفا، هذا يقول أنا أكون زعيما، وهذا يقول أنا أكون قائدا عسكريا، وهذا يقول الحكمة من خلقي أني أجمع الأموال، وهذا يجعل هدفه في حسبانه أن يكون صاحب درجات عالية في الجامعات، ويكون مشهوراً ويكون... أحقا هي هكذا الحكمة هي هكذا متعددة ومتنوعة، إن حكمتنا ترتبط بخلقنا وخلقتنا واحدة.
جسمك وجسمي وجسم الملك، والزعيم، والوزير ،والقائد، والطبيب، والضابط تركيب واحد، نفوسنا بسنن واحدة كلنا نحب ونكره، وكلنا نخاف ،ونطمع التركيب النفسي والتركيب البدني واحد.
فالحكمة يجب أن تكون واحدة، فلا ينفع أن نصطنع لها أهدافا، وأن نقضي حياتنا من أجل تلك الأهداف المصطنعة المزورة غير الحقيقة وإلا لماذا نموت؟ هذا قد أصبح زعيماً لماذا يموت؟ وهذا قد أصبح علما من كبار العلماء لكن لماذا يموت؟ لو كان خلق من أجل أن يكون عالما ومن أجل أن يكون زعيما ومن أجل أن يكون... لماذا؟ لأنه حقق حكمة وجوده.
- إننا قد خلقنا لحكمة ولا بد أن تكون هذه الحكمة واحدة من خلق كل إنسان على وجه الأرض لأن التركيب واحد؟، وكذلك لا تتغير هذه الحكمة من جيل إلى جيل.
فالبشرية كلها تخضع لحكمة واحدة ،حكمة واحدة الجميع مخلقين لها، وخِلقتك هي نفس خلقت الذين عاشو قبل مائة سنة، وقبل ألف سنة، وقبل آلاف السنين لان التركيب ما تغير ،والخلقة ما تبدلت لذلك يجب أن تكون حكمة واحدة مهما حاول الناس أن يبحثوا فالطريق الوحيد لمعرفة هذه الحكمة هي أن يتصلوا بالذي خلقهم.
- وفي الحقيقة مع أنها في غاية التعقيد على من يريد أن يبحث عنها في غير الطريق الصحيح لمعرفتها، ومع ذلك فهي في غاية البساطة، الحكمة من القلم يحددها الذي صنع القلم، الحكمة من السيارة يحددها الذي صنع السيارة، من الطائرة من الغواصة من أي شيء من أي آله الحكمة منها من الذي يحددها؟ الذي صنعها.
- والسؤال الثاني: وهل تعمل وفق مراد الذي صنعها؟
إذا الحكمة من القلم أن يعمل على مراد الذي صنعه، ومن السيارة أن تعمل على مراد الذي صنعها، ومن الطائرة وهكذا.
إذاً الحكمة من نفسك وخلقك هي أن تعمل أنا وأنت وهو وهم على مراد الذي خلقنا وأوجدنا هذه هي الحكمة، معقول يخلقنا لنعمل على مراد غير مراده سبحانه الحكمة واضحة، هي أننا خلقنا في هذا الوجود وجئنا إلى هذه الدنيا من اجل أن نعمل على مراده جل وعلا ، علمنا على مراده اسمه العبادة قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات:56-57] هذه الحكمة غير قالبة للتعديل غير قابلة للتغيير.
تأمل هل يمكن أن تغير الحكمة من عينك؟ أحدهم يقول أنا ما أريد أن تكون العين للنظر أنا أريد أن أغير الحكمة منها، نقول له لا تستطيع هي ركبت من اجل أن تنظر، لا تستطيع أن تغيرها تجعلها فم تأكل منها،ولا أحد يستطيع أن يغير الحكمة من أذنه يقول أنا أغير الحكمة من أذني أريد أن اجعلها أنف.(/46)
يا أخي: هي منذ خلقت، خلقت لغاية حددها الذي خلقها، والذي صنعها هكذا أنت بأكملك أنت بأكملك خلقت لغاية حددها الذي خلقك لا تستطيع أن تغيرها ولا تستطيع أن تبدلها، لا تستطيع إلا أن تسير فيها، وتحققها وهي أن تعمل على مراده جل وعلا وقد بين الله ذلك فقال { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات:56-57] والذين يبلغون لنا أحكام تفاصيل هذه العبادة هم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أيدهم الله بالبينات وبالمعجزات، وقد مر بنا بينات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ولذلك نحن نتلقى منه التوجيه، ونحن على ثقة واطمئنان بأنه الرسول الذي بعثه الله إلينا، فرسل الله إذاً هم الذين يبلغون ما يريد الله جل وعلا { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل:36]. اجتنبوا الطاغوت ،كل من يصنع له فكرة في رأسه تخضع لغير الله جل وعلا إنما هو يطغى بفكرته أو يطغى بصنمه ووثنه، أو يطغى بمعبوده الجديد لأن كل غير الله معبود لله، فإن تعبده وتترك عبادة الله فقد رفعت هذا المعبود من مقام العبودية إلى مقام الألوهية فهذا طغيان وتجاوز للحد، وهذا طاغوت والإيمان الكامل هو أن نكفر بالطاغوت وأن نعبد الله جل وعلا.
كل من أراد أن يعبد من دون الله نكفر به، ونعبد الله وحده لا شريك له.
–هذه الدنيا سننها وقوانينها، أو بلغة المهندسين، قد صممت لتتناسب مع وظيفة خلقتنا فيها، وهي أنها دار ابتلاء وامتحان لموضوع العبادة .
الآن جئنا المطلوب أن نعبد الله ولكن هذه العبادة ما الغاية منها؟ رتب الله عليها جزاءً وثوابا، إذا هي دار الابتلاء ، هذه العبادة سنن الله جلا وعلا في هذه الدنيا قد هيئت لتحقيق وظيفة وجودنا عليها، جئنا إلى هذه الدنيا من أجل أن نبتلى ونمتحن فيها؟ في موضوع العبادة فالله يقول إن أطعتموني أو أطعتم رسلي وحققتم العبادة أعطيكم الجنة وأثيبكم حياة أبدية، وإن عصيتم فإن هناك دار أخرى، وهناك منزلة أخرى هي نار جهنم هي معدة للكافرين، ولكن تفضلوا أدخلوا هذه الدنيا إنها دار ابتلاء وامتحان واختبار هل تعبدون أم تعصون؟ ثم زين لنا هذه الدنيا وجملها في أنظارنا، وزين لنا الآخرة، وجعل هناك طرقا للفوز بزينة الدنيا هي دين الله، ولكن الذي لا يريد أن يسلك هذا الطريق وتشغله بهارج الدنيا، وشهواتها وزينتها، يريد أن يصل إليها على غير مراد الله فالدنيا مزينة ،والإنسان طماع يريد أن يحقق أكبر قدر من ذلك لكن الشريعة التي تقول له لا ، خذ وفق هذا الطريق وفق هذا النهج ، ولك الدار الآخرة، وهي أعظم فزين الله الآخرة في أنظار المؤمنين، زين الله الآخرة في كتابة، والوحي الذي جاء من عنده، وزين الدنيا أمام أعيننا وأنظارنا، وهنا الابتلاء فإن كان الإيمان قوي أكثر من ذكر الله جل وعلا ،وأطاع الله وصبر على تلك الطاعة.
وإن كان الإيمان ضعيفا قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج:11].
فهي دار ابتلاء وامتحان، قال تعالى { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف :7]. وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [الملك:1-2].
زين للناس هذا التزيين الذي أشرت إليه قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران:14]
ثم تأمل كيف أن هذه الدنيا جعلت للابتلاء والامتحان، عندما ندخل إلى الدنيا أنا وأنت، والملوك والرؤساء، والكل ندخل إلى الدنيا عرايا لا نملك شيء.
ثم نعطى بعضاً من المتاع، ومن العلم، ومن الجاه، ومن القوة، واستخلف ما شاء الله أن يستخلفنا فإذا ما تصرفنا فيها أربعين, خمسين, سبعين, ثمانين, مائة سنة جاء الوعد, سلم الودائع, أخرج من الدنيا, فنخرج عرايا لا نملك شيئاً كما دخلنا إليها، دخلنا لا نملك شيئا وخرجنا لا نملك شيئا { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } [الأنعام:94].
إذاً ينشأ هنا سؤالان.(/47)
لماذا أعطانا الله جل وعلا ؟وهو سيأخذها منا، وما قصد أن يمكنا تمكينا أبديا أعطانا لتمليك مؤقت لأنه سيأخذها بعد ذلك، ثم لماذا أخذها منا وقد أعطانا؟ الجواب واحد فقط هو أعطاك يبتليك كيف تتصرف عندما يعطيك وليس القصد الإعطاء والتمليك ويسلب منك، وليس القصد إظهار القوة لأنه أصلا ما كان معك شيء ،وهو الذي أعطاك فهو أعطاك ولا يقصد التمليك، وسلب منك ولا يقصد السلب فالمقصود منه الابتلاء والامتحان ، ترى أن الطالب يدخل الامتحان وخاصة في الكليات العملية فيعطى الأجهزة، ويعطى الأوراق ويعطى كذلك..، وهو يتصرف ثم يضع كل ما معه، ويمشي هكذا هي الدنيا، ولكي يتحقق هذا الابتلاء والامتحان الله يقلب القلوب على أحوال متعددة لتكشف حقائقها فيبتلينا في الخير والشر، فمن الناس من يثبت عند الشدائد لأنه عنده، شكيمة وبطولة وحمية لكن من الناس من لا يثبت، إذا تبدلت هذه الشدائد إلى رخاء ومال وصحة وقوة وشهوات وأهواء فكذلك الله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى يبتلي الناس بالشدائد { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [البقرة:155]. ثم يبدل الله فيمكنه ويستخلف { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } [النور:55].
والى هذا تشير الآية { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء:35]. { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [الفرقان:20]. هذا أضعف من هذا ،وهذا أقوى من هذا أنت تحتاج لهذا وأنت تحتاج إليه.
وللابتلاء سنن ، الحياة كلها من أجل تحقيق ذلك الابتلاء، ثم هذا الابتلاء أخذ صور استخلاف وتمكين في هذه الأرض، وترى هذا الإنسان يتصرف وكأنه سيد وكأنه المالك وكأن كل شيء بيده، ولكن في الحقيقة ليس هو المالك الحقيقي هل تملك شحما أو لحما أو عظما أو دماً؟ هل تملك سمعك وبصرك؟ هل تملك أولادك؟ هل أنت أوجدت ماءك وهواك أو أرضك وسماءك؟ أنت لا تملك شيئا ولكنك تتصرف وكأنك المالك إذن مثالك كمثل صاحب عمل في مصنع أو مزرعة أو في متجر، وليس المالك لهذا المتجر وليس المالك لهذا المصنع ولكنه يتصرف وكأنه المالك يأتي يبرم الاتفاقيات،ويبيع ويشتري ويصدر الأوامر للعمال نسأله هل أنت المالك قال لا: لكنك تتصرف كما تريد معنى ذلك أنت مستخلف من قبل المالك الحقيقي.(/48)
هذا الإنسان يتصرف وكأنه سيد على هذه الدنيا إذن هو مستخلف لأنه ليس المالك، لأنه ليس هو الذي أوجد هذه الأشياء فهو إذن مستخلف في هذه الدنيا ،ولكن هل المستخلف يتصرف كما يشاء في نفسه لا ، مدير المصنع مدير المزرعة مدير المتجر له الحق أن يتصرف فيما وضع تحت يده لكن هو يخضع لأوامر الذي استخلفه، وكذلك هذا الإنسان يتصرف في هذا الملكوت وكأنه السيد فيما بين يديه، وهو يجب أن يخضع لأوامر الذي استخلفه ومكنه يقول الله جل وعلا { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحج:65]. ويقول: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية:13]. منه سبحانه وتعالى لماذا قال تعالى: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:129]. هو يستخلفكم لينظر كيف تعملون هذه هي الحقيقة ثم يأتي الموت تفضل اخرج، أنا رئيس أخرج أنا ملك أخرج، نحن شعب عندنا الصناعات عندنا كذا فجرنا الذرة غزونا، وصلنا المريخ أخرج أنت عبد أنت تقضي فترة امتحان واختبار أجب: { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الواقعة:83-87]. فلولا إن كنتم غير مدينين، أي إذا كنتم لن تحاسبوا ،ولن تسألوا على ما أعطيتم من مسؤوليات، لأن الاستخلاف وراءه مسئولية لكنك أعطيت صلاحيات لازم تسأل إذا كنت لا تدان ولا تسأل عن ذلك بالله لا تموت أمنع لا تموت، امنع عن نفسك الموت { فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الواقعة:86-87] ياالله ياالله ارجع إلى هذه الدنيا أن كنت صادق، أمنع عن نفسك الموت أنت عبد دخلت إلى الدنيا بدون إرادتك، وبقيت فيها بدون إرادتك فأنت تنمو من ضعف إلى قوة إلى ضعف مرة ثانية، وتنام وتخاف وتعطش وتحتاج الهواء، وتحتاج الضروريات التي هي محكوم عليك بها فلا تملك إلا أن تستسلم غير ممتلك ثم تخرج متى ما شاء ربك سبحانه وتعالى، ولا تملك أن تتأخر عن شيء من ذلك إلى أين؟ تفضل عملت فما بقي إلا الحساب،هذه الدنيا الغاية فيها العمل، وإلا كل شيء يفنى إلا العمل أنظر لو أنك أسأت إلى شخص قبل خمس سنوات ولقيته اليوم، وقال لك يا أخي أنت أسأت إلي قبل خمس سنوات،تقول له يا أخي تغير كل شيء من خمس سنوات،نعم تغير كل شيء لكن العمل ما ضاع الإحسان وكذلك الإساءة لا تضيع، هذا صحيح كم أجيال راحت لكن العمل ما ضاع، فهذه الدنيا يبقى فيها العمل لأنها مركبة ومصممة وسننها قائمة على أن يعمل فيها الإنسان، ثم الخروج منها الاستعداد لدار الجزاء والتوجه لكي يجد الإنسان حسابه وجزاءه { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران :185]. حقيرة لا تكتشف أنها غرتك إلا عندما تنتهي انظر إلى عمرك الذي مضى إلى الآن؟ سل نفسك الآن؟ عمرك الذي مضى ما قيمته لديك؟ هكذا قيمة الحياة كلها عند الموت متاع الغرور فلا تنخدع، ثم إلى أين؟ لن تترك سدى، إن كل شيء محكم في هذا الوجود من الذرة إلى المجرة،إن خلقك محكم من أصغر جزء فيك إلى أكبر جزء إليك بأكملك، كيانك بأجمعه والعقلاء لا يعبثون إن العبث من أمر المجانين، فكيف بمن خلق العقلاء والحكماء فكيف بمن أحكم خلق الأرض والسماء إذن لا يمكن أن يكون الموت عبثاً ،وأن تذهب سدى يقول تعالى { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ القيامة:36-40]. يعني لو أني أردت أن أضيعه أضيعه وهو نطفة، إذا سألت الأطباء بداية خلقنا ما هو؟ الجواب نطفة صغيرة زيجوت- الأمشاج- هذه الأمشاج إذا أردت أن تراها بعينيك لا تراها بالعين المجردة، إذا أردت أن ترى الملك في أول نطفة يكون فيها لا ترى الملك ولا ترى الزعيم، ولا ترى أحد هذه بدايتك وبدايتي، فلو أردا أن يضيعك سدى يضيعك وأنت نطفة، يضيعك وأنت علقة يحفظك في أصغر شيء لا يرى بالعين ثم يضيعك بعد كمال عمل وسعي وتصرف لا والله { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ(/49)
فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [ القيامة:36-40]. يعني إنه على كل شيء قدير سبحانه، إذن ما خلقنا عبث ولا نموت فنذهب سدى وهذه الحياة الغاية منها هي أن تعبد الله، وهي موضوع الامتحان على هذه الدنيا فما هي العبادة؟ العبادة قال بعض العلماء هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ،والعبادة باختصار أن تعمل وفق ما أراد لك هذه الخلاصة, خلقت لماذا؟
الجواب: لتعمل وفق ما أراد الذي خلقك بيديه ،من البديهيات جميع المصنوعات تعمل وفق مراد صانعها وأنت يا أخي تعمل وفق مراد الذي خلقك وأوجدك إنك ما خلقت نفسك إذن لك خالق، إذن حكمة ربك أن تعمل وفق مراده، وهناك أمور خاصة بك يجب أن تسلم أمرك لخالقك في كل شؤونك الخاصة يقول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب:36]. وكذلك في الأمر العام، وديننا دين الإسلام هو الدين الكامل الشامل الذي ما ترك جانباً من جوانب الحياة إلا ونظّمه ووجّهه في كل شؤون الحياة، في السياسة في الاقتصاد، في الإدارة ،في الاجتماع ،في الأخلاق في العلاقات الدولية، في القضايا الشخصية في كل صغيرة وكبيرة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:3] وكما أنه يجب على الفرد أن يطيع يجب على الأمة أن تطيع الله جل وعلا ،وأن تخضع لأمره وأن تحقق عبادتها له ،في هذا الزمان حدث فيه تطور حدث فيه تقدم، والشريعة الإسلامية التي نزلت قبل 1400 عام لا تتناسب مع هذا الزمان، قالها لي أحد سفراء بعض الدول الغربية في صنعاء قال الدين كامل اكتمل قلت نعم قال الحياة اكتملت قلت لا قال كيف تقول إن الذي اكتمل كيف يستجيب لمتطلبات الحياة التي لم تكتمل؟! قلت له الحكمة من عينك هي نفس الحكمة من عين الذي كان يعيش في زمن المسيح وفي زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم حكمة واحدة قلت الأنف والأذن والقلب واليدين والكبد والرجل والبدن بأكمله قال نعم تركيب واحد ما تغير قلت له، والتركيب النفسي أنت تحب وتكره وهم كانوا يحبون ويكرهون، قال نعم تراكيب نفس واحدة، إذن نحن أمام شخصية بشرية تركيبها واحد، التركيب البدني واحد والتركيب النفسي واحد ما تغيرت ما تبدلت قلت، إذاً الدين جاء من أجل هذه الفطرة التي لم تتبدل ولم تتغير وهو كامل لأن الفطرة اكتملت أيضا خلقها فطرة كاملة، والدين كامل والدين جاء وفق هذه الفطرة، أضرب لك مثال الآن هذه سيارة تصنع، هذه السيارة التي تصنع وفق خطة هندسية سيارة يرسمها مهندس ويبين كيف تعمل هذه السيارة وهذه اسمها الكتالوج فإذا كان عندنا مليون سيارة من نفس الطقم والموديل ووزعناها في الأرض، وأخرجناها على فترات زمنية مختلفة فإن الكتالوج لا يزال صالح لها جميعها مهما كان الموقع الجغرافي، ومهما كان وقتها الزمني لأن التركيب في هذه السيارة ما تغير وما تبدل، كذلك أنت أيها الإنسان خلقتك وفطرتك ما تبدلت وما تغيرت، ولذلك الذي أصلح الناس في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يصلحهم اليوم، وسيصلحهم غداً لأن الفطرة ما تغيرت ولان فطرتنا جاءت وفق هذا الدين كما قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الروم:30] ففطرتي وفطرتك واحدة، وغايتي وغايتك هي أن نعبد الله سبحانه وتعالى فنفوز ،ونكون من الفائزين، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الفائزين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تفريغ: محمد البكري مراجعة: خالد حسن البعداني
علي عمر بلعجم
( - بداية الجهة الثانية من الشريط ، يظهر حصول سقط من المصدر .(/50)
برجسيات التربية الإلكترونية..
عبدالفتاح الشهاري
لم تعد مصادر التربية وزرع الأخلاق محصورة على فئة معينة تنحصر في الأب والأم والمعلم، بل أنه وفي هذا العصر تحديداً لعبت التكنولوجيا دوراً كبيراً وهاماً في هذا الباب، وأضيف إلى تلك الفئات مصادر تربوية أخرى تتمثل في الفضائيات والأفلام والمسلسلات فكان لها الأثر الأكبر في التوجيه التربوي للناشئة، ثم تتابعت العوامل الخارجية التي زاحمت ليكون لها دور في هذا التوجيه فكان أن وجدت ثورة الاتصالات وما تبعه من إفرازات جبارة وهائلة تمثلت في الإنترنت وسهولة الاتصال المباشر الحر والمفتوح مع أي شريحة من المجتمع كانت مهما كان التباين في الأعمار أو في الأجناس حتى اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الثقافات، وامتزجت المبادئ حسنها مع سيئها، وجميلها مع قبيحها، فأصبح الباب مشرعاً على مصراعيه أمام الجميع ليأخذوا من بعضهم ما شاءوا، فيُستدرج الصغير إلى ثقافات الكبير، وتتلقى المراهقة حكايات المطلقة، وترتفع شعارات المحادثات بمسمى الحب العفيف والصداقة البريئة، ثم ما لبث أن توغلت التكنولوجيا بقوة لتداهم البيوت وعبر الإنترنت ببرامج وتقنيات جديدة تتابعت وتسارعت كتسارع النار في الهشيم حيث تجاوزت غرف الحوار عبر الإنترنت مسألة الحوارات المكتوبة بين الأطراف إلى إمكانية ظهور صورة أحدهم للآخر، ثم تفاقم الحال لتدخل وسيلة (الكاميرا الرقمية) ثم انتشار وسيلة (البالتوك) لتمثل وتجسد ما كنَّ عليه بغايا الجاهلية ممن يعرفن بصاحبات الرايات الحمر، فأصبحت غرف (البالتوك) مواخير لفعل الفاحشة، وحظيرة لتعليم الزنا والعياذ بالله حيث أتاح من خلال الصوت والصورة والحركة أن تقوم الفتاة بتجريد جسمها من الثياب تماماً يصاحب ذلك تشجيع وتصفيق من باقي زوار تلك الحانات حتى تستمر في غيها وظلالها مستلذة بعبارات الإعجاب، والإطراء، والثناء الكاذب:
خدعوها بقولهم حسنآء ..... والغواني يغرَّهُنَّ الثناء
وفي الخط الموازي لهذه التطورات الإلكترونية عبر الإنترنت يصاحب ذلك وفي الجهة المقابلة تسارع مرعب لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة عبر أجهزة الهواتف المحمولة؛ حتى أنتجت لنا هواتفًا تحمل تقنية التصوير الفوتوغرافي والفيديو إلى مدة تصل إلى الثلاث ساعات أي بمعدل شريط فيديو كامل..
هذا الحال المزري الذي يتعامل به شبابنا مع الإصدارات الإلكترونية كان أحد البوابات الرئيسية والعملاقة التي ساهمت في تدهور القيم، وانفلات الأخلاق، كما أنها أيضاً أصبحت تمثل سبباً قوياً لأسباب انهدام الأسر وانهيار وتفكك بيوت المسلمين.
وهذا الاستعمال السيء لتلك التقنيات جعلها مدخلاً جديداً من مداخل الشيطان والتي سوَّل بها لكثيرٍ من ضحايا التربية الإلكترونية الخاطئة أن يسيئوا استخدامها بشكل تكون عاقبته وخيمة على الضحية عاجلاً وعلى المستخدم آجلاً.. وراح شرها يستشري في المجتمع فلم تعد تخلو مدارس أو جامعات أو أسواق أو حفلات زفاف من وجود متربصين عابثين وعابثات ممن يمتلكون هذه الأجهزة لكي يقوموا بتصوير المحارم والفتيات والنساء في أوضاع مختلفة تنبئ عن عدم تنبه الضحية إلى أن هناك من يتربص بها؛ ثم تكون الفاجعة عندما تلتقي فنون هذه التقنيات سويًّا ويتم تفريغ هذا المشهد من جهاز الاتصال الهاتفي إلى جهاز الاتصال الإلكتروني ثم القيام بنشره عبر الطريقين: رسائل الهاتف المحمول، وشبكة الإنترنت حتى تجد الضحية نفسها أمام آلاف بل ملايين المتصفحين...(/1)
هذه الصورة المأساوية سيجد المتصفح للإنترنت مثيلها بعشرات بل مئات القصص التي يندى لها الجبين، وما أثير مؤخراً في السعودية عن قضية (فتاة الباندا) نسبة إلى الاسم الذي يطلق على ذلك النوع من الهواتف النقالة التي توجد بها ميزة التصوير الفيديو لهو خير شاهد على عبث التربية الإلكترونية وما أفرزته لنا من أخلاق جديدة على مجتمعاتنا، وهي جديدة بكل ما تعنيه الكلمة؛ فنحن أمام جريمة اغتصاب ليس كأي اغتصاب بشري شهواني معروف ومألوفٌ سماعه، وإنما هي جريمة هتك عرض، بغرض الإذلال ، وبغرض التشويه، إنها جريمة اغتصاب ليس لذات الاغتصاب، فالمغتصب والذي يدعى (برجس) - كما ظهر من مناداة الفتاة له واستنجادها به - لم يقارب الفتاة أو يلمسها وإنما وكَّل بها عبدٌ أسود ليقوم بتجريدها وانتهاك عفتها وشرفها ويقوم هو بدور المصوِّر، فهل كان لهذا السيناريو أن يتم لولا وجود هذه التقنيات، فإن من الخطأ إذًا أن يقال أمام حادثٍ كهذا بأنه مرض موجود في مجتمعاتنا العربية أصلاً وأن التقنية هي التي ساعدت على ظهوره بهذا الحجم، إنَّ هذا الرأي سيكون صحيحاً إذا ما كان التصوير للقاء عاشقين تم تصويرهما دون علمهما، أو تصوير موعدٍ غرامي بين طرفين دون أن يدركا الفخ الذي نصب لهما، أو تصوير أحد المشاهير في وضع غير لائق فهنا يمكن أن نقول عن ذلك الأمر بأنه مرضٌ موجود في المجتمع ساعد على ظهوره التقنية، ولكن ما حدث (لفتاة الباندا) أمر خارج عن المألوف وهو سابقة خطيرة ستمثل تهديداً جاداً، ومنعطفًا خارقًا للعادة لمجتمعاتنا الإسلامية إذ أنه وسيلة هدامة لا تهدم الأسرة فحسب؛ بل تهدم المجتمع بأكمله إذا ما أصبحت ديدن المنحرفين ومريضي النفوس والشواذ من الأمة ممن انسلخوا عن المبادئ والأخلاق، حتى وإن تعاطف الكثير مع تلك الفتاة وتقدموا لخطبتها ستراً لها؛ إذ أن الأمر قد فتح بوابة أخرى من الصراع الاجتماعي ليس بأقل خطرًا مما قام به (برجس) حيث شكِّلت جماعة تبنت لها موقعاً على الإنترنت أطلقت على نفسها (جماعة سيوف الأعراض) تنادي بجملة واحدة تقول: "لن نرضى بأقل من رأس برجس وأعوانه" فإن كانت هذه الجماعة قد نشأت مطالبة برأس (برجس) فكم برجسًا سوف تفرزه لنا التربية الإلكترونية الخاطئة وهل ستكون جماعة سيوف الأعراض نواة لمنظمة كبرى توازي في مهامها مهام جماعة التوحيد والجهاد في العراق، أو جماعة أنصار الإسلام في جزيرة العرب، أو جماعة الشباب المؤمن في اليمن، أو جماعة التكفير والهجرة في مصر، لتصبح جميع قضايانا الإسلامية والتربوية تحل بواسطة جماعات متخصصة في معالجة كل علَّة تنبت في بلادنا؟!! _ مع الفارق طبعاً في توجه كل جماعة ومدى صدقها _ ..
قضية برجس التي تناقلها في يومٍ واحد فقط بحسب إحصائية غير رسمية ما يقرب من نصف مليون شخص وإن مثلت الجريمة الأولى من نوعها تتمثل في ظهور منعطفٍ سيء لولادة خُلقٍ سيء بذيء، إلا أنها ليست وحدها ما نشر في المواقع الإلكترونية وفي رسائل الهواتف المحمولة، فإن ما تزخر به تلك التقنيات من تصويرٍ لبنات وأعراض المسلمين بغرض اللهو والعبث أمر يفوق التصور الطبيعي للعقل، فلم تعد الرذيلة أمرٌ صعب المنال، ويحتاج الوصول إليه وقطع المسافات إليه أيامًا وليالي، بل هي ساعات ودقائق ولحظات حتى يتكفل أحدهم بأن يهدي أخاه أو صديقه رسالة عبر الهاتف لا يستغرق انتقالها سوى لحظات من الثانية، وثمنٍ بخسٍ من النقود..(/2)
وقضية (برجس) تضعنا أمام هالة من التساؤلات حول خطر هذه الأخلاق الوليدة في مجتمعاتنا نتيجة ولادة هذه المبتكرات وتضعنا أمام تفكير جاد حول انعكاسات ونتائج التربية الإلكترونية الحديثة، والتي كان أثرها المباشر نابع من ذلك العالم المجهول الذي اقتحمت مجتمعاتنا أسواره بغتة دون سابق إنذار أو تهيئة.. ولن يكون علاجها مختصًا بجانبٍ دون آخر، ولن يردعها فتوى شرعية، بل إن فتوىً عاجلة تحرِّم اقتناء هاتفٍ يمتلك خاصية التصوير ليس هو العلاج الصائب، وليست كهذه الفتاوى العاجلة هي ما ينتظرها مراهق عابث، أو شابٌ طائش، كما أن لغة التحريم المطلق دائماً ما توقع مصداقية العالم أو المفتي في حرج، عندما يكتشف جوانب الصلاح والفائدة في تلك التقنية فيصدر فتوى استدراكية عن جواز اقتناء ذلك الجهاز بضوابط معينة، كما أنه وفي ظل عصرٍ بات العالم فيه قرية صغيرة، نكون قد أعلنا على أنفسنا الحكم بالتوقف عن مجاراة الحياة إن أعلنا عصياننا على كل مخترعات أو تقنيات تصل إلينا، ونكون قد رفعنا بأنفسنا راية الاستسلام على مواكبة هذا العصر؛ لأن القادم حتمًا سيكون أشد وأنكل، وإن كل تقنية أو مخترع تم اكتشافه لا يمكن إلا وأن يجمع جوانب الخير والشر، وهذه حكمة الله في الحياة حتى في من قام بصنعه الله عزوجل وهو الإنسان نفسه، فهو أيضاً وعاء يحمل نفسًا خيِّرة، ونفسًا شريرة، كما وليس من العقل أيضاً أن نتوقع بأن العلاج يكمن في عقارٍ كيميائي ووصفة سحرية بها سيتوقف مسلسل العبث بأعراض الناس، وتصيد عوراتهم، لأن سنة الله في الكون تأبى إلا أن يبقى الصراع بين الحق والباطل مادامت الحياة، وأن تستمر المعركة بين الإنسان والشيطان ما بقيت السماوات والأرض، فنكون قد تعدينا حدود العقل والنقل والمنطق إن أردنا أن نبحث عن علاج جذري لهذه الظاهرة لكي نجتثها ونستأصلها لأن حكمة الله عز وجل اقتضت أن لا تنشأ مجتمعات الطهر والنقاء إلا في الجنة، أما في الدنيا فهي ساحة صراع لا ينتهي إلا بانتهاء الدنيا..
ولهذا .. فإننا أمام ما يحصل الآن من فوضى أخلاقية أنتجتها التربية الإلكترونية يجب علينا أن ننظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس لنرى بأن ما حدث سيكون محرَّكاً ودافعاً لتمسك الأسرة المسلمة بعفتها، والاحتراز على حياتها من مداخل الشيطان، فإن الله إن أراد بعبده خيراً أدخله الجنة رغم أنفه، وهيأ له أسباب دخولها، وهكذا بنات المسلمين ربِّ حدثٍ عابرٍ يتطاير خبره ومأساته ليدخل كل بيت حتى يحرِّك في فتاتنا ما لم تستطع تحريكه مئات الندوات الاجتماعية، أو المؤتمرات التربوية..
كاميرا الجوال .. تحقيقات - رسائل - فتاوى - قصص
http://www.saaid.net/Minute/97.htm(/3)
بركة المؤمنين
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ?[الفرقان:1] و?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?[الملك:1] يثني الرب تبارك وتعالى على نفسه في هذه الآيات بأنه عظم خيره وعمت بركته المخلوقات كلها، والبركة كلها لله تعالى، هو سبحانه الذي بيده الخير كله يختص برحمته وبركته من يشاء من خلقه، فيمنحهم من الخير والفضل والبركة ما لا حد له، والقرآن كلام الله ووحيه إلى نبيه جعل الله فيه الخير والبركة فقال عن كتابه: ? وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأنعام: 155]وقال: ? وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ?[الأنبياء:50] فسمى الله كتابه بأنه مبارك وذلك لكثرة خيره ومنافعه ووجوه البركة فيه، فهو مبارك في أصله، باركه الله وهو ينزله من عنده، ومبارك في محله، الذي علم الله أنه له أهل، وهو قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومبارك في حجمه ومحتواه، فالقرآن الكريم يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤشرات والتوجيهات في كل لفظة وفقرة منه مالا يوجد في سواه. والقرآن مبارك في أثره يخاطب الفطرة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل، فيفعل فيها ما لا يفعله أي قول آخر. ?... وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:41-42] من تمسك به واتبع هداه حلت عليه البركات والخيرات في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه نزلت به التعاسة والشقاء والخزي في الدارين كما قال الله تعالى: ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ... ?[طه:123-124] . والناس اليوم على كثرتهم لا يعانون من شيء كما يعانون من الضنك والشقاء وما ذلك إلا لبعدهم عن بركات الله المتمثلة في كتابه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي باركه الله وجعله أفضل الأنبياء وسيد الأولين والآخرين، ومن أعظم بركاته صلوات الله وسلامه عليه هذا الدين الذي بعثه الله به، من قبله سعد في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنه ورده خسر الدنيا والآخرة، فالقرآن كتاب الله المبارك على رسوله المبارك وشريعة مباركة على أمة مباركة. وإن أعظم الناس بركة هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم المتمسكون بهديه السائرون على طريقته الداعون إلى دينه وشريعته الصابرون على كيد وتوهين من خذلهم وخالف أمرهم ، إن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الصادقون، هم أولياء الله عز وجل وفي مقدمة هؤلاء العلماء العاملون والدعاة المخلصون. هؤلاء هم الصفوة المستقيمون في جميع أحوالهم، المطيعون لربهم في سائر أوقاتهم،أخلاقهم حسنة، ونفوسهم طيبة إنهم بركة على أنفسهم وعلى غيرهم، إنهم بركة على المجتمع الذي يكونون فيه، ومن أوجه البركة أنهم الدعاة بين الناس إلى الخير ، هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هم الذين يقومون بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وكل هذا بركة وأي بركة على الناس أعظم منها لو كانوا يعلمون.
ومن ذلك أن ورثة محمد صلى الله عليه وسلم من العلماء والدعاة يقومون بتعريف الناس بدينهم وبأحكامه وشريعته وآدابه وهم مع ذلك يدعون للناس جميعاً بالهداية والاستقامة على الصراط المستقيم ومن كان هذا حاله فهو مبارك حيثما حل أو ارتحل، كما قال أحد العلماء رحمه الله : النافع هو المبارك، وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حل.(/1)
إن وجود العلماء الربانيين والدعاة المصلحين في الأمة أمنة لها من عذاب الله تعالى فهم بركة على مجتمعاتهم، وما يدريك أن الله يدفع عنا ألواناً من الشرور والنقم والعذاب بسبب هؤلاء وبركتهم وصلاحهم ودعائهم ، كما قال تعالى: ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ?[هود:117].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه" وفي رواية: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" والحديث واضح في دلالته، وهو أن من أسباب رفع العقاب عن الناس الأخذ على يد الظالم وتغيير المنكر .. وإذا ما نظرنا إلى الواقع فإننا سنجد أن الذي يقاوم المنكرات ويأخذ على يد الظالم إنما هم المؤمنون الصادقون من العلماء والدعاة ممن لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً. إن رفع العذاب عن الناس ببركة هؤلاء قد يشمل حتى الكفار إذا كانوا بين أظهر المؤمنين كما قال تعالى: ? وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?[الفتح:25] فلولا الضعفاء من المؤمنين الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار لعذب الله الكفار عذاباً أليماً.
فعلى المسلمين أن يدركوا جيداً أن وجود العلماء الصادقين والدعاة إلى الله المخلصين ومن يتأثر بهم من عباد الله الصالحين وجود هؤلاء صمام أمان للأمة من عذاب الله وعقوبته، إنهم أهل لبركات الله وخيراته ورحمته، فببركتهم ودعوتهم ونصحهم سينصر الله هذه الأمة كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وعند النسائي "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها وبدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" قال العلماء سبب تخصيص الضعفاء لأنهم أشد إخلاصاً لله في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخارف الدنيا وزينتها.
إن الله تعالى قد اختار من الملائكة ومن الناس رسلاً وجعلهم مباركين وأجرى من خيره وبركاته على عباده بواسطتهم الشيء الكثير واختار من الأزمنة أوقاتاً جعلها مباركة كيوم الجمعة وشهر رمضان وليلة القدر، والأيام العشر من ذي الحجة وغيرها من الأوقات المباركة واختار من البقاع أماكن بارك فيها كمكة والبيت العتيق بها ? ِإِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ?[آل عمران:96 ] واختار المدينة مهجراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل فيها البركة والخير وزادت بركاتها بعد أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فقال: "اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة"
ومن البقاع التي اختارها الله وبارك فيها أرض الشام أرض فلسطين وما حولها أرض الرباط والجهاد الأرض المباركة قال الله جل شأنه ممتناً على بني إسرائيل في الانتقال إليها بعد الذل والهوان والتيه الذي عاشوه سنين طوالاً: ? وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا... ?[الأعراف:137] وقال مخبراً عن هجرة أنبيائه إبراهيم ولوط عليهما السلام إليها ? وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ?[الأنبياء:71]. فأرض الشام أرض مباركة هي أرض الرباط والجهاد كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وستظل قاعدة لانطلاق الإسلام ولها عبرة في الفترة الحالية من عمر الزمن، سواء أكان فيمن يحكمها أو من يعيش فيها أو حتى وجود دولة لليهود على ترابها الطاهر فكل هذه فترة مؤقتة ستزول بإذن الله.
ومن الأراضي التي حظيت بالخير والبركة أرض اليمن التي دعا لها ولأهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم بارك لنا في يمننا"
وقال في أهل اليمن حين جاءوا إليه مسلمين مؤمنين "أتاكم أهل اليمن ، هم أرق أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية" إلى غير ذلك من الأحاديث وستظل هذه البلاد وأهلها أوفياء لدينهم مباركين صالحين مصلحين، على الرغم من الحالة الاستثنائية التي تمر بها الأمة في كل أصقاعها من ترد وشذوذ إلا أن الله لا يخلف وعده، وسيعيد عافيته وبركته لكل الأرض التي بارك فيها ويعم فيها الإسلام والخير والصلاح وسيخرج الله من هذه الأمة المباركة من يقيم العدل ويعمل لإعلاء كلمة الحق ويعيده إلى نصابه رغم أنوف الكافرين ?... وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ?[الصف:8].
الخطبة الثانية:(/2)
البركة التي ذكرنا بعض معانيها عظيمة ومنحة ربانية يهبها الله لمن يشاء من عباده، ويسلبها عمن يشاء ويحرمه منها. إن العبرة ليست بما تملك من مقومات المادة، وليست العبرة بما تملك من طاقات وقدرات، إذا سلبت البركة من كل ذلك وبقليل من القدرات والطاقات والإمكانات مع بركة الله تكون فيها الخير والسعادة.
قد نجد إنساناً أعطي من الأموال الكثير الكثير فتنزع منه البركة، فيكون المال سبباً لشقاء صاحبه في الدنيا قبل الآخرة قد يملك آلاف الملايين ولكنه لا ينتفع بها لأن البركة منزوعة منها ، ونجد إنساناً لا يملك إلا مرتبه الذي لا يوصله إلى آخر الشهر ولكن الله يبارك له في هذا القليل، فيعيش حياة طيبة سعيدة هو وأسرته.
قد نجد رجلاً له عشرة من الولد فتنزع البركة فلا ينفعون بشيء، بل يكونون مصدراً للعقوق والمتاعب، قد يمرض هذا الأب ويعجز فلا يسأل عنه أحد منهم ولا يلتفت إليه إنهم عشرة ولكن بدون بركة.
ونجد آخر ليس لديه سوى بنت واحدة يضع الله فيها البركة فتكون قرة عين لوالدها في الدنيا، تقوم بحقهما، وترعى شئونهما قد تكون متزوجة ولها بيتها وأطفالها ومسئولياتها ومع ذلك تكون على صلة مستمرة بوالديها يومياً، إنها في أقل أحوالها لا تنام حتى ترفع سماعة الهاتف لكي تطمئن عليهما إنها المنحة الإلهية التي لا تشترى بالمال، ولا يجلبها الملك والسلطان وإنما هي بيد من بيده ملكوت كل شيء.
وفي باب العلم قد نجد إنساناً محسوباً من كبار العلماء يشار له بالبنان له مكانة اجتماعية وعلمية، وقد يعمر العمر الطويل، ولكنه منزوع البركة لم يستفد منه أحد لا أثر له، وكأنه لا وجود له في الوسط الذي يعيش فيه، إن المجالس التي يحضرها والحارة التي يسكن بها لم يفدها كما لم يستفد من علمه أحد، فوجوده كالعدم لقد أوتي علماً ومكانة ومنصباً ولكن بدون بركة.
ونرى طالب علم حديث الطلب لم يعرفه الناس إلا من فترة وجيزة يعلم ويرشد ويوجه، إذا ألقى درساً أو محاضرة أو خطب خطبة في بلد ما فما هي إلا أيام معدودة، وإذا بدروسه ومحاضراته تنتشر في أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً ينفع الله بها الناس ويقبلون عليها إقبالاً شديداً. إنها البركة الإلهية التي لا تشترى بالمال، ولا تكسبها القبيلة ولا العشيرة ولا تجلبها المناصب والهيئات.
اعلم أيها المسلم أن هذا الباب لو أغلقه الله عليك، ثم فتح لك كل أبواب الدنيا، من المال والولد والجاه والسلطان والصحة ، فما هو بنافعك بشيء، إنما يكون معها الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.
واعلم بأن الله إذا فتح لك أبواب رحمته وبركاته، فأبشر بكل خير، على الرغم من قلة المرتب، وضيق المسكن، وانعدام الولد وضعف الجاه.
أيها المؤمنون قد تسألون، كيف نحصل على البركة وما الطريق إليها؟ والجواب هو أن طريقها واحد لا يتعدد والحصول عليه لا يتعثر، إنه طريق الإيمان والتقوى فمن أراد البركة فعليه بالإيمان الإيمان الحقيقي لا الصوري، من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه وعمله فعليه بتقوى الله عز وجل قال تعالى: ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ?[الأعراف:96 ].
أيها المؤمنون إذا أردتم الحصول على بركات الأرض والسماء فعليكم بالإيمان والتقوى والعمل الصالح وحب الصالحين واحذروا رحمكم الله من الإعراض والتكذيب والغفلة فإن عاقبة ذلك محق العمر ومحق الرزق وقلة البركة والعذاب الشديد .. كما قال الله تبارك وتعالى : ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ?[الأعراف:96-99 ].
اللهم بارك لنا في أعمارنا وأرزاقنا وذرياتنا وعلمنا وأعمالنا.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
مسند أحمد 1/2، حديث رقم: 1، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين .
سنن الترمذي 4/ 467، حديث رقم: 2168.
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب: من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب: الحديث رقم: (2739)عن مصعب بن سعد .
سنن النسائي 6/ 45، حديث رقم : 3178 ، وصححه الألباني.
صحيح البخاري: باب: المدينة تنفي الخبث: الحديث رقم: (1786) عن أنس رضي الله عنه ، وصحيح مسلم: باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة. وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها. وبيان حدود حرمها: الحديث رقم: (1369) عن أنس رضي الله تعالى عنه .(/3)
صحيح البخاري: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الفتنة من قبل المشرق):الحديث رقم: (6681) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .
صحيح البخاري: كتاب المغازي: باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن: الحديث رقم: 4127 / 4129 عن أبي هريرة رضي الله عنه . وصحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه: الحديث رقم: (52) .(/4)
برنارد لويس ... وصهينة الدراسات الاستشراقيّة
د. بدران بن الحسن 25/1/1426
06/03/2005
ولد برنارد لويس سنة 1916 في لندن لأسرة يهودية، تخصص منذ التحاقه بالدراسات العليا في دراسة الشرق والإسلام بالتحديد وتاريخ الإسلام والمسلمين. وقد حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1936، كما حصل على درجة الدكتوراه في تاريخ الإسلام من المدرسة نفسها عام 1939، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين.
وأثناء دراسته الجامعية عين مدرساً مساعداً بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، غير أنه ترك العمل بالجامعة خلال سنوات الحرب (1940 - 1945) ليلتحق بخدمة المخابرات البريطانية وبعد الحرب، عاد للعمل بالجامعة حتى عام 1974. واستمرت صلته بالمخابرات البريطانية بعد ذلك، وظل مرجعاً مهماً ومستشاراً يُرجع إليه في شؤون الشرق الأوسط، ولذلك فإنه بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية غيّر اهتمامه من دراسة تاريخ الإسلام في العصور الماضية، إلى دراسة تاريخ الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة في العصر الحديث، ونشر في ذلك عدة كتب تصبّ كلها في تنميط صورة صهيونية عن الإسلام والمسلمين عموماً وعن العرب بشكل خاص، تصب كلها في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وتوجّه صانع القرار الغربي والأمريكي بوجه خاص وتزوده بأفكار وزاد معرفي للتعامل مع مختلف قضايا الشرق الأوسط، وتقوم أساساً على إستراتيجية التهويل من خطر الإسلام على الغرب، وتصوير الإسلام والعالم العربي كأنهما الخطر المحدق بالحرية الغربية وبالمصالح الغربية، وتدعو صراحة أو تلميحاً إلى ضرورة دعم دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة.
وللعلم فإن برنارد لويس اليهودي البريطاني سرعان ما تخلّى عن الجنسية البريطانية، وتأمرك وصار أمريكياً لما صعد نجم الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في قضايا الشرق الأوسط، فالتحق بأمريكا سنة 1974 ليعمل في جامعة برنستون، وهناك صار نبياً من أنبياء الصهيونية المعاصرة، وعبّر في كثير من كتبه عن هذا التصهين في رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية وقضايا الشرق الأوسط.
ويُلاحظ على برنارد لويس وفاؤه لمنهج الاستشراف في بداياته، حيث كان آلة في خدمة الاستعمار، ولم يتأصر بالتطورات التي حدثت في هذا الحقل المعرفي، وظهور بعض المستشرقين الذين أبدوا موضوعية أكثر في دراسة الإسلام والعرب والشرق.
بل ظل برنارد لويس من طراز مارجليوث وجولدزيهر وغيرهما من المستشرقين شديدي التحيّز ضد الإسلام والعرب، وظل وفياً لمنهجهم في إصدار التعميمات غير العلمية وغير المبرهنة عن الإسلام والعرب وعن منهج دراستهما.
فراح يعمم مقولاته المتحيزة وغير العلمية، بل والكاذبة في منطق العلم والبحث العلمي، عن الإسلام والتخلف الحضاري في العالم الإسلامي، والتخلف العربي. وكان من أوائل من تكلم عن صراع أو صدام الحضارات، ثم تلقفها بعد ذلك تلميذه صموئيل هاتنجتون اليهودي الأمريكي صاحب فكرة "صدام الحضارات" و"الحدود الدموية للإسلام" وغيرها من التقوّلات المتخرصة.
لقد وجد برنارد لويس في أمريكا وفي جامعة برنستون مسرحاً آهلا بمن يتبنّون أفكاره الاستشراقية الظلامية، وأيديولوجيته الصهيونية، وراح يكيل التعميمات تلو التعميمات السوفسطائية، من أجل تنميط صورة المسلمين والعرب بطريقة سلبية تجعل من يستمع أو يقرأ له يشعر بالقرف من هؤلاء العرب ومن دينهم، ويتخذ موقفاً سلبياً منهم، ويشعر بتعاطف كبير مع "العالم الحر" ومع الصهاينة "المضطّهدين" بزعمه.
تولى برنارد لويس في جامعة برنستون خاصة وفي أمريكا عموماً قيادة حقل الدراسات الاستشراقية التي كان يهيمن عليها الصهاينة أو المتصهينين المتمركزين في أقسام ومراكز دراسات الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية، بالجامعات الأمريكية، أمثال ليونارد بايندر، وإيلى كيدورى، ودافيد برايس، و دانيال بايبس، ومارتن كريمر، وتوماس فريدمان، ومارتن بيرتز، ونورمان بودو رتز، وجوديت ميلر، وغيرهم.
والأخطر من ذلك أن ربنارد لويس وأشياعه لم يكونوا في حقيقة الأمر أكاديميين فقط، بل كان لهم دور استشاري من خلال عملهم خبراء لدى هيئات ودوائر اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وظل برنارد لويس أستاذاً للدراسات الشرقية بجامعة برنستون حتى تقاعده من العمل الأكاديمي في 1986؛ إذ أصبح أستاذاً فخرياً (Professor Emeritus)، وهو مركز جعله يبقى مرجعاً فيما يتعلق بالإسلام والعرب والشرق الأوسط ليس للأكاديميين الغربيين فحسب، بل لدوائر صنع القرار الأمريكي خاصة.(/1)
يركز برنارد لويس في كتاباته عن الإسلام والمسلمين والعرب والعالم العربي على مجموعة من الآليات الخطيرة، مثل آليات (ميكانزمات) التهويل، والبتر والتقطيع، وآلية التهوين (الإهمال). فهو يهوّل ما كان هامشياً أو عفوياً أو قليل الحضور في التاريخ الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلامية، ويهوّن (يهمل) ما كان غالباً مهيمناً في الحضارة والفكر الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية.
كما أنه يمارس بتراً وتقطيعاً لكثير من الحقائق، ويقوم بتغييبها ويعمل على تجاهل أو عزل الأحداث والأفكار عن سياقها الطبيعي. فالقارئ لما كتبه ويكتبه برنارد لويس يجد وكأن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي لا يوجد به غير الحشاشين والإسماعيلية والقرامطة، وبعض الفرق المنحرفة الأخرى التي بادت أو انحصرت عن التيار العام للإسلام والثقافة والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
ومما يُلاحظ على كتاباته عن التاريخ الإسلامي أنه يبرز كل الفرق المنحرفة والانحرافات الفكرية التي لا يمكن بحال أن تطغى على الخط العام المعتدل في التاريخ الإسلامي.
وبرغم اعترافه في كتابه (تنبؤات برنارد لويس) بأن العالم العربي هو مهد الحضارات والأديان السماوية بقوله: "هذه المنطقة التي كانت مركزاً للحضارات، وحاضنة الأديان السماوية، وكانت موطن أول مجتمع عالمي ذي ثقافة بينيّة بكل ما للكلمتين من معنى، وكان مركز إنجازات عملاقة في كل حقل من حقول العلوم والتكنولوجيا والثقافة والفنون، وكان قاعدة لإمبراطوريات متتالية شاسعة وعظيمة".
فإنه يرى أن هذه المنطقة انتهى دورها الحضاري، وخاصة مع تنامي مد الصحوة الإسلامية، هذه الصحوة التي يراها برنارد لويس بالعين العوراء، حيث يؤكد افتراء أن دعوة الإسلاميين للديمقراطية دعوة خادعة وغير صحيحة، وأن دعوتهم إليها هي بهدف الوصول للحكم، وعندما يتحقق هدفهم ينقضون على الديمقراطية وكل من يخالفهم الرأي. ويرجع ذلك –بزعمه- إلى طبيعة الإسلام ذاته؛ إذ يرى أن الأديان لا تقبل الديمقراطية، وخاصة الأديان الأصولية –يقصد الإسلام طبعاً-.
ويزيد في تهويل الأمر من خلال توقعه بأن العالم العربي والدول العربية هي الأكثر تعرضاً لخطر التفكك، وأنها ليست الوحيدة، فالاتجاه نحو التفكك سيزداد بتشجيع من الشعور الاثني والشعور الطائفي المتناميين، وقد تسربت الفكرة المغرية بحق تقرير المصير إلى عدد من الأقليات الاثنية التي لم تعد تكتفي بوضعها السابق.
لكنه بتطبيقه لآلية التهويل هذه في تهويل أمر الأقليات في العالم العربي، فإنه يمارس آلية التهوين من خلال تغاضيه عن التصريح بمن يقوم بتغذية هذا الشعور العرقي والتفكك الاثني.
ويخرج علينا بمقولة آخرى غربية يدعي فيها نبي الصهيونية الجديد بأنه من اجل إنقاذ الشرق الأوسط ينبغي ان نعتمد على عوامل ثلاثة هي تركيا وإسرائيل والنساء. لأن تركيا اختارت العلمانية والالتحاق بأوربا؛ فهي لا تحمل أمراض الشرق الأوسط بزعمه، اما إسرائيل فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن النساء تعرضن للقمع من قبل الثقافة التقليدية السائدة (الثقافة الإسلامية طبعاً). وخاصة النساء اللائي يركز على دورهن في تحويل الشرق الوسط إلى بحيرة ديمقراطية.
كما أن برنارد لويس أعلن تفكك وموت العالم العربي منذ حرب الخليج، واعتبر أن إسرائيل وتركيا هما الدولتان الوحيدتان الناجحتان في منطقة الشرق الاوسط. كما أكّد في مقال له في مجلة (Foreign Affairs) في 1992 حيث قال: إن "غالبية دول الشرق الاوسط. مصطنعة وحديثة التكوين وهي مكشوفة لعملية كهذه. وإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية إلى الحد الكافي، فليس هناك مجتمع مدني حقيقي يضمن تماسك الكيان السياسي للدولة، ولا شعور حقيقي بالهوية الوطنية المشتركة، أو ولاء للدولة الأمة. وفي هذه الحال تتفكك الدولة مثلما حصل في لبنان إلى فوضى من القبائل والطوائف والمناطق والأحزاب المتصارعة"
ولذلك فهو يرى أن على أمريكا ألاّ تخاف من غضب الشارع العربي، فإن غضب العرب والمسلمين من الغرب يفتقر في مجمله إلى أي أساس، كونه لا يتجاوز محاولة يائسة من مجتمعات فاشلة لتحميل قوى خارجية، خصوصاً الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، مسؤولية الأزمة الخانقة والتخلف والتفكك الذي تعانيه.
والناظر في معظم توجهات الإدارة الأمريكية في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي ككل، يلاحظ أن مقولات وتوجيهات برنارد لويس قد تحوّلت إلى سياسات وبرامج تعمل الإدارة الأمريكية المتصهينة على تنفيذها، ولا يجد المرء كبير عناء في ربط مختلف تفاصيل هذه السياسات مع الأفكار التي وضعها برنارد لويس في كتاباته الأخيرة منذ أربع سنوات تقريباً إلى اليوم. وبهذا حوّل برنارد لويس الاستشراق من حقل أكاديمي إلى مكتب تحليلات يحرص على توجيه سياسات الإدارات المتصهينة في العالم والإدارة الأمريكية خاصة في الشرق الوسط، كما يعبّرون عنه أو العالم العربي كما هو ثابت تاريخياً.(/2)
برنامج تفصيلي لطالب العلم
بقلم : حامد عبدالله العلي
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحَمدُ للِه ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وَصحبِهِ أَجمَعِين ، وَبَعد :
فهذه رسالة صغيرة تَضعُ بين يدي طالبِ العلمِ الشرعيّ بتوفيقِ منَ اللهِ تعالى منهجاً كاملاً لكيفيّة طلبِ العلوم الشرعية على منهجٍ سلفيّ ، وَقَد وَضَعتُها عَلى عُجالةٍ بناءً على رغبةٍ من كثيرٍ من طلبةِ العلم قَبل نحو تسع سنين ، فلقيَت بحمد الله تعالى استحساناً واسعاً بين الطلبة ، وَأخبرني كثير منهم أنَّهم استفادوا منها ، ثمَّ لما نفدت نسخُ الطبعةِ الأولى ، ألحّ عليَّ بعضُ طلبة العلم أن يُعاد طبعُها ، مع تنقيحٍ ، وزيادات ، وإعادة الترتيب ، ليكون البرنامجُ واضحاً وسهلاً في الترتيبِ من صغارِ العلمِ إلى كبارِهِ ، فأجبتُهم إلى ما سألوا مستعينا بالله متوكلاً عليه 0
وهاهِيَ الطبعةُ الثانيةُ بينَ يديّ طلبةِ العلومِ الشرعيِّة في حُلّة جديدة وإضافات مهمّة 0
هذا وإنّي أعلم أن ما وضعته هنا من المؤلفات بقصد أن يتدرج طالب العلم في دراستها حتى يرتفع في درجات العلوم الشرعية ، قد يكون غير ه أولى منه ممّا لا أعلمه أو نسيته ، غير أن ما اخترته لطالب العلم سيبلغه بإذن الله تعالى بغيته ، ويوصله إلى مراده ، وإنما يتمّ له ذلك ، إذا استصحب التقوى والاخلاص ، فهما نور العلم ، وقطب رحاه ، و إذا فقدهما الطالب لم يبارك في علمه ، ولم يزده من الله تعالى إلا بعدا ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ( وقد أوعبت الأمّة في كل فن من فنون العلم إيعابا ، فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلال ) مجموع الفتاوى 10/665 0
والله تعالى أسأل بحق أسماءه الحسنى ، وصفاته العليّة العُظمى ، أن يتقبّل منها أعمالنا ، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ، ويكتب لنا بها الحسنى في دار كرامته ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 0
حامد عبدالله العلي
الكويت غرة صفر 1422هـ
أوّ لاً : نصائح عامّة لطالب العلم
هذه عشر نصائح ينبغي أن يستصحبها طالب العلم في طريق الطلب ، وقد إستفدناها من كتاب ( حلية طالب العلم ) للعلاّمة بكر أبو زيد ، ومن غيره ، مع إضافات :
1ـ على طالب العلم في طريق الطلب ، أن يستحضر إخلاص الوجه لله تعالى ، وعليه أن يستصحب نية الثواب والزلفى إلى الله تعالى ، وابتغاء ما عنده في الآخرة ، وضد ذلك الإخلاص الرياء ، وحب الظهور ، والتطلع إلى التفوق على الأقران ، أو طلب الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو شهادة يتوصل بها إلى متاع الحياة الدنيا ، فإن ذلك كله يذهب بركة العلم ، قال بشر بن الحارث رحمه الله ( رأيت مشايخ طلبوا العلم للدنيا فافتضحوا ، وآخرين طلبوه فوضعوه مواضعه وعملوا به وقاموا به فأولئك سلموا فنفعهم الله تعالى 000ولقد رأيت أقواما سمعوا من العلم اليسير فعملوا به ، وآخرين سمعوا الكثير فلم ينفعهم الله به ) حلية الأولياء 8/349
2ـ وعليه أن يتخلق بأدب التواضع وخفض الجناح ، وضده الخيلاء، والإعجاب بالنفس ، و التطاول على المعلّم ، والتفاخر على النّاس ، والاستكبار عن الإقرار بالخطأ 0
3ـ وعليه أن يكون ذا سمت حسن ، فلا يلعب ويعبث ويرفع صوته بالسخف وكثرة الضحك ، ولا يتبجح بالطعن في مخالفيه وأقرانه ليظهر تميّزه عليهم 0
4ـ وعليه أن يتخلق بالرفق ، وضده الكلام الجافي والتعنت والتعسف في معاملة الناس والحكم عليهم 0
5ـ وعليه أن يعتني بالقرآن عناية تامّة ، ويكثر من تلاوته وحفظه ، ويتخذ له الأوراد من ذكر وصلاة وصيام ونوافل ، فإنّها من أعظم ما يعين الطالب على مقصده من طلب العلم بتوفيق الله تعالى 0
6ـ وعليه أن يتدرج في منهج الطلب ، فيحفظ مختصر من كل فن إن أمكن ، ويضبطه على معلّم حاذق ، ثم ينتقل إلى ما فوقه وهكذا ، وليتجنّب الإشتغال بالمطولات ، والمصنفات المتفرقة قبل أن يضبط أصول العلوم ، ولا يصح في الطلب أن يستعجل طالب العلم الوصول إلى الخلاف العالي قبل المبادئ والأصول التي تحتويها المختصرات ، فإن ذلك يشتته ويذهب كثير من فائدة الطلب ، كما قال سفيان الثوري رحمه الله ( إذا ترأس الرجل سريعا أضر بكثير من العلم وإذا طلب وطلب بلغ ) حلية الأولياء 7/81 0
7ـ وعليه أن يختار الشيخ المربيّ ذي اللسان الورع، والخلق الحسن ، المترفع عن إتيان الشبهات ، وعن سفساف الأخلاق ، وعليه أن يحسن معاملته بالسؤال في الوقت المناسب ، والإنصات والحرص على الحضور والمذاكرة0
8ـ وعليه أن يختار القرين الصالح الحريص على العلم بآدابه ، وضده اللعّاب البحّاثة عن الخلاف ، والقيل والقال ، المنشغل بما لا يعنيه المتطاول على المسائل الكبار قبل إتقان العلم ، فلا تصاحب من هذا شأنه فإنّه يضيّع عمرك بلا فائدة 0(/1)
9ـ وعليه أن يكون له عناية خاصّة باقتناء الكتب ، لاسيما كتب السنة والآثار ، وكتب ابن القيم وابن تيميّة ، ومصنفات علماء دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وغيرها من الكتب السلفيّة التي تقوم على تقديم الكتاب والسنة وآثار السلف واقتفاء نهجهم والتمسك بالأصول التي أجمعوا عليها ، ففد جعل الله فيها الخير والبركة 0
10ـ وعلى طالب العلم أن يجعل من نفسه هاديا مرشدا للناس ، بالرفق واللين ، وأن يكف لسانه عن عيب المشتغلين بالدعوة ووعظ الناس ، أو بالجهاد، أو المتفرغين للتعبد، أو بغير الفن الذي حُبّبَ إليه من العلم ، فكلّ ميسر لما خُلق له ، وليجعل طالب العلم نفسه مكمّلا لإخوانه الذين نصبوا أنفسهم على ثغور الإسلام الأخرى 0
هذا وإن جماع الخير كله إنما هو في الدعاء ، فإذا ألحّ طالب العلم في دعاء الله ، سائلا أن يفتح الله تعالى له برحمته من هذا الباب العظيم ، فتح الله تعالى له من ذلك ما يشاء ، وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم والله الموفق 0
*****
برنامج تفصيلي لطالب العلم
مدته عشر سنوات ويتخرج به الطالب متخصصا في العلوم الشرعية
بتوفيق من الله تعالى
ويقطع فيها الطالب خمس مراحل زاده فيها الإخلاص والتقوى
****************
المرحلة الأولى ومدتها سنة ونصف السنة
ويحفظ فيها الأجزاء الستة الأخيرة من القرآن
ويقرأ في العقيدة :
1ـ الثلاثة أصول والقواعد الأربعة بشرح العلاّمة العثيمين
2ـ كتاب التوحيد مع القول السديد
3ـ كشف الشبهات للإمام المجدد محمد بن عبدالوهّاب
ويقرأ في الفقه : تسير العلام شرح عمدة الأحكام للبسام ، ويتعلم مع ذلك كيفية الصلاة من المؤلفات المختصرة المعاصرة السهلة مثل كتاب العلاّمة عبدالعزيز بن باز رحمه الله أو العلاّمة العثيمين ، أو صفة الصلاة للعلاّمة الألبانيّ رحمه الله تعالى 0
***
ويقرأ في الحديث : 1ـ الأربعين النووية
2 ـ رياض الصالحين
3ـ مشكاة المصابيح
***
ويقرأ في مصطلح الحديث : كتاب تيسير مصلح الحديث
***
ويقرأ في تهذيب السلوك :
1ـ الجواب الكافي لابن القيم
2ـ مختصر منهاج القاصدين
3ـ اقتضاء العلم العمل للحافظ البغدادي
ويقرأ في علوم اللغة : الآجرّومية وشرحها التحفة السنية
***
ويقرأ في السيرة والتاريخ : الرحيق المختوم
*****
المرحلة الثانية ومدتها سنتان ونصف السنة
ويحفظ فيها من الجزء 19 إلى 24
ويقرأ في العقيدة :
1ـ حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد
2 ـ شرح الواسطيّة للسلمان
3ـ معارج القبول للحكمي
***
ويقرأ في الفقه : دليل الطالب مع شرحه منار السبيل ، أو هداية الراغب
***
ويقرأ في التفسير وعلوم القرآن :
1ـ تفسير السعدي
2ـ أصول التفسير لابن تيمية
3ـ مباحث في علوم القرآن للقطان
***
ويقرأ في الحديث :
1ـ الأربعين النووية
2ـ صحيح البخاري
3ـ صحيح مسلم
4ـ المنار المنيف في الصحيح والضعيف
***
ويقرأ في مصطلح الحديث :
1ـ نخبة الفكر لابن حجر
2ـ أصول التخريج محمود الطحان
3ـ الحطّة في ذكر الصحاح الستة
***
ويقرأ في أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة :
1ـ الورقات للجو يني
2ـ الأصول من علم الأصول للعثيمين
3ـ الواضح في أصول الفقه للأشقر
***
ويقرأ في السلوك والتهذيب :
1ـ الوابل الصيّب لابن القيم
2ـ عدة الصابرين لابن القيم
3ـ مقدمة إغاثة اللهفان لابن القيم
***
ويقرأ في علوم اللغة :
1ـ قطر الندى لان هشام
2ـ البلاغة الواضحة للجارم
***
ويقرأ في السيرة :
1ـ سيرة ابن هشام
2ـ زاد المعاد لابن القيم
***
ويقرأ في أصول الدعوة وآدابها وثقافتها العامة :
توجيهات للصحوة للعثيمين
***
ويقرأ في الفتاوى : فتاوى اللجنة الدائمة للافتاء في المملكة السعودية
ويقرأ في التكميل والمتفرقات :
1ـ تحذير الساجد للالباني
2ـ التوسل أنواعه وأحكامه للالباني
3ـ التوسل والوسيلة لابن تيمية
4ـ حديث الاحاد حجة بنفسه للالباني
5ـ السنة ومنزلتها في الاسلام للالباني
6ـ تطهير الجنان والاركان لآل طامي
7ـ بهجة قلوب الابرار للسعدي
8ـ طلب العلم وطبقات المتعلمين للشوكاني
9ـ حادي الارواح لابن القيم
10ـ منهج ودراسات في الاسماء والصفات للشنقيطي
*****
المرحلة الثالثة ومدتها سنتان
ويحفظ فيها من أوّل سورة البقرة إلى آخر الجزء السادس
ويقرأ في العقيدة :
1ـ دعوة محمد بن عبدالوهاب وأثرها لصالح العبود
2ـ الفتوى الحموية لابن تيمية والقواعد المثلى للعثيمين
3ـ شرح الطحاوية لابن أبي العز
4ـ السنة لابن أبي عاصم
***
ويقرأ في الفقه :
1ـ زاد المستقنع والروض مع حاشية ابن قاسم
2ـ شرح العثيمين على الزاد مع الإرشاد للسعدي
3ـ شرح بلوغ المرام للبسام
***
ويقرأ في التفسير : تفسير ابن كثير
***
ويقرأ في الحديث :
1ـ الكتب الستة
2ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني
3ـ صحيح الجامع الصغير للألباني
4ـ المقاصد الحسنة للسخاوي
***
ويقرأ في مصطلح الحديث :
1ـ فتح المغيث للسخاوي
2ـ الجامع لأخلاق الراوي للبغدادي(/2)
3ـ دراسات في الجرح والتعديل للأعظمي
4ـ تدوين السنة النبوية لمحمد الزهراني
***
ويقرأ في أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة :
1ـ روضة الناظر مع مذكرة الشنقيطي
2ـ الوجيز في القواعد الفقهية لمحمد صدقي البرنو
***
ويقرأ في السلوك والتهذيب :
1ـ مدارج السالكين لابن القيم
2ـ رسالة أعمال القلوب لابن تيمية
3ـ أخلاق العلماء للآجري
4ـ حلية طالب العلم لبكر أبو زيد
***
ويقرأ في علوم اللغة :
شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك
***
ويقرأ في التاريخ :
1ـ البداية والنهاية
2ـ العواصم من القواصم لابن العربي
ويقرأ في أصول الدعوة وآدابها وثقافتها العامة :
1ـ أصول الدعوة لزيدان
2ـ مصرع الشرك والخرافة للحاج
3ـ البدع وأحكامها للغامدي
4ـ أزمة العصر لمحمد محمد حسين
***
ويقرأ في الفتاوى : فتاوى العلامة محمد العثيمين
***
ويقرأ في التكميل والمتفرقات :
1ـ إيثار الحق على الخلق للمرتضى اليماني
2ـ الاعتصام للشاطبي
3ـ تلبيس ابليس لابن الجوزي
4ـ مجموعة الرسائل المنيرية
5ـ الروض الباسم لابن الوزير
6ـ المدخل لدراسة الشريعة لزيدان
7ـ المدخل الى مذهب ابن حنبل لابن بدران
8ـ المدخل المفصل إلى فقه الإمام بن حنبل لبكر أبو زيد
8ـ ضوابط المعرفة للميداني
9ـ القواعد والأصول للسعدي
10ـ اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية
*****
المرحلة الرابعة ومدتها سنتان
ويحفظ فيها من أوّل الجزء السابع إلى آخر الجزء الثاني عشر
ويقرأ في العقيدة :
1ـ دعاوى المناوئين لدعوة ابن عبدالوهاب
2ـ مختصر الصواعق المرسلة
3ـ السنة للالكائي والتوحيد لابن خزيمة والشريعة للآجري والسنة لعبدالله بن أحمد والإبانة لابن بطة
4ـ الرد على الجهميّة وعلى المرّيسي للدارمي
5ـ شفاء العليل لابن القيم
6ـ النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير
***
ويقرأ في الفقه :
الكافي لابن قدامة
***
ويقرأ في التفسير وعلوم القرآن :
1ـ أضواء البيان للشنقيطي
2ـ تسير اللطيف المنان خلاصة تفسير القرآن للسعدي
***
ويقرأ في الحديث :
1 ـ موطأ الإمام مالك ، ومسند الإمام أحمد ومنتقى ابن الجارود وسنن الدارمي ومصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبدالرزاق
2ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
***
ويقرأ في مصطلح الحديث :
1ـ النكت على ابن الصلاح لابن حجر
2ـ شرح علل الترمذي لابن رجب
3ـ الرفع والتكميل للكنوي
***
ويقرأ في أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة :
1ـ إرشاد الفحول للشوكاني
2ـ إعلام الموقعين
3ـ رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية
4ـ الفتيا ومناهج الإفتاء لمحمد الأشقر
***
ويقرأ في السلوك والتهذيب :
1ـ الزهد لهنّاد بن السري
2ـ الزهد لوكيع بن الجراح
3ـالزهد لأحمد بن حنبل
4ـ صيد الخاطر لابن الجوزي
***
ويقرأ في علوم اللغة :
1ـ أصول النحو للسيوطي
2ـ مغني اللبيب لابن هشام
3ـ الشعر والشعراء لابن قتيبة
***
ويقرأ في التاريخ :
المنتظم لابن الجوزي
***
ويقرأ في أصول الدعوة وآدابها وثقافتها :
1ـ رسالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية
2ـ العلمانية للحوالي
3ـ رؤية إسلامية في واقعنا المعاصر لمحمد قطب
4ـ ضوابط ينبغي تقديمها قبل الحكم على الطوائف والجماعات لحامد العلي
***
ويقرأ في الفتاوى :
1ـ الفتاوى الكبرى لابن تيمية
2ـ فتاوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ
ويقرأ في التكميل والمتفرقات :
1ـ التنكيل للمعلمي
2ـ القياس للأشقر
3ـ بدعة التعصب المذهبي للعباسي
4ـ تمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني
5ـ تاريخ الفقه لعمر الأشقر
6ـ القواعد النورانية الفقهية لابن تيمية
7ـ نيل المرام من تفسير آيات الاحكام لصديق خان
8ـ طريق الوصول إلى العلم المأمول للسعدي
9ـ أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه مصطفى البنا
10ـ مبادئ في فهم التراث للشيباني
11ـ بدائع الفوائد لابن القيم
12ـ موقف ابن تيمية من ألا شاعرة لعبدالرحمن المحمود
13ـ مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية
المرحلة الخامسة
ومدتها سنتان ويحفظ فيها من القرآن من الجزء الثالث عشر
إلى الجزء الثامن عشر
ويقرأ في العقيدة :
1ـ شرح النونية
2ـ المنتقى من منهاج الاعتدال
3ـ مجلدات العقيدة من مجموع الفتاوى
4ـ النبوات لابن تيمية
5ـ الفكر الصوفي لعبدالرحمن عبد الخالق
6ـ السنة والشيعة لاحسان إلهى ظهير
7ـ هداية الحيارى لابن القيم
8ـ الحركات الباطنية في العالم الإسلامي محمد الخطيب
9ـ الانحرافات العقائدية والعلمية في القرنين الثالث الرابع الهجريين وآثارهما على حياة الأمة لعلي الزهراني
10ـ فرق معاصرة تنتسب إلى الاسلام لعلي العواجي
11ـ ظاهرة ا لإرجاء وأثرها على العالم الإسلامي للحوالي
***
ويقرأ في الفقه :
المغني لابن قدامة
***
ويقرأ في علوم القرآن :
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي
***
ويقرأ في الحديث :
الأجزاء الحديثية
***
ويقرأ في مصطلح الحديث :(/3)
يدرس كتاب في تخريج الأسانيد والحكم عليها كإرواء الغليل للألباني مع التدريب على تخريج الحديث ودراسة الاسانيد ، ويقرأ مقدمة فتح الباري ومقدمات كتب الرواه 0
***
ويقرأ في أصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة :
1ـ شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي
2ـ الموافقات للشاطبي
3ـ المسائل المشتركة بين أصول الفقه والدين للعروسي
***
ويقرأ في السلوك والتهذيب :
كتب سير السلف مثل حلية الاولياء وصفة الصفوة
***
ويقرأ في علوم اللغة :
1ـ خصائص ابن جني
2ـ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني
3ـ جمهرة أشعار العرب لابن زيد القرشي
***
ويقرأ في السيرة والتاريخ :
سير أعلام النبلاء للذهبي
***
ويقرأ في أصول الدعوة وآدابها وثقافتها :
1ـ أجنحة المكر الثلاثة للميداني
2ـ كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة للميداني
3ـ حاضر العالم الإسلامي لعجاج نويهض
4ـ بروتوكولات حكماء صهيون لعجاج نويهض
5 ـ مقالات في المنهج لسلمان العودة
***
ويقرأ في الفتاوى :
1ـ بحوث هيئة كبار العلماء
2ـ فقه النوازل لبكر أبو زيد
ويقرأ في التكميل والمتفرقات :
1ـ بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية
2ـ جامع الرسائل والمسائل لابن تيمية
3ـ دار الهجرتين لابن القيم
4ـ مفتاح دار السعادة
5ـ أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لمحمد الأشقر
6ـ الإمامة العظمى للدميجي
7ـ مقاصد المكلفين لعمر الاشقر
8ـ رفع الحرج في الشريعة لابن حميد
9ـ مؤلفات الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله
10ـ الدرر السنية في رسائل الدعوة النجدية
11ـ مجموع فتاوى بن تيمية
مكتبة طالب العلم
ينبغي لطالب العلم أن يكون له مكتبة تحتوي على أمهات الكتب في كل فن وهذه بعض أهم الكتب الكبار في العلم :
1ـ مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم رحمها الله تعالى ، ويبغي لطالب العلم أن يجمع كل ما تقع عليه عينه من مصنفاتهما ، فإن فيها من بركة العلم ما لايعلم قدره إلا الله ، ومن أدمن مطالعتها نور الله قلبه وفتح بصيرته وبورك في علمه 0
2ـ مصنفات العقيدة السلفية المنقولة عن السلف بالإسناد ، مثل السنة لابن أبي عاصم وللخلال ولعبدالله بن الإمام أحمد ، والتوحيد لابن خزيمة ، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ، والإبانة لابن بطة والشريعة للآجري وغيرها 0
3ـ كتب ومؤلفات الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، وتلامذته وعلماء الدعوة السلفية أتباعه : مثل مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ، والدرر السنية وغيرها 0
4ـ الصحيحان والسنن الأربعة وشروحها ، لاسيما فتح الباري فلاينبغي أن تخلو منه مكتبة طالب العلم ، وطالب علم لم يطالع فتح الباري ، علمه خاوي 0
5 ـ كتب ابن حجر العسقلاني في الحديث وعلومه 0
6ـ كتب الإسلام الكبار مثل المغني لابن قدامة ، والتمهيد لابن عبدالبر ، وتفسير الطبري وتاريخه ، والمجموع للنووي ، والمحلى لابن حزم ، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ،ومقدمته الإتقان في علوم القرآن ، وتفسير القرطبي ، وجمع الجوامع للسيوطي ، والنهاية لابن الأثير ، ومشارق الأنوار في غريب الحديث للقاضي عياض ، والبداية والنهاية لابن كثير ، والمنتظم لابن الجوزي 0
7ـ تفسير ابن كثير والشوكاني والبغوي وأضواءا لبيان للشنقيطي0
8ـ من كتب أصول الفقه روضة الناظر لابن قدامة ومذكرة عليها للشنقيطي ، وشرح مختصر الروضة للطوفي ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار 0
9ـ ومن كتب المعاصرين النافعة كتب العلامة الشنقيطي مؤلف أضواء البيان ، ومصنفات العلامة عبدالرحمن السعدي ، والعلامة عبدالعزيز بن باز والعلامة محمد الصالح العثيمين ،ومصنفات المحدث الألباني في الحديث وعلومه ، وكتب ورسائل العلامة المحقق بكر بن عبدالله أبو زيد 0
10ـ وأما كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل المعتمدة فمن أهمها منتهى الإرادات للفتوحي ، والإقناع للحجاوي ، وعليهما مدار الفتوى ومرجع القضاء ، وإذا اختلفا رجع ألا صحاب إلى غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى للشيخ مرعي الكرمي 0
ومن أنفع كتب المذهب الفروع للشمس ابن مفلح ، والمبدع للبرهان ابن مفلح ، وكشاف القناع للبهوتي ، ومطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني 0
وأما المتون فمن أ همها العمدة لابن قدامة ، وزاد المستقنع مختصر المقنع للحجاوي ، وهذا المختصر ( الزاد ) دارت عليه رحى الفقه على مذهب الحنابلة لدى المتأخرين حتى قيل : متن زاد وبلوغ كافيان في نبوغ ، أي متن زاد المستقنع وبلوغ المرام لابن حجر ، ومن أهم شروحه الروض المربع للبهوتي 0
ومن المتون المهمة دليل الطالب لمرعي الكرمي ، وعمدة الطالب للبهوتي مطبوع مع شرحه هداية الراغب ، وكافي المبتدي وأخصر المختصرات كلامهما لابن بلبان ، وهذا الأخير عليه شرح نافع محرر اسمه ( كشف المخدرات والرياض المزهرات في شرح أخصر المختصرات ) للبعلي الحلبي والله أعلم 0
رِسالةُ الإِصلاح(/4)
إذا وفق الله تعالى طالب العلم في تحصيل المعارف الشرعية ، وحواها صدره ، ووعاها قلبه ، فإن الواجب عليه أن يقوم بواجب الدعوة والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر استطاعته ، وهذا الواجب يستلزم منه أن يكون عارفا بأحوال المجتمع وما يحصل فيه مما يخالف الشرع ، وعالما بواقع أمته والعالم الإسلامي وأهم المشكلات التي تواجه المسلمين في العالم ، كما يجب عليه أن يكون على دراية بمكر أعداء الإسلام ، وكيفية مواجهة مكرهم وعداءهم بالوسائل المثلى العصرية 0
ذلك أن العلم الشرعي أمانة شرعيّة لاتبرأ الذمّة إلا بالقيام بحقه ، وحقه هو إخلاصه لله تعالى ، والترفع به عن أبواب السلاطين ، وإكرامه من أن تطلب به النفس متاع الحياة الدنيا 0
ومن حقه تعليمه للناس ، وبذله للعامة المسلمين ، والجهاد في الدعوة إليه ، والصبر على الأذى في سبيل تعلمه وتعليمه كما ورثناه عن نبّينا صلى الله عليه وسلّم ، على قدر الطاقة والوسع ، ولايكلف الله نفسا إلا وسعها ، وليس العالم من يحفظ العلم ثم يغلق عليه بابه والناس بحاجة إليه ، وليس العالم من لايهتم بأمر المسلمين ، ولايبالي بمصائبهم ، ولايسعى لإصلاح أحوالهم الدينية ، وإرشادهم إلى مافيه نجاتهم في الدنيا والآخرة 0
ومن أخذ العلم لله ، وقام به لله ، ونصر به دين الله ، دخل بتوفيق من الله ، في قول الله : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات ) والله أعلم، وصلّى اللهُ على نَبِيّنا مُحَمّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسلَّم 0(/5)
برهان الدين العبوسي
(1330 ـ 1415 هـ) (1911 ـ 1995 م)
حسني جرار
شاعر ، مناضل ، ولد في مدينة جنين ، وتلقى دراسته الابتدائية في مدارسها ، وانتقل إلى مدينة نابلس فدرس قسماً من المرحلة الثانوية في كلية النجاح الوطنية ، ثم توجه إلى لبنان وأتم المرحلة الثانوية في الكلية الوطنية في الشويفات . ودخل الجامعة الأمريكية في بيروت فأنهى السنة الإعدادية فيها ، ولم يتمكن من مواصلة دراسة لأسباب وطنية ، وكان ذلك عام 1932 ، فعاد إلى فلسطين وعمل موظفاً في البنك الزراعي العربي (بنك الأمة العربية) (1) . وساهم في الحركة الوطنية الفلسطينية ، فكان من المناصرين للشهيد عز الدين القسام .
وفي عام 1936 قام بحملة توعية في قرى فلسطين ضد الإنجليز والهجرة اليهودية إلى فلسطين ، فاعتقل ونفي إلى منطقة " عوجا الحفير" على حدود سينا ، ثم نقل إلى معتقل صرفند ، ولما بلغت مدة اعتقاله ستة أشهر أطلق سراحه ، ثم اعتقل ثانية وأودع في معتقل المزرعة قرب عكا مع عدد من المجاهدين . وبعد إخلاء سبيله هاجر على بيروت ، ثم إلى دمشق ومنها إلى بغداد ، وعمل مدرساً بمدارس العراق من عام 1939 إلى 1941 (2) .
واشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز ، وجرح في معركة غرب بغداد .
وبعد فشل الثورة عاد سراً إلى مسقط رأسه جنين ، حيث عاد إلى العمل في البنك الزراعي العربي في مدينة حيفا ، وعين أميناً للسر في مقر جمعية الشبان المسلمين في حيفا . واسهم في مشروع صندوق الأمة العربية بتوعية الفلاح الفلسطيني بالحفاظ على أرضه أمام جميع المغريات الصهيونية التي استهدفت استلاب الأرض بشتى الوسائل .
وفي سنة 1945 سافر إلى القاهرة مع الكشافة الإسلامية لشرح قضية فلسطين (4) . وفي عام 1948 التحق بالقوات العربية التي دخلت فلسطين ، وخاض المعارك ضد اليهود مع جيش الإنقاذ في منطقة جنين ، وأصيب بجرح بالغ في كتفه . وبعد انسحاب الجيوش العربية من فلسطين توجه إلى بغداد ، وعمل معلماً للغة العربية والدين في الثانوية المركزية ، وبقي في مهنة التدريس إلى أن أحيل على المعاش (5).
هذا الشاعر المناضل ترك لنا إنتاجاً أدبياً هادفاً ، صدر منه أربع مسرحيات هي : " شبح الأندلس " ، " الفداء " ، " عرب القادسية ". وأربعة دواوين شعر هي : " جبل النار" ، " إلى متى " ، " جنود السماء" ، " النيازك " . وقد نظم شعراً رائعاً معبراً في أكثر الأغراض الشعرية المعروفة ، وخاصة الوطنية منها ، ومن ذلك قوله في إحدى قصائده (6) :
نغامر لا نرضى سوى المجد موطنا
وقفنا له قلباً حديداً iiوأنفساً
لنا حقنا الوضاح لسنا iiنبيعه ... ... ولسنا نبالي إن نأى الموت أو iiدنا
تحطم في أرجائها الموت iiوالفنا
وكيف يبيع الحق من كان iiمؤمنا
المراجع :
(1) أحمد الجدع : معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين ج 1 ، دار الضياء ، عمان ، 1999 م.
(2) محمد عمر حمادة : أعلام فلسطين ج 2 ، دار قتيبة ، دمشق ، 1988 .
(3) يعقوب العودات : أعلام الفكر والأدب في فلسطين ، وكالة التوزيع الأردنية ، عمان ، 1987 .
(4) ياسين السعدي : جريدة القدس في 23 / 2 / 1995 .
الهوامش :
(1) معجم الأدباء الإسلاميين ج 1 ، ص 180 . وأعلام فلسطين ج 2 ، ص 19 .
(2) معجم الأدباء الإسلاميين ج 1 ، ص 180 . وأعلام فلسطين ج 2 ، ص 19 .
(3) أعلام فلسطين ج 2 ، ص 20 .
(4) أعلام الفكر والأدب في فلسطين ، ص 431 . ومعجم الأدباء الإسلاميين ، ص 181 .
(5) جريدة القدس في 23 / 2 / 1995 ، ص 14 . ومعجم الأدباء الإسلاميين ، ص 181 .
(6) أعلام الفكر والأدب ، ص 431 . وجريدة القدس في 23 / 2 / 1995 ، ص 14 .(/1)
بريق الغلاف
الجيلي حامد*
الحالة الانهزامية التي تعيشها أمتنا حدت بها إلى تقليد الغرب في كل كبيرة وصغيرة، والانبهار إلى درجة الدهشة بمنتجات الدول الأوربية كيفما كانت؛ حتى وصلنا إلى الحد الذي لا نستطيع معه التميز بين الغث والثمين، والسليم والسقيم؛ مما هو وافد من تلك الدول؛ من مأكولات ومشروبات، أو ملبوسات، أو حتى عقائد وأفكار.
يحكي أن سودانيا كان يعمل تاجرا في إحدى دول الخليج، وفي مرة كسد عنده سوق البصل فاقترح عليه سوداني آخر أن يجعل البصل في شيكارات أمريكية؛ ففعل؛ فتسابق الناس إلى البصل السوداني؛ لأنه بغلاف أمريكي.
في هذه القصة وقفة وعبرة لأصحاب المصانع المنتجة بتحسين الغلاف، وتكثيف الدعاية على طريقة تؤيد ذوق المستهلك المحلي، وتحترم عقليته في الاختيار؛ خصوصا في هذا الزمن الذي بدأت فيه العقول تسترد بعض عافيتها؛ لتميز بين الأشياء، وتقدر مستوي الجودة، والقيمة الغذائية، والفائدة الذهنية، والمنفعة الآنية، والمستقبلية؛ دون النظر إلى كلمة صنع في.
من الطرائف أن علب ساردين استوردت من إحدى دول أوربا كان مكتوبا عليها ذبح على الطريقة الإسلامية..
فعليه فيجب أن نشجع المنتج المحلي المدرك لخصائص المجتمع، ونطالب القائمين عليه بتجريد النظرة من المنفعة الذاتية المحضة، بل عليهم أن يسعوا لكسب ثقة المستهلك، وألاَّ يضربوا مثلاً سيئاً؛ يشكك في مصداقية المنتج المحلي.. ونحن في ظل هذه الأحداث التي تدعو للانعتاق نأمن على مسؤولية الجميع في القيام بهذه المهمة الصعبة التي لا بد لها من تضحية من كل الأطراف؛ بمعني أوضح لا يستغل المنتج إقبال المستهلك؛ فيقلل من الجودة؛ ويزيد في الثمن، وكذلك المستهلك بأن يعطي السلعة أو الفكرة حقها بقدر ما تحتويه من فائدة، ولا يقلل من ثمنها؛ لأنها محلية.
خدعنا كثيرًا ببريق الغلاف؛ لدرجة أننا صدقنا شعار السوبرمان الذي أطلقه الإنسان الغربي على نفسه؛ زاعمًا أنه سيخلص البشرية من عذاباتها، وينقلها إلى مستوىً عالٍ من الرفاهية، وأن هذا الذي يخاطبنا عبر الشاشات وعليه أجمل الثياب العاكسة لأضواء الكاميرات هو إنسان آخر، متحضر، كله بطولة، وكله شهامة، ورحمة؛ فصار عندنا نجما نقلده بلا حدود.. حتى إن لاعب كرة القدم البرازيلي (رونالدو) كمثال عندما ظهر للناس بحلاقته القبيحة - والتي تخلى هو نفسه عنها - أصبح يقلده فيها بعض شباب المسلمين؛ راضين بالقزع، والقبح، والمخالفة الشرعية..
وكثيرون هم الذين شكلهم داعي الإعجاب، وصهرهم موقد الانبهار؛ فصاروا نسخا غير أصلية للممثلين والممثلات، والخائنين لأوطانهم والخائنات، والممجدين الغرب كثيرا والممجدات، والزاعمين التقدم، والداعين للتحرر من كافة القيود؛ انطلاقا إلى دنيا الإباحية، وعالم الانحلال؛ لأن ذلك هو اختيار السوبرمان الغلاف؛ الذي أخرج على مستوىً من الجمال.
إن البريق الذي سطع في أعيننا تأثرنا به في كافة الأصعدة؛ فأصبح له انعكاسات في واقعنا؛ مثل ظهور الشيوعية، والعلمانية، والتمثيل، والغناء، وكرة القدم، وصنوف من الأطعمة، والمشروبات، والمخدرات.. نحن في غنى عنها لو عقلنا؛ وجعلنا أمام كل عمل سؤال (لماذا أعمل؟، وماهي الفائدة؟).
لو تخلصنا من القمامات المتراكمة، وهذه الأفكار المترهلة؛ وعدنا للمنهج الذي اخترناه عن قناعة؛ بلا قهر أو ضغوط دعائية؛ وأيدنا قيام الدولة الإسلامية الكبرى، وفكرة السوق المشتركة لكان التكامل الاقتصادي؛ الذي لا ثغرة فيه، ولا فجوة تحتاج إلى سدّ؛ وبعد هذا اطرح هذا السؤال (هل سوف نكون في حاجة للاستيراد؟)؛ الإجابة متروكة للقارئ الكريم في أي مكان.(/1)
برّ الأبناء بأمّهم الكافرة
السؤال :
أنا فتاةٌ مسلمة من أبٍ مسلم ، و أم بروتستانتيّة ، و قد طُلِّقَت والدتي قبلَ فترةٍ طويلة ، فهل لي أن أبَرّها بالاتصال و الزيارة و تقديم الهدايا ، عِلماً بأنّ ذلك قد يكون سبباً في هدايتها إلى الإسلام ، و لو بعدَ حين .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الإسلام دين البرّ و الصِلة ، و قد وصف الله تعالى عباده الصالحين بأنّهم ( يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) [ الرعد : 21 ] .
و أحق الناس بحُسن صحبة المرء و صلته أبواه ، ، لذلك قَرَن تعالى الإحسان إليهما بعبادته و توحيده في قوله : ( وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ النساء : 36 ] .
و قال سبحانه : ( وَ قَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و حقّ الأمّ مقدّم في ذلك على حقّ الأب ، لما رواه الشيخان و غيرهماعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أبوك ) .
و هذا الحديث مفسّر ، و المراد منه ظاهره ، و هو تقديم حقّ الأمّ على حقّ الأب عند تزاحم الحقوق ، أمّا عند الإنفراد فلكلٍّ حقّه من البرّ و الصلة و الإحسان .
قال الحافظ ابن حجر : ( قال ابن بطال : مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر ، قال : وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية ، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى ( وَ وَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) [ لقمان : 14 ] ، فسوَّى بينهما في الوصاية ، وخص الأم بالأمور الثلاثة ، قال القرطبي : المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر ، و تقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة ، وقال عياض : و ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب ) [ فتح الباري : 10 : 402 ] .
و ليس هذا خاصاً بالأبوين المسلمَين أو أحدِهِما ، بل يتعدّاه إلى من لم يُكرمه الله بالإسلام ، إذ إنّ الله تعالى لم ينهنا عمّن لم يحاربوننا من ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [ الممتحنة : 8 ] .
قُلتُ : إذا كان هذا في حق الكافر غير القريب ، فكيف بذي الرحم ؟! خاصّةً و قد ذهَب بعض أهل العلم إلى أنّ سبب نزول هذه الآية ما رواه الشيخان و غيرهما عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي راغبة أفأصِل أمي ؟ قال : ( نعم صِلِي أمَّك ) .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث : ( و قال الخطابي : فيه أن الرحم الكافرة توصل من المال و نحوه ، كما تُوصَل المسلمة ، و يستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر و الأم الكافرة و إن كان الولد مسلماً ) .
فصِلي أمّك ما استطعتِ بالاتصال أو الزيارة أو الإهداء أو غير ذلك من وجوه البرّ ، و سَلي الله لها الهداية و حسن الختام ، و تألفي قلبها قَدرَ المستطاع ، و تلطّفي في دعوتها إلى الإسلام ، علّ الله يجعل هدايتها على يدَيك ، و يجمعك بها في مستقرّ رحمته كما جمع بينكما في الدنيا ، و بالله التوفيق .(/1)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهذه ليلة الاثنين الموافق للتاسع عشر من الشهر العاشر للعام الخامس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك بمدينة <عيون> .....يتجدد اللقاء مع هذه الوجوه الطيبة المباركة وموضوع هذا اللقاء هو بعنوان بشائر ومبشرات وفي وقت تكالبت فيه المصائب والمحن على المسلمين وفي وقت الجراح تنزف في كل جزء من جسد هذه الأمة في وقت تحشرجت فيه النفوس وضاقت فيه القلوب حتى أصاب كثيرا من الناس اليأس والقنوط فما أن تذكر الأمة الإسلامية حتى تسمع الزفرات والآهات والحوقلة والاسترجاع وكأن الأسباب تقطعت والآمال تدثرت في هذا الوقت العصيب وفي مثل هذه الظروف أزف إليكم أيها الأحبة هذه المبشرات أزفها إليكم لترسم أشعة الفجر الجديد ولتملأ النفوس المسلمة باليقين وأزفها إليكم لتشعر القلوب الحية بالعز والتمكين وليشرق بها أعداء الدين وليغص بها الكافرون والمنافقون أسوق إليكم هذه البشائر وهذه المبشرات وأزفها إليكم تذكيرا للغافل وتنشيطا للذاكر أزف إليكم هذه المبشرات لتحيى بها النفوس الأبيّات بشراكم أيها الأحبة إن ميلاد الأمة قريب ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام ومن رحم الظلام يخرج النور والليل إن تشتد ظلمته فإن الفجر لاح
أبشر فهذا الفجر لاح
ها نحن جئنا يا صلاح
قد أدبر الليل العميل
وجاء للدنيا صباح
ما دام عرقي نابض
لن تعرف النفس ارتياح
حتى أرى شعبي
وليس له عن الأقصى براح
إن العالم الإسلامي بأسره يعيش لحظات عصيبة وساعات حرجة يخطها القلم ويسجلها التاريخ ما عليك فقط إلا أن تقرأ إن كنت ممن يقرأ صحيفة أو تنظر مجلة أو تسمع لنشرة أخبار لتقف بنفسك على حال المسلمين في كل مكان وما لم يذكر أو يغفل فهو أكثر ففي البوسنة والهرسك ملايين القتلى والمشردين الأطفال اليتامى والنساء الثكالى والمساجد مهدمة والدماء تسيل أكثر من خمسين ألف مسلمة ينتهك عرضها في البوسنة والهرسك فقط فما بالك <بكشمير> و<الفلبين >و< طاجاكستان >و<الشيشان> و<الصومال> و<أفغانستان> و<أراكان> و<ألبانيا >و<كوسوفو> بل في كل بقعة يذكر فيها اسم الله تعالى إنه التحدي السافر أيها الأحبة إنه التحدي السافر لهذه الأمة في عقيدتها وفي تاريخها وفي إسلامها ومستقبلها أمر مفزع مروع هذا الواقع جعل كثيرا من المسلمين عرضة لليأس نعم جعل كثيرا من المسلمين عرضة لليأس والقنوط ومن ثم للخمول والقعود وأقول إن اليأس في قلوب أنفار هؤلاء ناتج عن الأسباب التالية وباختصار شديد:
أولا : ما نراه أو ما يرونه من جهود الأعداء ومحاربة الإسلام ومواجهة أهله مستخدما أي هذا العدو مستخدما كل طاقاته من تقدم تكنولوجي في العدة والعتاد وكل وسيلة من وسائل الاستعمار الفكري .
ثانيا : بعد الناس عن دين الله وموت الإحساس لدى الكثير منهم فهو لا يعلم عما يجري لإخوانه وإن علم فكأن الأمر لا يعنيه المهم نفسه وماله وهذا هو الهوان الذي أشار إليه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الدنيا وكراهية الموت.
ثالثا : من أسباب اليأس والقنوط عند بعض الناس يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون مما حدا بكثير من المسلمين والمسلمات إلى الاستسلام والخمول والتثبيط عند بذل أي جهد فالخوف والرعب يأكل قلوبهم الخوف والرعب يأكل قلوبهم ومما سبق من هذه الأسباب فإنها تقودنا إلى:(/1)
سبب رابع من أسباب اليأس وهو سبب مهم جدا غفل أو تغافل عنه كثير من الناس ألا وهو الجهل بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان إن كثيرا من الناس لا يعلم لماذا خلق وإن علم فإنه يتغافل عن الهدف الحقيقي الذي من أجله خلق فيا أيها الإنسان أنت خلقت لهدف خلقت لغاية عظيمة نبيلة هي عبادة الله عز وجل عبادة الله بمفهومها الحقيقي الذي عرفه أهل العلم اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة هذا هو تعريف العبادة هذه هي العبادة الحقيقية التي يريدها الله سبحانه وتعالى من عباده لا كما يريده الأعداء العبادة في المسجد لا كما يرسمها الأعداء أن العبادة هي تلك العبادة الكبيرة الصلاة والصيام الحج والزكاة هذه هي عبادة المسلم وما هكذا يريد الله أيها الأحبة إن العبادة التي يريد الله بمفهومها الحقيقي ذلك المعنى العام الذي يشمل كل نواحي الحياة فاسأل نفسك لماذا خلقت أمن أجل أن تأكل وتشرب وتنام وتقوم أمن أجل الملذات والشهوات هذا والله هو شأن الحيوان بل إن ذلك الإنسان أضل من الحيوان اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ
بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) غفلوا عن الهدف وغفلوا عن الحقيقة التي من أجلها خلقوا فعاشوا أضل من الأنعام عياذا بالله لمجرد الملذات والشهوات لمجرد البيع والشراء لمجرد أن يحيى الإنسان ويذهب في هذه الدنيا بئس الحياة إن كانت هذه هي الحياة التي يعيشها المسلم إنك خلقت لهدف أسمى إنك خلقت لرضى الإله أيها الأخ الحبيب ففكر في نفسك وارجع لنفسك واسألها بصدق هل أنت راض عن نفسك الآن هل أنت راض عن هذا العمر الطويل الذي أمد الله عز وجل به إلى يومك هذا ماذا قدمت لله ماذا قدمت لنفسك يوم أن تقدم على الله عز وجل عندها تقول بملء فيك لا لا وألف لا لعبادة العباد لا وألف لا لعبادة الشهوات والملذات تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش هذه هي عبادة الدنيا كما تبعها كثير من الناس .
والسبب الخامس الجهل بطبيعة هذا الدين هذه الأمور وهذه الأسباب الخمسة وغيرها جعلت كثيرا من الناس يصيبه اليأس وتداخله الشكوك لنصرة هذا الدين وتمكينه في هذه الأرض وحتى نقطع الطريق على هؤلاء المخدرين اليائسين الخائفين فإني أقول وبكل قوة وبكل ثقة ويقين ابشروا أيها الأحبة ابشروا بنصر الله فإن البشائر والمبشرات كثيرة ولله الحمد المهم أن نتفاءل ولنملأ أنفسنا بالتفاؤل وقد يقول قائل لماذا وكيف نتفاءل وواقع المسلمين كما ذكرت وكما نرى ونسمع فأقول يجب أن نتفاءل لأسباب كثيرة منها ومن أهمها أن القرآن الكريم حرم اليأس وندد باليائسين وهذه من أولى البشارات ومن أول البشائر أن القرآن حرم اليأس وندد باليائسين فعالج هذا المرض الخطير بالتحريم القاطع لينقطع دابره من النفوس فلا يجوز للمسلم أن ييئس أبدا فاليأس قرين للكفر واسمع لقول الحق عز وجل ( ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) فاليأس صفة للكافرين واليأس قرين الضلال قال تعالى ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) حذر الله عز وجل من اليأس والقنوط إذن نقول لليائسين المخذلين إن اليأس في دين الله لا يجوز فاحذره فاحذر من اليأس واحذر من التيئيس فإنه أول علامة للهزيمة والفتور والخور النفسي إن أول علامة للهزيمة النفسية التي أصابت كثير من المسلمين اليوم هي في قضية اليأس والقنوط عياذا بالله .(/2)
ومن هذه البشائر وهي البشارة الثانية بشائر الكتاب والسنة ولم لم يكن سوى هذه البشائر لكفى فهي نصوص وهي وعود ممن ؟ ممن بيده ملكوت السماوات والأرض ممن بيده الأمر كله فلماذا إذن الضعف والهوان ولماذا الخوف والخور والله سبحانه وتعالى معك مؤيدا لك ناصرا لك أين الثقة في الله أيها الأحبة أين اليقين في قدرة الله وقوته اسمع لهذه الآيات وتدبرها عندما قال الحق عز وجل ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) إظهار دين الله أمر تكفل به الله سبحانه وتعالى وقال سبحانه وتعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) إذن فهذا هو عهد الله واسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ) هذا هو الهدف هذا هو الذي يريد الله عز وجل من عباده ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) وقال سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وقال ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) في هذه الآيات أخبر سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين لكن متى إذا قاموا بنصرة دينه إذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقد وعد الله المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق يوم أن وعده الحق سبحانه وتعالى هذه بعض نصوص القرآن تعالى واسمع لبعض نصوص السنة النبوية فقد روى الإمام [أحمد] و[البزار] و[الطيالسي] وقال [الهيثمي] عن الحديث ورجاله رجال الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "إن أول دينكم نبوة ورحمة وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله ثم يكون ملكا جبريا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلقي الإسلام بجيرانه في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدرارا ولا تدع الأرض من نبات ولا من بركاتها شيئا إلا أخرجته "وروى[ الدارمي ] وأحمد و[ابن أبي شيبة ] عن [أبي خبيب] قال كنا عند [عبد الله بن عمرو بن العاص] وسئل أي المدينتين تفتح أولا <القسطنطينية> أم< رومية> والقسطنطينية هي الآن عاصمة تركيا استنبول وقد فتحت أما رومية فهي عاصمة إيطاليا الآن التي فيها مقر الصليبية والتي فيها دولة الفاتيكان التي تقود الأمة النصرانية في هذا الوقت فجاء عبد الله بصندوق له حلق قال فأخرج كتابا فقال عبد الله "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي المدينتين تفتح أولا فقال مدينة هرقل يعني القسطنطينية "والحديث حسنه المقدسي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه وقد تحقق الفتح الأول على يد الخليفة العثماني [محمد الفاتح] رحمه الله تعالى وذلك عام ثلاثة وخمسين وأربعمائة وألف للميلاد أي بعد تقريبا ثماني مائة سنة من وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ننتظر الآن صدق الوعد الآخر سقوط روما بفضل الله وبمشيئة الله وهذا وعد منه صلى الله عليه وآله وسلم لا بد صائب بمشيئة الله وأيضا روى مسلم وغيره وأصحاب السنن إلا النسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " إن الله زوى لي الأرض أي ضمها وجمعها فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " وفي الحديث الذي رواه [ابن حبان] " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز وبذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر" وأيضا هذان الحديثان يؤكدان رجوع الإسلام إلى مركز الريادة وموضع القيادة ومقام السيادة من شرق الدنيا إلى غربها لتتحقق إرادة الله التي اقتضاها لهذه الأمة الإسلامية منذ الأزل وروى الشيخان والأحاديث كثيرة ولكني اختصرها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود " وهذا الحديث يشير إلى أن اليهود سيجتمعون في مكان ثم يتسلط عليهم المسلمون وهذا هو الواقع الكائن الآن الدلائل تشير إلى هذا فإن اليهود يجمعون أعوانهم ويجمعون أهلهم من كل مكان في فلسطين هذه الأحاديث وأيضا لا ننس أحاديث الطائفة المنصورة(/3)
وقد وردت عن عدد من الصحابة منها حديث [سعد بن أبي وقاص] رضي الله عنه عند مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وحديث [أنس ابن مالك] رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره "والحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي حديث حسن وصححه الألباني في صحيح الترمذي وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " بشر هذه الأمة بالثناء والنصر والتمكين ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" والحديث رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي على ذلك وقال الألباني في أحكام الجنائز قال إن إسناد عبد الله صحيح على شرط البخاري. من هذه النصوص من القرآن والسنة يتبين لنا أن هذه النصوص كلها بشائر لنصرة الإسلام وتمكينه ألا فليثق الدعاة إلى الله عز وجل في هذه المبشرات مهما كان في الطريق من عثرات (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ولو لم يكن من البشائر والمبشرات سوى هذه النصوص لكفت فكيف والتاريخ يشهد بذلك وكيف والواقع يتفجر عن ينابيع الإسلام الواقع الآن أيها الأحبة يتفجر عن ينابيع الإسلام وعن قدومه في كل يوم ففي كل يوم نسمع عن حرب للإسلام والمسلمين قادمة من بقاع لم نكن نعرفها ولم نسمع بها وإليك تفصيل ذلك :
من البشائر ثالثا الصراع القائم الآن بين الحق والباطل فصولات الباطل وانتفاش أهله دليل على قوة الحق وقدومه وتململه إن صراع الباطل وانتفاش أهله الآن دليل على قوة الحق وقدومه وتململه فقبل سنوات قليلة لم يكن للمسلمين صوت لا في البوسنة ولا في طاجاكستان ولا في الفلبين ولا في الشيشان ولا في غيرها من بلاد المسلمين أما الآن فإننا نسمع تلك الأمور وتلك الصولات والجولات للمسلمين في كل مكان وفي كل سفح من أنحاء المعمورة هذه الأمور إننا نعتبرها أيها الأحبة ينابيع للإسلام تتفجر عن قدومه وبقوة فماذا قدمنا وما هو دورنا فالإسلام ماض في طريقه للعزة والتمكين سواء بنا أو بغيرنا فيا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة سجل لنفسك موقفا يشهد لك عند الله عز وجل كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بكلمات صادقة ناصحة من قلب يحترق ويتألم كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بشريط أو بكتاب يفتح الله به قلوبا عميا أو أذانا صما كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بريالات قليلة تعين بها ملهوفا وتنصر بها مظلوما المهم أن تعمل أن تشعر أنك تقدم فكر وابحث وقلب الأمور وستجد أن بيدك الخير الكثير فلا يقل قائل ماذا أقدم وماذا أعمل فإننا تعدينا مرحلة هذا السؤال والوقوف عند هذا السؤال بكثير .(/4)
ومن البشائر أيضا أيها الأحبة وهي بشارة رابعة ذلك الخوف الرهيب والرعب الشديد من الإسلام فلماذا يتعرض الإسلام في هذه الأيام لهجمات مسعورة ولماذا تزداد هذه الهجمات شراسة كلما ظهرت صحوة إسلامية في بلد ما لماذا يتفق أصحاب الشعارات والمبادئ المتناقضة لماذا يتفقون هؤلاء على عدائهم للإسلام وأهله لماذا تثار الشبهات حول الإسلام ومبادئه ومناهجه وعقائده وأحكامه لماذا تثار الحملات الشعواء التي تشنها صحافة الغرب والشرق على الإسلام وأهله لماذا تغزى بلاد الإسلام بوسائل الشهوات والمخدرات ووسائل الخلاعة والمجون المحطمة لقوى الشباب المستنزفة لطاقاتهم وأفكارهم وعقولهم الإجابة واحدة إنهم يخافون الإسلام إنهم يخافون من رجعة قوية للإسلام والمسلمين إنهم يخافون من وحدة المسلمين لقد درس أعداؤنا من الكافرين وأذنابهم الإسلام وعقيدته فعرفوا أنه يربي الرجال والنساء على تقديم كل غال ونفيس في سبيل الله حتى ولو كان المقدم هو الروح فهي رخيصة من أجل الإسلام وفي ذات الله علموا هذه الحقيقة رأوها في الواقع في ساحات الجهاد فلذلك خافوا وهلعوا وأصابهم الرعب الشديد من الإسلام ولتعلم حقيقة هذا الرعب وهذا الفزع الذي أصابهم اسمع لبعض أقوالهم فالحق ما شهدت به الأعداء كما يقال وإني أسوق إليك نذرا يسيرا قليلا مما قالوه عن الإسلام والصور والمقالات التي تبرهن على خوفهم ورعبهم الشديد من هذا الدين هذا قول لـ[مور بيجر] في كتابه العالم العربي المعاصر يقول إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتج عن وجود البترول بغزارة عند العرب بل بسبب الإسلام يجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوتهم لأن قوة العرب تتصاعد دائما مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره .ونحن نسمع مثل هذه المقالة نقول أين شبابنا ليعلموا أن تمزيق وحدة الصف المسلم وبث الفرقة والنزاع وتقسيم المسلمين إلى جماعات وأحزاب إنما هو هدف خلفه من خلفه ألا فليتق الله ألا فليتق الله ذلك المسلم الذي يكون وسيلة لتنفيذ مخططات الأعداء قد يكون وسيلة لتنفيذ مخططاتهم وهو لا يشعر باسم الغيرة على الدين باسم تأصيل العقيدة فافهم العقيدة جيدا وطبقها على الواقع كما يريد الله عز وجل ذلك فإنها صالحة لكل زمان ومكان وإياك أن تكون وسيلة في أيدي أعداء الدين لبث الفرقة والنزاع وتمزيق صف وحدة المسلمين وها هو [فيلب ونداسي] يصرح في كتابه المسمى الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء يقول إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره ويقول المستشرق الفرنسي [كيرون] في كتابه باثولوجيا الإسلام يقول وأعتقد أن من الواجب إبادة خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع محمدا وجثته في متحف اللوفر ويقول [البرمارشادور] يقول إن هذا المسلم الذي نام نوما عميقا مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي ها أنا ذا لم أمت إنني أعود إلى لحياة لا لأكون أداة طيعة أو ثقلا من البشر تسيره العواصم الكبرى ويقول أيضا معقبا هو نفسه يقول ومن يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الإفرنج مهددة بالمسلمين فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب ثم يقول لست أدعي النبوءة ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة ولا تقوى كثيرة لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها انتهى كلامه هنا ثم تعال واسمع إلى تلك الرسالة السرية التي أرسلها رئيس الوزراء البريطاني [جون ميجور] حين أرسلها إلى الوزير البريطاني للشئون الخارجية يخبره بأنهم لن يوافقوا أبدا على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم عليهم مهما كانت الظروف وهذه الرسالة نشرتها مجلة الرابطة عدد محرم وصفر وربيع الأول من عام أربعة عشر بعد الأربع مائة والألف من السنة الماضية والرسالة نشرتها المجلة باللغتين العربية والإنجليزية وإليك النص الأصلي واعذرني أن لا أقرأ عليك النص كاملا لطول الرسالة وأقرأ عليك مقاطع من هذه الرسالة يقول في بداية الرسالة مكتب رئيس وزراء ثم يقول السيد دوبلس هوف مكتب الشئون الخارجية والمملكة المتحدة لندن وتاريخ الرسالة ألف وأربعمائة وإحدى عشر يقول السيد دوبلس المحترم أشكرك على التقرير المفصل حول الأوضاع الماضية والحالية في جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت جزءا من دولة يوغسلافيا السابقة ثم يقول كما تعرف جيدا من خلال الأحاديث السابقة في المكتب والمناسبات الأخرى فإن حكومة جلالة الملكة لن تغير موقفها تجاه حل القضايا السياسية التالية :(/5)
1 – يقول لا نوافق الآن كما أنا لن نوافق في المستقبل على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم على استخدامه إننا سنواصل دعمنا الحازم لإبقاء الحذر بالسلاح المفروض من قبل الأمم المتحدة على دول هذه المنطقة رغم معلوماتنا الموثقة الواردة عن دعم دول اليونان وروسيا وبلغاريا للجيش الصربي وقيامها بتدريبه والمعلومات أيضا عن قيام ألمانيا والنمسا وسلوفينيا وحتى الفاتيكان بالدور المماثل لدعم كرواتيا والقوات الكرواتية في البوسنة والهرسك ومن المهم جدا أن أننا نعلم يقينا أن جميع الجهود المماثلة المبذولة من قبل الدول والمنظمات الإسلامية لدعم المسلمين قد باءت بالفشل التام ثم يقول إنه يتعين علينا اتباع هذه السياسة حتى لحظة الوصول إلى الهدف النهائي ما هو الهدف وهو تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبدا وإنه من غير المسموح أن نرتكب في البوسنة والهرسك أو في أي مكان في العالم الخطأ الذي ارتكبناه بتسليح وتدريب المقاتلين الأفغانيين أثناء قتالهم مع الاتحاد السوفيتي وأترك كثيرا من كلامه في الرسالة إلى أن يقول ثانيا من نقاط الرسالة يجب أن نؤكد ضرورة إخفاء حقيقة التحركات السياسية الغربية وبأي ثمن عن كل الدول التي يمكن أن نسميها بالإسلامية وبالذات عن تركيا فيما يتعلق بهذه المنطقة إلى أن تهدأ الأمور في يوغسلافيا السابقة ومن أجل هذا السبب نفسه يتعين علينا الاستمرار في الخدعة التي سميناها بوايس أوين لإحلال السلام بهدف عرقلة كل التحركات إلى أن نقضي على دولة البوسنة والهرسك ويتم تهجير المسلمين منها إلى مختلف دول العالم ثم يقول قد يظهر للبعض أن هذه السياسة قاسية إلا أنه من واجبي أن أطالب بها كل العاملين في مكتب الخارجية لشئون المجموعة الأوربية الذين لهم صلة مباشرة بصنع القرارات السياسية والعاملين في الأجهزة العسكرية ولكني متأكد أن هذه السياسة في حقيقة الأمر السياسة الوحيدة الناجحة من أجل المصلحة العليا وهي مستقبل الأمن الأوربي إلى آخر رسالته وهذه صورة من الرسالة باللغة الإنجليزية .
البشارة الرابعة من البشائر واقع الحضارة المادية الغربية الآيلة للانهيار ومن هذا انهيار الشيوعية فإن انهيار المذهب الشيوعي في ذاته لا بد أن يوضع من المبشرات فقد كانت الشيوعية فتنة لكثير من الشباب في العالم العربي ومن كان يصدق أن تنهار الإمبراطورية الروسية ثم ها هي تلتمس الأعطيات والمساعدات من بقية الدول الأخرى فأين من يعقل ويتدبر روسيا القوة الثانية في العالم التي كانت تنافس الرأسمالية أصبحت اليوم تتلمس المساعدات والأعطيات وأما الرأسمالية التي تمثلها اليوم أمريكا فإن واقع المجتمع الأمريكي في كل مجالاته الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والاجتماعية وغيرها واقع مفزع مخيف بالنسبة لهم ليس أنا من يقول هذا الكلام ولكي اختصر عليك الوقت وأوثق المعلومات لك فإني أطالبك بالرجوع إلى كتاب بعنوان يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة ارجع لهذا الكتاب وانظر الأرقام والإحصاءات هذا الكتاب تأليف [جيمس باترسون] و[باتر كام] وترجمه للعربية الدكتور [محمد بن سعود البشر] صدر الكتاب بالإنجليزية عام واحد وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي يقع في مائتين وسبعين صفحة من القطع المتوسط وهذا الكتاب هو دراسة قامت على إحصاءات واستبانه وأرقام من واقع المجتمع الأمريكي ونتائج هذا الكتاب نتائج مفزعة مخيفة بالنسبة للأمريكيين اسمعوا ماذا يقول الأمريكيون أنفسهم عن هذا الكتاب يقول [إلكس هلي] مؤلف كتاب عن هذا الكتاب كتاب يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة يقول : كتاب مفزع عندما أنهيت قراءته لم أعرف ماذا أفعل هل أصدع بالحقائق أي التي فيه أم أركض للتلال وأختبئ إنه يعرض لنا حقائق عن أنفسنا لم نشاهدها في أية دراسة أو في أية استطلاعات أو في استطلاعات الرأي ولا حتى في الأحاديث الشخصية وتقول صحيفة نيويورك ديلي نيوز عن الكتاب كلمة واحدة قالت عن الكتاب نتائج مفزعة وأيضا يقول [سيدني جينز] نائب الرئيس التنفيذي لشركة كولومبيا للإنتاج السينمائي يقول كتاب باتر سون وكيم أي المؤلفان يقول قد يكون نقطة الالتقاء حتى تجنب الولايات المتحدة نفسها من كارثة محققة الحقائق المفزعة التي يقدمانها في هذا الكتاب الآن وإلا فلا جدوى .هذا ما قالوه عن هذا الكتاب الذي يعلن عن التصدع الكبير في بنية مجتمعهم وانظر إن شئت كتاب آخر بعنوان السقوط من الداخل ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي للدكتور محمد بن سعود البشر أيضا وهو عبارة عن مناقشات للقضايا والمشكلات الراهنة التي يعاني منها المجتمع الأمريكي في جميع النواحي .(/6)
أقول إن الحضارة المادية الغربية تتهالك اليوم وتسقط سقطت الشيوعية والنذر قادمة لسقوط الرأسمالية ،العالم اليوم بجميع أحواله أيها الأحبة يشكو من إفلاس الأنظمة الأسرية ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت حياتهم فما أكثر الانتحارات وما أكثر اللجوء للخمر والضياع والفساد والشهوات في تلك المجتمعات وطغت هذه النظم على كل جوانب الخير عند ذلك الإنسان وها هو ذلك الإنسان يتطلع اليوم إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك وليس المنقذ أبدا إلا الإسلام هو الذي يتوافق مع الفطرة وهو الذي يحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة ويكفي الأنظمة البشرية قصورا وفشلا أنها من صنع البشر يكفيها قصورا وفشلا أنها من صنع البشر وأن دين الإسلام من صنع خالق البشر سبحانه وتعالى .
ومن البشائر وهي البشارة السادسة واقع الأمة البشرية هذا الواقع الذي بدأت تصحو على نداءات المخلصين إن ما نشاهده الآن في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة مباركة ومن رجوع صادق إلى دين الله يزداد ولله الحمد والمنة يوما بعد يوم مما يدل دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب عن بكرة أبيها على الالتزام بحقيقة دينها والنهوض بأمتها ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله عز وجل أقرءوا الصحف اقرءوا المجلات انظروا في اليوم الواحد كم يسلم من المشركين والكفار كم أعداد أولئك الذين يدخلون الإسلام سواء من الرجال أو النساء هذا ما يذكر في الصحف والمجلات وما لم يذكر فهو أكثر فأقول هذا كله رغم قلة الإمكانات وقلة الجهود المبذولة للدعوة فكيف لو تحرك المسلمون كيف لو تحرك الصادقون كيف لو تألفت القلوب وعرفت الهدف الذي من أجله تعيش فتحركوا للدعوة إلى الله عز وجل كيف لو عاشرنا أولئك العمالة من الكفار والمشركين الذين يعيشون معنا في تجاراتنا ومؤسساتنا كيف لو عاشرناهم بخلق حسن وكيف لو دللناهم على دين الله عز وجل بحق كيف لو وجهنا هذه الأمة كيف لو نصحنا وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر بكلمة طيبة لينة لوجدنا أثر ذلك أيها الأحبة هذه النتائج رغم قلة العاملين فالله الله أن تكون ممن سلك نصرة هذا الدين فإن الدين منصور بك أو بغيرك أيها الحبيب .
ومن البشائر أيضا وهي بشارة سابعة وأخيرة التاريخ الذي برهن على انتصارات الأمم المغلوبة برهن على انتصارات الأمم المغلوبة على أعداءها ونحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخا نستلهم منه الدروس والعبر وما أكثر تلك اللحظات الحرجة وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية فقط ما عليك ألا أن تقلب صفحات التاريخ لتقف على تلك اللحظات ففي التاريخ عجائب الأمور وفيه تقلبات الزمن وتصاريف القدر وفيه سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية اقرأ التاريخ لتربط هذه الأحداث اليوم بتاريخنا العريق يوم أن يبين لنا الدروس والعبر فيه ما يصيب الدعاة من المحن والبلاء وعاقبة الصبر على الطريق تعالى أيها المسلم لأقلب وإياك صفحات ثلاث فقط صفحات ثلاث من تاريخنا كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة وحرجة عصيبة على المسلمين فكيف تعامل معها المسلمون وكيف نجى الله سبحانه وتعالى الصادقين ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين .
الصفحة الأولى إنها تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب ذلك الرعب الذي روع أهل المدينة وأفزعهم خلاصة حال المسلمين في هذه اللحظات أعددها لكم في النقاط التالية :
تجمع الأحزاب من كل مكان قريش غطفان بنو أسد بنو سليم بنو مرة قبيلة أشجع فزارة ومن اليهود أيضا بنو قريظة وبنو النضير تجمعت هذه الأعداد وضرب حصار محكم منها على المدينة وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية .
ثانيا غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة وهذا هو ديدنهم الذي أخبر الله عز وجل عنهم في الكتاب وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة لأنها إخبار من الله عز وجل في القرآن وإخبارات منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة .
ثالثا : مكائد المنافقين وتسللهم لواذا متعللين بالأكاذيب وتثبيطهم للنفوس وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة وقد قال منافق منهم ويدعى[ معاتب بن قشير] قال في هذه اللحظات قال كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط كلمات تثبيط وتخذيل كما يفعله كثير اليوم من المنافقين .
رابعا الجوع المقعد وفقدان الزاد حتى ربط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه حجرا من شدة الجوع وكما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاري قال يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم في إهالة والإهالة هي ودق تحلب من دسم اللحم وشحمه سنخة أي متغيرة فاسدة الطعم توضع بين يدي القوم والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتنة ثم قال في الحديث وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ولا نطعم شيئا ولا نقدر عليه .(/7)
نقطة خامسة من وصف حال المسلمين في تلك اللحظات حفر الخندق والأحوال الجوية فالبرد شديد ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم كما في حديث البراء عند البخاري قال "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه "أو كما في رواية أغبر بطنه وفي لفظ حتى وارى عنه التراب جلدة بطنه صلى الله عليه وآله وسلم
سادسا الخوف على النساء والعجزة والأطفال وهم من وراء المجاهدين في أطم المدينة والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من وراءهم .(/8)
سابعا : قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب وقوتهم وكثرة عتادهم كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات في تلك الساعات الحرجة العصيبة وتعال واسمع لوصف الحق عز وجل اسمع لوصف الله سبحانه وتعالى وهو يصف حال المسلمين في هذه اللحظات الحرجة يقول سبحانه وتعالى (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) هذا وصف الله سبحانه وتعالى للموقف (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) ثم يقول سبحانه وتعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ) (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) انظر التثبيط والتخذيل وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ) إنها صورة الهول الذي روع المدينة والكرب الذي يشن لها الذي لم ينج منه أحد من أهلها وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها قال [محمد بن مسلمة] وغيره كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو [أبو سفيان بن حرب ]في أصحابه يوما ويغدو [خالد بن الوليد] يوم كان مشركا يوما ويغدو [عمرو بن العاص] يوم كان مشركا يوما ويغدو [هبيرة بن أبي وهب] يوما ويغدو [عكرمة بن أبي جهل] يوما ويغدو [ضرار بن الخطاب] يوما حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا تقول [أم سلمة] رضي الله تعالى عنها شهدت أي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف <المريسيع> و<خيبر> وكنا <بالحديبية> وفي <الفتح> و<حنين> ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أخوف عندنا من <الخندق> وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فالمدينة تحرس حتى الصباح نسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفا حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة ومع هذا الموقف وكيف كان حالهم في وقت الفتن والشدة ماذا فعلوا في هذه الساعات العصيبة لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل ولا في نصرة دينه بل كانت هذه الشدائد وهذه الفتن وهذه المحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين لقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم ناسا من البشر يجزعون ويضعفون ويضيقون بالشدة لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله عز وجل وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من اليأس والقنوط ولذلك اسمع لموقفهم كما يصفه الله تعالى اسمع لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله فعرفوا أنه لا قادر على شيء في هذا الكون إلا الله وبعد إذن الله سبحانه وتعالى يقول سبحانه وتعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) في الفتنة والشدة ما في تراجع بل هذه دلائل وهذه بشائر ومبشرات على أن هذه نصرة للإسلام ولذلك (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم من كل ناحية وتكالبت الظروف عليهم التي ذكرناها قالوا (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن هذه صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين وهم في مواجهة المحن والشدائد ولا عجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية ففي هذه اللحظات الحرجة وفي هذه المصائب والشدائد التي تجمعت على المسلمين فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر في هذه اللحظات العصيبة فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يقول عندما يضرب الحجر بمعوله يقول "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة سبحان الله ثم يضرب الثانية فيقول الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله لأبصر قصر المدائن ثم يضرب الثالثة فيقول الله أكبر أعطيت(/9)
مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء في مكاني هذه الساعة "والحديث أخرجه أحمد والنسائي من حديث [البراء بن عازب] وإسناده حسن وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه في كتاب المغازي والأعجب من هذا أنه لما وصله صلى الله عليه وآله وسلم غدر اليهود غدر بني قريظة ونقضهم للعهد وهي مصيبة أخرى على تلك المصائب التي تجمعت عليه وعلى أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومع ذلك كله اسمع لليقين قال صلى الله عليه وآله وسلم "الله أكبر ابشروا بنصر الله وعونه إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وأخذ المفتاح وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل الله "هذا في اللحظات التي يأتيه الخبر أن اليهود قد غدروا قال صاحب الظلال رحمه الله وحين نرانا ضعفنا مرة أو زلزلنا مرة أو فزعنا مرة أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا وألا نهلع ونحسب أنا هلكنا وأننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلا جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا هنالك العروة الوثقى عروة السماء وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ونسترد الثقة والطمأنينة ونتخذ من الزلزال بشيرا للنصر فنثبت ونستقر ونقوى ونطمئن ونسير في الطريق وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام فأقول ما أحوجنا لمثل هذا التوازن في مثل هذا الزمن .(/10)
الصفحة الثانية : لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب قرنا من الزمن حتى ظن الكثير من المسلمين وغير المسلمين أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس وذبحوا من المسلمين في اليوم الواحد فقط أكثر من ستين ألفا حتى أن الدماء سالت أنهارا في شوارع القدس وقد بلغت حد الركب واسمع [لابن كثير] يقول في البداية والنهاية لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة سنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الإفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألفا من المسلمين وجاسوا خلال الديار وتبروا ما علو تتبيرا قال [الجوزي] وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم وأخذوا تنورا من فضة …وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الإفرنج إلى الخليفة والسلطان منهم [القاضي أبو سعد الهروي] فلما سمع الناس في بغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا وقد نظم أبو سعد الهروي كلاما قرئ في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج للبلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد وخرج [ابن عقيل] وغير واحد من أعيان الفقهاء فساورا في الناس فلم يفد ذلك شيئا إذا ماتت قلوب الناس وأصابها الخوف والهلع والعياذ بالله ماتت فلم يفد ذلك شيئا فإن لله وإنا إليه راجعون حتى إن [إرناط] أمير <الكرك> ولم يكن في الإفرنج أشد منه عداوة للمسلمين سطا على قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول أين محمدكم دعوه ينصركم من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل [صلاح الدين] في معركة حاسمة ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرف التاريخ قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان ودارة دائرة السوء على عبدة الصلبان وذلك عشية الجمعة فبات الناس على مصافهم وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر فطلعت الشمس على وجوه الإفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش وكان تحت أقدام خيولهم حشيشا قد صار هشيما وكان ذلك عليهم مشئوما فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجج أي ذلك الحشيش نارا تحت سنابك خيولهم فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وتبارز الشجعان ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثين ألف في ذلك اليوم وأسر ثلاثون ألفا من شجعانهم وفرسانهم وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم وهو الذي يزعمون أنه صلب عليهم مصلوب وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودمغ الباطل وأهله حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الإفرنج وقد ربطهم بطنب خيمة وباع بعضهم أسيرا بنعل ليلبسها في رجله وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا …انتهى كلامه رحمه الله تعالى ،من كان يظن أنه ستحدث هذه الأحداث وستتحرر هذه البلاد بعد تلك الأمور التي سمعتموها من تسلط الصليبيين ومن أذاهم للمسلمين .(/11)
صفحة ثالثة وأخيرة من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال بيت المسلمين إلا أن العز والتمكين سيكون النصر للمؤمنين وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ونهبوا الأموال وداسوا القيم وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكا ذريعا حتى قيل إن جبالا شامخة وأهرامات عالية أقامها [هولاكو] من جماجم المسلمين واسمع [لابن الأثير] وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه الكامل في الجزء التاسع يقول ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام لقد بقيت عدة سنين هذا كلام ابن الأسير لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه رجلا وأأخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أني حفني جماعة من الأصدقاء على تصديرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين وقال قائل إن العالم ومذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها إلى أن وصف هذا الحدث بصفات عجيبة قريبة من أرادها يرجع إليها هناك قال وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في بعض الدول العربية هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوما خرجوا من أطراف الصين وبلغوا إلى <طاجاكستان> مثل <كاشر> و<بلاسعون> ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل <سمرقند> و<بخارى> وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى <خراسان> فيفرغون منهم ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا ثم يتجاوزونها إلى <الري> و<همذان> و<لاد الجبل> وما فيه من البلاد إلى حد <العراق> ثم بلاد< أذربيجان> و<أرانية >ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج إلا الشريد النادر كل هذا في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله إلى أن قال أيضا ففعلوا فيها أي في بلاد <الهند> و<سيجستان> و<كرمان> وغيرها ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد ما لم يطرق الأسماع مثله فإن [الإسكندر] الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشرين سنة ولم يقتل أحدا إنما رضي من الناس بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة في نحو سنة شوف إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله في نحو سنة ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخير وغير ذلك إلى أن قال ولقد بلي الإسلام والمسلمين بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها ثم قال في آخر الأمر فإنا لله وإنا إليه راجعون .
نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرا من عنده فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) أقول ونحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشا ونحن نسمع مثل هذه الكلمات ونقول من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة وتدول لهم دولة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى كل هذه الأحداث أيها الأحبة والتاريخ مليء بمثل هذه الصفحات وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين أقول كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن أن بعدها فرج وأن بعدها نصر لكن المهم أن ننصر نحن دين الله أن نقوم بواجبنا كما سأبين بعد قليل .(/12)
أقول مفهوم خاطئ يجب ألا يفهم من كان يظن أننا نقصد بالتفاؤل إذا طلبنا التفاؤل لمجرد الفرح والاطمئنان وبالتالي الركون ودنو الهمة ووهن العزائم والانشغال في الدنيا والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار وذكر مثل هذه البائر وأعداء الإسلام يخططون ويعملون ويكيدون فهو مخطئ أو من كان يظن أننا نقصد بذلك مجرد السرور والاطمئنان المؤدي للثقة المفرطة والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذين يؤديا إلى عاقبة غير مرضية ونتائج محرجة إنما نقصد بالتفاؤل الثقة بنصر الله والفوز والنجاح وعدم تأثر المسلمين جميعا بما يوضع لهم من عراقيل بل إن ذلك يزيدهم طموحا وتفاؤلا لأنهم واثقون بنصر الله الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل والأمل في نصر الله وتأييده لجنده هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر ( وإنا جندنا لهم الغالبون ) فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون وغيرهم هم اليائسون فاسلك أخي المسلم فاسلك رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين فالفوز حليفك إن شاء الله وتذكر قول الحق عز وجل ( هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) .
سؤال قد يرد على الخاطر يسأله كثير من الناس اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم لماذا يمكن الله الكافرين من المسلمين ولماذا ينصرهم عليهم ولماذا ينتصر أعداء الله عز وجل على المسلمين ؟ هذا السؤال قد يرد على خاطر كثير من الناس أقول الإجابة أسوقها إليك من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان في الجزء الثاني صفحة ثلاثة وسبعين ومائتين عندما قال رحمه الله وانتبه إلى هذا الكلام فإنه كلام نفيس جميل جدا الأصل أن نتناقله وأن نردده على مسامعنا وعلى الناس حتى يتبين لنا لماذا يبتلينا الله عز وجل بمثل هذه المصائب يقول الأصل الثاني أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكم عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل فمنها استخراج عبوديتهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤالهم نصرهم على أعدائهم ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصور عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة وكونهم مغلوبين تارة فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له تابوا إليه وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه .
ومنها أي من الحكم أنهم لو كانوا دائما منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة فيتميزوا بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه إذن التمييز بين الصادق من غيره من حكم ابتلاء الله للمؤمنين تمييز الخبيث من الطيب ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) هذا هو الأصل حتى يميز الله الخبيث من الطيب كيف نكتشف أن هذا المؤمن مسلم بحق كيف نكتشف إسلام هذا الإنسان إلا بالابتلاءات والفتن والشدائد هنا يتضح المؤمنون الصادقون ويتضح المنافقون الذين صابوا قلوبهم بالخوف والهلع عند الشدائد والمحن .
يقول ابن القيم ومنها أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء وفي حال العافية والبلاء وفي حال إدالاتهم والإدالة عليهم فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .(/13)
يقول ومنها أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد قال ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين أمنوا ويتخذ منكم شهداء ) إذن من الحكمة ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) (ويمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين ) وليمحص الله الذين أمنوا يخلصهم من ذنوبهم من غفلتهم مما تراكم عليهم من الغفلة والذنوب فإن في هذه الابتلاءات تمحيص وتخليص وتهذيب لهم من الله عز وجل وأيضا اتخاذ للشهداء منهم في مثل هذه الأمور ثم يقول سبحانه وتعالى (َأمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ
اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .
ذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي أديل عليهم الفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان وسلاهم بأنعم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداؤه القرح في عداوته وعداوة رسوله فقد مس القوم قرح بعداوته وعداوة رسوله أنت على حق يا أخي الحبيب أنت على مذهب صادق أنت على عقيدة صادقة أنت على مبدأ لا إله إلا الله إن مت ففي الجنة وإن حييت فبعزة وكرامة أما أعداء الله عز وجل فهم على أي حال خسروا الدنيا والآخرة ذكر بمثل هذا حتى تقوم حتى تعمل حتى تتحرك لنصرة هذا الدين بما تستطيع ثم يقول ابن القيم رحمه الله ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس فيصيب كلا منه نصيب منها كالأرزاق والآجال ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه ولكن أراد أن يعلمهم موجودين وشاهدين فيعلم إيمانهم واقعا ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء فإن الشهادة درجة عالية عنده ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله فلولا إدالة العدو تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم وأحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذه بعض حكمه في نصرة عدوه عليهم وإدانته في بعض الأحيان انتهي كلامه رحمه الله تعالى .
وهذا الكلام كما ذكرت كلام يجب أن نرجع إليه وننظر فيه ونتناقله بين المجالس ونبينه للناس حتى يعلم الناس حقيقة الابتلاءات التي تحصل للمسلمين .
أخيرا وصايا ونتائج ولكي تتم الفرحة بهذه البشائر ولكي تلحق أنت أيها الأخ الحبيب بالركب ولتنال شرف نصرة هذا الدين فإليك هذه الوصايا التي لا يتم الموضوع إلا بها :
أولا : يتعجب بعض الناس من هيمنة الغرب ودوره القيادي فأقول لا تعجب لا تعجب أيها الحبيب فإن من سنة الله عز وجل في خلقه أن من عمل وسعى وبذل جهده وطاقته في تحصيل مقصد أو هدف وصل إليه ما لم تقم بعض الموانع والأسباب الحائلة دون ذلك فالمسلمون حين يستجمعون قوتهم حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية فإنهم يصلون إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر أقصد في القيادة والريادة فهم مع ذلك أي المسلمون يملكون العون من الله والتوفيق لأنهم حملة دينه وحماة شريعته إذن فالغرب وصل إلى ما وصل إليه الآن بالجد والعمل والمثابرة ولو عمل المسلمون بهذه الأسباب لنالوا ذلك لأننا نتفوق على الغرب بالعقيدة بلا إله إلا الله فإن تخلينا عن لا إله إلا الله وتخلينا عن هذا الدين انخفضنا وارتقى الغرب علينا وأصبحت القيادة والريادة كما هو حال الناس اليوم .(/14)
ثانيا : متى يكون هذا النصر للإسلام : اليوم أم غدا أم بعد سنوات هذا سؤال ربما خطر على بعض الناس فأقول المهم أن تثق بنصرة هذا الدين وقد لا تشهد أنت هذه النصرة ولكن اسأل نفسك هل أنت ممن صنع هذه النصرة هل أنت ممن شارك في هذه النصرة ما هو رصيدك من العمل والدعوة والعبادة ما هو رصيدك من البذل والتضحية والصبر في سبيل الله ومن أجل هذا الدين إن النصر لا ينزل كما ينزل المطر وإن الإسلام لا ينتشر كما تنتشر أشعة الشمس حين تشرق ألم تقرأ في القرآن قول الحق عز وجل حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا بعد الشدة وبعد وصول الأمر منتهاه جاء الفرج وجاء النصر ألم تسمع قول الحق عز وجل (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) بلغ الأمر منتهاه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) إذن فالأمر يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية لنشر الخير ابذل يا أخي الحبيب ما تستطيع من أي جهد مالي أو فكري أو بدني لنشر الخير فالصور كثيرة وأبواب الخير كثيرة جدا والدعوة في هذا المجتمع وإصلاح ما نراه فيه من خلل مهما بذل الإنسان من جهد فإنه قليل في ذات الله عز وجل .
الوصية الثالثة الاستمرار بالدعاء والإلحاح فيه وعدم الانقطاع خاصة عند حدوث الفتن ونزول المصائب وهذا الأمر مطلب شرعي تركه والغفلة عنه سبب للعذاب اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) نعوذ بالله من قسوة القلب
وصية رابعة موتانا في الجنة وموتاهم في النار فالدنيا لهم والآخرة لنا حقيقة نسيها المسلمون حتى أصبحت الدنيا لكثير من المسلمين غاية وهدفا فأصابهم الهوان والذل وهذا هو واقع كثير من المسلمين والله يقول ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) والهوان قد يكون الالتفات إلى الدنيا وشهواتها وملذاتها.
الأمر الخامس والأخير لا ننس ضعف كيد الكافرين مهما كان عملهم ومهما كانت قوتهم فإن سعيهم في ضلال مهما كان هذا الكيد ومهما كان هذا الجهد لحرب الإسلام والمسلمين ومهما اتبعوا من وسائل فإن الله عز وجل يقول (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) انظر المبادئ انظر العقيدة (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) يكفي هذا فخرا ونصرا ( والَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) .
الله عز وجل أيها الأحبة يخبرنا أن كيد الشيطان ضعيف أن كيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف لكن هذا الكيد المهم أنه كيد ما دام أنه وجد ضعفا في المسلمين فسيكون الأعلى مع ضعفه ومع هوانه وحقارته ما دام وجد من المسلمين هوانا وضعفا فإن هذا الكيد الضعيف مادام كيدا وعملا ارتقى وأصبح عاليا على المسلمين وإلا فكيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف وقال عز وجل (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ) المهم اعمل تحرك فكر ابذل لهذا الدين ادع لله عز وجل كيفما استطعت سجل في موازين أعمالك وفي حسناتك أعمالا صالحة سجل فيها أناسا اهتدوا وصلحوا على يديك وستجد أثر ذلك تحرك إلى الله عز وجل ابذل ما تستطيع حرك الأمة معك فكر في حال الأمة احمل هم الدنيا وهم هذه الأمة ستجد بعد ذلك نصرة الله عز وجل وستجد التوفيق من الله عز وجل لأن الله عز وجل أخبرنا أنه موهن كيد الكافرين مهما كان هذا الكيد ومهما بلغ وقال عز وجل ( وما كيد الكافرين إلا في ضلال ) وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) هذه هي الحقيقة بعد ذلك توكل على الله عز وجل بعد ذلك قم يا أيها الأخ الحبيب ولا يصيبك الهوان ولا يصيبك الخمول ما دمت واثقا بنصرة هذا الدين وواثقا في هذه البشائر وهذه المبشرات .(/15)
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه اللهم إنا نسألك للإسلام نصرا مؤزرا ، اللهم إنا نسألك للإسلام نصرا مؤزرا في كل مكان اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك اللهم انصر عبادك المخلصين في كل مكان الله أعل مكانتهم الله احفظهم بحفظك يا حي يا قيوم اللهم إنك خير حافظ وأنت أرحم الراحمين اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوء فأشغله بنفسه اللهم أشغله بنفسه اللهم اجعل كيده كيدا عليه اللهم اجعل كيده تدبيرا عليه اللهم من كاد للإسلام بأمر سوء فكده يا حي يا قيوم اللهم اجعل تدبيره تدبيرا عليه اللهم اجعلنا من جندك المخلصين اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين اللهم انفع بنا اللهم انفعنا وانفع بنا اللهم أقر أعيننا بعزة الإسلام والمسلمين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك نشهد أن لا إله إلا أنت وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.(/16)
بشائر ومبشرات
يتناول الدرس المبشرات التي ترسم أشعة الفجر الجديد وتملأ النفوس المسلمة باليقين وتستشعر قرب التمكين، ويعرض أسباب يأس بعض الناس ثم يكر عليها مفندا لها وذاكرا البشائر وأسباب التفاؤل من الكتاب والسنة وواقع السنن الربانية والأمم الغالبة والمغلوبة، ثم يذكر بعض حكم الابتلاء بغلبة الأعداء على المسلمين ثم أخيرًا وصايا ونتائج مهمة.
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد،،،
في وقت تكالبت فيه المصائب والمحن على المسلمين والجراح تنزف في كل جزء من جسد هذه الأمة.. في وقت ضاقت فيه القلوب حتى أصاب كثيراً من الناس اليأس والقنوط، فما أن تذكر الأمة الإسلامية حتى تسمع الزفرات، والآهات، والحوقلة، والاسترجاع، وكأن الأسباب تقطعت والآمال تدثرت.. في هذا الوقت العصيب أزف إليكم هذه المبشرات؛ لترسم أشعة الفجر الجديد، ولتملأ النفوس المسلمة باليقين، وأزفها إليكم؛ لتشعر القلوب الحية بالعز والتمكين، وليشرق بها أعداء الدين، وليغص بها الكافرون والمنافقون . إن ميلاد الأمة قريب، ولابد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام. ومن رحم الظلام يخرج النور، والليل إن تشتد ظلمته فإن الفجر لاح:
أبشر فهذا الفجر لاح ها نحن جئنا يا صلاح
قد أدبر الليل العميل وجاء للدنيا صباح
ما دام عرقي نابض لن تعرف النفس ارتياح
حتى أرى شعبي وليس له عن الأقصى براح
إن العالم الإسلامي بأسره يعيش لحظات عصيبة وساعات حرجة، إنه التحدي السافر لهذه الأمة في عقيدتها، وتاريخها، وإسلامها، ومستقبلها.. أمر مفزع مروع . هذا الواقع جعل كثيراً من المسلمين عرضة لليأس والقنوط، ومن ثم للخمول والقعود، وإن اليأس في قلوب هؤلاء ناتج عن أسباب .
أسباب يأس بعض الناس:
أولاً:ما يرونه من جهود الأعداء في محاربة الإسلام ومواجهة أهله: مستخدمين كل طاقاتهم من تقدم تكنولوجي، وكل وسيلة من وسائل الاستعمار الفكري.
ثانياً: بعد الناس عن دين الله وموت الإحساس لدى الكثير منهم: فهو لا يعلم عما يجري لإخوانه، وإن علم فكأن الأمر لا يعنيه، فالمهم نفسه وماله، وهذا هو الهوان الذي أشار إليه الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ] رواه أبوداود وأحمد .
ثالثاً:يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون: مما حدا بكثير من المسلمين والمسلمات إلى الاستسلام، والخمول، والتثبيط عند بذل أي جهد، فالخوف والرعب يأكل قلوبهم .
رابعاً:الجهل بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان: يا أيها الإنسان أنت خلقت لغاية عظيمة، نبيلة هي: عبادة الله عز وجل بمفهومها الحقيقي، الذي عرفه أهل العلم بقولهم:' اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال، والأفعال الظاهرة والباطنة' لاكما يريدها الأعداء أن تكون في المسجد . إن العبادة التي يريد الله بمفهومها الحقيقي ذلك المعنى العام الذي يشمل كل نواحي الحياة . فاسأل نفسك: لماذا خلقت؟ أمن أجل أن تأكل، وتشرب، وتنام، وتقوم؟! أمن أجل الملذات والشهوات؟! هذا والله هو شأن الحيوان، بل إن ذلك الإنسان أضل من الحيوان، كما قال عز وجل:} وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[179]{ “سورة الأعراف” غفلوا عن الحقيقة التي من أجلها خلقوا؛ فعاشوا أضل من الأنعام؛ لمجرد الملذات والشهوات.. لمجرد البيع والشراء.. لمجرد أن يحيى الإنسان ويذهب في هذه الدنيا. بئس الحياة إن كانت هذه هي الحياة التي يعيشها المسلم! إنك خلقت لهدف أسمى: لرضى الإله . فهل أنت راض عن نفسك؟ ماذا قدمت لله؟ ماذا قدمت لنفسك يوم أن تقدم على الله ؟ عندها تقول بملء فيك:لا لعبادة العباد.. لا لعبادة الشهوات والملذات..[ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ] رواه البخاري. هذه هي عبادة الدنيا كما تبعها كثير من الناس .
خامساً: الجهل بطبيعة هذا الدين .
هذه الأسباب الخمسة، وغيرها جعلت كثيراً من الناس يصيبه اليأس وتداخله الشكوك لنصرة هذا الدين وتمكينه في هذه الأرض. وحتى نقطع الطريق على هؤلاء اليائسين الخائفين، فإني أقول بكل ثقة ويقين: أبشروا بنصر الله، فإن البشائر والمبشرات كثيرة ولله الحمد، المهم أن نتفاءل .
البشائر وأسباب التفاؤل:(/1)
1- تحريم اليأس: فلا يجوز للمسلم أن ييأس أبداً، فاليأس قرين للكفر، قال عز وجل:} وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[87]{ “سورة يوسف” فاليأس صفة للكافرين. واليأس قرين الضلال قال تعالى:} وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[56] {“سورة الحجر” إذاً: نقول لليائسين المخذلين: إن اليأس في دين الله لا يجوز، فاحذره، واحذر من التيئيس، فإنه أول علامة للهزيمة النفسية التي أصابت كثير من المسلمين اليوم هي اليأس والقنوط عياذاً بالله .
2- بشائر الكتاب والسنة: ولم لم يكن سوى هذه البشائر لكفى، فهي نصوص ووعود ممن بيده ملكوت السماوات والأرض.. ممن بيده الأمر كله، فلماذا إذاً الضعف والهوان؟ ولماذا الخوف والخور؟ والله سبحانه معك مؤيداً وناصراً لك:
قال عز وجل:} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]{ “سورة التوبة” فإظهار دين الله أمر تكفل به الله سبحانه .
وقال سبحانه:} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]{ “سورة النور” فهذا هو عهد الله .
وقال:} وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]{ “سورة الحج” .
وقال سبحانه:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]{ “سورة محمد”
وقال:}وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]{ “سورة الروم” في هذه الآيات أخبر سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين، لكن متى ؟ إذا قاموا بنصرة دينه.. إذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، فقد وعد الله المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم. وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل؟! وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق يوم أن وعده الحق سبحانه وتعالى؟! هذه بعض نصوص القرآن . ومن نصوص السنة النبوية:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ] رواه أحمد .
عن أَبي قَبِيلٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي وحسنه المقدسي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي . وقد تحقق الفتح الأول على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح رحمه الله، وذلك عام ثلاثة وخمسين وأربعمائة وألف للميلاد أي بعد تقريبا: ثماني مائة سنة من وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن ننتظر الآن صدق الوعد الآخر سقوط روما بفضل الله ومشيئته، وهذا وعد منه صلى الله عليه وآله وسلم لابد صائب بمشيئة الله .(/2)
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا...] رواه مسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ] رواه أحمد . فهذان الحديثان يؤكدان رجوع الإسلام إلى مركز الريادة، وموضع القيادة، ومقام السيادة من شرق الدنيا إلى غربها؛ لتتحقق إرادة الله التي اقتضاها لهذه الأمة الإسلامية منذ الأزل .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد. وهذا الحديث يشير إلى أن اليهود سيجتمعون في مكان، ثم يتسلط عليهم المسلمون، وهذا هو الواقع الآن، فإن اليهود يجمعون أعوانهم وأهلهم من كل مكان في فلسطين .
أحاديث الطائفة المنصورة، ومنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ] رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه والترمذي وأحمد .
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ] رواه الترمذي وأحمد، وحسنه الترمذي وصححه الألباني.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ] رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الألباني: إسناد عبد الله صحيح على شرط البخاري.
فهذه النصوص كلها بشائر لنصرة الإسلام وتمكينه، ألا فليثق الدعاة إلى الله في هذه المبشرات مهما كان في الطريق من عثرات:} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[142]{ “سورة آل عمران” ولو لم يكن من البشائر والمبشرات سوى هذه النصوص لكفت، فكيف، والتاريخ يشهد بذلك، والواقع يتفجر عن ينابيع الإسلام؟!
3- الصراع القائم الآن بين الحق والباطل: فصولات الباطل، وانتفاش أهله؛ دليل على قوة الحق وقدومه. فالإسلام ماض في طريقه للعزة والتمكين سواء بنا أو بغيرنا، فيا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة: سجل لنفسك موقفًا يشهد لك عند الله، وكن ممن شارك في نصرة هذا الدين .
4- ذلك الخوف الرهيب والرعب الشديد من الإسلام: فلماذا يتعرض الإسلام في هذه الأيام لهجمات مسعورة؟ ولماذا تزداد هذه الهجمات شراسة كلما ظهرت صحوة إسلامية في بلد ما؟ لماذا يتفق أصحاب الشعارات والمبادئ المتناقضة على عدائهم للإسلام وأهله؟ لماذا تثار الشبهات حول الإسلام ومبادئه، ومناهجه وعقائده وأحكامه؟ لماذا تثار الحملات الشعواء التي تشنها صحافة الغرب والشرق على الإسلام وأهله؟ لماذا تغذى بلاد الإسلام بوسائل الشهوات والمخدرات، ووسائل الخلاعة والمجون، المحطمة لقوى الشباب، المستنزفة لطاقاتهم وأفكارهم وعقولهم؟ الإجابة واحدة: إنهم يخافون الإسلام..يخافون من رجعة قوية للإسلام والمسلمين.. يخافون من وحدة المسلمين.
لقد درس أعداؤنا من الكافرين وأذنابهم الإسلام وعقيدته؛ فعرفوا أنه يربي الرجال والنساء على تقديم كل غال ونفيس في سبيل الله، حتى ولو كان المقدم هو الروح، فهي رخيصة من أجل الإسلام وفي ذات الله .. علموا هذه الحقيقة.. رأوها في الواقع: في ساحات الجهاد، فلذلك خافوا وأصابهم الرعب الشديد من الإسلام .(/3)
5- واقع الحضارة المادية الغربية الآيلة للانهيار: ومن هذا انهيار الشيوعية فإن انهيار المذهب الشيوعي في ذاته لابد أن يوضع من المبشرات، فقد كانت الشيوعية فتنة لكثير من الشباب في العالم العربي، ومن كان يصدق أن تنهار الإمبراطورية الروسية ثم هاهي تلتمس المساعدات من الدول .
كل مجالاته: الدينية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، والإعلامية، والتعليمية، والاجتماعية، وغيرها واقع مفزع، مخيف بالنسبة لهم، وليس نحن الذين نقول هذا الكلام، ولكي أوثق المعلومات لك، فإني أطالبك بالرجوع إلى كتاب بعنوان:'يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة' وانظر الأرقام والإحصاءات . وهذا الكتاب هو دراسة قامت على إحصاءات، واستبانة، وأرقام من واقع المجتمع الأمريكي ونتائج هذا الكتاب نتائج مفزعة، مخيفة بالنسبة للأمريكيين، فماذا يقول الأمريكيون أنفسهم عن هذا الكتاب؟ يقول 'إلكس هلي' مؤلف كتاب آخر: 'كتاب مفزع عندما أنهيت قراءته؛ لم أعرف ماذا أفعل، هل أصدع بالحقائق- أي التي فيه- أم أركض للتلال وأختبئ؟ إنه يعرض لنا حقائق عن أنفسنا لم نشاهدها في أية دراسة، أو في استطلاعات الرأي، ولا حتى في الأحاديث الشخصية'. و قالت صحيفة 'نيويورك ديلي نيوز' عن الكتاب كلمة واحدة:'نتائج مفزعة'. هذا بعض ما قالوه عن هذا الكتاب الذي يعلن عن التصدع الكبير في بنية مجتمعهم، وانظر إن شئت كتابًا آخر بعنوان:' السقوط من الداخل ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي' للدكتور محمد بن سعود البشر. وهو عبارة عن مناقشات للقضايا والمشكلات الراهنة التي يعاني منها المجتمع الأمريكي في جميع النواحي . إن الحضارة المادية الغربية تتهالك اليوم.. العالم اليوم بجميع أحواله يشكو من إفلاس، ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت حياتهم فما أكثر الانتحارات! وما أكثر اللجوء للخمر، والضياع، والفساد، والشهوات في تلك المجتمعات! وطغت هذه النظم على كل جوانب الخير عند ذلك الإنسان . وها هو ذلك الإنسان يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، وليس المنقذ أبداً إلا الإسلام، فهو الذي يتوافق مع الفطرة، وهو الذي يحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، ويكفي الأنظمة البشرية قصوراً وفشلا أنها من صنع البشر، وأن دين الإسلام من صنع خالق البشر سبحانه وتعالى .
6- الصحوة الإسلامية: إن ما نشاهده الآن في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة مباركة، ومن رجوع صادق إلى دين الله؛ يزداد يوماً بعد يوم مما يدل دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب عن بكرة أبيها على الالتزام بحقيقة دينها، والنهوض بأمتها، ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله، ففي اليوم الواحد يسلم من الكفار أعداد كثيرة، هذا كله رغم قلة الإمكانات والجهود المبذولة للدعوة، فكيف لو تحرك المسلمون؟ كيف لو تحرك الصادقون؟ كيف لو تآلفت القلوب وعرفت الهدف الذي من أجله تعيش، فتحركوا للدعوة إلى الله؟ كيف لو وجهنا هذه الأمة: لو نصحنا، وأمرنا بمعروف، ونهينا عن منكر، بكلمة طيبة لينة؛ لوجدنا أثر ذلك . فالله الله أن تكون ممن سلك نصرة هذا الدين، فإن الدين منصور بك، أو بغيرك أيها الحبيب.
7- التاريخ الذي برهن على انتصارات الأمم المغلوبة على أعدائها: ونحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخاً نستلهم منه الدروس والعبر، وما أكثر تلك اللحظات الحرجة، وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية. وما عليك إلا أن تقلب صفحات التاريخ؛ لتقف على تلك اللحظات، ففي التاريخ: عجائب الأمور، وفيه: تقلبات الزمن وتصاريف القدر، وفيه: سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية. وفي التاريخ لنا الدروس والعبر، ففيه: ما يصيب الدعاة من المحن والبلاء، وعاقبة الصبر على الطريق.. ولأقلب أيها المسلم وإياك صفحات ثلاث فقط من تاريخنا، كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة، وحرجة عصيبة على المسلمين، فكيف تعامل معها المسلمون؟ وكيف نجى الله سبحانه الصادقين؟ ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين؟
الصفحة الأولى:تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في غزوة الأحزاب ذلك الرعب الذي روع أهل المدينة وأفزعهم. خلاصة حال المسلمين في هذه اللحظات أعددها لكم في النقاط التالية :
تجمع الأحزاب من كل مكان: قريش، غطفان، بنو أسد، بنو سليم، بنو مرة، قبيلة أشجع، فزارة، ومن اليهود أيضاً: بنو قريظة، وبنو النضير، تجمعت هذه الأعداد وضُرب حصار محكم منها على المدينة وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية .
غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة: وهذا هو ديدنهم، الذي أخبر الله عنهم في كتابه، وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة؛ لأنها إخبار من الله في القرآن، وإخبارات منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة .(/4)
مكائد المنافقين وتسللهم لواذاً متعللين بالأكاذيب: وتثبيطهم للنفوس، وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة، وقد قال منافق منهم ويدعى معتب بن قشير في هذه اللحظات: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط . كلمات تثبيط وتخذيل كما يفعله كثير اليوم من المنافقين .
الجوع المقعد وفقدان الزاد: حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من شدة الجوع وكما جاء في حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: [جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
ويَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُجِيبُهُمْ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَبَارِكْ فِي الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ] رواه البخاري .
حفر الخندق والأحوال الجوية: فالبرد شديد، ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم كما في حديث الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ' وفي رواية:' رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ' رواه البخاري ومسلم وأحمد .
الخوف على النساء والعجزة والأطفال: وهم من وراء المجاهدين في أطم المدينة، والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من ورائهم .
قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب وقوتهم وكثرة عتادهم .
كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات.. في تلك الساعات الحرجة العصيبة، وقد وصف الله سبحانه حال المسلمين في هذه اللحظات الحرجة فقال:} إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا[10]هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[11]{ “سورة الأحزاب” ثم يقول سبحانه:} وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا[12]وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا[13]{ “سورة الأحزاب” انظر: التثبيط والتخذيل، وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم .. إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي يشن لها الذي لم ينج منه أحد من أهلها وقد أطبق عليها المشركون من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها، وكان المشركون يتناوبون بينهم، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً. كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة.. وقت الفتن والشدة العصيبة، لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل، ولا في نصرة دينه، بل كانت هذه الشدائد والفتن والمحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين.
لقد كانوا رضوان الله عليهم ناساً من البشر، يجزعون، ويضعفون، ويضيقون بالشدة، لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله، وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من اليأس والقنوط، ولذلك انظر لموقفهم كما يصفه الله تعالى..لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى، يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله، فعرفوا أنه لا قادر على شيء في هذا الكون إلا الله:} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]{ “سورة الأحزاب” هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن..صورة مشرقة، مضيئة للمؤمنين الصادقين، وهم في مواجهة المحن، والشدائد.(/5)
ولاعجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية، ففي هذه اللحظات الحرجة، وفي هذه المصائب والشدائد التي تجمعت على المسلمين، فإذا به صلى الله عليه وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر في هذه اللحظات العصيبة، وهو يضرب الحجر بمعوله يقول: [ بِسْمِ اللَّهِ] فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: [ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا] ثُمَّ قَالَ: [ بِسْمِ اللَّهِ] وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: [ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا] ثُمَّ قَالَ: [ بِسْمِ اللَّهِ] وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: [اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي] رواه أحمد وإسناده حسن وأصل الحديث عند البخاري.قال صاحب الظلال رحمه الله:' وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق.. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أنا هلكنا، وأننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى: عروة السماء، وعلينا أن نستمسك بها؛ لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً للنصر، فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق.. وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام' . فما أحوجنا لمثل هذا التوازن في مثل هذا الزمن .
الصفحة الثانية: لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمن، حتى ظن الكثيرون أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين ولا سيما بعد أن ذبحوا من المسلمين في يوم واحد فقط أكثر من ستين ألفاً حتى إن الدماء سالت أنهاراً في شوارع القدس . فمن كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل صلاح الدين في معركة حاسمة، ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة، والعزة والسيادة ما شرف التاريخ ..من كان يظن أنه ستتحرر هذه البلاد بعد تسلط الصليبيين وأذاهم للمسلمين؟!.(/6)
الصفحة الثالثة:من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العز والتمكين سيكون للمؤمنين، وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكا ذريعاً، حتى قيل:إن جبالاً شامخة وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين حتى إن ابن الأثير وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه 'الكامل' في الجزء التاسع يقول:' ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة: 'ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام' لقد بقيت عدة سنين- هذا كلام ابن الأثير- معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجلًا، وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني.. ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً . إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تصديرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى.. والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها.. عمت الخلائق وخصت المسلمين.. ولو قال قائل: إن العالم ومذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها'. إلى أن وصف هذا الحدث بصفات عجيبة قريبة من أرادها يرجع إليها هناك . قال:' وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شرها، وعم ضررها، وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح...' ونحن نقرأ هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله؛ نتعجب ونقول: من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث، وتدول لهم دولة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير؟ والتاريخ مليء بمثل هذه الصفحات وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين، فكل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن؛ بعدها فرج ونصر.. لكن المهم: أن ننصر نحن دين الله.. أن نقوم بواجبنا..ونحن إذا طلبنا التفاؤل لانطلبه لمجرد الفرح والاطمئنان، وبالتالي الركون، ودنو الهمة، ووهن العزائم والانشغال في الدنيا، والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار..وأعداء الإسلام يخططون، ويعملون ويكيدون. ولانقصد بذلك التفاؤل مجرد السرور والاطمئنان؛ المؤدي للثقة المفرطة، والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذين يؤديا إلى عاقبة غير مرضية، ونتائج محرجة. إنما نقصد بالتفاؤل.. الثقة بنصر الله والفوز والنجاح، وعدم تأثر المسلمين جميعًا بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً؛ لأنهم واثقون بنصر الله.
الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل.. والأمل في نصر الله وتأييده لجنده هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر:} وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173] {“سورة الصافات” فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون وغيرهم هم اليائسون.. فاسلك رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين، فالفوز حليفك إن شاء الله، وتذكر قول الحق:} ...هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]{ “سورة الأحزاب”.
لماذا يمكن الله الكافرين من المسلمين؟ ولماذا ينصرهم عليهم؟ ولماذا ينتصر أعداء الله على المسلمين ؟
هذا السؤال قد يرد على خاطر كثير من الناس، والإجابة أسوقها من كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه 'إغاثة اللهفان' 2/273 وانتبه إلى هذا الكلام، فإنه كلام نفيس جميل جداً، الأصل أن نتناقله، وأن نردده على مسامعنا، وعلى الناس حتى يتبين لنا لماذا يبتلينا الله بمثل هذه المصائب؟ قال رحمه الله:
' الأصل الثاني:أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا؛ فيه حكم عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل، فمنها:
استخراج عبوديتهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين؛ لبطروا وأشروا . ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة. فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه. وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه .(/7)
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين غالبين قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً؛ لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة؛ فيتميزوا بذلك بين من يريد الله ورسوله.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:} وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[141] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[142]وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[143]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144] {“سورة آل عمران” .ذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي من أجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله. ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والآجال، ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم- وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكن أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا- ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد. ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائمًا منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذه بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان' انتهى كلامه .
وهذا الكلام يجب أن نرجع إليه، وننظر فيه، ونتناقله بين المجالس، ونبينه للناس؛ حتى يعلم الناس حقيقة الابتلاءات التي تحصل للمسلمين .
أخيرًا وصايا ونتائج
ولكي تتم الفرحة بهذه البشائر، ولكي تلحق أيها الحبيب بالركب، ولتنال شرف نصرة هذا الدين، فإليك هذه الوصايا التي لا يتم الموضوع إلا بها :
أولاً: يتعجب بعض الناس من هيمنة الغرب، ودوره القيادي! فأقول: لا تعجب، فإن من سنة الله عز وجل في خلقه أن من عمل وسعى، وبذل جهده وطاقته في تحصيل مقصد أو هدف؛ وصل إليه مالم تقم بعض الموانع، والأسباب الحائلة دون ذلك، فالمسلمون حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية؛ فإنهم يصلون في القيادة والريادة إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر، فالمسلمون يملكون العون من الله والتوفيق؛ لأنهم حملة دينه، وحماة شريعته. إذاً: فالغرب وصل إلى ما وصل إليه الآن بالجد والعمل والمثابرة، ولو عمل المسلمون بهذه الأسباب؛ لنالوا ذلك؛ لأننا نتفوق على الغرب بالعقيدة.. بلا إله إلا الله فإن تخلينا عن لا إله إلا الله، وتخلينا عن هذا الدين؛ انخفضنا، وارتقى الغرب علينا، وأصبحت القيادة والريادة كما هو حال الناس اليوم .(/8)
ثانياً:متى يكون هذا النصر للإسلام : اليوم.. غداً..بعد سنوات؟ هذا سؤال ربما خطر على بعض الناس، فأقول: المهم أن تثق بنصرة هذا الدين، وقد لا تشهد أنت هذه النصرة، ولكن اسأل نفسك: هل أنت ممن يصنع هذه النصرة؟ هل أنت ممن يشارك في هذه النصرة؟ ما هو رصيدك من العمل والدعوة والعبادة؟ ما هو رصيدك من البذل والتضحية، والصبر في سبيل الله، ومن أجل هذا الدين؟
إن النصر لا ينزل كما ينزل المطر، وإن الإسلام لا ينتشر كما تنتشر أشعة الشمس حين تشرق ألم تقرأ في القرآن قول الحق:} حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ...[110] {“سورة يوسف” بعد الشدة ووصول الأمر منتهاه؛ جاء الفرج..وجاء النصر ألم تسمع قول الحق:} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ { بلغ الأمر منتهاه:} أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]{ “سورة البقرة” .
إذاً: فالأمر يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية؛ لنشر الخير.. ابذل ما تستطيع من أي جهد: مالي، أو فكري، أو بدني لنشر الخير.. فالصور وأبواب الخير كثيرة جداً، والدعوة في هذا المجتمع وإصلاح ما نراه فيه من خلل مهما بذل الإنسان من جهد؛ فإنه قليل في ذات الله عز وجل .
ثالثًا: الاستمرار بالدعاء والإلحاح فيه وعدم الانقطاع: خاصة عند حدوث الفتن، ونزول المصائب، وهذا الأمر مطلب شرعي تَرْكُهُ والغفلة عنه؛ سبب للعذاب، قال عز وجل:} فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[43] {“سورة الأنعام” .
رابعاً: موتانا في الجنة وموتاهم في النار: فالدنيا لهم، والآخرة لنا.. حقيقة نسيها المسلمون حتى أصبحت الدنيا لكثير من المسلمين غاية وهدفاً؛ فأصابهم الهوان والذل، وهذا هو واقع كثير من المسلمين والله يقول:} وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]{ “سورة آل عمران” والهوان قد يكون الالتفات إلى الدنيا، وشهواتها، وملذاتها.
خامساً: لا تنس ضعف كيد الكافرين: مهما كان عملهم.. ومهما كانت قوتهم؛ فإن سعيهم في ضلال. مهما كان هذا الكيد.. ومهما كان هذا الجهد لحرب الإسلام والمسلمين.. ومهما اتبعوا من وسائل فإن الله عز وجل يقول:} الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[76]{ “سورة النساء” إن كيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف، لكن هذا الكيد ما دام أنه وجد ضعفاً في المسلمين، فسيكون الأعلى مع ضعفه وهوانه وحقارته..فاعمل.. تحرك.. فكر.. ابذل لهذا الدين.. ادع إلى الله كيفما استطعت.. سجل في موازين أعمالك وفي حسناتك أعمالًا صالحة.. سجل فيها أناساً اهتدوا وصلحوا على يديك، وستجد أثر ذلك.. ابذل ما تستطيع.. حرّك الأمة معك.. فكر في حال الأمة.. احمل هذه الأمة؛ ستجد بعد ذلك نصرة الله عز وجل، وستجد التوفيق من الله؛ لأن الله أخبرنا أنه موهن كيد الكافرين مهما كان هذا الكيد ومهما بلغ، وقال عز وجل:} وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ[25]{ “سورة غافر” وقال:} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[36]{ “سورة الأنفال” هذه هي الحقيقة.. بعد ذلك توكل على الله عز وجل.. بعد ذلك لن يصيبك الهوان، ولن يصيبك الخمول ما دمت واثقاً بنصرة هذا الدين، وواثقاً في هذه البشائر وهذه المبشرات .اللهم أقر أعيننا بعزة الإسلام والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
من محاضرة: بشائر ومبشرات للشيخ/ إبراهيم الدويش .(/9)
بشرى إلى أصحاب القلوب الميتة !!!
مفكرة الإسلام : ما عدت أشعر به إنه بالداخل، هذا مؤكد، ولكني ما عدت أشعر به منذ أمد, حقيقة لا أدري متى كان هذا أو أين أو حتى كيف؟ كل ما يدور بداخلي الآن أني لا أشعر به, لقد فقدته, كان موجودًا بداخلي, شعرت به حقًا, ولكنه ما لبث أن مات.
إني أذكره بينما كان حيًا متقدًا بحرارته، كنت أشعر معه بالحياة تدب في أوصالي، وكلما أقدمت جوارحي على مرضاة الله؛ امتلأ هذا القلب الحي سرورًا وسعادة، وعلى النقيض من ذلك تظلمه المعصية، وتسدل الستور من حوله؛ فلا تسمح للضياء بالولوج إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: والقلب المريض: [ قلب له حياة وبه علة، فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب وحب العلو، والفساد في الأرض بالرياسة ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا وأدناهما إليه جوارًا، فالقلب مريض فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى ].
لكنني لم أتوقف، لم أسترح لقلبي وهو يتأرجح بين النور والظلام، لا أعلم هل نفسي تحب الظلام أم تعشق النور؟ يشعر المرء المتذبذب بين الاثنين أنه كالمجنون، يصل إلى أعلى مراتب الطاعات والقرب من الله؛ فيشعر بأن الأمر قد انتهى وأنه لا بد له أن يستقيم، ولكنه لا يلبث حتى يناديه الظلام يشده إلى دائرته، ويأبى أن ينفلت من إطاره فيقع في براثن المخالفة، ويهوي إلى عمق المبارزة لله، ثم يفيق بعد أن يصعق من هول الهبوط وعظم البعد؛ فيهرع مسرعًا إلى الله لاجئاً متضرعًا أن ينقذه من هوى الظلمات.
وبينما صاحبنا بين هذا وذاك، إذ به يترك الحبل لنفسه على الغارب تجره إلى الظلمات، يناديه عقله: أن قم، أفق قبل فوات الأوان، لكنه لم يصرف جهدًا في النجاة، بل ظل يسقط ويسقط ويسقط....
فلما وصل إلى القاع؛ وصل إلى فقد الشعور بقلبه، أماته بيده، لم يعد يشعر فيه بألم المعصية ولا لذة الطاعة، فقد كل شعور من حوله، بل فقد طعم الحياة نفسها.
لقد مات قلبي
أعلنها صرخة مدوية في جنبات المكان: لقد مات قلبه، فما عاد يشعر بشيء، ولكنه عاد يسأل نفسه هل لهذا الميت من حياة؟ هل له من عودة؟ كيف وقد مات؟ كيف وقد قتل نفسه بيده ؟
قال ابن القيم رحمه الله: [[ ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط؟ فهو متعبد لغير الله؛ حبًا وخوفًا ورجاء ورضًا وسخطًا وتعظيمًا وذلاً، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادي إلى الله وإلى الدار الاخرة من مكان بعيد، ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فهو في الدنيا كما قيل في ليلى:
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ومن قربت ليلى أحب وأقربا
بشرى إلى أصحاب القلوب الميتة:
تعالى معي نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: [[ كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقالوا: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد؛ فقبضته ملائكة الرحمة، قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ]]
رواه البخاري ومسلم.
لهذا الحديث الشريف فوائد كثيرة أحصاها العلماء رحمهم الله، لكن ما يعنينا منها ها هنا نقاط هي:
1-لقد قتل تسعة وتسعين نفسًا:(/1)
ترى هل نظن أن مثل هذا ما زال صاحب قلب سليم أو مريض؟ بل إنك تلمح في قتله للراهب -وهو الذي جاء يسأله عن التوبة فأكمل به المائة- إصرارًا عجيبًا، بل وعدم وجود أدنى شعور بالندم على الفعل، لكن العجيب حقًا هنا أنه قتل الراهب، ثم تنص رواية الحديث أنه خرج من عنده يسأل عن أعلم أهل الأرض.
يا للعجب، إنه ما زال يريد التوبة، إن قرار الإحياء الذي اتخذه قاتل المائة نفس كان قرارًا محسومًا، لا يقبل التأجيل ولا التأخير أو التعطيل لأي سبب كان، لقد كان مصمماً على إحياء هذا القلب بعد أن مات.
ألا تعجب من كونه لم يتوقف ولو للحظات بعد قتله للراهب يقول فيها لنفسه: ها قد عدت ثانية، ها قد ارتكبت ما ترتكبه، دائمًا لن يتوب مثلك لن يقبلك الله؟!!
كلا، لم يقل لنفسه أياً من هذه الكلمات المحبطة المعتادة، بل وضع ذلك كله جانباً، وانطلق يعلم تماماً ما الذي يريده [التوبة] .
2-قبول التوبة من جميع الكبائر:
وهذه القصة أصل عظيم في الدلالة على قبول التوبة من المذنب وإن تفاحش ذنبه، وتعاظم إثمه مهما بلغ، طالما صلحت رغبته في التوبة.
وقد نطقت بذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [53] سورة الزمر.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ]] رواه مسلم.
3- سعة رحمة الله عز وجل وخطورة تقنيط الناس منها:
تدل القصة برواياتها المتعددة على سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه، وأن صدق العبد في التوجه إلى الله يمنحه-فوق قبول الله له- توفيقًا وهداية إلى الطريق المستقيم، وقد صرحت الروايات المختلفة بتدخل العناية الإلهية بما يفيد سعة رحمة الله ومزيد فضله على العبد التائب.
ففي رواية البخاري وروايات أخرى في مسلم [[ فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه اقرب بشبر فغفر له ]].
وفي إبعاد أرض المعصية، وتقريب أرض التوبة ما يشعر بأن الله لا يقبل التوبة عن عباده وفقط، بل يزيدهم فوق القبول من فضله، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [[ يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة]] رواه البخاري ومسلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: [[ قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة [74]، ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولًا من هؤلاء، من قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} سورة النازعات [24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } سورة القصص [38] ]]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [ من أيَّس عباد الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله عز وجل] تفسير ابن كثير[4/59].
هل تراك عزيزي صاحب القلب الميت قلبك من بين القلوب تفقد فيه الأمل فلا تظنه يحيا؟ فما بالك بقلوب الكفار والملحدين الذي خربت قلوبهم بنكران وجود الله؟!!
فهلم بنا إلى إحياء هذا القلب الميت عبر مقالتنا القادمة
مات فكيف أحييه ؟
وإلى حين اللقاء لكم مني خير تحية وأطيب سلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
بشرية محمد
الحمد لله يجتبي من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رحيم ودود ، قريب مجيب . فتح بابه للطالبين ، وأظهر غناه للراغبين ، فاقرع الباب أيها العاقل ، ولا تقنعن من رحمته إلا بأوفى نصيب . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، سيد الأولين والآخرين ، وأفضل المعلمين ، أواه منيب ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، فإنها وصية الله لكم في غير ما آية من كتابه الكريم ، ووعدكم عليها معيته ، ونصره ، وجنته ، والعاقبة للمتقين .(/1)
أيها المسلمون : إن من منة الله تعالى على الناس أن بعث فيهم بشرا مثلهم ، يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون ، لا يحسون بمزية له عليهم سوى أنه يوحى إليه ، وأما في سائر شؤونه فلا يتعدى كونه بشرا مثلهم ، يضحك ، ويبكي ، ويصح ويمرض ، ويتزوج النساء ، ويقوم ويرقد ، ويجوع ويشبع ، أثبت ذلك كتاب الله تعالى وحيا منزلا : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي . بل إن تعجب فعجب قولهم إن هذا إلا بشر مثلكم . وما كان ينبغي للبشر إلا أن يكون الرسول إليهم بشرا مثلهم ، ومن هنا لما طلب كفار قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بخوارق من الأمور المعجزات فقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا او تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ، لما سألوا كل هذا تعنتا وعنادا ، وجهه الله تعالى لجواب قصير من جوامع الكلم ، فقال له : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا . ومعنى هذا تنزيه الرب تبارك وتعالى أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يريد ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالة ربي وأنصح لكم ، وقد كانت بشرية الرسل مانعة لأقوامهم من الإيمان لاعتقادهم أن الرسول لا بد أن يتميز عنهم بما هو فوق البشرية فقالو : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ وقالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ونص المولى جل وعلا على هذا المانع فقال : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا . وقال جل وعلا : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا ؟ وأخبر سبحانه أن المرسل لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا . وبهذا يصبح البيان ناصعا بمنته جل جلاله في بعثته لنا رسولا منا كما قال سبحانه : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . أيها الأحبة : إن رفع الشخص فوق منزلته البشرية غلو ممقوت ، يقود إلى الضلال والإضلال ، والفساد والإفساد ، وقد ضل في ذلك أقوام غلوا في عيسى عليه السلام فجعلوه ابنا لله ، وقال بعضهم هو الله ، فعبدوه من دون الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وما ذاك إلا لرفعهم إياه عن منزلته البشرية . وغلا أقوام في علي رضي الله تعالى عنه ، وفي أئمتهم وسادتهم ، فقادهم ذلك الغلو إلى الشرك والكفر ، ومن يضلل الله فما له من هاد . وغلا أناس في الأولياء والصالحين فاعتقدوا فيهم ما لا يصح اعتقاده إلا في الله تعالى ، فظنوا أنهم يملكون الضر والنفع ، وأنهم يهبون الذرية لمن دعاهم ، أو نذر لقبورهم ، فدعوهم وهم أموات ، وغلوا فيهم وهم أحياء ، فاتخذوهم لله شركاء ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور . ومن هنا فإن رفع الشخص فوق منزلته يقود إلى الغلو المنهي عنه ، حتى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلته البشرية يقود إلى عبادته من دون الله تعالى . ولهذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يغضب أشد الغضب حين يغلو فيه أحد أصحابه ، كما قال للرجل حين قال له : ما شاء الله وشئت ، فقال : أجعلتني لله ندا ، بل ما شاء الله وحده . وقال صلى الله عليه وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . وأمره تعالى أن ينفي عن نفسه أي صفة لا توافق بشريته وإنسانيته ، فقال : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ، قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء . إخوة الدين والعقيدة : إن مما يجب أن يؤصل في أيامنا هذه مسألة البشرية ، والواقعية ، فلقد أعيت أناسا لم يفهموها ، ولم يدركوها فغلوا من حيث لا يشعرون ، وقادهم هذا الغلو إلى الإفساد في الأرض ، وسوء الظن بالمسلمين ، وعدم الصبر على المسيئين ، وعدم عذر المذنبين ، وقادهم ذلك إلى التضييق على المسلمين ، وحجر الواسع على المكلفين . ومن ثمرات ذلك ، أعني التعامل مع الناس على أساس بشريتهم أن ننزل الناس منازلهم ، وأن نعرف لهم قدرهم ، وأن لا نحملهم فوق طاقتهم ، أو نرفعهم فوق منزلتهم . إنه لما غفل البعض عن بشرية المسلمين ، وحتى الكافرين طلبوا منهم ما يعجزون عنه فنشأ الخلاف والاختلاف والتباغض والتطاحن ، وبالتالي حمل بعضهم السلاح ، ونشر بعضهم لسانه في إخوانه قدحا وتحذيرا . ولا يكون هذا إلا ممن يطلب من الناس أن يكونوا ملائكة ، لا يعصون ، ولا يعجزون أو يخطئون . فلا يرى أن الحاكم بطبيعته بشر ، له شهواته ، ورغباته ، وأخطاؤه(/2)
، وعجزه ، وخوفه . وقل نفس المقال في العالم ، وطالب العلم ، وعامة الناس . لو عقلنا هذا أيها الأحبة لكانت محاولتنا إصلاح ما اعوج من حال أحد ما ، حاكما كان أو عالما أو طالب علم أو من العوام أو من علية القوم ، لكانت بالحسنى والصبر والموعظة الحسنة . نأخذهم بالرفق واللين ، رغبة في الإصلاح لا في الهدم ولا في العقاب ، فإن الله تعالى قد سبقت رحمته غضبه ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف . بيد أن مشكلة البعض أنهم يظنون في الحاكم أو العالم خاصة ، يظنون به العصمة ، فعند حدوث زلل ما منه أو معصية ما تطيش ألبابهم ، وتذهل عقولهم ، وتتهور أفعالهم وأقوالهم . وبالتالي فهو في هذا المقام لا يرى في حكامنا ، ولا في علمائنا ، ولا في طلبة العلم منا أنهم بشر ، قد يخافون ، وقد يعجزون ، وقد تغلبهم شهوة دنيوية ، أو غير ذلك مما يعتري كل إنسان ، ولا يخلو منه بشر إلا من عصمه الله من الأنبياء والرسل . فهون عليك أخي الحبيب إذا رأيت زلة من عالم ، أو خطأ من حاكم ، أو معصية من طالب علم فإن في الأمر سعة . نعم من واجبك النصح ، فالدين النصيحة ، ومن واجبك الغيرة ، ومن واجبك الحرص على الكمال ، ومن الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن كل ذلك يجب أن يكون في إطار إنما أنا بشر . وديننا ولله الحمد دين يحتوي الأخطاء ، ويتجاوز الزلات ، ولا يؤاخذ جملة ، ولا يعنف في العقاب ، بل يراعي كل الحقوق ، ويوازن بين المستحقات ، والحسنات والسيئات . فهذا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، يفعل فعلته تلك ، فيرى عمر أنه قد نافق ، فيخبره الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم أن لا ، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . فحاطب رضي الله عنه بدري ، وكفى بها منقبة ، ومع هذا لم يسلم من خطأ شنيع ، فعله متأولا . وها هو القرآن الكريم يخاطب الصحب الكرام وهم من هم في الهجرة والنصرة فيقول لهم : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ويخبر عن بعضهم تولوا يوم التقى الجمعان ، وأن ذلك التولي إنما كان بما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ، ثم يخبر أنه قد عفا الله عنهم . وعمار قال كلمة الكفر مكرها ، ولم يصبر كما صبر بلال ، رضي الله عنهما ، وكل منهما لم يجاوز فسحة الدين ، فمن صبر فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، ومن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فقد أخذ بالرخصة ، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه . وهذا الصديق مع جلالة قدره وعظيم منزلته يوتر قبل أن ينام ، وأخذ عمر بالعزيمة فأخر الوتر إلى آخر الليل . وخالف ذو النورين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله في مسألة الصلاة في منى ، وما نقص من قدره ومنزلته شيئا . ونهى الشيخان أبو بكر وعمر عن المتعة في الحج ، ولم يزحزحهما ذلك عن أنهما خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهما . وصبر ابن حنبل على السوط ، ولم يصبر علي بن المديني ، رحم الله الجميع . وأخطأ المأمون فحمل الناس على القول بخلق القرآن ، وقتل في ذلك علماء ، وحبس آخرون ، وما نزعت يد الناس من طاعته في غير تلك المسألة ، وظل أميرا للمؤمنين حتى توفي . أيها المسلمون : هذه أمثلة لم أرد بها الحصر ، ولكن لبيان أن هناك متسعا في ديننا يقبل الحوار ، ويناقش المسائل التي فيها الخلاف ، ويبسط الأدلة ، حتى مع الكافرين ، أما ترون الله تعالى يقول لهم : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : أتعجبون من غيرة سعد ، فلأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين فكونوا عباد الله ممن يعذر الناس ، لأنهم بشر ، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنهم كلهم خطاءون ، وخير الخطائين التوابون . ويلتمس لهم الأعذار ، مع مناصحتهم ، ودعوتهم ، والدعاء لهم ، والأخذ بأيديهم ، وعلى أيديهم ، نصرة محب مشفق ، كما يضرب الوالد ولده وقلبه يكاد يتقطع عليه ، لا كما يضرب العدو عدوه ، وإن كان لا بد من قسوة ، فلتكن قسوتك كالطبيب الجراح ، لا يجاوز المكان الذي يحتاج إليه ، وإنما يجرح ليداوي لا ليهدم ويقتل ، وشتان بين الحالتين . وليكن لكم في رسولكم صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فقد حاربه قومه وهم مشركون ، وكذبوه وآذوه ، ورجع كسير القلب مجروح الفؤاد من الطائف ، مدمي العقبين ، قد أظلمت الدنيا في وجهه ، ولا معين له من البشر ، ولا نصير ، فتحين فرصة الانتقام ، وحق له ، والله تعالى يرسل له ملك الجبال ليستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين فيأبى ، صلوات ربي وسلامه عليه ، رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ، وصدق الله في وصفه : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم(/3)
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله . فليكن هم أحدكم وهجيراه : لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم . فبشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا ، واقبلوا من المحسن ، وتجاوزوا وادعوا للمسيء ، فلعل الله أن يهديهم ، ويشرح صدورهم ، ويجعلهم من جنده ، وعباده الصالحين . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، أتصبرون ، وكان ربك بصيرا .(/4)
بصائر(1)
الأستاذ الدكتور/ كابوري
محمد صالح علي مصطفى
جاورت بمكة المكرمة أسابيع وأياماً من شهري جمادى ورجب عام 1425 من الهجرة النبوية، وهناك أعدت النظر في مجموعة "خاتمة المؤلفات"* .
وقد كان المفهوم المراد من "خاتمة المؤلفات" هو رفع القلم وطي الصحف والانصراف إلى المسجد للصلاة وقراءة القرآن رغباًَ ورهباً ?فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب *? 7-8/94 ?واعبد ربك حتى يأتيك اليقين *? 99/15 .
ولكن ذلك الفهم توسع لإضافة "بصائر" كعلم وكعبادة حيث لا منافاة بينهما والفارق إن وجد فهو أن العلم أسبق مرحلة وأعظم مرتبة.
?قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ *? 104/6 .
?قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى? 108/12 .
و"بصائر" جمع بصيرة من أبصر ومنه البصر للرؤية بالعين وهي أَثْبت من السمع واللمس وغيرهما من أسباب العلم، وضدها العمى والعياذ بالله.
وبصائرنا: مراجعات ومختارات من مؤلفاتنا العشرين وفيها: مفاهيم وأحكام وخواطر وبيانات.. علمية وسياسية..
واللائحة القائمة طويلة نأخذ منها ما يمكن أخذه منها، ونترك فيها ما يمكن تركه فيها، دونما تسلسل زمني أو ترتيب موضوعي لغاية في نفسي.
هذا، وإني لأرجو الله أن يجعل هذه البصائر قرآنيةً ربانيةَ الطريق والغاية.
ومن الله التوفيق إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
1
موازين العلم وميادين العمل
العلم والعمل أصلان متلازمان ومتكاملان في حياة الإنسان في هذه الدنيا التي جعلها الله دار تكليف بالعبادة علماً وعملاً ، وللعلم موازينه وللعمل ميادينه :
موازين العلم ثلاثة :
الأول: ميزان الدين الإلهي: دليله الكتاب والسنة ، وحكمه بيان علم الحلال والحرام.
الثاني: ميزان الفطرة الإنساني: دليله العقل السليم ، وحكمه بيان النافع والضار.
الثالث: ميزان العرف الاجتماعي: دليله الإجماع، وحكمه بيان الحسن والقبيح.
وموازين العلم الثلاثة هي زاد السفر ونور الطريق بالنسبة لميادين العمل، وهذه الموازين مرتبة، فدين الله أولاً لأنه وحي معصوم، ثم الفطرة الإنسانية لأن سننها ثابتة، وأخيراً العرف الاجتماعي وهو نسبي يتطور ويتغير.
ميادين العمل متعددة نجملها في أربعة:
الأول: ميدان النفس، وفي النفس يجري الصراع بين الخير والشر أو بين التقوى والفجور ?فألهمها فجورها وتقواها? 8/91 ويغلب أحدهما الآخر ?قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها *? 9-10/91 .
والتزكية و الفلاح في الصراع النفساني هو التخلص من النفس الأمارة بالسوء ومن النفس اللوامة والوصول إلى النفس المطمئنة..
الثاني: ميدان الأهل في تربيتهم وتعليمهم ورعايتهم ودعوتهم في بشارتهم ونذارتهم، وهؤلاء الأهلون أولياء و قد ينقلبون أعداءً على الرغم من قربهم وقرابتهم ?إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم? 14/64 فإذا كان هذا حال بعض الأهلين فما بالك بغيرهم من الآخرين من العشيرة والقوم وعموم الناس ؟ ولذا يتوجب الصبر عليهم ومداراتهم وإعذارهم ما أمكن.
الثالث: ميدان القومية بدءا بالعشيرة.
الرابع: ميدان الإنسانية العامة.
وميادين العمل الأربعة تمثل دعوة الأنبياء المرسلين -والعلماء ورثتهم- وهذه الميادين مرتبة بداية بالنفس ?عليكم أنفسكم? 105/5 ثم الأهل ?قوا أنفسكم وأهليكم? 6/66 ثم العشيرة ?وأنذر عشيرتك الأقربين? 214/26 والقوم، وفي القرآن بيان وفي السنة كذلك بيان أن كل نبي أرسل إلى قومه خاصة، وأن خاتمهم أرسل إلى الناس كافة.. صلى الله عليه وعليهم وعلينا وسلم.
والحمد لله رب العالمين
* أنظر "المؤلفات" على الإنترنت في موقع -كابوري نت- www.gabori.net
بصائر(2)
الأستاذ الدكتور/ كابوري
محمد صالح علي مصطفى
القراءة والكتابة
بدأ نزول القرآن بالدعوة إلى القراءة والكتابة : ? اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم *? 1-5/96 .
القراءة باللسان من الغايات ، والكتابة بالقلم من الوسائل .. ودائرة البحث وسيعة في الاثنتين نقتصر في الأولى على علاقة القراءة بالتجويد ، ونقتصر في الثانية على علاقة الكتابة بالقواعد :
أ – القراءة والتجويد:
التجويد : إجادة القراءة يريدون به الترتيل الوارد في الكتاب أو التغني الوارد في السنة ، وهو كيفية في الأداء أوجبه بعض القرّاء ، وآخرون لم يوجبوه وردّوا أدلة الموجبين وبخاصة دعواهم أن اللغة العربية في الأداء العام هو التجويد ذاته ، ولا يخفى ضعفه لأن التجويد لم يروَ في الحديث وهو أقرب النصوص إلى القرآن ، ولم يرِد في الشعر وهو ديوان العرب ولا في السجع ولا في النثر والخطب والحكايات والأمثال وغيرها من كلام العرب ..(/1)
فالادعاء بأن التجويد حتماً لازم وأن من لم يجود القرآن حتماً آثم .. مسألة فيها نظر ، يقول ابن تيمية : " ولا يجعل همته فيما حجب فيه أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة بخروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها ونطقٍ بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، وكذلك شغلِ النطق بأءنذرتهم وضم ميم عليهم ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحوِ ذلك ، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت .. " إهـ .
وبعض التجويد حق يشهد له خط المصحف في الحذف والفصل والوصل مثل الإدغام في " أن لا " حيث كتبت " ألاّ " بإدغام النون في اللام وكذا " من ما " حيث كتبت " مما " بإدغام النون في الميم .. وينبغي دراسة هذه الظاهرة في المصحف كله مع محاولة وضع علامات الترقيم حسب المعاني الموضوعية ولم يرَ الشيخ طاهر الكردي بذلك بأساً .
والوزن في رؤوس الآيات شاهد على الوقوف للتغني على شبه بقافية الشعر وفاصلة السجع وليس له علاقة بالوقوف الموضوعية ، فلا مسوغ لرجوع القارئ وإعادته من أجل الوحدة الموضوعية وإتمام المعنى لأنه تكرار يوهم دخوله في النص، تدبر ذلك مع فاتحة سورة الروم ? الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم *? 1-5/30 .
وكثير من التجويد تجاوز الحدود بالمدود والغنن والقلقلات والإقلابات والإخفاءات والإدغامات والمبالغات في مخارج الحروف ، وسبب ذلك قطع الكلام وتداخله حتى أصيب كثير من الكلمات بالغموض على حساب المعاني .. و هذا من أهم الأسباب المؤدية إلى قصور العامة من العرب وهم من أهل العربية عن فهمهم وتدبرهم للقرآن العربي المبين .
ب – الكتابة والقواعد :
لم يلتزم الكاتبون الأولون بقواعد الكتابة الإملائية في الكثير من المواضع ولم يصحح لهم مَن أتى بعدَهم فزيدت حروف وحذفت حروف أو كتبت على خلاف ما قرئت .. والمواضع لا تكاد تحصى ويجب إحصاؤها مهما كثرت لأن الواجب المؤكد هو كتابة القرآن على الوجه المقروء الملفوظ وعلى سبيل الموافقة والمطابقة بلا زيادة وبلا نقصان وبلا تبديل وبلا تغيير .. لكن الواقع مختلف الحال كما قلنا مع الأخذ بعين الاعتبار تطور قواعد الإملاء ، وهاكم أمثلة :
-ألف لام ميم أسماء لحروف كتبت ألم حروفاً ، وهي وأمثالها في فواتح تسع وعشرين سورة .
-الصلاة والزكاة بالألف كتبتا بالواو الصلوة والزكوة ، والتوراة بالألف كتبت بالياء التورية .
-لأذبحنه بالإثبات كتبت لا أذبحنه بالنفي .
-سأريكم من الرؤية كتبت بالواو سأوريكم أي سأحرقكم أو سأخفيكم .
-المسيطرون بالسين كتبت بالصاد المصطيرون .
-ننجي بنونين كتبت بنون واحدة نجي .
-ملإه ، بأيد كتبتا بياء زائدة ملإيه ، بأييد ..
-الجنة كتبت بالتاء المربوطة وكتبت بالتاء المفتوحة جنت .
ومعروف أن الكتابة العربية فصلت بين الحركات والحروف فلم تعدَّ الحركات حروفاً فلا يمكن استعمالها إلا مع الضبط بالشكل في كل شيء حتى الرسائل العادية والصحف اليومية ، أو إلا بعد معرفة علم النحو والصرف ، وهما علمان يتعذر تعلمهما كما يتعذر استعمالهما , ولو أن كلمة بثلاثة أحرف طرحت دون شكل لأمكن أن تقرأ باثني عشر وجهاً وأزْيد كلها خطأ إلا واحدا ، وذلك كبير وكثير على لغة من اللغات وبخاصة في وقت لا توجد فيه أم عربية تلقن اللغة الفصحى ، ولا توجد مدرسة تيسر علم النحو والصرف ، ولا مطابع تكتب كل شيء بكامل الشكل.
لقد وقع الخطأ من الكاتبين الأولين ولم يكونوا معصومين وكانوا معذورين.. يؤكد ابن خلدون على أن ليس في خطإهم نقص في خلق أو دين بناءاً على أن الكتابة من الصنائع المعاشية المدنية ..
ولقد منع الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الكتابة بخط المصحف وعلله بقوله : " لئلا يوقع الجهالَ في تحريف القرآن " .
وأقول : هو كذلك ، وهو أيضاً لئلا يوقع العلماءَ في كتمان العلم ، والوعيد فيه شديد فعلى الكاتبين الآخِرين واجب الكتابة من جديد ..
وما هذا الشأن إلا كشأن الكعبة المشرفة في إدخال حجر إسماعيل إلى داخل البيت العتيق ، ليكون البناء على قواعد الخليل إبراهيم تحقيقاً لأمنية خاتم الأنبياء المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين(/2)
بصائر(1)
الأستاذ الدكتور/ كابوري
محمد صالح علي مصطفى
جاورت بمكة المكرمة أسابيع وأياماً من شهري جمادى ورجب عام 1425 من الهجرة النبوية، وهناك أعدت النظر في مجموعة "خاتمة المؤلفات"* .
وقد كان المفهوم المراد من "خاتمة المؤلفات" هو رفع القلم وطي الصحف والانصراف إلى المسجد للصلاة وقراءة القرآن رغباًَ ورهباً ?فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب *? 7-8/94 ?واعبد ربك حتى يأتيك اليقين *? 99/15 .
ولكن ذلك الفهم توسع لإضافة "بصائر" كعلم وكعبادة حيث لا منافاة بينهما والفارق إن وجد فهو أن العلم أسبق مرحلة وأعظم مرتبة.
?قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ *? 104/6 .
?قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى? 108/12 .
و"بصائر" جمع بصيرة من أبصر ومنه البصر للرؤية بالعين وهي أَثْبت من السمع واللمس وغيرهما من أسباب العلم، وضدها العمى والعياذ بالله.
وبصائرنا: مراجعات ومختارات من مؤلفاتنا العشرين وفيها: مفاهيم وأحكام وخواطر وبيانات.. علمية وسياسية..
واللائحة القائمة طويلة نأخذ منها ما يمكن أخذه منها، ونترك فيها ما يمكن تركه فيها، دونما تسلسل زمني أو ترتيب موضوعي لغاية في نفسي.
هذا، وإني لأرجو الله أن يجعل هذه البصائر قرآنيةً ربانيةَ الطريق والغاية.
ومن الله التوفيق إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
1
موازين العلم وميادين العمل
العلم والعمل أصلان متلازمان ومتكاملان في حياة الإنسان في هذه الدنيا التي جعلها الله دار تكليف بالعبادة علماً وعملاً ، وللعلم موازينه وللعمل ميادينه :
موازين العلم ثلاثة :
الأول: ميزان الدين الإلهي: دليله الكتاب والسنة ، وحكمه بيان علم الحلال والحرام.
الثاني: ميزان الفطرة الإنساني: دليله العقل السليم ، وحكمه بيان النافع والضار.
الثالث: ميزان العرف الاجتماعي: دليله الإجماع، وحكمه بيان الحسن والقبيح.
وموازين العلم الثلاثة هي زاد السفر ونور الطريق بالنسبة لميادين العمل، وهذه الموازين مرتبة، فدين الله أولاً لأنه وحي معصوم، ثم الفطرة الإنسانية لأن سننها ثابتة، وأخيراً العرف الاجتماعي وهو نسبي يتطور ويتغير.
ميادين العمل متعددة نجملها في أربعة:
الأول: ميدان النفس، وفي النفس يجري الصراع بين الخير والشر أو بين التقوى والفجور ?فألهمها فجورها وتقواها? 8/91 ويغلب أحدهما الآخر ?قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها *? 9-10/91 .
والتزكية و الفلاح في الصراع النفساني هو التخلص من النفس الأمارة بالسوء ومن النفس اللوامة والوصول إلى النفس المطمئنة..
الثاني: ميدان الأهل في تربيتهم وتعليمهم ورعايتهم ودعوتهم في بشارتهم ونذارتهم، وهؤلاء الأهلون أولياء و قد ينقلبون أعداءً على الرغم من قربهم وقرابتهم ?إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم? 14/64 فإذا كان هذا حال بعض الأهلين فما بالك بغيرهم من الآخرين من العشيرة والقوم وعموم الناس ؟ ولذا يتوجب الصبر عليهم ومداراتهم وإعذارهم ما أمكن.
الثالث: ميدان القومية بدءا بالعشيرة.
الرابع: ميدان الإنسانية العامة.
وميادين العمل الأربعة تمثل دعوة الأنبياء المرسلين -والعلماء ورثتهم- وهذه الميادين مرتبة بداية بالنفس ?عليكم أنفسكم? 105/5 ثم الأهل ?قوا أنفسكم وأهليكم? 6/66 ثم العشيرة ?وأنذر عشيرتك الأقربين? 214/26 والقوم، وفي القرآن بيان وفي السنة كذلك بيان أن كل نبي أرسل إلى قومه خاصة، وأن خاتمهم أرسل إلى الناس كافة.. صلى الله عليه وعليهم وعلينا وسلم.
والحمد لله رب العالمين
* أنظر "المؤلفات" على الإنترنت في موقع -كابوري نت- www.gabori.net(/1)
بصراحة.. هل تعرف معنى الشهادتين؟ ...
16-01-2005
معنى الشهادتين
معنى شهادة أن لا إله إلا الله :
الاعتقاد والإقرار ، أنه لا يستحق العبادة إلا الله ، والتزام ذلك والعمل به ،
( فلا إله ) نفي لاستحقاق من سوى الله للعبادة كائناً من كان
( إلا الله ) إثباتٌ لاستحقاق الله وحده للعبادة ،
ومعنى هذه الكلمة إجمالا : لا معبود بحق إلا الله .
وخبر [لا] يجب تقديره : [ بحق ] ولا يجوز تقديره بموجود ؛
لأن هذا خلافُ الواقع ، فالمعبودات غيرُ الله موجودة بكثرة ؛
فيلزم منه أن عبادة هذه الأشياء عبادة الله ،
وهذا من أبطل الباطل وهو مذهب أهل وحدة الوجود الذين هم أكفر أهل الأرض .
التفسير الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين :
أن يُقال : ( لا معبود بحق إلا الله ) كما تقدم.
ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله :
هو الاعتراف باطنا وظاهرا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة ، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ،
واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألا يُعبدَ الله إلا بما شرع .
ثانيًا : أركان الشهادتين :
أ – لا إله إلا الله : لها ركنان هما : النفي والإثبات :
فالركن الأول : النفي : لا إله : يُبطل الشرك بجميع أنواعه ، ويُوجب الكفر بكل ما يعبد من دون الله .
والركن الثاني : الإثبات : إلا الله : يثبت أنه لا يستحق العبادة إلا الله ، ويوجب العمل بذلك . وقد جاء معنى هذين الركنين في كثير من الآيات ،
مثل قوله تعالى :( فَمَنْ يَكْفُر بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فقدِ اسْتَمْسكَ بِالعُروةِ الوُثقى ) .
فقوله : ( من يكفر بالطاغوت ) هو معنى الركن الأول ( لا إله )
( ويؤمن بالله ) هو معنى الركن الثاني ( إلا الله ) .
---
ب – أركان شهادة أن محمدًا رسول الله : لها ركنان هما قولنا :
عبده ورسوله ، وهما ينفيان الإفراطَ والتفريط في حقه; فهو عبده ورسوله ، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين ،
ومعنى العبد هنا : المملوك العابد ، أي : أنه بشرٌ مخلوق مما خلق منه البشر ؛
يجري عليه ما يجري عليهم ، كما قال تعالى : ( قُلْ إنَّما أنَا بشرٌ مِّثْلُكُمْ ); الكهف : 110،
وقد وقى العبودية حقها ، ومدحه الله بذلك ،
ومعنى الرسول : المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا .وفي الشهادة له بهاتين الصفتين :
نفي للإفراط والتفريط في حقه ، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه ، وغلا فيه ؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى
مرتبة العبادة له من دون الله ؛ فاستغاث به من دون الله ، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله ؛من قضاء الحاجات وتفريج الكربات .
والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته ، واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به ؛ وتعسَّفَ في تأويل أخباره وأحكامه .
ثالثا : شروط الشهادتين :
أ – شروط لا إله إلا الله :
لابد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ،
لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ، هي :-
الشرط الأول : العلم : أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تُثبته ، المنافي للجهل بذلك ،
قال تعالى : ( إلاّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُم يَعْلَمُونَ). [ الزخرف : 86 ] . أي ( شهِدَ ) بلا إله إلا الله ، ( وهم يعلمون ) بقلوبهم ما شهدت
به ألسنتهم ،فلو نطق بها وهو لا يعلم معناها ، لم تنفعه ؛ لأنه لم يعتقد ما تدل عليه .
الشرط الثاني : اليقين :
بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تدل عليه ؛ فإن كان شاكاً بما تدل عليه لم تنفعه ،
قال تعالى : ( إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ). الحجرات : 15 ] .
فإن كان مرتابا كان منافقا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا قلبه
فبشره بالجنة ) رواه البخاري. فمن لم يستيقن بها قلبه ، لم يستحق دخول الجنة .
الشرط الثالث : القبول
لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ؛ فمن قالها ولم يقبل ذلك ولم يلتزم به ؛ كان من الذين
قال الله فيهم :( إنَّهُمْ كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يَسْتَكبِرُونَ وَيَقُولُون أئِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون )
وهذا كحال عباد القبور اليوم ؛ فإنهم يقولون : ( لا إله إلا الله ) ،
ولا يتركون عبادة القبور ؛ فلا يكونون قابلين لمعنى لا إله إلا الله .
الشرط الرابع : الانقياد
لما دلت عليه ، قال الله تعالى : ومَنْ يُسْلِم وَجْهَهَ إلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالْعُرْوَةِ الوُثْقَى) .
والعروة الوثقى : لا إله إلا الله ؛ ومعنى يسلم وجهه : أي ينقاد لله بالإخلاص له .
الشرط الخامس : الصدق :
وهو أن يقول هذه الكلمة مصدقا بها قلبه ، فإن قالها بلسانه ولم يصدق بها قلبه ؛ كان منافقا كاذبًا ، قال تعالى :(/1)
(ومِنَ النّاسِ مَنْ يَّقولُ آمنّا باللهِ وباليومِ الآخرِ وما هم بِمُؤْمِنينَ ، يخادعون اللهَ والّذينَ آمنُوا.. إلى قوله ولهم عَذابٌ أليمٌ بِمَا كانوا يَكْذِبونَ ) .
الشرط السادس : الإخلاص :
وهو تصفية العمل من جميع شوائب الشرك ؛ بأن لا يقصد بقولها طمعا من مطامع الدنيا ، ولا رياء
ولا سمعة ؛ لما في الحديث الصحيح من حديث عتبان قال : ( فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ) الشيخان ]
الشرط السابع : المحبة
لهذه الكلمة ، ولما تدل عليه ،ولأهلها العاملين بمقتضاها ، قال تعالى
( ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أندادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ الله والّذينَ آمَنُوا أشدُّ حُبًّا لله ).
فأهل ( لا إله إلا الله ) يحبون الله حبا خالصا ،
وأهل الشرك يحبونه ويحبون معه غيره ، وهذا ينافي مقتضى لا إله إلا الله .
---
ب – وشروط شهادة أن محمدًا رسول الله ، هي :-
1 – الاعتراف برسالته ، واعتقادها باطنا في القلب .
2 – النطق بذلك ، والاعتراف به ظاهرًا باللسان .
3 – المتابعة له ؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق ، ويترك ما نهى عنه من الباطل .
4 – تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة .
5 – محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين .
6 – تقديم قوله على قول كل أحد ، والعمل بسنته .
رابعا : مقتضى الشهادتين :
مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله
هو ترك عبادة ما سوى الله من جميع المعبودات المدلول عليه بالنفي وهو قولنا : ( لا إله ) .
وعبادة الله وحده لا شريك له ، المدلول عليه بالإثبات ، وهو قولنا ( إلا الله ) ، فكثير ممن يقولها يخالف مقتضاها
فيثبت الإلهية المنفية للمخلوقين والقبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأخبار .
وهؤلاء اعتقدوا أن التوحيد بدعة ، وأنكروه على من دعاهم إليه ، وعابوا على من أخلص العبادة لله .
ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله
طاعته وتصديقه ، وترك ما نهى عنه ،والاقتصار على العمل بسنته ، وترك ما عداها من البدع والمحدثات ،وتقديم قوله
على قول كل أحد .(/2)
بطاقة سعودي تك)
صورة عمل البطاقة(*):
د. يوسف الشبيلي [عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام] 9/3/1425
28/04/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فالحكم الشرعي لهذه البطاقة مبني على تكييفها الفقهي، فمن الواضح من العرض السابق أن هذه البطاقة ليست بطاقة ائتمانية بالمفهوم المصرفي لبطاقات الائتمان والتي تتضمن في آلية عملها ديناً من المُصدِر لحامل البطاقة، إذ إن مشتري هذه البطاقة يقوم بدفع قيمة مشترياته بها مسبقاً قبل استخدامه لها، فهي بطاقة مديونية لا دائنية، وإنما تحمل شعار الماستر كارد ، وتأخذ رقماً تسلسلياً من أرقامها للاستفادة من خدمات تلك المنظمة، واستعمال شبكتها الاتصالية لإتمام الصفقات التجارية عبر نقاط البيع المرتبطة بمنظمة الفيزا أوالماستر كارد أو غيرها من شركات البطاقات الائتمانية .
وهذا النوع من البطاقات قد انتشر في الآونة الأخيرة، ويعرف ببطاقات التخزين الإلكتروني، أو البطاقات سابقة الدفع ، وتقوم المؤسسات المالية بترويجه لعملائها، لاسيما الذين لاتتوفر فيهم شروط إصدار بطاقات الائتمان العادية (القرضية) .
والتخريج الشرعي لهذه البطاقة لايخلو من أحد أمرين :
التخريج الأول: أن يكون لهذه البطاقة حكم الدين، فتعد البطاقة سنداً بدين من المشتري للمصدر، ويتم استيفاء ذلك الدين بما يتناقص من القيمة المخزنة في البطاقة عند استخدامها، وعلى هذا فالعلاقة بين المصدر والمشتري هي علاقة قرض، ففي الصورة المذكورة في السؤال كأن المشتري قد أقرض المصدر (25) دولاراً ثم يسترد هذا المبلغ بما يشتريه بالبطاقة.
ويترتب على هذا التخريج أنه لو باعها المصدر بثمن أقل من قيمتها المخزنة فيها، فهو حرام لأنه قرض جر منفعة للمقرض وهو هنا المشتري ، أما لو باعها بثمن أكثر فهو قرض بشرط رد أقل من قيمته ، وهو جائز على الصحيح من أقوال أهل العلم(1) .
وهذا التخريج – أعني تخريج البطاقة على عقد القرض – بعيد؛ لأن البطاقة لها قيمة اعتبارية بذاتها، فحاملها قد قبض قيمتها حقيقة، وتشبه هذه البطاقات في نشأتها النقود الورقية في بداية ظهورها عندما كان يدون عليها تعهد من البنك المصدر لحاملها بدفع قيمتها من الذهب عند الطلب، وهو ما حدا ببعض العلماء في أول الأمر إلى أن يجعل لها – أي النقود الورقية -حكم الدين، ثم لم يعد لهذا القول حظ من النظر بعد أن انتشرت الأوراق النقدية، وأصبح لها من النفوذ والقبول والرواج في الأوساط التجارية ما يجعلها تعادل النقدين – الذهب والفضة – أو تتفوق عليهما، وبعد أن أدت تلك النقود دورها بدأ العالم – كما يشير إلى ذلك كثير من الاقتصاديين – يتجه إلى عصر اللانقد، أي العصر الذي تختفي فيه النقود الورقية، ويظهر التعامل بالنقود البلاستيكية من بطاقات ائتمان، وبطاقات خصم فوري، وبطاقات تخزين وغيرها، والعالم يشهد تطوراً رهيباً في هذه المجالات.
التخريج الثاني: أن يكون لهذه البطاقة حكم النقد، وعلى هذا فالعقد بين المصدر والمشتري هو عقد صرف، فيجب التقابض عند شراء البطاقة، كما يجب التساوي بين القيمة المخزنة في البطاقة والقيمة التي اشتريت بها إذا كانت القيمتان بعملة واحدة، أما إن اختلفت العملة فلا مانع من اختلاف القيمتين.
وهذا هو التخريج الصحيح؛ لأن هذه البطاقات أصبح لها اليوم من الحماية والقبول والرواج عند الناس مثل ما للنقود الورقية، فقبضها في قوة قبض محتواها من النقود، وقد نص أهل العلم على أن المرجع في تحديد القبض إلى العرف(2) ، فحكم هذه البطاقات كحكم الشيك المصرفي المصدق، بل البطاقات أكثر وضوحاً في معنى النقدية من الشيكات لأنها وسيلة للتبادل التجاري بدون قيود بخلاف الشيك فإنه لا يمكن صرفه إلا لمن حرر لصالحه.
وبناء على هذا التخريج يمكن النظر في الرسوم التي يتقاضاها المصدر، وهل هي تخل بشرط الصرف أم لا؟
فالمصدر يتقاضى في هذه المعاملة ثلاثة أنواع من الرسوم:
الأول: رسوم الصرف:(/1)
فالمشتري قد يشتري البطاقة بنفس العملة المخزنة فيها، بمعنى أنه يدفع (25) دولاراً ليحصل على قيمة مخزنة في البطاقة بالدولار، وفي هذه الحال يجب أن تكون القيمة المدفوعة مساوية للقيمة المخزنة، بدون زيادة ولا نقصان، وإلا كان من ربا الفضل، أما لو اختلفت العملة فلا مانع من اختلاف سعر صرف العملتين عن سعر الصرف في السوق، لأن كل عملة تعد جنساً مستقلاً بذاته على الصحيح من أقوال أهل العلم المعاصرين(3) ، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وهذا في الواقع هو ما يتم في البطاقة المذكورة في السؤال، فالمشتري يدفع (100) ريال مقابل شحن البطاقة بما يساوي (25) دولاراً، أي أن المصدر يربح في صرف كل دولار ربع ريال تقريباً (الدولار = 3.75 ريال، وهنا جعل لكل دولار أربعة ريالات)، وهذا جائز لاختلاف جنس العملتين.
الثاني: رسوم الاشتراك السنوي:
وهي تساوي (165) ريالاً في صورة السؤال المذكور، وهذه جائزة، لأنها مقابل الخدمة المقدمة من المصدر والمتمثلة بإصدار البطاقة وتجديدها، ولاشك أن هذه الخدمة عمل متقوم شرعاً يستحق عليه صاحبه الأجر، فهي تُخرج شرعاً على أنها من الإجارة على الأعمال.
وهذه الرسوم جائزة سواء اشتريت البطاقة بنفس عملة القيمة المخزنة فيها أو بعملة أخرى، ولا يختل بذلك شرط الصرف، أما إذا اختلفت العملة فالأمر ظاهر، وأما إذا اتحدت فلأن هذه الرسوم مقابل عملٍ آخر لا علاقة له بالصرف، ولهذا نجد من علمائنا المتقدمين من ذهب إلى مثل هذا القول، وأنه إذا كان العقد لا تجوز المفاضلة فيه، فقام أحد المتعاقدين بعمل يستحق عليه الأجر في ذلك العقد فيجوز له أخذ الأجر بما يقابل ذلك العمل، فجوز شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله بيع المصوغ والحلية من الذهب والفضة بمثل جنسه متفاضلاً إذا كان الفرق في مقابل أجرة الصنعة(4) ، كما قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي جواز أخذ الأجور عن خدمات القروض إذا كانت في حدود النفقات الفعلية، وذلك في جواب استفتاء مقدم من البنك الإسلامي للتنمية(5) ، وللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية فتوى بنحو ذلك (6).
والثالث : نسبة الخصم التي تؤخذ على التاجر الذي يشترى منه بالبطاقة:
ذلك أنه من المعروف أن شركات البطاقات الائتمانية تأخذ من التاجر نسبة " عمولة "من قيمة المشتريات بالبطاقة، وجزء من هذه النسبة يعطى للجهة المصدرة للبطاقة.
وهذه العمولة جائزة أيضاً لأنها في مقابل الخدمة التسويقية التي يقدمها المصدر للتاجر، إذ من المعلوم أن كون التاجر يقبل البطاقات الائتمانية يعد ذلك وسيلة جذب لحاملي تلك البطاقات للتسوق منه، وهذا العمل متقوم شرعاً يستحق عليه صاحبه العوض، ويمكن تخريجه على عقد السمسرة، وقد نص الفقهاء على أن أجرة السمسار تلحق بالجعالة إذا كانت لا تستحق إلا بتمام العمل، قال في البهجة – عند الحديث على جواز الإجارة على الشيء بجزء منه -: (وعلى ذلك تخرج أجرة الدلال بربع عشر الثمن مثلاً)(7) ، وفي عمدة القاري: "أجرة السمسار ضربان: إجارة وجعالة ... والثاني: لا يضرب فيها أجل ولا يستحق في الجعالة شيئاً إلا بتمام العمل)(8) ، ومن المعلوم أن المصدر لا يستحق تلك العمولة إلا بعد تمام العمل وهو شراء المشتري من التاجر بالبطاقة.
وهذه العمولة جائزة سواء اشتريت البطاقة بنفس عملة القيمة المخزنة فيها أو بعملة أخرى، لنفس التعليل الذي أشرنا إليه آنفاً في رسوم الاشتراك.
وبهذا يتبين جواز البطاقات ذات الدفع السابق ، وأن جميع الرسوم التي تأخذها الشركة المصدرة من حامل البطاقة لا محظور فيها شرعاً، ما لم تختلف قيمة شحن البطاقة عن القيمة المخزنة فيها وذلك فيما إذا كانت عملة القيمتين واحدة.
والخلاصة:
أن البطاقة بالوصف المذكور من أحد المشتركين جائزة، ولا مانع من الاشتراك فيها بالنسبة للمسلم. والله أعلم.
(*) إفادة من أحد المشتركين في البطاقة:
بطاقة (سعودي تك) الشرائية للإنترنت، كأي بطاقة ماستركارد، توفر لك بطاقة (سعودي تك) إمكانية التسوق العالمي من خلال شبكة الإنترنت، إنها بطاقة مدفوعة مسبقاً ذات اشتراك سنوي مقداره (165) ريالاً، ويمكن استخدامها كنقد حقيقي لأي شراء على الإنترنت، وهي ذات قيمة كبيرة لعدم وجود أي تكاليف أو رسوم إضافية عليها أو على استخدامها، فقط أعد شحن البطاقة في أي وقت وبكل سهولة لأي عملية شراء ترغب بها، بطاقة (سعودي تك) تمنحك المرونة والأمان في تحديد استخدامك لها (ذات حد أقصى 250 دولاراً أمريكياً، وحد أدنى 25 دولاراً لإعادة الشحن).
لبطاقة (سعودي تك) رقم حساب ماستركارد مكون من (16) رقماً، أصدر عن طريق (آل سرور لتقنية المعلومات)، قابل للاستخدام والشراء في جميع مواقع الإنترنت التي تقبل بطاقات ماستركارد.(/2)
بطاقة (سعودي تك) هي بطاقة ماستركارد في جميع خصائصها باستثناء أنه لا يمكن استخدامها كبطاقة ملموسة في عمليات الشراء.
بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لأي عملية شراء تتطلب تقديم بطاقة ماستركارد ملموسة ، كاستخدامها في منافذ البيع.
بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لعمليات الشراء عن طريق البريد أو الهاتف، علاوة على ذلك فإن بطاقة (سعودي تك) لا يمكن أن تستعمل لعمليات الشراء المزدوجة، على سبيل المثال: لا يمكن شراء سلعة من خلال الإنترنت يتطلب تقديم بطاقة ماستركارد ملموسة تحمل نفس رقم الحساب لتسليمها إلى المشتري.
العرض الخاص: قيمة البطاقة 265 ريالاً، وهي صالحة للاستخدام لمدة سنة، وتحمل قيمة شرائية أولية تعادل 25 دولاراً أمريكياً، وتحصل معها على عشر ساعات إنترنت مجانية، وتتم إعادة شحن البطاقة بنفس الطريقة من مضاعفات الـ 25 دولاراً، وقيمة الدولار تساوي أربعة ريالات.
(1) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية 20/515 البهجة شرح التحفة 2/288 حاشية الجمل 3/261
(2)انظر : بدائع الصنائع 5/244 المنتقى للباجي 6/97 المغني 4/125
(3) الورق النقدي حقيقته وتاريخ وحكمه ص 113
(4)انظر : أعلام الموقعين 2/140
(5)مجلة المجمع 3/ 305
(6)مجلة البحوث الإسلامية (8/147) ( 18/81)
(7)البهجة شرح التحفة 2/181
(8)عمدة القاري(/3)
بطاقة سِيرة ذاتِيّة للمسافر في الرحلة الأبَدِيّة
اقتباس وتنسيق : فيصل بن محمد الحجي
أ معلومات ( جواز سفر ) المسافر :
1 - الاسم : إنسان ... ابن آدم .
2 - الجنسية : من التراب وإلى التراب يعود .
3 - العنوان : كوكب الأرض .
4 – العلامات الفارقة : يأتي إلى الدنيا بلا اختياره ، ويُغادرها رغماً عن أنفه .
ب - البيانات العامّة للرحلة :
1- محطة المغادرة : الحياة الدنيا .
2 - محطة الوصول : الدار الآخرة .
3 - ساعة الإقلاع : وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرض تموتُ (1)
4- الثياب المسموح بها : - متران من قماش أبيض .. فقط .
5 - الحمولة المسموح بها : العمل
6 - الحمولة غير المسموح بها : الأهل و المال .
7 - الأشياء المسموح بشحنها بعد الرحلة :
أ- صَدقة جارية ب- عِلم يُنتَفَع به ج- ولَد صالح يدعو له .
9 - شروط الرحلة السعيدة :
على حضرات المسافرين إتباع التعليمات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم .
و إنّ أسُسَها هي :
- طاعة الله ومحبته وخشيته .
- التذكر الدائم للموت .
- أن يكون مأكلك ومشربك من الحلال .
- بر الوالدين .
- الانتباه إلى أنه لا يوجد في الآخرة سوى الجنة أو النار ...!
للمزيد من المعلومات : يرجى الاتصال بكتاب الله وسنة رسوله الكريم . للعِلم : الاتصال مجانيّ ومباشر.
ج - خطوط السفر :
1 - خط السفر الأول : الدنيا --> البرزخ --> يوم الحساب --> جهنم .
أً – المدْعُوُّون للسفر على هذا الخط : الكافرون والمشركون والمنافقون والفاسقون .
بً – نوع التذكرة : وجاءتْ سكرة الموتِ بالحقِّ ذلك ما كنتَ منه تحيد (2) .
جً - إجراءات السفر : ولو ترى إذِ الظالمون في غَمَراتِ الموتِ والملائكة باسطو أيديهم : أخرجوا أنفسَكم اليومَ تُجْزَوْنَ عذابَ الهُون بما كنتم تقولون على الله غيرَ الحقِّ و كنتم عن آياته تستكبرون (3) .
دً - رغبات المسافرين :حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ قال: ربِّ ارجعون لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ..! كلاّ إنّها كلمة ٌ هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون (4).
هً – ضيافة المسافرين في البرزخ : القبر حفرة من حُفَر النار (5).
وً - مراسم الاستقبال في المحطة الأخيرة : و سِيق الذين كفروا إلى جهنّمَ زُمَرا ، حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابُها و قال لهم خزنتُها : ألم يأتِكم رُسُلٌ منكم يتلونَ عليكم آياتِ ربِّكم و يُنذرونكم لقاءَ يومِكم هذا ؟ قالوا : بلى ، ولكن حَقَّتْ كلمة ُ العذابِ على الكافرين * قيلَ : ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبِّرين (6).
زً - نظام الإقامة في المحطّة الأخيرة :
1ً – المادّة الأولى : و ترى المجرمين يومئذٍ مُقَرّنين في الأصفاد * سَرابيلهم من قَطِران و تغشى وجوهَهم النارُ (7) .
2ً – المادّة الثانية : إنّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادِقها و إنْ يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوهَ بئس الشرابُ وساءتْ مُرتفقا (8) .
3ً – المادّة الثالثة : ونادى أصحابُ النار أصحابَ الجنّة: أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله ..! قالوا : إنّ الله حرّمهما على الكافرين (9).
4ً – المادّة الرابعة : و نادَوْا : يا مالِكُ لِيَقْض ِ علينا ربُّكَ ، قال : إنّكم ماكثون (10) .
5ً – المادّة الخامسة : إنّه من يأتِ ربَّه مُجرماً فإنَّ له جهنّم لا يموت فيها و لا يحيى ...!ّ (11) .
6ً - .............. 7ً - .................. 8ً - ................ 9ً - ................... الخ
ملاحظة :
1ً – يحظى المنافقون بعنايَة خاصّة فيحتلّون مقاعد (الدرجة الأولى) في جهنّم .
2ً – إذا فاز الفاسقون بمَكرمة الرحمة فإنَّهم يُمنَحون (رحلة إضافيّة مجانيّة) من جهنّم إلى الجنّة بعد
انقضاء فترة مُحَدَّدَة .
2 – خط السفر الثاني : الدنيا --> البرزخ --> يوم الحساب --> الجَنّة
أ – المَدْعُوُّن للسفر على هذا الخط : المؤمنون الأتقياء ، والتائبون الصادقون قبل انقضاء الفترة المُحَدَّدَة للتوبة
ب – نوع التذكرة : توفّني مسلماً وَ ألْحقني بالصالحين (12)
و على الراغبين بالدرجة الأولى أن يُقدِّموا المزيد من الأعمال الصالحة .
ج – إجراءات السفر : الذين تتوفاهم الملائكة طيّبين يقولون : سلامٌ عليكم أدخلوا الجنّة بما كنتم تعملون (13)
لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذابَ الجحيم (14) .
د– رغبات المسافرين: ربَّنا إنّنا سمعنا منادياً يُنادي للإيمان: أنْ آمِنوا بربِّكم ، فآمنّا ، ربّنا فاغفِرلنا ذنوبنا وكفِّرْ عنّا سيِّئاتنا وتَوفَّنا مع الأبرار * ربَّنا وآتِنا ما وَعَدْتنا على رُسُلِكَ ولا تُخْزنا يوم القيامة إنّك لا تُخْلِفُ الميعاد(15) .
ه - ضيافة المسافرين في البرزخ : القبر روضة ٌ من رياض الجنّة (16).(/1)
و – مراسم الاستقبال في المحطّة الأخيرة : و سِيق الذين اتقوا ربّهم إلى الجنّة زُمَرا، حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها وقال لهم خزنتُها: سلامٌ عليكم طِبْتُم فادْخلوها خالدين * وقالوا: الحمدُ للهِ الذي صدقنا وعدَهُ وأورثنا الأرضَ نتبوّأ من الجنّةِ حيث نشاءُ فنعم أجرُ العاملين (17).
ز - نظام الإقامة في المحطّة الأخيرة :
1ً – المادّة الأولى : يا عِبادِ لا خوفٌ عليكم و لا أنتم تحزنون * الذين آمنوا بآياتنا و كانوا مسلمين * أُدخُلوا الجَنّة َ أنتم وَ أزواجُكُمْ تُحْبَرون * يُطافُ عليهم بصِحافٍ مِن ذهَبٍ و أكوابٍ ، و فيها ما تشتهيه الأنْفُسُ وَ تَلَذُّ الأعْيُنُ ، و أنتم فيها خالدون (18).
2ً – المادّة الثانية : وُجُوهٌ يومَئِذٍ ناعِمَة * لِسَعيها راضية * في جَنَّةٍ عالِيَة * لا تسمَعُ فيها لاغِية * فيها عينٌ جارية * فيها سُرُرٌ مَرفوعة * وَ أكْوابٌ مَوْضوعة * و نمارقُ مَصْفوفة * وَ زرابِيُّ مَبْثوثة(19) .
3ً – المادّة الثالثة : مَثَلُ الجَنَّةِ التي وُعِدَ المُتَّقون : فيها أنهارٌ مِن ماءٍ غير آسِن ، و أنهارٌ مِن لبَن ٍ لم يتَغَيَّرْ طعمُهً ، و أنهارٌ مِن خمر ٍ لَذّة ٍ للشاربين ، و أنهارٌ مِن عسل ٍ مُصَفّى ، و لهم فيها مِن كلِّ الثمَراتِ ، و مغفرة ٌ مِن رَبِّهم (20).
4ً – المادّة الرابعة : إنَ أصحابَ الجنّةِ اليوم في شُغُل ٍ فاكهون * هم و أزواجهم في ظلال ٍ على الأرائكِ مُتّكئون * لهم فيها فاكهة ، ولهم ما يدّعون * سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم (21).
5ً - ................... 6ً - .................... 7ً - ........................... 8ً - ............................. الخ
الخُلاصة :
- كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ، وإنَّما تُوَفَّوْنَ أجُورَكم يوم القيامة ، فمَن زُحْزحَ عن النار و أدْخِلَ الجَنَّة فقد فاز ...! و ما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغُرور (22) .
----------------
الهوامش
(1) لقمان : 34 (2) ق : 19 (3) الأنعام : 93 (4) المؤمنون : 99 (5) رواه الترمذي (6) الزمَر : 70 – 71 (7) إبراهيم : 49-50 (8) الكهف : 29 (9) أعراف : 50 (10) الزخرف : 77 (11) طه : 74 (12) يوسف : 101 (13) النحل : 32 (14) الدخان : 56 (15) آل عمران : 193 – 194 (16) رواه الترمذي (17) الزمر – 73 – 74 (18) الزخرف : 68-71 (19) الغاشية : 8-16 (20) محمد : 15 (21) يس : 55-85 (22)آل عمران : 185(/2)
بطاقة معايدة إلى كل شارون
د.خالد بن سعود الحليبي 4/10/1425
17/11/2004
لم يعد شارون وجهاً واحداً؛ بل تعددت الوجوه، وشاهت، وتنمرت القطط، واستنسر البغاث، وسقط الجمل فكثرت السكاكين الصدئة، فإلى كل الجبناء، الذين لا تظهر شجاعتهم أمام الأقوياء إلا وهم محاصرون، ولا يكشفون وجوههم إلا أمام الأسرى، ولا تتضخم عضلاتهم إلا عند أكياس الرمل المعلقة، ولا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، أو تحت غطاء قنابل النابالم والعنقودية والكيماوية ..!
أيها الجبناء ..
سوف نفرح بالعيد لنفقأ بابتسامات أطفالنا أعينكم المتطلعة لدمعاتهم ، سوف نلبس الجديد لنعلن أننا أمة شعائر لا شعارات .. علّ وهج البياض في ثيابنا يصهر سواد قلوبكم ، سوف نرفع التكبير لنصدع به أفئدتكم في كل مكان تظنون أنكم سيطرتم على أرضه، وإن كنتم تعلمون بأنكم لن تستطيعوا -بإذن الله - أن تسيطروا على قلوب أهله ..
عليكم بالعملاء .. ليدلوكم على كل أحمد ياسين، ولينتصبوا فوق كل كرسي صنعتموه من قش مزابل التاريخ ، وليكونوا أتراساً ملحية لصدوركم المتقيحة بصديد الحقد.
أيها التعساء ..
إن كل عيد يمر بنا يثير فينا من المشاعر ما يكفي ليكون وقوداً لاستمرار مسيرة الحرية ، مهما كانت حمراء الأوداج.
إن القتل الذي تعودته أيديكم المجرمة في الشعوب المستضعفة ، لن يؤرث غير الثأر، وإن الجبروت الذي تفرضون عنفوانه على أعناق البشر الذين يعتنقون دين السلام، لن يسقي في قيعان نفوسهم غير بذرة المقاومة التي تخافون شررها كخيفتكم مرض الإيدز الذي أفرزته أرجاس أخلاقكم (النبيلة) التي يضرب بها المخدوعون الأمثال.
سجلوا انتصاراتكم على أمة كبلتم أكتافها، وألهيتم كثيراً من شبابها، وتفضلتم أنتم بمنحها أسلحتها، وحاصرتم اقتصادها، وأقصيتم حكم الله عن أكثر أراضيها، وقستم مدى خطواتها، حتى لا تمتد إلى أكثر مما قدرتم لها...
لا .. أنتم لم تستفيدوا من التاريخ كما ينبغي ..
هذه الأمة خلقت لتبقى ..
هذه الأمة بعثت لتسود ..
وهذا الدين جاء ليظهر على الدين كله ولو كره الكافرون والمنافقون ..
فأنفقوا ما شئتم من الأموال والعتاد .. (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ) [الأنفال:36].
فمستقبل أمتنا الذي تحاولون قص أجنحته.. سوف يطير إلى المجد الذي قدره الله له، وما تفعلونه اليوم في كل بلدة مزقتم جلدها بشفرات الحقد المعتق .. ليس إلا محاولة لتأخير ذلك القدر القادم بإذن الله ..
لقد حاول أجدادكم ذلك مراراً ففشلوا ، وخرجوا من ديارنا يجللهم عار الفضيحة قبل الهزيمة.
وأنتم كذلك .. فالتاريخ يعيد نفسه .. والوعد أجل من أن ينقض .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
معايدتان ..
أيها الصامدون على روابي فلسطين، وبين الرافدين، وفي كل مكان..
(وَلاَ تَهِنُوا فِي ابتِغَاءِ القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً).
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ).
وياوطني ..
أحلى الأعياد بعد أن تعافيت من كدر الإجرام ، وتساميت عن مهاترات الأقزام(/1)
بطانة السوء
محمد حسن يوسف
</TD
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى. [ صحيح البخاري، 6611 و7198 ]. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4212 ].
هاتان الروايتان تفسران بعضهما بعضا. ففي رواية أبي هريرة، " ما من والٍ "، وهي أعم. والخير الذي تأمر به البطانة الصالحة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما جاء في رواية أبي هريرة.
جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ج: 13، ص: 202 ): البطانة: الدخلاء، جمع دخيل، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، ويفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح الترمذي ( ج: 6، ص: 237 ): " إلا وله بطانتان ": البطانة: الصاحب، وهو الذي يُعرّفه الرجل أسراره ثقة به, شبهه ببطانة الثوب.
وقوله: " وتحضه عليه ": أي ترغبه فيه وتؤكده عليه. وقوله في الرواية الأخرى: " بطانة تأمره بالمعروف ": أي ما عرفه الشرع وحكم بحسنه، " وتنهاه عن المنكر ": أي ما أنكره الشرع ونهى عن فعله.
وقوله " لا تألوه خبالا ": أي لا تقصر في إفساد أمره لعمل مصلحتهم, وهو اقتباس من قوله تعالى: ? َلا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ? ] آل عمران: 118 [. وقوله: " فالمعصوم من عصم الله "، وفي الرواية الأخرى: " ومن وقي شرها فقد وقي ": والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى: فهو الذي يعصم من شاء منهم. " فالمعصوم من عصمه الله لا من عصمته نفسه "، إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة إلا إن كان الله عصمه.
قال الحافظ : والمراد به إثبات الأمور كلها لله تعالى، فهو الذي يعصم من شاء منهم. فالمعصوم من عصمه الله، لا من عصمته نفسه. إذ لا يوجد من تعصمه نفسه حقيقة، إلا إن كان الله عصمه .
وفيه إشارة إلى أن ثم قسما ثالثا، وهو: أن من يلي أمور الناس قد يقبل من بطانة الخير دون بطانة الشر دائما, وهذا اللائق بالنبي, ومن ثم عبر في آخر الحديث بلفظة " العصمة ". وقد يقبل من بطانة الشر دون بطانة الخير, وهذا قد يوجد ولا سيما ممن يكون كافرا. وقد يقبل من هؤلاء تارة ومن هؤلاء تارة, فإن كان على حد سواء فلم يعترض له في الحديث لوضوح الحال فيه، وإن كان الأغلب عليه القبول من أحدهما فهو ملحق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال ابن التين: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين، ويحتمل أن يكون الملك والشيطان ". وقال الكرماني: " يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة المحرضة على الخير "، إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية انتهى. والحمل على الجميع أولى إلا أنه جائز أن لا يكون لبعضهم إلا البعض.
وقد استشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. لأنه وإن جاز عقلا, أن يكون فيمن يداخله من يكون من أهل الشر لكنه لا يتصور منه أن يصغى إليه, ولا يعمل بقوله لوجود العصمة. وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، بقوله: " فالمعصوم من عصم الله تعالى ". فلا يلزم من وجود من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالشر، أن يقبل منه. وقيل: " المراد بالبطانتين في حق النبي: الملك والشيطان "، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولكن الله أعانني عليه فأسلم ".
وفي معنى الحديث السابق، الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي منكم عملا، فأراد الله به خيرا، جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4215 ].
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن التين قوله، أنه " ينبغي للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر, وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقلا "، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به إذا كان هو حسن الظن به. فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك.
وفي أيامنا هذه، نجد أنه بمجرد تولي المسئول لمهام منصبه يكون أمامه خياران عند اختيار أفراد حاشيته، فإما أن يختارها من أهل الثقة، وإما أن تكون من أهل الخبرة. فأهل الثقة يضمن بهم المسئول استمراره في كرسيه، حتى ولو لم يؤدِ المهام المنوطة به. أما أهل الخبرة فيؤدي بهم المسئول عمله على أكمل وجه، ولكن يكون استمراره في منصبه محل شك كبير.(/1)
ولذلك يفضل الكثير من المسئولين إحاطة أنفسهم بحاشية من أهل الثقة، لضمان بقائهم واستمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة البلاد أو العباد. فالمصلحة الشخصية عندهم أهم من أي شيء آخر.
ويشيع بين الناس مقولة، مفادها " إن الوزير إذا دخل الوزارة فقد نصف عقله، فإذا خرج منها، فقد عقله كله ". وذلك مما يجده أثناء توليه لمهام منصبه من صلاحيات وامتيازات. فهو سيد مطاع، يخضع له الجميع بتنفيذ الأوامر، ويدين له الكل بالطاعة. فإذا خرج من الوزارة طاش لبه من فقدانه لكل ذلك النعيم الذي كان فيه، ومن تغير الناس له، وتنكرهم لشخصه.
ومن ناحية أخرى، بمجرد تولي الوزير لمهام منصبه، يلتف حوله حاشية من المسئولين، هدفها إحباطه عن أداء دوره، أو محاولة حبسه داخل مكتبه. وتعتبر هذه الحاشية من أهم أسباب فشل الوزراء. ويكون أفراد تلك الحاشية ممن يقلبون الأمور والصور، ليجعلوا من الصورة المضيئة صورة معتمة، أو من الصورة المعتمة صورة مضيئة، حتى تنقلب الموازين أمام الوزير. وهناك من الوزراء من يستسلم ويذعن، إلا أن هناك منهم من يرفض كل القيود المفروضة حوله، ويصر على نزع جدران مكتبه والانطلاق إلى مكاتب أفراد وزارته للتعرف بنفسه على المشاكل دون وسيط قد يغير من الصورة.
وتتنوع أهداف بطانة السوء من حجب الناس عن المسئول. فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي. فالمسئول لا يعرف غيره، ومن ثم ينقل أوامره إليه. ويكون عليه هو إبلاغ تلك الأوامر إلى بقية المرؤوسين. فيبلغها إليهم وكأنه هو من أصدر تلك الأوامر.
ومنهم من يحاول استغلال قربه من المسئول في تحقيق المكاسب الخاصة من جراء علاقته به. فهو يلهث ورائه لانتزاع توقيعاته بالموافقة على أسفار واجتماعات ومقابلات يقوم بها، ليجمع من ورائها من الأموال التي ما كان يحلم أن يجمعها في حياته بعيدا عن ذلك المسئول.
ولذلك فهذه النوعية من بطانة السوء لا تطيق أن ترى أحدا غيرها في مكتب المسئول. ذلك أن دخول أي فرد إلى المسئول، إذا أثبت كفاءة ما، ففي ظن تلك البطانة أنها ستُحرم من مكانها بقرب هذا المسئول، ومن ثم فستُحرم من النعيم الذي تعيش فيه.
قال ابن قيم الجوزية في كتابه الماتع: الفوائد: قول الله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ? ] الحجر: 21 [، متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه. وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: ? وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ? ] النجم: 42 [، متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يُحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ? وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إَِّلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ?، واجتمع ما يراد له كله في قوله: ? وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ?. فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى (1) .
لذلك فيجب على المرء أن يشغل نفسه بالله. فالقلب إن لم يمتلئ بمحبة الله، امتلئ بحب الدنيا وشهواتها وأصبح أسيرا لها. فمن الهام على من أوكل إليه منصب معين أن يتقي الله فيه. وألا يكون هذا المنصب هو محور حياته واهتمامه، بل يكون محور اهتمامه وتفكيره هو كيف يؤدي المهام الموكولة إليه بالطريقة التي ترضي ربه وتُعلي من شأن دينه. وعلى البطانة التي تحيط بالمسئولين أن تتقي الله وتراعي ضمائرها فيما تنقله لهؤلاء المسئولين وما تشير عليهم به. وعليهم أن يعلموا أن أيام نفوذهم محدودة، ثم يعقب ذلك عذاب ضمير ولعنات تلاحقهم أينما حلوا أو ارتحلوا. ثم يكون عقاب الله في يوم لا ينفع فيه نفوذ مسئول أو شفاعة رئيس!!
13 من رجب عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 29 من أغسطس عام 2004 ).
-----------------
[1] الإمام ابن قيم الجوزية، كتاب الفوائد، دار التقوى، دون تاريخ. ص: 215.(/2)
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة
د. بدران بن الحسن 9/11/1426
11/12/2005
لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عن نقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالة التراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي –عليه رحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأى منذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئية متغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة.
ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أن يقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن من تحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّد المنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئي ومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة، ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت –عن قصد أو غير قصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها. فأنتجت هذه التصورات الجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحل المشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالم الإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالم الإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمة في فك خيوط الأزمة التي أُحكمت. ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذه الأسئلة على نفسه.
وفي تصوري، فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماً بالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقوم على بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذا استقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامج الجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم، وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة، ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادة الحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت. لنا في كل هؤلاء خير دليل على أن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤون القوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية في صياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلمات الفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبة والمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمط القيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفة للواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤية وتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين، إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذه القيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريق اليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة –في رأي الجماهير من الناس- على فعل المعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزها ليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العمل المستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لا يفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعوية والسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكب نمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهي غير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.(/1)
كما أن النخبة بمختلف طبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهير وغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً. بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيها أن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهة أخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلى مراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كل الأطراف. وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيم المبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجع عنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابلية لتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.
وعليه فإن النخبة مطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريح ومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلف المقولات والتصورات. كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليدية الموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلك وفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر، القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أي فكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيم الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر من صالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلة الأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛ لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عن مواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدى الأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتها لمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أن سلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلام والمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤية واضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءات العملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس(/2)
بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة
د. بدران بن الحسن 9/11/1426
11/12/2005
لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عن نقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالة التراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي –عليه رحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأى منذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئية متغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة.
ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أن يقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن من تحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّد المنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئي ومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة، ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت –عن قصد أو غير قصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها. فأنتجت هذه التصورات الجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحل المشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالم الإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالم الإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمة في فك خيوط الأزمة التي أُحكمت. ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذه الأسئلة على نفسه.
وفي تصوري، فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماً بالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقوم على بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذا استقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامج الجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم، وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة، ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادة الحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت. لنا في كل هؤلاء خير دليل على أن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤون القوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية في صياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلمات الفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبة والمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمط القيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفة للواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤية وتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين، إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذه القيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريق اليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة –في رأي الجماهير من الناس- على فعل المعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزها ليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العمل المستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لا يفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعوية والسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكب نمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهي غير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.(/1)
كما أن النخبة بمختلف طبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهير وغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً. بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيها أن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهة أخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلى مراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كل الأطراف. وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيم المبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجع عنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابلية لتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.
وعليه فإن النخبة مطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريح ومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلف المقولات والتصورات. كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليدية الموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلك وفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر، القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أي فكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيم الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر من صالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلة الأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛ لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عن مواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدى الأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتها لمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أن سلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلام والمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤية واضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءات العملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس(/2)
بعد ليل طويل
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
وقفت أمام حائط مظلم لذلك الليل الطويل الذي داهمني فيه من الهمِّ وانشغال الذهن ما أثار كوامن الألم في نفسي. وقفت حزيناً أتأمَّل عقارب الساعة التي كانت تشير إلى بداية الثلث الأوّل من ذلك الليل الطويل الذي أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي على رأي الشاعر الضَّخم امرئ القيس، ومعنى ذلك ان رحلة طويلة من العناء ستجعل معاناتي شديدةً صعبة في خِضَمّ ذلك الليل الطويل.
إن أحساسي بثقل خطوات ذلك الليل قد أدخلني إلى سراديب الوحشة وكهوفها، وضخَّم صورة الهمِّ الذي كان قد أحكم سياجه على ذلك الخافق النابض في صدري ورسم أمامي صورة لعملاقٍ ظلاميٍّ مخيف.
وكذلك النفس البشرية إذا استسلمت لآلامها، وخضعت لأوهامها، وغرقت في محيطات أحزانها، فإنها تحكم - حينئذٍ - على صاحبها بالسجن المؤبّد في غياهب اليأس والقنوط، ولا يمكن أن ينقذها من هذا السجن التمنِّي، ولا ينفعها التَّسَخُّطُ والتجنِّي، وإنما ينفعها دواء اليقين، الذي يكشف أمامها الحجب، فترى ساحة التفاؤل المشرقة، وراء ذلك الظلام الكثيف.
حينما تطاول على خافقي ألمه، وتحامل عليه حزنه، وتضخَّمتْ في عينيّ صورة ذلك الليل الطويل الثقيل، حتى ما عُدتُ أرى فيه بصيصاً من نور، رجعتُ إلى ذخيرتي وكنزي العظيم من إيماني بخالقي، ورفعتُ عينيَّ إلى السماء لأناجي الذي لا يغفل عن خلقه ولا ينام، وبدأت أتأمَّل أديمَ السماء في خضمِّ ذلك الظلام، فلاحت أمامي أضواء النجوم والكواكب تتزاحم على أديم ذلك الليل في أجمل صورة وأبهاها، وبدأت نوافذ الأمل تُفتح، وأنوارُ التفاؤل تدخل إلى عالمي خيوطاً من نور قد اتصلتْ أطرافُها بقلبي الخافق، وأطرافها الأخرى بواحات الإيمان وبساتين اليقين.
سبحان الله العظيم:
لم أتحرّك - حينها - من موقعي في ذلك المكان، ولم أتقدم أو أتأخر عنه خطوة واحدة.
قبل قليل كنتُ أرى الكون ظلاماً دامساً لا ضياء فيه، وها أنذا الآن أرى النجوم والكواكب تزدحم أمامي على أديم السماء.
ما الذي جرى؟
إنها النفس البشرية، هي مصدر الظلام، ومصدرُ النور، مصدرُ السعادة، ومصدر الشقاء (كن جميلاً تر الوجود جميلاً).
تلك حقيقة لا ينكرها عاقل: إذا انشرح الصدر، واطمأنّت النفس، أشرق الكون، وضحكت الآفاق، وإذا ضاق الصدر، واضطربت النفس، أظلم الكون، وبكت الآفاق.
ومع هذه الحقيقة حقيقة أخرى هي: إذا امتلأ القلب بالإيمان، تحقّق الاطمئنان، وانشرح الصدر، وهدأت النفس، وترقّى الإنسان في مدارج اليقين.
كل ما في الدنيا صغيرٌ صغيرٌ أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، ولا تتحقّق السعادة للإنسان إلا إذا استشعر عظمة خالقه، لأنّه - عند ذلك - يصبح غنيَّ النفس عما سواه.
ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغنى غنى النفس.
غنى النفس؟!
ما أعظم بيانَ محمد بن عبدالله، وما أبلغه عليه الصلاة والسلام(/1)
بعض أخطائنا في التربية.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الأحبة الكرام فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة:
إن الإنسان لا يكون أحقر في عين نفسه منه في مثل هذا الموقف، فإن هذه الأعداد الكبيرة منكم التي أسرفت وأحسنت الظن فجاءت لتستمع إلى مثل هذه الكلمات.
إنها تُنبأ عن فقر عظيم في هذه الأمة، فقر إلى الرجال الأكفاء، وفقر إلى العلماء، وفقر إلى المصلحين، وإلا فأي معنى لأن تتهالك هذه الأمة على كل متحدث وكل قائل وكل مبين أو متكلم لمجرد أنه ألقى درسا، أو قام بمحاضرة أو أنه تكلم.
إن ذلك لدليل على فقر الأمة إلى الرجال الأفذاذ الحقيقيين وأنها تعيش فعلا في فترة من أحلك فتراتها.
وإنني أقولها لكم صريحة، ويعلم الله تعالى حقيقة ما أقول حسب ما أعتقده:
أننا على يقين أن الله تعالى لا يدع الصحوة ولا يدع الدعوة لأمثالنا من المقصرين والمسرفين على أنفسهم، بل إن الله تعالى يختار لها من الصادقين المخلصين من يكون فيهم الرشد والكفاية، إلى أن يصلح الله الأحوال ويتدارك بمنه وفضله وذلك فضل الله يأتيه من يشاء.
أما بعد فحديثي إليكم هذه الليلة هو عن بعض أخطائنا في التربية:
النقطة الأولى مفهوم التربية:
التربية أيها الأخوة لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها، والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على الأرض وإلى أن يغادرها، فهي تبدأ مع الإنسان في شهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن.
وإذا عرفنا أن التربية هي المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت أدركنا أن الحياة هذه أو التربية ليست أمرا مقصورا على وجود الإنسان في منزله، أو بيته، ولا وجوده في مدرسته، ولا وجوده في حارته أو في حيه أو مسجده.
بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها من بيت ومدرسة ومسجد وإعلام وصحة وغير ذلك، بل وجود الإنسان من خلال الأناسي الذين يقابلونه في حياته بكل تناقضاتهم.
فهذا يحييه ويسلم عليه، وذاك يعيره ويشتمه، وهذا يحادثه وهذا يبايعه أو يشاريه وهذا يعلمه أو يتعلم منه، وهذا يوافقه وهذا يخالفه، وهذا يمدحه وهذا يذمه. فالتربية تشمل الحياة كلها.
وإذا أدركنا هذا أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان، فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر، ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان.
فالجو العام في المجتمع مثلا هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان وأحيانا يكون الإنسان مخالفا للتيار فيكون كأنه يسبح ضد الموج يتقدم بقوته الضعيفة أمتارا ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار.
ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء الشرع أيضا بتحميل المجتمع مسؤولية القيام بالحسبة كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله الذي عليه اجتمعت ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوامها وبقائها:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتأمنون بالله).
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)
ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله ومن حوله ليتأثر بهم وينتفع منهم وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه، أو خطأ فيتجنبه، نصيحة يعمل بها.
ثم هو محتاج أيضا إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع والتي يتربى من خلالها، فهو يتربى قاعدا في المسجد ينتظر الصلاة، ويتربى وهو في مدرسته، ويتربى وهو في سوقه، ويتربى وهو في بيته، حتى والإنسان في متجره هو يتربى، يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة والبيع والشراء والأخذ والعطاء، وغير ذلك.
وحين يفسد الزمان وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي ينحرف الناس يؤمر الإنسان باعتزالهم حتى يسلم الإنسان من شرهم أو يسلموا هم من شره، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُأل أي الناس خير قال:
(مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه، قيل ثم أي قال مؤمن في شعب من الشعاب معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره).
إنه إنسان غير قادر على التربية لا يستفيد من الناس علما وعمل وأخلاقا، ولا يستفيد الناس منه أيضا، فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس، يدع الناس من شره، ليس من الناس إلا في خيره.(/1)
فالتربية إذا عملية ضخمة وكبيرة تبدأ مع الإنسان من يوم ولد، لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد، ومن الطرائف والنكد أن رجلا جاء لأحد العلماء فقال له:
أنا قد تزوجت، وحملت زوجتي وهي في الشهر الرابع، وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل، فقال له:
هذا الطفل قد فات عليك ما دام في الشهر الرابع، لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم.
وهذه لا شك نكتة ولكنها لها دلالتها ولها معناها، والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة، فإن الزوجة هي الحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل ويتربى في أحضانه ويقبس من أخلاقه، فهي تبدأ حتى قبل أن يولد الإنسان.
وفي صحيح البخاري عن أبن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قضي بينهما ولد لم يضره الشيطان).
فالشيطان يفر من ذكر الله، فالتربية تبدأ مبكرة جدا، إنه تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل:
(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، الموت.
ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية، فهي تربية تتعلق بالخُلق وتتعلق بالعقيدة وتتعلق بالعلم وتتعلق بالعمل وتتعلق بالجسم وتتعلق بالعبادة.
وهي أيضا ليست مسؤولية جهة بعينها فحسب، فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية.
والمسجد وحده لا يستقل بها.
والمدرسة وحدها لا تستقل بها.
والزملاء والأصدقاء الصالحون أيضا، وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته وكل أفراده وكل أجهزته هو مسؤول عن التربية، هذه واحدة.
النقطة الثانية، الإنسان موضوعا:
لقد بُعث الرسل عليهم السلام، وأنزلت الكتب من السماء إلى البشر من أجل تقويم هذا الإنسان، من أجل أن يترقى حتى يتأهل لجنة عرضها السماوات والأرض، بل حتى يتأهل لرؤية الله تعالى في جنة عدن، قال الله تعالى:
(وجوه يوم إذ ناظرة إلى ربها ناظرة).
فهي تتمتع بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم في جنة عدن.
إن الإنسان يترقى بالتربية حتى يتأهل لهذا المستوى الرفيع، وقد ينحط حتى يصبح حطبا ووقودا لجهنم مع الحجارة وشبيها بالأنعام قال الله عز وجل:
(وقودها الناس والحجارة). وقال سبحانه:
(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل). وفي الآية الأخرى:
(بل هم أضل سبيلا).
إذا بالتربية يرتقي الإنسان حتى يصبح أهلا لرؤية الله تعالى في الجنة، وبنقص التربية أو تضييعها ينحط حتى يصبح حطبا لجهنم.
إذا بناء الإنسان – أيها الأحبة – هو محط الاهتمام، وهذه القضية الكبرى التي يجب أن نرفع شعارها ونتحدث عنها ونملئ بها مجالسنا هي قضية الإنسان.
إن بناء الإنسان أهم من بناء الجسور وأهم من تعبيد الطرق.
وأهم من تشييد العمارات الشاهقة.
وأهم من توفير الخدمات مع أنني لا أهون من بناء الجسور وتعبيد الطرق وتشييد العمارات وتوفير الخدمات، ولكن لا قيمة لهذه الأشياء كلها في ضل غياب الإنسان.
إن هذه الأشياء كلها لا تعدُ أن تكون تيسيرات للإنسان وتسهيلات.
فقلي بربك أي معنى لإنسان حسن البزة حسن الثياب جميل الهيئة بهي الطلعة ممتلئ الجسم معتدل الصحة ولكنه يرصف في قيوده في أسره وسجنه.
وأي قيمة لإنسان هذا شأنه إذا كان بلا عقل.
وأي قيمة لإنسان هذا شأنه إذا كان بلا دين ولا خُلق ولا عقيدة.
إن الإنسان هو المقصد الأول من الوسائل التربوية كلها، ولا قيمة لإنسان لا يعبد ربه ولا يسجد لله تعالى ولا يمرغ جبهته خضوعا لرب العالمين، ولا يسبح بحمد ربه عز وجل.
إنه في دنياه يعيش الشقاء بكل صوره وألوانه وفي أخرته إلى نار لا يخبو أواره:
(كلما خبت زدناهم سعيرا).
إن تحقيق وجود الإنسان بالمعنى الشرعي يحقق كل المكاسب الأخرى.
فلنفترض مثلا أننا أمة فقيرة، ليس همنا أن نطلب المال لأن بناء الإنسان الصالح سيجعله قادرا بأذن الله على تحصي المال.
لنفترض أننا أمة متأخرة في المجال الصناعي والتقني كما هو الواقع فعل
إن بناء الإنسان الصالح العاقل العالم الرشيد هو السبيل إلى تطويع الصناعة وإلى الحصول على أسرار التصنيع، وإلى الوصول إلى أعلى المستويات في الحضارة المادية.
لنفترض أننا أمة متخلفة في كافة مجالات الحياة، الاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها، فإن الإنسان إذا بُني وأُصلح وأعُد إعدادا صحيحا هو الذي يستطيع أن يخطو تلك الخطوات التي تحتاجها الأمة. فهو الذي يحصل على المال وهو الذي يبني ويصنع ويفكك أسرار العلم ويستطيع أن يطوعها بأذن الله عز وجل.
إذاً، المخرج من كل أزماتنا ومصائبنا التي نعيشها وتعيشها الأمة معنا هو بناء الإنسان، تتعدد لحلول ولكنها تتفق على أن الذي يمكن أن يتولى تمثيل هذه الحلول هو الإنسان ذاته.
وأقولها لك صريحة لن يحصل الإنسان على كرامته الحقيقة إلا بالتزامه بدين الله تعالى، وذلك بسبب واضح تزيدنا به الأيام بصيرة وهو أن الإسلام هو كلمة الخالق: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).(/2)
على حين تعترف كل الدراسات النفسية والتربوية في هذا العصر تعترف بجهلها بحقيقة الإنسان وعجزها عن إدراك خفايه وأسراره وأنه تبحث في ميدان مجهول ، أما الشرع فنزل من عند حكيم حميد يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
النقطة الثالثة: أما حديثي الثالث فهو بعنوان أزمات تربوية:
وهذه الأزمات أزمات عامة، ليست أزمات في البيت فحسب ولا في المدرسة بل نستطيع أن نقول إنها أزمة في الأمة كلها، تبدأ من البيت وهو الدائرة الصغيرة، وتنتهي بالأمة في وجودها العام، وهذه الأزمات متعددة لها أسبابها، ومضارها ونتائجها، وأذكر شيء منها دون استيعاب.
هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة:
غياب الثقة داخل الأمة
فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف، الشك، الظن، عدم الثقة
هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس.
هناك أزمة ثقة بين الناص والمنصوح، بين جيل الشباب والشيوخ، بين الرجل والمرأة بين المدير والموظف.
وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن: (يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) ، جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى، وإلى فرق مختلفة وإلى طبقات متناحرة لا يثق بعضها ببعض، ولا يتعاون بعضها مع بعض، وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد. وأصبحت هذه الأزمة (أزمة الثقة) تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون وهذا مصداق ما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما قال لمعاوية:
(لا تتبع عورات الناس فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم).
إن تتبع العورات من قبل المدرس الذي يتتبع عورات الطالب، أو الابن الذي يتتبع عورات أبيه، أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية، أو الرجل الذي يتتبع عورات المرأة، أو العكس في ذلك كله ، إنه دليل على فقدان الثقة، بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب، وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع.
نموذج آخر: أزمة القدوة:
القدوة التي لا يمكن أن تتحقق التربية إلا بوجودها: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ).
فهذه هي القدوة العظمى الإقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي هو المثل الكامل بهديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعباداته عليه الصلاة والسلام ، ثم ما دون ذلك من القدوات التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما ينبئ إلى ذلك حديث جرير وهو في الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة ) ، هو لم يأتي بشيء من عنده إنما أحيا سنة قد أميتت وأثارها وحركها ودعى الناس إليها بقوله وفعله فاقتدوا به في ذلك واندفعوا إلى صدقة أو إلى جهاد أو إلى علم أو إلى عمل بسبب أنهم رأوا فلانا فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غاب عن وجدانهم.
أزمة القدوة، القدوة الحية التي هي أصل التربية والسلوك لم تعد تتوافر في المجتمع فأحيانا لا توجد القدوة في المنزل عند الأب بالنسبة للولد، أو عند الأم بالنسبة للبنت ، لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم مثلا الفنان على أنه قدوة ، أو يقدم اللاعب على أنه قدوة، أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة ، أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعيا بغض النظر عن كفاءتها وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل، وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق.
لهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفل وقلت له:
ماذا تتمنى أن تكون؟
ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يمدحهم المجتمع ويفرح لهم ويعظمهم ويوقرهم ويقدرهم، فهو يحب أن يكون مثلهم.
التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة أحيانا، بل قد تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفي غيرها.
وهنا فراغ الساحة من القدوة يعني انعدام العمق التربوي لدى الأفراد وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية فهو في ذهنه فلان وفلانُ وفلان، وكل هؤلاء ليسو أهلا لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ.
من الأزمات أزمة الحوافز.
الحوافز التي تدعو الإنسان إلى أن يعمل وإلى أن يضحي وإلى أن يبذل وإلى أن يشارك، وأنت تجد في شريعة الله تبارك وتعالى أولا الأجر والثواب: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ، هذا من الحوافز، الأجر عند الله للأعمال الصالحة، والعقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة.
وكنموذج أيضا حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نزيف الدماء وإطاحة الرؤوس وعقر الجواد وفقدان الحياة، تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل.(/3)
منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين وما أعد الله لهم في الدار الآخرة حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم : (إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، وفي المقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضا مثل قول النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في غزوة حنين وغيرها:
(من قتل قتيلا فله سلبه ) ، له ما معه من السلاح والعتاد، وكما هو معروف في تمثيل السرايا وإعطائها جزء من الغنيمة الربع أو الخمس على ما هو معروف تفصيله.
هذا نموذج من الحوافز، ولابد أن يكون للمجتمع حوافز، فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني أزمة، يعني نقصا حادا وأحيانا غيابا كاملا في الحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى التضحية، إلى البذل.
لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك.
حوافز للمربين والمدرسين، حوافز للمجتهدين.
حوافز للمخترعين والباحثين.
حوافز لكل أصحاب المواهب.
بل لا أقول أن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز، إنما أحيانا نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل أو عن النائم، ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص، سواء كانت هذه الحقوق حقوقا مالية أو معنوية أو غيرها.
من الأزمات أزمت الحقوق الشرعية.
أو ما يعبر عنها بعضهم في العصر الحاضر بأزمة الحرية، وهذا الاصطلاح ليس واردا بهذا اللفظ بالمعنى المقصود، فالأولى أن يعبر عنه بأزمة الحقوق الشرعية.
إنه لا عمل في الدنيا بدون تشجيع ولا إبداع في الدنيا بدون حرية كما يقول بعضهم، والحرية يعنون بها الحق الشرعي المنضبط، الضمانة الصحيحة لتصحيح الأخطاء وتلافي العيوب وهي إشعار للإنسان بآدميته وكرامته التي بينها الله عز وجل: ( ولقد كرمنا بني آدم ) ، بل أخطر ما تعانيه المجتمعات الإسلامية الحرية العوراء ، الحرية الناقصة التي تمنح لفئة من فئات المجتمع على حساب فئات أخرى، أو تعطى لاتجاه دون آخر، خاصة حينما يكون أولئك الذين منحة لهم الحرية وأعطوا الحق كاملا هم من الفئات المنحرفة التي تحمل أفكارا مخالفة للأسس التي قامت عليها هذه الأمة، كالأفكار العلمانية مثلا أو الأفكار الحداثية أو الأفكار الإلحادية ، فيكون للإنسان الحرية في طرحها والحديث عنها وترويجها في الكتاب والمجلة والجريدة والتلفاز والإذاعة والنادي والمنتدى والأمسية، على حين لا يملك أصحاب الحق الشرعي، أصحاب العلم وأصحاب الدعوة وأصحاب التوجيه وأصحاب الريادة وحملة الهدي السماوي لا يملكون الحق ذاته.
ومن نتائج فقدان الحرية أو فقدان الحق الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من آثار ذلك الكبت، والانطواء والعزلة والنكوص وعدم التأقلم مع المجتمع وربما يترتب على ذلك نمو مجموعات داخل المجتمعات الإسلامية، مجموعات ترفض هذا الواقع وتحاربه، فضلا عن فشو الكراهية والبغضاء بين الناس.
من ألوان الأزمات أزمة الإتقان والإحسان.
(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) ، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ، أي شيء هو الإحسان إنه الإتقان، وعند البيهقي بسند حسن أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) ، وفي الحديث الآخر حديث شداد أبن أوس وهو في الصحيح: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) ، هذا من الإحسان حتى المقتول الذي يغادر الحياة تقتله قتلا حسنا.
إن من عدم الإتقان ضعف الإنسان في العبادة مثلا، تأخير الصلاة أو التقصير فيها، والتقصير في الطهارة أو عدم الصلاة مع الجماعة، أو التفريط فيها.
ومثله التفريط في الصيام مثلا، أو في الحج أو في الزكاة أو في غير ذلك من العبادات التي أمر الله بها ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
فما بالك بعبدٍ يعبد ربه وكأنه ينظر إلى الله عز وجل ويراه بعينه فيكون مقبلا عليه معرضا عمن سواه، صادقا خاشعا لا يلتفت إلى المخلوقين طرفة عين، فهذا هو الإحسان في عبادة الله تعالى.
وهناك لون آخر وهو فقدان الإحسان في ما يتعلق بحقوق العباد.
مثل عدم إتقان الأعمال المنوطة بك أيها الإنسان، إهدارها، تضييعها
الحرص على شكلية العمل ومظهريته دون حقيقته ومعناه
الخواء ونمو أساليب التحايل والغش والخداع والنقص في العمل وعدم الحرص على إنجاز الأمور ، يعني أنك حريص على أن لا تُسأل عن عملك، لا يعاتبك المدير على أنك تأخرت، ولا يعاتبك المسؤول على أن هذه المعاملة جلست عندك، ولكن ما وراء ذلك فإنك لا تلتفت إلى أحد ، وهناك آلاف الأساليب والطرق التي يستطيع الإنسان فيها بالحيلة أن يتخلص من العتاب من الآخرين ومن المسؤولية ومن المحاسبة، ولكنها يعلم في قرارة نفسه أنه ما قام بالواجب.(/4)
من الأزمات أزمة الكفاءة.
أو المحسوبية أو الطبقية أو التمييز القبلي بين الناس أو التمييز العنصري وعدم جعل المعيار في التقويم والتقديم والتوظيف والرعاية، عدم جعل المعيار هو المعيار الشرعي:
(إن خير من استأجرت القوي الأمين).
فالقوة والأمانة، القوة في الدين والقوة في العلم والقوة في الخُلق والإتقان والأمانة.
هذا من أزمة الكفاءة، ومنه إبعاد الجادين والمصلحين الصادقين لصالح الأقرباء والأصدقاء بني لعم والزملاء والجيران وسكان البلد أو المنطقة التي أنا منها.
ومن آثاره إهدار الثروات العظيمة التي على رأسها الإنسان.
إثارة البغضاء والشحناء بين الناس.
تضييع الأمانة بإيكالها إلى غير أهلها، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن سأله عن الساعة:( إذا ضيّعت الأمانة فأنتظر الساعة، قيل ومتى إضاعتها؟ قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح، إذا وسد الأمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة).
من الأزمات أزمة التخطيط.
والتخطيط مطلب شرعي، حتى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعتمده كثيرا.
وحادثة الهجرة مثلا مثل في ها المجال، ومثله أيضا لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث حذيفة في صحيح مسلم: (أحصوا لي من يلفظ بالإسلام).
فأجرى النبي عليه الصلاة والسلام عملية إحصائية لعدد المسلمين وهذا كله يتعلق بموضوع التخطيط، ومحاولة الإعداد للمستقبل.
التخطيط لحل المشكلات التي يمكن أن تنجم.
التخطيط لتنمية المجتمع، التخطيط لبناء النفس.
التخطيط للوقاية من الأخطار، والأخطار المقبلة.
ونحن نعرف أن الصحابة رضوان الله عنهم كانوا يتخوفون وهم في المدينة من غسان، حتى أن رجلا لما طرق على عمر خرج إلي عمر وقال له:
ما لك؟ قال أفتح حصل أمر عظيم.
فقال ما لك هل جاءت غسّان ؟
قال وكنا نتسامع أنهم ينعلون الخيل لحربنا وقد امتلأت قلوبنا منهم رعبا.
قال لا، الأمر أعظم من ذلك، طلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نسائه.
والحديث طويل معروف، والشاهد أن توقع الأخطار المستقبلية والاستعداد لمدافعتها وإزالتها هو جزء مما هو مطلوب من المسلم.
ولكن انعدام الشعور الصادق بالمسؤولية
وانعدام المؤسسات والدراسات والاستطلاعات
وعدم توفر البيانات الصادقة الضرورية للعمل
وإبعاد الكفاءات المخلصة، واستيراد المخططين الأجانب من خارج دائرة المنتفعين والمستفيدين، بل من خارج دائرة أبناء الأمة كلها.
كل هذا أوجد أزمة في التخطيط على مستوى الأمة في كل مدنها ودولها ومناطقها وأنتج ذلك عواقب منها استمرار التخبط، وعد انتظام الأمة، وعدم تحقيقها لما تطمح إليه وتصبو إليه.
ومثله أيضا أن الأمة أصبحت تتعرض دائما وأبدا مفاجأة غير محسوبة، ونكبات لم تكن تنتظرها، وأهدر المال والجهد في أشياء لا تنفع الأمة في حاضرها ولا في مستقبلها.
وكم ندمت الأمة على مال بذلته، أو علاقة بنتها أو خطة رسمتها أو غير ذلك من الأشياء.
من الأزمات أزمة الأمن.
أمن الإنسان على نفسه أو على مستقبله أو على دينه قبل ذلك كله، أو على فكره أو على ماله أو على ولده أو على منصبه أو جاهه أو مكانته أو كرامته إلى غير ذلك.
ويجب أن نعلم أن الخائف لا يعمل شيئا، ولا ينتج شيئا، ولا يتعاون مع أحد، ولا يوجد أمن للإنسان دون وجود حدود فاصلة له واضحة وواقعية تبين ما للإنسان فيه حق فيفعله، وما ليس للإنسان فيه حق فيتركه ، وما لم توجد الإجراءات الكافية لحفظ حقوق الإنسان إذا ظُلم أو اعتدي عليه أو قصّر في حقه كائنا من كان هذا الظالم ومهما كان حجم الظلم الواقع عليه.
من الأزمات أزمة المنهج.
فالأمة كثيرا ما تغيب عن وعيها ولا تعرف هويتها وحقيقتها وانتمائها أو تغيب عنها قبلتها التي أمرت أن تتجه إليها، صحيح يعرف الناس الكعبة البيت الحرام فيصلون إليها في أحينا كثيرة.
لكنهم قد لا يعرفون إلى أين يتجهون في تفكيرهم
وإلى أين يتجهون في اقتصادهم
وإلى أين يتجهون في سياستهم
وإلى أين يتجهون في إعلامهم
والإسلام دين جاء ليهيمن على الحياة كلها، ولتدور في فلكه كل الأعمال والأفكار والتصورات والمواقف، لقد ظل جزء من الأمة يركض وراء الشيوعية حتى فوجئ بسقوطها.
ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تركض وراء التغريب ووراء النظام الدولي الجديد
ووراء أمريكا بنظمها وسياساتها وخططها وأفكارها ومناهجها
ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تنادي بالعلمانية وفصل الدين على الدين على الحياة وعن كل المجالات العملية المثمرة.
ومثل ذلك التبعية لبعض المذاهب أو النظريات القديمة ولو كانت موجودة في تاريخنا وتراثنا، فإن تاريخنا مثلا يوجد فيه الآراء المنحرفة آراء الفلاسفة آراء الجهمية، آراء المعتزلة، آراء الأمم الكثيرة التي نقلها بعض المسلمين وترجموها وتأثروا بها.
فلا بد من تحرير التبعية وأن يكون المعيار في المنهج للقرآن الكريم والسنة النبوية لا غير:
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).(/5)
إن هذا المقياس يقضي على كل صور التناقض في الأمة، فما وجدناه موافقا للحق الوارد في القرآن الكريم والحديث الصحيح أخذنا به بغض النظر عن مصدره.
وما وجدناه مخالفا رفضناه ولو كان ظهر من بيننا ومن بلادنا.
من مظاهر انعدام المنهج أو ضعفه أو أزمته تذبذب الشباب وترددهم وانعدام الانسجام الفكري والثقافي وأزمة الثقة أيضا بينهم.
من أزمات أخيرا أزمة التدين.
بل لعلها أهم الأزمات ولذلك جعلتها هي الأخيرة، أزمة غياب مراقبة الله عز وجل، وغياب الخوف من لقائه وأي معنى لحياة إنسان غاب عنه الإيمان بالدار الآخرة.
قال الله عن بعض عباده المخلصين:
(إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار).
فذكر الدار الآخرة واعتبارها في عمل الإنسان وقوله وفعله هو الذي يضبط المعيار والميزان في نفسه، يجعله يقبل على الخير طواعية ويعرض عن الشر طواعية فهذا يوف عليه السلام تتيسر له كل الأسباب في بيت امرأة العزيز وهي سيدة البيت وقد أغلقت الباب وفي خلوة وقالت له:
(هيتَ لك) وفي قراءة (هئتُ لك) قال:
(معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إن لا يفلح الظالمون).
فهذا هو الأمر العظيم، الخوف من الله والتدين الذي يجعل الإنسان يعرض عن الحرام حتى ولو كان في متناول يده، ويفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه.
أولئك الذين يخوضون المعارك وتتساقط رؤوسهم هل كانوا يجهلون ذلك المصير؟
كلا.. ما جاء إنسان للمعركة وهو يعتقد أنه ذهب إلى نزهة أو سياحة، لقد عرف أنه ذاهب إلى ميدان حرب ولكنه يعلم أن تلك الضربة التي يطير به رأسه إن كان صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر هي التي يدخل به الجنة برحمة الله وإذنه.
هذه الأزمة غياب التدين وضعف مراقبة الله تعالى وعدم الخوف منه هي أهم من كل ما سبق، بل هي السبب الرئيس في كل ما سبق.
ذلك المسؤول الذي فرط في عمله أو المدرس الذي أو الطالب أو الأب أو الزوج، كل هؤلاء ما فرطوا إلا بسبب ضعف التدين، وهذا السبب له نتائج من مظاهرها:
جفاف الإنسان في روحه، في محبته لله في، إيمانه، في إشراق قلبه، في توقده،
وإيمان الكثيرين بالماديات حتى كأنها كل شيء، فأنت حين تحدث الإنسان التاجر عن البركة، يلوي رأسه وكأنه لا يؤمن بذلك، إنما يؤمن بالحسابات والدراسات الاستشارية، والأمور المبنية على أمور علمية لها نتائج، وينسى:
(ولو أن أهل الكتاب أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).
بركات، فينزل الله البركة على عباده المؤمنين إذا صدقوا وأمنوا واتقوا.
ومن نتائج ذلك اضمحلال النية الصادقة في عمل الإنسان وفي أمره كلها، فلا يعمل إلا ما يرى أن له فيه مصلحة دنيوية عاجلة.
ومن آثر ذلك ضعف الإذعان لأمر الله وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فأصبح الكثيرون يسمعون الأوامر ثم يخالفونها، ويسمعون النواهي ثم يأتونها، لماذا؟
لأن ذلك القلب المندفع إلى الطاعة قد ضعف فيه الدافع والحافز
ومثل ذلك نسيان حقوق الله تعالى كلها
بل ونسيان حقوق العباد أيضا.
النقطة الرابعة/ لماذا يحدث هذا ؟
لماذا تزداد الخطاء ؟ ولماذا تتعقد المشكلات ؟ ولماذا لا نجد لها حلا ؟
هناك أسباب كثيرة أذكرها بسرعة كسبا للوقت:
من ذلك الرضى والقناعة الموجود لدينا.
رضينا بالواقع، لا ندرك مشكلاتنا بشكل صحيح، وننكر وجودها أحيانا ونرى أحيانا أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وكل أمورنا مبنية على الكمال والتمام، ليس لدينا إحساس بحجم الفارق بيننا وبين غيرنا، والبعض منا يرغبون بالركود وعدم التجديد بحال من الأحوال.
السبب الثاني عدم إيماننا بوجود المصارحة والمناصحة في ما بيننا.
وعدم الوضوح والصراحة والمكاشفة في تعاملنا مع واقعنا، وعدم مناقشة أمرنا ومشكلاتنا بصورة صحيحة، وذلك لأننا نرغب أحيانا كما نظن في عدم الإثارة أو اتقى الفتنة،
أو المساس بالمكاسب أو غير ذلك، وننسى أنه لا يمكن تجنب الإثارة واتقى الفتنة والحفاظ على لمكاسب إلا من خلال منهج واضح صحيح للنقد والمصارحة والمكاشفة يكون مبنيا على الحقوق المتبادلة بيننا جميعا
بين الزوج وزوجته
بين الوالد وولده
بين المدرس والطالب
بين الحاكم والمحكوم وهكذا.
السبب الثالث عدم تحديد المشكلات بدقة.
فنحن أحيانا نعزل كل مشكلة على حدة كما لو كانت مخلوقا مستقلا منفردا ونحاول أن نبين أسبابها، ونقترح الحلول لها، وندرس هذه الحلول ونخلص إلى نتائج نهائية دون أن نربط ذلك بغيره من الأمور.
السبب الرابع عدم الثقة بالعلم.
وعدم البحث العلمي واعتماد الأساليب العلمية في الوصول إلى تحديد المشكلة وأساليب حلها وتسخير العلوم الممكنة لهذا الأمر.
السبب الخامس ضيق الأفق لدى البعض.
أو الركود والتعصب للمألوف والعادات والانطلاق من بعض المسلمات والبديهيات الخاصة التي ليس لها سند شرعي ولا عقلي.
فالكثيرون يقولون لك هذا الأمر لا يجادل فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان
أو يقولون لك هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار لمن أنار الله بصيرته.(/6)
ولكن الواقع أن هذا الأمر ليس سوى أمر مألوف معروف، وهذا الضيق النفسي والعقلي الموجود لدى البعض يعميه ويصمه عن التقدم خطوة واحدة للتعرف على الأخطاء وتعديل السلوكيات وحل القضايا والمشكلات.
السبب السادس اعتقاد البعض أن مشكلاتنا تحل عن طري الأساليب العقيمة.
فمثلا الجدل والتراشق بالألفاظ والتعصب والتحيز الواضح لفكرة معينة أو استيراد الحلول الجاهزة أحيانا أو ترك المشكلة ونعتقد أن الزمن كفيل بحلها أو إلغاء الأسباب والنتائج أو إلقاء المسؤولية على الآخرين وانتظار الحل منهم، أو التعامل مع المشكلات بالعواطف، كل ذلك قد يسكن الألم أحيانا ولكنه لا يوقف النزيف على المدى الطويل.
السبب السابع والأخير هو عدم استصحاب النية الصالحة في نفع الناس.
وبذل الوسع في التعامل مع القضايا والمشكلات ونسيان الموضوعية في غمار التعصب وعدم الأنصاف والتأني إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن يتميز بها كل باحث عن الحقيقة.
** أما النقطة الخامسة وهي بيت القصيد فهي بعنوان أخطاء وحلول.
الخطاء الأول فأين الصواب إذا.
وأعني بهذا الخطاء التركيز على الأخطاء ولعل لقائل أن يقول أن محاضرتك نفسها عنوانها بعض أخطأنا في التربية ؟ فأقول نعم حتى التركيز على الأخطاء في موضوع أو درس أو محاضرة ينبغي أن يكون بقدر معتدل.
إن التركيز على الأخطاء والانحرافات لا يبني أبدا، بل الأصل هو وضع المعيار الصحيح وتمكين الإنسان أن يكتشف الخطاء بنفسه مع الثناء عليه إن أصاب وتوجيهه إذا أخطاء.
مثلا الواعظ والخطيب مربي، فينبغي له أن لا يركز على الأخطاء ويجعل كل خطبه ودروسه ومحاضراته هي عبارة عن سياط يلهب بها ظهور الناس
فيخرجون منه كل يوم وقد حميت ظهورهم من أثر هذا الكلام الذي أنحى به عليهم.
لا… ينبغي أن يكون أحيانا هناك حديث عن الصواب ليعمله الناس دون تعريض بالخطأ
وأحيانا يكون هناك ثناء على بعض الظواهر الإيجابية حتى تنمو وتكبر
وأحيانا يكون هناك تنبيه إلى بعض الأخطاء بالأسلوب الشرعي المناسب.
المدرس أو المدرسة أيضا هم من المربين، فكون المدرس أو المدرسة يركز على أخطاء الطالب، إذا أخطئ ابرز الخطأ وعلق عليه وأكد على هذا الخطأ فإن هذا يحطم الطالب ويجعله لا يفكر في المحاولة مرة أخرى.
لا….بل ينبغي أن يبرز الجانب الأخر، جانب الصواب الذي أصاب فيه، الجانب الإنساني عند الإنسان.
ومن القصص المشهورة التي تبين لك أن الإنسان يستطيع أن يؤدي المعلومة بأكثر من أسلوب:
أن خليفة رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت، فطلب رجلا يعبر الرؤيا، فقال:
يا أمير المؤمنين يموت أهلك كلهم وتبقى أنت بعدهم
فأمر به فجلد حتى أغمي عليه ثم قال ارفعوه عني.
دعا بعابر آخر فقال له يا أمير المؤمنين أنت أطول اهلك عمرا.
فأعطه جائزة.
إن الإنسان يستطيع أن يعبر عن التوجيه والإرشاد والنصيحة بأسلوب غير مباشر أحيانا، وبأسلوب مباشر أحيان أخرى، ويمتدح الصواب في بعض الأحيان، ويمتدح فلانا لأنه أصاب، وهكذا.
الأب أيضا مربي، فكون الأب لا يحسن إلا سب أولاده وشتيمتهم والدعاء عليهم وتعييرهم، وفلان فعل وأبن فلان فعل وأنتم فيكم وفيكم
هذا لا شك لن يبني أولادا صالحين قط، بل سيجعل هؤلاء الأبناء يفقدون الثقة بأنفسهم، يعيشون إحباطا وقد يؤدي إلى كراهيتهم لأبيهم.
لكن بدلا من أن تقول أنت أخطأت، قال هذا العمل لا يعجبني، لا يناسبني أو لا يصلح، ولو قلت له هذه المرة أخطأت، المرة الثانية لابد أن تثني على الصواب
من الممكن أن تستخدم معه أساليب متعددة.
بل أقول كل إنسان في مسؤولية فهو يتناول ويتولى جزء من مسؤولية التربية.
حتى الحاكم الأعظم أو الإمام أو الخليفة أو السلطان هو أيضا مربي على نطاق أوسع، ومسئوليته في عدم تتبع الأخطاء وعدم تتبع العورات واضحة جلية.
إذا لابد أن تكون الأخطاء موضوعة بصورة معتدلة.
إن الإنسان الذي يلاحق أخطاء الناس، ويكثر من الحديث عنها ربما يكون لديه شعور بالكمال، ولذلك فهو دائما وأبدا يبحث عن الزوايا المظلمة والمناطق القاتمة في الناس.
الخطأ الثاني الشكل أم المضمون.
إن الإغراق في الشكل على حساب المضمون أو في الكم على حساب الكيف من اعظم أمراضنا، مثلا الرجل يهتم بملابسه، بغترته بحذائه
المرأة كذلك بل أشد، فتجد كل موديل جديد لدى المرأة، وتجد لديها ألوانا من تلك المجلات والكتب التي تسمى (بالبردات)، فاليوم من فرنسا وغدا من تايلاند وبعد غد وهكذا، وتجد لديها عشرات بل مئات من الملابس والثياب ربما لم تلبس منها إلا شيء قليلا وبعضها مرة واحدة أو مرتين.
وكذلك الحال بالنسبة للطفل فنحن معنيون جدا بملابسه وجماله وحذائه وغير ذلك، هذا بلا شك إذا كان في حدود الاعتدال فهو مطلوب ولا بأس به
لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب العناية بصلاح الإنسان، بقلبه بأخلاقه بدينه بعلمه بثقافته بعبادته بتربيته.(/7)
مثل ذلك قصات الشعر مثلا والتسريحات، وكنا بالأمس نحسبها للنساء فقط، فالمرأة اليوم تقص قصة، وغدا تقص قصة أخرى، وأصبحت الفتاة عندك تتابع التسريحات في العالم أولا بأول
ليست هذه المشكلة فقط بل تطور الأمر وأصبح هذا حتى بالنسبة للشباب، فأنت تجد تلك الصالونات التي كثرت أصبحت تعتني بقصات الشعر وتتخصص فيها، وربما جلس الشاب أمام المرآة وقتا طويلا من أجل تسريح شعره
لكن لو تجاوزت هذا الشعر قليلا إلى ما يوجد في داخل الرأس، معلومات عقل علم ثقافة اهتمامات ربما تجد خواء في خواء.
مثلا الأثاث المنزلي، كثيرون منا يهتمون بالأثاث المنزلي وتجديده وتنويعه وتناسق ألوانه، ومن الضروري أن يكون التلفاز موجودا وجهاز الفيديو وغرف النوم إلى غير ذلك
الكثيرون يهتمون بهذا ولكن الاهتمام بقيام المنزل على أساس السعادة الزوجية مثلا، قيام المنزل على أساس المسؤولية المشتركة، وقيام المنزل على أساس شرعي
هذا ربما لا يكون قائما في اهتمام البعض.
مثله مثلا مسألة الترفيه والرياضة، فأنت تجد الأمة تحتفل احتفالا كبيرا في الترفيه والرياضة، والرياضة لون من ألوان الترفيه لكنها أخذت من وقتنا وعمرنا واهتمامنا
أخذت شبابنا وفلذات أكبادنا فأصبح الطالب وهو في أيام الاختبار مثلا مشغولا بمتابعة دوري
أو مشغولا بمتابعة الرياضة على الشاشة أحيانا
وأصبح يحفظ أسماء أندية العالم وألوان هذه الأندية وأسماء المدربين وغير ذلك ويتابع أولا بأول وليس هذا فقط، بل يبذل من عواطفه ومشاعره واهتماماته الشيء الكثير في هذا السبيل، مثله أيضا الجانب الترفيهي الذي أصبح يأخذ وقت الكثيرين من الناس.
ولو أنهم أعطوا الناحية الشرعية أو العقلية أو الثقافية أو العلمية جزء من ذلك لنتج عنه خير كثير.
اهتمام الأمة عامة بالمباني والجسور والطرق والمعالم الحضارية كما تسمى.
اهتمام المدير في المدرسة بحضور المدرسين،
أو اهتمام الموظف بحضور مرءوسيه وقت الدوام وأن لا ينصرفوا إلا في الوقت نفسه دون أن يهتم بالعطاء وهل أنجزوا وأدوا مسئوليتهم أم أن الواحد فقط يحضر ثم لا يقوم بعمل.
اهتمام الأب ببقاء أولاده في البيت، لكن يبقون لماذا؟
هل ليتعلموا، هل ليحفظوا القرآن ؟
هل ليتربوا على مكارم الأخلاق ؟
هل يقوموا بعمل دنيوي مفيد ؟ لا يعنيه ذلك..
أم انهم جلسوا أمام التلفاز أو أمام الفيديو أو أمام أشياء أخرى قد لا تكون في مصلحتهم.
اهتمام المدرس بالمنهج، المهم أن ينتهي المنهج مع نهاية العام الدراسي، وليس المهم عنده أحيانا بناء الطالب، وإعداده وتنمية علمه وعقله وتأهيله لنزول ميدان الحياة وخدمة الأمة.
اهتمام الأمة في تعليمها بعدد الدارسين، فنحن نجد أن التعليم متاح للجميع وأي طالب لا يتعلم يعتبر ناقصا، ليس فقط للمستوى المتوسط أو الثانوي بل لا بد أن يأخذ الجامعة.
وإنني أعرف البعض من الطلاب قد يجلس زمانا طويلا في الجامعة لأنه مشغول عنها، مشغول بأموره البيتية، بتجارته ولكنه مع ذلك مصر على هذا الأمر وكأنه ليس لغيره أهلا، أو ليس لغيره مناسبا، لماذا ؟
لأن التقاليد فرضت علينا أن هذا الروتين لا بد أن يتم، ولابد لكل الجيل أن يتعلم وكأنه لا يمكن أن يخدم إلا من خلال هذه القناة.
ومع أن هذا الإنسان الذي فشل في دراسته مثلا قد يكون ناجحا جدا في ميادين أخرى لو أتجه إليها لكن هذا القانون السائد جعله يهتم بهذا الجانب دون رعاية النوعية.
حتى في دراساتنا العليا حينما يطالب الإنسان بأن يحضر ماجستير أو دكتوراه تجد أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا كم صفحة رسالته ؟ كم مجلد ؟
لكن قل ما نسأل ما هي النتائج التي توصل إليها ؟
هل كان عميقا في بحثه؟
هل وصل إلى نتائج جديدة ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بالمضمون.
مثل ذلك الإعلام العربي كله وفي بلاد العالم الإسلامي أيضا - ولا اسميه الإعلام الإسلامي- تجد هذا الإعلام يهتم بساعات البث والإرسال، أن تكون مستمرة، لكنها لا يهتم بنوعية ما يشاهده الناس، أو نوعية ما يسمعون، هل هو ينفعهم أو يضرهم ؟
هل يبني أم يهدم ؟
هل هو على حساب الأخلاق والدين ، أم يقوي ويعزز جانب الأخلاق والدين ؟
ومثله الجوانب العسكرية في العالم الإسلامي، فقد تجد أحيانا توفيرا لبعض الأجهزة، أو عناية بعدد الجنود، لكن لا تجد الاهتمام بكفاءتهم وقدراتهم فضلا أن تجد الاهتمام بإخلاصهم ومعرفتهم للهدف الذي من أجله يتدربون ومن أجله يقاتلون ومن أجله يتربون لذلك اليوم الذي يفترض أنهم يربون له، ألا وهو مقاومة أعداء الإسلام والدفاع عن الحرمات والدين وعن الأخلاق وعن مكتسبات الأمة الإسلامية.
إذا تتلخص اهتماماتنا كثيرا بالمادة على حساب الإنسان، حتى اهتمامنا بالإنسان عندما نهتم به، نهتم به من ناحيته المادية فحسب، فنحن قد نعامله كرقم في الإحصاء مثلا، نعده إنسانا ونعطيه رقما، ولكننا نكتفي بهذه المعاملة الرقمية العددية أو الآلية وننسى الكرامة التي هي سمته، والابتلاء الذي القي على كاهله:(/8)
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا).
وننسى التكليف الذي حمّله:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
إن من أعظم ذلك الاهتمام بالظاهر على حساب الباطن
وفي الشريعة الإسلامية والقرآن والسنة، لا يوجد أصلا ولا يُتصور تفاوت بينهما، فكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه
(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فصلاح الظاهر حقيقة يدل على صلاح الباطن، وصلاح الباطن لا بد أن يُثمر صلاح الظاهر، لكن مما ينبغي أن نعلمه دائما وأبدا أن العقيدة هي الأصل
فالأمور العلمية الاعتقادية كمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة اليوم الآخر والإيمان به، والملائكة والكتاب والنبيين، هذه الأشياء أصول ينبغي أن تغرس في النفوس وتبنى عليها التربية.
ثم الأعمال القلبية أيضا كمحبة الله تعالى وخوفه ورجائه والرغبة في ما عنده والخشوع له والرغبة والرهبة ولإنابة إليه وغير ذلك من المعاني العظيمة هي معاني ينبغي أن تغرس في القلوب ثم تأتي بعد ذلك الأعمال الظاهرة كالعبادات مثلا، وهي مبنية على الباطن، ولذل لو صلى الإنسان بغير نية لم تن صلاته مقبولة:
(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهمون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون)
ومثله العبادات كلها.
وكذلك الاهتمام بالشكل المظهري للإنسان كالعناية مثلا بملابسه بشكله بشعره بمشيته بدخوله بخروجه وموافقة ذلك كله للشريعة.
الخطأ الثالث: إنك لا تجني من الشوك العنب.
إننا جميعا نعاني من الإهمال التربوي ومع ذلك ننتظر أحيانا نتائج طيبة، واضرب لك أمثلة، الحكومات التي تريد الحفاظ على أبنائها وعلى شعوبها تجد أنها تتعاهدهم بالرعاية والعناية والخدمة والملاحظة كما يتعاهد الإنسان غرسه أو نبته صبحا مساء، وتجد أنها تسعى إلى كسب ولائهم وتضع الخطط التربوية الناجحة لتأثير عليهم.
الأسر التي تريد الحفاظ على أبنائها أيضا، تجد أنها تحرص عليهم وتراقبهم مراقبة دقيقة وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس.
أما المشكلة فهي الإهمال التام عندنا لأولادنا وأسرنا وبيوتنا وشعوبنا ثم انتظار نتائج إيجابية وأحيانا نندهش ونفاجأ حينما تُخلف ظننا الأمور.
الأب المشغول بالتجارة، والآخر المشغول بالمزرعة
والثالث مشغول بوظيفته دوام صباحي ودوم مسائي
ورابع مشغول بالسفر بالإجازات وبالخميس والجمعة، ومشغول مع أصدقائه في بقية الأيام، أو مشغول بالزوجة الجديدة التي أخذت عقله ولبه وقلبه ووقته، واصبح كل همه ووجه إليها
أو حتى قل مشغول بالدعوة إلى الله تعالى ومشغول بالعلم ومشغول بالتعليم وهي خير ما شُغل به الإنسان، لكن لا ينبغي أن ينشغل بهذا ولا بذاك عن مسئوليته المباشرة التي حددها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (ابدأ بمن تعول ).
يقول الولد لمن تتركنا ؟ وتقول الزوجة ويقول القريب.
أحيانا حتى مجرد الجلوس مع الأولاد أو الأكل معهم أو المزاح أو سؤالهم عن أحوالهم ودراستهم وأوضاعهم، حتى هذا لا يكاد يتحقق من بعض الأباء المشغولين.
وهذه مصيبة، يقول الشاعر:
ليس اليتيم من انتهاء أبواه من…….. هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له …….أما تخلت أو أبا مشغولا
ليس هذا فحسب، ليست المشكلة أن هؤلاء لم يجدوا من يربيهم، بل المشكلة أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم.
فمثلا الإعلام، التلفاز الذي يستلم الطفل أو الشاب أو الزوجة حتى، يستلمه من يوم أن يدخل المنزل وإلى أن ينام، بكل برامجه وصوره ومسلسلاته وخيره وشره.
الفيديو الذي يكمل نقص الإعلام، يستطيع الإنسان أن يحصل على آلاف الأفلام التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى
فهذا فلم يصور لك كيف يعيش الناس في المجتمع الأمريكي الكافر
وآخر يصور لك معيشتهم في المجتمع البريطاني الكافر
وثالث في المجتمع الفرنسي الكافر
ورابع يتحدث لك عن أوضاعهم الاقتصادية، وخامس عن الأمور الفنية، وسادس وسابع وهكذا.
إذا هذا الإعلام بصورة واضحة صريحة يقدم للناس هديا وشريعة بديلين عن هدي الله تعالى، وشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهو يعلم الكبير والصغير كيف يدخل ويخرج ويقوم ويقعد وينام ويتكلم، بل كيف يخاطب وكيف يحيي الناس وكيف يتعامل معهم، فتتعلم منه البنت كثير من الأخلاق السيئة، ويتعلم منه الابن والفتى والكبير والصغير.
وإذا فرض أن في أجهزة وأشرطة الفيديو الموجود نقصا وليس موجودا في تصوير ألوان التعاسة التي تعيشها المجتمعات الغربية
فإن البث المباشر الذي أصبح يطل علينا الآن سيكمل هذا النقص بكل حال، وأنت تجد إعلانات أحيانا عن بعض ألوان من الأقراص التي تستقبل ما يزيد على أربع وتسعين قناة، ومع الأسف الشديد أصبح يمكن لهذه الأشياء في بلاد المسلمين وتباع علانية، بل وتنشر لها الدعاية حتى في صناديق البريد دون تشهير ولا نكير، فضلا عن الصحف والمجلات.
إذا الجانب الإعلامي إذا غفلت أنت فهو ليس بغافل.(/9)
الجانب الرياضي الذي يهتم ببناء الأجسام دون بناء العقول ودون بناء الأخلاق ودون بناء الروح والعلم، هذا أيضا لا يغفل، فهو قد يبني لك ولدا قويا في جسمه، ولكنه خواء في عقله وعلمه ودينه.
وأنا لا أقول إن كل من يعمل في هذا المجال هو كذلك، فنحن نعلم من الرياضيين قوما صالحين والحمد لله تعالى، ولكننا نحذر أيضا من مثل هذا المصير.
فضلا عن الجو الصاخب الهائج الذي يقع أثناء المباريات في مدرجات الرياضة أو في الأسواق أو الشوارع العامة أو المنتديات أو غيرها.
فضلا عن تلك النوعيات المتفاوتة من الكبار مع الصغار، متفاوتون في تعليمهم وفي أخلاقهم وفي سنهم وفي غير ذلك.
إذا غفلت أنت فلن يغفل قرناء السوء من ضحايا المخدرات أو محترفي الإجرام أو هواة المغامرة الذين هم في سن ولدك وقادرون على التأثير عليه وعلى إقناعه بصحبتهم ومشاركتهم في مغامراتهم وأنشطتهم.
والشارع أيضا بكل ما فيه مما أقل ما نقول فيه أنه ليس مكانا للتلقي والتربية والتوجيه، وأنه تغيب فيه الرقابة سواء الرقابة من لوالدين أو من غيرهم، فإذا غفلت فلن يغفل الشارع.
وأيضا العناصر الدخيلة، السائق مثلا الذي يذهب مع البنات إلى المدرسة، وإلى السوق وإلى مكان الترفيه، وإلى مدينة الألعاب، وإلى وإلىَ دون أن يكون هناك أي قدر من التوجيه ولا من الرقابة.
والثقة في ظن الكثيرين موجودة، ونحن نعلم أن كل أب يثق ببناته تلقائيا، ويثق بأولاده تلقائيا، لماذا ؟ لأنه يذكرهم منذ الصغر، ويذكر ما فيهم من البراءة والبعد عن هذه المعاني
ويرى أيضا ما عندهم من الحياء والخجل الذي يجعلهم لا يتكلمون أمامه بشيء
فيظن الأب أن أولاده وبناته أبرارا أطهارا ولا يتوقع أن المشاعر المتأججة التي قد تثور في نفس أي
شاب تثور عند ولده أو تثور عند بنته، فيضع هذه الأمور، سائقا مع البنات مثلا، أو يضع خادمة مع الأولاد في المنزل ويعتقد أن الثقة موجودة، ولا شك أن هذا من أخطر الأمور.
مثله أيضا المدرسة الأجنبية أو المدرسة الخاصة التي تعتبر أحيانا نوعا من الوجاهة لا غير
فيكفيني أن أقول أن ولدي يدرس في مدارس خاصة، أفاخر أنه يحسن اللغة الإنجليزية، بل إن بعض هذه المدارس تبعث شبابنا لتزلج على الجليد في سويسرا وغيرها
وبعضها تبعث بهم إلى بريطانيا ليقضوا الإجازة الصيفية عند اسر نصرانية كافرة بحجة أنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية، بل إن بعضهم يذهبون بأولادهم إلى الخارج ويقيمونهم بفنادق خاصة بالأطفال كما أعلنت عنها عدد من الإذاعات ووسائل الإعلام تستلم الطفل
فالأب مشغول بدنياه أو بتجارته أو بصفقاته، وقد يكون مشغولا بغير ذلك مما لا نبوح به، فيدع أولاده في فندق في بلد غربي
هذا الفندق لا يسمح للأب بأن يأتي إلى ولده إلا مرة في الأسبوع ليطمئن عليه وهم يستلمونه بعد ذلك ليربوه على أخلاقيات معينة، وعقائد معينة ومفاهيم وسلوكيات معينة، ولك أن تتصور أي مستوى من الدين والشيم سوف يتربى عليها أطفالنا في مثل تلك البيئات.
إذا الجو العام يأثر تأثيرا كبيرا، والبيئة التي يعيشها الطفل، الإسكان مثلا، السفر، الغربة، الفندق، الزملاء، المدرسة إلى غير ذلك.
فأنت إذا غفلت هم لا يغفلون، ولا شك أن هذه جوانب سلبية في مجتمعنا، ولا يعني أن المجتمع يخلو من وسائل التربية الإيجابية…كلا.
فنحن ندرك مثلا أن هناك مدارس كثيرة تعتبر التربية الإسلامية فيها تربية إيجابية، فيها مدرسون ناصحون ومدراء مخلصون ومسؤولون حريصون على مصلحة الطلاب سواء كانت مدارس رسمية أو كانت مدارس أهلية.
هنالك مثلا المساجد التي هي منطلق التربية ومصدر الإشعاع وهي الجو الطبيعي لتربية المسلم على مكارم الأخلاق ومعانيها، ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد، حلقات لتعليم للعبادة للصلاة للسؤال، حتى أن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد فيجد الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فيقف بينهم فيقول:
أيكم محمد ؟
فيشيرون إليه ويقولون هو هذا، فيسأله عن ما أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه.
القرناء الصالحون وهم بحمد الله موجودون، بل وهم كثيرون وينبغي الحرص عليهم، وأن يضع الأب ولده في دائرتهم.
الحلقات والدروس العلمية سواء كانت حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، أو لتعليم العلم الشرعي من فقه وحديث وتفسير وفرائض ولغة وغير ذلك.
ومجالس الذكر التي يأمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، وترقق فيها القلوب وتحرك فيها لمشاعر، كل ذلك من وسائل التربية.
أيضا الوسائل الإعلامية النافعة المفيدة مثل الكتب المفيدة النافعة، الأشرطة الإسلامية النافعة مع أنها أصبحت مع الأسف اليوم تحاصر ويقلل من انتشارها وشأنها وأهميتها
المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك.(/10)
المهم أن للأب وللمسؤول دورا لوصل الناس بهذه الوسائل المفيدة، ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس والتكاليف ثقيلة والشيطان مسلط فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحث وتشجيع:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على……. حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم.
أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده.
أين الذي يتصور قول الله عز وجل:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين)،
فهو يراقب ولده منذ نعومة أطفاله، ومنذ طفولته وهو يسأل الله أن يحقق فيه أمنيته، وأن يجمعه معه في الجنة، وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به.
أين الأب الذي يتصور قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في ما رواه مسلم عن أبي هريرة:
( إذا مات أبن أدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ابن صالح يدع له).
إن أعظم ما تخلفه بعدك ليس المال، فهو لوارثك
ولا الشهرة والجاه فهي لا تنفعك وأنت موسد في قبرك
وإنما عملك الصالح ومنه العمل الدائم الباقي الذي لا ينقطع أو ولد صالح يدع له.
ومن ألوان الإهمال أيضا ليس فقط إهمال الأب، بل إهمال إمام المسجد في حيه عن توجيه الناس، رعايتهم، تعليمهم أمور دينهم
حثهم على المحافظة على الصلوات
حثهم على مكارم الأخلاق، مراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم
القيام بالأعمال الخيرية وتبع المحتاجين والفقراء والمعوزين والمعدمين
مراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم، محاولة إقامة نشاطات دروس علمية، دروس تحفيظ القرآن الكريم، مسابقات ثقافية، توزيع كتب، توزيع أشرطة إلى غير ذلك من الأعمال.
مثل ذلك المدرس في مدرسته، المسؤول في إدارته أو مدينته أو حكومته أو غير ذلك، كل هؤلاء إذا أهملوا فلا ينتظروا إلا نتائج سلبية والعمل الإيجابي المثمر يتطلب بعض الجهد وبعض البذل.
** النقطة السادسة لا نامت أعين الجبناء:
إن الشجاعة معنى كبير وسر خطير، ولقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها، إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة وطاغوت العرف ويتحدون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم قلة الناصر والمعين وكثرة المعاند والمخالف، وعلى رغم التلبيس والتدليس.
ما الذي جعل رجلا كموسى (صلى الله عليه وسلم)
يقف أمام طاغية متأله متجبر كفرعون ويقول له :
(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا).
ما هو الذي جعل رجلا نبيا مختارا كإبراهيم عليه الصلاة والسلام يحطم الأصنام وهو بعد فتى في مقتبل العمر، ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر:
(إف لكم ولما تعبدون من دون الله ).
ما الذي جعل رجلا كمحمد (صلى الله عليه وسلم) يجمع قومه وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية أبن خلف والملء من المستكبرين فيقف بين أيديهم منذرا محذرا:
( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم ويجاهدوا ويعلنوه صريحة قوية مدوية، لماذا وقف عمر أبن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة،
حتى بني أمية الذين كان واحدا منهم وينتسب إليهم، وكانوا يخشون أن يغير ملكهم أو عادتهم أو ميراثهم فيف عمر أبن عبد العزيز رحمه الله نصيرا للحق مدافعا عنه قائما على الظلم محاربا له رادا للحقوق إلى أهلها، لا يأمر بخير إلا فعله، وكاد الأمر أن يتم لولا السم.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أحمد أبن حنبل يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن
ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين ويصابر عليها ويرضى بالسجن والجلد والتعذيب والمطاردة والتضييف والحرمان من الفرص من التدريس من التعليم من المحاضرات من الإفتاء ومن غير ذلك حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن
حتى كان رحمه الله يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن حزم يقف ويتحدى من حوله ويصبر ويصابر فإذا قيل له:
يا رجل تحفظ أنتظر لا تتعجل.
أنشئ يقول:
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت……أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا…… أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن
وأنني مولع بالحق لست إلى ……. سواه أنح ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا…… من مات من غيظه منهم له كفن.
قالوا له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا تداولها وحذروا الناس منها ووصفوها بأبشع الأوصاف
فأنشئ يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي….تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي……وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد….وقول بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة…فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت……أكفهم القرآن في مدن الثغر.(/11)
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن تيمية رحمه الله يصبر ويجهر بكلمة الحق
ويتحمل الأذى في سبيلها فيسجن مرات ويؤذى بل ويضرب أحيانا في الشارع وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبدا.
ما الذي جعل رجلا كالإمام المجدد محمد أبن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه والبدع والخرافات والكهنة والسحرة وغير ذلك وألوان المخالفات
فيقوم جاهرا بكلمة الحق مجاهرا صابرا في ذات الله عز وجل حتى نصره الله تعالى وأصبح ما جاء به الإمام محمد أبن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر كما قال الله عز وجل :
( فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين).
ما الذي جعل رجلا كالإمام الشوكاني مثلا ينتصر للحق ويناضل في سبيله ويلقى ما يلقى فيموت هو ويبقى ذكره في الآخرين.
وهكذا، إن الشجاعة قوة في القلب تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق ولا ينفر من الوحدة ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات ولا يجامل أو يحابي أو ينافق أو يداهن في دين الله عز وجل.
إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبدا، فإن الناس يركلونهم ويرفضونهم ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس وتتطلع إليه القلوب وقد قال الله عز وجل :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
إن من أبرز أخطائنا أن نغرس الخوف في نفوس أبناءنا، الخوف من كل شيء، نحرمهم من التجارب
ومن المحاولات بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم فمثلا نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء أو من السيارة أن تدهسه وهذا صحيح لا شك فيه.
ولكن ما معنى أن تربيه الجدة على الخوف من (السعالي) فلا تذكر له سالفة أو قصة إلا وذكرت فيها تلك السعلات التي تأكل الأحياء من البشر وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل
ما الذي يجعلنا نخوف أبناءنا من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء لأدنى سبب حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية مع أن هذا فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا أحيانا من رجل الشرطة حتى نقول لطفل الصغير أن مجرد إشارتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع إصبعك.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا بل ونساءنا وكبارنا أحيانا من الجن، وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يصنعوا كل شيء.
أو من العين أو من السحر، وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل والثقة به والاعتماد عليه وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد بأذن الله تعالى من شياطين الجن والأنس.
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول:
(إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).
فالبيت الذي فيه ذكر الله، وفيه الأمر بالمعروف وفيه التربية على مكارم الأخلاق لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن ولا من الأنس.
وفي الدائرة الأوسع حينما نتجاوز دائرة البيت ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفا عالميا من أولياء الشيطان، من الكفار من اليهود مثلا الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون وخططهم التي يدبرون وقدراتهم أو التمكين لهم
أو النصارى وما يملكونه أيضا. أو غيرهم من أمم الكفر والله عز وجل يقول:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه، فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم انتم من أوليائه، يكّبر أوليائه في قلوبكم حتى ترهبوهم فلا تقوموا بعمل ولا بدعوة ولا بجهاد، لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج.
لماذا نربي أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظماء وجيوشها الجرارة وأجهزتها الأمنية الضخمة وأعدادها الرهيبة.
بل لماذا نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب على الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث ومن المخابرات حتى يتخيل الإنسان أحيانا أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير مع الزفير كما يقول أحدهم.
ويصبح الإنسان يخاف حتى من ظله:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…… لا تنطقوا إن الجدار له أُذن.
مثل ذلك أيضا من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة الخوف من الفشل والخوف من الخطأ والخوف من الإخفاق، لا.. إن المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان، ولا نقدّر عمله، بل أحيانا نعاقبه على اجتهاده عقابا يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل
إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا لا لهم ولا عليهم على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.
إن ذلك قتل للمواهب ووئد لطموح وقضاء على الإبداع ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبدا.
ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب، يجب احترام شخصية الإنسان واحترام رأيه منذ الصغر وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات.
فأنا أقول لك أي معنى لأن تولي ولدك أعمالا ثم تسفه رأيه فيها، وإذا قال لك فلان قلت فلان لا يهمك، لماذا ؟ لأنه ولدك الذي تعرفه.(/12)
لا… ينبغي أن تحترم شخصيته ورأيه واجتهاده وعمله وتسلم له تخصصه.
وأي معنى لأن تفرض على ولدك كل شيء ولا تعطيه مجالا للاختيار والتفضيل أبدا، فالثوب أنت تختاره والحذاء أنت تختاره واللعبة أنت تختارها والكتاب أنت تختاره وكل شيء أنت تختاره.
لماذا لا تغطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟
حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ، لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرأه أو الطريقة التي يتعلم بها ؟
أليس الشرع جاءنا بالشورى ؟ والله تعالى يقول:
(وشاورهم بالأمر).
فيأمر بذلك رسوله (صلى الله عليه وسلم) المؤيد بالوحي من السماء، ويقول:
(وأمرهم شورى بينهم).
ذلك في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثيرا ما كان الصحابة أبو بكر أو عمر أو من بعدهم يقف ويقول:
(أشيروا علي أيها الناس.).
فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته، والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي غير ذلك، والتلميذ مع شيخة أيضا في الكتاب المقرر وفي وقت الدرس وفي زمانه وفي مكانه
وفي غير ذلك.
بل والرعية مع حكامها في كل شيء من الأمور والهموم العامة التي لا يتحمل مسئوليتها فرد بعينه، ولا جهة بعينها بل هي قضايا الأمة كلها
تتحمل الأمة نتائجها حقا كانت أم باطلا، خطئ أو صوابا.
إن جميعا شركاء في اقتسام الإنجازات، وتعميق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة والقضاء على السلبية التي يشعر بها الكثيرون حين يشعرون أنهم كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم…. ولا يستأمرون وهم شهود.
إن ثلاثمائة وأربعة عشر إنسان استطاعوا أن يواجهوا الدنيا كلها في معركة بدر، والمسلمون اليوم كما تقول الإحصائيات ألف مليون ومائتا مليون إنسان، وهم يتكاثرون بشكل سريع، فهم كما قيل عدد الرمل والحصى والتراب
لكن الفرد منهم تربى على الخوف والتردد والسلبية
وكل وسائل التربية مع الأسف تنحت فيه هذه المخاوف.
فالأم التي ترهبه دائما وتخوفه من الموت.
والأب الذي يعاتبه على كل شيء.
والزوجة التي قتلته بحبها، ومن الحب ما قتل.
والولد الذي يتعلق به:
(إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم……الآية ).
(إنكم مجبنة مبخلة).
والحاكم الذي يهدده ويوعده.
كل ذلك ينحت ويربي في الإنسان الجبن والخوف، وينزع عنه القدرة على المحاولة وعلى التجربة وعلى التفكير الصحيح.
ولقد تربى الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) على الأحداث، تربوا بالأحداث والمصائب والنكبات، كما تربوا بالنعم التي أنزلها الله تعالى عليهم.
حتى الخطأ كان تربية، وكانت الآيات تنزل ليستفيد المسلمون منه دروسا وعبرا فيتحول إلى نعمة ومنحة ومنة.
وفي معركة أحد هُزم المسلمون، فقالوا أنى هذا ؟
فأنزل الله تعالى آيات في سورة آل عمران تتحدث عن هذه المعركة ودروسها:
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير، وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين..) إلى أخر الآيات.
** النقطة السابعة والأخيرة التوازن المفقود.
إن التوازن مطلب شرعي؟، فالله تعالى يقول:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).
وفي الحديث المتفق عليه وهو معروف حديث عبد الله أبن عمر أبن العاص:
(إن لنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق، ولزوجك عليك حق، بل في رواية ولزورك عليك حق فآت كل ذي حق حقه).
وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص أو تفريط في جانب آخر:
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد….كلا طرفي قصد الأمور ذميم
والمقياس في الزيادة والنقص هو النص، إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.
قد يهتم الإنسان أحيانا بأمر من الأمور لأن جبلته وتكوينه وملكته تقتضي ذلك دون أن يلزم غيره بهذا، أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك.
فأنت مثلا اهتماماتك علمية، لا حرج عليك ولا بأس.
وآخر اهتماماته جهادية، وثالث اهتماماته دعوية.
ونحن نعلم أن في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارة.
وفيهم خالد أبن الوليد الذي كان سيفا من سيف الله تعالى كما سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحديثه في الصحيح في معركة مؤته
الذي كان قويا شجاعا مقداما باسلا ما هزم في معركة قط، ولكن خالد رضي الله عنه أنشغل بالحرب والجهاد فلم بتفرغ لنشر العلم والفتي في أصحاب محمد ومن بعدهم.
وفيهم أبن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:
(اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل).(/13)
وكان له قلب عقول ولسان سأؤول وكان من لمفتين ومن العلماء في أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) في ملأ منهم كابن الخطاب وعبد الله أبن مسعود ومعاذ أبن جبل.
وفي أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) من جمع الفضل والمجد من أطرافه كأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما لأصحابه:
(من أصبح منكم صائما ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تصدق على مسكين ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من عاد مريضا ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تبع منكم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة).
وفيهم أمثال عمر أبن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذا لابد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات، المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.
من الاعتدال، الاعتدال في بناء الشخصية
فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر، فإن الإنسان كل لا يتجزأ وله عقل وعاطفة ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس، ولا يأخذ ويعطي ولا يتوفر أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه أو يتعامل معهم.
فلابد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.
ومثله أيضا الاعتدال في تقييم الرجال فلا غلو ولا جفاء
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يربون لناس على ذلك، قال علي رضي الله عنه:
( إنه لعهد عهده إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه تهلك في فئتان، فئة غلت وفئة جفت).
وهكذا حدث فعلا، فإن ممن بعد علي رضي الله عنه من غلوا فيه حتى ادعوا له لا أقول الولاية والإمامة فهو كان أمير المؤمنين رضي الله عنه، لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار، وهم يقولون له أنت أنت، يعني يزعمون له بالألوهية، وهو يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا….أججت ناري ودعوت قنبرا
فكان يحرقهم رضي الله عنه.
وهلكت فيه فئة أخرى هي التي فرطت في حقه وقصرت ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله تعالى عنه.
إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال:
(أقرؤنا أبُي وأقضانا علي).
فحكم أمير المؤمنين بأن اُبي هو لأقرأ وأن عليا هو الأقضى، يعني الأعلم بالقضاء، ثم قال عمر:
(وإنا لندع من قول أبُي) يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي أبن كعب رضي الله عنه وذلك أن أبي أبن كعب كان يقول:
(لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الله عز وجل:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها…. الآية)
فأنظر إلى عمر كيف اعترف لأبي أنه هو لأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله لا بالتشهي ولكن بالنص الشرعي، فقال إن ابي يقول كذا وقد قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها….الآية).
فقال نرد بعض ما قاله ابي بالقرآن الكريم وليس بمجرد التشهي.
إن الأمة التي تغلو في شخص لابد أن تقصر فيه، تعظمه حتى لا تتصور أنه يخطئ، فيقع منه الخطأ فتجحف في حقه، ولا ترى له قدرا ولا مكانا، وهناك أمة تبالغ في شأن شخص إهدارا لكرامته، فيبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.
إذا فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين.
إن من العتدال، الاعتدال في معاملة المرؤوسين
فهناك من يحمل من تحت يده ما لا يطيق، سواء كانوا أولادا أو طلابا أو مرؤوسين أو مربَين أو الأمة كلها بشعوبها وأممها هناك من يحملهم ما لا يطيقون، فينقطعون ويدعون العمل، أو يدعوهم ذلك إلى الإعجاب والغرور بأنفسهم وبما أنجزوا وعملوا فيستكبرون.
ثم قد يهمل آخرون بحجة أن ليس لديهم مواهب، فقراء في مواهبهم ليس لديهم إبداع فيترتب عن ذلك تحطيم لهم وإثارة مشاعر السخرية والكراهية والبغضاء في نفوسهم، وكل إنسان صغر أو كبر هو مزود بملكات وقدرات إبداعية ولكن الشأن في من يستطيع أن يكتشف هذه الملكات ويعرفها ثم يوظفها توظيفا صحيحا.
إن من الاعتدال التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها
فهناك المربي الذي لديه حساسية شديدة، فهو يتردد في كل شيء خشية أن يجرح فلانا أو يغضب فلانا، وهناك على الطرف الآخر من لا يأبه بالآخرين حتى كأنهم عند بشر بلا مشاعر ولا أحاسيس فقد يرأس الصغير مثلا على الكبير ويحتج بأسامة أبن زيد، أو يعاتب بشدة ويحتج بموقف نبوي، أو يفضل أحدا على أحد بوضوح ويحتج بأبي بكر وعمر وهكذا، وينسى أن الأمر يتفاوت والموقف يختلف.
من الاعتدال: الاعتدال بالنصيحة والتوجيه
فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة والنقد البناء الهادف الذي يكون بالأسلوب الحكيم المناسب أبدا بحجة الخوف من ذلك.
وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق، أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.
ومن الاعتدال أيضا، الاعتدال في تربية النفس.(/14)
وتربية الآخرين فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره، ولا أن ينشغل بغيره عن نفسه، بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيرها ….. هل لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها…... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى… بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ….. عار عليك إذا فعلت عظيم.
لفضيلة الشيخ سلمان ابن فهد العودة.(/15)
بعض الآداب في التعامل مع الوالدين
جزء من محاضرة بر الوالدين
للشيخ نبيل العوضي
هذا أبو هريرة يبصر رجلين، فقال لأحدهما: من هذا منك؟ فقال: إنه فلان أبي، فقال: لا تسمه باسمه، ولا تناد أباك باسمه، فلا تقل: يا فلان! بل تسميه بصفته فتقول: يا أبي أو يا أبتاه.
فيعتبر أبو هريرة هذا عقوقاً، وهذا من تمام البر أنك لا تسميه باسمه.
قال: ولا تمش أمامه.
فانظر كيف وصلوا إلى البر، يقول: إذا مشيت فامش خلفه، تواضعاً واحترماً ومن خفض الجناح بالذل له.
قال: ولا تجلس قبله.
إذا دخلت في مجلس وهو قائم فقم معه، ولا تجلس في مجلس قبله، انظروا كيف وصلوا إلى البر.
وهذا رجل -يا عبد الله- لا يصعد إلى الطابق الأعلى إذا كانت أمه في الطابق الأسفل، يقول: كيف أصعد على طابق وأمي تحتي، فهو يعتبر هذا من العقوق.
وذاك رجل لا يأكل مع أمه في صحن واحد، فيُسأل: لم يا فلان لا تأكل مع أمك في صحن واحد؟ فيقول: أخاف أن تمتد يدي إلى لقمة وأمي تنظر إليها، أخاف أن آكل لقمة وأمي قد اشتهتها.
انظر كيف وصلوا إلى البر، وانظر كيف أصبح الناس هذه الأيام في العقوق.
ويأتي رجل فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، فيقول له: (كيف تركت أبويك؟ فيقول: تركتهما يبكيان، فيقول له: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما ).
ويأتي رجل يريد الجهاد فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك أم؟ فيقول: نعم. قال: أتريد الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم. قال: الزم قدمها فثم الجنة ).
ولنرجع إلى البيوت -يا عباد الله- فلنلزم أقدامهن، فهناك الجنة، وهناك الروح والريحان، وهناك الجنان، وهنالك الأنهار، وتلك هي القصور، فباب الجنة -يا عبد الله- عند قدم أمك؛ فكيف ضيعت ذلك الباب؟ وكيف فرطت في الجنة وأبوابها؟
واسمع إلى هذا العاق، هذا الرجل العاق كيف وصل به العقوق إلى هذه الدرجة، فهو يضرب به المثل، واسمه منازل، وهذا الرجل كان فاجراً عاصياً عاقاً لأبيه، أتاه أبوه يوماً من الأيام، فأمره بالطاعة، وأمره بالإحسان، وأمره بالاستجابة لله جلَّ وعلا، فهل تعرف ماذا فعل؟ لطم أباه على وجهه، فذهب أبوه يبكي، وقال: والله! لأحجن إلى بيت الله الحرام وأدعو عليه هناك، فحج الأب إلى بيت الله الحرام، وتعلق بأستار الكعبة، ثم رفع يديه، فقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد iiقطعوا
إني أتيتك يا من لا يخيب iiمن
هذا منازل لا يرتد عن iiعققي
وشل منه بحول منك iiجانبه ...
... أرض المهامه من قرب ومن بعد
يدعوه مبتهلاً بالواحد iiالصمد
فخذ بحقي يا رحمان من iiولدي
يا من تقدس لم يولد ولم iiيلد
فما أنزل الأب يديه إلا وقد شل الله نصف جسده، وأصبح مشلولاً إلى أن مات: (ثلاث دعوات مستجابات -لا شك فيهن- منها: دعوة الوالد على ولده ).
إذا أردت الدعوة يا عبد الله، فاذهب إلى أمك، واذهب إلى أبيك، وسلهما دعوة صالحة، وسلهما دعوة خالصة.
واسمع إلى العاق، كيف يصفه الله جلا وعلا: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } [الأحقاف:17] يا بني صلِّ.. يا بني اذهب إلى المسجد.. يا بني اترك الفساد.. يا بني اترك المعاصي.. يا بني اترك هؤلاء الصحبة.. يا بني لا تنفعك هذه الأغاني.. فيرد عليهما: { أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [الأحقاف:17] أتعرف ما عقوبته؟ { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [الأحقاف:18].
اسمع إلى هذا الرجل الذي ملَّ والده، وقد أحسن إليه وبره لكن طال عليه الأمر وشق عليه العمل، وكبر أبوه فتأفف من أبيه، وكم نسمع هذه الأيام -والعياذ بالله- من رجل يُسأل: من هذا؟ فيستحي أن يقول: هذا أبي، فيقول: هذا السائق، وكم سمعنا من فتاة يُقال لها: من هذه؟ فتستحي فتقول: هذه الخادمة. أو هذه المربية. أو هذه الغسالة. أف لهذه الكلمات، وتعس أولئك الذين يستحون أن يقول أحدهم: هذا أبي. وتستحي أن تقول: هذه أمي. ولا يدعوه إلى وليمة، ولا يدعوه إلى وجبة، يستحي أن يراه أصحابه، كم وكم من العاقين من أمثال هؤلا(/1)
بعضهم أولياء بعض
عبدالملك القاسم
دار القاسم
الحمد لله الذي نصر عباده المؤمنين، وأذل من تنكب عن الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فقد تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأفردت لهم الصفحات، ودعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظه القاصي والداني لفشو الأمر وظهوره.
وحال المنافقين ليس بجديد على أمة الإسلام.. فهم أعداء ألداء لهذا الدين منذ بعثة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون، وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن، وسميت سورة كاملة باسم (المنافقون)، وأفاضت السنة النبوية المطهرة في ذلك الأمر العظيم وتوضيحه وجلائه.
ولأن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة، لا نزال نرى نفس الصفات تتوارثها الأجيال المنافقة زمناً بعد زمن حتي وقتنا الحاضر، يقول الله عن صفة من صفاتهم: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة فما أكثر المستمعين لحديثهم المنصتين لهرائهم المتابعين لإنتاجهم.. وهم يلبسون على الناس، ويدعون الإصلاح والفلاح، كما كان فرعون يقول عن موسى نبي الله عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد .
والعجب أن يتولى ما لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة من المنافقين والمنافقات، إفساد الأمة ومسخها عن دينها ودعوتها إلى التحرر والإباحية والعفن والرذيلة. ومن تأمل في التاريخ القريب مثلا في دولة مجاورة، لوجد أن حثالة لا يزيدون عن المائة قوضوا أركان الفضيلة ونزعوا الحجاب عن وجه المسلمة هناك، وأوردوا قومهم موارد الهلاك بإسقاط الحجاب والحياء والحشمة، حتى ظهرت المرأة متبرجة في الشارع والمكتب والمسرح بل وشبه عارية على شاطىء البحر، ولقد كان لا يرى لأمها وجدتها أظفر أو خصلة شعر، حتى جاء هؤلاء فأسقطوا الحجاب شيئاً فشيئاً!!
وهكذا هم المنافقون في كل أمة وفي كل قطر يتحينون الفرص ويقطعون الطريق المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ها هم يسيرون متكاتفين متماسكين يتواصون بالباطل ولهم جلد وصبر عجيب وانطلق الملأ منهم أن امشوا وأصبروا على آلهتكم !!.
وتأمل في حال المنافقين والمنافقات فهم أولياء بعض، وقد ملؤوا الساحة ضجيجا وعفناً في الصحف، وعلى شاشات التلفاز، وفي بث الإذاعات، إنه غزو عجيب لا تسلم منه خيمة ولا قصر، ولا امرأة ولا رجل، ولا طفل ولا شيخ، وتتقزز نفسك وأنت ترى تلك الكتابات والصور التي يطل عليك منها شؤم المعصية وهي كغثاء السيل، وحاطب الليل يتبرأ منهم وهو خير منهم!! وحتى يكتمل الحديث وتتضح الصورة أورد بعضاً من صفات المنافقين حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ولا يسلك مسلكاً خطيرا، وطريقا وعرا، وهو تصنيف الناس بالظن والحدس والتوقع.. بل أمامه ركائز يعتمد عليها ومنائر يسير على هداها، وليعرف المنافق برأسه وعينه متثبتاً متيقنا.. هم العدو فاحذرهم. ومن صفاتهم:
الأولى: الكسل في العبادة، قال تعالى: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالا .
الثانية: قلة ذكرهم لله عز وجل، قال تعالى: ولا يذكرون الله إلا قليلاً .
الثالثة: لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين والنيل منهم الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات [التوبة:79].
الرابعة: الاستهزاء بالقرآن والسنة، يقول الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
الخامسة: الوقوع في أعراض الصالحين غيبة وحقدا، يقول الله تعالى عنهم: سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير .
السادسة: التخلف عن صلاة الجماعة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: { وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق } [رواه مسلم].
السابعة: مخالفة الظاهر للباطن. وهذه المسألة تدور عليها جميع المسائل، يقول الله تعالى: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فما أكثر ترديدهم عن صلاح هذا الدين وشريعته والحرص على هذا المجتمع وما إن ترى أفعالهم حتى تتمثل لك الآية تفضح خبيئة نفوسهم وبواطن قلوبهم.
الثامنة: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، يقول الله تعالى: يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وتأمل آراءهم في الحجاب والتحرر وعمل المرأة وغيرها!!
التاسعة: عدم الفقه في الدين، فتجد الكثير يملك معلومات عجيبة وتفصيلات دقيقة وجزئيات صغيرة في أمور الدنيا؟ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، ولكن إذا سئل عن المسح على الخفين سكت!! يقول الله عنهم: ولكن المنافقين لا يفقهون .(/1)
وهذه تسع من ثلاثين أو تزيد من صفاتهم، ولكن حسبك من العقد ما أحاط بالعنق.. وبواحدة من هذه تعرف من يبارز الحرب والعداء لله ولرسوله.. ولعظم الأمر وخطورته ولأنهم بؤرة فساد وموطن سوء جعلهم الله في الدرك الأسفل من النار، وهم أشد عذابا من الكفار والمشركين إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا !! وقد قال بعض السلف: لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في الشوارع والطرقات من كثرتها!!. وفي أمة الإسلام اليوم أكثر من ذلك، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم أرنا في المنافقين عجائب قدرتك، اللهم فافضحهم شر فضيحة، اللهم لا تجعل لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
بل أستطيع
أ.د/ناصر بن سليمان العمر 30/10/1423
14/01/2002
يقول ابن القيم- رحمه الله- : لو أن رجلاً وقف أمام جبل وعزم على إزالته ؛ لأزاله .
لقد توصلت - بعد سنوات من الدراسة والبحث والتأمل- إلى : أنه لا مستحيل في الحياة ؛ سوى أمرين فقط .
الأول : ما كانت استحالته كونية ( فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) (البقرة: من الآية258)
الثاني : ما كانت استحالته شرعية ؛ مما هو قطعي الدلالة ، والثبوت ، فلا يمكن أن تجعل صلاة المغرب ركعتين ، ولا أن يؤخر شهر الحج عن موعده ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَات) (البقرة: من الآية197) ، ولا أن يباح زواج الرجل من امرأة أبيه ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً )(النساء: من الآية22) وما عدا هذين الأمرين وما يندرج تحتهما من فروع ؛ فليس بمستحيل .
قد تكون هناك استحالة نسبية لا كلية ، وهو ما يدخل تحت قاعدة عدم الاستطاعة فقد يعجز فرد عن أمرٍ ؛ ولكن يستطيعه آخرون، وقد لا يتحقق هدف في زمن ؛ ولكن يمكن تحقيقه في زمن آخر ، وقد لا يتأتى إقامة مشروع في مكان ، ويسهل في مكان ثان ، وهكذا .
إن الخطورة: تحويل الاستحالة الفردية ، والجزئية ، والنسبية ؛ إلى استحالة كلية شاملة عامة .
إن عدم الاستطاعة هو تعبير عن قدرة الفرد ذاته ، أما الاستحالة ؛ فهو وصف للأمر المراد تحقيقه ، وقد حدث خلط كبير بينهما عند كثير من الناس ، فأطلقوا الأول على الثاني .
إن من الخطأ أن نحول عجزنا الفردي إلى استحالة عامة ؛ تكون سبباً في تثبيط الآخرين ، ووأد قدراتهم ، وإمكاناتهم في مهدها .
إن أول عوامل النجاح ، وتحقيق الأهداف الكبرى هو: التخلص من وهم ( لا أستطيع – مستحيل ) ، وهو بعبارة أخرى: التخلص من العجز الذهني ، وقصور العقل الباطن، ووهن القوى العقلية .
إن الأخذ بالأسباب الشرعية ، والمادية يجعل ما هو بعيد المنال حقيقة واقعة .
إن كثيراً من الذين يكررون عبارة : لا أستطيع ، لا يشخصون حقيقة واقعة ،يعذرون بها شرعاً وإنما هو انعكاس لهزيمة داخلية للتخلص من المسئولية.
إن من الخطوات العملية لتحقيق الأهداف الكبرى هو: الإيمان بالله ، وبما وهبك من إمكانات هائلة تستحق الشكر. ومن شكرها : استثمارها ؛ لتحقيق تلك الأهداف التي خلقت من أجله .
أي عذر لإنسان ؛ وهبه الله جميع القوى التي تؤهله للزواج ، ثم هو يعرض عن ذلك دون مبرر شرعي . إن هذا من كفر النعمة لا من شكرها ، وهو تعطيل لضرورة من الضرورات الخمس التي أجمعت جميع الديانات السماوية على وجوب المحافظة عليها ، وهو النسل .
وحري ، بمن فعل ذلك أن تسلب منه هذه النعمة الكبرى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7) .
وقل مثل ذلك : في كل نعمة ، وموهبة وهبها الله الإنسان .
إنني لست بصدد بيان عوامل النجاح ، ومرتكزات القيادة ، والريادة ؛ ولكنني أحاول أن أزيل هذا الوهم الذي سيطر على عقول كثير من رجال الأمة ، وشبابها ؛ فأوصلنا إلى الحالة التي سرّت العدو ، وأحزنت الصديق .
إن الأمة تمر بحالة تاريخية ذهبية من العودة إلى الله ، وتلمس طريق النجاة ، والنجاح ، والسعادة ، والرقي .
وإذا لم تستثمر تلك الإمكانات ، والطاقات الهائلة ، والأمة في حال إقبالها ؛ فإنه سيكون الأمر أشد وأعسر في حال فتورها .
إن من الأخطاء التي تحول بين الكثيرين ، وبين تحقيق أعظم الأهداف ، وأعلاها ثمناً تصور أنه لا يحقق ذلك إلا الأذكياء .
إن الدراسات أثبتت أن عدداً من عظماء التاريخ كانوا أناساً عاديين ، بل إن بعضهم قد يكون فشل في كثير من المجالات كالدراسة مثلاً .
لا شك أن الأغبياء لا يصنعون التاريخ ؛ ولكن الذكاء أمر نسبي يختلف فيه الناس ويتفاوتون ، وحكم الناس غالباً على الذكاء الظاهر ، بينما هناك قدرات خفية خارقة لا يراها الناس ؛بل قد لا يدركها صاحبها إلا صدفة ، أو عندما يصر على تحقيق هدف ما ؛ فسرعان ما تتفجر تلك المواهب مخلفة وراءها أعظم الانتصارات ، والأمجاد .
إن كل الناس يعيشون أحلام اليقظة ، ولكن الفرق بين العظماء وغيرهم : أن أولئك العظماء لديهم القدرة ، وقوة الإرادة والتصميم على تحويل تلك الأحلام إلى واقع ملموس ، وحقيقة قائمة ، وإبراز ما في العقل الباطن إلى شيء يراه الناس ، ويتفيئون في ظلاله .
إن من أهم معوقات صناعة الحياة : الخوف من الفشل ، وهذا بلاء يجب التخلص منه، حيث إن الفشل أمر طبيعي في حياة الأمم ، والقادة ، فهل رأيت دولة خاضت حروبها دون أي هزيمة تذكر ؟!
وهل رأيت قائداً لم يهزم في معركة قط ؟!
والشذوذ يؤكد القاعدة ، ويؤصلها ، ولا ينقضها.(/1)
إن من أعظم قادة الجيوش في تاريخ أمتنا – خالد بن الوليد – سيف الله المسلول ، وقد خاض معارك هزم فيها في الجاهلية ، والإسلام ، ولم يمنعه ذلك من المضي قدماً في تحقيق أعظم الانتصارات ، وأروعها .
ومن أعظم المخترعين في التاريخ الحديث ؛مخترع الكهرباء ( أديسون ) وقد فشل في قرابة ألف محاولة ؛ حتى توصل إلى اختراعه العظيم ، الذي أكتب لكم هذه الكلمات في ضوء اختراعه الخالد .
وقد ذكر أحد الكتاب الغربيين ؛ أنه لا يمكن أن يحقق المرء نجاحاً باهراً حتى يتخطى عقبات كبرى في حياته .
إن الذين يخافون من الفشل النسبي ، قد وقعوا في الفشل الكلي الذريع ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ) (التوبة: من الآية49)
ومن يتهيب صعود الجبال ... ...
يعش أبد الدهر بين الحفر
إن البيئة شديدة التأثير على أفرادها ؛ حيث تصوغهم ولا يصوغونها ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى )( وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف: من الآية23 )، ولذلك فهي من أهم الركائز في التقدم ، أو التخلف ، والرجال الذين ملكوا ناصية القيادة والريادة ؛لم يستسلموا للبيئة الفاسدة ولم تمنعهم من نقل تلك البيئة إلى مجتمع يتسم بالمجد والرقي والتقدم ؛ ولذلك أصبح المجدد مجدداً ؛ لأنه جدد لأمته ما اندرس من دينها وتاريخها وقد ختمت النبوة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - فلم يبق إلا المجددون والمصلحون ؛ يخرجونها من الظلمات إلى النور فحري بك أن تكون أحد هؤلاء .
وأختم هذه المقالة بإشارات تفتح لك مغاليق الطريق :
1-ذلك الكم الهائل من عمرك والذي يعد بعشرات السنين ، قد تحقق من أنفاس متعاقبة وثوان متلاحقة ، وآلاف الكيلو مترات التي قطعتها في حياتك ؛ ليست إلا خطوات تراكمت فأصبحت شيئاً مذكوراً.
وكذلك الأهداف الكبرى ؛ تتحقق رويداً رويدا ، وخطوة خطوة ، فعشرات المجلدات التي يكتبها عالم من العلماء ، ليست إلا مجموعة من الحروف ضم بعضها إلى بعض ، حرفاً حرفاً ؛ فأصبحت تراثاً خالداً على مر الدهور والأجيال .
2-علو الهدف يحقق العجائب ، فمن كافح ليكون ترتيبه الأول ؛ يحزن إذا كان الثاني ومن كان همه دخول الدور الثاني ؛ يفرح إذا لم يرسب إلا في نصف المقررات والمواد .
وإذا كانت النفوس كباراً ... ...
تعبت في مرادها الأجسام
من يهن يسهل عليه ... ...
ما لجرح بميت إيلام
3-الإبداع لا يستجلب بالقوة , وتوتر الأعصاب ؛ وإنما بالهدوء , والسكينة وقوة الإيمان , والثقة بما وهبك الله من إمكانات ، مع الصبر والتصميم , وقوة الإرادة والعزيمة ؛ ولذلك فأكثر الطلاب تفوقاً ؛ أكثرهم هدوءاً , وأقلهم اضطراباً عند الامتحان . وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس ، وأربطهم جأشاً ، وأثبتهم جناناً ، وأقواهم بأساً ؛ يتقون به عند الفزع لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً .
4-التفكير السليم المنطقي يقود إلى النجاح ، والتخطيط العلمي العملي طريق لا يضل سالكه .
وفشل كثير من المشروعات منشؤه الخطأ في طريقة التفكير ، والمقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة .
5-الواقعية لا تتعارض مع تحقيق أعظم الانتصارات , والريادة في صناعة الحياة ؛ بل هي ركن أساس من أركانها ، وركيزة يبنى عليها ما بعده ، وعاصم من الفشل والإخفاق بإذن الله .
6- كثير من المشكلات الأسرية , والشخصية , والاجتماعية ؛ منشؤها توهم صعوبة حلها , أو استحالته . بينما قد يكون الحل قاب قوسين أو أدنى ؛ ولكن الأمر يحتاج إلى عزيمة وتفكير ، يبدأ من تحديد المشكلة ثم تفكيكها إلى أجزاء ، ومن ثم المباشرة في علاج كل جزء بما يناسبه .
7– ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ُ) (الفاتحة:5) جماع الأمر ، ومدار العمل ، والقاعدة الصلبة التي بدونها تكون الحياة هباء منثوراً .
أخذنا من وقتكم كثيراً ، فهلموا إلى العمل والمجد والخلود .(/2)
بوش امنحني الجنسية الأمريكية ...
بينما كان أحد المسافرين في طريقه إلى بلد عربي ، وبصحبته أمه العجوز التي لا تكاد تمشي إلا متكئة على العصا ، وزوجه التي تحمل طفلها الرضيع بين يديها ، ومعهما طفلان آخران ، إذ وصل المكان المعد لمنح التأشيرات ، فوجد عدة نوافذ أمام كل نافذة من هذه النوافذ يقف العشرات من الزوار ، فاحتار الرجل في أمره ماذا يفعل بأمه العجوز وأهله وأطفاله فهم لا يقدرون على الوقوف ، وفجأة أدرك الحل ،
أنها تلك النافذة التي ليس عليها إلا بعض الغرباء عن الوطن العربي ، أجل أنه الحل ، فأخذ يسعى وهو آخذ بيد أمه العجوز ويصرخ على زوجته وأبنائه هيا قبل أن يسبقنا أحد ، حتى وصل النافذة ووقف على الدور ، وهو يسأل نفسه قائلاً ما لهؤلاء الناس يقفون في هذه الطوابير الكبيرة ويتركون هذه النافذة التي يجلس خلفها رجل وسيم بشوش لا تنقطع الابتسامة عن وجهه – ما كاد ينهي هذا التساؤل حتى وجد نفسه أمام الموظف ،فقال له الموظف أين جواز سفرك فقال مبتسماً مسروراً هذا هو ، فنظر الموظف في هذا الجواز وقد أحمر وجهه وقدحت عيناه الشرر ، وتغيرت نبرات صوته – الرجل في نفسه ويلي ماذا فعلت – الموظف : أمجنون أنت ؟الرجل : لمَ ياسيدي ؟ هذا المكان مخصص لمن يحملون الجنسية الأمريكية . آسف سيدي ، ولكن هل قدمت لي خدمة فأنت ترى وضعي ؟ ! الموظف في غضب ، أغرب عن وجهي قبل أن أطلب لك الشرطي . الرجل : حسناً ، الرجل لأمه هيا يا أمي ، الأم العجوز هل انتهينا ؟ الابن ليس بعد فعلينا أن نقف في هذا الطابور الصغير . الأم لا أستطيع .الابن اجلسي على المقعد حتى يأتي دورنا وأنا سوف أحجز الدور .
الرجل ينظر إلى تلك الطوابير ويقول في نفسه ، ترى في أي طابور أقف ؟ يا إلإهي أنها طوابير كبيرة . ما علي سأقف في هذا الطابور ، وقف في الطابور وزوجته من وراءه وعلى يديها طفلها الرضيع ، وحولها ولديها . الرجل في الطابور ، ما لهذا الطابور لا يتقدم ؟ أف لهذا الموظف لقد أتعبنا ، الزوجة خذ الطفل لقد تعبت منه . الرجل حسناً ، الرجل لطفليه الآخرين أهدءا ، الزوجة لزوجها ، أبا محمد انظر هذا الطابور يتقدم أفضل . أبو محمد صحيح ، هيا أسرعي ، أبو محمد وزجه وأبناؤه في الطابور الجديد ، أبو محمد لأم محمد ، صحيح من يسمع كلام النساء يتعب ، انظري إلى هذا الطابور فإن حاله أسوأ من الطابور الذي كنا فيه ، أم محمد هلا ذهبنا إلى ذلك الطابور ؟ أبو محمد لا هذا يكفي عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة .
أبو محمد ينظر إلى نافذة الأمريكان ويقول ما أسعدهم لا يوجد عندهم طابور مثلنا ، الأم العجوز تنادي ابنها ، أي بني لقد تعبت لم أعد أقدر على الانتظار لنرجع إلى الطابور الأول فهو يسير بسرعة . الابن إنه للأمريكان . الأم احتلوه . الابن لا ولكن لهم معاملة خاصة ، الأم ولمَ أليسوا كفاراً ونحن أفضل منهم ؟ الابن نعم ، ومن أجل ذلك يسارعون في تسليكهم حتى لا نصاب بأذاهم ، العجوز : ولكني أراهم أكثر حظاً منا ، الابن يا أمي أني مرهق ، أبو محمد لزوجته : خذي الطفل . أم محمد بعد أن أخذت الطفل :هذا الطابور لا يتحرك . أبو محمد لا عليك سوف يملون منا ويتحركون .
أبو محمد بدأ الغضب يظهر عليه ، وبدأت كلمات التوبيخ تتساقط على أطفاله ، حتى أم محمد لم تسلم هي الأخرى ، العجوز شعرت بالإعياء ، الابن ينظر إلى أمه بعين الرحمة ، فهي امرأة عجوز ، يا إلهي لقد تعبت أمي ، ماذا أفعل ، الطفل الصغير أخذ يجهش بالبكاء ، أبو محمد مغضباً أرضعيه . أم محمد أين ؟ لا يوجد مكان ، وأخاف على الدور ! رجل يقف خلفها ، لا عليك ، فأنت أمامي ، أبو محمد جزاك الله خيراً . خرجت أم محمد من الطابور وأخذت معها أبناءها الثلاثة . العجوز بدأت تتأرجح كأنها ستسقط . والطابور هو الطابور .
أبو محمد لم يعد الأمر يحتمل ، أين الضابط ؟ أبو محمد يتجه إلى الضابط قائلاً : هذا الطابور لا يسير . الضابط لا عليك ، إن الله مع الصابرين ، الموظف يعمل ما عليه ، أبو محمد أمي ، أبنائي ، و ... الضابط : لا عليك سيأتيك دور بإذن الله . أبو محمد يرجع إلى الطابور متمتماً ، أحد الصافين ، ماذا قال لك ؟ أبو محمد : قال ستفرج ، وفجأة أبو محمد يقول مسروراً : الطابور يتحرك ، نعم أنه يتحرك ، بدا أبو محمد وكأنه نسي ما لاقى ، أم محمد تأتي مسرعة وهي تقول الحمد لله ، الحمد لله . فلقد مر على وقوفهم في الطابور أكثر من ساعتين ، أما عن المرأة العجوز ، فلم تعد تهتم بطول الوقت ، فقد افترشت عباءتها وأخلدت إلى النوم ، أبو محمد دورنا يقترب ، أجل إنه يقترب ، لم يبق أمامنا إلا رجل واحد ، الموظف للرجل : تقدم . الرجل يعطيه جواز السفر ، وبعد التدقيق ، يمنحه التأشيرة ، أبو محمد يتقدم مسروراً لقد جاء دوره .(/1)
الموظف ينظر إلى أبي محمد ويقول له : انتظر . الموظف يخرج من غرفته . أبو محمد ممتعضاً إلى أين ذهب ؟ أم محمد : أين ذهب ؟ أبو محمد لا أدري . أبو محمد يترك الصف ويذهب إلى الشاويش ، أين ذهب ؟ الشاويش : انتظر الآن يأتي فقد ذهب للصلاة . أبو محمد : الله يتقبل . عاد أبو محمد إلى الصف ينتظر ، الآن يأتي ، الآن يأتي ، الموظف لم يأت بعد .
أبو محمد ينظر إلى نافذة الأمريكان ويعتصر ألماً ولسان حاله ، الله أكبر إلى أي حد بلغ فينا الأمر ؟ أم محمد : أين ذهب الموظف ؟ أبو محمد : إنه يصلي . أبو محمد هذا الجواز الفلسطيني الذي معي لا قيمة له ، لمَ لا يوجد معي جواز سفر أمريكي ؟ لو كان معي جواز سفر أمريكي لكنت في راحة منذ زمن .
أبو محمد في صوت مرتفع دون شعور : بوش امنحني الجنسية الأمريكية . أحد الموظفين يقترب من أبي محمد صارخاً في وجهه اتق الله ، ألا تعلم بأن مطالبتك للجنسية الأمريكية نوع من أنواع موالاة الكافرين ، أبو محمد أعاذنا الله من موالاة الكافرين ، أعاذنا الله من موالاة الكافرين ، وأيضاً أعاذنا الله من نوافذهم !!!(/2)
بل أستطيع!
30/10/1423
أ.د.ناصر بن سليمان العمر-المشرف العام على موقع المسلم
*يقول ابن القيم- رحمه الله-: لو أن رجلاً وقف أمام جبل , وعزم على إزالته؛ لأزاله.
لقد توصلت - بعد سنوات من الدراسة , والبحث , والتأمل- إلى: أنه لا مستحيل في الحياة؛ سوى أمرين فقط.
الأول: ما كانت استحالته كونية, (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (البقرة: من الآية258)
الثاني: ما كانت استحالته شرعية؛ مما هو قطعي الدلالة، والثبوت، فلا يمكن أن تجعل صلاة المغرب ركعتين، ولا أن يؤخر شهر الحج عن موعده (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَات) (البقرة: من الآية197)، ولا أن يباح زواج الرجل من امرأة أبيه (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) (النساء: من الآية22), وما عدا هذين الأمرين, وما يندرج تحتهما من فروع؛ فليس بمستحيل. قد تكون هناك استحالة نسبية لا كلية، وهو ما يدخل تحت قاعدة عدم الاستطالة فقد يعجز فرد عن أمرٍ؛ ولكن يستطيعه آخرون، وقد لا يتحقق هدف في زمن؛ ولكن يمكن تحقيقه في زمن آخر، وقد لا يتأتى إقامة مشروع في مكان، ويسهل في مكان ثان، وهكذا. إن الخطورة: تحويل الاستحالة الفردية، والجزئية، والنسبية؛ إلى استحالة كلية شاملة عامة. إن عدم الاستطاعة هو تعبير عن قدرة الفرد ذاته، أما الاستحالة؛ فهو وصف للأمر المراد تحقيقه، وقد حدث خلط كبير بينهما عند كثير من الناس، فأطلقوا الأول على الثاني.
إن من الخطأ أن نحول عجزنا الفردي إلى استحالة عامة؛ تكون سبباً في تثبيط الآخرين، ووأد قدراتهم، وإمكاناتهم في مهدها. إن أول عوامل النجاح، وتحقيق الأهداف الكبرى هو: التخلص من وهم (لا أستطيع – مستحيل)، وهو بعبارة أخرى: التخلص من العجز الذهني، وقصور العقل الباطن، ووهن القوى العقلية.
إن الأخذ بالأسباب الشرعية، والمادية يجعل ما هو بعيد المنال حقيقة واقعة.
إن كثيراً من الذين يكررون عبارة: لا أستطيع، لا يشخصون حقيقة واقعة، يعذرون بها شرعاً, وإنما هو انعكاس لهزيمة داخلية, للتخلص من المسئولية.
إن من الخطوات العملية لتحقيق الأهداف الكبرى هو: الإيمان بالله، وبما وهبك من إمكانات هائلة تستحق الشكر. ومن شكرها: استثمارها؛ لتحقيق تلك الأهداف التي خلقت من أجله.
أي عذر لإنسان؛ وهبه الله جميع القوى التي تؤهله للزواج، ثم هو يعرض عن ذلك دون مبرر شرعي. إن هذا من كفر النعمة لا من شكرها، وهو تعطيل لضرورة من الضرورات الخمس التي أجمعت جميع الديانات السماوية على وجوب المحافظة عليها، وهو النسل.
وحري، بمن فعل ذلك أن تسلب منه هذه النعمة الكبرى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7). وقل مثل ذلك: في كل نعمة، وموهبة وهبها الله الإنسان.
إنني لست بصدد بيان عوامل النجاح، ومرتكزات القيادة، والريادة؛ ولكنني أحاول أن أزيل هذا الوهم الذي سيطر على عقول كثير من رجال الأمة، وشبابها؛ فأوصلنا إلى الحالة التي سرّت العدو، وأحزنت الصديق.
إن الأمة تمر بحالة تاريخية ذهبية من العودة إلى الله، وتلمس طريق النجاة، والنجاح، والسعادة، والرقي.
وإذا لم تستثمر تلك الإمكانات، والطاقات الهائلة، والأمة في حال إقبالها؛ فإنه سيكون الأمر أشد وأعسر في حال فتورها.
إن من الأخطاء التي تحول بين الكثيرين، وبين تحقيق أعظم الأهداف، وأعلاها ثمناً تصور أنه لا يحقق ذلك إلا الأذكياء.
إن الدراسات أثبتت أن عدداً من عظماء التاريخ كانوا أناساً عاديين، بل إن بعضهم قد يكون فشل في كثير من المجالات كالدراسة مثلاً.
لا شك أن الأغبياء لا يصنعون التاريخ؛ ولكن الذكاء أمر نسبي ,يختلف فيه الناس ويتفاوتون، وحكم الناس غالباً على الذكاء الظاهر، بينما هناك قدرات خفية خارقة لا يراها الناس ؛بل قد لا يدركها صاحبها إلا صدفة، أو عندما يصر على تحقيق هدف ما؛ فسرعان ما تتفجر تلك المواهب , مخلفة وراءها أعظم الانتصارات، والأمجاد.
إن كل الناس يعيشون أحلام اليقظة، ولكن الفرق بين العظماء وغيرهم: أن أولئك العظماء لديهم القدرة، وقوة الإرادة والتصميم على تحويل تلك الأحلام إلى واقع ملموس، وحقيقة قائمة، وإبراز ما في العقل الباطن إلى شيء يراه الناس، ويتفيئون في ظلاله.
إن من أهم معوقات صناعة الحياة: الخوف من الفشل، وهذا بلاء يجب التخلص منه، حيث أن الفشل أمر طبيعي في حياة الأمم، والقادة، فهل رأيت دولة خاضت حروبها دون أي هزيمة تذكر ؟!
وهل رأيت قائداً لم يهزم في معركة قط ؟!
والشذوذ يؤكد القاعدة، ويؤصلها، ولا ينقضها.
إن من أعظم قادة الجيوش في تاريخ أمتنا – خالد بن الوليد – سيف الله المسلول، وقد خاض معارك هزم فيها في الجاهلية، والإسلام، ولم يمنعه ذلك من المضي قدماً في تحقيق أعظم الانتصارات، وأروعها.(/1)
ومن أعظم المخترعين في التاريخ الحديث ؛مخترع الكهرباء (أديسون) وقد فشل في قرابة ألف محاولة؛ حتى توصل إلى اختراعه العظيم، الذي أكتب لكم هذه الكلمات في ضوء اختراعه الخالد.
وقد ذكر أحد الكتاب الغربيين؛ أنه لا يمكن أن يحقق المرء نجاحاً باهراً حتى يتخطى عقبات كبرى في حياته.
إن الذين يخافون من الفشل النسبي، قد وقعوا في الفشل الكلي الذريع (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة: من الآية49)
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
إن البيئة شديدة التأثير على أفرادها؛ حيث تصوغهم ولا يصوغونها (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى) (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف: من الآية23)، ولذلك فهي من أهم الركائز في التقدم، أو التخلف، والرجال الذين ملكوا ناصية القيادة والريادة ؛لم يستسلموا للبيئة الفاسدة, ولم تمنعهم من نقل تلك البيئة إلى مجتمع يتسم بالمجد, والرقي, والتقدم؛ ولذلك أصبح المجدد مجدداً؛ لأنه جدد لأمته ما اندرس من دينها, وتاريخها وقد ختمت النبوة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق إلا المجددون والمصلحون؛ يخرجونها من الظلمات إلى النور, فحري بك أن تكون أحد هؤلاء.
وأختم هذه المقالة, بإشارات تفتح لك مغاليق الطريق:
(1) ذلك الكم الهائل من عمرك , والذي يعد بعشرات السنين، قد تحقق من أنفاس متعاقبة , وثوان متلاحقة، وآلاف الكيلو مترات التي قطعتها في حياتك؛ ليست إلا خطوات تراكمت فأصبحت شيئاً مذكوراً.
وكذلك الأهداف الكبرى؛ تتحقق رويداً رويدا، وخطوة خطوة، فعشرات المجلدات التي يكتبها عالم من العلماء، ليست إلا مجموعة من الحروف ضم بعضها إلى بعض، حرفاً حرفاً؛ فأصبحت تراثاً خالداً ,على مر الدهور والأجيال.
(2) علو الهدف يحقق العجائب، فمن كافح ليكون ترتيبه الأول؛ يحزن إذا كان الثاني, ومن كان همه دخول الدور الثاني؛ يفرح إذا لم يرسب إلا في نصف المقررات والمواد
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
الإبداع لا يستجلب بالقوة, وتوتر الأعصاب؛ وإنما بالهدوء, والسكينة وقوة الإيمان, والثقة بما وهبك الله من إمكانات، مع الصبر والتصميم, وقوة الإرادة والعزيمة؛ ولذلك فأكثر الطلاب تفوقاً؛ أكثرهم هدوءاً, وأقلهم اضطراباً عند الامتحان. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس، وأربطهم جأشاً، وأثبتهم جناناً، وأقواهم بأساً؛ يتقون به عند الفزع لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً.
(3) التفكير السليم المنطقي يقود إلى النجاح، والتخطيط العلمي العملي طريق لا يضل سالكه.
(4) وفشل كثير من المشروعات منشؤه الخطأ في طريقة التفكير، والمقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة.
(5) الواقعية لا تتعارض مع تحقيق أعظم الانتصارات, والريادة في صناعة الحياة؛ بل هي ركن أساس من أركانها، وركيزة يبنى عليها ما بعده، وعاصم من الفشل والإخفاق بإذن الله.
(6) كثير من المشكلات الأسرية, والشخصية, والاجتماعية؛ منشؤها توهم صعوبة حلها, أو استحالته. بينما قد يكون الحل قاب قوسين أو أدنى؛ ولكن الأمر يحتاج إلى عزيمة وتفكير، يبدأ من تحديد المشكلة ثم تفكيكها إلى أجزاء، ومن ثم المباشرة في علاج كل جزء بما يناسبه.
(7) (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) جماع الأمر، ومدار العمل، والقاعدة الصلبة التي بدونها تكون الحياة هباء منثوراً.
(8) أخذنا من وقتكم كثيراً، فهلموا إلى العمل والمجد والخلود.
* * *
-------------------------------
* نشر هذا المقال في موقع الإسلام اليوم بتاريخ 30/10/1423(/2)
بل الحرية هي التوحيد (1/2)
د. حاكم المطيري* 9/6/1424
07/08/2003
سألني بعض الأخوة: لم كل هذا الاهتمام بالحرية في مقالاتك، وكل هذه العناية بها؟ ولم لا تكون الشريعة والتوحيد هو الهدف والغاية؟
فقلت له: هناك سببان لهذا الاهتمام: أما الأول؛ فلأن تحقيق الحرية غاية شرعية في حد ذاتها، بل الحرية من أشرف مقاصد كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فالعبودية إنما هي لله، ثم الخلق بعد ذلك أحرار مع من سواه، فالخضوع والطاعة والرغبة والرهبة هي لله وحده الذي له الخلق والملك والأمر والحكم كما قال تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله). وقد فسر النبي معنى الربوبية هنا بطاعة الرؤساء والأحبار والرهبان والخضوع لهم، وجاء في الحديث "إنما السيد الله"، فهو الذي له السيادة المطلقة. فإذا كان السيد هو الله وهو الملك والرب والحاكم؛ فليس للخلق على بعضهم سيادة ولا طاعة ولا حكم ولا خضوع إلا بإذن الله وهذا هو معنى الحرية الإنسانية.
وقد تقرر في الشريعة قاعدة "الأصل في الإنسان الحرية" وأما الرق فهو طارئ يجب العمل على التخلص منه، إذ أكثر الأحكام الشرعية وأجلها وأشرفها منوطة بالحرية كالإمامة العامة والجهاد والجمعة والجماعة والحج والزكاة، فكلها يشترط فيها الحرية وتسقط في حال العبودية والاسترقاق، ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحرير رقيق العرب فقام عمر بتحرير كل عربي تم استرقاقه في الجاهلية، ودفع ثمن ذلك من بيت المال؛ فكان العرب أول أمة في التاريخ الإنساني تتخلص من الرق بشكل نهائي ومن جميع أشكاله، وتحققت فيهم الحرية بنوعيها: المعنوية، والصورية، ولم يبق فيهم عبد ولا رقيق منذ عهد عمر وإنما بقي الرقيق من غير العرب لكون الأمم الأخرى تسترق أسراها في الحروب، فكان العرب الفاتحون يعاملونهم بالمثل، إذ الاسترقاق أهون من القتل، ومع ذلك جعلت الشريعة تحرير الرقيق عموماً من أفضل القربات وكفارة لبعض المحظورات سواء كان الرقيق مسلمين أو غير مسلمين، بل أمر القرآن بتحريرهم من بيت مال المسلمين، وأوجب على السادة مكاتبة من يريد فداء نفسه منهم ومساعدتهم بالمال كما قال تعالى: (وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).
كل ذلك يؤكد مدى عناية الشريعة بحرية الإنسان وتحريره من كل أشكال العبودية لغير الله تحريراً مادياً ومعنوياً، ولهذا قال عمر كلمته الخالدة دفاعا عن قبطي مسيحي ظلمه بعضُ الأمراء: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؛ فسمّى عمر الظلم استعباداً، مع أن القبطي لم يكن عبداً ولا رقيقاً، بل كان حراً إلا أن استذلاله وظلمه استعباد معنوي له، فالعرب تسمي كل تذلل وخضوع للغير عبودية، وإن كان الخاضع لغيره حراً في نفسه، إذ هي حرية صورية شكلية، ولهذا قال ربعي بن عامر لرستم: "إن الله بعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"، ومعنى عبادة العباد أي الخضوع والطاعة للملوك والرؤساء والأحبار والرهبان، ومنه قول موسى لفرعون: (وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل) ولم يكن بنو إسرائيل رقيقاً لفرعون؛ بل كانوا أحراراً غير أنهم لما كانوا خاضعين لحكمه مستسلمين لظلمه صدق عليهم أنهم عبيد لا أحرار، بل جعل الإسلام هذه الحرية المعنوية من أصول الدين وقطعياته، فلا عبودية إلا لله ولا سيادة إلا لله ولا طاعة إلا لله ولا خضوع ولا تذلل إلا له وحده بينما جعل العبودية الصورية الشكلية وهي الاسترقاق من فروع الأحكام الفقهية وذلك لعظم خطر الحرية المعنوية وشدة أثرها على النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية، ولهذا كانت عناية القرآن بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية المعنوية لغير الله كالخشية والخوف والرغبة والرهبة والطاعة والتذلل والخضوع أشد من عنايته بالحرية الصورية التي يفتقدها الرقيق، إذ هذه فرع وتلك أصل، فتحرير الإنسان من العبودية والخضوع والتذلل لغير الله من أصول الدين؛ بل أشرف غاياته وهو أساس التوحيد الذي جاء الرسل لتحقيقه، أما تحريره من الرق فمن فروع الدين من أجل كمال التوحيد؛ حتى تكون عبودية الإنسان خالصة لله في المعنى والصورة. ولا تكون كذلك حتى تزول كل أشكال عبودية الإنسان للإنسان وتزول كل سيادة للإنسان على أخيه الإنسان فلا سيد إلا الله وحده، والخلق أحرار مع من سواه وكلما ارتفعوا في مقام العبودية لله اتسعت دائرة الحرية فيما بينهم.(/1)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلق عبودية لله، وبهذا وصفه القرآن لأنه أكثرهم تحرراً من الخضوع لغير الله وأكملهم حرية، وقد جعل الإسلام الحرية بجميع أشكالها حقاً محفوظا؛ بل واجباً مفروضاً، فقد بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار في العقبة قبل الهجرة على " أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"، وقال في شأن يهودي انتقد النبي -صلى الله عليه وسلم- علانية: "دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً" ليؤكد بذلك مبدأ حرية الكلمة وحرية نقد السلطة. هذه الحرية التي تعد حجر الأساس لجميع أنواع الحريات الإنسانية، بل لقد جعل النبي قول كلمة الحق أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله؛ فقال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر"، وجعل العمل السياسي والاهتمام بشؤون الأمة والسلطة وتقويمها من الدين؛ فقال: "الدين النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم"، والنصيحة هي بذل الوسع في إرشادهم ومشاركتهم في الرأي والاجتهاد في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والتصدي لظلمهم والأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطرا، وصدعهم بالحق كما أمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة. كما جعل الله -سبحانه وتعالى- حق اختيار السلطة للأمة يحرم مصادرته أو اغتصابه كما في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، وقال عمر: "الإمارة شورى بين المسلمين"، وقال عليّ: "أيها الناس إنما الأمير من أمّرتموه والخليفة من اخترتموه"، وقد أجمع الصحابة على هذا الأصل الذي يؤكد الحرية السياسية في مشاركة الأمة في اختيار السلطة كما قرر القرآن حق الأمة في مشاركة السلطة بعد اختيارها في اتخاذ القرار وأنه ليس للسلطة أن تقطع أمرا دون الأمة كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر).
وما تعيشه الشعوب العربية على وجه الخصوص هي العبودية المعنوية للملوك والرؤساء والعلماء، هذه العبودية التي تغتال كرامة الإنسان وحريته وإنسانيته؛ لتصبح شعوب العالم العربي أكثر الشعوب خضوعاً للاستبداد الداخلي، وأكثر قابلية للخضوع للاستعمار الخارجي. وهي اليوم في عبودية أشد من عبودية بني إسرائيل لفرعون، فقد ضربت عليهم الذلة في كل بلد وصار ثلاثمائة مليون عربي يباعون في أسواق النخاسة الدولية دون أن يحركوا ساكناً أو يدفعوا باطلاً، أو ينصروا حقاً أو ينكئوا عدواً فهم أحوج إلى التحرير من العبودية لغير الله -الذي هو غاية كلمة التوحيد- منهم إلى الشريعة التي تسقط الكثير من أحكامها عن الإنسان إذا فقد حريته الصورية؛ فكيف إذا فقد حريته المعنوية؟!
وللحديث بقية* الأمين العام للحركة السلفية
بل الحرية هي التوحيد(2/2)
د . حاكم المطيري* 16/6/1424
14/08/2003
ثبت بما ذكرناه في المقال الأول من أن الإسلام إنما جاء من أجل تحرير الإنسان تحريراً شكلياً مادياً من الرق وهو العبودية الصورية، وكذلك تحريره معنوياً وروحياً من كل أشكال العبودية لغير الله تعالى؛ بل جعل القرآن هذا التحرير المعنوي غاية التوحيد وأصل الدين كما في قوله ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله ) وهذه الربوبية فسرها القرآن بالطاعة والخضوع لغيرالله كما في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، ومعلوم أنهم لم يعبدوهم وإنما أطاعوهم وخضعوا لسلطانهم الديني برضاهم واختيارهم دون إكراه؛ فكان ذلك الخضوع الطوعي هو عبادتهم واتخاذهم أرباباً، وهكذا فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم عندما قال: يا رسول الله إننا لم نعبدهم؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ألم يكن يحرمون عليكم الحلال ويحلون لكم الحرام فتطيعوهم ؟" قال: بلى!فقال النبي "فتلك عبادتهم"، فقد كان أهل الكتاب عبيداً لأحبارهم ورهبانهم، الذين صاروا أرباباً لخضوع الناس لسلطانهم الروحي دون أن يشعر أهل الكتاب بهذه العبودية المعنوية التي هي من الشرك بالله الذي حرمه الإسلام تحريماً قاطعاً لمناقضته للتوحيد، وهو إفراد الله وحده بالطاعة والخضوع، وهذا أيضا هو معنى ربوبية فرعون الذي قال "أنا ربكم الأعلى" أي: أنا السيد الذي له عليكم حق الطاعة المطلقة والخضوع المطلق، وذلك لسلطانه الدنيوي، والعرب تطلق على السيد اسم "الرب" كما قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته في شأن ملك الحيرة :(/2)
وهو الرب والشهيد على يوم الحيرين والبلاء بلاء ولهذا قال فرعون ليثبت ربوبيته هذه ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) فرأى فرعون أن كون ملك مصرله يجعل له حق الطاعة المطلقة على الشعب المصري، وقد سمى القرآن تلك الدعوة الفرعونية ربوبية وإلهية كما في قوله لموسى (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)، ومعلوم أنه لم يطلب من موسى إلا طاعته وعدم معارضته لا عبادته بالمفهوم الإصطلاحي لمعنى العبادة، وقد كان بنو إسرائيل في مصر موحدين على دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يكونوا يعبدون فرعون وكذا أهل مصر كانت لهم أوثانهم ودياناتهم ومعابدهم، وإنما كانت ربوبية فرعون وإلهيته التي إدعاها لنفسه هي ما فرضه على الناس من الطاعة المطلقة له وعدم معارضته واستبداده بالأمر واستذلاله للشعب ولهذا قال للسحرة الذين آمنوا بموسى (آمنتم له قبل أن آذن لكم ) فلم تكن المشكلة في نظره أن يؤمنوا بموسى بل المشكلة هي أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو الملك الذي له الطاعة عليهم؟! وقد صدق على فرعون أنه جعل من نفسه ربا وإلها لسلطانه الدنيوي وصدق على أهل مصر وبني إسرائيل أنهم جعلوا من أنفسهم عبيداً لخضوعهم لفرعون وطاعتهم المطلقة له.
كما في قول موسى له (وتلك نعمة تمنّها علي أن عبّدت بني إسرائيل) ومعنى تعبيد بني إسرائيل لفرعون في هذه الآية إي إخضاعهم لسلطانه واستذلالهم لطغيانه، هذا إذا كان مراد موسى هو الاستفهام الاستنكاري فهو ينكر على فرعون إدعاءه أنه أكرمه بتربيته له في قصره ما دام قد ظلم قوم موسى واستذلهم واستعبدهم مع كونهم أحرارا وحذف همزة الاستفهام أسلوب قرآني شائع في لغة العرب فأصلها "أو تلك نعمة تمنها علي ..." وإن كان المراد في الآية الإخبار لا الإنكار فالمعنى :
وهذه نعمة تمنها يا فرعون عليّ إذا تركت بني إسرائيل أحرارا وشأنهم يذهبون حيث شاؤوا، ليصبحوا عبيداً لله وحده لا سلطان لك عليهم ولا طاعة .
كما صدق على الأحبار والرهبان أنهم صاروا أرباباً وآلهة لسلطانهم الديني، وصدق على أهل الكتاب أنهم صاروا عبيداً لهم بطاعتهم والخضوع لهم.
وإذا كانت العبودية تناقض الحرية؛ فالقرآن إذاً جاء لتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وذلك بإخلاص التوحيد الذي هو الحرية لله وحده، وقد قالت أم مريم: (ربي إني نذرت لك ما في بطني محرراً) أي موحداً ومخلصاً لك في طاعته وعبوديته ووحدانيته، وإنما أرادت أن تجعل المولود خادماً في المعبد، لا يخدم أحداً ولا يشتغل بطاعة أحد ولا يخضع لجلال أحد من البشر؛ بل يقصر طاعته لله فقالت "محرراً"، فجعلت التحرير نظير التوحيد، فالحرية هنا تعني التوحيد الخالص لله ومما يرسخ مفهوم الحرية الإنسانية الذي جاء به القرآن قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) والدين هنا
بمعنى الطاعة والخضوع؛ فلا إكراه في طاعة الله وعبادته في الإسلام؛ بل الطاعة قائمة على أساس الحرية لا الإكراه، وإذا كان الله -جل جلاله- لم يرض من عباده أن يطيعوه أو يعبدوه أو يوحدوه كرهاً فكيف يسوغ للملوك والرؤساء أن يجبروا الناس على طاعتهم والخضوع لسلطانهم بالإكراه ودون رضاهم ؟!(/3)
بل ويتسع مفهوم التوحيد الذي جاء به القرآن ليشمل تحرير الإنسان حتى من الخوف من غير الله كما قال تعالى: (فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين) فشرط لتحقيق الإيمان عدم الخوف من البشر ومن كل ما سوى الله كما قال:(وإياي فارهبون) وهو كقوله (وإياي فاعبدون) فكما لا تكون العبادة إلا لله وحده؛ فكذلك لا يكون الخوف والرهبة والخشية إلا منه وحده لأنه هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت فاستحق وحده الخضوع والخشية والرهبة والرغبة والعبادة والطاعة؛ بل لقد بالغ النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترسيخ مفهوم تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله ، حتى نهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم كما يفعل العبيد مع أسيادهم، ونهاهم عن الوقوف على رأسه وهو جالس، ونهاهم عن الانحناء له؛ بل نهاهم أن يقول أحدهم لرقيقه ومملوكه "عبدي وأمتي"، بل يقول" فتاي وفتاتي" وعلل ذلك بقوله : "فكلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله" وكل ذلك من أجل ترسيخ مفهوم حرية الإنسان وعدم عبوديته لغير الله وكل ما سبق ذكره من أنواع التوحيد هي من معاني الحرية الإنسانية والمساواة التي تفتقدها المجتمعات العربية المعاصرة التي ما تزال ترسف في أغلال العبودية لغير الله؛ كالخضوع للملوك والرؤساء والطاعة لهم في غير طاعة الله، والخوف منهم والخشية من سطوتهم والتذلل لهم والافتقار إليهم، والتزلف عندهم وتعظيمهم إلى حد تقبيل أيديهم والركوع عند ركبهم والقيام إلى رؤوسهم إجلالاً وتعظيماً لهم إلى غير ذلك من صور العبودية والشرك بالله، بعد أن تم اختزال معنى التوحيد ليصبح قاصراً فقط على الشعائر التعبدية دون باقي الممارسات العملية، وبعد أن تم اختزال معنى الحرية؛ ليصبح قاصراً على الحرية الشكلية الصورية التي هي من فروع الدين دون الحرية المعنوية التي هي أصل الدين!.
* الأمين العام للحركة السلفية بالكويت(/4)
بل حرب دينية
لا يؤمن كثير من المسلمين بنظرية المؤامرة على الإسلام ويصفون هذه النظرية بالشماعة التي يعلق المسلم عليها ضعفه وانهزامه أمام العدو القوي، ويعتقد هذا الفريق بالمقابل أن العدوان الذي يطال كثير من الدول الإسلامية هو من قبيل الأعمال السياسية والمصالح الاقتصادية، ولكن هذه النظرية لا تقوى على الصمود في وجه البحث العلمي الحقيقي الذي يؤكد أن هذا العداء هو بالدرجة الأولى عداء ديني .
من هنا ، ولكي نبرر سبب هذا اليقين ، لا بد من دعم الكلام بالدلائل التاريخية وبيان أسباب هذا العداء ونتائجه .
نقول أولاً أن هذا العداء بدأ منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أوضحت العديد من الآيات القرآنية الكريمة أهدافه، ومنها قوله تعالى : " لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" .
كما أوضحته أيضاً الوقائع التاريخية ، التي امتدت على مر الأزمان ، ومن بينها الحروب الصليبية، التي لم تنته مع انتهاء الخلافة العثمانية وتقسيم الدول الإسلامية إلى دول ضعيفة، وإنما استمرت أيضاً بالاستعمار الغربي من قبل الدول التي ساهمت في الحرب الصلييية للدول العربية، كما ساهمت في انتزاع فلسطين من يد أهلها وتسليمها للصهيونية إرواء للحقد الدفين ضد المسلمين من جهة، وإلهاء لهم بالحروب الداخلية من جهة أخرى .
ونقول ثانياً أن العوامل التي تؤكد على أن الحرب التي تشن ضد المسلمين في كل انحاء العالم هي حرب دينية متعددة ، منها :
1- الخوف من الدين الذي عانى منه الغربيون في القرون الوسطى ، وانتهى بهم إلى تحجيم سلطان الكنيسة، عبر اعتناق مبدأ " فصل الدين عن الدولة " ، مما أدى إلى وجود جيل خاو لا يؤمن بأي شيء غير المادة واشباع الشهوات، جيل يرفع لواء العداوة ضد الذين، وذلك خوفاً من أن يعيد بسط سلطته من جديد.
من هنا فإذا كان الغرب قد أبدى عداوته للدين بشكل عام ، فهو أشد عداوة للإسلام، لأن الإسلام يختلف عن غيره بأنه دين ودنيا، فهو لا يدعو فقط إلى إقامة العبادات، بل إنه ينظم شؤون العباد في كافة المضامير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو إذا نجح في الانتشار داخل الدول الغربية فإن قوانين وتشريعات هذه الدول العلمانية ستتعرض للاهتزاز.
2- الاعلان الواضح في بعض الأحيان والخفي في البعض الآخر من قبل كثير من زعماء الغرب ومفكريهم عن حقيقة هذه الحرب ، من هؤلاء رؤساء بعض الدول التي تدعي العلمانية ، مثل أمريكا الذي أعلن فيها رئيسا جمهوريتها جورج بوش الأب والابن أن ما يجري في العراق هي حرب صليبية ... وما ورد لم يكن من قبيل زلة اللسان كما حاول بوش الابن التستر وراءه .
ومن أنواع هذا الاعلان أيضاً ما ذكره الصهيوني ابن غوربون ، حيث قال : " نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، إنما نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ في المنطقة، إني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة " .
ومن الجدير بالذكر أن هذا الاعلان هو اعلان مقصود في كثير من الأحيان، إذ إنه بعد زوال الاتحاد السوفييتي ، احتاج الغرب إلى عدو جديد يبرر سعيه الحثيث للتسلح ، فوجد في الإسلام ذلك العدو الإرهابي الذي " يغذي مشروعية آلة الحرب الشاملة المكلفة" .
هذا وقد نشر موقع محيط الاخباري في هذا المجال تقريراً عن الأرباح التي حققتها شركات الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حققت قفزة هائلة في أرباحها للربع الأول في عام 2004م. نتيجة زيادة مبيعاتها بصورة كبيرة بفضل الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق منذ مارس من العام الماضي ، وأعلنت شركة لوكهيد مارتن أم أرباحها خلال الربع الأول من العام الحالي تجاوزت التوقعات ارتفعت بنسبة 46 في المائة عن الفترة نفسها من العام الماضي لتصل إلى 291 مليون دولار .
3- تكتل العالم الغربي ضد المسلمين في العالم بأسره، وابداء تعاطفهم الصريح مع دولة يهود الغاصبة، ودعمها مادياً واقتصادياً وسياسياً ، وما عمليات الفيتو التي تتم في أروقة الأمم المتحدة ضد إدانة اسرائيل إلا نموذجاً عن هذا التحيز ، قال " يوخين هيبلر" في كتابه " الإسلام العدو " ناقلاً كلام ورد على لسان أحد الصحفيين المصريين إبان حرب الخليج قوله : " إننا نشهد في الوقت الراهن ازدواجية المعايير الغربية ، فقد أوضح الهجوم على المنشآت النووية ( المفترضة ) لدى العراق أنه لا خلاف بين الغرب إذا تعلق الأمر بتنفيذ قرار للأمم المتحدة ضد بلد إسلامي، وإنما يكون الخلاف حول الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه القوة العسكرية فقط، أما في حالة ترحيل وابعاد اسرائيل للفلسطينيين ، تصبح قرارات الأمم المتحدة لا قيمة لها، مجرد حبر على ورق، كذلك الأمر في البوسنة، أي أن الحالات الثلاث تتفق في تصوير مشهد واحد واضح : المسلمون ضحايا الغرب ، مما يدعم بلا شك موقف الإسلام المتشدد، ويضعف موقف المعتدلين السياسيين " .(/1)
4- الاحساس بالتهديد الناتج عن انتشار الإسلام في كثير من البلاد الغربية ، والناتج في قسم منه عن وفود المهاجرين من الدول الإسلامية ، مما جعلهم يخشون أن يتحول كثير من الغربيين إلى الإسلام ، كما يخشون من الحروب والمنازعات والفتن التي يمكن أن تحدث في بلادهم وتزعزع بالتالي استقراراها .
من هنا جاءت التشديدات القانونية على قبول المهاجرين، وعلى عمل الجمعيات والمؤسسات الإسلامية ، إضافة إلى سن القوانين التي تمنع ظهور الرموز الإسلامية ، ومن بينها حجاب المرأة والتي أصدرت فرنسا مؤخراً قانوناً خاصاً يمنع ارتداءه في المدارس .
5- السعي الحثيث إلى تغيير كثير من مناهج التعليم في الدول الإسلامية ، وذلك من أجل تغيير عقلية الشباب المسلم، وإبعادهم عن دينهم وإلهاءهم بملذات الدنيا، وهذه الدعوة التي بدأت منذ مطلع القرن والمستمرة إلى اليوم ، والتي يقودها للأسف، أبناء من بني جلدتنا ، يسعون إلى استبدال تعاليم الإسلام بتشريعات وضعية ، كما يعملون أيضاً على التشكيك بصلاحية هذا الدين وقدرته على محاربة العدو، وذلك بهدف إنشاء جيل متزعزع العقيدة ، منهزم ، تابع ، مسحوق ....
هذا ما يسعى إليه من وراء تغيير مناهج التعليم ، ولكن صدق الله تعالى القائل: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون "، فالله سبحانه وتعالى أخرج من بين أصلابهم من يعبد الله عز وجل، كما أخرج من الجامعات العلمانية التي أنشئت من أجل هدم الإسلام، شباب صادق ملتزم مستعد للتضحية بكل شيء من أجل عقيدته ودينه، يقول الدكتور الشهيد عبد الله عزام واصفاً حال هؤلاء الشباب : " لقد أصبحت الجامعات كبلاط فرعون يربى فيه موسى عليه الصلاة والسلام ليهدم بيده عرش فرعون ويسحب البساط من تحت رجليه " .
من هنا فإننا نؤكد بناء على ما ورد أن هذه الحرب ليست حرباً سياسية ولا حرباً اقتصادية ... بل هي حرب دينية بالدرجة الأولى ، وهذه الحرب وإن كانت حرباً غير معلنة في فترة من الفترات بسبب سياسة العدو القائمة على بذر الشقاقات والخلافات بين أبناء الدين الواحد، فإنها اليوم أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة لكثير من المسلمين من جهة ، كما أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة للأعداء أنفسهم الذين باتوا يعلنونها حرباً دينية بكل جرأة وبكل جهر وفخر .
د. نهى قاطرجي(/2)
بل حرب دينية
د. نهى قاطرجي
لا يؤمن كثير من المسلمين بنظرية المؤامرة على الإسلام ويصفون هذه النظرية بالشماعة التي يعلق المسلم عليها ضعفه وانهزامه أمام العدو القوي، ويعتقد هذا الفريق بالمقابل أن العدوان الذي يطال كثير من الدول الإسلامية هو من قبيل الأعمال السياسية والمصالح الاقتصادية، ولكن هذه النظرية لا تقوى على الصمود في وجه البحث العلمي الحقيقي الذي يؤكد أن هذا العداء هو بالدرجة الأولى عداء ديني .
من هنا ، ولكي نبرر سبب هذا اليقين ، لا بد من دعم الكلام بالدلائل التاريخية وبيان أسباب هذا العداء ونتائجه .
نقول أولاً أن هذا العداء بدأ منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أوضحت العديد من الآيات القرآنية الكريمة أهدافه، ومنها قوله تعالى : " لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" .
كما أوضحته أيضاً الوقائع التاريخية ، التي امتدت على مر الأزمان ، ومن بينها الحروب الصليبية، التي لم تنته مع انتهاء الخلافة العثمانية وتقسيم الدول الإسلامية إلى دول ضعيفة، وإنما استمرت أيضاً بالاستعمار الغربي من قبل الدول التي ساهمت في الحرب الصلييية للدول العربية، كما ساهمت في انتزاع فلسطين من يد أهلها وتسليمها للصهيونية إرواء للحقد الدفين ضد المسلمين من جهة، وإلهاء لهم بالحروب الداخلية من جهة أخرى .
ونقول ثانياً أن العوامل التي تؤكد على أن الحرب التي تشن ضد المسلمين في كل انحاء العالم هي حرب دينية متعددة ، منها :
1- الخوف من الدين الذي عانى منه الغربيون في القرون الوسطى ، وانتهى بهم إلى تحجيم سلطان الكنيسة، عبر اعتناق مبدأ " فصل الدين عن الدولة " ، مما أدى إلى وجود جيل خاو لا يؤمن بأي شيء غير المادة واشباع الشهوات، جيل يرفع لواء العداوة ضد الذين، وذلك خوفاً من أن يعيد بسط سلطته من جديد.
من هنا فإذا كان الغرب قد أبدى عداوته للدين بشكل عام ، فهو أشد عداوة للإسلام، لأن الإسلام يختلف عن غيره بأنه دين ودنيا، فهو لا يدعو فقط إلى إقامة العبادات، بل إنه ينظم شؤون العباد في كافة المضامير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو إذا نجح في الانتشار داخل الدول الغربية فإن قوانين وتشريعات هذه الدول العلمانية ستتعرض للاهتزاز.
2- الاعلان الواضح في بعض الأحيان والخفي في البعض الآخر من قبل كثير من زعماء الغرب ومفكريهم عن حقيقة هذه الحرب ، من هؤلاء رؤساء بعض الدول التي تدعي العلمانية ، مثل أمريكا الذي أعلن فيها رئيسا جمهوريتها جورج بوش الأب والابن أن ما يجري في العراق هي حرب صليبية ... وما ورد لم يكن من قبيل زلة اللسان كما حاول بوش الابن التستر وراءه .
ومن أنواع هذا الاعلان أيضاً ما ذكره الصهيوني ابن غوربون ، حيث قال : " نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، إنما نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ في المنطقة، إني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة " .
ومن الجدير بالذكر أن هذا الاعلان هو اعلان مقصود في كثير من الأحيان، إذ إنه بعد زوال الاتحاد السوفييتي ، احتاج الغرب إلى عدو جديد يبرر سعيه الحثيث للتسلح ، فوجد في الإسلام ذلك العدو الإرهابي الذي " يغذي مشروعية آلة الحرب الشاملة المكلفة" .
هذا وقد نشر موقع محيط الاخباري في هذا المجال تقريراً عن الأرباح التي حققتها شركات الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث حققت قفزة هائلة في أرباحها للربع الأول في عام 2004م. نتيجة زيادة مبيعاتها بصورة كبيرة بفضل الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق منذ مارس من العام الماضي ، وأعلنت شركة لوكهيد مارتن أم أرباحها خلال الربع الأول من العام الحالي تجاوزت التوقعات ارتفعت بنسبة 46 في المائة عن الفترة نفسها من العام الماضي لتصل إلى 291 مليون دولار .
3- تكتل العالم الغربي ضد المسلمين في العالم بأسره، وابداء تعاطفهم الصريح مع دولة يهود الغاصبة، ودعمها مادياً واقتصادياً وسياسياً ، وما عمليات الفيتو التي تتم في أروقة الأمم المتحدة ضد إدانة اسرائيل إلا نموذجاً عن هذا التحيز ، قال " يوخين هيبلر" في كتابه " الإسلام العدو " ناقلاً كلام ورد على لسان أحد الصحفيين المصريين إبان حرب الخليج قوله : " إننا نشهد في الوقت الراهن ازدواجية المعايير الغربية ، فقد أوضح الهجوم على المنشآت النووية ( المفترضة ) لدى العراق أنه لا خلاف بين الغرب إذا تعلق الأمر بتنفيذ قرار للأمم المتحدة ضد بلد إسلامي، وإنما يكون الخلاف حول الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه القوة العسكرية فقط، أما في حالة ترحيل وابعاد اسرائيل للفلسطينيين ، تصبح قرارات الأمم المتحدة لا قيمة لها، مجرد حبر على ورق، كذلك الأمر في البوسنة، أي أن الحالات الثلاث تتفق في تصوير مشهد واحد واضح : المسلمون ضحايا الغرب ، مما يدعم بلا شك موقف الإسلام المتشدد، ويضعف موقف المعتدلين السياسيين " .(/1)
4- الاحساس بالتهديد الناتج عن انتشار الإسلام في كثير من البلاد الغربية ، والناتج في قسم منه عن وفود المهاجرين من الدول الإسلامية ، مما جعلهم يخشون أن يتحول كثير من الغربيين إلى الإسلام ، كما يخشون من الحروب والمنازعات والفتن التي يمكن أن تحدث في بلادهم وتزعزع بالتالي استقراراها .
من هنا جاءت التشديدات القانونية على قبول المهاجرين، وعلى عمل الجمعيات والمؤسسات الإسلامية ، إضافة إلى سن القوانين التي تمنع ظهور الرموز الإسلامية ، ومن بينها حجاب المرأة والتي أصدرت فرنسا مؤخراً قانوناً خاصاً يمنع ارتداءه في المدارس .
5- السعي الحثيث إلى تغيير كثير من مناهج التعليم في الدول الإسلامية ، وذلك من أجل تغيير عقلية الشباب المسلم، وإبعادهم عن دينهم وإلهاءهم بملذات الدنيا، وهذه الدعوة التي بدأت منذ مطلع القرن والمستمرة إلى اليوم ، والتي يقودها للأسف، أبناء من بني جلدتنا ، يسعون إلى استبدال تعاليم الإسلام بتشريعات وضعية ، كما يعملون أيضاً على التشكيك بصلاحية هذا الدين وقدرته على محاربة العدو، وذلك بهدف إنشاء جيل متزعزع العقيدة ، منهزم ، تابع ، مسحوق ....
هذا ما يسعى إليه من وراء تغيير مناهج التعليم ، ولكن صدق الله تعالى القائل: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون "، فالله سبحانه وتعالى أخرج من بين أصلابهم من يعبد الله عز وجل، كما أخرج من الجامعات العلمانية التي أنشئت من أجل هدم الإسلام، شباب صادق ملتزم مستعد للتضحية بكل شيء من أجل عقيدته ودينه، يقول الدكتور الشهيد عبد الله عزام واصفاً حال هؤلاء الشباب : " لقد أصبحت الجامعات كبلاط فرعون يربى فيه موسى عليه الصلاة والسلام ليهدم بيده عرش فرعون ويسحب البساط من تحت رجليه " .
من هنا فإننا نؤكد بناء على ما ورد أن هذه الحرب ليست حرباً سياسية ولا حرباً اقتصادية ... بل هي حرب دينية بالدرجة الأولى ، وهذه الحرب وإن كانت حرباً غير معلنة في فترة من الفترات بسبب سياسة العدو القائمة على بذر الشقاقات والخلافات بين أبناء الدين الواحد، فإنها اليوم أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة لكثير من المسلمين من جهة ، كما أصبحت أكثر وضوحاً بالنسبة للأعداء أنفسهم الذين باتوا يعلنونها حرباً دينية بكل جرأة وبكل جهر وفخر .(/2)
بل قلوبنا أشد قسوة ...
29-01-2006
لقد عرف اليهود عليهم من الله ما يستحقون، بقسوة قلوبهم، وتعنتهم، وسلبيات مواقفهم، ومحاربتهم لله سبحانه ورسله عليهم السلام، وقد جاء في ذكرهم قوله تعالى: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين( (69قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ) . البقرة
فالله سبحانه يصف قلوب اليهود بأنها أشد قسوة من الحجارة، ومعنى :أشد قسوة، بل أقسى، فقلوب اليهود أقسى من الحجارة ، وذلك أن الحجارة قد يتفجر منها الأنهار وغير ذلك ، أما قلوبهم فهي لا تلين ولا تخشع، بل كلما سمعوا آية من آيات الله أو وقفوا على آية كفروا بها، وصدوا عنها، قال تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)) . البقرة
وقد ذكر المفسرون في كتبهم سبب نزول هذه الآية الكريمة، قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منه . " ذكر بسط القصة" قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض . فقال ذوو الرأي منهم والنهى : علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم ؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فقال " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا فأخذوها فذبحوها فضربوه ببعضها فقام فقالوا من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا فلم يورث قاتل أ هـ تفسير ابن كثير سورة البقرة .(/1)
فإحياء هذا الميت، وتمكينه من إرشاد الناس إلى قاتله، آية عظيمة من آيات الله سبحانه تخشع لها القلوب، ولكن ماذا كان موقف بني إسرائيل من هذه الآية الكريمة؟ كان موقفهم أنهم أعرضوا عنها، ولم يتعظوا بها، بل كأنها لم تكن أصلاً، لذا وصف الله سبحانه قلوبهم بأنها أشد قسوة من الحجارة معللاَ ذلك بأن الحجارة قد يتفجر منها الأنهار ، أو تشقق فيخرج منه الماء ، وأن منها لما يهبط من خشية الله، وأما قلوبهم فيه لا تخشع ولا تتصدع خوفاً من الله، بل ولا تتأثر بذكر الله ، وهذه الآية وإن كانت عظيمة في مضمونها، إلا أن الله سبحانه أنزل على المسلمين ما هو أعظم من ذلك، أنزل عليهم ما لو نزل على جبل لخشع وتصدع من خشية الله سبحانه، ألا وهو القرآن الكريم كتاب الله سبحانه، قال سبحانه : (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ) . الحشر
فالقرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم، لو أنزل على جبل لخشع الجبل وتصدع من خشية الله سبحانه، ولكنه أنزل على أمة اتخذته وراءها ظهرياً، فقد جنبته منهاج حياتها، وما عادت تحتكم إليه لا بكثير ولا بقليل، بل أصبح كثير من أبنائها يطالبون بالديمقراطية والعلمانية،ومنهم من ينادي بوحدة الأديان، ويدعو إلى التقارب والتصافح، أضف إلى ذلك ظواهر الفسق والفساد والانحلال في هذه الأمة، فهذه المعازف تدق صباح مساء، وهذه المنكرات تعج بالشوارع والطرقات، والكاسيات العاريات المائلات المميلات، لا يكاد يخلو منهن فج ولا مكان، وقد أصبح المؤمن فيها غريباً متهماً مطروداً، إذا حدث كذبوه، وإذا نصح خذلوه، وإذا نهى عن منكر اتهموه، فهل هذه الظواهر تدل على أن هذه الأمة خشعت قلوبها لذكر الله سبحانه؟؟؟
أليس كلام الله سبحانه تخشع له الجبال وتتصدع ؟ فما بال الأمة لا تخشع لهذا القرآن؟ أجل إن الأمة اليوم تعيش بلاء عظيماً، تعيش إعراضاً كبيراً، فإذا كان اليهود لم يخشعوا لآية من آيات الله سبحانه ، فإن هذه الأمة لم تعد لتخشع لما خشعت له الجبال وتصدعت من خشية الله سبحانه ، أما آن لهذه الأمة أن تعود إلى الله ربها، قال سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) ) . الحديد
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : يقول تعالى أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه . قال عبد الله بن المبارك حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) .
فانظر رحمك الله تعالى إلى ما قاله عبد الله بن المبارك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن . استبطأ الله قلوب مَن من عباده؟ قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، هم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم من اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وغير ذلك من المواقف الدالة على صدق إيمانهم، وصحة منهاجهم، ومع ذلك يستبطئ الله قلوبهم، ولا يستغرب ذلك ، فإن الملائكة الذين خلقهم الله سبحانه لعبادته، لا لشيء غيرها ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يقولون معتذرين لله سبحانه يوم القيامة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت فتقول الملائكة يا رب لمن يزن هذا فيقول الله تعالى لمن شئت من خلقي . فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك . ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة من تجيز على هذا فيقول من شئت من خلقي . فيقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ) . الحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله-.فكيف بالصحابة رضي الله تعالى عنهم ؟ فالله يريدنا أن نتقيه حق التقوى إذ قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) ) . آل عمران(/2)
وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة ما رواه عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسيره لقوله تعالى ( اتقوا الله حق تقاته ) قال : أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وهذا إسناد صحيح موقوف وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن زبيد عن مرة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اتقوا الله حق تقاته ) أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى ) وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعا فذكره ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال . والأظهر أنه موقوف والله أعلم . أ هـ تفسير ابن كثير
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم رغم مواقفهم العظيمة إلا أنهم بشر يتعرضون لما يتعرض إليه غيرهم من حظوظ الدنيا ، ومما يعزز ذلك المعنى ما جاء في الحديث الصحيح عن حنظلة رضي الله تعالى عنه قال : لقيني أبو بكر وقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عنده عافسنا – لاعبنا وخالطنا - الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا! فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة – وكررها ثلاثا ) . رواه مسلم في صحيحه. وعليه لا يستغرب من كون الله سبحانه خاطب الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية الكريمة ، فكيف بنا هذا الزمن !!!!!
وانظر يرحمك الله تعالى كيف ربط الله سبحانه في هذه الآية بين بني إسرائيل والمسلمين إذ قال : (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) ) . الحديد
أي لا تكونوا أيها المؤمنون كبني إسرائيل الذين شاهدوا من الآيات ما شاهدوه،ثم لم يكن منهم بعد ذلك إلا أن قست قلوبهم ، وهذا تحذير من الله سبحانه لهذه الأمة أن يصيبها ما أصاب من قبلها من أهل الكتاب من قسوة القلوب، فهل أصيبت الأمة بهذا المرض العضال ؟ سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك ....
بقلم:ابراهيم بن عبد العزيز بركات(/3)
بل كان نبيا رسولا
قدّم بعض المستشرقين جملة من النظريات المنحرفة لتفسير النهضة التي قامت بين العرب وظهور الدولة الإسلامية ، وحاولوا جاهدين أن يلغوا الصبغة الدينية لهذه الحركة التاريخية ، وقد أفضى بهم ذلك إلى جعل الإسلام مجرّد ثورة للفقراء ضد الأغنياء ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من مصلح اجتماعي أراد أن يعزّز القيم الفاضلة في المجتمع الذي نشأ فيه ، والذي كان يموج بمظاهر التخلف والفساد الأخلاقي والاجتماعي ، فلم يجد أفضل من الدعوة إلى دين جديد ، وأن يتقمّص – بزعمهم - دور النبي المبعوث من رب العباد.
وقامت نظرية أخرى مغايرة ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلاً يطمح إلى الملك والسيطرة على مقاليد الأمور ، فوضع لنفسه خطة تعتمد على تجميع الناس من حوله والتغرير بهم من منطلق هذا الدين الجديد ، وساعدته في ذلك الظروف الاجتماعية التي وُجد فيها ، حيث كان الناس في أمس الحاجة إلى نظام يلمّ شتات العرب ، ويجمعهم على كلمة واحدة ، بعد أن أنهكتهم الحروب ، وذاقوا مرارة الفقر والحرمان ، وهكذا التفّ العرب حوله وانضمّوا تحت لوائه ، وقبلوا دعوته التي أتى بها .
ومن المعلوم أن الدعوة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم تشمل ما ذكروه من جوانب السياسة والإصلاح ، لكن المشكلة تكمن في الاقتصار على هذه الجوانب ونزع الطابع النبويّ منها ، وإلباسها ثوباً ماديّا مجرداً .
ولتعرية هذه الآراء المنحرفة وبيان بطلانها ، سنقوم بعرض هذه الآراء على الواقع التاريخي وفق ما يقتضيه المنهج العلمي ، ثم لننظر هل سيسعفهم ذلك في الوصول إلى رؤيتهم المادية أم لا ؟ .
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم مصلحاً سياسياً ؟
أولا : إن اتصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحزم والثبات ، وعدم تقديم أية تنازلات لينفي قطعا مثل هذا الادعاء ؛ إذ إن من صفات السياسيين أن يدوروا في فلك مصالحهم الشخصية ، وما يقتضيه ذلك من الاتصاف بالمرونة في التنازل عن بعض الثوابت أو شيء من المباديء .
لكن الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على النقيض من ذلك ، ولذلك نجد موقفه واضحاً من الأعرابي الذي قدم إليه ليبايعه ، كما رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه عن ابن الخصاصية رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الإسلام ، فاشترط علي : ( تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وتصلي الخمس وتصوم رمضان ، وتؤدي الزكاة وتحج البيت ، وتجاهد في سبيل الله ) ، قال : قلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فلا أطيقهما : أما الزكاة فما لي إلا عشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم ، وأما الجهاد فيزعمون أنه من تولّى فقد باء بغضب من الله ؛ فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي ، قال : فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها ، ثم قال : ( لا صدقة ولا جهاد ؟ فبم تدخل الجنة ؟؟ ) قال : ثم قلت يا رسول الله ، أبايعك . فبايعني عليهن كلهن ".
كذلك يستوقفنا ما رواه الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، يقول الصحابي الجليل : " وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها " ذات أنواط " ، قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى ) : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } ( الأعراف : 138 ) .
ويتضح من ذلك الموقف وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى بالحلول الوسطية ، أو الالتقاء في منتصف الطريق ، وذلك نابع من طبيعة الهدف الذي بُعث لأجله ، إنه رسول من الله تعالى إلى الناس جميعاً ، ومهمته هي تبليغ الإسلام إلى الناس كما هو ، فليس في يده أن يقبل مناهج مقترحة أو أفكاراً بديلة عن الشرع الإلهي،أو أن يبدل أو يغير شيئا مما أمره الله بتبليغه، وذلك أمر في غاية الوضوح .
ثانيا : إن ميول الإنسان ومعالم شخصيته تتضح في وقت مبكر من حياته ، وهذه الميول تتنامى لتكوّن القالب الذي يميّز الفرد عن غيره ، ولنضرب مثلا فلو أن رجلا نشأ في بيت زعامة سياسية ، وأبوه أحد أكبر الزعماء في زمانه ،يقينا سيتأثر الولد بهذا الجو وستظهر فيه سمات النفس القيادية ؛فالإنسان ابن بيئته كما يقولون .وإذا نظرنا في سيرة الرسول ونشأته لوجدنا أنه قد متواضعاً خفيض الجناح ، راعياً للغنم – لا الإبل –، وانظر وتأمل هذا النبي الكريم لما رأى رجلاً مقبلاً يرتعد رهبة منه ، فقال له: ( هوّن عليك ؛ فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد ) .(/1)
وثمة أمر آخر ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه ما كان داعياً لنفسه ، ولا اشتُهر عنه الشعر – والذي هو أهم وسيلة إعلامية دعائية في ذلك العصر - ، ولو كان مريداً ابتداءً للحكم ، لهيأ أرضيةً لدعوته بالشعر ، ولدعا الناس إلى نفسه .
ثالثا : من المعلوم أن مكة ومن حولها كانت وثنية من جهة ، متغلغلة في أوحال الفقر من جهة أخرى ، ومرجع الفقر الذي ألمّ بها إلى السياسة التي انتهجها اليهود مع العرب في إغراقهم بالربا ، إلى حدٍّ أذلوا بها أعناقهم .
ومن البداهة والحال هذه أن يتّخذ النبي صلى الله عليه وسلم أقصر الطرق للوصول إلى الحكم ، بأن يعلنها حرباً على اليهود مستغلاً روح الكراهية التي تنامت في نفوس المكيّين كردّة فعلٍ تجاه هذا الظلم والاستبداد ، مع ضرورة السكوت عمّا يثير قومه عليه من ذم الأوثان والأصنام أو النيل من مكانتها .
لكن العجيب في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أصعب الطرق وأكثرها وعورة في حياته ، لقد كانت مبدأ دعوته هي نبذ الأصنام وتسفيهها ، الأمر الذي أدّى إلى كراهية قومه – الذين هم أولى الناس بنصرته – لهذه الدعوة الجديدة ، فكان التعذيب له ولأصحابه وتشريدهم عن ديارهم ، وكل ذلك يدلّنا أن مقصده لم يكن له علاقة بالتملك والسيطرة ، إنما هو في إخراج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد .
رابعا : إن الملوك المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ممن هم ساسة للأمم كانوا مدركين لطابع النبوة في شخصيّته ، ويتضح هذا من خلال مواقفهم التي اتخذوها تجاه هذه الدعوة الجديدة ، واعترافاتهم التي سجّلوها في هذا الصدد ، وأقرب مثالين على ذلك ، موقف كل من النجاشي وهرقل ، أما النجاشي ملك الحبشة ، فنحن نعلم ما وصل إليه من حسن سياسة لشعبه وما أداه ذلك من تهافت الناس لسكنى أرضه ، ونعلم أيضاً اتصاله بالديانة المسيحية من خلال الأساقفة الذين كانوا بأرضه ، وعلى الرغم من ذلك ، فلم يفهم من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الرغبة في الزعامة السياسية ، بل تجاوز ذلك إلى الإيمان بدعوة هذا النبي ، أتراه يذعن لرجل يطمح إلى الزعامة المجردة ، في وقت لم يكن ذلك الرجل يملك من أمر نفسه ولا من أمر أصحابه شيئا ؟
إن زعيم الحبشة ، قد استمع إلى كلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة الدين الذي جاء به ، فرأى أنوار النبوة تنبثق من سيرته العطرة ، وعلم أنه من ذات المشكاة التي أتى منها موسى عليه السلام ، فقال : " إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة " .
كذلك الشأن في هرقل عظيم الروم ، والذي استطلع شأن هذه الدعوة الجديدة في وقت مبكر ، من خلال محاورة هامة دارت بينه وبين $أبي سفيان زعيم قريش ، فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح أن هرقل قال لأبي سفيان : " إنى سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها ، وسألتك هل قال هذا القول أحد منكم قط قبله ؟ ، فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت : رجل يأتم بقول قيل قبله ، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل ، وسألتك هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه ، وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ ، فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك هل يرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب ، لا يسخطه أحد ، وسألتك هل يغدر ؟ ، فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل ، وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم ؟ ، فزعمت أن قد فعل ، وأن حربكم وحربه يكون دولا يدال عليكم المرة ، وتدالون عليه الأخرى ، وكذلك الرسل تبتلى ويكون لها العاقبة ، وسألتك بماذا يأمركم ؟، فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله عز وجل وحده لا تشركوا به شيئا، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق والصلاة والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم ".
خامسا : لو كان الملك غايته ، لكان في عرض قريش له أن يجعلوه ملكا طريقاً مختصراً لهذه الغاية ، لكنه أبى ذلك ، وتمسك بمبدأ نبوته ، مما ينفي صحة هذا الادعاء .
سادسا : أنه يوجد في التاريخ نموذج لرجل ادعى النبوة ليجعلها سبباً في التملك والزعامة ، هذا الرجل هو مسيلمة بن ثمامة المعروف بمسيلمة الكذاب ، ونريد بتسليط الضوء على حياة هذا الرجل أن نبيّن أن استغلال النبوة للوصول إلى السلطة أمر لا يمكن أن يخفى على عقلاء الناس ، ولا أن يلتبس شأنه على عامتهم ، وهو ما سوف نوضحه في الفقرة التالية .(/2)
إننا عندما نقرأ سيرة هذا الرجل ، فإننا نجد أن أصل حركته وادعائه للنبوة إنما كان مبنيا على حب السلطة والتملك ، ونلمس هذا مبكراً عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدّعي النبوة ، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم " مسيلمة الكذاب " على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " ، وبعد أن ادّعى النبوة كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسند أبي عوانة - : " من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإني أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً يعتدون " ، ولما كان مسيلمة طامعاً في الحكم ، استغلّ الروح العصبية في قومه فقام بإذكائها حتى يُكثر من أتباعه ، فلننظر إليه عندما خطب الناس قائلا : " أريد أن تخبروني بماذا صارت قريش أحق بالنبوة والإمامة منكم ؟ والله ما هم بأكثر منكم ولا أنجد ، وإن بلادكم لأوسع من بلادهم ، وأموالكم أكثر من أموالهم " ، وكان كذبه من الجلاء بحيث أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال له قبل إسلامه : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب ، وقال أحد أتباع مسيلمة – وهو طلحة النمري – له : أشهد أنك كاذب وأن محمداً صادق ، ولكن كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ".
فها نحن نرى مسيلمة قد اتضح قصده من خلال مواقفه وكلامه ، فأين هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شهد له معاصروه بنبوته ورسالته ؟ ، إن ذلك مما لا يخفى على كل منصف عاقل .
سابعا : تطالعنا كتب السير بحادثة فريدة تكشف بطلان ما زعمه المستشرقون حول طبيعة الدعوة الإسلامية ، وذلك حينما انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ، فقال الناس : انكسفت لموت إبراهيم ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ) متفق عليه .
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله معلقاً على هذه الحادثة : " لو كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة أي داعٍ من الدعاة ، أو زعيم من الزعماء ، أو قائد دعوة أو حركة أو جماعة ، لسكت على هذا الكلام – إذا لم يوفّق إلى نفيه – ظناً منه أن ذلك الكلام إنما هو في صالح دعوته وحركته ، وظنّ أنه لم يسترع الانتباه إلى هذه الناحية ، بل إن الناس بأنفسهم فكّروا في ذلك ، وقالوا : إن الشمس انكسفت لوفاة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذاً فهو ليس بمكلف بنفي هذا التفكير .
وذلك هو الفرق بعينه بين النبي وغيره ، فإن الأحداث التي يستغلها أصحاب التفكير السياسي – وإن كانت حوادث طبيعية – يرى الأنبياء الكرام عليهم السلام أن استغلالهَا على حساب الدين حرام ، وأمر يرادف الكفر ، ولا أدري أن أحداً سوى محمد صلى الله عليه وسلم قد صدق في هذا الامتحان من غير مؤسسي الجماعات وزعماء السياسة ". انتهى كلامه بتصرّف .
فانظر أيها القاريء الكريم كيف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم ربط الناس بشخصه أو تطويع هذه الحادثة لمصلحته ، بل انظر كيف قام بترسيخ البعد العقائدي في مثل هذه الحوادث الكونية ، مما ينفي قطعاً كونه مجرد زعيم سياسي .
ثامنا : كل الشعوب ترى من حق قائدها أن يتملّك الأراضي ويتمتّع بالمال ويتقلّب في النعيم ، فكان من الطبيعي أن يشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم الثراء وأن يظهر ذلك في بيته وملبسه ومسكنه ، لكننا نفاجأ ببساطة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومدى زهده ، حتى أثّر ذلك في أصحابه رضوان الله عليهم ، وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثر الحصير في جنب النبي صلى الله عليه وسلم فبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك ؟ ) ، فقال : "يا رسول الله ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله " ، فقال له : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ) رواه البخاري ، فلماذا نراه يفضّل شظف العيش وقسوة الحياة على رغدها لو لم يكن متطلّعاً إلى ما عند الله من ثوابه ونعيمه ؟ .
تاسعا : جاءت وفود الأنصار عند العقبة لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وعلى الدفاع عنه حتى الموت ، فما المقابل الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب هذه البيعة ؟ إنه لم يكن مالاً يبذله لهم ، أو وعوداً على مناصب قياديّة ، أو أمانيّ في رقاع من الأرض ، لكنه سما بهم عن كل حطام الدنيا وبشّرهم بالجنة ، والملفت للنظر أنهم لم يطالبوا بشيء من هذه الأموال ، ولكن تدافعوا للبيعة وهم يعلمون أنهم قد يدفعون أرواحهم ثمناً لهذه البيعة ، ولو كان هؤلاء القوم لم يلمسوا فيه صدق دعوته لما واقفوا على مثل تلك البيعة ، فأيّ شيء يغريهم على الموت في مقابل غير معلوم ؟ لا شك أن هذا يعد دليلاً على صدقه .
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم مصلحاً اجتماعيا ؟(/3)
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمّم مكارم الأخلاق ، ويضيف إلى الإنسانية الكثير من المعاني السامية ، والمثل العليا ، وإن البعد الأخلاقي في مبادئه واضح بلا مراء ، لكن أن يحلو للبعض أن يفسّر دعوته بانتحال النبوة ، والاحتيال باسم الدين ، كي يسهم في انتشال قومه من الانحلال الخلقي ، ومحاربة الهيمنة القبلية ، فهذا ما لا يقوله عاقل منصف ، عرف التاريخ ، أو اطلع على جزء من حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
والنقاط التالية تبيّن تهافت تلك الفرية ، وأنها لا تعدوا أن تكون أفكاراً نابعة من نفوس مغرضة :
أولاً : إن جوانب الحياة الاجتماعية تشمل عدة أبعاد : البعد المنظّم لعلاقة الإنسان بنفسه ، والبعد المنظم لعلاقته بمن سواه ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم مجرّد مصلحٍ اجتماعي لكان تركيزه الأعظم على هذين البعدين ، بينما نرى في الواقع أن العماد الحقيقي الذي قامت عليه دعوته هو بُعد أعمق من القضيتين السابقتين ، إنه البُعد العقدي ، والمتمثل في علاقة الإنسان بخالقه ومولاه .
لقد تركّزت الدعوة الإسلامية في أكثر مظاهرها بالعبادة وتوحيد الله جلّ وعلا ، وهذا البعد ليس له علاقة مباشرة بالإصلاح الاجتماعي ، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بعبادة الله وحده ؟ وما علاقة الأخلاق بتحمّل أعباء تكاليف تُشغل بمجملها حياة الإنسان اليومية ؟ .
وهنا قد يقول المستشرقون : إن لهذه التكاليف أثراً في ترويض الروح على الفضيلة ، لكن هذا لا يتماشى مع النهي عن عبادة الأصنام ، ولا مع وجوب البراءة من الكفر والكافرين ، مما يجعلنا نقطع بتهافت مثل هذا الرأي .
ثانياً : إن هذا التفسير النظري ليقف عاجزاً عن تفسير بكاء الصحابة العائدين من الغزوات إذ لم تُكتب لهم الشهادة ، ويقف عاجزاً كذلك عن تفسير حرصهم على قتال ذويهم وبني جلدتهم ، حتى ترى الوالد يقتل ولده ، والأخ يقتل أخاه ، كل ذلك في سبيل هذه الدعوة الجديدة ، كما أن هذه النظرية لتعجز عن تفسير رضا المهاجرين أن يتركوا ديارهم وأموالهم ، ويختاروا مفارقة الأوطان ، إلى مصير غير معلوم ، لو لم يعلموا يقيناً بنبوته صلى الله عليه وسلم .
ثالثاً : إن المتطلّع إلى محتويات الدين الإسلامي يجد فيه العديد من التشريعات المختلفة والأنظمة المحكمة الدقيقة ، خصوصاً ما يتعلّق بجوانب القضاء والإفتاء والحدود ، والشأن في المناهج الأرضية القويّة أن تجتمع عقول كثيرة لكي تخرج بنظام متكامل كهذا النموذج ، لا أن يكون منبع هذا الدستور من رجل أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، منشغلٍ بعبادته والاجتماع بصحابته ، ومثل هذا التصوّر يقتضي أن تكون هذه الشريعة من مصدر سماوي ، لا اجتهادات بشريةٍ عرضة للخطأ والصواب .
ونقول أخيراً : إن الإصلاح الاجتماعي هو قاسم مشترك بين الديانات السماوية والدعوات الأرضية ، كذلك فيما يتعلق بالدعوات السياسية ، فالكل يسعى إلى تحقيق الاستقرار وتنظيم الحياة ، ولكنا حينما نتكلم عن دين أتى من عند الخالق الحكيم فمن البداهة أن يكون أوسع نطاقا وأكمل نظاماً وأشمل منهجاً ، فليس هو بالمقتصر على جانب من جوانب الحياة أو نظام من نظمها .
وإذا كان الأمر كذلك ، فمن السذاجة أن يوصف الدور الذي قام به خاتم الأنبياء والمرسلين بأنه مجرد عمليات إصلاحية في المجتمع العربي ، أو محاولات لتصدّر الزعامة والسيطرة على مقاليد الحكم في جزيرة العرب ، فلا مناص من الاعتراف بالحق الواضح ، وهو ما عبّر عنه المستشرق " تريتون " بقوله : " إذا صحّ في العقول أن التفسير المادّي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى ، وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها ، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلّل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم ، وقيام حضارتهم ، واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم ، فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلّة الصحيحة لهذه الظاهرة الفريدة ، فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد : ألا وهو الإسلام " .
تلك هي شهادة شاهد من أهلها ، فأي حجة بعد ذلك تنفع ، إذا كان ما سبق لا يُقنع !!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مصادر المقال :
- مجلة المنار : للشيخ محمد رشيد رضا
- شبهات التغريب : الأستاذ أنور الجندي(/4)
بل هو خيرٌ لكم..
بدرية العبد الرحمن 15/1/1427
14/02/2006
لم تكن الهجمة الشرسة التي تعرضت لها شخصية النبي -عليه الصلاة والسلام- في إحدى الصحف الدنمركية أمراً سيئاً حينما نضعه في ميزان الحقائق التي تفتقت عنها تلكم الحادثة الاستثنائية الغريبة والتي مازلنا نتألم منها ومن تداعياتها...
_لم نعد وحدنا المتعصبين!
لم تتعرض ديانة ما في العالم للإدانة كما تعرض الدين الإسلامي منذ حقبة السلام العالمي..ولم يكن هناك أفضل من المسلم ليكون المتهم الأول في أي حادث سيئ...
وتكفي القرائن التي تثبت عروبة أو إسلام شخص ما ليستحق التفتيش والاتهام والصراخ في وجهه بأنه إرهابي ومجرم (كما فعلت جودي فوستر بالراكب الباكستاني في فيلم(flight plan). المسلم دائماً يرفض الآخر ويتهمه بالكفر حتى إشعار آخر...وفي جوانب وحينما يكون نفطياً ..فإنه متغطرس غني متأنق من جهة ومتخلف من حيث هبطت عليه الثروة فجأة، ولم يكن أمامه وقت كافٍ ليتخلص من أوساخه الداخلية التي سببها له ارتباطه بالعروبة والإسلام..
حينما تحدث دعاة التسامح و"اللاتعصب" من الغربيين عن أنه حان الوقت لينتهي الحديث عن المسلم وفقاً للصورة المنمّطة بعد حقبة الحادي عشر من سبتمبر استبشرنا نحن المسلمين بموجة التثقيف الغربية التي يتزعمها دعاة التسامح لمحاولة فهم العقل المسلم أخيراً..
وأن حقبة التعصّب الديني ستنتهي إلى غير رجعة بإذن الله، وأن زمناً قادماً من التسامح والتفاهم بين الأديان سيتكفل بأن تنتهي نسبة كبيرة من الحروب، وأن نعيش رخاءً دينياً نسبياً في زمن قادم...
كل هذه الأحلام الجميلة تبخّرت في اللحظة التي اختارت فيها الدنمرك أن تكون (صليبية) بمنتهى القسوة.
وأنا حينما أقول: إنها صليبية فأنا أعني ما نبهنا إليه الكثيرون من أن الدول الإسكندنافية مازالت تتخذ (الصليب) رمزاً وطنياً لها في أعلامها رغم ما يقال عن "لادينيّتها" (أو علمانيّتها).
حين يكون ذلك الرمز حاضراً لدى الدنمركي بهذه القوّة، فإن معالجة أي تصرّف بمعزل عن ذلكم الرمز الديني الوطني أمر صعب على العقل المسلم...
وأصعب منه أن نتخيّل أن يتخذ أي هجوم أوروبي ضد الإسلام صبغة دينية وأسوأ منها(صليبية)..
نحن لم ننس بعد كيف أثرت كلمة الرئيس الأمريكي بوش (الغلطة) حين وصف حربه ضد الإرهاب بالـ(صليبية)، وكيف استغربنا نحن المسلمين أن يبدو الغربي متديناً لهذه الدرجة، وفي وضع سياسي لا يحتمل الثرثرة بما هو ديني...
الآن تفعل الدنمرك نفس الشيء، وتجعل من تصرف أرعن وإساءة مقصودة للدين الإسلامي تعبيراً عن حرية التعبير، و"اللا خوف" من المسلم ومن إيذاء مشاعر الآخر بمسوّغات عدة..
حين تكون خلفية تلكم الإساءة دينية صليبية فالأمر سيكون مروّعاً ووخيما للغاية..
هذا ما سيحدث، وبهذا الشكل سيقرأ المسلمون الحادث ولا أستبعد أن نبدأ عهدا (صليبياً) جديداً.. تتحارب فيه الأديان كما لم تتحارب من قبل..
أمر آخر -بالحديث عن التعصّب الديني- كيف يبدو المسلمون في حميّتهم وغضبتهم للقضية الآن؟!
وما هي منطلقاتهم؟
الآن يبدو المسلمون وفي مظاهراتهم المحتجة وتنديداتهم الكلامية ومطالباتهم بالاعتذار أكثر تحضّرا وهدوءا وتعقّلاً من عاصوف (حرية الرأي والتعبير) الأوروبية التي لم نسمع بها بهذه الطريقة والوقاحة المنقطعة النظير!
الآن يظهر الوجه المختفي من الليبرالي الغربي ذي الحيادية والنزاهة واللامِساس...ويبدو أكثر شناعة وعناداً من صليبي متعصّب كان الليبرالي يتبرأ من تعصّبه الديني الدموي الفظيع لقرون طويلة..
-مرتبكون ...ولا يعرفون ما يفعلون!
وجه آخر كشفته الحادثة ويمكننا أن نفرح به جداً لنعرف أننا لسنا الوحيدين الموصومين بالحيرة والتخبّط في دفتر التاريخ المعاصر..
يبدو لنا الغربي الآن مرتبكاً لا يعرف ما يحترم...ما يقنن تصرفاته..ما حدود حريته التي هي أكبر وأفضل ما لديه ليدافع عنه الآن..
الآن تضع الإساءة الأوروبية والحدث الشنيع قيمة (الحرية) في محاكمة عادلة يتضح فيها ارتباك البشريين أمام ما يفترض أن يحترموه...وأمام الحد الذي يفصل بين الاحترام وبين الخوف من التعبير...
والحد الفاصل بين حرية التعبير والرأي وبين (قلة الأدب) والمسخرة..
والحد الفاصل بين الخوف على المصالح الاقتصادية...والخوف الحقيقي على القيم الأوروبية، واحترام الذات الأوروبية لنفسها وضميرها ومنطلقاتها..
تبدو أوروبا الآن مرتبكة ومحتارة ولا تدري ما تفعل..أمام ضميرها...أمام شعوبها...أمام قيمها...أمام المسلمين..أمام علاقاتها الدولية واقتصادها..(/1)
كثير من الكتّاب ينبهون أيضا أن الكاتب الإنجليزي الذي شكك في مذبحة الهولوكست الشهيرة يواجه حكما بالسجن لمدة ستة عشر عاما لمجرّد تشكيك في أساسات (السامية) على الرغم من أن منطلقاته كانت حوارية مدعّمة بالكثير من الأدلة والشواهد التاريخية العلمية...ولم تكن دوافعه استفزازية أو دعوة للصراع بين الأديان أو احتقارها.... كما يحصل في القضية الموصوفة بأنها تعبير عن حرية الرأي، وعدم الخوف من الدين والأديان..
هذه الانتقائية المقززة التي تمارسها أوربا تجعلنا نشعر بالقرف بقدر ما نشعر بالأسف لحجم التخبط الذي تعيشه أوروبا، والذي كشفه الحادث بشكل سافر وشنيع...
كون كثير من المسلمين حولوا المعركة الآن إلى (أرمجيدون) دينية صليبية إسلامية يمارس فيها الغربي فوقية لادينية، واستقواء ضد الفئة المسلمة القليلة..لا يعني أنه ليس بإمكاننا أن نربح المعركة بعد، وأن نحوّل التاريخ الذي كان ضدنا وضد صورتنا النزيهة كمتسامحين مدانين حتى إشعار آخر..التاريخ الذي وقف ضدنا لمدة خمس سنوات بعد الحادي عشر من سبتمبر يمكن أن نكسبه إلى صفّنا أخيراً، ونبدو نحن الأعقل والأكثر جدارة بالاحترام...والأكثر تحضّراً وقدرة على شفاء العالم من حالة الانبهار بالغربي الذي لم تستطع ناطحات سحابه ومؤسساته المستقلة أن تكون محترمة كفاية... وأن توجد الآن حلاً لمشكلة أساسها قلة الوعي (التعبيري)...بدلاً من التحدي المرتبك جداً والمتمثل في إعادة نشر الصور المسيئة بين اليوم والآخر، وفي أكثر من جريدة أوروبية..
أخيراً..رغم كل الاستياء الذي سببه الحادث المثير إلا أنه حدث (مفيد) وضروري لنا كمسلمين في حقبة العولمة أن نضع قوانيننا أخيراً فيما يتعلق بالإساءة للأديان...وأن تبدأ حملة جيدة وقوية وصارمة لتحدي المد اللاديني الذي يريد انتزاع قدسية الأديان واحترامها من قلوب العالمين...
"اللاديني" هو الخطر القادم الذي يتربص بأجيالنا القادمة، والذي يمكنه أن يكوّن عالماً فوضوياً لا يحكمه إلا قانون متحوّل لا يحلّ حلالاً، ولا يحرّم حراماً...
حين لا يجد "اللاديني" من يقف أمامه بمنتهى الصرامة ليوقف سخريته بالأديان عند حده، فسنجد أنفسنا ندخل غمار حرب طويلة، وفي جبهات عدة يكون المتهم الأول والأخير فيها هو المتدين والدين بإثارة النعرات، والفرقة والتي لم يبدأها إلا "اللاديني"، ولكنه لم يجد وقفة صارمة وقانوناً محدداً وخطاً أحمر عريضاً لا يتجاوزه..
إنها دعوة لوقفة عالمية تتّحد فيها الأديان ضد من يريد الإساءة إليها، وينتقص من قداستها بدعوى حرية التعبير...دعوة لتفكير منطقي طويل وعادل في الحدود التي يمكن فيها وزن أي ممارسة نقدية ضد الأديان، وما هو الحد الذي يمكن اعتباره إساءة يتم تجريمها...وما هو الحد الذي يمكن اعتباره حواراً مقبولاً وتعبيراً عن الرأي محترماً..
كل هذا لم يكن ليحصل لو لم يحدث هذا الحدث الجلل والتجربة العنيفة...التي تذكرنا جيداً جداً بحادثة الإفك التي وإن كرهها المسلمون وقت حصولها، إلا أنها كان لابد منها ليتبين من كذب ممن صدق، ومن كانت خبثت نيّته ممن صفت، ولم تتكلم إلا بما هو خير..
كانت تجربة قاسية عسى أن نخرج منها بفوائد في تاريخنا ونفسياتنا ومستقبلنا القادم، وكيف ندير أزماتنا بمنتهى النزاهة والتجرد للحق...
حقاً... (...لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...)!(/2)
بل هي المفاصلة .. بكل صُوَرِها!!
د. محمد سعود البشر 17/12/1426
17/01/2006
لا ينشط الليبراليون ومن في حكمهم من أهل البدع والزيغ والضلالة إلا في حالات الضعف التي تمر بها الأمة، ولا يزرعون بذور الفجور إلا إذا هبّت ريح الأجنبي، واستوقد العدو ناره وزاد ضرامها، عندئذ يلتف حولها الأتباع، ويتنادى لها المنافقون، ويستبشر بضوئها الخونة والصابئون، فكلما أضاء لهم العدو طريقًا مشَوْا فيه، وإذا أظلم عليهم سقطوا كهشيم محتضر.
هذا هو واقع الأمة معهم في مسيرتها، على مر السنين، وتعاقب الأحداث، وتقلّب الأمور. واليوم نشهد فصلاً جديدًا من فصول المواجهة مع الليبراليين ومن لفّ لفّهم، على اختلاف في المنهج، واتفاق في الهدف والغاية، لكن واقع اليوم غير حال الأمس، فهم اليوم أشد بأسًا، وأعنف تنكيلاً، وأعلى مقيلاً، فلهم في الوصول إلى الهدف والغاية طرائق شتى في الوسيلة والمضمون.
فأما الوسيلة فقد استماتوا من أجل الهيمنة على وسائل التغيير وأدوات التأثير.. متنفذون في دوائر صناعة القرار، ومسيطرون على آليات صياغة الرأي العام ووسائط توجيهه، ولهم في كل قناة وصحيفة سوق ومنتدى، ويرصون الصفوف، وينسّقون الجهود، ويوحّدون الراية والكلمة، حاذقون بشحذ الطاقات، ماكرون في توظيف الإمكانات، وإذا استدعى الأمر، فإنهم يطلبون الإسناد من سفارات الأجنبي وقنصلياته.
وفي المضمون كرّ وفرّ، يركبون مطية الدين بدعوى تجديده تارة، ويهجمون عليه تارات أُخر... يزايدون على الوطنية وهم أعقّ أبنائها، وألد أعدائها، ولهم في "الدين" و "الوطنية" مشارب لا يستعذبها إلا العدو أو من في قلبه مرض.
هم اليوم أشد وطأة على ديننا ووطننا وعلينا من السافر عن العداء المميط لقناع الكره والبغضاء.. بل هم قد أسفروا عن الوجوه اللئيمة، وأماطوا الأقنعة الخادعة، وجهروا بسوء الطويّة، ودناءة المنهج، وخبث المعتقد.
في مواجهة هؤلاء.. لا لقاء في منتصف الطريق، أو الإذعان والاستكانة، تحت أي من ذرائع المقاربة أو المماحكة، بل هي المفاصلة بكل صورها!!(/1)
بل يجوز أن يقال اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك "
إحسان بن محمد بن عايش العتيبي
الحمد لله
كتب بعض إخواننا الأفاضل مقالا ذكر فيه المنع من هذه المقولة، واستدلوا بأثر في " صحيح الأدب المفرد " (ص 286).
وهو ليس حديثاً نبويّاً، بل وليس أثراً عن صحابي.
إنما هو عن أبي رجاء العطاردي، وهو من التابعين.
ونصه:
عن أبي الحارث الكرماني قال: سمعت رجلا قال لأبي رجاء: أقرأ عليك السلام وأسأل الله أن يجمع بيني وبينك في مستقر رحمته. قال: وهل يستطيع أحد ذلك؟ قال: فما مستقر رحمته؟ قال: الجنة. قال: لم تُصِب. قال: فما مستقر رحمته؟ قال: رب العالمين. انتهى
لكن الصواب: هو الجواز، وقد أحببت أن أفرد لها مقالاً، إذ لعله لا يقرأ ردي هناك.
وهو قول النووي، وابن القيم، ورجحه من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين والشيخ بكر أبو زيد.
والله الموفق.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
اعلم أن الرحمة المضافة إلى الله - تعالى -نوعان:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله.
والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها.
فمن الأول: قوله في الحديث الصحيح " احتجت الجنة والنار..- فذكر الحديث - وفيه: فقال للجنة: "إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
رواه مسلم وأحمد.
فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق - تعالى -وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة، وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء.
ومنه: قوله - صلى الله عليه وسلم - "خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض".
رواه مسلم والحاكم وروى البخاري نحوه.
ومنه قوله - تعالى -{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة} هود 9
، ومنه تسميته - تعالى -للمطر رحمة بقوله {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} الأعراف 57
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي "اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك"، وذكره البخاري في كتاب الأدب المفرد له عن بعض السلف، وحكى فيه الكراهة، قال: إن مستقر رحمته ذاته!
وهذا بناء على أن الرحمة صفة وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة.
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدّاً وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها: لم يحسن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال {حسنت مستقرا ومقاما}، فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء؟ ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله، ولهذا قال: مستقر رحمته ذاته.
والصواب: أن هذا لا يمتنع حتى ولو قال صريحا "اجمعنا في مستقر جنتك" لم يمتنع، وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر.
ونظير هذا أن يقال: اجلس في مستقر المسجد، أي المستقر الذي هو المسجد والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة.
وأيضا: فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم. أ. هـ
" بدائع الفوائد " (2 / 408، 409) ط الباز.
قلت: وانظر: " الأذكار " للنووي ص 330، ومعجم المناهي اللفظية لبكر أبي زيد ص 599 و 604
والله أعلم.
http://saaid.net المصدر:(/1)
بلاد العجائب
أحمد مطر
عَجِبَتْ لمرآنا العَجائِبْ
واَستغربَتْ مِنّا الغَرائِبْ!
لا نحن أحياءٌ ولا موتى
وَلا أَهْلُ البِلادِ وَلا أجانِبْ!
تَهوي المصائِبُ فَوْقَنا
وَتَسوقُنا مِن كُلِّ جانِبْ
لكنَّنا لَسْنا هُنا
فَكأنّما هِيَ نَفسُها ابتُلِيَتُ بِنا
وكأنّما نَحنُ المَصائِبْ!
وأَقُولُ (نَحنُ(..
وَما أَنا إلاّ (أنا(
لا جَبهَتي انخفَضَتْ ولا ظَهري انحنى
لكنَّ مِن شأني الرُّسوبَ لأننّي
أَفنيتُ عُمْريَ كُلَّهُ
أَمَلاً بِتَعويمِ الرَّواسِبْ!
زَبَدُ البِحارِ بِلا يَدٍ
حتّى يَكُفَّ بِكفِّهِ صَفْعَ المراكبْ.
صَخْرُ البِحارِ بلا فَمٍ
حتّى يَفُكَّ بِفكَّهِ قَيْدَ الطَحالِبْ.
لكنَّ كُلاًّ مِنهُما
قَدْرَ استطاعَتِهِ يُشاغِبْ.
وَلَرُبَّما فَتَكَ الطّليقُ بِطُحْلُبٍ
وَلَرُبّما نَجحَ الأَسيرُ بِكَسْرِ قارِبْ!
فَلأَيِّ جِنسٍ تَنتمي
هذي الملايينُ التّي
بِحِمى الجَريمةِ تحتمي؟!
وَلأَيِّ شيءٍ رُكِّبَتُ فيها العُيونُ
وَليسَ مِن عَينٍ تُراقِبْ؟!
وَلِمَ الأَيادي والشِّفاهُ
وَلا يَدٌ تَعلو.. ولا شَفَةٌ تُحاسِبْ؟!
أَشباهُ أشباحٍ
تَروحُ وَتَغتدي
بَينَ المَزابِلِ وَالخَرائِبْ
وَهِتافُها يَعلو لِسارِقِ قُوتِها
وَلِمُستبيحِ بُيوتِها:
شُكراً علي هذي المَكاسِبْ!
رَبّاهُ.. لا تُطفِيءْ ذُبالَةَ خافِقي
دَعْها لِتُؤنِسَ وَحْشَتي
وَسْطَ الغَياهِبْ.
رَبّاهُ.. لا تَنزِعْ ضَميريَ مِن دَمي
فأنا وَحيدٌ..
لَيسَ لي إلاّهُ صاحِبْ.
رَبّاهُ
يا مَن صُغتَني بَشَراً سَوِيّاً
أَبقِني بَشَراً سَوِيّاً دائماً
في عَصْرِ فِئرانِ التّجارِبْ.
فَقْري، عَرائي
غُربتي، دائي
شقائي
وَقْفَتي ما بينَ أنيابِ النّوائِبْ
هِيَ كُلُّها
- حتّى أَظَلَّ كما أنا -
ثَمَنٌ مُناسِبْ!
لافتة 18-12-2004(/1)
بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على وفاته:
محاكمة فكر طه حسين بين محمود شاكر وأنور الجندي
لم يشغل باحث الأوساط العلمية والأكاديمية والثقافية والصحافية، مثلما شغلها طه حسين "1889 1973م" فقد دارت حوله، وبسبب كتاباته الموتورة، المعادية للعروبة والإسلام، أعاصير جائحة من المعارك والمساجلات التي تتفق أو تختلف حول فكره وآرائه المبثوثة في ثنايا الكتب والمحاضرات والمقالات، وما فيها من سموم وأباطيل وترهات، تدعو إلى هدم التراث العربي الإسلامي، والارتكان إلى الثقافتين: اليونانية القديمة، والغربية الحديثة، فضلاً عن دعوته العلنية إلى فصل الدين عن الأدب، والاهتمام باللهجات العامية ومعاداة الفصحى، والاحتفال بالأدب المعوج الإباحي، إلى غير ذلك من الأمور التي جرَّت عليه ويلات كثيرة، ووضعته في قائمة وخانة الاتهام والريبة والشك، والنظر إليه نظرة من يخدم الغرب والصهيونية العالمية على حساب نفسه ودينه ووطنه.
وبمناسبة مرور ثلاثين عامًا على وفاته، نرصد هذه المحاكمة لفكر طه حسين، وما خلَّفه من آثار، سواء بالإيجاب أو بالرفض، وخير من تصدى له، وعقد محاكمة لإنتاجه.. العملاقان: محمود شاكر "أبو فهر"، و"أنور الجندي" يرحمهما الله.
نضع فكر طه حسين بين كتابات شاكر والجندي، لما يتميز به كل منهما من الرصانة والعمق وبُعد الرؤية، والمنهجية الواعية، والقدرة على التحليل والنقد والربط، والمصداقية الكبرى لآرائهما بين القراء.
بداية.. كان خلاف محمود شاكر في الربع الأول من القرن العشرين مع طه حسين خلافًا علميًا، بسبب محاضرات الأخير في جامعة فؤاد الأول حول الشعر الجاهلي، ومناداته بانتحاله، وأن معظم هذا الشعر تمت كتابته في العصر الإسلامي، ولم يُعجب هذا الرأي غير الواقعي، التلميذ محمود شاكر، فانزعج، وآلى على نفسه أن يرد على أستاذه، الذي صار قزماً في نظره، بعد ادِّعائه أنه توصل لهذا الرأي، في حين أن شاكر يعرف أن هذا القول ليس لطه حسين، ولكنه للمستشرق مرجليوث، والمنشور في إحدى المجلات الفرنسية التي اطَّلع عليها شاكر، وبين شد وجذب من الاثنين أدرك طه أنه أمام تلميذ واعٍ، وليس في مجتمع لا يقرأ، فأخذ يهدئ من روع شاكر، الذي أقسم ألا يعود للجامعة بعد اليوم، تلك الجامعة التي تُدَرِّس السرقة الأدبية، وتدعو إليها في العلن، وبعد أن سقط الأستاذ في نظره في قضية سطو علمي.
وانبرى شاكر لطه حسين مُفندًا آراءه الباطلة حول انتحال الشعر الجاهلي، في مقدمة سفره الضخم "المتنبى"، وفي الرسالة المهمة المعروفة ب "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، وفيهما بيَّن الفساد الأدبي الذي تغشاه الجامعات العربية الآن، وكشف عن سطوة طه حسين وتلاميذه، الذين يدعون لهذا الفكر الهدَّام، وفند تعاليم وآراء المستشرقين، المنادية بهدم التراث العربي الإسلامي، وفي الذروة منه الشعر الجاهلي، لكيلا تقوم لهذه الأمة قائمة من بعد.
وكانت معركة شاكر الكبري مع طه حسين، الذي أصبح في نظره النموذج السيئ الدال على فساد الحياة الأدبية في مصر والوطن العربي، ومعول الهدم والتخريب في الثقافة والأدب، وليس أدل على ذلك من قول شاكر في أحد الحوارات: إن طه حسين هاجم الأدب العربي، على رغم قلة بضاعته في هذا الموضوع، وعدم تخصصه فيه، فهو حامل للدكتوراه في تاريخ اليونان والرومان، وليس الأدب، كما أن المنهج الذي اعتمد عليه طه حسين على حد قول شاكر خلا من المنهجية، وانتفت منه قواعد البحث العلمي، واستبعد المصادر التي لا تؤيد دعوته الباطلة.
وهكذا نجح شاكر بإخلاصه لقضيته، وتبحره في القراءة للدفاع عنها، في كسب معركته أمام طه حسين وفلوله، وهو ما يشهد به النقاد العدول، الذين لم يخدعهم بريق ذهب طه حسين ولا أقواله ولا مناصبه.
..ثم أجهز عليه أنور الجندي
وإذا كان طه حسين قد عانى وتألم كثيرًا من الجراح التي تعرَّض لها في معركته الكبرى مع شاكر، فإن الذي أجهز عليه، وأرداه في هوة النسيان والإهمال، ووضعه في آخر القائمة، ودلَّ على تبعيته للغرب وللصهيونية، هو المفكر الكبير الأستاذ أنور الجندي صاحب كتاب "طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام"، وكتاب "محاكمة فكر طه حسين".
ولذلك قرأ الجندي كل رسائل وكتابات طه حسين، وخلص إلى أنها تتمحور حول نقاط بعينها ألحَّ عليها وهي: القول ببشرية القرآن وإنكار القراءات، والتناقض بين نصوص الكتب الدينية وما وصل إليه العلم الحديث، وقوله: "إن الدين لم ينزل من السماء، وإنما خرج من الأرض، كما خرج القوم أو الجماعة أنفسهم"!.(/1)
وإثارة الشبهات حول ما أسماه القرآن المكي، والقرآن المدني، وهي نظرية أعلنها اليهودي جولد زيهر، وانتقاص صحابة رسول الله ص ووصفهم بأنهم من الساسة المحترفين، والحملة على الإسلام من خلال الأزهر الشريف، وإهانته، والدعوة إلى إلغائه، والترويج للفكر الوثني اليوناني، والادعاء كذبًا بأن المسلمين قبلوه، وشكلوا عليه فكرهم، وإشاعة الأسطورة في سيرة الرسول ص بعد أن نقاها المفكرون المسلمون منها، والتزيد في الإسرائيليات في كتابه "على هامش السيرة"، واعتماد المصادر المشبوهة: كالأغاني ورسائل إخوان الصفا، والدعوة إلى الأدب المكشوف والإباحي، واتهام القرن الثاني الهجري بأنه عصر شك ومجون في كتابه "حديث الأربعاء"، والدعوة إلى اقتباس الحضارة الغربية (حلوها ومرها)، وما يُحمد منها وما يُعاب، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وإنكار شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي، وتبرئته مما أورده الطبري، ومؤرخو الإسلام من دور ضخم في فتنة مقتل عثمان في كتابه "الفتنة الكبرى"، وإقرار مفاهيم كنسية حول الإسلام، ووصفه له بأنه دين (التراتيل الوجدانية)!.
ويتوصل أنور الجندي في قرارة نفسه إلى أن طه حسين ليس مرددًا لأقوال المستشرقين، ولكنه داعية أصيل للفكر الغربي (قديمه اليوناني، وحديثه الفرنسى) وليس الفكر العربي الإسلامي في تقديره، سواء في ماضيه أو حاضره، إلا تابعًا للفكر اليوناني، ولابد أن يكون تابعًا للفكر الغربي، هذه هي الرسالة التي يحمل لواءها ويعتنقها طه حسين، وأنه لم يكن أديبًا عربيًا إسلامياً يراعي مجتمعه وبيئته، ويطمح إلى رفعته، بقدر ما كان بوقًا يتلاعب به الغربيون والمستشرقون من أجل تنفيذ آرائهم وخططهم الإجرامية في القضاء على التراث العربي الإسلامي، وحضارتنا الزاهية.
وهو ما نجح في إشاعته طه حسين حسب كلام أنور الجندي عن طريق تلاميذه الذين رددوا آراءه بلا فهم ولا منطق أو دراسة، في حين أنها سُمٌّ زُعاف، يقضي على الأخضر واليابس.
وفي النهاية.. نجح الفارسان الكبيران أنور الجندي ومحمود شاكر في تعرية طه حسين، وكشفه أمام الرأي العام العربي، كصنيعة للاستعمار والاستشراق، وأنه ما قدَّم دراسة إلا كان للغرب هدف من ورائها، وأن وجهه الحقيقي الممالئ للغرب يفوح بالعمالة، والخيانة للعروبة والإسلام.(/2)
بن لادن يعتبر الخميني عظيما وحزب الله بطلا !!
أحمد فهمي
تقع وسائل الإعلام الغربية في خلط كبير عند تناولها لقضية تصنيف وتحديد انتماءات الحركات الإسلامية السنية ، وأحد مجالات الخلط ما يتعلق بالفوارق بين هذه الحركات ومثيلتها الشيعية ، سواء من الناحية العقائدية أو المنهجية ، وذلك على الرغم من البون الشاسع بينهما ، وحتى تلك الحركات السنية التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع بعض الجماعات الشيعية فإن الأمر لا يتجاوز تبادل الدعم اللوجيستي أو العسكري دون أن يتعدى ذلك إلى تبادل الأطروحات المنهجية ..
ويحدث هذا الخلط لدى وسائل الإعلام الغربية عن جهل وقصور وأحيانا عن عمد بقصد خلط الأوراق ، وإن كانت في العموم تشارك في وصم الجماعات السنية بأنها إرهابية في مقابل إعفاء الجماعات الشيعية من هذه التهمة فيما عدا حزب الله اللبناني لظروف خاصة ..
وهذا الخلط تمتد جذوره في الحقيقة إلى نهاية السبعينيات عندما نجح الخميني في تأسيس دولة شيعية في إيران جعلت من تصدير الثورة الإسلامية الشيعية هدفا ساميا ، واعتبر كثير من المحللين أن الثورة الخمينية كانت أحد الروافد المهمة للصحوة الإسلامية السنية ومثلت مصدر إلهام كبير لها ، وتلك نتجية خاطئة لا شك في ذلك ، ومصدر اللبس هنا يكمن في الخلط بين المشاعر العاطفية التي أبدت تأثرها بما رأته من مد تأييدي كاسح لزعيم ديني - الخميني - تفتقد مثله في بلدانها ، وداعب الأمل نفوس الكثيرين في إمكانية أن تتكرر التجربة في دول أخرى سنية ، ولكن مع انتشار الوعي العقدي والواقعي بحقيقة الدولة الرافضية وتحمل التيارات السلفية عبء نشر هذا الوعي بدأ الافتتان بالثورة الخمينية يضمحل خاصة مع الانتكاسات التي واجهتها منذ البداية ، ولكن مع ذلك ظل الخلط متمثلا في أذهان وعقول الكثيرين ، خاصة مع نجاح حزب الله في أن يجدد هذا الخلط مرة أخرى بدوره البطولي المزعوم في تحرير الجنوب اللبناني ..
نقول ذلك تعليقا على التحليل الذي نشرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية قبل أيام عن تغير موقف بن لادن زعيم القاعدة من الشيعة في العراق ، وكان عنوانه : بن لادن يأخذ منعطفا معاديا للشيعة ، وكتبه الصحفي ألكسندر أدلر ، وصحيفة لوفيغارو من كبريات الصحف الفرنسية وتملكها مؤخرا الملياردير الفرنسي اليهودي سيرج داسو الذي يمتلك مصانع طائرات الميراج ..
ويزعم أدلر في تحليله أن بن لادن فيما يبدو قد غير موقفه من الشيعة إثر التحالف المعلن بينه وبين أبو مصعب الزرقاوي في العراق ، فيقول : '' من الواضح أن هناك موضوعاً هاماً كان يختلف فيه بن لادن مع الزرقاوي وهو المسألة الشيعية '' معتبرا أن الزرقاوي يغالي في عداء الشيعة بصورة كبيرة وذلك بخلاف بن لادن ، ولكنه يعود فيتناقض مع نفسه في موضع آخر عندما يقول : '' ليس من شك أن بن لادن يشاطر الزرقاوي نفس العداء الذي يكنه هذا الأخير للشيعة '' ولكنه رغم هذا العداء يعتبر أن بن لادن يحمل موقفا '' من الحركات الإسلامية الشيعية أكثر تفتحاً، فهو يرى أن الخميني كان شخصاً عظيماً وأن حزب الله اللبناني جسّد بطولة الجهاد ضد إسرائيل '' .. وفي الحقيقة فإن المتأمل في تاريخ القاعدة وتصريحات وبيانات بن لادن لا يجد فيها ما يؤكد هذا الزعم بعظمة الخميني أو بطولة حزب الله ، ومن المعروف أن القاعدة وإن كانت عسكرية الطابع إلا أنها تتبنى عقيدة سلفية تحمل رؤية متناقضة مع معتقدات الخميني وحزب حسن نصر الله ، ومن العجب أن حركة طالبان التي تحالفت مع القاعدة وتبنت منهجا متقاربا معها في الموقف من الشيعة ، اتُهمت بأنها نفذت مذابح ضد الشيعة الهزاراة الأفغان ، كما أعدمت عددا من الديبلوماسيين الإيرانيين لاتهامهم بالتجسس ، وهو ما يتناقض تماما مع ما توصل إليه الصحفي الفرنسي ، أضف إلى ذلك أن هذا التقدير والمديح لو كان حقيقيا لأثمر ولابد تعاونا ملموسا على أرض الواقع سواء في الجانب اللوجيستي أو العسكري ، ولكن ذلك لم يثبُت أيضا .
والحركات الإسلامية السنية التي تحتفظ بعلاقات طيبة مع مثيلتها الشيعية مثل مجموعات جماعة الإخوان المسلمين كحركة حماس في فلسطين ، والاتحاد الإسلامي الكردستاني ، أو حركات أخرى يقال أنها تحتفظ بعلاقات شيعية قوية مثل الجماعة الإسلامية الكردية العراقية التي كانت تحتفل بالذكرى السنوية للخميني ، أوحركة الجهاد الفلسطينية ، فإن إطار التعاون لا يرتبط بمنهجية عقدية ، بل بمنهج سياسي وخط عام لهذه الجماعات في التعاون مع كثير من التيارات الإسلامية وغير الإسلامية .(/1)
أما التيار الذي أصبح يعرف الآن باسم '' السلفية الجهادية '' فلم يُؤثَر عنه مثل هذه العلاقات في الغالب الأعم .. ورغم محاولات الإعلام الغربي أن يثبت تعاونا استخباراتيا بين القاعدة وإيران إلا أن كل ما نشر حتى الآن لم يرق إلى مصاف الأدلة المعتبرة ، و من الأمثلة على ذلك قصة أحد الإيرانيين - حميد رضا ذاكري - الذي ادعى أنه كان ضابطا سابقا في المخابرات الإيرانية وبناءا على ذلك أدلى بإفادة أمام محكمة ألمانية كانت تنظر اتهام المغربي عبد الغني المزودي بتورطه في هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة ، وزعم الجاسوس الإيراني في إفادته أن المزودي كان يعمل كعنصر اتصال بين تنظيم القاعدة والاستخبارات الإيرانية ، وأنه لعب دورا نشيطا في الإعداد لهذه الهجمات ، وقال أنه حصل على هذه المعلومة من مسئول في أجهزة الاستخبارات الإيرانية ، مضيفا أن المزودي تلقى تدريبا طوال ثلاثة أشهر في أحد المعسكرات الإيرانية للقاعدة في 1997 ، ولكن مجلة دير شبيجل الألمانية واسعة الانتشار ذكرت أن ادعاءات الجاسوس لا تبدو ذات مصداقية ..
وهذا النفي لا يمنع بطبيعة الحال أن السياسة الإيرانية الاستخباراتية تتمتع بدرجة عالية من البراجماتية التي تسمح لها بمحاولة التنسيق مع الحركات الجهادية السنية عن طريق عرض وتقديم خدمات الإيواء والعبور مستغلة في ذلك الحدود الطويلة لها مع أفغانستان والعراق ، وهذه الخدمات - إن قُدمت - تكون بمثابة عملية استدراج واستغلال للحصار والتضييق بغرض جمع المعلومات والأوراق وأحيانا الأشخاص لاستخدامهم في المساومات مع الولايات المتحدة ، ومن المعروف أن إيران كان لها دور كبير في إثراء الجانب المعلوماتي للمخابرات الأمريكية فيما يتعلق بالحركات الجهادية في أفغانستان والعراق ..
وفي جميع الأحوال تبقى حقيقة الغفلة أو التغافل الغربي عن التصنيف الصحيح والدقيق للحركات الإسلامية والفروقات بينها ، وقد يعتقد البعض أن امتلاك أجهزة المخابرات الأمريكية لقدرة هائلة على جمع وفرز المعلومات يعني في المقابل امتلاك نفس المستوى من القدرة في مجال التحليل ، ويذكر أحد الإسلاميين الذي كان يعمل في المجال الإعلامي في أمريكا اعتقل لمدة تقرب العام ، ويحكي عن تجربته في التحقيق أن عملاء الإف بي آي كانوا مترددين في تصنيفه لدرجة مدهشة ، بحيث أنهم اعتبروه في البداية سلفيا ، ثم صوفيا ، ثم جهاديا ، ثم من الإخوان المسلمين ، وأطلقوا سراحه في النهاية دون أن يستقروا على تصنيف معين ..(/2)
بناء الفريق الفعال في العمل الدعوي
________________________________________
إن الأخوة الإيمانية هى الركيزة الأساسية لبناء أي فريق فعال فى العمل الدعوي ، وعلى قدر الإخلاص فى عبادة "الإخوة فى الله" بين الدعاة الى الله يكون التوفيق والنجاح فى بناء الفرق الدعوية الفاعلة.
يقول محمد أحمد الراشد:
"ما برح مقدار إدراك معنى الاخوة يميز ويفاضل بين الدعاة .ولن يرتقى داعية إلى أوج الوعي إلا إذا اعتبر إبراز خلق الأخوة الإيمانية وتعليم موازين الإخاء هدفاً أساسياً من بين أهداف الدعوة الإسلامية وإلا إذا أدرك إن إحلال هذا الخلق في التعامل الواقعي بين المسلمين ،وتجسيده فى صورة جماعة عمل متآخية يُخول الدعوة إدعاء النجاح ويمنحها لوحدهُ مبرر الوجود حتى ولو لم تصب سرعة التأثير ،أو صد عنها جمهور سذج الناس صدوداً." العوائق ص27.
لذا أحببت أن أضع بين يدي القارىء الكريم وبالأخص" الدعاة الى الله" ، تعريف الفريق الفعال فى العمل الدعوى واهمية بناءه والوسائل المعينة لنجاح بناءه والأدوار المهمة فى بناءه .
ما هو الفريق الفعال؟
الفريق الفعال: هو الوسيلة التي تمكن الدعاة الى الله من العمل الجماعى كوحدة متجانسة لتحقيق هدف دعوى معين أو إنجاز مهمة دعوية واضحة.
أهمية بناء الفريق الفعال:
1. ... خلق جو ممتع في العمل الدعوى على الرغم من كثرة الأعباء الدعوية.
2. ... إنتاجية الدعاة الى الله تزيد حول تحقيق أهداف العمل الدعوي.
3. ... يتم الاستفادة من طاقات الدعاة بشكل صحيح والتوصل الى فهم واضح لدور كل داعية فى الفريق.
4. ... مواجهة التحديات التي يمر بها العمل الدعوى بقوة وصلابة وروح إيجابية.
5. ... إحساس الدعاة الى الله بأهمية اعتماد بعضهم على بعض وإن كل واحد منهم يسد نقص الأخر.
الوسائل المعينة لبناء فريق فعال:
1. ... إخلاص النية لله عزوجل والتجرد من هوى النفس من حب شهرة وغيرها.
2. ... تحديد هدف الدعاة الى الله فى هذا العمل الدعوي وتحديد مهمة كل داعية.
3. ... معرفة إمكانيات الدعاة الى الله فى الفريق والعمل على تطويرها.
4. ... إيجاد حلقات اتصال مكثفة بين الدعاة فى الفريق وأن يحرص كل داعية على العلاقة الأخوية بينه وبين أعضاء الفريق بـ { دوام السؤال والاتصال – قضاء حوائج الإخوان – الدعاء بظهر الغيب – طلعات أخوية – برامج إيمانية -….الخ}.
5. ... الحرص على الصفاء القلبي في حالة اختلاف الرأي وان لا يستدرجنا ذلك إلى ترك العمل أو العمل ضد بعضنا البعض.
6. ... التنسيق بين الدعاة فى أداء المهمات الدعوية (( قائد الفريق غالباً ما يلعب هذا الدور)).
7. ... التقدير لجهود أعضاء الفريق خلال كل مرحلة.
الأدوار المهمة فى الفريق الفعال:
1. ... القائد: هو الذي يتمتع بروح الفريق والقادر على الانسجام مع أعضاء الفريق وهو الذي يتحمل الاختلاف وينصت الى غيره ويحاول فهمهم ،وهو الذي يعدل من مواقفه إذا ماإقتنع بالحاجة لذلك ويسارع الى الاعتراف بأخطائه ، هو امرؤ واسع الأفق ،لا يتعامل مع الناس على إنهم قوالب ثابتة . ذو همة عاليه وقدرة على مواجهة التحديات ( بكل ذلك وغيره يستطيع إدارة الفريق نحو الهدف)) ومها كان مستوى نبوغ القائد أو براعته فإنه يحتاج مساعدة غيره لتقديم أقصى ما عنده.
2. ... المبادر: هو الذي يقدم أفكار وأساليب وطرق مختلفة لتطوير العمل ،أو المبادرة الى تولى المسؤوليات الأكثر صعوبة التى لا يقبل عليها معظم الدعاة لأسباب مختلفة .
3. ... المحرك – المشجع: يعمل على تحفيز الدعاة فى الفريق ويبعث النشاط فيهم لتحقيق الإنجازات، فيثنى على الجهود جامعاً بين الحث والتشجيع.
4. ... الموفق –المنسق: يسعى الى توضيح العلاقة بين الأفكار والمقترحات التى يتقدم بها الدعاة في الفريق ،ويقوم بإزالة سوء الفهم الذي قد يحث بين الأخوة فى العمل، ويقوم بصياغة منظومة متكاملة ومترابطة بين الأفكار والمقترحات.
5. ... الناقد البناء: يقوم بتقويم النتائج التى توصل إليها الفريق بنزاهة وموضوعية مع الاستدراك والتعديل بأسلوب تشجيعي يساعد على استدرار مزيداً من الأفكار.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلىاله وصحبه وسلم.
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
بناء مناهج التعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
الأستاذ أنور الجندي
تدرس جامعاتنا ومدارسنا وكلياتنا في العالم العربي كله وفي العالم الإسلامي الأوسع، دراسات الطب والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الفيزيائية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، دون أن تشير بحرف واحد إلى الخخلفية التاريخية الإسلامية المصدر، أو إلى المراحل التي قطعها الفكر الإسلامي في بناء هذه العلوم وتنميتها، فلا يعرف الشباب العربي والمسلم أن أجدادهم كان لهم دور خطير في بناء هذه المناهج والعلوم، ودون أن يعرفوا وجهة نظر الفكر الإسلامي والثقافة الغربية في مختلف هذه العلوم والدراسات.
وكل ما يدرس في الجامعات ليس في الحق إلا نظريات الفكر الغربي التي تشكلت منذ أوائل عصر النهضة الأدبي في مختلف تطوراتها بين المناهج الرأسمالية والمناهج الاشتراكية، ولا تمثل تلك الدراسات في الحق إلا تاريخاً لمراحل تطور هذه النظريات وهذه الفلسفات وجوانب نقصها والإضافات التي تجددت عليها، وأوجه الصراع بين العصور والفلاسفة وبين المذاهب المختلفة المتعارضة... وهذا كله إنما يمثل تاريخ أوربا والغرب ونظريات أوربا والغرب التي لم يشارك العالم الإسلامي ولا الأمة العربية فيها، والتي حين تقدم إلينا الآن لتكون مادة الدراسة في جامعاتنا إنما تكشف عن عزلة واختلاف واضح بين مجتمع ومجتمع، وفكر وفطر، وعصر وعصر، وتشكيل نفسي وذاتي ووجداني متباين جد التباين.
الفكر الإسلامي أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث:
وليس هناك اعتراض على أن ندرس النظريات والمذاهب والأنظمة العالمية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس والتربية، ولكن:
يجب أن تكون هناك ثلاث مقدمات واضحة في نفس الشباب العربي المثقف.
أولاً: أن هذه وجهات نظر وليست قوانين مسلمة.
ثانياً: إنها وجهات نظر الغرب عن تجارب نبعت من محيطه ومجتمعه.
ثالثاً: إن لفكرنا العربي الإسلامي "وجهات نظر" في مختلف هذه القضايا قد تختلف عن وجهة نظر الفكر الغربي.
رابعاً: إن الفكر الإسلامي قد قدم لهذه المناهج جميعاً "أوليات" وإضافات بناءة حية.
فإذا استوى أمام المثقف العربي الفهم العميق واليقين الأكيد من أن فكر أمته قد ساهم في هذا الفكر الأوربي الذي فرض نفسه على كل ثقافات البلاد التي خضعت للثقافات الغربية فإن من شأن ذلك أن يمنحه شيئاً كبيراً من الثقة والإحساس على أنه قادر في مرحلة قريبة أن يدرس – إى جانب وجهة نظر الغرب في مختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية – وجهة نظر فكرة العربي الإسلامي الذي يستمد مقوماته أساساً من رصيد الأمة العربية ومن القرآن الكريم ومن الإسلام، وإنه قد استوى للمسلمين والعرب منذ وقت بعيد منهج فكر ومنهج حياة يختلف إلى حد بعيد وفي مسائل أساسية وجذرية مع الفكر الغربي.
ولعل أبرز ما يقدم في هذا المجال هو القول بأن الحلول الجذرية لمعضلات العصر وأزمة الحضارة والمجتمع الحديث: هذه الحلول يقدمها (الفكر الإسلامي) على نحو جامع بين المثالية والواقعية، وقي مقدمة ذلك قضية القضايا وهي ما تختلف فيها الأيديولوجيات الماركسية والغربية.
قضية الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد:
وأنه قد وضع منذ خمسة عشر عاماً قاعدة بناءة في هذا المجال حين ربط بين الفرد والمجتمع وجعل المجتمع في خدمة الفرد، والفرد في خدمة المجتمع.
وفي قضايا: التفرقة العنصرية، والعدل الاجتماعي والإخاء الإنساني والوحدة وتقارب القوميات وضع الفكر الإسلامي – مستمداً من القرآن – قواعد ونظماً ما تزال البشرية في أشد الحاجة إلى التعرف عليها.
فإذا استعرضنا مثلاً: دراسات الطب والعلوم الفيزيائية فإن دور العرب والمسلمين بالغ الأثر، فالمسلمون هم الذين وضعوا أساس (أساس الالمنهج العلمي التجريبي) بعد أن تخلصوا من الفلسفة النظرية اليونانية، وإنهم صححوا نظريات الإغريق في الفلك والبحار ورفضوا السحر والخرافة وأقاموا بناءً علمياً في هذه المجالات وخاصة في مجال الطب، وفرقوا بين الفلسفة الرياضية والطبيعية، وأتاحوا لها فرصة النماء، بينما عارضوا (الفلسفة الإلهية) التي تتعارض مع مفاهيمهم في التوحيد والنبوة، وأنشأوا فلسفة مؤمنة تدور في فلك الإيمان بالله تبارك وتعالى بعيداً عن شطحات الإلحاد ومغريات الإباحة.
والفكر الإسلامي له قوانينه الخاصة ونظمه المتميزة في مجال العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلم النفس بما ثدمه الماوردي والفارابي وابن خلدون والبيروني والغزالي وابن سينا: هذه الآراء والمفاهيم التي صهرها فلاسفة الغرب في علومهم ودراساتهم وصاغوها صياغة جديدة فعزلوها عن مصادرها الإسلامية المرتبطة بالتوحيد. (نقبل فكر ابن سيما والفارابي العلمي والطبي ونرفض فكرهما الفلسفي).
وفي مجال الثقة والتشريع والقانون كان للفكر الإسلامي القدح المعلي في نظريات ما تزال حتى الآن بكراً وما تزال مناراً يهتدى به.(/1)
وإذا قلنا أن الفكر الإسلامي قد أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث في مختلف مجالاته لم نكن مبالغين ولا نكون قد عدونا الحقيقة. نحن لا ننكر فضل العاملين الذين طوروا النظريات وأضافوا إليها ولكننا يجب أن لا ننسى فضل الرائدين الأول وهم المسلمون.
ففي علم التربية والنفس: كانت كتابات ابن سينا والغزالي والماوردي تمثل الخطوط العامة الأساسية التي ما تزال هي القاعدة العامة للنظريات التربوية الحديثة والأصول التي قدمها ابن خلدون ما تزال أساس علوم العمران (أي الحضارة) والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وعلى شبابنا أن يذكر دوماً أن رجال فكرة العربي الإسلامي هم الرواد في هذه المجالات وأن (الماوردي) أول من نادى بفكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفرد وحقوق الجماعة من غير تضحية أحدهما لحساب الآخر، كما تحدث عن الحافز الفردي وليذكروا أن (البيروني) قدم أهم نظرية اقتاصدية عن الإدخار واكتناز الأموال وإنفاقها، وعالج قضية كنز الأموال وعدم تركها للتداول. وبين الخطر الذي يترتب على ذلك. وقال أن الحركة من ضرورات الحياة فإذا وقفت الحركة حدثت أزمة اقتصادية هائلة.
وسبق (الغزالي): ديكارت وغيره بنحو ست قرون إلى القول بأن الشكوك هي الموصلة للحق، "فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال".
وأن الغزالي سبق هربرت سبنسر أيضاً إلى تصوير الدولة أو المدينة بجسم الإنسان وقد شبه الغزالي الملك بالقلب، وأصحاب المهن الحرة بأعضاء الجسم والشرطة بعصب الإنسان والوزراء بحسن الإدراك والقضاة بالشعور.
وعرف العلماء المسلمون: بإخلاص العلم لله تبارك وتعالى. وتمحيص مادة البحث، وكراهية التعصب وبذل الجهد المحرر من المؤثرات في الأحكام والاحتياط أمام التاريخ القديم المأثور.
ويجب أن يكون في "مقدمة المناهج": إن العلماء العرب والمسلمين قد صححوا أخطاء علماء اليونان أمثال: بطليموس في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار ثابتة وقال (ابن الهيثم): إن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير وصدق العلم الحديث رأيه.
وابن الهيثم هو الذي سبق بيكون في الطريقة الاستقرائية وسما عليه، وقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس وقدم الاستقراء على القياس. وحدد الشرط الأساسي في البحث العلمي وهو "طلب الحقيقة" دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أياً كانت دخل في الأملا، ويقول: ونجعل غرضنا في جميع ما نستقر به ونتصفحه استعمال العجل لا إتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق إلا الميل مع الآراء.
ولنذكر أن (ابن القيم) أضاف في الشريعة والفقه نظريات عرفتها الدوائر القانونية في أوربا وقدرتها: من أمثال حرية النعاقد ومنع الحيل في الأحكام وإحياء أعمل الفضولي المحسن، والمحافظة على أموال الغرماء.
ولا يزال تاريخ العلم يذكر تلك الميزة الواضحة لمفهوم العلم في الفكر الإسلامي وهي اتحاد الدين والعلم وفي ذلك يقول هورتن: المستشرق الألماني في كتابه "استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية":
"كان العرب في القرون الوسطى تقريباً إلى سنة 1500 م أساتذة أوربا، وإن ما نشأ من ظن الأوربيين من أن الإسلام لا يتمشى مع المدنية إنما جاء من عدم إلمامهم بحقيقة هذا الدين وعدم تعميقهم به، وفي الإسلام نجد اتحاد الدين والعلوم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما ونجد فيه كيف أن الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرين معاً ومتجاورتين كتفاً لكتف دونة نزاع".
ولنذكر أن فلاسفتنا وعلماءنا لم يتقبلوا الفكر اليوناني حين ترجم إليهم تقبلاً تلقائياً، ولكنهم نظروا إليه في تحفظ ونقد، وخالفوا أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من النظريات والآراء فلم يتقيدوا بها بل أخذوا ما يتفق مع منهج التوحيد وصححوا ما لم يكن صحيحاً بالتجربة، وتركوا آثارهم وبصماتهم وطابعهم على مجاري الفكر الحديث.
لمناهج التعليم والثقافة مقدمات لابد منها:(/2)
في مواجهة هذا التحدي الذي يقوده الغزو الثقافي الذي يحاول اليوم أن يسيطر على الأمة العربية والفكر الإسلامي نجدنا في حاجة إلى أ؟ن نتعرف على حقائق واضحة تختفي اليوم وراء المناهج التعليمية والثقافية التي تقوم بتدريسها الجامعات في العالم الإسلامي كله على نحو يحس معه الشباب بأن ما يقدم له في هذه الميادين وخاصة في ميادين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون، إن هذا الذي يقدم إنما هو منص ياغة الفكر الغربي وحده، فإذا توسع في ذلك شيئاً قليلاً فإنما هو مستمد من الفكر اليوناني والروماني السابق على الفكر الغربي، والمنفصل عنه بأكثر من ألف عام وحيث لا يذكر ولو على سبيل الاستعراض التاريخي أن الفكر الإسلامي كان له دوره وأثره الواضح والعميق في صياغة هذه المفاهيم والآراء والنظريات والمذاهب التي يزخر بها الفكر البشري اليوم سواء في نطاقه الديمقراطي أو الاشتراكي على السواء. لذلك فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على هذه الحدود الواضحة والعلامات الصريحة لفكرنا العربي الإسلامي الذي يبدو أنها ضاعت أو أوشكت على الضياع في غمار التطورات والتحولات المستمرة التي تعتري الفكر والتي تتزايد على الدوام، بحيث تكاد تعزق تلك الجذور الأصيلة التي قدمها الفكر الإسلامي إلى الإنسانية وإلى الفكر البشري منذ بزوغ الإسلام والتي كانت باليقين بعيدة الأثر في تحوله ونموه، وتطوره وإخراجه من الحواجز الوثنية والطبقية الخطيرة، التي كان يعيش فيها ويتحرك من داخلها.
إن من حق شبابنا العربي والإسلامي على مدى العالم الإسلامي وليس في الأمة العربية وحدها أن يعرف وهو يراجع نظريات الاجتماع والسياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون أن فكرة العربي الإسلامي وأن أجداده العرب والمسلمين كان لهم أثر واضح في هذه النظريات. وإن من شأن هذا الفهم أن يزيد شبابنا قوة روحية وعقلية ونفسية تملأ مشاعره بالثقة وتدفع عنه تلك الشبهات الخطيرة والحرب النفسية المثارة عليه والتي تحاول ان تصوره وكأنه متسول لنظريات الغرب، هذه النظريات التي صاغتها العقول الغربية وحدها والتي فرض على العرب والمسلمين أن يأخذوها ليطبقوها في مجتمعاتهم، كأنما ليس لهم مفاهيم وقيم قدموها من قبل للفكر البشري فبنى عليها تلك الآراء والنظريات المستحدثة.
ومن حق شبابنا في هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخ الأمة العربية أن تقدم للمناهج التعليمية والثقافية بمقدمات توضح هذا وتكشف عنه، وأن نقدم أسماء هؤلاء الأعلام وما قدموه من آراء استمدوها أساساً من القرآن الكريم (أبي) المفاهيم والقيم الإنسانية التي أهداها الفكر الإسسلامي للبشرية وكانت قد أهديت إليه عن طريق السماء في الأديان السابقة ولكنها صحفت وأصابها الاضطراب والتحريف وعندنا أن ذلك الفهم سيكون بعيد المدى عقلياً ونفسياً على مجرى الثقافة العربية وعلى التكوين الفكري والروحي لشبابنا، فإذا كنا اليوم قد فتحنا أبواب جامعاتنا لنظريات علمية مختلفة في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون، فإن لنا نظريتنا الإسلامية الكاملة التي قدمها الإسلام للبشرية جميعاً والتي اقتبستها أوربا في أوائل عصر النهضة ففتحت أمامها آفاق التحرر الفكري من قيود الكنيسة وقيود الوثنية وعبادة الفرد، وتبدو بواكير هذا الأثر واضحة في حركة لوثر وكلفن ودعوتهما إلى حرية الفكر وإلغاء الوساطة بين الله والإنسان وحق الإنسان في قراءة الكتاب المقدس وفهمه ومن ذلك تلك الثورات التي قامت لإزالة الصور من الكنائس وإزالة التماثيل.
ولا يقف أمر الإسلام عند هذا الحد وحده بل يتجاوزه إلى إبداع المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة كلها: هذا المنهج أبدعه المسلمون من منطلق القرآن الذي دعاهم إلى النظر في الكون، والذي كان مخالفاً مخالفة أساسية لمنهج اليونان الفلسفي والعلمي جميعاً: ذلك المنهج الذي وقف عند حدود افتراضات النظريات بينما اتجه المفهوم الإسلامي إلى التجربة أساساً، فصحح أخطاء فلاسفة اليونان وحول التنجيم اليوناني إلى علم الفلك بأصوله ومقاييسه واستطاع المسلمون أن يضيفوا إضافات واضحة في بناء الأصول الأولية وفي مقدمتها الأرقام ورقم الصفر بالذات وامتداد ذلك إلى العلوم الطبيعية والكيميائية في مختلف مجالات الطب والفلك والفيزياء.
وقد يقف كثير من الباحثين الغربيين عند هذا الجانب العلمي، معترفين بفضل المسلمين والعرب في هذا المجال، وهو أمر أصبح اليوم ذائعاً وشائعاً، بعد أن أغمضوا عنه الطرف طويلاً، ولكنهم لا يتعدوه إلى أثر الفكر الإسلامي في جالات الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون مع أن يملك أوليات في هذه العلوم وإضافاته التي كانت بعيدة المدى وما تزال آثارها في الفكر العالمي واضحة وضوحاً لا سبيل إلى إنكاره.(/3)
ولقد وقف الفكر الإسلامي موقفاً صريحاً واضحاً من الفلسفة الإلهية اليونانية فرفضها رفضاً صريحاً وأقر إيمانه الأساسي المستمد من "التوحيد" و "النبوة" وبذلك أنشأ فلسفته الذاتية المستقلة استقلالاً كاملاً عن مفاهيم الفلسفة اليونانية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قد اغالت من قبل الديانتين اليهودية والمسيحية فأخضعتهما لها، وغلبت منطق أرسطو عليمها فإنها عجزت عن أن تفعل ذلك بالنسبة للإسلام، ومن الحق أن يقال: إن (الكندي والفارابي وابن سينا) قد قاموا بمحاولات في سبيل نقل منطق أرسطو إلى الفكر الإسلامي بكثير من التحوير لجعله قادراً على التشكل في إطار التوحيد والنبوة ولكنهم عجزوا لأن منطلق منطق أرسطو كان مرتبطاً أساساً بطبيعة الفكر اليوناني النظري، بينما كان الفكر الإسلامي بأصوله وأولوياته (تجريبياً) وإذا كان المفكرون المسلمون قد جروا شوطاً مع الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو فإنما فعلوا ذلك حين اتخذوها سلاحاً لمواجهة المتكلمين بها في مواجهة الأديان الأخرى، غير أن الفكر الإسلامي لم يلبث أن مر بهذه المرحلة سريعاً، وعاد إلى التماس جوهره، وذلك حين قرر منطلقه العلمي في المنهج العلمي التجريبي من ناحية وحين قرر الإمام الغزالي: إن أسلوب القرآن كالماء وأسلوب المتكلمين كالدواء والدواء يحتاج إليه المريض أما الماء فيحتاج إليه السليم والمريض، وأن أسلوب المتكلمين أسلوب ضرورة، ولكن أسلوب القرآن هو أسلوب الحياة الطبيعية الدائمة المستمرة. وحين نقرر مفهوم (المعرفة الإسلامي) وله جناحاه: العقلي والوجداني لا انفصال بينهما لا يستعلي أحدهما ولا ينفرد وحده. وحين كشف العلماء عن (منطق القرآن) الذي هو منطق المسلمين بديلاً لمنطق أرسطو واليونان فقد نجا الفكر الإسلامي من سيطرة الفلسفة اليونانية الوثنية واستطاع الإسلام أن يحتفظ بقيمه الأساسية ومفاهيمه الأصيلة.
هذا كله قدمه الفكر الإسلامي للفكر البشري فحرره من قيوده ونقله نقلة واسعة من الاتجاه النظري إلى الاتجاه التجريبي ومن الوثنية إلى الربانية.
وشيء آخر قدمه الفكر الإسلامي وكان بعيد الأثر في الحضارة وإعلاء المفهوم الإنساني: ذلك هو دعوة "المساواة والإخاء بين البشر": الأسود والأبيض والعرب والعجم، وكان في ذلك قضاء على نظرية روما القائمة على الفصل بين السادة والعبيد، وفق قاعدة "روما سادة وما حولها عبيد" وعلى منطلق جمهورية أفلاطون الذي فرض للسادة التأمل والحكم وللعبيد العمل والعبودية والذل.
ومن مفهوم الإسلام نشأت كل مذاهب المساواة والعدل الاجتماعي والحرية.
والقرآن هو أول كتاب على وجه الأرض كشف عن النواميس الطبيعية والقوانين الثابتة، والتي تحكم المجتمعات والوجود كله، ومنه كان منطلق علوم الاجتماع.
ولم تكن النظرية التي قدمها ابن خلدون فبنى عليها العلماء قواعد الفلسفة الاجتماعية إلا مستمدة أساساً من القرآن. والقانون الفرنسي الذي كان مصدراً لقوانين كثير من بلاد العرب في العصر الحديث مستمد من فقه الإمام مالك وهو أحد مذاهب الشريعة الإسلامية، هذا إلى عشرات النظريات القانونية المستحدثة إنما استمدها الباحثون من فقهاء الإسلام.
ويمكن القول بصفة عامة – أن الإسلام قدم للفكر البشري شحنة ضخمة من القيم الإنسانية العالمية التي كانت بعيدة الأثر في تطور الفكر الغربي وتحوله من جذوره الإغريقية الرومانية الوثنية تتمثل هذه الشحبة في الربط بين العقائد والمعاملات والأخلاق في إطار الإسلام، حيث لا انفصال بين الدين والحياة, أو بين الجسم والروح كما ربط الإسلام بين العلم والعمل، وحيث أطلق الإسلام العقل الإنساني من قيود التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى مستوى الاعتقد بحياة وراء هذه الحياة وخلص البشرية من الوثنية كما رفض الفكر الإسلامي تجسيد البطولة ورأى أن تقدير البطولة يكون بالرأي والفكر والاقتداء.
وليس في الإسلام خطيئة أصلية وإن كل إمرئ رهين بما يفعل كما كرم الإسلام كل الأديان وكل الأنبياء، وأقر عجز العقل وحده عن الوصول إلى الصواب وجعل بين الوجدان والعقل ترابطاً من الإيمان بالغيب أساساً لا تجاوز عنه كما رفض التقليد والتبعية سواء للماضي القديم أو للوافد من أي مكان.
ويمكن القول عن يقين أن الثورة الفرنسية في مفاهيمها ومبادئها أنما كانت تستمد جوهرها من الفكر الإسلامي، فقد قامت على أثر الدفعة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في العقل الغربي وتؤكد ذلك العبارات التي جاءت على ألسنة رجال الثورة الفرنسية أنفسهم والذين كانوا قد طالعوا ثمرات الإسلام في الحكم والشورى والعدل والمساواة.
وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي هما أوائل العلماء المسلمين العرب الذين تنبهوا إلى أثر الفكر الإسلامي في الفكر الغربي الحديث في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وأشاروا إلى ذلك في أبحاثهم.(/4)
كل هذه المقدمات بتفاصيلها يجب أن تكون في مقدمة دراسات العلوم، ولاشك أن ذلك يكون بعيد الأثر في النفس العربية، حافزاً لها على الثقة والإيمان والمقاومة فاليقين، لقد كان الفكر الإسلامي وكان العرب والمسلمون من أجدادنا هم صناع النظريات العقلية والعلمية التي دفعت الفكر الإسلامي هذه الدفعة الكبرى نحو النهضة والحضارة ونحن اليوم أحق الناس ونحن ندرس هذه العلوم المستحدثة والنظريات الغربية أن نعرف مصادرها وأولوياتها ودورنا في بنائها.
لابد من تحرير المناهج وتأصيلها:
عملان هامان في مجال المناهج التعليمية والتربوية والثقافية: (أولاً): إضافة تلك الصفحات التي هي بمثابة الخلفيات والأصول والمقدمات التي سبقت الصورة القائمة في الدراسات فليس همناك علم من هذه العلوم التي ندرسها الآن في مدارسنا أو جامعاتنا إلا كان للمسلمين والعرب فيه دور وجهد وعمل هو بمثابة المقدمات التي مهدت للعلماء المعاصرين في وضع هذه العلوم في الصورة القائمة اليوم (ثانياً): تأصيل المناهج المطروحة في أفق التعليم والثقافة الإسلاميتين العربيتين وتحريرهما من الانحرافات والأخطاء وما يتصل بوجهات نظر الغرب إليها أو لما تأثر به نتيجة لمفاهيمه الدينية أو لغلبة الفكر الوثني والمادي عليه في هذه المناهج، فإن مناهج التاريخ والشريعة والاقتصاد والسياسة والتربية يجب أن تحرر من هذه الشبهات وهذه الأخطاء وهذه التبعية لتعود مرة أخرى إلى أصالتها واستمدادها من المبالغ الأصيلة التي قامت عليها في الأساس فإذا لم يقم المسلمون بهذين العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق لهم نهضة أو تقوم لهم عقلاً، أو تزكي لهم نفساً أو تدعم لهم مجتمعاً أو تبني هذه الأجيال لتكون قوة قادرة على مواجهة الأخطار والتحديات. وإذا لم نقم بإضافة هذه الصفحات الناقصة، وتعديل تلك الصفحات المنحرفة فإن المسلمين سيظلون يدورون في تلك الدائرة الصماء المظلمة المغلقة التي حبسهم فيها النفوذ الأجنبي ليظلوا عاجزين عن التحرر والقوة وامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم على قواعد "الأصالة الإسلامية".(/5)
بنائية الإسلام
16-3-2006
بقلم عمر مناصرية
"...ونقصد بالبنائية ، المنهجية التي انتظم وفقها الإسلام في تنزله على الأرض ، وانبنائه في النفوس ، والتي لابد حكمت هذا التنزل والانبناء منذ لحظاته الأولى ، ورافقته في كل أطواره ، حتى اكتمل في شكله النهائي .
..."
عندما ننظر إلى الإسلام كدين عظيم ، لابد أن تثيرنا تساؤلات عديدة عن سبب قدرته وميزته التي خلدته كدين خاتم على الأرض ، وجعلته قويا إلى هذا الحد ، مستعصيا على كل محاولات الهدم والضرب ، قديما وحديثا ، ولابد كذلك أن السبب لا يعود إلى المسلمين ، أو إلى قوتهم أو ضعفهم ، إذ الإسلام منتشر في حالات قوتهم كما في حالات ضعفهم ، خاصة وأن القرآن ربط المسلمين بالإسلام وليس العكس ، كما نجد ذلك في كثير من سور القرآن وآياته ، من مثل ما نجده في سورة التوبة ، حيث يقول الله عز وجل :{إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ، ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} . فمشروع الإسلام ماض بهم أو بغيرهم .
لذا فالبحث عن أسباب القوة في الإسلام ، يحيل بالضرورة إلى دراسة بنائيته ، والعلاقات بين عناصره ، وشكل هده العلاقات ونمطها ، وطريقة تنظمها ، وليس بالعودة إلى واقع المسلمين دائما . وهذا من شأنه أن يقلب المسألة من البحث في أسباب ضعف المسلمين اليوم ، إلى البحث عن أسباب القوة في الإسلام ...
ونقصد بالبنائية ، المنهجية التي انتظم وفقها الإسلام في تنزله على الأرض ، وانبنائه في النفوس ، والتي لابد حكمت هذا التنزل والانبناء منذ لحظاته الأولى ، ورافقته في كل أطواره ، حتى اكتمل في شكله النهائي .
و أهم ما يمكن ملاحظته على هذه البنائية ، هو أنها تحكمها ثلاث مبادئ أساسية ، هي :
1- البناء من الكل إلى الجزء : حيث يتم البناء في الإسلام دائما من الكل إلى الجزء ، ومن الأصل إلى الفرع حتى يكتمل ، فهو يبدأ كأصل واحد ، أوكفكرة كلية ، هي فكرة الوحدانية التي تأخذ في النمو والتشكل في اعتقادات وعبادات ومعاملات وأركان وسنن ، إلى أن تصل إلى الممارسات ذات الطابع الدقيق ، المرتبطة بأدق التفاصيل في الحياة ، كالآداب العامة المتعلقة بالضرورات البسيطة للمسلم ، في أكله وشربه ونومه ولباسه وغير ذلك ، كما يشير إلى ذلك الحديث النبوي الشريف : "الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .
وهذا البناء مماثل لما يحدث في الطبيعة ، حيث كل شيء فيها ينبني من الكل إلى الجزء ، ومن الأصل إلى الفرع ، وأبسط مثال على ذلك ، هو النمو الشجري للنبات والأشجار ، حيث نجد أن كل الأشجار لها بنائية واحدة ، تمتد من الأصل الكبير ، إلى الغصن ، إلى الفرع ، انتهاء بالأوراق التي إذا لاحظناها وجدنا أنها تتبع نفس النمط من النمو والتشكل .
ونجد ذلك أيضا لدى الحيوان والإنسان ، حيث تتدفق عملية البناء وفق النمط السابق ، سواء في بنائهما الداخلي أو الخارجي . فمن الداخل تتم عملية البناء من الهيكل العام ، إلى الأجهزة ، إلى الأعضاء المتكونة بدورها من عناصر أبسط منها ، حتى الوصول إلى الكائنات الدقيقة وهي الخلايا ، ومن حيث الشكل الخارجي نجد أن كل كائن حي يتكون من كتلة أساسية هي الجذع، ومن أطراف وفروع أصغر وأبسط كلما امتدت الملاحظة إلى الخارج .
وهذه الكتلة الأساسية هي التي تعمل على ضم المكونات الأخرى إليها ، بينما تمنحها الأطراف والمكونات الصغرى القدرة على التعامل والحركة والتفاعل مع البيئة الخارجية ، مما يسمح للكائن الحي ككل بأداء وظيفته على أحسن وجه.
لكن قد يثور تساؤل مهم ، وهو أن ما يحدث في الطبيعة حقا ، معاكس لهذا الوصف ، إذ أن كل شيء يبدأ خلية ، ثم يأخذ في التمظهر والتشكل في تنظيمات أكبر وأوسع ، حتى ينتهي البناء الحي ويكتمل .
والحقيقة أن هذا يتعلق بمادة البناء التي هي الخلية ، ولا يتعلق بمنهج البناء وطريقته التي تتم من الكل إلى الجزء . فمادة البناء هي الخلية في كل كائن حي، إلا أن ما يعطي شكل الكائن وبنائيته هو هذه المنهجية المحكمة ، التي تعني الوعي والقصد من الكائن ، ولولا ذلك ، لما اتخذ أي كائن أي شكل مطلقا ، ولصارت الكائنات عبارة عن أشكال مائعة ، غير ذات وحدة أو شكل يمنحها الصلابة والقوة .
إن هذه المنهجية هي التي تعطي القوة للإسلام ولغيره من الكائنات الحية أو الفكرية ، حيث لولاها ، لما كانت قادرة على الحفاظ على وحدتها البيولوجية أو الفكرية، ولما كانت قادرة على أداء دورها الوظيفي في الحياة .
وبالنظر إلى الإسلام وفق هذا الأساس يمكننا أن نفهم الكثير من الأمور ، خاصة إذا تعمقنا فيها ، فنفهم لماذا جاء بأركان أساسية ، كالصلاة والزكاة والصوم ، ولماذا فرضت في وقت معين دون آخر ، أو لماذا اتسمت المرحلة المكية ببناء الأصل أوالكل ، وهو البناء العقدي ، أو لماذا تنضاف السنة دائما إلى الفرض .(/1)
2- المبدأ الثاني الذي يميز بنائية الإسلام ، يكمن في العلاقات الأفقية التي تربط بين عناصره وأركانه ومكوناته ، حيث ترتبط دائما بروابط قوية فيما بينها ، تجعل من المتعذر الإتيان بركن معين دون آخر ، أو الاكتفاء بعبادة دون أخرى ، مما يحتم على المسلم أن يأخذ الإسلام ككل متكامل ، ولا يكتفي بشعيرة واحدة فقط كالصلاة دون الزكاة ، أو الحج دون الصوم ، وهذا ما يعطي للإسلام قوة أخرى في نفوس المسلمين ، لأن الروابط بين أجزائه وثيقة الصلة ، ويستعصي فضها بسهولة .
ونجد أن هذا الارتباط ، يمضي عميقا في سائر أجزاء النظام ، حتى لا نجد مكونا من مكوناته ، أو ركنا من أركانه إلا ويحتوي على المكونات الأخرى ، أو بعضا منها على الأقل ، مما يربط المسلم نهائيا بالإسلام ، ويجعله محتوى فيه ، متفاعلا معه بصورة دائمة .
3- المبدأ الثالث هو مبدأ التقويم : ففي الإسلام يمكن تصحيح الأوضاع إذا اختلت، ويمكن لكل شخص إذا أخطا أن يصحح مساره، ويعدل منه ، وفق مفهوم التوبة الذي أرساه الإسلام ، وجعله من خصائصه الأساسية والمهمة . وهذا المبدأ يعطي للإسلام ميزة مهمة جدا ، وهي المرونة التي تمكنه من تصحيح الأوضاع وتعديلها ، كما يتضمن هذا المبدأ أيضا ، مبدأ الاجتهاد والفتوى التي تدخل في هذا الإطار أيضا ، بما أنها تحاول تعديل أوضاع النظام حتى يتوافق مع الطوارئ والحوادث الجديدة ، وهو ما فصلته أصول الفقه ، ومكنت له من القيام بوظيفته خير قيام . وعلى هذا يمكننا هنا، ضمن خاصية التقويم أن نميز بين نوعين من التقويم في الإسلام ، هما :
أ) التوبة ، التي تعني تصحيح أوضاع المسلم حتى تتوافق مع الإسلام، وتكون متماشية مع مبادئه، مهما أخطأ أو ارتكب من السيئات ، بشرط واحد فقط ، وهو أن لا تصل هذه السيئات والأخطاء إلى الحد الذي يهدم الأصل أو الكلية التي قام على أساسها النظام كله ، لأن ذلك يعني الخروج من النظام برمته .
ب) الاجتهاد والفتوى ، التي تعني تصحيح أوضاع النظام ، وتعديلها وفق شروط معينة ، حتى تتوافق مع الظروف والوقائع الجديدة المتطورة ، ويقتضي ذلك فهم القواعد والأسس التي بني عليها النظام كله، حتى يتم تعميمها على حالات مشابهة ، تنشأ نتيجة تطور الحياة ، وتسارع العصر ، كما يقتضي أن تكون للمجتهد القدرة على تعطيل بعض الأحكام أو تفعيلها بما يتماشى ومصلحة الإسلام والمسلمين ، كما فعل عمر بن الخطاب في كثير من اجتهاداته وتعديلاته .
وخلاصة القول ، أن الإسلام ببنائيته هذه ، التي تعتمد على منهجية البناء من الكل إلى الجزء ، والارتباط الوثيق بين مكوناته وأركانه ، ومبدأ التقويم والتصحيح ، استطاع أن يرسي نظاما محكما ، يصعب حله بسهولة ، وهو يقف في وجه كل المحاولات التي تريد هدمه ، وتعمل لأجل ذلك ليل نهار .(/2)
بوابة النصر الانتصار على النفس 26/7/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21). ويأتي مصداق هذه الآية تمكين يوسف بعد محن عظام، فكيف مكن ليوسف في الأرض؟ يأتي هذا السؤال، وأمتنا تعيش هذه الظروف الصعبة من تسلط الأعداء، ومن ظلم الظالمين، حتى بلغ اليأس مبلغه في نفوس كثير من المسلمين. فيأتي التساؤل، هل لهذه الأزمة من مخرج؟ هل لهذا البلاء من نهاية؟ هل يمكن أن ينتصر الدعاة، تنتصر المؤسسات، رغم ما يحاك لها؟ ورغم واقعها! ولماذا فشلت كثير من المؤسسات والدعوات في هذا العصر.
لماذا؟ لأنها أخلت بأركان الانتصار.
إن هناك عوامل التزمها يوسف عليه السلام فظهر وانتصر، وما التزم بها فرد أو جماعة أو أمة إلا انتصرت. الانتصار العاجل والانتصار الآجل. وسأقف مع أبرز هذه العوامل والأسباب التي كانت ظاهرة في سورة يوسف.
إن أول انتصار حققه يوسف عليه السلام، هو انتصاره على نفسه. ومن لا ينتصر على نفسه لن ينتصر على غيره، فالمهزوم من هزمته نفسه قبل أن يهزمه عدوه. إن بداية انتصار يوسف عليه السلام هي انتصاره على نفسه. عندما تفاجأ إخوانه، بأن الذي أمامهم هو عزيز مصر، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف:88) (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ) (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)(يوسف: من الآية91)، فانتصر يوسف عليه السلام على نفسه عندما انتصر، وانتصر لأنه انتصر على نفسه فلم يحمل حقداً جراء ما حصل، وبعض الناس يعميه الحقد أو الحسد فتغلي نفسه يقوم ويقعد ولاهم له إلاّ النيل ممن أخطأ في حقه فيخطئ بذلك درب المعالي وعزم الأمور وينشغل بالسفاسف والقضايا الشخصية وبنيات الطريق (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور).
ومن مظاهر انتصار يوسف عليه السلام على نفسه قصته مع امرأة العزيز، فقد انتصر فيها انتصارات متعددة، (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، فانتصر على نفسه في مراودة امرأة العزيز له، ويبين هذا الانتصار قوله صلى الله عليه وسلم، في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" [متفق عليه]. فقوله إني أخاف الله انتصار عظيم. يوسف عليه السلام قال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون). وذلك انتصار وأي انتصار على النفس في هذه المعركة الشرسة ومع من! مع امرأة العزيز.
ثم بعد ذلك انتصر يوسف على نفسه ولسانه بعفة منطقه العجيبة! أتريد أن تعرف عظم هذا الانتصار؟ قسه بمقداره تمكنك من سيطرتك على لسانك. وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمسك عليك لسانك. قال له الصحابي الجليل أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ قال له ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ [رواه الحاكم وصححه].
لقد رأيت عجباً في سيرة يوسف عليه السلام من عفة منطقه ولسانه؛ مع إخوانه، ومع العزيز، ومع امرأة العزيز. عفة ندركها عندما نرى ضعف الآخرين في سيطرتهم على ألسنتهم. وإليك بعض الأمثلة التي تدل على عفته وانتصاره على لسانه بينما عجز كثير عن ذلك:
لما أرسل له الملك يطلب منه الخروج من السجن في المرحلة الأولى، قال للرسول: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن). أين العفة؟ لم يقل له ارجع إلى ربك فاسأله عن امرأة العزيز التي راودتني، لم ينطق بها. قال: (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)، من أجل ألا يحرجها، وألا يحرج النسوة، وألا يحرج زوج المرأة. هذه عفة وتعبير عن المراد بأسلوب عجيب.(/1)
انتصر على نفسه عندما جاءه إخوانه وقالوا له في قصتهم مع أخيه، قالوا: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل). هذه القضية تهمة اتهم بها يوسف وهو منها بريء عليه السلام، وذلك عندما كان صغيرا. وقد ذكر المفسرون أقوالا لعله يتأتى المرور عليها في حينها إن شاء الله. والآن وهو عزيز مصر، وهم لا يعلمون أنه يوسف، وبعدما فعلوا به ما فعلوا، وهو يدرك أن كل ما مر به من محن في تاريخه بسببهم؛ من بعد عن أبيه، ومن رمي في البئر، ومن سجن، في قصة امرأة العزيز، ومرة أخرى يكررون تهمة باطلة. ماذا فعل؟ هل ضربهم؟ هل سجنهم؟ هل رد عليهم أمام الملأ؟ لا .. (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ )(يوسف: من الآية77)، (قال أنتم شر مكانا). فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم. وأي انتصار على النفس هذا الانتصار!
ومن انتصاره على نفسه أيضا وهو تبع لهذا الموضوع، الدقة العجيبة في التعبير عما يريد دون أن يقع في الكذب إطلاقا. وكل منا يحاسب نفسه وينظر مدى قدرته على حفظ لسانه وإبعاده عن الزور. لما قال له إخوانه ولم يعلموا أنه يوسف، (أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين). ماذا قال؟ قال: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده). لم يقل معاذ الله أن نأخذ إلا من سرق. وإنما قال: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)، لأن أخاه لم يسرق، وهو يعرف أن أخاه لم يسرق. فكيف يعبر بتعبير يتخلص من مطلبهم دون أن يقول كلمة زور واحدة، بل قال الحقيقة: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. وهم قد وجدوا متاعهم عند بنيامين حقاً، لكنه لم يسرق، وهذا التعبير دقيق، انتصار على النفس والشيطان والهوى، وأعظم ما يكون عندما يكون من رجل في السلطة يستطيع أن ينفذ ما يريد ويقول ما يشاء، وقد لا يحاسبه أحد في الدنيا، ومع ذلك يحاسب يوسف عليه السلام نفسه قبل أن يحاسبه الناس.
ومن انتصار عليه السلام على نفسه، عفوه عن إخوانه. هل تريد، أن تعرف مقدار هذا الانتصار؟ لنتأمل أحوالنا، قد يسيء إلينا بعض الناس، إساءات قد نكون سببا فيها، أو قد نشارك في نسبة من سبب تلك الإساءة، ومع ذلك نعجز عن العفو أو الصفح! بل أعجب من هذا إذا عفونا أو صفحنا أتبعنا ذلك بالإساءة لهم عن طريق المن عليهم، بعفونا عنهم! مع أن ما يمر بنا قد لا يعادل جزءا يسيرا مما حصل ليوسف عليه السلام، ابتداء من أول القصة إلى هذه المرحلة. فماذا كانت النتيجة وكيف كان تصرفه؟ (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين). (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). دون تأنيب ودون عذل ودون سجن. تسامح، وصفح، وعفو..
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحوهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
إنه الانتصار على النفس، إذا هذه المسائل بمجموعها تدل على أن يوسف عليه السلام انتصر على نفسه،فولج بوابة الانتصار.
نسأل الله أن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا لأحسن الأفعال والأخلاق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/2)
بوابة النصر
رئيسي :تربية :الأربعاء 8 شعبان 1425هـ - 22 سبتمبر 2004 م
الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار، أما بعد،،،
في ظلام الليل الذي يعقبه نور الصباح.. وفي نزول القطر بعد إقفار الأرض.. وفي أحوال كثيرات..وبما في تضاعيف التأريخ المُشْرِق لهذه الأمة من بواعث النصر، ومُحْييات التمكين؛ نزداد يقيناً، واقتناعاً بما في أُفق الدنيا من لوائح المبشرات، وحينها ؛ نعم في ذلك الحين ينبثق نور بوابة النصر..فَيَلِجُ منها من ذاق مرارة السطوة الظالمة، ويدخل منها من تفطرت كبده قهراً على تكالب سُرَّاق المشاعر، فإلى أولئك أقول: عليكم بما في ثنايا الموضوع فإنها أعمدة تلك البوابة، وعليكم باغتنام سويعات النصر فإن الفجر لاح، وحذار من مُغْلِقَاتِ البوابة فهي كثيرة محبوبة .
أولاً: أعمدة النصر:
1- الإيمان بالله والنصر: قال تعالى:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم]. وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[51]}[سورة غافر].
في هاتين الآيتين قضى الله أن نصره وتأييده إنما هولعباده المؤمنين.. نعم؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تحلي العباد بالإيمان بالله برهان كبير على أنهم هم المنصورون، وأنهم هم الجند الغالبون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات].
وكما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]}[سورة المائدة].
فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل؛ كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، وقاصر عن التمام؛ فإن النصر لهم بحسب ذلك .
وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان والتوحيد؛ نجد أن أغلبها راجع إلى الإيمان قوة وضعفاً:
فهذا يوم الفرقان، يوم بدر: نصر الله عباده المؤمنين نصرًا أصبح شجى في حلوق المشركين زماناً، وكان من أعمدة النصر في تلك الغزاة أن قَوِيَتْ قلوب المؤمنين إيماناً بالله تعالى.
وفي التأريخ المشرق لهذه الأمة المنصورة، والمُخَلَّدَة إلى قيام الساعة صورٌ كثيرة جداً لوقائع نصر مبين للمؤمنين .
فهذا عمود من أعمدة النصر على الأمة أن تأتي به إن كانت تطمح بالنصر، وترمق بعين الشوق إلى التمكين في الأرض، أما إن كانت تريد نصراً بلا إيمان فما هي وطالب السمك في الصحراء إلا سواء .
إن الله أخبرنا بأنه حافظ دينه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وأخبر أن البقاء لدينه فقال:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف]. وهل نور الله تعالى إلا الإيمان والدين، ونصرته له نصرة لعباده القائمين بهذا الدين، والمُتَحَلِّيْنَ بهذا الإيمان . فلا مجال حينئذٍ لمداهمة اليأس قلوبَ الصالحين، بل الدربُ مستنير، وواضح لا يعمى إلا على عُمْيِ القلوب والأبصار .
فالله تعالى وَعَدَ ووعْدُهُ حق وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء، وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء وكماله، وهوقريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد .
فما هوإلا الصبر القليل، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، وأساس ذاك كله اليقين بموعود الله، والحذر من تسرُّب الشك في موعوده .
2- العبودية لله والنصر:
قال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]}[سورة الصافات]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. ففي هذا النص القرآني عمود من أعمدة النصر، الذي يَمُنُّ به الرب على من تعبَّد له حق التعبُّد. واَلْحَظْ بتمعُّنٍ وتدبر:{ لِعِبَادِنَا} و{ عِبَادِيَ} تجد في ثناياها خالص التجرد بالعبودية لله، فلما جردوا التعبد لله وأخلصوه له؛ فلم يجعلوا في قلوبهم ميلاً-و لو قليلاً- لغيره أثابهم منه فتحاً ونصراً وتمكيناً .(/1)
ولذا نرى أن الأمة قد يَتَخَلَّفُ عنها النصر بسبب تعلُّقها بغير الله، وهذا من صُوَر صرف التعبُّد لغير الله، فلا عجبَ أن تخلَّف النصر عنّا، وحلَّت الهزيمة بنا، فما استنكف أحد عن التذلل لله، واتبع نفسَه ذليلة غير الله إلا زاده الله وهناً وخسارة .
وللعبودية في ساعات الشدة أثر بالغ في قرب الفرج، وبُدُو أمارات النصر:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فزَعَ إلى الصلاة، وجعل خير العبادة ما كان في زمن الهَرْجِ.
وحاله يوم بدر أكبر شاهد على ذلك؛ فقد جأر بالدعاء، واشتدَّ تضرُّعُه لربه وتذلله بين يديه، سائله أن يُعَجِّلَ بنصره الذي وَعَدَه إياه .
وهذه هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله، وبدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله؛ فهيهات أن ينصر من أعرض عن دينه، ولم يتبع هداه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبع ما أجلب به الكفار من حياة قِوَامُها على الرذيلة، والمعصية، بل ترك الشريعة كلها .
فعمود النصر التجرد لله بالعبودية؛ التي هي: تمام الذل له، وكمال المحبة له، ومنتهى الانقياد والاستسلام لدينه وشرعه. فمتى قامت الأمة بالتعبُّد لله والتذلل بين يديه؛ أضاء لها نور النصر واضحًا جليًا، تبصره قلوب الصالحين من أولياء الله العابدين، وتعمى عنه بل تُحرَمُه قلوب وأبصار من تعبَّد لغير الله . وكلما كان تعبُّد الأمة لله أتم كان نصر الله لها أكمل وأقرب .
3- نُصْرَةُ الله والنصر: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ...[7]}[سورة محمد]. نصر الله حليفُ قومٍ ينصرون الله ودينه، ويرفعون راية شريعته شامخة في أُفقِ العلياء .
أما من يخذل شريعته حين ضعفها؛ فليس له من نصر الله شيء. وما انتصر من انتصر من الصالحين إلا بسبب ما قاموا به من نصرةٍ لدين الله وشريعته . فمن قام ناصراً بلده، أو قومه، أو مبدأه ومذهبه المخالف لدين الله؛ فهو مخذول .
ومن قام ناصراً- ولو وَحْدَه-ُ دين الله؛ فهو المنصور لا غيره، وهو المؤيد لا سواه، وهو الموعود بالتمكين .
فلتقم الأمةُ الطالبةُ نَصْرَ الله بنصرة دين الله، وإعلائه على الأديان كما أعلاه الله، حتى تنال موعود الله لها بالنصر، والتمكين في الأرض .
ومن نُصْرَة الله تعالى:
1- تحقيق الولاء والبراء.. فلا مداهنة في دين الله، ومحاباة لمخلوق أيَّاً كان، فدين الله فَرَّقَ بين المسلم والكافر، ولو كانا في القرابة بالمكان الذي لا يفرَّق بينهما فيه .
2- تطهير الأرض من المنكرات والموبقات ؛ التي ما فتيء أصحابها يجاهرون بها مطلع النهار ومغربه، ويحاربون الله ليل نهار.
3- القيام حمايةً لدين الله من أن يَمَسَّه دَنِيٌّ بسوء، أو أن يَقْصِدَه سافل بنقيصة .
4- حراسة محارم الله وحفظها من أن يتعرَّض لها من سلبه الله العفاف والحشمة .
فمن قام بنُصْرَة الله ودينه؛ حَظِيَ بالنصر من الله، وظَفِرَ بالغلبة على عدوِّه .
4- النصر من الله تعالى: قال تعالى:{...وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...[13]}[سورة آل عمران]. وقال:{...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[126]}[سورة آل عمران]. وقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150] }[سورة آل عمران]. وقال:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]}[سورة آل عمران].
فالنصر مِنْ الله ، وهو المانُّ به على عباده المؤمنين، فلا قُدُرَاتِهم، ولا عُدَدِهم جالبة لهم نصراً على عدوهم، ولا اعتداد بكل أسلحة المؤمنين إذا لم يُرِد الله لهم نصراً على عدوهم .
فلو كان النصر آتياً بقوى العباد؛ لما غلب المسلمون الضعفاء ظاهرًا أُمَمَ الكفر التي ملكت من آلات القتال ما الله به عليم . فمتى رجيَ المؤمنون النصر من غير الله فيا خيبتهم، ويا شؤم حالهم .
وحين ترى أحوال المسلمين في المعارك التي انهزموا بها ترى أن من أهم الأسباب: تعلُّقُ النفوس في طلب النصر بغير الله، ولنعتبر بغزوة حنين، فإن الهزيمة التي حصلت لهم إنما هي بسبب اغترارهم بقوة أنفسهم حيث قالوا:'لن نغلب اليوم من قِلَّة'.
قال ابن القيِّم رحمه الله في سرَدِه الفوائدَ المأخوذةَ من تلك الغزوة:'واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعُددهم، وقوة شوكتهم، …، وليبيِّن سبحانه لمن قال:'لن نغلب اليوم من قلَّة' أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين'[زاد المعاد [ 3/477]].(/2)
وهذا الذي حصل إنما هو من طائفة عُمِرَتْ قلوبهم بالتوكل على الله، والتعلُّق به، لكن لما انصرف القلب انصرافاً قليلاً عن الله؛ عُوقبوا بما ذكر الله بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...[25]}[سورة التوبة]. فكيف الحال بمن بعدهم ممن انصرفت قلوبهم لغير الله انصرافًا كُلِّيًا، والله المستعان؟!
ثانيًا:مبشرات النصر:
1- البشارة بظهور الدين: قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. وقال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ]رواه أحمد.
فهذه نصوص قاطعة بأن الغالب هو دين الله، والواعد بذلك هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يخلف الميعاد؛ فكيف إذا كان الميعاد نَصْر دينه، فمهما طال مُقامُ الكافر، ومهما استطال شرُّه وضرُّه، ومهما كِيْدَ بالمسلمين، ومهما نُّكِّلَ بهم؛ فإن الغلبة لدين الله، وَعْدَاً من الله حقاً وصدقاً.. وهذا سيحدث لا محالة، فلا نستعجلَّنَّ الأمور، ولا نسابق الأحداث .
2- الطائفة الظاهرة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ]رواه البخاري ومسلم. فهذه الطائفة قائمة إلى قيام الساعة، والنصرة لهم، والتأييد الإلهي معهم، وهذه الفرقة المنصورة من بواعث الأمل في نصرة الدين، ومن بشائر الرفعة لدين الله، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنها دائمة وموجودة إلى قيام الساعة .
ولكنه ضعف اليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلُّق القلوب بالماديَّات والظواهر، وأساس ذلك كله ضعف الإيمان بالغيبيات التي هي أصل الإيمان.
فهل يجوز بعد هذا أن ييأس المسلمون من اكتناف نصر الله تعالى لعباده المؤمنين؟! وهل يجوز أن تُعَظَّمَ قوة الكفر وجبروته؟! وهل يجوز لنا أن نتخاذل عن البذل لدين الله.. ولو بأقلِّ القليل؟! وهل يجوز أن نعتقد خطأً أن هذه الطائفة لن تقوم، أو أنها قامت ولن تعود؟! أسئلة تفتقر إلى أجوبة فعلية لا قولية .
3- الوعد الإلهي الحق: قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. وهذا الوعد قد تحقق في زمانه صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق بعده حتى قيام الساعة،
فمتى توافرت الأوصاف التي ذكرها الله في هذه الآية في قوم؛ كانوا أحق بالتمكين من غيرهم مهما كانوا .
فحتى نظفر بالتمكين من الله لنعقد العزم على تطبيق شريعته في أحوال الناس اليومية، والسياسية، والاجتماعية .
عندها سننال النصر من الله بكل تأكيد ويقين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
4- المدينتان المُنْتَظَرَتان: قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي.(/3)
ومما يزيد في البشارة أن هذه المدينة قد فتحت على يد السلطان محمد الفاتح العثماني التركماني ؛ ولكن ليس هو الفتح المذكور في الأحاديث؛ لأن الفتح الذي في الأحاديث يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بيسير. [انظر: اتحاف الجماعة للتويجري [ 1/404 ]].
ولفتح القسطنطينية الفتح الحق علامة واردة في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، معروفة مشهورة، وهي :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ- ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ- يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-]رواه أبوداود وأحمد.
فإذا كان أن الفتح الذي حصل على يد محمد الفاتح ليس هوالفتح الوارد في الحديث فإنا لعلى يقين بقرب فتحين عظيمين لمدينتين كبيرتين، وهذا قريب، ووَعْدُ الله نافذ، ومُتحقق بإذنه تعالى .
5- المعركة الفاصلة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ]رواه البخاري ومسلم. وهذه المعركة هي الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهي التي يُظْهِر فيها الله عباده المؤمنين، وينصرهم على اليهود بعدما ذاقوا منهم الأذى والنكال . ولم تأتِ بعد هذه المعركة وإنا على انتظارها، وهي آتيةٌ لا محالة إن شاء الله .
6-محمد المنتظر: مما ثبت في السنة، واعتقده السلف الصالح، ودانوا لله به: ثبوت المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا]رواه مسلم.
وأخباره متواترة تواتراً لا يعتريه شك .
وفي خروجه يكثر الخير، قال ابن كثير رحمه الله:'في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم' [النهاية في الفتن والملاحم [1/31 ]].
فهذا المهدي [ محمد بن عبد الله ] المنتظر لم يخرج بعدُ، وبخروجه يقوم الدين، ويرتفع الحق، ويخمد الباطل، وتتبدد كل قوة علت من قوى الباطل، وكل ما هو آت قريب، فصبر جميل.
ثالثًا:ساعات النصر:
1- اليأس والنصر: قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف]. فهذه صورة يَحِلُّ فيها اليأس على قلب العبد، ويُخَيِّم القنوط على نفوس الصالحين،
وإنها لصورة من أشد الصور، وأخطرها على نفوس المسلمين، فالنصر ينزل على العباد 'عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه'[تفسير ابن كثير [ 2/497 ]]. و'إنها لساعة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمرُّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا القليل، وتكرُّ الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عُدَّتِهم القليلة، وقوتهم الضئيلة'[ في ظلال القرآن [ 4/2035].
وإنا والله لنفرح بمثل هذه الساعة-لا لذاتها معاذ الله- ولكن لما فيها من بشائر النصر القريب، وأمارات ظهور الفجر الواعد ..نعم.. إنها ساعة فيها يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلَّق بها الناس، وسنة الله أن في مثل هذه الظروف التي يفقد المؤمنون فيها صبرهم، وتتكالب عليهم الشدائد من كل حَدْبٍ وصوب، وينالهم من أهل الشر والباطل كل أذى وسُخرية من ضعف قوتهم، وهوانهم على الناس؛ يلمح المؤمنون نور النصر يلوح، وشمسه تشرق في تمام الوضوح، فيزول عن القلب ما خَيَّمَ عليه من حُجُب وشوائب، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم فيها تبيان لهذا.. فاعتبرها .(/4)
2- المظلوم والنصر: الظلم شيمة من ابتلاه الله بالكبر والغطرسة، ومن هذا شأنه كان حريَّاً بأن يناله من الله عقاب لتقرَّ عين المظلوم بنكاية الله بالظالم، ونكاله به، فجعل الله دعوة المظلوم تسلك طريقها في السماء، وتكفل الله بنصرها ولو بعد حين، ووَعْدُ الله حق، وهذه بشارة عُظمى، إن نصر الله قريب، هذا كله في عموم الناس المسلم والكافر، فكيف إذا كان المظلوم أمة مسلمة لله، والظالم لها كافر لا يؤمن بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، فأقول إن الأمر غاية في اليقين أن نصر الله قريب جداً .
وهذه ساعة من أهم ساعات الانتصار والغلبة أن يتمكن العدو من المسلمين، ويتحزبون عليهم من كل جانب من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم..{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39]}[سورة الحج]. فما على المؤمنين حال تلك الساعة إلا الجأر بالدعاء، والابتهال والتضرع بين يدي الله أن يُعجِّل بنصرهم، وأن يَخْذِل عدوَّهم[ ويُحِلَّ عليهم غضبه وسخطه..وموعود الله قريب للمظلوم، والويل للظالم من عقاب الله .
رابعًا:حُجُبُ النَّصْرِ:
1-حجاب الكفر:قال الله:{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[56]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...[12]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[44]سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[45]}[سورة القمر]. هذه آيات أنزلها الله في كتابه قضى فيها أن الكفر لن يغلب الإسلام مهما كانت له من القوى، ومهما ملك من العُدَد والعَدَد، ولقد صدق الله وَعْدَه، فنصر عبده، وأعز جُنْدَه، وهزم الأحزاب وَحْدَه.. فمهما قامت حروب ومعارك بين المسلمين والكفار؛ فإن الغالب هم المسلمون، والهزيمة لاحقة بالكفار ؛ وعد صادق من الله.. الكافرون سينفقون ما لديهم من أموال ورجال في حروب طاحنة مع المسلمين، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغْلَبُوْن على أيدي المسلمين .
وإن انتصر الكفار على المسلمين فهو نصر مؤقَّتٌ لا يدوم؛ وهيهات له أن يدوم، والله قد كتب الغلبة لدينه ورسله وأوليائه الصالحين، والله لا يؤيد بنصره أُمة قامت على كفر به، وصد عن سبيله .
2- حجاب الظلم:قال تعالى:{...وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[270]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ[8]}[سورة الشورى]. نعم ؛ إن الله لا ينصر الظالم على المظلوم بل اقتضت حكمته أنه ينصر المظلوم على الظالم مهما كان المظلوم والظالم .
وما أكثر الظلم في المسلمين؛ والذي بسببه حُرِمْنا النصر على أعدائنا، فالظلم يمنع النصر كما في هذه الآيات وكما في حديث دعوة المظلوم وأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والله تعالى قد وعد بأنه سينصرها ولوبعد حين .
فمتى طُهِّرَت الأمة من الظلم بجميع أنواعه وصوره؛ فإن نصر الله آتٍ، ووعده متحقق سواء في ذلك قرب الزمن أو بعده .
3- حجاب النفاق: قال الله تعالى:{...إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء]. بيَّن الله في هذه الآية أن نصرَه محرومٌ منه كل منافق دخيل في صفوف المسلمين، بل محروم منه كل من قرَّب المنافقين وأنالهم منه مكاناً مرموقاً، وجاهاً رفيعاً..إن النفاق ما وُجِدَ في قوم إلا أحلَّهم دار البوار، ومنعهم الخير والنصر، وما وُجِدَ المنافقون في أرض إلا مَكَّنُوا منها العدو على المسلمين، وأذلُّوا الصالحين من عباد الله.
فإذا ما طهُرَت الأرض، وسَلِمَت الأمة من هؤلاء 'المتلونين' استحقت النصر من الله على عدوها، وكان لها الظفر بالعدو.
وما مُنِعَ المسلمون النصر يوماً قط إلا بسبب ما كان منهم من تقريب لهؤلاء المنافقين، وحبٍّ لهم، ومجالسة معهم، وتمام وُدٍّ لهم.. إن النفاق في هذه الأزمان قد طال ريشه بين المسلمين، ودام مُقامُه بينهم، ونال أهلُه من المسلمين كل ما يريدونه، بل نال الصالحين المُبيِّنين حالهم وضلالهم الأذى منهم ومن أسيادهم. وحين تلتفت الأمة إلى هؤلاء المجرمين، وتبدأ بهم، وتنكِّل بهم؛ تنعم بعد ذلك بنصر من الله مؤزَّرٌ، وبإيفاء الله وعده لهم .
خاتمة البوابة:
في ختام الولوج من هذه البوابة العريقة..وفي نهاية المرور بها..آمل أن أكون قد وُفِّقْتُ بوضع النقاط على حروفها، وأن أكون قد بعثت ما مات من آمالٍ كبار في نفوس قومي، وأسأل الله تعالى أن يُحيي ما مات من آمالنا، وأن ينصر دينه، وكتابه، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعباده الله الصالحين .
من رسالة:'بوابة النصر' للشيخ/ عبد الله بن سليمان العبد الله(/5)
بواكير الثمار
د. صفاء الضوي العدوي 16/8/1426
20/09/2005
لا تزال أشجارنا - بحمد الله – تثمر، وتمدّنا بأطيب الثمار، ولا تزال بساتيننا حافلة بالأشجار الطيبة، كما لا تزال أرضنا الطيبة وفيرة بالبساتين .
روى ابن ماجة من حديث أبي عنبة الخولاني - وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته" رواه ابن ماجه في سننه - المقدمة رقم الحديث (8) وحسّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه )والمعنى أن قدر الله ماض في إبقاء عصابة مؤمنة مهتدية تنافح عن الدين وتظهر أحكامه، وتشيع هديه، وتصبر على ما يصيبها بسبب تمسكها بالحق، ودعوتها إلى الخير .
وما الصحوة الإسلامية الممتدة في أرجاء العالم اليوم إلا صورة واضحة لهذا الغرس الرباني الطيب، وما منافحتهم عن الدين، وثباتهم على الحق رغم ما يتعرضون له من ظلم واضطهاد على أيدي الطغاة إلا نفاذ لقدر الله تعالى وإرادته في أن يهدي بعض عباده، ويوفقهم للخير، ويستعملهم في طاعته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم .
تفكرت في هذا الحديث، وأرخيت العنان للأمل الذي يشعّ منه لينساب إلى أعماقي، وتذكرت حديثاً دار قريباً بيني وبين صديق لي صالح عاقل، أحبه في الله، وألقاه على فترات متباعدة، وكان حديثنا حول الأولاد وهموم تربيتهم، وما يختلج في النفس من قلق على مستقبل الدعوة في أيديهم بسبب ما نراه من ضعف هممهم وقلة خبرتهم، وصغر اهتماماتهم، ونزوعهم الكبير للهو واللعب، وما يحتاجون إليه منا من جهد كبير لمتابعة التعهّد لما يحفظونه من القرآن الكريم، والحرص على الاستفادة التامة من الوقت، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الديانة والتعفف والعقل والطموح، وما نؤمله فيهم من النبوغ، وما نذهب إليه مما هو أبعد من ذلك من استيفاء صفات القيادة إلى آخر ما في قائمة الآمال والمطامح الكبيرة التي تنطوي عليها نفس الوالد الداعية العطوف تجاه ولده .
قال صاحبي: يسيطر علينا –أحياناً- طيف من الإحباط حين نوازن بين ما كان عليه شباب المسلمين في العصور الأولى للأمة المسلمة، وما عليه أبناؤنا نحن الدعاة فضلاً عن غيرهم من أبناء المسلمين، إننا نظن أننا قدمنا لأبنائنا كل شيء نقدر عليه، فولدي الذي عمره خمسة عشر عاماً قد أتم حفظ القرآن قبل سنتين، وليس في البيت تلفاز يفسد علينا ما نبذله معهم من تربية، وهو متفوق في دراسته، ولديه قدْر لا بأس به من الثقافة والفضائل، بيد أني أشفق دائماً على مستقبل العمل الإسلامي، وهو يُسلّم لأبنائنا، ولمّا يتوفر لهم القدر الكافي من التربية التي تناسب ما ينتظرهم من تحديات كبيرة ومهامّ جِسام .
وأضاف: إنني أقدر أثر البيئة التي ينشأ فيها أبناؤنا، وأدرك التباين الهائل بين البيئة الإسلامية الصافية التي كانت، وبيئاتنا الملوثة بكل أنواع السموم التي تضر بالأخلاق والعقل والصحة النفسية للطفل، بل بالفطرة ذاتها .
على أنه ينبغي ألا نستسلم لدواعي الإحباط، بل علينا أن نغذي الأمل في صلاحهم بثقتنا في الله الذي لا يضيع عنده جهد المخلصين من عباده، وأن نتفرّس في مخايل الأبناء أمارات الصلاح والعقل، فإننا سنجد - بفضل الله تعالى – الكثير من الخير، وستنقشع عن نفوسنا هموم المخاوف، وتشرق بعدها الآمال العراض، ونحس بأفراح الروح .
ثم ابتسم صاحبي، وحكى لي قصة ذات دلالة تربوية حصلت له مع ولده، قال: سبقني ولدي بالخروج من المسجد، وانتظرني عند الباب، وحين خرجت طلب مني بصوت خفيض شيئاً من "الفلوس"، فأعطيته فمال بها ووضعها أمام امرأة أو فتاة كانت تجلس أمام المسجد متلففة في ثيابها، ثم مشينا عائدين إلى البيت، وعنّ لي أن أسأله عن سبب اهتمامه بإعطاء تلك الفتاة شيئاً من المال، فقال: رأيتها وأنا آت إلى المسجد، وقد وقفت أمام المقهى، وسألت ثلاثة من الشبان كانوا يدخنون "الشيشة"، فأعطاها كل واحد منهم شيئاً، ثم إنها جاءت وجلست أمام المسجد، وحين خرجتُ من المسجد في أول الخارجين لم أجد أحداً من المصلين أعطاها شيئاً، فقدّرت أن يجول في نفسها أن أهل المقهى أعطوني، والمصلين أهملوني، ولم يعطني أحد منهم شيئاً، قال ولدي: فخشيت عليها من هذا الخاطر، فبادرت بإعطائها لأقطع على الشيطان كيده بها، هذا وجه، والآخر أني غِرت على أهل الصلاة أن يتقاصروا في الفضائل عن أهل الغفلة، ولو في نفس تلك المسكينة المجهولة .
قال صاحبي: لا أدري كيف أصف لك سعادتي بما سمعته من ولدي، لقد بدّد من نفسي الكثير من تلك المخاوف، لقد أينعت ثمار التربية، وهذه من بواكيرها، وشعرت أن المستقبل سيكون بإذن الله أفضل، وأيقنت أن الله لا يضيع أجر المحسنين .(/1)
إن الهم بأمر الدعوة، والتفاعل الوجداني مع قضاياها معيار دقيق للصدق مع الله، ومقياس صحيح لأثر التربية المنشودة، إن علينا نحن الآباء حين نحس من أبنائنا ببوادر هذا التفاعل الوجداني أن نزودهم بالدروس المستفادة من التجارب، وأن نقف بهم قريباً من خطوط الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن نحكي لهم مما كان وما هو كائن من القصص الحق في طبيعة الطريق إلى الله، طريق الدعوة والجهاد، وأن نبين لهم أنه طريق شاقّ، لكنه طريق لا يمضي فيه إلا الكرام الأوفياء لدينهم؛ الصادقون مع ربهم، وأن هذا الطريق ينتهي بأصحابه إلى الجنة حيث النعيم والتكريم .
إنه لابد لهذا الطريق من زاد، وأول هذا الزاد الإيمان الراسخ في جذور النفس، الإيمان بالله الواحد الصمد الذي لا يستحق أحد سواه أن يُعبد، فله وحده يكون الخضوع، وإليه وحده تكون الإنابة والذل، ولشرعه وأحكامه يكون التسليم التام والإذعان .
إن علينا ونحن نربي أبناءنا أن تكون أول شجرة نغرسها في قلوبهم هي شجرة التوحيد المباركة التي هي أساس الاستقامة والصلاح والفلاح، إن هذه الشجرة الطيبة إذا ضربت جذورها في أعماق النفس أينعت لنا ثمار الإيمان الزكية من صدق وبذل وعلم وثبات وإقدام وتضحية وصبر وعفاف وجود وسائر الفضائل التي اشتمل عليها الإيمان، وتمثلت في أرفع معانيها وأكملها وأزكاها وأشرفها في نفس نبينا المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ثم في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم .
إن في سيرة النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- النموذج الحي الواقعي لحركة الإيمان والتوحيد على الأرض، إنه لابد لأبنائنا أن يعيشوا أحداث هذه السيرة العطرة، ويقف بهم المربي وقفةً يقظةً متأنيةً عند كل حدث من أحداث السيرة، فهنا حلمه وصبره، وهنا صدقه وثباته، وهنا جوده وكرمه، وهنا إقدامه وشجاعته، وهنا عزمه وحزمه، وهنا قيامه وتلاوته، وهنا صيامه وزهده، وهنا سلامة صدره لأصحابه، وحسن ظنه بهم، وهنا فراسة ونباهة، وهنا صفح وعفو، وهنا تقييم دقيق للموقف وحزم، هنا يبتسم ويحنو، وهنا يغضب ويعاقب صلوات ربي وسلامه عليه .
إنها التربية بالسيرة النبوية، ولن تجد لمثلها تربية، إنك حين تقول لولدك: خذ بُنيّ هذا الفصل من السيرة فاقرأه، إنها غزوة من غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عدد المشركين فيها أضعاف عدد المسلمين، لكن المسلمين انتصروا، قف بُني عند معاني التوكل على الله، والثقة الكبيرة في نصر الله وتأييده، وصدق اللّجأ إليه سبحانه وقت الشدة، قف بني عند حب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرسولهم الكريم وتفديتهم إياه بأنفسهم، ماذا يعني قول هذا الصحابي حين طُعن طعنة الموت: فزت ورب الكعبة؟ وماذا يعني قول الله تعالى: ( تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون)، هل أدركت معنى ضراعة النبي -صلى الله وسلم- وشدة مناشدته لربه قبل المعركة .
إن الولد سيدرك قطعاً بعد معايشته أحداث هذه الغزوة بعقل واعٍ، وحسٍ يقظ، وقلب حي معاني ما كانت لتُدرك وتستقر في أعماقه وتشكل سلوكه وتؤسس مشاعره لو أنها قُدمت له نصائح نظرية مجردة، إنه بعد هذه المعايشة سيوقن أن النصر من عند الله وحده، وأن الأمر كله بيده سبحانه، وأنه المعز المذلّ، وأنه القادر على كل شيء، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه سبحانه وليّ الصالحين، وعندها ستمتلىء نفسه بالإيمان، وتُفعم بالحب لله المنعم، وبالرهبة والرغبة والخوف والخشية والتعظيم له سبحانه، وتنصاع لأمره راضية خاشعة .
إن قراءته الواعية للغزوة بعقله وفؤاده ستفتح له آفاقاً واسعة من العلم والفهم، وتعينه على إدراك عميق لمعاني عظيمة، منها أنها ستقدم له أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة إيمانية عملية، سيرى جهادهم وإخلاصهم وحبهم للشهادة، وحقارة الدنيا كلها في أعينهم، وعظم أمر الآخرة عندهم، سيرى الإيثار يرفع أقدارهم فيستحي أن تهبط به الأثرة، ويرى الإقدام يشرفهم عند الله وعند المؤمنين، فيأنف أن يزري به الجبن والتخاذل، وسيرى البذل والتضحية والإنفاق في سبيل الله تعالى ينبيء عن إيمان كبير وثقة في الله الرزّاق المنعم، ويقين أنه تبارك اسمه لا يضيع عنده أجر المحسنين، يرى ذلك فيفرِق من أن يكون بخيلاً ممسكاً فتتراخى قبضته عن الدنيا ومعانيها رغبة فيما عند الله .(/2)
إنه حين يقرأ في السيرة النبوية العطرة عن غلامين يتطاولان في الصف فيقفان على صخرة ليبدوا أكبر من سنهما، فيجيزَهما النبي -صلى الله عليه وسلم- في صفوف المجاهدين فيشتركا في المعركة، والمعركة ليست نزهة ولا رحلة للعب، إنها سيوف تبرق، وجراح تنْزف، واستشراف للشهادة والجنة، وإصرار وعزم على نصرة الإسلام ورفع لوائه، إنه سوف يتساءل: ما الذي يدفعهما إلى هذا المرتقى السامق من المكارم والمعالي، ولمّا يزالا في سن الغلمان؟! لابد أن ثمة تربية إيمانية دقيقة مبصرة قد أثمرت هذا الحال العجيب لغلامين مسلمين، فتراه ينشد هذا الحال، ويتعرض لأجوائه .
وسوف يقرأ في السيرة قصة ابني عفراء، وهما يتسابقان فينقضان كالصقور على الطاغية العنيد أبي جهل، يأمل كل منهما أن يفوز بهذا الشرف الكبير، وليكن دون قتله ما يكون، فالنفس لله خالقها، والأجل بيد الله، والموت قدر محتوم، لا يؤخره عن العبد جبنٌ، ولا يعجّل به إقدام، فلا نامت أعين الجبناء، فهاهم أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حولهما في المعركة يطيرون إلى الموت، وينصرون الإسلام، هذا هو الجو الذي فيه يتربون، ويتنفسون هواءه .
إن السيرة النبوية معين لا ينضب للتربية الإسلامية، بيد أن السبيل الأمثل في الاستفادة منها، والتوفر على كنوزها يكمن في المربي الواعي الفطن الموفق في الوقوف بالناشئ المسلم عند كل حدث ليلفت نظره للدرس، ويغرس في أعماق نفسه الفضيلة والإيمان، ويفعم نفسه بحب نبيه المصطفى وأصحابه الكرام، ويضعه على طريق التأسي والاتباع، وبهذا يَكرُم في عين المتربي الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن على منهجهم من العلماء وأئمة الدين وسائر الصالحين ورجالات الإسلام في كل زمان، ولن يجد أهل البدع من أعداء الصحابة سبيلاً إلى عقله، ويرخص الأقزام الذين يتصدرون أمام عينه في زماننا ممن يتنكرون لهذه القيم العظيمة التي تغرسها في نفسه أحداث السيرة العطرة، إنه سيفهم دونما جهد أو عناء معاني الولاء والبراء، وسيجد في ذهنه ووجدانه موازين دقيقة ومعايير صحيحه يحدّد بها من يحب ومن يبغض؛ ومن يوالي ومن يعادي، ستكشف له أضواء السيرة معالم الطريق، وسيعرف معنى الإيمان والكفر والنفاق(/3)
بورك لأمتي في بكورها
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 4/8/1426
08/09/2005
عن صخر بن وداعة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( اللهم بارك لأمتي في بكورها).
قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشا ، بعثهم أول النهار . وكان صخر رجلا تاجرا ، وكان إذا بعث تجارة بعثها أول النهار ، فأثرى وكثر ماله . رواه أبو داود والترمذي .
من مفسدات القلب، المانع من نزول البركة في الرزق، المورث خسارة منافع دنيوية وأجور أخروية، والذي يحرم الإنسان السرور أيامه ولياليه، ويكتب عليه الهم الدائم، والاكتئاب، ومرارة العيش، وضيق النفس، وقلق القلب، وفقدان الشعور بلذة الحياة وجمالها، والذي ينزع البركة من العمر.
والأيام والليالي تمر والحياة سقيمة، يعتورها الملل، تذهب البسمة، ويذهب الفرح، فلا تراه إلا وهو محتار، لا يهنأ بعيش، ولا يفرح بطيش، لا تزول همومه بسفر، ولا في حضر، قد لازمته ملازمة الشمس للنهار، والظلام لليل.
يسأل نفسه لماذا حياتي هكذا ؟!.. وهل كل الناس مثلي ؟!.:
- النوم في أول النهار، وتضييع صلاة الفجر، وما بعده حتى وقت القيلولة.
هو سبب رئيس لكل ذلك.. أكثر الناس ينامون من قبل الفجر، ويمر عليهم الفجر وهم نائمون، ويمر أول النهار وهم نائمون، ويمر وقت الضحى وهم نائمون، إلى الظهيرة وقت القيلولة، حيث يبدأ يومهم ونهارهم ، لينتهي في منتصف الليل وقرب الفجر، ليبدأ ليلهم بعد ذلك، ويستمر إلى وقت الظهر، وهكذا كل يوم..!!.
لا يشعرون بقلوبهم، ونفوسهم، وأبدانهم:كيف أنها تضمحل، وتهزل، وتضعف، ويصيبها الأمراض، الحسية والمعنوية ببطء، ولا يفيقون إلا بعد التبدل مرضا، وضيقا، وقلقا.
إبطال سنة الليل وسنة النهار: مخالفة لسنة الله تعالى في خلقه. فقد جعل الله تعالى الليل لباسا، والنوم سباتا، وجعله سكنا، وجعل النهار معاشا وحركة، وهو الحكيم الخبير، يعلم ما الذي يصلح شأن عباده في الدنيا، فإذا صادم الإنسان سنة الله الكونية، وقلب الساعات قلبا، وخالف طريق السير، وصار بمواجهة السنن، فلا يلومن إلا نفسه.
يقول الله تعالى ممتنا على عباده بنعمة الليل للسكن والنوم، ونعمة النهار للمعاش:
"هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون".
"وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا ".
إن الذي ينام نهاره قد ضيع غنيمتين عظيمتين :
الغنيمة الأولى : واجب الله عليه: صلاة الفجر في جماعة .
والغنيمة الثانية : بركة أول النهار، الوقت الذي تقسم فيه الأرزاق، فيحرم ذلك الرزق الإلهي في يومه؛ لنومه.
فمن ضيع حق الله الواجب عليه، فلا عجب أن يعيش في: قلق، وثبور، ونقصان، وكدر. لما يجده من عقاب الله عليه، لإهماله ما وجب عليه.. أرأيتم إنسانا لا يقوم بوظيفته كما يجب، فيجد توبيخا من صاحب العمل، وربما خصم شيئا من أجرته: ألا يجد ألما في نفسه من التوبيخ، وحرمان الأجرة ؟.
فكيف الذي يضيع حق الله تعالى؟!.
وقد دعى عليه الصلاة والسلام بالبركة، لمن اغتنم هذا الوقت، في أموره عامة، سواء كانت دنيوية أو أخروية:
(بورك لأمتي في بكورها).
فمن ضيعه فقد حرم رزقا كان ينتظره من الله تعالى، لو أنه انطلق في نهاره مستيقظا، متطلعا لفضل الله تعالى، فإذا ضاع عليه ذلك الرزق الإلهي، فهذا من أسباب سخطه وضيق صدره .
وللشيطان سعي في حرمان الإنسان من القيام بواجبه، وتحصيل بركة اليوم، فيزين سهر الليل، بشتى الأعذار، وما أكثرها..!!. حتى تمر الساعات الطويلة ولا ينام، فإذا اقترب وقت الفجر تركه لينام عن الصلاة وعن أول النهار، فلا يستيقظ إلا ظهرا، فيكون مع الشيطان دوما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدث فقال:
( قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل ).
فأمر بالنوم وقت الظهيرة، وعلل ذلك بأن الشياطين لا تنام في ذلك الوقت، فإذا نام الإنسان ذلك الوقت خالفها، وسلم من وسواسها، لكن كيف للنائم نهاره أن ينام القيلولة ؟، وكيف له مخالفتها؟، وكيف يسلم منها ؟!.
* * *
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من صلى الصبح في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له أجر حجة وعمرة: تامة، تامة، تامة ) رواه الترمذي .
إن قضاء الوقت بعد صلاة الفجر حتى طلوع الشمس في الذكر، إحدى الغنائم التي يحصلها ذلك المستيقظ:
فإن له أجر حجة وعمرة تامتين.
وفي بعض الآثار :كعتق أربعة رقاب من ولد إسماعيل.
وفي بعضها يدخل الجنة، ويحرم على النار، ويغفر ذنبه، وإن كان مثل زبد البحر.
كل هذه الأجور وضعت، لتحمل على اغتنام هذا الوقت الفضيل، فهذه من رحمة الله تعالى؛ يدعو عباده إلى ما فيه حظهم وصلاحهم الدنيوي، بترتيب الأجور الأخروية على إجابتهم.
* * *
وقد جرت الإشادة بصلاة الفجر في القرآن والسنة:
(1) أقسم الله بالفجر، فقال:{ والفجر * وليال عشر }؛ يعني صلاة الصبح، ورد عن ابن عباس عند ابن جرير.(/1)
(2) أمر بإقامتها، وذكر شهودها من الملائكة، فقال تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }؛ أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فإن الملائكة تتعاقب على بني آدم، فملائكة تكون بالليل، ثم يحل محلها ملائكة بالنهار، وموعد التعاقب صلاة الفجر وصلاة العصر، ولأن القراءة في الفجر جهرية، فإن الملائكة تشهدها، وإحساس المصلي بها، تشهد مع الصلاة، تحفظه بإذن الله، وتثبته، وتدعو له بالرحمة: يزيد في الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام :
( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) متفق عليه.
ولأجله كان النبي عليه الصلاة والسلام يطيلها أكثر مما يطيل غيرها، فيدخل الصلاة والظلام باق، ولا ينصرف منها، إلا والنور قد ظهر، يصلي ويقرأ قدر مائة آية.
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام ليلة). رواه الترمذي
(2) نافلة الفجر خير من الدنيا وما عليها، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تتركوها ولو طردتكم الخيل ). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدها، ولايتركها، في السفر كان لا يصلي السنن الرواتب إلا سنة الفجر، فلم يكن يتركها أبدا، فإذا كانت ركعتا الفجر - وهي سنة- خير من الدنيا، ورسول الله يتعاهدها، كما يتعاهد الرجل بيته وأهله وأشد، فكيف بالفريضة ذاتها؟. فلا شك أن الفريضة أعظم أجرا وثوابا من السنة.
(5) جاء في بعض الآثار، كما في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للحافظ ابن القيم الجوزية:
أن أوقات أهل الجنة: كوقت الإسفار. وهو الوقت من انتشار النور، حتى قبيل طلوع الشمس.
فهذا الوقت يذكر بالبقاء والدوام في الجنة، وهذا يوجب علينا أن نشهده دائما، فلو قيل:
إن في المكان الفلاني ثمرا من ثمار الجنة، أو بيتا من بيوت الجنة.
فنحن نتسابق للنظر إليه. فالآن قد فهمنا أن وقت الفجر، هو أشبه الأوقات بأوقات الجنة، التي ليس فيها شمس ولا زمهرير، فشهوده يسلي المؤمن، ويذهب عنه الحزن، ويرجيه في دخول الجنة.
* * *
إن صلاة الفجر أول اليوم وبدايته. والبدايات لها أثر كبير على النهايات، فكلما كانت البداية موفقة، كانت النهاية مسددة، وكلما كانت البداية متعثرة، كانت النهاية فاشلة.
فالذي يحافظ على صلاة أول النهار كاملة، من سنتها إلى فريضتها، فإنه يبدأ يومه بداية موفقة، ثم بعد ينطلق في حاجاته الدنيوية والأخروية، فيصادف من التوفيق ما لا يجد مثله، ولا جزءا منه، من نام وفاته صلاة الفجر، فإنه يقوم خبيث النفس كسلان، محروما من النجاح في يومه ذاك.
ثم صلاة العصر، وهي صلاة مقابلة لصلاة الفجر، هذه أول النهار وتلك آخرها، ففيها تجديد العهد بالإيمان والقرب من الله تعالى، وتوديع اليوم الذي لم يبق منه إلا ساعات، فمن ختم يومه بطاعة كما بدأه بطاعة، فهو في ظل التوفيق والإعانة، فإنه يرزق خير الليل، ولا يحرم بركته، فيكون من فرسانه وقوامه، من الساجدين الراكعين، فمن عمل صالحا في نهاره كوفيء في ليله، ومن عمل صالحا في ليله كوفيء في نهاره.
والكلام على العصر، يجر الكلام على فضيلة هذين الوقتين مجتمعين مقترنين:
* * *
الغدو .. والآصال.
إن في اليوم وقتين غنيمتين، أمر الله تعالى المؤمنين بذكره فيهما، كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:
"يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما" .
"واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولاتكن من الغافلين" .
وقد رتب الأجور العظيمة على القيام بهما، فمن ذلك:
(1) من حافظ عليهما في المسجد: دخل الجنة وحرم على النار. قال عليه الصلاة والسلام:
( من صلى البردين دخل الجنة ) متفق عليه. والبردان: الصبح والعصر.
وقال: (لن يلج النار أحد صلى قبل الشمس وقبل غروبها)؛ يعني صلاة الفجر والعصر. رواه مسلم.
والعلة كما حكى العلماء في دليل الفالحين شرح رياض الصالحين:
أن صلاة الفجر في وقت النوم، وصلاة العصر في وقت العمل، فمن ترك نومه لله تعالى، ولم يلهه عمله عن ذكر الله تعالى، فهو حري بأن يدخل الجنة، ويحرم على النار.
(2) رزق أهل الجنة في الجنة، في هذين الوقتين، قال الله تعالى:
" جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ".
فقد جعل الله تعالى رزق المؤمنين في الجنة، في البكرة وهو الصباح، وفي العشي وهو العصر، جزاء لهم لما ثابروا على ذكره في البكرة والعشي، أعطاهم ثوابهم في الوقت الذي ذكروه فيه، قال تعالى:(/2)
"في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب }.
والغدو هو: البكرة. وهو الصباح، والآصال هو: العشي. وهو العصر.
(3) من أعجب الأجور وأحلاها على قلب المؤمن، المحرضة على صلاة الفجر والعصر، ذلك الحديث الذي يبشر من حافظ على هاتين الصلاتين في وقتها، بأنه يرى ربه يوم القيامة، وهذه من أعظم البشارات، ولو لم يكن من فضل المحافظة على صلاتي الفجر والعصر في أوقاتهما إلا رؤية الله تعالى لكفى، وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم، وهو أعلى نعيم على أهل الجنة، وأقسى عذاب أهل النار حجابهم عن رؤية الله تعالى:
قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا ). متفق عليه
* * *
وقد ورد في خصوص صلاة العصر من الفضل، أنها ذكرت في القرآن بالأمر بالحفاظ عليها، فقال تعالى:
"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين".
والصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ورد عن علي وابن عباس وغيره ، فقد أمر الله بالحفاظ عليها خاصة.
والشارع حذر من التهاون في صلاة العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
( من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ) رواه البخاري .
فهذا تهديد شديد، اختلف العلماء في تفسيره، وأهون أقوالهم أنه من باب التغليط، وأشدها أن تارك الصلاة عمدا يكفر، كما ورد عن الإمام أحمد( دليل الفالحين صـ237) . وقوله عليه الصلاة والسلام :
( من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله )؛ أي فقدهم، ففقده لصلاة العصر أشد من فقده لأهله وماله.
* * *
هذان الوقتان زاد المؤمن، يتزود فيهما ليومه وليله من القوت الإيماني، لينطلق في سرور وفرح، وفيهما معنى خاصا:
فالصبح أول اليوم، وهو يذكر بالبداية: بداية الإنسان، وبداية الدنيا، وبداية كل شيء. فيبدأ المؤمن بذكر الله في ذلك الوقت، يسأله الإعانة، ويستعيذ به من الخذلان والشيطان. وهو وقت هواؤه طيب، وفيه السكون والهدوء، الذي يطلب في الأسفار والرحلات، فإذا اجتمع الهدوء والسكون، مع طيب الهواء، ووافق فيه ذكر الله، وسؤاله، فإن القلب يكون أكثر حضورا واستشعارا وخشوعا، ومن ثم ينتفع بذلك الذكر انتفاعا عظيما.
والعصر آخر اليوم، وهو يذكر بالنهاية: نهاية الإنسان، ونهاية الدنيا، ونهاية كل شيء. كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا بين أصحابه بعد صلاة العصر، والشمس آخذة في الغروب بين الجبال، فقال:
( ما بقي من عمر الدنيا إلا كما بقي من عمر هذا اليوم ) .
وهكذا يتذكر المؤمن، وهو يذكر الله تعالى، في ساعة العصر: أن كل شيء فان، ولا يبقى إلا وجه الرب جل شانه. فحينذاك يخشع، ويزول من قلبه وساوس الدنيا، ويعلم أن الفناء وتلك النهاية ستلحقه، فإذا وقر في قلبه الموت وزوال الدنيا وصادفه ذكر الله تعالى، فإنه سيجد إيمانا عظيما يدفعه إلى العمل وترك الكسل والعصيان.
* * *
والأذكار التي تقال في هذين الوقتين، تسمى في أقوال العلماء بأذكار الصباح والمساء، فمنها:
- التسبيح مائة مرة. (بكرة وأصيلا)
- ومنها التهليل مائة مرة. (بكرة)
- التهليل عشرة. (بكرة وأصيلا)
- والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات. (بكرة وأصيلا)
- وقراءة المعوذات ثلاث مرات. (بكرة وأصيلا)
- وقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات. (بكرة وأصيلا)
- وقول : رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. ثلاث مرات. (بكرة وأصيلا)
- وقول : سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. ثلاث مرات. (بكرة وأصيلا)
- وسيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وعلى عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. (بكرة وأصيلا).
* * *
الحقيقة أن هاتين الصلاتين فيهما من الأسرار والمعاني ما تملؤ قلوبنا إيمانا ويقينا، وتبث في الأرواح العزيمة لاغتنامها:
- فكل مسلم محتاج إلى ما فيها ليسعد.
- وكل داعية إلى الله تعالى فقير إلى ما فيها ليثبت.
فمن لم يكن من المحافظين على الصلاتين ، فكيف يكون مصلحا للناس داعيا لهم، بل الواجب في كل من حمل هم الإصلاح ودعوة الناس: أن يكون أسبق الناس إلى هاتين الصلاتين خصوصا. لا يلهيه عن ذلك شيء .
* * *(/3)
بوش يدعي التمهيد للسيد المسيح(عليه السلام)
لقد عاش اهل الغرب حياة التحلل والانحراف متناسين ومبوش يدعي التمهيد للسيد المسيح(عليه السلام)
لقد عاش اهل الغرب حياة التحلل والانحراف متناسين ومبتعدين عن كل تعاليم الاديان السماوية والفطرة التي غرسها الله في النفس الانسانية فتراهم قد خرقوا القوانين وجعلوها تتلائم مع اهوائهم وميولهم ونزعاتهم النفسية ونتيجة لذلك فقد تفشى الفساد في بلادهم وانتشرت جرائم القتل والزنا واللواط والمحرمات بانواعها وحدث التحلل الاسري وتفكك المجتمع وانهارت القيم في المجتمع الغربي واختلت الموازين وهكذا فاننا نجد بعض رجالات الغرب ومبرزيهم والذين يعتبرهم البعض قادة من الطراز الاول هم بالفعل دعائم لنشر الفكر المنحل والفساد في المجتمع عن طريق مؤسساتهم السياسية ونفوذهم . ونتناول في هذا البحث رجل من اكبر قادة الغرب كما يحلو للبعض تسميته في التاريخ المعاصر الا وهو (جورج بوش) الابن رئيس الولايات المتحدة الامريكية فقد كان يعيش بوش حياة التحلل التي استحوذت على معظم الامريكيين حيث كان يرتاد الباركل يوم فقد كان مدمنا للخمور واستمر على هذا الحال لسنوات طويلة حتى السابع والعشرين من يوليو1986 م ، حينما احتفل بعيد ميلاده الاربعين مع الاصدقاء والكثير من الخمور ، في اليوم التالي كان بوش يشعر بدوار شديد من اثر الخمور فاقسم ان يمتنع عن تلك المشروبات .وقد ذكر في كتاب (مقدمة في الاصولية المسيحية في امريكا ...) لمؤلفه عادل المعلم ( تقول زوجته لورا : انه كان مترددا في تنفيذ هذا القرار لمدة عام ، ولكنه كان يرتد الى معاقرة الخمر . في احد الايام وفي نهاية اسبوع طويل من حفلات الشرب الصاخبة ، استيقض ثم نظر في المرآة الى القيء الذي يغطي وجهه . جثا على ركبتيه داعيا الرب ان يساعده. ان امريكا لتحب مثل هذه القصص ، قصة عودة الابن الضال ) عند ذلك اقلع بوش عن شرب الخمر وكان الفضل في ذلك يعود الى زوجته لورا والى بيلي جراهام المعلم المسيحي صاحب النجم الاكبر فقد قال بوش : ( ان جراهام زرع بذور الخردل في قلبي ، وبدات اتغير ) وبهذا فقد اصبح بوش مسيحيا متدينا وراح يتردد على الكنيسة ويقرأ الكتاب المقدس وصارمن المتعصبين جدا للديانة المسيحية ، لقد صرح بوش ذات يوم لمراسل يهودي: ( ان الذين يؤمنون بالمسيح فقط هم الذين سيذهبون الى الجنة ) وقد تحدث ذات مرة عن احدى سفراته وزوجته لورا الى اسرائيل فقال: ( قد قمنا بزيارة الحائط الغربي وكنيسة القيامة المقدسة ، وذهبنا الى بحر الجليل ووقفنا على قمة التل حيث القى المسيح موعظته من فوق الجبل . وكان شعورا استحوذ على كل ملكاتي ان اقف في نفس المكان الذي القيت منه اشهر موعظة في تاريخ العالم، المكان الذي رسم السيد المسيح شخصية وسلوك المؤمن، واعطى الحواريين والعالم الغبطة ، والقانون الذهبي وصلاة الرب ) ومن هذا الكلام وغيره يتبين لنا كيف انه من المؤمنين بالديانة المسيحية وبالسيد المسيح(عليه السلام) كما انه من المتعصبين لذلك الدين. كما ان اصدقائه المقربين له في الرئاسة الامريكية هم ايضا من عوائل دينية ولهم ارتباط بالكنيسة (فقد كان والد كونزاليزا رايس واعظا في الاباما) وكان رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي من اقرب اصدقاء جورج بوش وكان هو ايضا سائرا على معتقدات بوش ومؤمنا بها لقد كان يؤمن هؤلاء الثلاثة بان الدين المسيحي يجب ان ينتشر في جميع انحاء العالم وان السيد المسيح سوف يأتي من جديد ليصلح الارض وتقام الدولة المسيحية الكبرى . لذا فهم كانوا يتحركون ضمن معتقداتهم وايمانهم وقد عاب عليهم الكثير من ساسة الغرب تحركاتهم هذه التي لا تتلائم والوضع السياسي الذي يعيشه العالم اليوم فقد قيل عن بوش (انه اسير لمعتقداته الدينية التي تجعله غير مدرك لتعقيدات الموقف العالمي ) كما قيل عنه( يبدو جورج بوش جادا بشأن قضيتين ايمانه بعيسى المسيح وابرازه القوى الامبريالية ) لقد كان بوش يحاول نشر المسيحية في كل العالم ويهدف الى جعل الناس كلهم مسيحيين فانه يعتقد ان الدين المسيحي هو افضل الاديان على الاطلاق وشريعته هي افضل الشرائع وتعاليمه هي اسمى التعاليم لذا فقد قاموا بالحملات التبشيرية للمسيحية والتبشير للسيد المسيح ومحاولة جعل الناس كلهم مسيحيين وقد ورد في كتاب المقدمة في الاصولية المسيحية في امريكا ( ان الارساليات الايفانجليكية لم تحقق رغبتها في تحويل المسلمين الى المسيحية) وبناء على ذلك انهم لم يتوانوا من اجل نشر الدين المسيحي واستقطاب الناس لاعتناق المسيحية كافة بما في ذلك المسلمين . وبالمقابل فان امريكا ورجالها ورئيسها بوش يسعون إلى قمع الدين الاسلامي والحيلولة دون انتشاره كما انهم يحاولون ان يغيروا المسلمين الى الديانة المسيحية كما وانهم يحاولون وبكل قدراتهم تشويه سمعة الاسلام من اجل انجاح مخططاتهم والصاق التهم بالاسلام ووصفه بدين الارهاب ووصف معتنقيه(/1)
بالارهابيين والواجب التعامل معهم بحذر شديد بل يجب تجريدهم من السلاح وتدمير البنى التحتية التي تقوم عليها الدول الاسلامية وزعزعة الامن في بلاد المسلمين وزرع الفرقة والطائفية بينهم ليكونوا مشغولين فيما بينهم بحروب داخلية فقد قال فرانكين جراهام وهو يعض الكهان: ( ان الاسلام كله دين شرير على نحو استثنائي وبشكل يستحق التوبيخ) وقال جيري فالويل ( ان محمدا ارهابيا ) بينما قال روبرسون - القس صاحب امبراطورية الدعوة - والذي رشح نفسه للرئاسة في اخر ثمانينات القرن العشرين قال: ( محمد لص وقاطع طريق ) فانظر عزيزي المسلم الى اعداء الاسلام كيف يكيلون بمكيالين فمرة يدعون حرية الاديان وان للمسلمين الحرية في ممارسة دينهم واخرى يحاربون الاسلام والمسلمين ويطلقون التهم على قادة الاسلام وبالاخص على نبي الاسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) الا لعنة الله عليهم ونحن للاسف الشديد نتعامل معهم كانهم اصدقاء لنا ونسمح لهم بالدخول الى بلادنا بل اننا من دعاهم وللاسف الشديد لدخول البلاد الاسلامية بحجة وباخرى وتناسينا قول رب العالمين سبحانه وتعالى {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }هود113.
بوش والتمهيد للمسيح (عليه السلام)
يعتقد الكثير من المتدينين المسيحيين بان المسيح سوف ينزل في اخر الزمان ليقيم لهم الدولة العالمية وهذا ما عليه اعتقاد كافة المسلمين حيث يعتقدون بنزول المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ولكن لا يقيم الدولة المزعومة كما يقول المسيحيين بل انه يكون وزيرا للامام المهدي (عليه السلام) وهذا ما صرحت به كتبهم وأعلنه كبار قادتهم فقد ورد في كتاب جورج بوش [( مهمة للاداء ) لاحقق ارادة خالقي ] قال في الكتاب ( لم اكن استطيع ان اصبح حاكما ما لم اؤمن بخطة إلهية تنسخ كل الخطط البشرية ) يريد بالخطة الإلهية التمهيد لنزول عيسى (عليه السلام) . وقد اعل جراهام ان البديل الوحيد للشيوعية هي الخطة الالهية المرادة في الكتاب المقدس وان البشر سينقلون من مشكلة لاخرى حتى ياتي المسيح . وبعد خطاب جراهام اقام ريجان حفل غداء على شرفه ، حضره كبار مسؤلي الولاية كما حضره والت هانسون مدير مكتب جراهام ويحكي هانسون عن الحوار التالي: ريجان : هل تعتقد ان يسوع المسيح سياتي سريعا وما مؤشرات ذلك ان كان سيحدث؟ جراهام: المسيح يقف خلف الباب وسيدخل في اي وقت … وقد نشرت مجلة دير شبيجل الالمانية في17/2/2003 م بقلم هانز هوينج وجيرها رد شبورل جاء فيه: ( بمهاجمة بغداد يسعى الرئيس الامريكي جورج بوش الى تلبية امر الهي في الولايات المتحدة شديدة التدين لم يكن هناك مثل هذا الربط العميق بين المصالح القومية والاصولية يطالب المسيحيين المتعصبين بحرب صليبية ضد الاسلام ) والمقصود من الاصولية الديانة المسيحية المتعصبة . ومن هنا فان بوش كان يسعى من خلال حروبه في الشرق الاوسط والعراق محاولته غزو سوريا عسكريا من اجل ارض الله كما يقول . والتمهيد للسيد المسيح لكي يخرج ويقود العالم كما يعتقدون . ومن هنا اقول ان هؤلاء الضالين المنحرفين عن طريق الله وعن شريعة السيد المسيح الذين يدعون بانهم مؤمنون به ويمهدون له وينتظرون خروجه وعودته بينما نحن المسلمون وللاسف الشديد نتناسى امر الامام المهدي وعودته من الغيبة وظهوره المقدس ونحن كما هو معلوم نؤمن بافضل الاديان كلها ونعتقد بنبينا انه خاتم النبيين وسيدهم واشرفهم واكرمهم على الله نحن الذين نعتقد بظهور الامام المنصور الذي يقيم العدل وينشر السعادة ويقضي على الظلم ولم نسعى يوما من اجل التمهيد للامام(عليه السلام) والاعداد له والتهيء لنصرته سلام الله عليه في حين نجد هؤلاء المجرمين مؤمنين بقضيتهم ودينهم ونحن عن قضايانا وديننا غافلون منشغلون .
البداية(/2)
مبتعدين عن كل تعاليم الاديان السماوية والفطرة التي غرسها الله في النفس الانسانية فتراهم قد خرقوا القوانين وجعلوها تتلائم مع اهوائهم وميولهم ونزعاتهم النفسية ونتيجة لذلك فقد تفشى الفساد في بلادهم وانتشرت جرائم القتل والزنا واللواط والمحرمات بانواعها وحدث التحلل الاسري وتفكك المجتمع وانهارت القيم في المجتمع الغربي واختلت الموازين وهكذا فاننا نجد بعض رجالات الغرب ومبرزيهم والذين يعتبرهم البعض قادة من الطراز الاول هم بالفعل دعائم لنشر الفكر المنحل والفساد في المجتمع عن طريق مؤسساتهم السياسية ونفوذهم . ونتناول في هذا البحث رجل من اكبر قادة الغرب كما يحلو للبعض تسميته في التاريخ المعاصر الا وهو (جورج بوش) الابن رئيس الولايات المتحدة الامريكية فقد كان يعيش بوش حياة التحلل التي استحوذت على معظم الامريكيين حيث كان يرتاد الباركل يوم فقد كان مدمنا للخمور واستمر على هذا الحال لسنوات طويلة حتى السابع والعشرين من يوليو1986 م ، حينما احتفل بعيد ميلاده الاربعين مع الاصدقاء والكثير من الخمور ، في اليوم التالي كان بوش يشعر بدوار شديد من اثر الخمور فاقسم ان يمتنع عن تلك المشروبات .وقد ذكر في كتاب (مقدمة في الاصولية المسيحية في امريكا ...) لمؤلفه عادل المعلم ( تقول زوجته لورا : انه كان مترددا في تنفيذ هذا القرار لمدة عام ، ولكنه كان يرتد الى معاقرة الخمر . في احد الايام وفي نهاية اسبوع طويل من حفلات الشرب الصاخبة ، استيقض ثم نظر في المرآة الى القيء الذي يغطي وجهه . جثا على ركبتيه داعيا الرب ان يساعده. ان امريكا لتحب مثل هذه القصص ، قصة عودة الابن الضال ) عند ذلك اقلع بوش عن شرب الخمر وكان الفضل في ذلك يعود الى زوجته لورا والى بيلي جراهام المعلم المسيحي صاحب النجم الاكبر فقد قال بوش : ( ان جراهام زرع بذور الخردل في قلبي ، وبدات اتغير ) وبهذا فقد اصبح بوش مسيحيا متدينا وراح يتردد على الكنيسة ويقرأ الكتاب المقدس وصارمن المتعصبين جدا للديانة المسيحية ، لقد صرح بوش ذات يوم لمراسل يهودي: ( ان الذين يؤمنون بالمسيح فقط هم الذين سيذهبون الى الجنة ) وقد تحدث ذات مرة عن احدى سفراته وزوجته لورا الى اسرائيل فقال: ( قد قمنا بزيارة الحائط الغربي وكنيسة القيامة المقدسة ، وذهبنا الى بحر الجليل ووقفنا على قمة التل حيث القى المسيح موعظته من فوق الجبل . وكان شعورا استحوذ على كل ملكاتي ان اقف في نفس المكان الذي القيت منه اشهر موعظة في تاريخ العالم، المكان الذي رسم السيد المسيح شخصية وسلوك المؤمن، واعطى الحواريين والعالم الغبطة ، والقانون الذهبي وصلاة الرب ) ومن هذا الكلام وغيره يتبين لنا كيف انه من المؤمنين بالديانة المسيحية وبالسيد المسيح(عليه السلام) كما انه من المتعصبين لذلك الدين. كما ان اصدقائه المقربين له في الرئاسة الامريكية هم ايضا من عوائل دينية ولهم ارتباط بالكنيسة (فقد كان والد كونزاليزا رايس واعظا في الاباما) وكان رامسفيلد وزير الدفاع الامريكي من اقرب اصدقاء جورج بوش وكان هو ايضا سائرا على معتقدات بوش ومؤمنا بها لقد كان يؤمن هؤلاء الثلاثة بان الدين المسيحي يجب ان ينتشر في جميع انحاء العالم وان السيد المسيح سوف يأتي من جديد ليصلح الارض وتقام الدولة المسيحية الكبرى . لذا فهم كانوا يتحركون ضمن معتقداتهم وايمانهم وقد عاب عليهم الكثير من ساسة الغرب تحركاتهم هذه التي لا تتلائم والوضع السياسي الذي يعيشه العالم اليوم فقد قيل عن بوش (انه اسير لمعتقداته الدينية التي تجعله غير مدرك لتعقيدات الموقف العالمي ) كما قيل عنه( يبدو جورج بوش جادا بشأن قضيتين ايمانه بعيسى المسيح وابرازه القوى الامبريالية ) لقد كان بوش يحاول نشر المسيحية في كل العالم ويهدف الى جعل الناس كلهم مسيحيين فانه يعتقد ان الدين المسيحي هو افضل الاديان على الاطلاق وشريعته هي افضل الشرائع وتعاليمه هي اسمى التعاليم لذا فقد قاموا بالحملات التبشيرية للمسيحية والتبشير للسيد المسيح ومحاولة جعل الناس كلهم مسيحيين وقد ورد في كتاب المقدمة في الاصولية المسيحية في امريكا ( ان الارساليات الايفانجليكية لم تحقق رغبتها في تحويل المسلمين الى المسيحية) وبناء على ذلك انهم لم يتوانوا من اجل نشر الدين المسيحي واستقطاب الناس لاعتناق المسيحية كافة بما في ذلك المسلمين . وبالمقابل فان امريكا ورجالها ورئيسها بوش يسعون إلى قمع الدين الاسلامي والحيلولة دون انتشاره كما انهم يحاولون ان يغيروا المسلمين الى الديانة المسيحية كما وانهم يحاولون وبكل قدراتهم تشويه سمعة الاسلام من اجل انجاح مخططاتهم والصاق التهم بالاسلام ووصفه بدين الارهاب ووصف معتنقيه بالارهابيين والواجب التعامل معهم بحذر شديد بل يجب تجريدهم من السلاح وتدمير البنى التحتية التي تقوم عليها الدول الاسلامية وزعزعة الامن في بلاد المسلمين وزرع الفرقة والطائفية بينهم ليكونوا(/3)
مشغولين فيما بينهم بحروب داخلية فقد قال فرانكين جراهام وهو يعض الكهان: ( ان الاسلام كله دين شرير على نحو استثنائي وبشكل يستحق التوبيخ) وقال جيري فالويل ( ان محمدا ارهابيا ) بينما قال روبرسون - القس صاحب امبراطورية الدعوة - والذي رشح نفسه للرئاسة في اخر ثمانينات القرن العشرين قال: ( محمد لص وقاطع طريق ) فانظر عزيزي المسلم الى اعداء الاسلام كيف يكيلون بمكيالين فمرة يدعون حرية الاديان وان للمسلمين الحرية في ممارسة دينهم واخرى يحاربون الاسلام والمسلمين ويطلقون التهم على قادة الاسلام وبالاخص على نبي الاسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) الا لعنة الله عليهم ونحن للاسف الشديد نتعامل معهم كانهم اصدقاء لنا ونسمح لهم بالدخول الى بلادنا بل اننا من دعاهم وللاسف الشديد لدخول البلاد الاسلامية بحجة وباخرى وتناسينا قول رب العالمين سبحانه وتعالى {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }هود113.
من كتاب المهدي عند أهل السنة / السيد أبو عبدالله الحسين القحطان-(/4)
بوليصة التأمين على الحياة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 29/3/1425هـ
السؤال
في حالة قيام والديَّ بعمل بوليصة تأمين على الحياة ومنحها لي، فهل يجوز لي قبولها وإنفاقها على نفسي كلها، أم أقبل جزءًا منها فقط وهو الأقساط الشهرية المسددة؟ أم آخذ كامل قيمة البوليصة من شركة التأمين ثم أحتفظ بمبالغ الأقساط الشهرية المسددة وأتبرع بالزيادة المقدمة من شركة التأمين للجمعيات الإسلامية هنا في كندا؟.أرجو تقديم بعض الحجج المؤيدة.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
التأمين على الحياة أحد أنواع التأمين المحرمة؛ لما فيه من الجهالة والغرر، وأكل أموال الناس بالباطل، علاوة على ما يشتمل عليه عقد التأمين التجاري – ومنه التأمين على الحياة- من ربا النسيئة والفضل، ومن عرف الحق وأراد الإقلاع عن الباطل، فله أن يأخذ من شركة التأمين (بوليصة التأمين على الحياة) مقابل ما دفعه من الأقساط فقط؛ لقول الله –تعالى-:"وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ"[البقرة: من الآية279] وهذا الجواب عام في كل عقد محرم تاب منه صاحبه – ومنهم والدك-، أما ما يخصك أنت بعد أن منحك والدك هذه البوليصة التأمينية، فالأمر يختلف، فقبولك لهدية أو منحة والدك جائز تطييباً لخاطره، وإن كان على قيد الحياة فيتعين عليك مناصحته، وكيف يتخلص من الحرام، -كما هو مبين في صدر هذا الجواب-، ومع هذا يجوز لك أن تأخذ كامل قيمة البوليصة من شركة التأمين، وتتصرف بمبالغ الأقساط الشهرية المسددة فقط، وتخرج الباقي في الجمعيات الإسلامية الخيرية لا بنية الصدقة وإنما بنية التخلص منها؛ لأنها حرام، والله طيب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - وأخذ جميع مال (البوليصة) من شركة التأمين وإنفاقه في المجالات النافعة أولى من تركه لدى شركة التأمين تشغله في الربا، وتصرفه في المصارف المحرمة، إذ بقاؤه لديها إعانة لها على الباطل وتشجيع لها في صرفه على الحرام، والله يقول في محكم كتابه: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" [المائدة:2]، وإن كنت – يا أخي- لست بحاجة إلى تلك الأقساط الشهرية المدفوعة، فأخرجها مع باقي البوليصة في المشاريع الخيرية فهو لك أزكى وأتقى، وإن كنت محتاجاً إليها فلا شيء عليك إن شاء الله في أخذ تلك الأقساط والاستفادة منها. والله أعلم.(/1)
بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار.
ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (1)، وآية في سورة المائدة وهي قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (2)، وآية في سورة يونس وهي قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (3)، ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم. . يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. .
فهذا هو الأصل الخامس من هذه الأصول الستة المفيدة العظيمة، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في هذا الأصل: ( بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار ).
هذا كالعنوان لهذا الأصل، فإن الشيخ رحمه الله يريد أن يقرر في هذا الأصل أن القرآن الكريم قد بين بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا اشتباه، ولا شك في الفرق بين أولياء الله وبين أولياء الشيطان، فإن أولياء الله أولياء الرحمن، لهم أوصاف ميَّزهم الله سبحانه وتعالى بها في كتابه، وذكر ذلك لئلا يشتبه حال أولياء الله بأولياء الشيطان، لأن من أولياء الشيطان من يلبِّس على الناس، فيظهر ولايته للرحمن، وأنه من عباد الله الصالحين، ومن الأتقياء الأنقياء، والأمر على خلاف ذلك، فلما كان مدّعو الولاية كُثُراً بين الله سبحانه وتعالى الفصل بين هؤلاء وبين غيرهم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالةً لطيفةً سمّاها (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) ذكر فيها ما وصف الله سبحانه وتعالى به أولياءه، وما ميزهم به عن أولياء الشيطان، وذكر فيها أشياء كثيرةً مفيدة، لعل الله ييسر قراءتها.
قال رحمه الله تعالى: ( بيان الله سبحانه لأولياء الله ) أولياء: جمع ولي، والولي مأخوذ من الولاية، والولاية مصدر من ولي، وهي بمعنى القرب، تقول: ولي كذا وكذا أي: قرب منه، وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: على المحبة، والنصرة، وقد أثبت الله جل وعلا في كتابه ولايته لبعض خلقه، فقال سبحانه وتعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } (4) فأثبت سبحانه ولايته للمؤمنين، كما أن الله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له وليٌّ، لكن الولي المنفي غير الولي المثبت، فالولي المنفي مقيد، حيث قال سبحانه وتعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } (5) أي: لم يكن له وليٌّ يستنصر ويعتز ويتقوى به، فولاية الله - عز وجل - لمن يتولاهم ليست عن حاجة، ولا عن افتقار، بل هو الغني الحميد جل وعلا، وإنما ولايته سبحانه وتعالى لمن يتولاه هي ولاية رحمة، ومنة، وفضيلة، ومنحة منه جل وعلا، وإكرامٍ لمن يتولاه، نسأل الله أن نكون منهم. إذاً عرفنا أن الولاية المثبتة لله - عز وجل - غير الولاية المنفية، وأن الولاية تدور على معنيين على اختلاف مواردها، المحبة، والنصرة، ويقابل الولاية العداوة، وهي دائرة على البغضاء والكره، هذا معنى العداوة، فأعداء الله هم من أبْغَضَهم سبحانه وتعالى، وأبعدهم، وكرههم جل وعلا، فالعداوة مبنية على الإبعاد، والكره، والبغض، والولاية مبنية على المحبة، والنصرة، والله سبحانه وتعالى قد بين أوصاف أوليائه، وقد لخص الشيخ رحمه الله هذه الأوصاف المذكورة في كتابة، في هذا المقطع القصير من كلامه رحمه الله، لكن من المهم: أن نفرق بين أولياء الله وغيرهم، حتى لا يشتبه الأمر، فأولياء الله - عز وجل - لا يتميزون عن غيرهم بمظهر، هم كغيرهم من أهل الإسلام، لا يتميزون عنهم بلباس، ولا بهيئة، لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها، لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله وأولياء الشيطان، وبين غيرهم من الناس، فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟(/1)
قال رحمه الله تعال في بيان ذلك: ( ويكفي في هذا ) أي: في بيان الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان، ( آية في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (6) فقوله تعالى: { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } هذا هو المعيار الفارق، والميزان الدقيق، لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله بالولاية هي: أن يكون متبعاً للنبي- صلى الله عليه وسلم - { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه } فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يحصل منه من التقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف، إذاً السمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم: هي اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في أمرين: فيما فرض، وهذا أول ما يكون، وفيما ندب إليه من الأعمال، وهذه بالدرجة الثانية، ولذلك كان في حديث الولاية قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ))(7) ثم قال بعد أن ذكر جزاء الأولياء، وانتصار الله لهم قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل )) وهذا طريق تحصيل الولاية، (( وما تقرب إلي عبدي بأحبَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )) فذكر الطريقين اللذين يحصل بهما ولاية الله - عز وجل -، وهذا تفصيل لا إجمال، تفصيل لما أجملته هذه الآية في قوله تعالى: { فَاتَّبِعُونِي } فالاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في الفرائض أولاً، لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله - عز وجل -، ثم بالنوافل ثانياً، وهذا في الدرجة الثانية { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه } وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( وآية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (8) وهذا فيه الإشارة إلى معنى الولاية، وأنها دائرة على المحبة في قوله تعالى: { يُحْبِبْكُمُ اللَّه } (9) وهنا قال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ثم ذكر أوصافهم فقال: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } فذكر ثلاثة أوصاف، الوصف الأول: أذلةٍ على المؤمنين، فلا علو عندهم، ولا استكبار، ولا ارتفاع، الوصف الثاني: أعزةٍ على الكافرين، لا يذلون لهم، لأنَّ معهم سبب العزة، وهو الإيمان بالله ورسوله، الوصف الثالث: الجهاد في سبيل الله، وهو شامل لجهاد النفس، ولجميع أنواع الجهاد، وأعلاها جهاد الكفار المعاندين لله ورسله، هذا من أوصافهم، والجهاد لا يأخذ صورةً واحدة فقط، فلا يقتصر على الجهاد بالسيف والسنان، بل هناك جهاد آخر، قد يكون أعظم منه، وهو جهاد العلم والبيان، فالذي يبلغ شريعة الله - عز وجل - وينصح الناس، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر هو من المجاهدين الذين يدخلون في قوله في هذه الآية في آية المائدة: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } فهذا يشمل جميع أنواع الجهاد. إذاً الآن زاد عندنا وصف، أو هذا تفصيل؟ بل هذا تفصيل لأن قوله: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه } هذا فيه بيان مجمل هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل شأن، وهنا فيه ذكر صفات خاصة، وتخصيصها لعظيم أثرها في تحقيق وتحصيل الولاية.
ثم قال: وآية في سورة يونس وهي قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (10) هذا فيه البشارة لهم بانتفاء المخاوف والأحزان عنهم، { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } هذا فيما يستقبلون { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } هذا فيما مضى، والإنسان إنما يلحقه الأذى من خوف المستقبل، أو فوات الخير في الماضي، فإذا حصل له الأمن من هذين الأمرين: لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، فهو في غاية الطمأنينة والسعادة، ثم بين سبحانه وتعالى من هم أولياء الله فقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } (11) الذين آمنوا بقلوبهم، فصلحت قلوبهم واستقامت أفئدتهم، وكانوا يتقون في أعمالهم وجوارحهم.(/2)
والتقوى هنا هي فعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وترك ما نهى عنه، وهذا وصف شامل، يتميز به أولياء الله عن غيرهم، وبه نعلم مما تقدم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب، ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة، ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ، أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى: هي اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتفصيله، لقوله سبحانه وتعالى: { الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
قال رحمه الله: ( ثم صار الأمر عند أكثر من يدّعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشريعة، إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل ) وهذا في وقته رحمه الله، حيث هجرت السنة، وتعصب الناس لما كانوا عليه من مذاهبَ وأقوالٍ، وآراء، وأصبح المتَّبِعُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - غريباً بينهم.
ثم قال: ( ومن تبعهم فليس منهم ) أي: ومن تبع هؤلاء الذين استقاموا على الكتاب والسنة، فليس منهم، يعني: فليس من أولياء الله، لأنه إذا كان الداعي إلى الكتاب والسنة عند هؤلاء الذين تحدث الشيخ عنهم ليس من أولياء الله، فما هي حال غيرهم ممن هو تابع لهم؟ الجواب: أنه لا يكون من أولياء الله من باب أولى.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ولا بد من ترك الجهاد ) هذا انتقال إلى تفصيل ما عليه أولئك الذين وصفهم رحمه الله، ممن يدعي منهم ولاية الرحمن وهم على خلاف ذلك قال: (لابد من ترك الجهاد) وذكر الجهاد رحمه الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى جعل المجاهدين أولياءه، في قوله جل وعلا: { يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله } (12) فخالفوا النص القرآني الدال على أن الجهاد في سبيل الله من أسباب تحصيل الولاية، وكونه من أوصاف أولياء الرحمن، ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، والقرآن ماذا يدل عليه؟ القرآن يدل على عكس هذا، وهو أن الجهاد من أوصاف أولياء الله سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ولا بد من ترك الإيمان أيضاً ) هذا لكون الإيمان قد جاء في القرآن: أنه من أوصاف أولياء الله كما في قوله جل وعلا: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
ثم قال: ( فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم ) أي: من اتصف وحافظ على هذين الوصفين فليس من أولياء الله هؤلاء الأولياء المزعومين، وهؤلاء هم في الحقيقة أولياء الشيطان، لا أولياء الرحمن، لأن أولياء الرحمن هم من وصفهم الله في كتابه، وأما هؤلاء فهم معاندون، معارضون، وكل من ادعى الولاية فلا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن كان من ادعى الولاية أو أدُّعيت له الولاية، فقد لا يدعي الولاية لنفسه، بحيث لا يقول: إني ولي، لكن قد يزعم اتباعه أنه ولي، فلابد حينئذٍ أن نعرض حال هذا الرجل على هذه الموازين الدقيقة، والمعايير الناطقة المميزة لأولياء الرحمن عن غيرهم، هل هو من المتبعين للكتاب والسنة؟ هل هو من المجاهدين في سبيل الله جهاد السيف والسنان، أو جهاد العلم والبيان؟ وهل هو من الذين آمنوا وكانوا يتقون؟ إذا كان كذلك فهو من أولياء الله، وأما إذا تخلفت فيه هذه الأوصاف فإنه يتخلف فيه من وصف الولاية، بقدر ما تخلف فيه من صفات الولاية، ولذلك كان من كلام السلف: إذا رأيت الرجل يطير في السماء، أو يمشي على الماء، فلا تقل إنه ولي، حتى تعرضه على الكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( يا ربنا نسألك العفو والعافية، إنك سميع الدعاء ) نعم نسأل الله العفو والعافية، لهذا القلب لما دل عليه الكتاب والسنة، والمعارضة والمعاندة، لما دل عليه كلام الله سبحانه وتعال(/3)
بيان حقيقة الإيمان والرد على مرجئة العصر فيما خالفوا فيه محكم القرآن
حامد العلي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي نزل القرآن ، وفرض الإيمان ، وبين أنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان ، أشهد أن لااله إلا هو ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، فرق بين أهل الإسلام وطاعة الرحمن ، وأهل التولي والكفران .
وبعد : فقد كنت اطلعت على كتاب بعنوان (أحكام التقرير بأحكام التكفير) ، فراعني ما فيه ، وأفزعني ما يحتويه ، فانه قرر مذهب المرجئة في الإيمان ، واستشهد لذلك بكلام أئمتهم ، ظانا أنه مطابق للاعتقاد الصحيح المنقول عن أهل السنة ، ثم رأيت رسالة صغيرة في نقض هذا الكتاب ، بعنوان ( براءة أهل السنة ) وفق فيها الكاتب وقد سمى نفسه ( أبو عبد الرحمن السبيعي ) أيما توفيق ، وأجاد غاية الإجادة في رد ما في كتاب (أحكام التقرير ) من الباطل وفرق بينه وبين الحق أحسن تفريق ، فاللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين وأهل السنة المتبعين خير الجزاء آمين 0
ثم اطلعت على كتاب آخر بعنوان ( الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير ) لمؤلفه خالد العنبري ، فوجدته علا درجة عن سابقه ( وهو كتاب أحكام التقرير ) ، غير أنه أخطأ الصواب في مواضع ومال عن جانبه ، منها أنه قرر أن كفر العمل لا يخرج أبدا عن الملة الإسلامية ، إلا إذا دل على الجحود والتكذيب أو الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد .
فهو وان نجا من قول من يرى الكفر العملي لا يكون منه أبدا كفر أكبر حتى يقارنه الجحود والتكذيب ، كما في الكتاب الأول ، وهو مذهب المرجئة بعينه .
لكنه اشترط شروطا أربعة ليكون الكفر العملي كفرا أكبر ، وعطف بعضها على بعض عطف النسق ، وهي الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد ، فكأنه يقول لا يكفر من أتى بناقض عملي إلا إذا قام بقلبه أربعة مجتمعه هي المذكورة ، ونسب هذا إلى أهل السنة ، وإذا قلنا قصد التأكيد بعطف مترادفات ، صار مذهبه بالاختصار أنه يرى أن الكفر العملي لا يكون أبدا كفرا أكبر، حتى يقارنه أمران لابد من اجتماعهما في القلب ( الاستخفاف والعناد ) والعناد هو الاستكبار ، فاقتضى هذا أن من يسجد للأصنام طمعا في المال ويطوف بالناس حول الأضرحة ويذبح لها ويسجد لها ، راغبا في عرض الدنيا ، غير مستخف( من الاستخفاف ) ولا مستكبر ، أنه لا يكفر على مذهبه وبمقتضى شروطه .
وأن من سب دين الإسلام واستهزأ بشعائره لعوض يطلبه من متاع الدنيا ، غير مستخف ، ولا مستكبر لا يكون كافرا أيضا على هذا الرأي ، وقد صرح الكاتب بهذا فأخرج من يفعل الكفر العملي الأكبر الناقض للإيمان ـ لا عن استكبار لكن برغبة ــ عن أن يكون كافرا ، وهو خلاف اعتقاد أهل السنة .
وقد غلط أيضا من جهة أنه يحكي هذه الشروط وكأنها مذهب أهل السنة الذي استقر إجماعهم عليه ، أفلا ذكر من كفر منهم تارك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كإسحاق بن راهويه وغيره ، وأنهم لم يشترطوا أن يكون ذلك عن استخفاف واستكبار .
وأيضا ، فياللعجب .. أولم يعلم أن الذين يعبدون الاضرحة والقبور في قلوبهم من تعظيم الدين والرسول صلى الله عليه وسلم ما يتنافى مع العناد والاستخفاف ، غير أنهم مشركون كفار لغلوهم في الصالحين حتى عبدوهم مع الله كما قال تعالى ( ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، فأين الاستخفاف والعناد هنا؟!
فمن أين ــ ليت شعري ــ يطلق قيودا ويشترط شروطا ما أنزل الله بها من سلطان ، فان كان لابد فاعلا فهلا ذكر الخلاف ، ولم يجزم أنه اعتقاد أهل السنة مجتمعين ، وان كانوا ــ في التحقيق ــ لما قاله مفارقين .
فان قيل فلعله يرى أنه لا يسب الرسول صلى الله عليه وسلم راغب في المال ، أو يسجد للأصنام طامع في عرض الدنيا ونحو ذلك إلا من هو من أهل الاستخفاف ، وان كان قد يجمع مع ذلك إيثار متاع دنيا أو شهوة من الشهوات ، فاكتفى بذكر هذا الوصف( الاستخفاف ) ليكون من دلالة التلازم فيحتوى ما أشرت إليه .
فالجواب أنه لم يكتف بهذا الشرط حتى ضم إليه الاستكبار ، فمن هنا أدخل على اعتقاد أهل السنة ــ حاكيا عنهم مذهبهم ــ أمورا جعلها في سياق الشروط ، بلا دليل ولابرهان .
وأيضا فلنا أن نسأل كيف يعرف مافي قلب الساجد للصنم الساب للرسول المستهزئ بالدين وأمثالهم ، هل هو معاند ومستخف أو لم يقم بقلبه شيء من ذلك ، فعلى رأي الكاتب لا نحكم بكفر أحد حتى يعلن لنا بلسانه ويبين ما في قلبه ، وإن سب ديننا ونبينا وسجد للصلبان والأصنام وألقى المصحف في الحشوش .
وإلا … فما معنى اشتراط الشروط إذا كانت لاسبيل إلى معرفتها وهي في طي علم الغيوب ، وإذا كان المؤلف لا يحكم على من ينقض إيمانه بالنواقض العملية إلا إذا صرح بلسانه أنه جامع بين أمرين الاستخفاف والعناد ، فمذهب المرجئة القديم خير من هذا القول الرديء .(/1)
فان قدماء القوم كانوا يقولون إذا أظهر السجود للأصنام وسب الرسول يحكم بكفره ظاهرا لان أحكام الدنيا مبنية على الظاهر ، فان كان مع ذلك مصدقا بقلبه كان مؤمنا عند الله ، وهذا من أحكام الآخرة ولم نخاطب بها ، وأما هؤلاء المحدثون فانهم يقولون لانحكم بكفره حتى يعلن بلسانه انطواء قلبه على الاستخفاف والاستكبار، فأولئك أفسدوا أحكام الآخرة ، وهؤلاء أفسدوها وأحكام الدنيا فانا لله وانا إليه راجعون .
ثم يا قوم ، يا أهل العقول والإنصاف ، ان كنتم تقولون لانكفر ساب الرسول والساجد للأصنام حتى نعلم كونه مستكبرا بقلبه مستخفا ، على مذهب صاحب الكتاب المذكور ، فقد خالفتم سلفكم من المرجئة وخالفتم إجماع أهل السنة كما سيأتي بيانه ، وصرتم كالغراب الذي حاكى الحمامة فأضاع مشيته ، وأخطأ مشيها .
وان كنتم تقولون نكفر ساب الرسول والساجد للأصنام من أهل النطق بالشهادتين ، ولا نسأل عما في قلبه لامتناع أن يكون منه ذلك إلا مع استخفاف واستكبارـ فليت شعري ـ أو ليس الذي يزيح الشريعة بقوة السلطان ، بعد أن كان يحكم بها قضاة الشرع والعلماء ، ثم يعاقب من يحكم بها منهم بالقتل والتشريد والحبس وقطع الأرزاق ، ويأتي بأحكام الطاغوت ، ينصبها حاكمة بين العباد في كل أوجل أمورهم وشئون معايشهم ، فيفرضها فرضا ويحمل الناس عليها ويسوم من يحاربها سوء العذاب ، أفلا يكون هذا أولى بوصف الاستخفاف من ذلك الذي يسجد للصليب أو يسب الدين طامعا في مال ، فما بال القوم يحومون حول هذا الحمى ويخشونه ، أم أن الكفر لا يجتمع والسلطان ، فبينهما تهاجر عظيم الشان.
أو ليس حال أكثر بلاد المسلمين هذا الحال الذي وصفت ، فهل يقدر أحد أن ينصب قاضيا يقضي بالشريعة الإلهية ، إلا ويزج به في أشد العذاب ، ويقولون : أفنحن لانقضي بالعدل حتى تعارض القانون ، أم تريد أن تجعل الشريعة ، بدل قوانيننا الاوربية العريقة ؟!
ثم أتاهم من حيث لم يكونوا يحتسبون من يفتيهم بأن قولوا نحن فيما فعلناه غير مستحلين ولامستخفين ولا معاندين لله رب العاملين ، فتكونون بحمد الله من جملة عصاة الموحدين ، وهل هناك من لايخطيء من المؤمنين ؟
لكنكم مع ذلك من ولاة أمر المسلمين وقد علم مالكم من الحقوق العظيمة ، ونحن معكم كلما فعلتم ما يكفر به ، زدنا لكم شرطا من الشروط يخرجكم من باب التكفير ، لتبقى إمامتكم الإسلامية على الدوام ، ولا تنسونا بعد ذلك ، بالفضل والإنعام ، فصار حال هؤلاء المرجئة ، وحال أهل الحق في دولة الطاغوت ، كما قال الشاعر :
إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همسي
وما أصدق وصف الإمام ابن القيم لهذا المذهب الرديء إذ قال :
وكذلك الإرجاء حين تقر بالمعبود تصبح كامل الإيمان
فارم المصاحف في الحشوش وخرب البيت العتيق وجد في العصيان
واقتل إذا ما استطعت كل موحد وتمسحن بالقس والصلبان
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهرا بلا كتمان
وإذا رأيت حجارة فاسجد لها بل خر للأصنام والأوثان
وأقر أن الله جل جلاله هو وحده الباري لذي الأكوان
واقر أن رسوله حقا أتى من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا وزر عليك وليس بالكفران
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم من كل جهمي أخي شيطان
وصار حال الشريعة بين الحكام بالطاغوت ومن يفتيهم بمثل هذه الفتاوى ، كحال الخلافة لما دار عليها ما يدور اليوم على الشريعة ، وحق لنا أن نتمثل قول شوقي :
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الشريعة ماح
وقد كانت مأساة الخلافة التي بكى عليها شوقي ، ثم دارت على الشريعة ، ثم آل الأمر اليوم إلى إفساد عقائد الناس ، وتهوين ارتكاب الكفر الأكبر ، بتركيبه على مذهب المرجئة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
والمقصود أن في الكتاب المذكور مواضع تحتاج الى تفنيد ، وليس هذا هو موضعه ، ومن العجب أنه بعد الاطلاع على الكتابين المذكورين ، وما فيهما من مطابقة أو مقاربة مذهب أهل الإرجاء ، قرأت لبعض الكتاب من أهل الكويت ممن يطلب علوم الشريعة ، وينتسب إلى عقيدة السلف ، مقالا في صحيفة يقرر فيه أن ما يندفع به وعيد عصاة الموحدين ، يندفع به حكم التكفير بجامع أنهما من الوعيد ، وذلك كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة والشفاعة أو غيب لانعلمه ولم نؤمر أن نبحث عنه ، كما قال بلفظه .
وأظنه قرأ الكتابين فأساء فهم مافيهما من الصواب ، وزاد على ما فيها من الخطأ ، فحاز السيئتين ، وهكذا البدع تبدأ صغارا ثم تؤول كبارا، ولما رددت عليه وبينت أنه يخالف اجماع اهل الاسلام ويقول بما لم يضل به حتى غلاة المرجئة ، رد علي قولي ، وتمسك بما عليه من البهتان ، وظن أننا في مفاخرة في الردود أو مغالبة بين الاقران 0(/2)
ثم بعد هذا كله جرت احاديث في مجالس عديدة حول هذه القضية ، وحصل فيها حوارات كثيرة ، وجرى في هذه المجالس كلام طويل متشعب ، وقرأنا كلاما لاهل العلم من المتقدمين والمتأخرين ،ثم طلب مني بعض الاخوة أن أسوق ما جرى من الكلام سياق الحوار بين اثنين ، أجعل معنى ماقلته في الحوارات طرفا ، وأذكر ما ذكرت من الكلام في المجالس المتفرقة ، وأسوق كلام غيري مساق متكلم واحد ، وأزيد ما يحتاج الى زيادة لتوضيح الكلام وإيصال المعنى بأوضح عبارة ، وأجعل ذلك كله كحديث مجلس واحد تمثيلا للقارئ .
وذلك لتقرب المسألة من صغار الطلبة ويفهمها المبتدئ في تعلم العقيدة السلفية ، فرأيت الإجابة لطلبه ، اقتداء بمن تقدم من أهل العلم في تصوير مسائل العلم على هذا النحو كابن القيم في نونيته وغيرها وغيره من العلماء .
وليس مقصودي شرح جميع مسائل الايمان وبيان الفرق بين مذهب السلف ومذهب غيرهم فيه ، فان ذلك يطول جدا ، وانما أذكر ما جرى حوله غالب أحاديث الحوار ، ويستفيد منه من عنده معرفة بأصول هذا الباب دون غيره ، والله الموفق وعليه التوكل ، وهذه صورة المحاورة .
وأنبه قبل البدء ، إلى أن دراسة هذه القضية إنما تهدف إلى إيقاف طلبة العلم على حقيقة الحكم الشرعي المذكور في الكتاب والسنة في موضوع الإيمان ونواقضة ، وأن هذا من الفرض الواجب ، ولايجوز السكوت عن بيانه حفاظا على الدين الحق من الاندراس واختلاط مفاهيمه الحقه بالباطل ، غير أنه ينبغي لكل مسلم أن يحتاط في باب الحكم على الناس بنقض الايمان ولايقدم عليه الا بعلم ، ولولا انتشار الجهل في هذه القضية ودخول مذهب الإرجاء على كثير من المنتسبين إلى العلم ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، وخوفا من استقرار البدعة في نفوس كثير من الناس لما كتبت فيها ، فقد صنف العلماء فيها مصنفات كثيرة وأحسن ما كتب من المعاصرين في هذه المسألة الشيخ العلامة سفر الحوالي حفظه الله في كتابه ( ظاهرة الارجاء وأثرها على العالم الاسلامي ).
محاورة في حقيقة الايمان والفرق بين مذهب أهل السنة فيه ومذهب المرجئة
وهذه صورة المحاورة :
قال : العمل عند السلف شرط كمال في الايمان .
قلت : حكاية هذا عن السلف غلط محض .
قال : ذكره ابن حجر في الفتح عند شرح ترجمة البخاري ( وهو قول وفعل يزيد وينقص ) .
قلت : هات الكتاب واقرأ .
قال : قال ابن حجر ( فالسلف قالوا : هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالاركان ، وأرادوا بذلك أن الاعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ القول بالزيادة والنقص كما سيأتي ، والمرجئة قالوا : هو اعتقاد ونطق فقط ، والكرامية قالوا : هو نطق فقط والمعتزلة قالوا : هو العلم والنطق والاعتقاد ،والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الاعمال شرطا في صحته والسلف جعلوها شرطا في كماله ) انتهى
قلت : رحم الله الامام ابن حجر وجزاه عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء ، غير أن ما ذكره هنا عن السلف والتفريق بين قولهم وقول المعتزلة لايخلو من نظر ، والصواب خلافه .
قال : كيف يكون هذا ؟ ما ذكره هو ما تعلمناه ، أن العمل شرط كمال ، ولذلك تارك العمل لايكفر ، وتارك التصديق والنطق يكفر .
قلت : بل العمل جزء من حقيقة الايمان والايمان حقيقة مركبة من القول والعمل ، والتولي عن العمل بالكلية زوال لحقيقة الايمان الشرعي ، وتارك العمل بالكلية ليس بمؤمن عند السلف ، والفرق بين قولهم وقول المعتزلة والخوارج أن تارك بعض العمل عند المعتزلة والخوارج ليس بمؤمن ، وجعلوا منه مرتكب مطلق الكبائر ، وأما السلف فيقولون تارك العمل بالكلية ، وتارك ما ينزل منزلة ترك العمل بالكلية كالنواقض العملية مثل ترك الصلاة ـ عند من يقول به ــ ليس بمؤمن ، وأما تارك بعضه الذي لاينزل منزلة تركه بالكلية ، كفعل الكبائر المعروفة ، فانه مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته ، هو مسلم فيه مطلق الايمان ، وليس مؤمنا الايمان المطلق الذي يستحق صاحبه الجنة بلا عقاب .
قال : أنت من جماعة التكفير ،وهذا القول هو قولهم ، وقد سمعنا عنكم ، وأنكم أخطر من اليهود والنصارى !! وهذا أوان عرفت حقيقتكم .
قلت : مهلا عفا الله عنك ، اصبر حتى تسمع قولي فربما كان قولي هو الصواب ، وكان قولك هو الخطأ ، ولا تعجل فلربما كان مع المستعجل الزلل .
قال : لا ينبغي أن أسمع من أهل البدع ، فانه يجب هجرهم .
قلت : هلا سمعت مني قاصدا دعوتي الى الحق ، فان أخطأت علمتني وان ضللت هديتني ، فاني أراك لم تهجر من هو أضل مني عندك لاجل دنيا تصيبها ، فهل قد جعلتني أضل الناس ؟
قال : هات نسمع ، ونرد عليك اذا خالفت منهج السلف .
قلت : حقيقة مذهب السلف أنه يتركب مما يلي :
1ـ الايمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقول هوقول القلب وهو التصديق ، وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين ، والعمل هو عمل القلب والجوارح بما فيها اللسان ، وعمل القلب يدخل فيه الخوف والرجاء والمحبة والتوكل 00الخ .
قال : أما هذا فصواب .(/3)
قلت : 2ـ الايمان حقيقة جامعة لهذه الامور ، متركبة منها .
قال : وهذا صواب أيضا ان شاء الله .
قلت : 3ـ المرجئة تقول( وهو قول أئمتهم المشهورين ) الايمان شيء واحد فقط وهو تصديق القلب ، والنطق بالشهادتين شرط لاجراء أحكام الدنيا عندهم فحسب .
قال : هذا هو قولهم .
قلت : 4ـ اذا كان عمل الجوارح انما هو نتيجة حتمية لعمل القلب وعمل القلب نتيجة لتصديقه مالم يحل بين التصديق وبين العمل القلبي مانع ، فهذا يعني أن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لايتخلف تخلفا تاما الا اذا زال عمل القلب زولا تاما .
بمعنى أنه اذا كان يصدق بالله تعالى ربه ومعبوده المستحق للعبادة وكمال الصفات ، فلا بد أن يحبه ويخافه ويرجوه ويتوكل عليه بالتوحيد ، مالم يقم بقلبه مانع الكبر أو غيره.
واذا أحبه وخافه ورجاه وكان حبه وخوفه ورجاؤه لله أعظم ، مما يكون لغير الله ، فلا بد أن يأتي بشيء من مقتضى هذا كله من عمل الجوارح، ولايتخلف عمل الجوارح تخلفا كليا مع وجود عمل القلب ، بلامانع يمنع من تخلفه ، كعدم التمكن مثلا أو مفاجأة الموت ، أو الجهل
قال : أنا موافق على هذا كله ، لا اشكال فيه .
قلت : 5ـ اذن لايمكن افتراض وجود باطن الايمان ( تصديق القلب وعمله ) دون شيء من ظاهرالعمل ، لان حقيقة الايمان مركبة من الامرين أصلا .
قال : فلماذا قالت المرجئة اذن ، بأنه يكون مؤمنا بقلبه ، والعمل خارج عن اسم الايمان .
قلت : لان الايمان عندهم هو التصديق فقط ، فلم يعسر عليهم تصور وجوده مع فقد كل الاعمال بالكلية .
قال : والسلف ؟
قلت : الايمان عندهم تصديق وعمل ، مركب من الامرين ، وعمل الجوارح لازم لعمل القلب ، وكلاهما من الايمان نفسه وداخل مسماه ، ولهذا لا يبقى الايمان مع انتفاء عمل الجوارح كله الا لمانع ، لان انتفاء عمل الجوارح بالكلية بلامانع ، يعني انتفاء عمل القلب بالكلية ، ولايكون الشخص مؤمنا وليس في قلبه شيء من عمل القلب ( خوفه ورجاؤه ومحبته وتوكله 00الخ ) ، فاذن لاايمان مع انتفاء عمل الجوارح بالكلية .
قال : قد يكون الانسان مصدقا بوجود الله تعالى لكن لايحبه ولايخافه ولايرجوه أكبر من محبته وخوفه ورجاءه لغيره .
قلت :فاذن لن يأتي بالعمل الصالح ، الا على صورة يكون فيها العمل مع الشرك بالله ، فهل تسمى هذا مؤمنا ؟
قال : حاشا لله ، بل هو مشرك ، لكن كيف وهو مصدق ؟
قلت : هو مصدق بالله تعالى ، لكن كتصديق ابليس وفرعون ، ليس معه انقياد قلبي لما صدق به ، بسبب مانع منع من الانقياد القلبي الذي تكون معه أعمال القلوب ،ومن الاسباب المانعة : الكبر فابليس استكبر عن الانقياد مع وجود التصديق ، وفرعون كذلك قال الله تعالى عنه ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) ، ولهذا من الكفر مايكون استكبارا لاتكذيبا ، ومن الاسباب المانعة ايثار الحياة الدنيا فيسمع حجة الرسل ويعتقد صدقها بقلبه، ولاينقاد لها لانه لايريد الانقياد لغيره اذا كان ينزعه عن حالة يحبها ويريدها ويؤثرها على اتباع الرسل ، كاتباع ملة آباءه على سبيل المثال ، وذلك مثل أبي طالب ، فانه كان يعتقد صدق الرسول وصحة رسالته لكنه آثر محمدته في قومه ومكانته في قلوبهم على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخشي أن تفوت هذه المكانة فيسبونه ويلومونه اذا اتبعه ، فآثرهذه على الآخرة ، فصار كافرا بتوليه عن الشهادتين ، وان كان يعتقد صدق الرسول .
ولو فرض أن انسانا نطق بالشهادتين وتولى عن الانقياد لها بالعمل توليا تاما لنفس السبب الذي حمل أبي طالب على الامتناع عن النطق لكان حكمه حكم أبي طالب سواء ، ولاينفعه النطق بالشهادتين مع التولي عن العمل بالكلية عند أهل السنة وان كانت المرجئة تعتقد أنه ينفعه .
قال : هذا واضح بحمد الله تعالى ، وهل هو كفر التولي المذكور في القرآن .
قلت : نعم هو كفر التولي، كما في قوله ( فلا صدق ولاصلى ولكن كذب وتولى ) ، فالتصديق قابله بالتكذيب ، وفعل الصلاة التي هي أعظم العمل وتاركها كتارك العمل كله ، قابله بالتولي .
قال : وما تقول المرجئة في مثل أبي طالب ، يقولون كل من حكم الله أو رسوله بكفره فهو مكذب في الباطن ، وان كان يظهر التصديق وهو مكابرة أوقعهم فيها اصرارهم على أن الايمان هو التصديق فقط وضده هو التكذيب فقط .
قال : وماذا يقولون فيما لو صدق رجل بقلبه وامتنع عن النطق هل نحكم عليه بالاسلام أو الكفر ؟ فاذا كنا نحكم عليه بالكفرفقد كفرناه مع وجود التصديق فكيف يجعلون التصديق وحده هو الايمان، واذا كنا نحكم عليه بالاسلام فهو خلاف الاجماع المتيقن .
قلت : يقولون النطق شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط ، ولو تركه ثم مات فانه مؤمن عندالله ، هذا قول غلاتهم ، ويقولون :هو مؤمن عند الله ، وان كنا نطبق عليه احكام الكفر ، لاننا مأمورون بالظاهر في إجراء أحكام الدنيا، وبعضهم يقول ( كافر قضاء مؤمن ديانة ) .(/4)
وقلت : ومن قال منهم الايمان تصديق القلب وعمله ، فرارا من هذا القول ، فانه يتناقض عندما يخرج عمل الجوارح لانها لازمة لعمل القلب ، ومن قال منهم تصديق القلب وعمله والنطق بالشهادتين فقط من عمل الجوارح لكي يجعل مثل أبي طالب كافرا وليوافق النقل ، فانه يتناقض ايضا لان جعل النطق بالشهادتين ، لازما لعمل القلب لايصح الايمان الا بهما معا ، ثم اخراج أعمال الجوارح كلها من هذا اللزوم ، تحكم وتناقض بين ، فان من نطق بالشهادتين لوجود تصديق القلب وعمله ، لابد أن يأتي بشيء من عمل الجوارح ، ولايتصور أن يتركها بالكلية ، فان الملزوم لايتخلف عن لازمه .
وقلت : ذلك أن الانسان حارث وهمام ، لايكون له ارادة الا ومعها عمل ، وهذه هي طبيعة الخلقة الانسانية أنها تعمل بحسب الارادة التي تنبثق من التصديق والعلم ، فلا يكون الانسان ذا علم وتصديق الا ويترتب عليه ارداة بحسب علمه وتصديقه ، ثم العمل يكون على وفق هذه الارادة .
قال : الا لمانع يمنع من حصول محبة في القلب وارادة توافقان التصديق ، ومن الموانع الكبر والعناد والتولي والاعراض أوايثار الانقياد لغير ما صدق به لسلطان محبة ذلك الغير على قلبه ، ونحو ذلك .
قلت : صدقت ، هل علمت الان أنه لايصح أن يقال العمل شرط كمال هكذا باطلاق .
قال : علمت وهو خلاف الصواب ولايطابق مذهب السلف
قلت : وهذا النص عن امام أهل السنة الناطق بمذهبهم يبين صحة ما قلناه ، ( قال الحميدي وأخبرت أن أقواما يقولون : ان من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت ، ويظل مسندا ظهره مستدبر القبلة حتى يموت ، فهو مؤمن ــ مالم يكن جاحدا ــ اذا علم أن ترك ذلك فيه ايمانه ، اذا كان مقرا بالفرض واستقبال القبلة ، فقلت : هذا الكفر بالله الصراح ، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل المسلمين قال الله عز وجل ( حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) قال حنبل : قال أبو عبدالله ( وهو الامام أحمد ) : من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلىالرسول ما جاء به صلى الله عليه وسلم ) كتاب الايمان مجموع الفتاوى 7/209
و اليك هذا النص ( قال الاجرى ، فالاعمال بالجوارح تصديق عن الايمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الايمان بعمله ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل ، لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لايمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه 00وقد قال عز وجل في كتابه ، وبين في غير موضع ، أن الايمان لايكون الا بعمل ،وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قالته المرجئة الذين لعب بهم الشيطان ) الشريعة ص 121
قال : لو كان العمل مجرد شرط كمال لايصح أن يقول الامام أحمد والحميدي والآجري قولهم المتقدم ، فان شرط الكمال لو ذهب كله يذهب الكمال فقط ، وقد كنت أظنك خارجيا تكفيريا خبيثا أحذر منك ، فبان لي الآن أن من كان يقول فيكم هذه الاوصاف ، ينطبق عليه قول الاجري : مرجئ خبيث يحذر منه.
قلت : لاعليك فالحق أبلج والباطل لجلج ،ومهما نفخ في الباطل فان مآله الى اضمحلال ، وقد قيل عن دعاة أهل السنة من قبل أنهم خوارج وأنهم يكفرون المسلمين فلم يطفىء ذلك نور الحق الذي دعو اليه ، ذلك أن الله تعالى نصب للحق منارا هاديا .
قال : لكن ما توجيه النصوص التي ذكر فيها دخول أقوام الجنة بلا عمل .
قلت : تلك محمولة على أقوام مخصوصين ، منعهم من العمل مانع الجهل أو عدم التمكن أو غير ذلك والمتشابه اذا رد الى المحكم تبين وجهه ومعناه ، أما قول من يقول انهم مؤمنون ايمانا صحيحا مع وجود عمل القلب ، وقد قام في قلوبهم حب الله أعظم من غيره والخوف والرجاء كذلك ، ثم علموا ما يسخط ربهم وما يرضيه ، وتمكنوا من العمل ، ثم لم ينقادوا لشيء منه قط ، ولا سجدوا لله سجدة ولا سبحوه بألسنتهم تسبيحة واحدة قط ، بل تولوا توليا كليا عن الانقياد دهرهم كله حتى ماتوا ، فهذا لايتصور وقوعه أصلا اذا قلنا الايمان حقيقة مركبة من القول والعمل (عمل القلب والجوارح )، وأن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لايتخلف عنه الا لمانع خارج عن ارادة الانسان وقدرته ، لايتصور وقوعه على مذهب أهل السنة ، وانما تتصوره المرجئة التي تقول الايمان مجرد التصديق والعمل خارج عن اسم الايمان بالكلية ، وهو شرط لكماله وليس جزءا من حقيقته في عقيدتهم .(/5)
قال : لكن هذا يترتب عليه أن الكفر الاكبر يكون منه كفر عملي ، كما يكون اعتقاديا ، ويترتب عليه أن المكفرات العملية ان كانت من نواقض الايمان لايشترط فيها الاستحلال والجحود ، بعبارة أخرى يترتب عليه أن الكفر ليس بالجحود فقط ، بل يكون بعض الاعمال ماهو كفر أكبر ، وان لم يستحله الفاعل ويجحد تحريم الشريعة له ،( قلت : وهو النواقض العملية ) قال : لان العمل اذا كان من الايمان ، فيكون منه ما يضاد الايمان ، كما يضاد التكذيب التصديق في الايمان المركب منهما .
قلت : ليكن كذلك ، ويكون من الكفر العلمي أيضا كفر أكبر وان لم نعلم انطواء القلب على الاستكبار والاستخفاف أيضا، وتسمى النواقض العملية ، بل هذا هو مذهب السلف ، ولا يقول أن الكفر الاكبر لايكون الا بالاعتقاد خاصة جحودا أو استحلالا الا المرجئة ، ألم تر الامام أحمد يكفر تارك الصلاة وان لم يستحل وان لم يكابر الشريعة ، وذلك بسبب أن اعتقاد الامام مطابق للنصوص في حقيقة الايمان التي شرحتها آنفا ، ووافقتني عليها .
وقلت أيضا : ومن هنا يحكي شيخ الاسلام عن طائفة من السلف تكفيرهم تارك الاركان الاربعة( الصلاة والصيام والحج والزكاة ) أو بعضها وان لم يستحل ، فجعلوا ترك هذه الاركان بمنزلة ترك العمل كله ، لان ترك الركن يبطل العبادة والا فما فائدة جعله ركنا ، وهذا يدل على أن فهمهم لحقيقة الايمان أن العمل باعتبار جنسه لابعضه ركن في الايمان ، ويدل على أنهم يكفرون ــ الكفر الاكبرـ بأعمال مخصوصه فعلا وتركا .
قال : لكن هل يكفر تارك الصوم أو الحج أو الزكاة كتارك الصلاة .
قلت : كلا بسبب أن النصوص خصصت تارك الصلاة ، وجاءت بعضها تنص على أن تارك سائر الاركان ليس بكافر ،مع أن تاركها بمعنى المتولي عن فعلها الممتنع عن التزامها بالكلية حتى لو قوتل عليها لقاتل فانه يكفر كمانعي الزكاة ، وان لم يجحد وجوبها ، والنصوص التي خصصت الاركان الثلاثة لاتتناول هذه الصورة ، و المقصود هنا بيان دلالة تكفير من يكفر من السلف لتارك الاركان الاربعة على مذهبهم في حقيقة الايمان ، وأن من الكفر العملي عندهم ما يكون كفرا أكبر بسبب أن الكفر عندهم ليس بالحجود والتكذيب فقط ، انطلاقا من اعتقادهم أن الايمان ليس هو التصديق فقط .
قال : أما من هذه الجهة فالدلالة واضحة ، لما كان الايمان عندهم ، تصديقا قلبيا ولسانيا وعملا ، صار ضده وما ينقضه أيضا منه تكذيب ومنه عمل .
قال : لكن الاشكال لازال باقيا في الفرق بينهم وبين من يكفر بارتكاب الكبائر كالخوارج .
قلت : الفرق أن الخوارج يكفرون بمطلق الكبائركالزنى وشرب الخمر والقتل ، والسلف لايكفرون بها ، بل بالنواقض العملية كترك الصلاة عند من يكفر بها ، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء بالمصحف وتوجيه العبادة لغير الله تعالى ، ونحو هذه النواقض العملية .
قال: حتى ولو لم يستحل ؟
قلت : حتى ولو لم يستحل ، ولايشترط الاستحلال في كل تكفير الا المرجئة.
قال : فهمت أن الخوارج يكفرون بكل كبيرة مطلقا ، والسلف يكفرون بأفعال معينة ــ ليس منها الكبائر المعروفة ــ يسمونها النواقض العملية ، وترك الصلاة مثال واضح لهذا ، وكما أن من يحكم بكفر تارك الصلاة من السلف لايشترط الاستحلال ، كذلك من يكفر بغيرها من النواقض العملية لايشترط الاستحلال .
قلت : نعم ، غير أنهم قد يختلفون في الفعل هل هو من النواقض العملية أم لا ، واختلافهم في تكفير تارك الصلاة هو من هذا الوجه ، لا من أجل أن من أتى بالنواقض العملية لايكفر الا بالاستحلال عندهم ، بمعنى أن من لايكفر بترك الصلاة من السلف ليس لانه يرى رأي المرجئة الذين لايكفرون الا بالاستحلال مطلقا ، بل لانه لايجعل ترك الصلاة من النواقض العملية ، وترى نفس الفقيه الذي لايكفر بترك الصلاة ـ ان كان على مذهب السلف في العقائد ـ تراه يكفر ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا وان لم يستحل .
قال : لكننا نسمع كثيرا من العلماء يقولون لايكفر من فعل كذا الا أن يستحل .
قلت : نعم ويكون المذكور بهذا الحكم ، ليس من النواقض العملية ، ولايكون من النواقض العملية الا ما يقتضي التكفير بحد ذاته ، من غير اشتراط استحلال قلبي عندهم .
قال : أما أن التكفير ببعض الاعمال التي تسمى النواقض من غير اشتراط الاستحلال يتلائم على مذهب السلف في فهمهم لحقيقة الايمان ، فواضح جدا ، لكن يبقى اشكال وهو أن من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أو يستهزئ بالمصحف ونحوهما ، لايتصور أن يكون ذلك منه الا باستحلال وعدم تصديق ، وحينئذ تعود المسألة الى أن التكفير لايكون الا بالتكذيب الذي هو ضد التصديق ، وأن الاعمال شرط كمال فقط ، فكأن الخلاف عاد الى أن يكون خلافا لفظيا ، بمعنى أن كل ناقض عملي لايتصور وقوعه الا مع عدم تصديق قلبي ( الاستحلال صورة منه ) ، فحينئذ النتيجة واحدة .(/6)
قلت : غير صحيح البتة ، ان كنت تقصد بالاستحلال ، انه يعتقد أنه حلال في الدين فواضح أنه قد يعتقد تحريمه ، ومع ذلك يفعله ، واذا كنت تقصد أنه لايصدق بالله وبأن النبي صلى الله عليه وسلم حق وأنه حرم هذا الفعل ، فكذلك واضح أنه قد يصح منه هذا التصديق ومع ذلك يقع منه السب ، وقد رأينا بعض الجهلة يسبون الدين والرب تعالى في حال الغضب ويصلون أحيانا ، وهم كفار بسبهم وان اعتقدوا أنه محرم وصدقوا بالدين ، وعليهم أن يتوبوا توبة صحيحة ليرجعوا الى الاسلام .
قال : لكن لايقع ذلك منهم الا لهوان الدين في قلوبهم .
قلت : نعم ، وقد يكون لاسباب أخرى أيضا ،لان ترابط فعل الجوارح بالقلب ضرورة خلقية ، لكن المقصود أن هذا الذي سميته هوان الدين ، وقد ترتب عليه فعل المكفرات العملية ، هو أمر آخر يختلف عن التكذيب والجحود والاستحلال الذي يشترطه المرجئة في كل حكم بالتكفير ، ويختلف عن العناد والاستكبارالمقارن للاستخفاف كما يشترطه بعضهم ، ويقولون لا يكون التكفير بالكفر الاكبر الا اعتقاديا مطلقا ، وأما أفعال الجوارح فلا يكفر بها الا مقرونة بالاستحلال والتكذيب أو الجحود أو العناد فيكون التكفير بهذا الاعتقاد لا بالفعل .
قال : حتى لو سجد للصنم ، لاتكفره المرجئة الا بالاعتقاد المقارن؟
قلت : حتى لو سجد للصنم ، لايكون كفره عندهم لسجوده للصنم ، بل لما في قلبه من اعتقاد قارن السجود .
بل لقد حدثني بعض افاضل الدعاة أن بعض الطلبة المتأثرين بكتاب ( الحكم بما أنزل الله وأصول التكفير ) لما سأله ذلك الفاضل عن حكم من يسجد للاصنام طمعا في متاع الدنيا غير مستحل ولامستكبر ولا جاحد ، قال : لايكفر .
قال : لكن كيف لنا أن نعرف اعتقاده وما في قلبه ، فكيف اذن نحكم عليه ، أليس هذا يقتضي أن لايحكم على أحد بالكفر الا اذا نطق به فقط ؟.
قلت : المرجئة قديما كانت تقول نحن مأمورون أن نحكم بالظاهر ، فنكفره اجراء لاحكام الدنيا فقط ، لانها تبنى على الظاهر ، واذا علم الله تعالى أنه مصدق بالله ، غير مستحل السجود للصنم ، فانه مؤمن عند الله تعالى ناج يوم القيامة من حكم التكفير وان عوقب على فعل المحرم.
وقلت : وهم يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر عند الله تعالى أيضا فهذا يدل على أنه غير مصدق بقلبه ، وكل من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو غير مصدق بقلبه ، وان كان يظهر خلاف ذلك ، لان الكفر لايكون الا التكذيب .
قال : لكن نحن يهمنا اجراء أحكام الدنيا ، أما الاخرة فحكمها الى الله تعالى ، وحينئذ فالخلاف سيكون لفظيا ، المرجئة والسلف متفقون على أن ساب الرسول والساجد للصنم مثلا ، نجري عليه أحكام التكفير في الدنيا لاننا لاسبيل لنا لمعرفة ما في قلبه ، فيأخذ الجميع بالنواقض العملية في أحكام الدنيا على اتفاق بينهم من باب الاخذ بالظاهر والله يتولى السرائر .
قلت : الخلاف فيما لو زعم بلسانه أنه مصدق في حال اتيانه بالناقض العملي كالسجود للصنم وسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ، بمعنى أنه يفعل ذلك ويزعم أنه غير مستحل ، فهل نكفره ، ونقيم عليه حد الرده ، والعجب أن مرجئة العصر أوغل في الارجاء من المتقدمين انهم يقولون لانكفره ولا نعمل بالظاهر وان سجد للصليب وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ونحوها ، ولانكفر الا من يقر على نفسه انه مستحل جاحد فقط ، وهذا من أعجب المذاهب ، وأعجب منه من يقول لانكفر أهل الشهادتين قط لان الكفر قد يندفع بما يندفع به وعيد عصاة الموحدين !!
قال : دعنا الان من مرجئة العصر ، فلنفهم أولا مذهب الارجاء القديم والفرق بينه وبين مذهب السلف ، ثم نعود الى من تقصدهم بالتفصيل ، أجبني على السؤال التالي : كيف يتصور أن يسجد للصنم أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه مصدق بدين الاسلام غير مستحل لما يفعل ، الا ان يكون مكرها ، والمكره نزل فيه قوله تعالى ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ؟
قلت : يتصور أن يوافق المشركين على دينهم ايثارا لعرض من اعراض الدنيا ، يوافقهم فيسجد للصليب مثلا ليعطوه أو يكرموه أو يجعلوه سفيرا أو أميرا أو ينحلوه مالا ، أو ليبقى في بلادهم حيث يتنعم فيها بملذات لايجدها في بلاده ، وهو في قلبه كافر بصليبهم ، واذا خلا بالمسلم يظهر له كفره بالصليب ، وأنه إنما يسجد له في ظاهر أمره ويعظمه ، موافقة للمشركين طمعا في دنياهم .
قال : أو يسب معهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنفس الغرض ، أو يعظم دينهم ويرفعه على دين الاسلام ، لنفس الغرض ، أو يقاتل معهم وينصرهم على المسلمين لنفس الغرض ، وهو مع ذلك لايستحل هذا كله ، ويصدق بقلبه بدين الاسلام ، ويقر لمن يخلو به من المسلمين ان دين الاسلام هو الحق وأنه لايتركه بقلبه ، مع نطقه بالشهادتين ، وأنه كافر بقلبه بدين المشركين ، لكن انما يصانعهم طمعا بما في أيديهم من الدنيا .(/7)
قلت : نعم ، فهل هذا مسلم لانه مصدق فحسب ، عاص فاسق بارتكاب الكبيرة فقط ، ولم ينقض ايمانه لانه لم يستحل ، هل هذا هو مذهب أهل السنة ؟
قال : كلا هو ناقض لايمانه ، ولاكرامة له ولانعمة عين .
قلت : هذا النص الذي سأنقله لك عن شيخ الاسلام ابن تيمية يعد مثالا واضحا لجميع ما ذكرناه آنفا ،قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ( ان سب الله وسب رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الايمان قول وعمل ) الصارم المسلول ص451
قال : ما معنى قوله ( ظاهرا وباطنا ) .
قلت : اشارة الى مخالفة قول المرجئة أنه يكفر ظاهرا فقط ، وهم يقولون نكفره ظاهرا لاننا مأمورون بالاخذ بالظاهر ، أما أمر الباطن فاذا كان يعتقد تحريم ما فعل ولايستحله فانه مؤمن عند الله وان حكمنا عليه بالكفر ظاهرا ، هذا مذهب المرجئة المتقدمين ، أما المحدثون فلا يكفرونه باطنا ولا ظاهرا الا أن يصرح بالاستحلال ، وأما أهل السنة فانه يكفر ظاهرا وباطنا عندهم ، لان السب من النواقض في حد ذاته .
قال : لكن واقع الامرأنه لايسب النبي صلى الله عليه وسلم ، الا من هان عليه مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في قلبه من توقيره ما يوجب كف لسانه عما لايليق به فضلا عن سبه .
قلت : عدنا الى ما ذكرته من قبل ، وهو أن هذا الذي تسميه هوان مقام النبوة عنده ، هو أمر آخر غير الاستحلال ، وهو غير اعتقاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز سبه ، أو أنه في مقام يستحق السب حاشاه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود أنه قد لايعتقد هذا كله ، ومع ذلك يكفر بالسب ان فعله عامدا عالما بمعنى اللفظ ، ولاريب أنه لم يسبه الا لفساد في عمل القلب أوجب هذا الاستخفاف الذي كفر به ، ضرورة ارتباط عمل الجوارح بعمل القلب .
قال : لكن لماذا لم يوجب التصديق به صلى الله عليه وسلم عند هذا الساب ما أوجب عند غيره من تعظيمه وتوقيره .
قلت : لان التصديق المجرد اذا عارضه مانع ، فانه لايوجب عمل القلب من حب الله تعالى الذي منه حب رسول صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم الله الذي يدخل فيه تعظيم رسله ، والخوف من الله تعالى ورجاء ماعنده خوفا ورجاء أعظم مما يكون لغير الله تعالى ، ومن الموانع الكبر والاعراض ومنه أن القلب يكون مشغولا بارادة مرادات أخرى ــ كايثار الحياة الدنيا من رئاسة أو مال ــ غلبت عليه فمنعت من اتباع ما يعلم صدقه وحب قلبه له وارادته ، فلما انشغل القلب بهذا العمل القلبي منع من حصول مقتضى التصديق بما جاءت به الرسل ، فيكون مصدقا بما جاءت به الرسل وعالما بأنه حق لكن لايكون في قلبه عمل بمقتضى هذا التصديق ، فلايكون في قلبه حب الله تعالى أعظم من كل محبوب ، ولا ارادة ما عنده أعظم من كل ارادة ولا الخوف منه أعظم من خوفه من غيره ، فتأتي أعمال الجوارح على وفق مافي قلبه ، فيقع منه ما يكون كفرا أكبر ، بمقتضى ما في قلبه من فساد في عمل القلب .
قال : وهذا كله أمر آخر غير التصديق .
قلت : نعم هو غير التصديق ، فقد يكون مصدقا بالله ، محبا مريدا لغير ما صدق به ، والمرجئة تقول اذا كان مصدقا ، فهو مؤمن عند الله تعالى، لان الايمان هو التصديق ، والاعمال ليست منه ، ومن يقول الاعمال شرط كمال فهي عنده ليست منه أيضا ، لان الشرط انما يكون خارج الماهية ، فاذا جعله كمالا فان زوال الكمال زوالا تاما لايؤثر في صحة الايمان ، عند هؤلاء .
قال : لعل الذين اشترطوا الاستحلال والتكذيب للتكفير بالنواقض العملية ، وقالوا اذا كان مصدقا لا يكفر بالعمل قط ، وقالوا الكفر العملي لايكون كفرا أكبر قط ، وقال بعضهم الكفر الاكبر هوالاعتقادي والاصغر هو العملي هكذا باطلاق ، اشتبه عليهم المقصود باعتقاد القلب ، واختلط بعمل القلب والتصديق ،وهم انما يقصدون بالاعتقاد مايعم عمل القلب ، ولم يفطنوا الى أن قولهم الكفر الاكبر لايكون الا اعتقاديا يندرج فيه القول بأن الكفر لايكون الا التكذيب والاستحلال وهو قول المرجئة .
قلت : قولهم الكفر الاكبر لايكون الا اعتقاديا ، يعني ضد التصديق ، وهو التكذيب ، لان عمل القلب غير اعتقاده ، اعتقاده هو تصديقه وعلمه ، وأما عمله فأمر آخر وارءه .
قال : ففي الحقيقة قولهم بعينه هو قول المرجئة ، أو يرجع اليه .
قلت : نعم ، ولو أنهم قالوا الكفر العملي الاكبر دليل على فساد عمل القلب ، مع وجود التصديق ، وهذا ما نعنيه بأن الكفرالاكبر هوالاعتقادي ، أي أن الكفر العملي الاكبر ملزوم لفساد عمل القلب ، ولان فساد عمل القلب هوالسبب الباعث على هذا الكفر العملي الاكبر ، سميناه الكفر الاعتقادي ، ونعده كفرا أكبر ، لكان صوابا في المعنى خطأ في العبارة ، وهو أشبه بالخلاف اللفظي .
قال : لعلهم يقصدون هذا المعنى ، فأخطأوا اللفظ الدال على مقصودهم .(/8)
قلت : يتبين بالمثال ، اذا قالوا ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ـ غير المستحل ـ كافر ، وقد أمرنا أن نحكم بكفره ظاهرا ، مع عدم اطلاعنا على اختلال باطنه وفساد عمل قلبه ، لكننا نعلم بعلمنا بارتباط الظاهر بالباطن أن عمل قلبه فيه فساد أوجب سبه الظاهري ، مع أنه قد يكون مصدقا بالرسول وبما جاء به ، فقولهم صواب لا أشكال فيه على مذهب السلف .
وان قالوا : بل نحكم بكفره ظاهرا ، وهو في الباطن مؤمن عند الله ان كان مصدقا غير مكذب ان كان من أهل الشهادتين ، فهذا مذهب الارجاء القديم، وهؤلاء كانوا يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر باطنا ، فلا يكون الا مكذبا باطنا ، لان الكفر لايكون الا التكذيب والجحود .
وان قالوا : ان تبين لنا انه مصدق غير مكذب ، ولا مستحل ولا جاحد ، لكن وقع منه السب تهاونا لا تكذيبا ولا استكبارا ، فهو غير كافر ، وان كان أتى بعمل الكفر ، لان الكفر الاكبر لايكون الا بالاعتقاد أو الاستكبار والاستخفاف ولايكون بالعمل قط ، فهم مرجئة العصر ومذهبهم أقبح من المذهب القديم ، لانهم يفسدون زواجر الشريعة المقصودة بحدود الردة في أحكام الدنيا ، ويفتحون الباب لتتايع الناس في أقبح الكفر بحجة أنه معصية وليس كفرا ، وينطوي هذا على خطر عظيم على الدين ، وأي فساد أعظم من زوال الحد الفاصل بين أعظم متمايزين متضادين موجبين لاعظم مطلوب أو ضده ،الايمان والكفر .
قلت : واذ قد تبين لك حقيقة مذهب السلف في الايمان ، وما ينبني عليه من أقوالهم في التكفير ، وأنهم يكفرون بالنواقض العملية ، ولايشترطون الاستحلال والجحود والتكذيب فيها ، وأن المرجئة هم الذين لايكفرون الا بالاستحلال أو الاعتقاد أو التكذيب أو الجحود وهي الفاظ تدل على معان متقاربة أومتداخلة ، وذلك بناء على ان الايمان عندهم هو التصديق فقط والاعمال ليست منه ، وأن حكاية مذهب السلف ان العمل شرط في كمال الايمان غلط عليهم ومخالف لمذهبهم ، فسأنقل لك بعض النقول التي تبين بعض أحكام نواقض الايمان ومنزلة العمل منه ، عن أجلة العلماء وطابق بينها وبين ما ذكرت لك أنفا :
1ـ قال الربيع كان الحسن البصري يقول ( الايمان كلام وحقيقته العمل فمن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول ) الابانة لابن بطة 2/792
2ـ وعن سهل بن عبدالله التستري ( الايمان اذا كان قولا بلا عمل فهو كفر ، واذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق واذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة ) الابانة لابن بطة 2/814
3ـ وقال الامام ابن بطة رحمه الله ( فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولايؤديها ويعلمها وبتحريم الفواحش والمنكرات ولاينزجر عنها ولايتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله ) الابانة 2/795
4ـ شيخ الاسلام ابن تيمية ( والصحابة لم يقولوا : أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها ؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة ، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنه : والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب ، وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعا سيرة واحدة ،وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار ، وسموهم جميعا أهل الردة ) الدرر السنية 8/35
قال : هل يعني هذا تكفير تارك الزكاة ؟
قلت : من تركها بخلا أو أحيانا ، فهو كمن يترك الصلاة أحيانا مثل أن يضيعها ويؤخرها عن وقتها وتفوته بعض الفرائض فهذا لايكفر ، لكن من عزم على تركها بالكلية امتناعا وتوليا عن التزامها ، حتى لو قوتل عليها لقاتل دون دفعها ، فالصحابة ــ كما قال شيخ الاسلام ـ على تكفيره وان كان مصدقا بدين الاسلام وأن الزكاة فرض فيه ، وهو دليل على أن هذا الفعل عندهم من النواقض العملية ، وهو (العزم على ترك الزكاة بالكلية والامتناع عن التزامه ـ توليا عن هذا الركن العظيم ـ والقتال على ذلك ) ولهذا لم يفرقوا بين مستحل جاحد أوغيره .
5ـ وقال شيخ الاسلام ابن تيمية أيضا : ( ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لان ذلك لايكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لانه استثنى المكره وهو لايكره على العقد والقول وانما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك الا من أكره وهو مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فانه كافر أيضا ، فصار من تكلم بالكفر كافرا الا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، وقال في المستهزئين ( لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته ) الصارم المسلول ص524(/9)
قال : تقصد أن المعنى أن من اكره على ناقض قولي ــ كسب الرسول مثلا ــ ففعله مكرها ولم ينشرح صدره به لايكفر ،وأن من فعله غير مكره يكفر وان اعتقد التحريم 0
قلت : نعم هذا هو معنى الاية وظاهرها ، وتفسير شيخ الاسلام لها 0
قال : اليس المعنى هو أنه لايكفر الا من يشرح صدره بعمل الكفر يعني يستحله ويعتقد صحته ، لان الله تعالى قال ( ولكن من شرح بالكفر صدرا 00الاية ) .
قلت : كلا ، بل قوله (ولكن من شرح بالكفر صدرا) يعني من المكرهين على قول الكفر ، لايكفرمن المكرهين الا من انشرح صدره بعد اكراهه وقال كلمة الكفر منشرحا بها صدره ، أما غير المكره اذا قال كلمة تنقض الايمان كسب الله تعالى ورسوله ، وكان طامعا راجيا لعرض من الدنيا مثلا ، وان كان في قلبه يكرهها ، فانه يكفر وان اعتقد تحريم فعله ولم يستحله ، وان كان من أهل الشهادتين ، ألا ترى مصداق ذلك في حديث ( يصبح مؤمنا ويمسى كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ) ، فمن قال كلمة الكفر الاكبر كسب الله ورسوله أو الاستهزاء بالدين أو عمل عملا هو من الكفر الاكبر طمعا في عرض الدنيا فقد باع دينه بعرض من الدنيا ، وما أكثر ذلك هذه الايام قال تعالى ( ذلك بانهم استحبوا الحياةالدنيا على الاخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين ) ، وقد جاءت هذه الآية بعد آية الاكراه في سورة النحل .
7ـ في أجوبة ابني شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب الإمامين حسين وعبدالله مايلي : (المسألة الثانية وهي : الاشياء التي يصير بها المسلم مرتدا ، 000 الثانية : اظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم والدليل قوله تعالى { ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم ، فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } ، وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذه المسألة عشرين آية من كتاب الله ، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدل بها أن المسلم اذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير اكراه ، أنه يكون بذلك مرتدا خارجا من الاسلام ، وان كان يشهد أن لااله الا الله ، ويفعل الاركان الخمسة أن ذلك لاينفعه ) مجموعة التوحيد 403
قال : هذا مثل ما ذكرت آنفا : أنه اذا سجد للصليب أو سب دين الاسلام أو قاتل مع قومه الكفار أهل الاسلام المجاهدين لاظهار الدين ، ونحو ذلك من النواقض العملية أنه يكفر وان لم يستحل على مذهب السلف ، لانه أظهر الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم من غير اكراه .
قلت : نعم ، ما ذكره علماء الدعوة السلفية النجدية هنا هو مطابق تماما لمذهب السلف وينبيء عن فهمهم الدقيق لهذه القضية ، ذلك انها كانت قضيتهم التي جاهدوا في سبيلها ، فهم أعلم بها من غيرهم .
وقلت : ومعلوم أن من أسباب زيادة العلم عند بعض العلماء مزيد عنايتهم ببعض أنواعه لحصول البلوى عندهم أكثر من غيرهم كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية ( فان أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ،ثم أهل الشام ،ثم أهل العراق ، فأهل المدينة أعلم بها لانها كانت عندهم ،وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم ) التفسير الكبير 2/212
وكذلك علماء الدعوة النجدية لما كانوا يجاهدون واحتاجوا الى هذه القضية ، كان تحقيقهم لها ومعرفتهم بتفاصيلها أكثر من غيرهم ممن هو بعدهم ، وهم فيها أسد نظرا ، وأهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وهم انما بنوها على أصول أهل السنة في الايمان لم يخرجوا عن ذلك قيد انملة 0
8ـ قال شيخ الاسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب ( فانهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم ( يعني المشركين ) تغيير عقيدته ، ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب الى الاسلام في اظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم ، ويظن أنه لايكفراذا كان قلبه كارها له ، الى أن قال : الثالثة : أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ، فان هؤلاء الذين ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله تغيير العقيدة كما تقدم ، بل اذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لاجل ماله أو بلده أو أهله ، مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم ، فهذا كافر لا من أكره 00الى أن قال : ولكن رحم الله من تنبه لسر الكلام وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الايات ، من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر ، مع كون القلب بخلاف ذلك ، فان هذا هو الذي ارادوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فافهمه فهما حسنا ، لعلك تعرف شيئا من دين ابراهيم عليه السلام ) مجموعة التوحيد 404(/10)
قال : يقصد موافقتهم في شركهم وكفرهم كتعظيم الاصنام والسجود لها ، وسب دين الاسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، فانه يكفر وان كان في قلبه لايستحل ما فعل ويكره الكفار ويبغض دينهم ، لكن حمله على هذا الناقض العملي الطمع في المال أو الجاه والرئاسة ونحو ذلك ، كما في الحديث ( يصبح كافرا ويمسي مؤمنا ، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) .
قلت : نعم هذا هو مقصوده ، وليس مجرد موافقتهم في مباح أو قبول مشورتهم في أمر يحسنونه ، أو في ارتكاب كبيرة كأن يشرب معهم الخمر مثلا 0
وأما اذا كان في سلطانهم فخاف على نفسه منهم ، فأظهر لهم موافقته لدينهم اذا لقيهم وقلبه كاره ، فانه يدخل في آية الاكراه ، ولكن اذا لم يكن في سلطانهم وانما حمله على موافقتهم الطمع في الدنيا ، فانه يكفر وان لم يستحل وان كان قلبه كارها ، قال شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ( أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم ،وانما حمله على ذلك اما طمع في رياسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال ، او خوف مما يحدث في المآل ، فانه في هذه الحال يكون مرتدا ولا تنفعه كراهته لهم في الباطن ، وهو ممن قال الله فيهم { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } ، فاخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل أو بغضه ، ولامحبة الباطل ، وانما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين ) مجموعة التوحيد 418
قلت : وتأمل قوله ( أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ) وكيف يرد على من لا يجعل من كفر العمل كفرا أكبر قط .
وتأمل قوله ( أو خوف مما يحدث في المآل ) وكونه لم يعذره بذلك ، ولم يرفع عنه حكم التكفير ، وانما بما يقع عليه من الاكراه في الحال ، وسنكمل بقية النقول في الحلقة القادمة ان شاء الله تعالى .
وتأمل قوله ( لعلك تعرف شيئا من دين ابراهيم ) وكيف جعل هذه القضية من صلب الدين وأساس التوحيد .
9ـ وفي أجوبة الامامين حسين وعبدالله ابني الشيخ في بيان ما يصير به المسلم مرتدا ( الامر الرابع : الجلوس عند المشركين في مجالس شركهم من غير انكار والدليل قال تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب ان اذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم اذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وفي أجوبة آل الشيخ رحمهم الله تعالى ( لما سئلوا عن هذه الاية الجواب أن الايةعلى ظاهرها ، ان الرجل اذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فجلس عند الكافرين المستهزئين بآيات الله من غير اكراه ولاانكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، فهو كافر مثلهم ، وان لم يفعل فعلهم ) مجموعة التوحيد 405
قال : اذا كانوا يسبون دين الاسلام مثلا ويكذبون القرآن ويسخرون من أحكامه ، وهو يجالسهم في خوضهم هذا ، ولا ينكر عليهم ، من غير أن يكره على حضور هذه المجالس ، بل يعدهم أهل مجلسه الذين يصاحبهم وينادمهم ويسمع آيات الله يستهزئ بها ولايعرض ، فانه يكفر مالم ينكر أو يقوم ، اذا كان هذا هو معنى الاية فهو واضح ، وهو دليل على أن التصديق والشهادتين لم ينفعاه لانه نقضهما .
قلت : أما دلالة الاية فواضحة كما فسرها هذان الإمامان ، وهي دليل على أن المكفرات العملية لا يشترط فيها الاستحلال ، ولوكان لا يكفر حتى يستحل بمعنى يعتقد جواز خوض أهل مجلسه في آيات الله ، لما كان يكفر بمجرد هذا العمل ، وتأمل أنه لم يفعل شيئا غير أن سكت وبقي معهم ، فكيف لو كان يسب معهم ولايستحل .
10ـ وقالا رحمهما الله ( وهو أن الذي يدعي الاسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل ، بحيث يعده المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم ، وان ادعى الاسلام الا أن يكون يظهر دينه ، ولايتولى المشركين ) مجموعة التوحيد 406
قال : مفهوم هذا مع سياق ما تقدم ، اذا تولى المشركين بهذه الصورة بحيث يخفي دينهم أمامهم غير مكره ،ويتولاهم وينصرهم ويكون معهم بحيث يعدونه منهم ،يوافقهم على دينهم ، فهذا حكمه .
11ـ واسمع هذا النقل عن امام الدعوة المجدد محمد بن عبدالوهاب ، لتعلم حقيقة ما كانوا عليه من فهم لحقيقة الايمان ونواقضه ، يقول رحمه الله كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/300 ( سألني الشريف( شريف مكه آنذاك )عما نقاتل عليه وما نكفر به ؟ فقلت في الجواب : انا لانقاتل الا على ما أجمع عليه العلماء كلهم ( تدبرفي حكايته الاجماع على ما يكفرون به ثم لاحظ ما هي المكفرات التي كانوا يقاتلون عليها ) ،قال : وهو الشهادتان بعد التعريف اذا عرف ثم انكر ونقول أعداؤنا معنا على أنواع : الاول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر انه الشرك ولم يلتفت الى التوحيد علما وعملا ولا ترك الشرك فهذا كافر نقاتله ) .(/11)
قال : هذا كفر الاعراض ، يعلم بقلبه صحة التوحيد ولكن يفعل الشرك فيكون كافرا ، وقد يفعله موافقة لقومه فحسب ، فلا ينفعه علمه بقبح الشرك وأن دين الرسول صلى الله عليه وسلم هو التوحيد ، اذا كان يأتي الشرك ولاينقاد للتوحيد .
قلت : ما رأيك الان فيمن يقول لانكفر من يسجد للاضرحة والقبور ويطوف حولها ويستغيث بها ويفعل السحر 00الخ ، اذا علمنا أنه لايستحله بل يفعل ذلك من باب الدجل على الناس وأكل أموالهم وحبا في رئاسة ينالها بسبب هذه الافعال الشركية ، لانكفره لانه غير مستحل .
قال : هذا هو مذهب المرجئة .
قلت : هو مذهب الجدد أما القدماء فكانوا خيرا من هؤلاء ، لانهم كانوا يقولون نحكم عليه الكفر في أحكام الدنيا لاننا أمرنا بالاخذ بالظاهر وظاهره الكفر ، واذا علم الله انه مصدق بقلبه بالتوحيد ، فهو مؤمن عند الله لان الايمان هو التصديق ، أما الجدد فانه يقولون لانكفره حتى في أحكام الدنيا ، ولو فعل الافعال المذكورة ، وزاد عليها بأن أقام حماية السلطة لعباد القبور والاضرحة وشرع لهم القوانين التي تعاقب من يتعرض لهم ، وأحاطهم برعاية الدولة وتنظيمها والانفاق على هذه الالهة وتزيينها للناس وتنظيم من يشرفون عليها ، تقول المرجئة الجدد لانكفره لانه ناطق بالشهادتين ، ولم يصرح بأنه يستحل ويجحد ويكذب .
قال : انا لله وانا اليه راجعون ، ومن هم هؤلاء الجدد ؟
قلت : لنكمل الحديث عن شيخ الاسلام المجدد ثم نأتي على جواب سؤالك هذا.
ثم قال ( النوع الثاني : من عرف ولكن سب أهل التوحيد ومدح من عبد يوسف والاشقر وأبي علي والخضر ( وهي أضرحة كانت يطاف حولها ويستغاث بها ويسجد لها على زعم أن المقبورين فيها من الصالحين الذين يشفعون عند الله ) وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك فهذا اعظم كفرا ، النوع الثالث : من عرف التوحيد واحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك فهذا أيضا كافر ) .
قال : مهلا ، قف هنا ، هذا النوع كفره الامام بمجرد حبه لاهل الشرك لانهم قومه وقبيلته وكراهيته لاهل التوحيد لانهم يقاتلون قومه فقط ، مع أنه لايفعل ما يفعله قومه من الشرك بل يلتزم دعاء الله وحده .
قلت : نعم ، انطلاقا مما ذكرنا من حقيقة الايمان ، وارتباط الظاهر بالباطن فيه ، وعملا بقوله تعالى ( لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر ، يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو أزواجهم أو عشريتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ) ، فالايمان بالله ورسوله الصحيح الشرعي ، لم يقم بهؤلاء ، بل قام في قلوبهم تصديق مجرد لم يوجب عمل القلب الذي يوجب عمل الجوارح ، بل منع حصول موجب التصديق فيهم ، مانع ايثاروتقديم محبة الاهل والمال على الانتصارلدين الله تعالى ، فأحبوا قومهم المشركين وكرهوا الموحدين .
ولنكمل كلام الامام المجدد ( النوع الرابع : من سلم من هذا كله لكن أهل بدله يصرحون بعداوة أهل التوحيد واتباع أهل الشرك ، ويسعون في قتالهم وعذره أن ترك وطنه يشق عليه ، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ، ويجاهد بماله ونفسه ، فهذا أيضا كافر ، لانهم لو أمروه بترك صيام رمضان ، ولايمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل ، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ، ولايمكنه مفارقتهم إلا بفراق وطنه فعل ، وأما موافقتهم على الجهاد بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله فأكبر مما ذكرنا بكثير ، فهذا أيضا كافر ممن قال الله فيهم ( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم … الآية ) المسائل النجدية 4/300
12ـ ( وقال الامام عبداللطيف بن عبدالرحمن : ( أهل السنة مجمعون أنه لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده ،والمرجئة تقول يكفي التصديق فقط ، ويكون به مؤمنا ، والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لايكفر واقع بين أهل السنة ، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الاسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والثاني لايكفر الا بالجحد والثالث التفريق بين الصلاة وغيرها ، وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الاسلام ومالا ، وبين ما سماه الشارع كفرا ومالم يسمه هذا ما عليه أهل السنة ) مجموعة الرسائل 3/14
قال : هذا الكلام يحتاج الى شرح ، ما معنى الخلاف في أعمال الجوارح واقع بين أهل السنة هل يكفر أو لايكفر ؟
قلت : يعني اختلفوا في أفعال الجوارح التي هي الاركان الاربعة هل يكفر بتركها بدليل ما ذكره بعده فانه حكى ثلاثة أقوال في ذلك ، ولايعني كخلاف الخوارج مع أهل السنة في تكفير مرتكب مطلق الكبائر ، فانه أجل من أن يقول مثل هذا القول .
قال : وما معنى قوله ( وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الاسلام أم لا 00الخ ) .(/12)
قلت : يعني المعاصي التي تكون نواقض عملية وعبر عنها بقوله ( ما يصادم أصل الاسلام ) وبقوله ( وماسماه الشارع كفرا ) فهذه يفرقون بينها وبين سائر المعاصي ، فالاولى يكفر بها ، وأما سائرالمعاصي فلايكفر حتى يستحل ، وقد قدمت لك أمثلة كثيرة ، وتأمل قوله هذا الذي عليه أهل السنة ، وقارن بين قوله و ما يقوله المرجئة الجدد .
13ـ قال شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ( الرابعة قوله أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك ، هل المعنى : نطق بها ولم يعرف شرحها أو نطق ولم يعلم أنه تكفره ؟ فأجاب : فالمسألة الاولى : قد استدل العلماء عليها بقوله تعالى في حق بعض المسلمين المهاجرين في غزوة تبوك ( ولئن سألتهم ليقولون انما كنا نخوض ونلعب ) وذكر السلف والخلف : أن معناها عام الى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول وصفة كلامهم أنهم قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ، يعنون بذلك : رسول الله والعلماء من أصحابه ، فلما نقل الكلام عوف بن مالك أتى القائل يعتذر أنه قاله على وجه اللعب كما يفعله المسافرون ، فنزل الوحي أن هذا كفر بعد الايمان ولو كان على وجه المزح ،والذي يعتذر يظن أن الكفر اذا قاله جادا لا لاعبا 00 الرابعة : اذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه ، وأما كونه أنه لايعرف أنه تكفره فيكفي فيه قوله ( لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ) فهم يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لاتكفرهم ، والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله تعالى ( وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ) ( انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) ( وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) أيظن أن هؤلاء ليسوا كفارا ؟ لكن لاتستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لاجل غربتها ) ص 447 تاريخ نجد .
قلت : فهذا تصريح أنه اذا قال كلمة الكفر الاكبر وهو يعلم معناها فانه يكفر وان لم يستحل وان ظن انها غير مكفرة .
14 ـ وقال العلامة محمد الشوكاني في جواب سؤال عن قوم من الاعراب لايأتون من العمل الا النطق بالشهادتين هل هم كفار ، فقال ( من كان تاركا لاركان الاسلام وجميع فرائضه ورافضا لما يجب عليه من ذلك من الاقوال و الافعال ولم يكن لديه الا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب ان هذا كافر شديد الكفر 00ثم قال : والآيات القرآنية والاحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة ومعلومة لكل فرد من أهل العلم بل هذا الامر الذي بعث الله به رسوله وأنزل لاجله كتبه والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب ايضاح الواضح وتبيين المبين ) ارشاد السائل الى دليل المسائل ص43
قال : نحتاج مع هؤلاء المرجئة العصرية أن نبين هذا الواضح فانا لله وانا اليه راجعون.
15ـ وقال العلامة محمد بن ابراهيم آل الشيخ رحمه الله عمن يعتقد أن تارك جميع الجوارح ليس بكافر ( هذا من فروع مذهب المرجئة وهو الرائج في البلدان التي أهلها يدعون الاسلام ، فالمسلم هو الذي لايكون نصرانيا ولايهوديا بالنسبة الى العمل بالدين ، وان كانوا لاينكرون فضل من يصلى ، لكنه مسلم على كل حال عندهم ( يعني ولو لم يعمل بشيء من الدين ومثل لذلك بالاعمال الظاهرة كالصلاة ) ، وأنه من حزب المسلمين ، وأنه يبغض الكافرين ، هذا بقطع النظر عن الشرك ، فهذه مذاهب ردية ) وقال رحمه الله ( تجد الاسلام الفاشي عند الاكثرية اذا لم ينتسب الى طائفة أخرى ، يقولون مسلم وهو لايصلي ولا يصوم ، والايمان حاصل له وهو تصديق الرسول ) الفتاوى 1/246 .
قال : في هذه النقول كفاية ، وهي ناطقة بوضوح أن مذهب السلف هو أن العمل ركن في الايمان ، وأن الايمان يزول بالتولي عن جميع العمل لا بعضه كما تقول الخوارج ، وأن الكفر الاكبر منه اعتقادي ، ومنه عملي وان كان القلب مصدقا ، وهو مع ذلك لايكون الا مع فساد في عمل القلب أوجب فعل الجوارح للكفرالناقض للايمان ، ضرورة ارتباط الظاهر بالباطن في طبيعة الخلقة الانسانية ، غير أننا لم نؤمر بالتنقيب عن الباطن ، بل نحكم على من أتى بالناقض والكفر العملي الاكبر بالكفر الاكبر كمن سب الرسول واستهزأ بالمصحف وسجد للصليب والأصنام ونحوذلك ، حتى لو لم يكن مستحلا ، ذلك أن عمل القلب ليس هو تصديقه ، فقد يكون في القلب تصديق ويأتي العبد من عمل الكفر ما يكون به كافرا الكفر الاكبر ، هذا على طريقة أهل السنة.
وأن مذهب المرجئة هو عدم التكفير الا بالجحود والتكذيب والاستحلال فقط ، غير أن المتقدمين منهم يجعلون من أتى بالمكفر العملي كافرا ظاهرا ، وأما باطنا فهو مؤمن عندهم ان كان مصدقا .(/13)
وأما المحدثون فأضل سبيلا ، لأنهم لايكفرونه لا ظاهرا ولاباطنا ، الا أن يصرح بأنه جاحد مكذب مستحل لما فعل أو مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسل ، ولو طاف وسجد ودعا وذبح للصليب أو الاضرحة ،وأقام المؤسسات تحميها وتزينها للناس ، وتشرف عليها وتنفق على سدنتها وكهانها وتنظمها ولوعاقب من يمسها بسوء ، ولواستهزء بدين الاسلام وسب شعائره ، ولو قاتل المسلمين ، وأعان الكفار في حربهم للمجاهدين بما يقدر عليه من نفس ومال ، ولو كانوا يقاتلون دفاعا عن المسجد الاقصى ، لايكفر من فعل ذلك كله ـ عند مرجئة العصر ـ الا أن يستحل ذلك ، ويجحد ويكذب ويقول ذلك بلسانه أو يصرح أنه مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسول ، ويقول هؤلاء قبح الله مذهبهم وقد سمعناهم : ألا تراه مسلما يحضر خطبة المولد ، ويبني المساجد ، ويقول بسم الله الرحمن الرحيم في خطابه وينطق بالشهادتين ، ويقول اني مسلم ، فكيف تكفرونه من غير أن يصرح بأنه مستحل أو مستكبر ، ورأيناهم يجعلون من يكفر مثل هؤلاء الزنادقة من الخوارج المارقة ويستحلون تأليب الطواغيت عليه وكتابة التقارير عنه .
فقلت : هل أنت الان من جماعة التكفير ؟ ومن الخوراج ؟ لما تبين لك حقيقة الايمان الذي عليه أهل السنة .
قال : بعد ضحكة طويلة …والله يا أخي لاتلومني على ما قلته أول الحديث وما كنت عليه سابقا من الجهل ، فانني لم أكن أسمع الا الاتهامات والدعاوى المرسلة والطعن فيكم ونسبتكم الى جماعة التكفير ، بلا تحقيق ولاعلم ، ولا وجدت من يدلني على العلم كما سمعت اليوم من هذه النصوص عن العلماء الا اليوم ، فلك مني جزيل الشكر .
وقال : لكن بقي عندي أمران :
الاول : وهو أنه لايخفى عليك ، أن فتنة التكفير قد عاثت في الارض فسادا ردحا من الزمن ، وأنها أشغلت الساحة الاسلامية بتكفير طائش متخبط ، وأخذت تلك الجماعات بلوازم ما أنزل الله بها من سلطان ، حتى فر الناس منها الى هذا غلو في الارجاء ، فكيف السبيل الى اتقاء فتنة التكفير ، بعد أن تبين لنا كيف نتقي فتنة الارجاء ، وهل يجوز الجرأة على تكفير أهل الشهادتين والتتايع فيها بهذا الطيش ؟
قلت : جماعة التكفير انطلقت من نصوص صحيحة ، لكنها فهمتها فهما خاطئا ، والتزمت لاجلها لوازم باطلة ، فوقعت فيما وقعت فيه من تكفير الحكام مطلقا بلا تفصيل ولاتحقيق ولاعلم ، وكذا تكفير الشعوب والمجتمعات ، فألحقت بالدعوة الاسلامية ضررا بالغا ، والعصمة منها باختصار :
أولا : أن لايقدم على أحكام التكفير الا أهل العلم الذين أحاطوا بقواعد الاصول وعرفوا العقائد المنقولة عن أهل السنة .
ثانيا : أن نعلم أنه لايجوز تكفير أهل الشهادتين الا بعلم بما أتوا به من النواقض الاعتقادية أو العملية ، ثم اقامة الحجة عليهم وبيان المحجة بحسب ضوابط ذلك 0
ثالثا : أن نعلم أننا لسنا مكلفين أن ننقب عن بواطن الناس أو نفتش عن عقائدهم ، لنحكم عليهم بالاسلام او الكفر من غير نازلة تحتاج الى حكم معين ، ولا أن نجعل التكفير هدفا في حد ذاته ، بل من أظهر الاسلام وأكل ذبيحتنا وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا ولايجوز امتحان المسلمين سواء ـ الحكام والمحكومون ـ لمعرفة دخائلهم ، ويكفي المؤمن ـ ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة تفصيلية ـ يكفيه أن يكفر بالطاغوت جملة وهو كل ما يعبد من دون الله تعالى ، ولاعليه أن يعرف حكم هذا وذاك ـ سواء كان حاكما أو محكوما ـ تطفلا ودخولا فيما لايعنيه ولم يكلف به ، بل هذا من الهوس وحماقة العقول الفارغة .
هذا باختصار سبيل الخلاص ، فهات الامر الثاني .
قال : أن هؤلاء الذين وقعوا في الارجاء وهم لايشعرون ، انما فروا من هذه الفتنة ، فتنة التفكير ، ويقولون لئن نخطيء في العفو أحب ألينا من أن نخطيء في العقوبة ، أي نخطئ في الحكم على رجل بأنه مسلم ويكون كافرا في واقع الامر ، خير من أن نخطئ في تكفيره ويكون مسلما فان تكفير المسلم من كبائر الذنوب والموبقات .
قلت : نعم هو كذلك ونحن معهم ، اذا اشتبه الامرعلى من يحتاج الى الحكم ـ وقد قدمنا أنه لايجب على المسلم ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة حكم الشخص مسلم هو أم كافر ـ اذا اشتبه عليه الامر فلا يجوز أن يقدم على تكفيرأحد من أهل الشهادتين فانهما أصل الاسلام ، ولايزول بالشك .
غير أن المستنكر أن نعتقد عقائد المرجئة وننسبها الى الدين ونغير أحكام الشريعة ونقدم عليها آراء باطلة لفرق ضالة ، كما أنه من المستنكر أن ينقض الانسان دينه بنواقض مجمع عليها ويكفر بمقتضى أصول أهل السنة ثم لايحكم عليه بالكفر ، ومن المستنكر أن ينسب من يكفر من هذا شأنه الى مذهب الخوارج بالباطل والافتراء .
ولايخفى أنه كما أن التكفير بلادليل جرم عظيم ، كذلك زوال الحدود الشرعية بين الكفر والايمان ، وجعل الكافر مؤمنا ، من أعظم الفساد في الدين ، والنقض لعرى الايمان .(/14)
قال : قد شفيت وكفيت وهديت ، واني لك شاكر ، وعلى مذهب أهل السنة بعون الله صابر .
ملحق
يشتمل على نص جواب العلامة عبدالله بن الغنيمان رئيس الدراسات العليا في الجامعة الاسلامية بالمدينة سابقا ، والعلامة عبدالله بن جبرين من كبار العلماء على سؤال في موضوع منزلة العمل من الإيمان .
بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى سماحة العلامة الشيخ المحقق عبدالله بن الغنيمان حفظه الله وأبقاه ذخرا ، وأسبع عليه وافر الانعام ، من ابنكم حامد عبدالله العلي من الكويت ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فنحمد إليكم الله الذي لاإله إلا هو على سوابغ نعمه ، ومزيد إحسانه وكرمه ، ونسأله سبحانه أن يديم عليكم ما آتاكم من نعمة العلم والحكمة ، ويمن علينا وعليكم بالثبات في الامر ، والعزيمة على الرشد ، ويوزعنا شكر نعمته ، وحسن عبادته .
موجب الخطاب بعد إبلاغ السلام وحصول التشريف بالسؤال عن حالكم والاطمئنان على جنابكم ، طلب جواب أهل العلم ، ومن له اليد الطولى في تحقيق العقيدة السنية ، والطريقة السلفية المرضية ، عن اعتقاد قوم ينسبونه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ،زاعمين :
أن من يصدق بقلبه ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وينطق بلسانه بالشهادتين ولو مرة واحدة لايزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وإن تولى عن الانقياد للشهادتين بعمل الجوارح توليا كليا ، فلا يفعل واجبا من الواجبات قط ، ولاينتهي عن شيء من المحرمات إلا ما أشرب من هواه ، أولم يقدر عليه ، مع تمكنه من الفعل وعلمه بما أوجبه الله تعالى ، ولو عمر مايتذكر فيه من تذكر !
فلما قيل لهم : إن مثل هذا يمتنع أن يكون مؤمنا لأن ترك الانقياد بعمل الجوارح على هذه الصورة ، لايكون إلا مع زوال عمل القلب الذي لايصح الايمان بدونه ، قالوا : يكفيه من عمل القلب ما حمله على النطق بالشهادتين ولو مرة واحدة في دهره ، وبهذا العمل القلبي فحسب ، وبالتصديق والنطق بالشهادتين ولو مرة واحدة ، يصح إيمانه ويكون مسلما ، ولو قال لا أفعل شيئا من فرائض الاسلام ، ولا أستحل تركها ، ولا أنتهي عن شيء من المحرمات ، ولا أستحل فعلها ، أنه بذلك لايكون ناقضا لإيمانه ، بل هو مسلم ناقص بالايمان من أهل الكبائر .
فلما قيل لهم : إن هذا هو اعتقاد المرجئة ، ولايستقيم على طريقة أهل السنة الذين يجعلون الايمان قولا وعملا ، وأن من يتولى عن عمل الجوارح كله مع العلم والقدرة لايكون مؤمنا بل هو كافر وإن نطق بالشهادتين ، وأما أهل الكبائر فهم أهل انقياد في الجملة بالاعمال الظاهرة مع التقصير ، لكنهم اقترفوا كبائر الذنوب ولم يتوبوا منها .
قالوا : بل ما نقوله هو اعتقاد أهل السنة ، وقال بعضهم هو اعتقاد طائفة من أهل السنة ، ونحن على هذا الاعتقاد .
والمطلوب : تحرير المسألة ، وبيان منهج أهل السنة في الباب ، فإن ضاق وقتكم عن التحرير المفصل ، فعلى قدر ما يسعكم من الوقت ، وإن عجلتم الجواب فهو غاية المطلوب ، فإن الحاجة ماسة ، أبقاكم الله ذخرا ، وأيدكم بالتوفق .
وهذا نص جواب العلامة ابن غنيمان حفظه الله
من عبدالله بن محمد الغنيمان إلى الاخ المكرم حامد بن عبدالله العلي ، أعلى الله قدره بطاعته ، وأتم عليه نعمته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كتابكم الكريم وصلنا ، وسؤالكم عن أحوالنا ، فجزاك الله خيرا ، ونخبركم بأننا على ما يسرك والحمد لله رب العالمين .
أما السؤال : فلايخفى عليك أن قول القائل : من صدق بقلبه ونطق بالشهادتين ولو مرة واحدة لايزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وأن تولى عن الانقياد …إلى آخره ، أنه قول باطل مصادم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو قول المرجئة الضلال ، فإن من الضروريات دينا أن الرسول بعث بالايمان والعمل ، وأن من تولى عن العمل فإنه يعتبر غير متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(/15)
والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، والجزاء ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، ومتى حصل للعبد هذا الإيمان ، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام ، الذي هو الاستسلام لله بالطاعة من الشهادتين والصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له مع الحب والخضوع فمن الممتنع أن يكون العبد قد حصل له الإيمان في القلب والحب والانقياد في الباطن ولا يحصل له ذلك في الظاهر كالجوارح مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة ولا يحصل له المراد ففرض أن هناك إيماناً مع تخلف العمل فرض ممتنع وبهذا يتبين أن من آمن بقلبه إيماناً جازماً امتنع أن لا ينطق بالشهادتين ولا يعمل ما أوجب عليه الشرع مع قدرته على ذلك، فعدم العمل مستلزم لانتفاء الإيمان القلبي ، وبهذا يتبين خطأ المرجئة الجهمية ونحوهم في زعمهم بأن مجرد الإيمان القلبي ينفع بدون أعمال الجوارح ، فإن هذا ممتنع حصوله ، فلا يمكن أن يوجد إيمان القلب الجازم إلا ويوجد معه العمل الظاهر ، ولهذا علق الرسول صلى الله عليه وسلم ترك قتال الناس بإتيانهم العمل ، كما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
كما قرن التولي مع التكذيب فإن التولي هو ترك العمل ، وضد ذلك قرن العمل الصالح مع الايمان لانه يستلزمه ، قال شيخ الاسلام ( اسم الايمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله يتناول فعل الواجبات ، وترك المحرمات ) 7/42 من الفتاوى .
وقال : كفر أحمد ووكيع وغيرهما ، من قال بقول جهم في الايمان ، وهو أن الايمان معرفة القلب وتصديقه ، وقال ( اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر وأما الصلاة والزكاة والصوم والحج فاختلفوا في تكفير تاركها ، ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لايكفر بالذنب ، فالمقصود المعاصي كالزنا وشرب الخمر ، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور ) نفس المصدر ص 302
وقال ( فالايمان في القلب لايكون إيمانا بمجرد تصديق ليس له عمل قلب ، وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك ) نفس المصدر 529.
يعني أنه لابد من العمل مع الايمان ، وقد دل على هذا القرآن في مواضع كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( والعصر ، إن الانسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .
فأقسم بأن جنس الانسان في خسران مستمر ، إلا من آمن وعمل صالحا ، وحصل منه التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وقال جل وعلا ( لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون ) فبين أن من لم يؤمن بالله ويعمل صالحا فهو في أسفل سافلين وأسفل سافلين هو جهنم .
والادلة على ذلك من كتاب الله جل وعلا كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لايستكبرون ) ، فنفى الايمان عن غير هؤلاء فمن كان إذا ذكر القرآن ، لايفعل مافرض الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين .
واسم الايمان يطلق تارة على مافي القلب من الاقوال القلبية والاعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك ، وتكون الاقوال الظاهرة والاعمال لوازمه ومقتضاه ودلائله ، وتارة يطلق على مافي البدن جعلا لموجب الايمان ومقتضاه داخلا في مسماه ، وبهذا يتبين أن الاعمال الظاهرة تسمى اسلاما ، وأنها تدخل في مسمى الايمان ، كما ذكر في الفتاوى 7/551
وبهذا يتبين أنه إذا وجد في القلب إيمان ، امتنع أن لايتكلم بالشهادتين او لايعمل مع القدرة على ذلك ، فعدم العمل دليل على عدم الايمان وانتفائه ، ويمتنع أن يحب الانسان غيره حبا جازما ، ثم لايحصل منه حركة ظاهره لوصله ، فمن الخطأ أن يظن أن الايمان إذا وجد في القلب يتخلف عنه العمل .
قال شيخ الاسلام رحمه الله ( منشأ الغلط في هذا الموضع من وجوه ، أحدهما : ظنهم أن العمل والتصديق مستلزم لجميع درجات الايمان ، والثاني : ظنهم أن مافي القلوب لايتفاضل الناس فيه ، والثالث : ظنهم أن مافي القلب من الايمان المقبول ، يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه ، والرابع : ظنهم أن ليس في القلب إلا التصديق وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح ، والصواب أن القلب له عمل مع التصديق ، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر ، وكلامهما مستلزم للباطن ) الفتاوى 7/554
ونرجو أن ييسر الله تعالى الكتابة في الموضوع بتوسع وبيان مقنع والله الموفق. انتهى الجواب .
وهذا جواب العلامة سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله على نفس السؤال السابق:(/16)
قال حفظه الله بعد التحية والسلام ما مختصره: (وبعد فإن التلفظ بالشهادتين يحصل به الدخول في الإسلام من الكفار وذلك لأنهم ينكرونها ثم لا شك بعد ذلك أنهم مطالبون بأركان الإسلام وترك المحرمات ودليل ذلك قوله ((عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) ومن المعلوم أن العبرة بالظاهرة فإن القلب خفي فالأخذ إنما هو بما ظهر لنا فالغيب لا يعلمه إلا الله والوحي قد انقطع وإنما نأخذ الإنسان بالظاهر فمن ترك العبادات وأصر على الترك دل ذلك على ضعف يقينه فيستتاب فإن تاب وإلا قتل..فعلى هذا القول أن هؤلاء كاذبون في زعمهم أنهم مسلمون فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فمن لم يعمل بتعاليم الإسلام فهو كاذب غير مؤمن والله أعلم) انتهى الجواب.
وفي الختام ننبه إلى أن ما يذكره العلماء من أنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً إذا ترك جميع عمل الجوارح يقصد به أن من يدعي أنه مؤمن إذا تولى عن جميع عمل الجوارح ، يكون كاذباً في دعواه ، ويكون كافراً في حقيقة الامر ، ولا ينفعه النطق بالشهادتين، لأنه يمتنع أن يكون مؤمناً بقلبه الإيمان المتضمن لعمل القلب ثم يتولى عن عمل الجوارح تولياً تاماً، وإن كان قد يكون مصدقاً بقلبه ، فإن التصديق المجرد ليس هو الإيمان الشرعي الذي هو ضد الكفر، بل لا بد أن يكون مع التصديق عمل القلب، وحينئذ فالإيمان الشرعي المقبول المتضمن لعمل القلب لا يتخلف عنه عمل الجوارح بالكلية، وليس المقصود أن المسألة برأسها ممتنعة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله أجمعين.(/17)
بيان حقيقة الإيمان والرد على مرجئة العصر
فيما خالفوا فيه محكم القرآن
بقلم : حامد عبدالله العلي
الطبعة الثانية حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي نزل القرآن ، وفرض الإيمان ، وبين أنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان ، أشهد أن لااله إلا هو ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، فرق بين أهل الإسلام وطاعة الرحمن ، وأهل التولي والكفران .
وبعد : فقد كنت اطلعت على كتاب بعنوان (أحكام التقرير بأحكام التكفير) ، فراعني ما فيه ، وأفزعني ما يحتويه ، فانه قرر مذهب المرجئة في الإيمان ، واستشهد لذلك بكلام أئمتهم ، ظانا أنه مطابق للاعتقاد الصحيح المنقول عن أهل السنة ، ثم رأيت رسالة صغيرة في نقض هذا الكتاب ، بعنوان ( براءة أهل السنة ) وفق فيها الكاتب وقد سمى نفسه ( أبو عبد الرحمن السبيعي ) أيما توفيق ، وأجاد غاية الإجادة في رد ما في كتاب (أحكام التقرير ) من الباطل وفرق بينه وبين الحق أحسن تفريق ، فاللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين وأهل السنة المتبعين خير الجزاء آمين 0
ثم اطلعت على كتاب آخر بعنوان ( الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير ) لمؤلفه خالد العنبري ، فوجدته علا درجة عن سابقه ( وهو كتاب أحكام التقرير ) ، غير أنه أخطأ الصواب في مواضع ومال عن جانبه ، منها أنه قرر أن كفر العمل لا يخرج أبدا عن الملة الإسلامية ، إلا إذا دل على الجحود والتكذيب أو الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد .
فهو وان نجا من قول من يرى الكفر العملي لا يكون منه أبدا كفر أكبر حتى يقارنه الجحود والتكذيب ، كما في الكتاب الأول ، وهو مذهب المرجئة بعينه .
لكنه اشترط شروطا أربعة ليكون الكفر العملي كفرا أكبر ، وعطف بعضها على بعض عطف النسق ، وهي الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد ، فكأنه يقول لا يكفر من أتى بناقض عملي إلا إذا قام بقلبه أربعة مجتمعه هي المذكورة ، ونسب هذا إلى أهل السنة ، وإذا قلنا قصد التأكيد بعطف مترادفات ، صار مذهبه بالاختصار أنه يرى أن الكفر العملي لا يكون أبدا كفرا أكبر، حتى يقارنه أمران لابد من اجتماعهما في القلب ( الاستخفاف والعناد ) والعناد هو الاستكبار ، فاقتضى هذا أن من يسجد للأصنام طمعا في المال ويطوف بالناس حول الأضرحة ويذبح لها ويسجد لها ، راغبا في عرض الدنيا ، غير مستخف( من الاستخفاف ) ولا مستكبر ، أنه لا يكفر على مذهبه وبمقتضى شروطه .
وأن من سب دين الإسلام واستهزأ بشعائره لعوض يطلبه من متاع الدنيا ، غير مستخف ، ولا مستكبر لا يكون كافرا أيضا على هذا الرأي ، وقد صرح الكاتب بهذا فأخرج من يفعل الكفر العملي الأكبر الناقض للإيمان ـ لا عن استكبار لكن برغبة ــ عن أن يكون كافرا ، وهو خلاف اعتقاد أهل السنة .
وقد غلط أيضا من جهة أنه يحكي هذه الشروط وكأنها مذهب أهل السنة الذي استقر إجماعهم عليه ، أفلا ذكر من كفر منهم تارك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كإسحاق بن راهويه وغيره ، وأنهم لم يشترطوا أن يكون ذلك عن استخفاف واستكبار .
وأيضا ، فياللعجب .. أولم يعلم أن الذين يعبدون الاضرحة والقبور في قلوبهم من تعظيم الدين والرسول صلى الله عليه وسلم ما يتنافى مع العناد والاستخفاف ، غير أنهم مشركون كفار لغلوهم في الصالحين حتى عبدوهم مع الله كما قال تعالى ( ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، فأين الاستخفاف والعناد هنا؟!
فمن أين ــ ليت شعري ــ يطلق قيودا ويشترط شروطا ما أنزل الله بها من سلطان ، فان كان لابد فاعلا فهلا ذكر الخلاف ، ولم يجزم أنه اعتقاد أهل السنة مجتمعين ، وان كانوا ــ في التحقيق ــ لما قاله مفارقين .
فان قيل فلعله يرى أنه لا يسب الرسول صلى الله عليه وسلم راغب في المال ، أو يسجد للأصنام طامع في عرض الدنيا ونحو ذلك إلا من هو من أهل الاستخفاف ، وان كان قد يجمع مع ذلك إيثار متاع دنيا أو شهوة من الشهوات ، فاكتفى بذكر هذا الوصف( الاستخفاف ) ليكون من دلالة التلازم فيحتوى ما أشرت إليه .
فالجواب أنه لم يكتف بهذا الشرط حتى ضم إليه الاستكبار ، فمن هنا أدخل على اعتقاد أهل السنة ــ حاكيا عنهم مذهبهم ــ أمورا جعلها في سياق الشروط ، بلا دليل ولابرهان .
وأيضا فلنا أن نسأل كيف يعرف مافي قلب الساجد للصنم الساب للرسول المستهزئ بالدين وأمثالهم ، هل هو معاند ومستخف أو لم يقم بقلبه شيء من ذلك ، فعلى رأي الكاتب لا نحكم بكفر أحد حتى يعلن لنا بلسانه ويبين ما في قلبه ، وإن سب ديننا ونبينا وسجد للصلبان والأصنام وألقى المصحف في الحشوش .
وإلا … فما معنى اشتراط الشروط إذا كانت لاسبيل إلى معرفتها وهي في طي علم الغيوب ، وإذا كان المؤلف لا يحكم على من ينقض إيمانه بالنواقض العملية إلا إذا صرح بلسانه أنه جامع بين أمرين الاستخفاف والعناد ، فمذهب المرجئة القديم خير من هذا القول الرديء .(/1)
فان قدماء القوم كانوا يقولون إذا أظهر السجود للأصنام وسب الرسول يحكم بكفره ظاهرا لان أحكام الدنيا مبنية على الظاهر ، فان كان مع ذلك مصدقا بقلبه كان مؤمنا عند الله ، وهذا من أحكام الآخرة ولم نخاطب بها ، وأما هؤلاء المحدثون فانهم يقولون لانحكم بكفره حتى يعلن بلسانه انطواء قلبه على الاستخفاف والاستكبار، فأولئك أفسدوا أحكام الآخرة ، وهؤلاء أفسدوها وأحكام الدنيا فانا لله وانا إليه راجعون .
ثم يا قوم ، يا أهل العقول والإنصاف ، ان كنتم تقولون لانكفر ساب الرسول والساجد للأصنام حتى نعلم كونه مستكبرا بقلبه مستخفا ، على مذهب صاحب الكتاب المذكور ، فقد خالفتم سلفكم من المرجئة وخالفتم إجماع أهل السنة كما سيأتي بيانه ، وصرتم كالغراب الذي حاكى الحمامة فأضاع مشيته ، وأخطأ مشيها .
وان كنتم تقولون نكفر ساب الرسول والساجد للأصنام من أهل النطق بالشهادتين ، ولا نسأل عما في قلبه لامتناع أن يكون منه ذلك إلا مع استخفاف واستكبارـ فليت شعري ـ أو ليس الذي يزيح الشريعة بقوة السلطان ، بعد أن كان يحكم بها قضاة الشرع والعلماء ، ثم يعاقب من يحكم بها منهم بالقتل والتشريد والحبس وقطع الأرزاق ، ويأتي بأحكام الطاغوت ، ينصبها حاكمة بين العباد في كل أوجل أمورهم وشئون معايشهم ، فيفرضها فرضا ويحمل الناس عليها ويسوم من يحاربها سوء العذاب ، أفلا يكون هذا أولى بوصف الاستخفاف من ذلك الذي يسجد للصليب أو يسب الدين طامعا في مال ، فما بال القوم يحومون حول هذا الحمى ويخشونه ، أم أن الكفر لا يجتمع والسلطان ، فبينهما تهاجر عظيم الشان.
أو ليس حال أكثر بلاد المسلمين هذا الحال الذي وصفت ، فهل يقدر أحد أن ينصب قاضيا يقضي بالشريعة الإلهية ، إلا ويزج به في أشد العذاب ، ويقولون : أفنحن لانقضي بالعدل حتى تعارض القانون ، أم تريد أن تجعل الشريعة ، بدل قوانيننا الاوربية العريقة ؟!
ثم أتاهم من حيث لم يكونوا يحتسبون من يفتيهم بأن قولوا نحن فيما فعلناه غير مستحلين ولامستخفين ولا معاندين لله رب العاملين ، فتكونون بحمد الله من جملة عصاة الموحدين ، وهل هناك من لايخطيء من المؤمنين ؟
لكنكم مع ذلك من ولاة أمر المسلمين وقد علم مالكم من الحقوق العظيمة ، ونحن معكم كلما فعلتم ما يكفر به ، زدنا لكم شرطا من الشروط يخرجكم من باب التكفير ، لتبقى إمامتكم الإسلامية على الدوام ، ولا تنسونا بعد ذلك ، بالفضل والإنعام ، فصار حال هؤلاء المرجئة ، وحال أهل الحق في دولة الطاغوت ، كما قال الشاعر :
إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همسي
وما أصدق وصف الإمام ابن القيم لهذا المذهب الرديء إذ قال :
وكذلك الإرجاء حين تقر بالمعبود تصبح كامل الإيمان
فارم المصاحف في الحشوش وخرب البيت العتيق وجد في العصيان
واقتل إذا ما استطعت كل موحد وتمسحن بالقس والصلبان
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهرا بلا كتمان
وإذا رأيت حجارة فاسجد لها بل خر للأصنام والأوثان
وأقر أن الله جل جلاله هو وحده الباري لذي الأكوان
واقر أن رسوله حقا أتى من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقا مؤمنا وجميع ذا وزر عليك وليس بالكفران
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم من كل جهمي أخي شيطان
وصار حال الشريعة بين الحكام بالطاغوت ومن يفتيهم بمثل هذه الفتاوى ، كحال الخلافة لما دار عليها ما يدور اليوم على الشريعة ، وحق لنا أن نتمثل قول شوقي :
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه ودفنت عند تبلج الإصباح
شيعت من هلع بعبرة ضاحك في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الشريعة ماح
وقد كانت مأساة الخلافة التي بكى عليها شوقي ، ثم دارت على الشريعة ، ثم آل الأمر اليوم إلى إفساد عقائد الناس ، وتهوين ارتكاب الكفر الأكبر ، بتركيبه على مذهب المرجئة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
والمقصود أن في الكتاب المذكور مواضع تحتاج الى تفنيد ، وليس هذا هو موضعه ، ومن العجب أنه بعد الاطلاع على الكتابين المذكورين ، وما فيهما من مطابقة أو مقاربة مذهب أهل الإرجاء ، قرأت لبعض الكتاب من أهل الكويت ممن يطلب علوم الشريعة ، وينتسب إلى عقيدة السلف ، مقالا في صحيفة يقرر فيه أن ما يندفع به وعيد عصاة الموحدين ، يندفع به حكم التكفير بجامع أنهما من الوعيد ، وذلك كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة والشفاعة أو غيب لانعلمه ولم نؤمر أن نبحث عنه ، كما قال بلفظه .
وأظنه قرأ الكتابين فأساء فهم مافيهما من الصواب ، وزاد على ما فيها من الخطأ ، فحاز السيئتين ، وهكذا البدع تبدأ صغارا ثم تؤول كبارا، ولما رددت عليه وبينت أنه يخالف اجماع اهل الاسلام ويقول بما لم يضل به حتى غلاة المرجئة ، رد علي قولي ، وتمسك بما عليه من البهتان ، وظن أننا في مفاخرة في الردود أو مغالبة بين الاقران 0(/2)
ثم بعد هذا كله جرت احاديث في مجالس عديدة حول هذه القضية ، وحصل فيها حوارات كثيرة ، وجرى في هذه المجالس كلام طويل متشعب ، وقرأنا كلاما لاهل العلم من المتقدمين والمتأخرين ،ثم طلب مني بعض الاخوة أن أسوق ما جرى من الكلام سياق الحوار بين اثنين ، أجعل معنى ماقلته في الحوارات طرفا ، وأذكر ما ذكرت من الكلام في المجالس المتفرقة ، وأسوق كلام غيري مساق متكلم واحد ، وأزيد ما يحتاج الى زيادة لتوضيح الكلام وإيصال المعنى بأوضح عبارة ، وأجعل ذلك كله كحديث مجلس واحد تمثيلا للقارئ .
وذلك لتقرب المسألة من صغار الطلبة ويفهمها المبتدئ في تعلم العقيدة السلفية ، فرأيت الإجابة لطلبه ، اقتداء بمن تقدم من أهل العلم في تصوير مسائل العلم على هذا النحو كابن القيم في نونيته وغيرها وغيره من العلماء .
وليس مقصودي شرح جميع مسائل الايمان وبيان الفرق بين مذهب السلف ومذهب غيرهم فيه ، فان ذلك يطول جدا ، وانما أذكر ما جرى حوله غالب أحاديث الحوار ، ويستفيد منه من عنده معرفة بأصول هذا الباب دون غيره ، والله الموفق وعليه التوكل ، وهذه صورة المحاورة .
وأنبه قبل البدء ، إلى أن دراسة هذه القضية إنما تهدف إلى إيقاف طلبة العلم على حقيقة الحكم الشرعي المذكور في الكتاب والسنة في موضوع الإيمان ونواقضة ، وأن هذا من الفرض الواجب ، ولايجوز السكوت عن بيانه حفاظا على الدين الحق من الاندراس واختلاط مفاهيمه الحقه بالباطل ، غير أنه ينبغي لكل مسلم أن يحتاط في باب الحكم على الناس بنقض الايمان ولايقدم عليه الا بعلم ، ولولا انتشار الجهل في هذه القضية ودخول مذهب الإرجاء على كثير من المنتسبين إلى العلم ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون ، وخوفا من استقرار البدعة في نفوس كثير من الناس لما كتبت فيها ، فقد صنف العلماء فيها مصنفات كثيرة وأحسن ما كتب من المعاصرين في هذه المسألة الشيخ العلامة سفر الحوالي حفظه الله في كتابه ( ظاهرة الارجاء وأثرها على العالم الاسلامي ).
محاورة في حقيقة الايمان والفرق بين مذهب أهل السنة فيه ومذهب المرجئة
وهذه صورة المحاورة :
قال : العمل عند السلف شرط كمال في الايمان .
قلت : حكاية هذا عن السلف غلط محض .
قال : ذكره ابن حجر في الفتح عند شرح ترجمة البخاري ( وهو قول وفعل يزيد وينقص ) .
قلت : هات الكتاب واقرأ .
قال : قال ابن حجر ( فالسلف قالوا : هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالاركان ، وأرادوا بذلك أن الاعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ القول بالزيادة والنقص كما سيأتي ، والمرجئة قالوا : هو اعتقاد ونطق فقط ، والكرامية قالوا : هو نطق فقط والمعتزلة قالوا : هو العلم والنطق والاعتقاد ،والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الاعمال شرطا في صحته والسلف جعلوها شرطا في كماله ) انتهى
قلت : رحم الله الامام ابن حجر وجزاه عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء ، غير أن ما ذكره هنا عن السلف والتفريق بين قولهم وقول المعتزلة لايخلو من نظر ، والصواب خلافه .
قال : كيف يكون هذا ؟ ما ذكره هو ما تعلمناه ، أن العمل شرط كمال ، ولذلك تارك العمل لايكفر ، وتارك التصديق والنطق يكفر .
قلت : بل العمل جزء من حقيقة الايمان والايمان حقيقة مركبة من القول والعمل ، والتولي عن العمل بالكلية زوال لحقيقة الايمان الشرعي ، وتارك العمل بالكلية ليس بمؤمن عند السلف ، والفرق بين قولهم وقول المعتزلة والخوارج أن تارك بعض العمل عند المعتزلة والخوارج ليس بمؤمن ، وجعلوا منه مرتكب مطلق الكبائر ، وأما السلف فيقولون تارك العمل بالكلية ، وتارك ما ينزل منزلة ترك العمل بالكلية كالنواقض العملية مثل ترك الصلاة ـ عند من يقول به ــ ليس بمؤمن ، وأما تارك بعضه الذي لاينزل منزلة تركه بالكلية ، كفعل الكبائر المعروفة ، فانه مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته ، هو مسلم فيه مطلق الايمان ، وليس مؤمنا الايمان المطلق الذي يستحق صاحبه الجنة بلا عقاب .
قال : أنت من جماعة التكفير ،وهذا القول هو قولهم ، وقد سمعنا عنكم ، وأنكم أخطر من اليهود والنصارى !! وهذا أوان عرفت حقيقتكم .
قلت : مهلا عفا الله عنك ، اصبر حتى تسمع قولي فربما كان قولي هو الصواب ، وكان قولك هو الخطأ ، ولا تعجل فلربما كان مع المستعجل الزلل .
قال : لا ينبغي أن أسمع من أهل البدع ، فانه يجب هجرهم .
قلت : هلا سمعت مني قاصدا دعوتي الى الحق ، فان أخطأت علمتني وان ضللت هديتني ، فاني أراك لم تهجر من هو أضل مني عندك لاجل دنيا تصيبها ، فهل قد جعلتني أضل الناس ؟
قال : هات نسمع ، ونرد عليك اذا خالفت منهج السلف .
قلت : حقيقة مذهب السلف أنه يتركب مما يلي :
1ـ الايمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقول هوقول القلب وهو التصديق ، وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين ، والعمل هو عمل القلب والجوارح بما فيها اللسان ، وعمل القلب يدخل فيه الخوف والرجاء والمحبة والتوكل 00الخ .
قال : أما هذا فصواب .(/3)
قلت : 2ـ الايمان حقيقة جامعة لهذه الامور ، متركبة منها .
قال : وهذا صواب أيضا ان شاء الله .
قلت : 3ـ المرجئة تقول( وهو قول أئمتهم المشهورين ) الايمان شيء واحد فقط وهو تصديق القلب ، والنطق بالشهادتين شرط لاجراء أحكام الدنيا عندهم فحسب .
قال : هذا هو قولهم .
قلت : 4ـ اذا كان عمل الجوارح انما هو نتيجة حتمية لعمل القلب وعمل القلب نتيجة لتصديقه مالم يحل بين التصديق وبين العمل القلبي مانع ، فهذا يعني أن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لايتخلف تخلفا تاما الا اذا زال عمل القلب زولا تاما .
بمعنى أنه اذا كان يصدق بالله تعالى ربه ومعبوده المستحق للعبادة وكمال الصفات ، فلا بد أن يحبه ويخافه ويرجوه ويتوكل عليه بالتوحيد ، مالم يقم بقلبه مانع الكبر أو غيره.
واذا أحبه وخافه ورجاه وكان حبه وخوفه ورجاؤه لله أعظم ، مما يكون لغير الله ، فلا بد أن يأتي بشيء من مقتضى هذا كله من عمل الجوارح، ولايتخلف عمل الجوارح تخلفا كليا مع وجود عمل القلب ، بلامانع يمنع من تخلفه ، كعدم التمكن مثلا أو مفاجأة الموت ، أو الجهل
قال : أنا موافق على هذا كله ، لا اشكال فيه .
قلت : 5ـ اذن لايمكن افتراض وجود باطن الايمان ( تصديق القلب وعمله ) دون شيء من ظاهرالعمل ، لان حقيقة الايمان مركبة من الامرين أصلا .
قال : فلماذا قالت المرجئة اذن ، بأنه يكون مؤمنا بقلبه ، والعمل خارج عن اسم الايمان .
قلت : لان الايمان عندهم هو التصديق فقط ، فلم يعسر عليهم تصور وجوده مع فقد كل الاعمال بالكلية .
قال : والسلف ؟
قلت : الايمان عندهم تصديق وعمل ، مركب من الامرين ، وعمل الجوارح لازم لعمل القلب ، وكلاهما من الايمان نفسه وداخل مسماه ، ولهذا لا يبقى الايمان مع انتفاء عمل الجوارح كله الا لمانع ، لان انتفاء عمل الجوارح بالكلية بلامانع ، يعني انتفاء عمل القلب بالكلية ، ولايكون الشخص مؤمنا وليس في قلبه شيء من عمل القلب ( خوفه ورجاؤه ومحبته وتوكله 00الخ ) ، فاذن لاايمان مع انتفاء عمل الجوارح بالكلية .
قال : قد يكون الانسان مصدقا بوجود الله تعالى لكن لايحبه ولايخافه ولايرجوه أكبر من محبته وخوفه ورجاءه لغيره .
قلت :فاذن لن يأتي بالعمل الصالح ، الا على صورة يكون فيها العمل مع الشرك بالله ، فهل تسمى هذا مؤمنا ؟
قال : حاشا لله ، بل هو مشرك ، لكن كيف وهو مصدق ؟
قلت : هو مصدق بالله تعالى ، لكن كتصديق ابليس وفرعون ، ليس معه انقياد قلبي لما صدق به ، بسبب مانع منع من الانقياد القلبي الذي تكون معه أعمال القلوب ،ومن الاسباب المانعة : الكبر فابليس استكبر عن الانقياد مع وجود التصديق ، وفرعون كذلك قال الله تعالى عنه ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) ، ولهذا من الكفر مايكون استكبارا لاتكذيبا ، ومن الاسباب المانعة ايثار الحياة الدنيا فيسمع حجة الرسل ويعتقد صدقها بقلبه، ولاينقاد لها لانه لايريد الانقياد لغيره اذا كان ينزعه عن حالة يحبها ويريدها ويؤثرها على اتباع الرسل ، كاتباع ملة آباءه على سبيل المثال ، وذلك مثل أبي طالب ، فانه كان يعتقد صدق الرسول وصحة رسالته لكنه آثر محمدته في قومه ومكانته في قلوبهم على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخشي أن تفوت هذه المكانة فيسبونه ويلومونه اذا اتبعه ، فآثرهذه على الآخرة ، فصار كافرا بتوليه عن الشهادتين ، وان كان يعتقد صدق الرسول .
ولو فرض أن انسانا نطق بالشهادتين وتولى عن الانقياد لها بالعمل توليا تاما لنفس السبب الذي حمل أبي طالب على الامتناع عن النطق لكان حكمه حكم أبي طالب سواء ، ولاينفعه النطق بالشهادتين مع التولي عن العمل بالكلية عند أهل السنة وان كانت المرجئة تعتقد أنه ينفعه .
قال : هذا واضح بحمد الله تعالى ، وهل هو كفر التولي المذكور في القرآن .
قلت : نعم هو كفر التولي، كما في قوله ( فلا صدق ولاصلى ولكن كذب وتولى ) ، فالتصديق قابله بالتكذيب ، وفعل الصلاة التي هي أعظم العمل وتاركها كتارك العمل كله ، قابله بالتولي .
قال : وما تقول المرجئة في مثل أبي طالب ، يقولون كل من حكم الله أو رسوله بكفره فهو مكذب في الباطن ، وان كان يظهر التصديق وهو مكابرة أوقعهم فيها اصرارهم على أن الايمان هو التصديق فقط وضده هو التكذيب فقط .
قال : وماذا يقولون فيما لو صدق رجل بقلبه وامتنع عن النطق هل نحكم عليه بالاسلام أو الكفر ؟ فاذا كنا نحكم عليه بالكفرفقد كفرناه مع وجود التصديق فكيف يجعلون التصديق وحده هو الايمان، واذا كنا نحكم عليه بالاسلام فهو خلاف الاجماع المتيقن .
قلت : يقولون النطق شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط ، ولو تركه ثم مات فانه مؤمن عندالله ، هذا قول غلاتهم ، ويقولون :هو مؤمن عند الله ، وان كنا نطبق عليه احكام الكفر ، لاننا مأمورون بالظاهر في إجراء أحكام الدنيا، وبعضهم يقول ( كافر قضاء مؤمن ديانة ) .(/4)
وقلت : ومن قال منهم الايمان تصديق القلب وعمله ، فرارا من هذا القول ، فانه يتناقض عندما يخرج عمل الجوارح لانها لازمة لعمل القلب ، ومن قال منهم تصديق القلب وعمله والنطق بالشهادتين فقط من عمل الجوارح لكي يجعل مثل أبي طالب كافرا وليوافق النقل ، فانه يتناقض ايضا لان جعل النطق بالشهادتين ، لازما لعمل القلب لايصح الايمان الا بهما معا ، ثم اخراج أعمال الجوارح كلها من هذا اللزوم ، تحكم وتناقض بين ، فان من نطق بالشهادتين لوجود تصديق القلب وعمله ، لابد أن يأتي بشيء من عمل الجوارح ، ولايتصور أن يتركها بالكلية ، فان الملزوم لايتخلف عن لازمه .
وقلت : ذلك أن الانسان حارث وهمام ، لايكون له ارادة الا ومعها عمل ، وهذه هي طبيعة الخلقة الانسانية أنها تعمل بحسب الارادة التي تنبثق من التصديق والعلم ، فلا يكون الانسان ذا علم وتصديق الا ويترتب عليه ارداة بحسب علمه وتصديقه ، ثم العمل يكون على وفق هذه الارادة .
قال : الا لمانع يمنع من حصول محبة في القلب وارادة توافقان التصديق ، ومن الموانع الكبر والعناد والتولي والاعراض أوايثار الانقياد لغير ما صدق به لسلطان محبة ذلك الغير على قلبه ، ونحو ذلك .
قلت : صدقت ، هل علمت الان أنه لايصح أن يقال العمل شرط كمال هكذا باطلاق .
قال : علمت وهو خلاف الصواب ولايطابق مذهب السلف
قلت : وهذا النص عن امام أهل السنة الناطق بمذهبهم يبين صحة ما قلناه ، ( قال الحميدي وأخبرت أن أقواما يقولون : ان من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت ، ويظل مسندا ظهره مستدبر القبلة حتى يموت ، فهو مؤمن ــ مالم يكن جاحدا ــ اذا علم أن ترك ذلك فيه ايمانه ، اذا كان مقرا بالفرض واستقبال القبلة ، فقلت : هذا الكفر بالله الصراح ، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل المسلمين قال الله عز وجل ( حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) قال حنبل : قال أبو عبدالله ( وهو الامام أحمد ) : من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلىالرسول ما جاء به صلى الله عليه وسلم ) كتاب الايمان مجموع الفتاوى 7/209
و اليك هذا النص ( قال الاجرى ، فالاعمال بالجوارح تصديق عن الايمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الايمان بعمله ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل ، لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لايمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه 00وقد قال عز وجل في كتابه ، وبين في غير موضع ، أن الايمان لايكون الا بعمل ،وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قالته المرجئة الذين لعب بهم الشيطان ) الشريعة ص 121
قال : لو كان العمل مجرد شرط كمال لايصح أن يقول الامام أحمد والحميدي والآجري قولهم المتقدم ، فان شرط الكمال لو ذهب كله يذهب الكمال فقط ، وقد كنت أظنك خارجيا تكفيريا خبيثا أحذر منك ، فبان لي الآن أن من كان يقول فيكم هذه الاوصاف ، ينطبق عليه قول الاجري : مرجئ خبيث يحذر منه.
قلت : لاعليك فالحق أبلج والباطل لجلج ،ومهما نفخ في الباطل فان مآله الى اضمحلال ، وقد قيل عن دعاة أهل السنة من قبل أنهم خوارج وأنهم يكفرون المسلمين فلم يطفىء ذلك نور الحق الذي دعو اليه ، ذلك أن الله تعالى نصب للحق منارا هاديا .
قال : لكن ما توجيه النصوص التي ذكر فيها دخول أقوام الجنة بلا عمل .
قلت : تلك محمولة على أقوام مخصوصين ، منعهم من العمل مانع الجهل أو عدم التمكن أو غير ذلك والمتشابه اذا رد الى المحكم تبين وجهه ومعناه ، أما قول من يقول انهم مؤمنون ايمانا صحيحا مع وجود عمل القلب ، وقد قام في قلوبهم حب الله أعظم من غيره والخوف والرجاء كذلك ، ثم علموا ما يسخط ربهم وما يرضيه ، وتمكنوا من العمل ، ثم لم ينقادوا لشيء منه قط ، ولا سجدوا لله سجدة ولا سبحوه بألسنتهم تسبيحة واحدة قط ، بل تولوا توليا كليا عن الانقياد دهرهم كله حتى ماتوا ، فهذا لايتصور وقوعه أصلا اذا قلنا الايمان حقيقة مركبة من القول والعمل (عمل القلب والجوارح )، وأن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لايتخلف عنه الا لمانع خارج عن ارادة الانسان وقدرته ، لايتصور وقوعه على مذهب أهل السنة ، وانما تتصوره المرجئة التي تقول الايمان مجرد التصديق والعمل خارج عن اسم الايمان بالكلية ، وهو شرط لكماله وليس جزءا من حقيقته في عقيدتهم .(/5)
قال : لكن هذا يترتب عليه أن الكفر الاكبر يكون منه كفر عملي ، كما يكون اعتقاديا ، ويترتب عليه أن المكفرات العملية ان كانت من نواقض الايمان لايشترط فيها الاستحلال والجحود ، بعبارة أخرى يترتب عليه أن الكفر ليس بالجحود فقط ، بل يكون بعض الاعمال ماهو كفر أكبر ، وان لم يستحله الفاعل ويجحد تحريم الشريعة له ،( قلت : وهو النواقض العملية ) قال : لان العمل اذا كان من الايمان ، فيكون منه ما يضاد الايمان ، كما يضاد التكذيب التصديق في الايمان المركب منهما .
قلت : ليكن كذلك ، ويكون من الكفر العلمي أيضا كفر أكبر وان لم نعلم انطواء القلب على الاستكبار والاستخفاف أيضا، وتسمى النواقض العملية ، بل هذا هو مذهب السلف ، ولا يقول أن الكفر الاكبر لايكون الا بالاعتقاد خاصة جحودا أو استحلالا الا المرجئة ، ألم تر الامام أحمد يكفر تارك الصلاة وان لم يستحل وان لم يكابر الشريعة ، وذلك بسبب أن اعتقاد الامام مطابق للنصوص في حقيقة الايمان التي شرحتها آنفا ، ووافقتني عليها .
وقلت أيضا : ومن هنا يحكي شيخ الاسلام عن طائفة من السلف تكفيرهم تارك الاركان الاربعة( الصلاة والصيام والحج والزكاة ) أو بعضها وان لم يستحل ، فجعلوا ترك هذه الاركان بمنزلة ترك العمل كله ، لان ترك الركن يبطل العبادة والا فما فائدة جعله ركنا ، وهذا يدل على أن فهمهم لحقيقة الايمان أن العمل باعتبار جنسه لابعضه ركن في الايمان ، ويدل على أنهم يكفرون ــ الكفر الاكبرـ بأعمال مخصوصه فعلا وتركا .
قال : لكن هل يكفر تارك الصوم أو الحج أو الزكاة كتارك الصلاة .
قلت : كلا بسبب أن النصوص خصصت تارك الصلاة ، وجاءت بعضها تنص على أن تارك سائر الاركان ليس بكافر ،مع أن تاركها بمعنى المتولي عن فعلها الممتنع عن التزامها بالكلية حتى لو قوتل عليها لقاتل فانه يكفر كمانعي الزكاة ، وان لم يجحد وجوبها ، والنصوص التي خصصت الاركان الثلاثة لاتتناول هذه الصورة ، و المقصود هنا بيان دلالة تكفير من يكفر من السلف لتارك الاركان الاربعة على مذهبهم في حقيقة الايمان ، وأن من الكفر العملي عندهم ما يكون كفرا أكبر بسبب أن الكفر عندهم ليس بالحجود والتكذيب فقط ، انطلاقا من اعتقادهم أن الايمان ليس هو التصديق فقط .
قال : أما من هذه الجهة فالدلالة واضحة ، لما كان الايمان عندهم ، تصديقا قلبيا ولسانيا وعملا ، صار ضده وما ينقضه أيضا منه تكذيب ومنه عمل .
قال : لكن الاشكال لازال باقيا في الفرق بينهم وبين من يكفر بارتكاب الكبائر كالخوارج .
قلت : الفرق أن الخوارج يكفرون بمطلق الكبائركالزنى وشرب الخمر والقتل ، والسلف لايكفرون بها ، بل بالنواقض العملية كترك الصلاة عند من يكفر بها ، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء بالمصحف وتوجيه العبادة لغير الله تعالى ، ونحو هذه النواقض العملية .
قال: حتى ولو لم يستحل ؟
قلت : حتى ولو لم يستحل ، ولايشترط الاستحلال في كل تكفير الا المرجئة.
قال : فهمت أن الخوارج يكفرون بكل كبيرة مطلقا ، والسلف يكفرون بأفعال معينة ــ ليس منها الكبائر المعروفة ــ يسمونها النواقض العملية ، وترك الصلاة مثال واضح لهذا ، وكما أن من يحكم بكفر تارك الصلاة من السلف لايشترط الاستحلال ، كذلك من يكفر بغيرها من النواقض العملية لايشترط الاستحلال .
قلت : نعم ، غير أنهم قد يختلفون في الفعل هل هو من النواقض العملية أم لا ، واختلافهم في تكفير تارك الصلاة هو من هذا الوجه ، لا من أجل أن من أتى بالنواقض العملية لايكفر الا بالاستحلال عندهم ، بمعنى أن من لايكفر بترك الصلاة من السلف ليس لانه يرى رأي المرجئة الذين لايكفرون الا بالاستحلال مطلقا ، بل لانه لايجعل ترك الصلاة من النواقض العملية ، وترى نفس الفقيه الذي لايكفر بترك الصلاة ـ ان كان على مذهب السلف في العقائد ـ تراه يكفر ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا وان لم يستحل .
قال : لكننا نسمع كثيرا من العلماء يقولون لايكفر من فعل كذا الا أن يستحل .
قلت : نعم ويكون المذكور بهذا الحكم ، ليس من النواقض العملية ، ولايكون من النواقض العملية الا ما يقتضي التكفير بحد ذاته ، من غير اشتراط استحلال قلبي عندهم .
قال : أما أن التكفير ببعض الاعمال التي تسمى النواقض من غير اشتراط الاستحلال يتلائم على مذهب السلف في فهمهم لحقيقة الايمان ، فواضح جدا ، لكن يبقى اشكال وهو أن من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أو يستهزئ بالمصحف ونحوهما ، لايتصور أن يكون ذلك منه الا باستحلال وعدم تصديق ، وحينئذ تعود المسألة الى أن التكفير لايكون الا بالتكذيب الذي هو ضد التصديق ، وأن الاعمال شرط كمال فقط ، فكأن الخلاف عاد الى أن يكون خلافا لفظيا ، بمعنى أن كل ناقض عملي لايتصور وقوعه الا مع عدم تصديق قلبي ( الاستحلال صورة منه ) ، فحينئذ النتيجة واحدة .(/6)
قلت : غير صحيح البتة ، ان كنت تقصد بالاستحلال ، انه يعتقد أنه حلال في الدين فواضح أنه قد يعتقد تحريمه ، ومع ذلك يفعله ، واذا كنت تقصد أنه لايصدق بالله وبأن النبي صلى الله عليه وسلم حق وأنه حرم هذا الفعل ، فكذلك واضح أنه قد يصح منه هذا التصديق ومع ذلك يقع منه السب ، وقد رأينا بعض الجهلة يسبون الدين والرب تعالى في حال الغضب ويصلون أحيانا ، وهم كفار بسبهم وان اعتقدوا أنه محرم وصدقوا بالدين ، وعليهم أن يتوبوا توبة صحيحة ليرجعوا الى الاسلام .
قال : لكن لايقع ذلك منهم الا لهوان الدين في قلوبهم .
قلت : نعم ، وقد يكون لاسباب أخرى أيضا ،لان ترابط فعل الجوارح بالقلب ضرورة خلقية ، لكن المقصود أن هذا الذي سميته هوان الدين ، وقد ترتب عليه فعل المكفرات العملية ، هو أمر آخر يختلف عن التكذيب والجحود والاستحلال الذي يشترطه المرجئة في كل حكم بالتكفير ، ويختلف عن العناد والاستكبارالمقارن للاستخفاف كما يشترطه بعضهم ، ويقولون لا يكون التكفير بالكفر الاكبر الا اعتقاديا مطلقا ، وأما أفعال الجوارح فلا يكفر بها الا مقرونة بالاستحلال والتكذيب أو الجحود أو العناد فيكون التكفير بهذا الاعتقاد لا بالفعل .
قال : حتى لو سجد للصنم ، لاتكفره المرجئة الا بالاعتقاد المقارن؟
قلت : حتى لو سجد للصنم ، لايكون كفره عندهم لسجوده للصنم ، بل لما في قلبه من اعتقاد قارن السجود .
بل لقد حدثني بعض افاضل الدعاة أن بعض الطلبة المتأثرين بكتاب ( الحكم بما أنزل الله وأصول التكفير ) لما سأله ذلك الفاضل عن حكم من يسجد للاصنام طمعا في متاع الدنيا غير مستحل ولامستكبر ولا جاحد ، قال : لايكفر .
قال : لكن كيف لنا أن نعرف اعتقاده وما في قلبه ، فكيف اذن نحكم عليه ، أليس هذا يقتضي أن لايحكم على أحد بالكفر الا اذا نطق به فقط ؟.
قلت : المرجئة قديما كانت تقول نحن مأمورون أن نحكم بالظاهر ، فنكفره اجراء لاحكام الدنيا فقط ، لانها تبنى على الظاهر ، واذا علم الله تعالى أنه مصدق بالله ، غير مستحل السجود للصنم ، فانه مؤمن عند الله تعالى ناج يوم القيامة من حكم التكفير وان عوقب على فعل المحرم.
وقلت : وهم يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر عند الله تعالى أيضا فهذا يدل على أنه غير مصدق بقلبه ، وكل من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو غير مصدق بقلبه ، وان كان يظهر خلاف ذلك ، لان الكفر لايكون الا التكذيب .
قال : لكن نحن يهمنا اجراء أحكام الدنيا ، أما الاخرة فحكمها الى الله تعالى ، وحينئذ فالخلاف سيكون لفظيا ، المرجئة والسلف متفقون على أن ساب الرسول والساجد للصنم مثلا ، نجري عليه أحكام التكفير في الدنيا لاننا لاسبيل لنا لمعرفة ما في قلبه ، فيأخذ الجميع بالنواقض العملية في أحكام الدنيا على اتفاق بينهم من باب الاخذ بالظاهر والله يتولى السرائر .
قلت : الخلاف فيما لو زعم بلسانه أنه مصدق في حال اتيانه بالناقض العملي كالسجود للصنم وسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ، بمعنى أنه يفعل ذلك ويزعم أنه غير مستحل ، فهل نكفره ، ونقيم عليه حد الرده ، والعجب أن مرجئة العصر أوغل في الارجاء من المتقدمين انهم يقولون لانكفره ولا نعمل بالظاهر وان سجد للصليب وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ونحوها ، ولانكفر الا من يقر على نفسه انه مستحل جاحد فقط ، وهذا من أعجب المذاهب ، وأعجب منه من يقول لانكفر أهل الشهادتين قط لان الكفر قد يندفع بما يندفع به وعيد عصاة الموحدين !!
قال : دعنا الان من مرجئة العصر ، فلنفهم أولا مذهب الارجاء القديم والفرق بينه وبين مذهب السلف ، ثم نعود الى من تقصدهم بالتفصيل ، أجبني على السؤال التالي : كيف يتصور أن يسجد للصنم أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه مصدق بدين الاسلام غير مستحل لما يفعل ، الا ان يكون مكرها ، والمكره نزل فيه قوله تعالى ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ؟
قلت : يتصور أن يوافق المشركين على دينهم ايثارا لعرض من اعراض الدنيا ، يوافقهم فيسجد للصليب مثلا ليعطوه أو يكرموه أو يجعلوه سفيرا أو أميرا أو ينحلوه مالا ، أو ليبقى في بلادهم حيث يتنعم فيها بملذات لايجدها في بلاده ، وهو في قلبه كافر بصليبهم ، واذا خلا بالمسلم يظهر له كفره بالصليب ، وأنه إنما يسجد له في ظاهر أمره ويعظمه ، موافقة للمشركين طمعا في دنياهم .
قال : أو يسب معهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنفس الغرض ، أو يعظم دينهم ويرفعه على دين الاسلام ، لنفس الغرض ، أو يقاتل معهم وينصرهم على المسلمين لنفس الغرض ، وهو مع ذلك لايستحل هذا كله ، ويصدق بقلبه بدين الاسلام ، ويقر لمن يخلو به من المسلمين ان دين الاسلام هو الحق وأنه لايتركه بقلبه ، مع نطقه بالشهادتين ، وأنه كافر بقلبه بدين المشركين ، لكن انما يصانعهم طمعا بما في أيديهم من الدنيا .(/7)
قلت : نعم ، فهل هذا مسلم لانه مصدق فحسب ، عاص فاسق بارتكاب الكبيرة فقط ، ولم ينقض ايمانه لانه لم يستحل ، هل هذا هو مذهب أهل السنة ؟
قال : كلا هو ناقض لايمانه ، ولاكرامة له ولانعمة عين .
قلت : هذا النص الذي سأنقله لك عن شيخ الاسلام ابن تيمية يعد مثالا واضحا لجميع ما ذكرناه آنفا ،قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ( ان سب الله وسب رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الايمان قول وعمل ) الصارم المسلول ص451
قال : ما معنى قوله ( ظاهرا وباطنا ) .
قلت : اشارة الى مخالفة قول المرجئة أنه يكفر ظاهرا فقط ، وهم يقولون نكفره ظاهرا لاننا مأمورون بالاخذ بالظاهر ، أما أمر الباطن فاذا كان يعتقد تحريم ما فعل ولايستحله فانه مؤمن عند الله وان حكمنا عليه بالكفر ظاهرا ، هذا مذهب المرجئة المتقدمين ، أما المحدثون فلا يكفرونه باطنا ولا ظاهرا الا أن يصرح بالاستحلال ، وأما أهل السنة فانه يكفر ظاهرا وباطنا عندهم ، لان السب من النواقض في حد ذاته .
قال : لكن واقع الامرأنه لايسب النبي صلى الله عليه وسلم ، الا من هان عليه مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في قلبه من توقيره ما يوجب كف لسانه عما لايليق به فضلا عن سبه .
قلت : عدنا الى ما ذكرته من قبل ، وهو أن هذا الذي تسميه هوان مقام النبوة عنده ، هو أمر آخر غير الاستحلال ، وهو غير اعتقاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز سبه ، أو أنه في مقام يستحق السب حاشاه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود أنه قد لايعتقد هذا كله ، ومع ذلك يكفر بالسب ان فعله عامدا عالما بمعنى اللفظ ، ولاريب أنه لم يسبه الا لفساد في عمل القلب أوجب هذا الاستخفاف الذي كفر به ، ضرورة ارتباط عمل الجوارح بعمل القلب .
قال : لكن لماذا لم يوجب التصديق به صلى الله عليه وسلم عند هذا الساب ما أوجب عند غيره من تعظيمه وتوقيره .
قلت : لان التصديق المجرد اذا عارضه مانع ، فانه لايوجب عمل القلب من حب الله تعالى الذي منه حب رسول صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم الله الذي يدخل فيه تعظيم رسله ، والخوف من الله تعالى ورجاء ماعنده خوفا ورجاء أعظم مما يكون لغير الله تعالى ، ومن الموانع الكبر والاعراض ومنه أن القلب يكون مشغولا بارادة مرادات أخرى ــ كايثار الحياة الدنيا من رئاسة أو مال ــ غلبت عليه فمنعت من اتباع ما يعلم صدقه وحب قلبه له وارادته ، فلما انشغل القلب بهذا العمل القلبي منع من حصول مقتضى التصديق بما جاءت به الرسل ، فيكون مصدقا بما جاءت به الرسل وعالما بأنه حق لكن لايكون في قلبه عمل بمقتضى هذا التصديق ، فلايكون في قلبه حب الله تعالى أعظم من كل محبوب ، ولا ارادة ما عنده أعظم من كل ارادة ولا الخوف منه أعظم من خوفه من غيره ، فتأتي أعمال الجوارح على وفق مافي قلبه ، فيقع منه ما يكون كفرا أكبر ، بمقتضى ما في قلبه من فساد في عمل القلب .
قال : وهذا كله أمر آخر غير التصديق .
قلت : نعم هو غير التصديق ، فقد يكون مصدقا بالله ، محبا مريدا لغير ما صدق به ، والمرجئة تقول اذا كان مصدقا ، فهو مؤمن عند الله تعالى، لان الايمان هو التصديق ، والاعمال ليست منه ، ومن يقول الاعمال شرط كمال فهي عنده ليست منه أيضا ، لان الشرط انما يكون خارج الماهية ، فاذا جعله كمالا فان زوال الكمال زوالا تاما لايؤثر في صحة الايمان ، عند هؤلاء .
قال : لعل الذين اشترطوا الاستحلال والتكذيب للتكفير بالنواقض العملية ، وقالوا اذا كان مصدقا لا يكفر بالعمل قط ، وقالوا الكفر العملي لايكون كفرا أكبر قط ، وقال بعضهم الكفر الاكبر هوالاعتقادي والاصغر هو العملي هكذا باطلاق ، اشتبه عليهم المقصود باعتقاد القلب ، واختلط بعمل القلب والتصديق ،وهم انما يقصدون بالاعتقاد مايعم عمل القلب ، ولم يفطنوا الى أن قولهم الكفر الاكبر لايكون الا اعتقاديا يندرج فيه القول بأن الكفر لايكون الا التكذيب والاستحلال وهو قول المرجئة .
قلت : قولهم الكفر الاكبر لايكون الا اعتقاديا ، يعني ضد التصديق ، وهو التكذيب ، لان عمل القلب غير اعتقاده ، اعتقاده هو تصديقه وعلمه ، وأما عمله فأمر آخر وارءه .
قال : ففي الحقيقة قولهم بعينه هو قول المرجئة ، أو يرجع اليه .
قلت : نعم ، ولو أنهم قالوا الكفر العملي الاكبر دليل على فساد عمل القلب ، مع وجود التصديق ، وهذا ما نعنيه بأن الكفرالاكبر هوالاعتقادي ، أي أن الكفر العملي الاكبر ملزوم لفساد عمل القلب ، ولان فساد عمل القلب هوالسبب الباعث على هذا الكفر العملي الاكبر ، سميناه الكفر الاعتقادي ، ونعده كفرا أكبر ، لكان صوابا في المعنى خطأ في العبارة ، وهو أشبه بالخلاف اللفظي .
قال : لعلهم يقصدون هذا المعنى ، فأخطأوا اللفظ الدال على مقصودهم .(/8)
قلت : يتبين بالمثال ، اذا قالوا ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ـ غير المستحل ـ كافر ، وقد أمرنا أن نحكم بكفره ظاهرا ، مع عدم اطلاعنا على اختلال باطنه وفساد عمل قلبه ، لكننا نعلم بعلمنا بارتباط الظاهر بالباطن أن عمل قلبه فيه فساد أوجب سبه الظاهري ، مع أنه قد يكون مصدقا بالرسول وبما جاء به ، فقولهم صواب لا أشكال فيه على مذهب السلف .
وان قالوا : بل نحكم بكفره ظاهرا ، وهو في الباطن مؤمن عند الله ان كان مصدقا غير مكذب ان كان من أهل الشهادتين ، فهذا مذهب الارجاء القديم، وهؤلاء كانوا يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر باطنا ، فلا يكون الا مكذبا باطنا ، لان الكفر لايكون الا التكذيب والجحود .
وان قالوا : ان تبين لنا انه مصدق غير مكذب ، ولا مستحل ولا جاحد ، لكن وقع منه السب تهاونا لا تكذيبا ولا استكبارا ، فهو غير كافر ، وان كان أتى بعمل الكفر ، لان الكفر الاكبر لايكون الا بالاعتقاد أو الاستكبار والاستخفاف ولايكون بالعمل قط ، فهم مرجئة العصر ومذهبهم أقبح من المذهب القديم ، لانهم يفسدون زواجر الشريعة المقصودة بحدود الردة في أحكام الدنيا ، ويفتحون الباب لتتايع الناس في أقبح الكفر بحجة أنه معصية وليس كفرا ، وينطوي هذا على خطر عظيم على الدين ، وأي فساد أعظم من زوال الحد الفاصل بين أعظم متمايزين متضادين موجبين لاعظم مطلوب أو ضده ،الايمان والكفر .
قلت : واذ قد تبين لك حقيقة مذهب السلف في الايمان ، وما ينبني عليه من أقوالهم في التكفير ، وأنهم يكفرون بالنواقض العملية ، ولايشترطون الاستحلال والجحود والتكذيب فيها ، وأن المرجئة هم الذين لايكفرون الا بالاستحلال أو الاعتقاد أو التكذيب أو الجحود وهي الفاظ تدل على معان متقاربة أومتداخلة ، وذلك بناء على ان الايمان عندهم هو التصديق فقط والاعمال ليست منه ، وأن حكاية مذهب السلف ان العمل شرط في كمال الايمان غلط عليهم ومخالف لمذهبهم ، فسأنقل لك بعض النقول التي تبين بعض أحكام نواقض الايمان ومنزلة العمل منه ، عن أجلة العلماء وطابق بينها وبين ما ذكرت لك أنفا :
1ـ قال الربيع كان الحسن البصري يقول ( الايمان كلام وحقيقته العمل فمن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول ) الابانة لابن بطة 2/792
2ـ وعن سهل بن عبدالله التستري ( الايمان اذا كان قولا بلا عمل فهو كفر ، واذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق واذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة ) الابانة لابن بطة 2/814
3ـ وقال الامام ابن بطة رحمه الله ( فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولايؤديها ويعلمها وبتحريم الفواحش والمنكرات ولاينزجر عنها ولايتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله ) الابانة 2/795
4ـ شيخ الاسلام ابن تيمية ( والصحابة لم يقولوا : أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها ؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة ، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنه : والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب ، وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعا سيرة واحدة ،وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار ، وسموهم جميعا أهل الردة ) الدرر السنية 8/35
قال : هل يعني هذا تكفير تارك الزكاة ؟
قلت : من تركها بخلا أو أحيانا ، فهو كمن يترك الصلاة أحيانا مثل أن يضيعها ويؤخرها عن وقتها وتفوته بعض الفرائض فهذا لايكفر ، لكن من عزم على تركها بالكلية امتناعا وتوليا عن التزامها ، حتى لو قوتل عليها لقاتل دون دفعها ، فالصحابة ــ كما قال شيخ الاسلام ـ على تكفيره وان كان مصدقا بدين الاسلام وأن الزكاة فرض فيه ، وهو دليل على أن هذا الفعل عندهم من النواقض العملية ، وهو (العزم على ترك الزكاة بالكلية والامتناع عن التزامه ـ توليا عن هذا الركن العظيم ـ والقتال على ذلك ) ولهذا لم يفرقوا بين مستحل جاحد أوغيره .
5ـ وقال شيخ الاسلام ابن تيمية أيضا : ( ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لان ذلك لايكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لانه استثنى المكره وهو لايكره على العقد والقول وانما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك الا من أكره وهو مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فانه كافر أيضا ، فصار من تكلم بالكفر كافرا الا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، وقال في المستهزئين ( لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته ) الصارم المسلول ص524(/9)
قال : تقصد أن المعنى أن من اكره على ناقض قولي ــ كسب الرسول مثلا ــ ففعله مكرها ولم ينشرح صدره به لايكفر ،وأن من فعله غير مكره يكفر وان اعتقد التحريم 0
قلت : نعم هذا هو معنى الاية وظاهرها ، وتفسير شيخ الاسلام لها 0
قال : اليس المعنى هو أنه لايكفر الا من يشرح صدره بعمل الكفر يعني يستحله ويعتقد صحته ، لان الله تعالى قال ( ولكن من شرح بالكفر صدرا 00الاية ) .
قلت : كلا ، بل قوله (ولكن من شرح بالكفر صدرا) يعني من المكرهين على قول الكفر ، لايكفرمن المكرهين الا من انشرح صدره بعد اكراهه وقال كلمة الكفر منشرحا بها صدره ، أما غير المكره اذا قال كلمة تنقض الايمان كسب الله تعالى ورسوله ، وكان طامعا راجيا لعرض من الدنيا مثلا ، وان كان في قلبه يكرهها ، فانه يكفر وان اعتقد تحريم فعله ولم يستحله ، وان كان من أهل الشهادتين ، ألا ترى مصداق ذلك في حديث ( يصبح مؤمنا ويمسى كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ) ، فمن قال كلمة الكفر الاكبر كسب الله ورسوله أو الاستهزاء بالدين أو عمل عملا هو من الكفر الاكبر طمعا في عرض الدنيا فقد باع دينه بعرض من الدنيا ، وما أكثر ذلك هذه الايام قال تعالى ( ذلك بانهم استحبوا الحياةالدنيا على الاخرة وأن الله لايهدي القوم الكافرين ) ، وقد جاءت هذه الآية بعد آية الاكراه في سورة النحل .
7ـ في أجوبة ابني شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب الإمامين حسين وعبدالله مايلي : (المسألة الثانية وهي : الاشياء التي يصير بها المسلم مرتدا ، 000 الثانية : اظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم والدليل قوله تعالى { ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم ، فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } ، وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذه المسألة عشرين آية من كتاب الله ، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدل بها أن المسلم اذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير اكراه ، أنه يكون بذلك مرتدا خارجا من الاسلام ، وان كان يشهد أن لااله الا الله ، ويفعل الاركان الخمسة أن ذلك لاينفعه ) مجموعة التوحيد 403
قال : هذا مثل ما ذكرت آنفا : أنه اذا سجد للصليب أو سب دين الاسلام أو قاتل مع قومه الكفار أهل الاسلام المجاهدين لاظهار الدين ، ونحو ذلك من النواقض العملية أنه يكفر وان لم يستحل على مذهب السلف ، لانه أظهر الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم من غير اكراه .
قلت : نعم ، ما ذكره علماء الدعوة السلفية النجدية هنا هو مطابق تماما لمذهب السلف وينبيء عن فهمهم الدقيق لهذه القضية ، ذلك انها كانت قضيتهم التي جاهدوا في سبيلها ، فهم أعلم بها من غيرهم .
وقلت : ومعلوم أن من أسباب زيادة العلم عند بعض العلماء مزيد عنايتهم ببعض أنواعه لحصول البلوى عندهم أكثر من غيرهم كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية ( فان أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ،ثم أهل الشام ،ثم أهل العراق ، فأهل المدينة أعلم بها لانها كانت عندهم ،وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم ) التفسير الكبير 2/212
وكذلك علماء الدعوة النجدية لما كانوا يجاهدون واحتاجوا الى هذه القضية ، كان تحقيقهم لها ومعرفتهم بتفاصيلها أكثر من غيرهم ممن هو بعدهم ، وهم فيها أسد نظرا ، وأهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وهم انما بنوها على أصول أهل السنة في الايمان لم يخرجوا عن ذلك قيد انملة 0
8ـ قال شيخ الاسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب ( فانهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم ( يعني المشركين ) تغيير عقيدته ، ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب الى الاسلام في اظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم ، ويظن أنه لايكفراذا كان قلبه كارها له ، الى أن قال : الثالثة : أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ، فان هؤلاء الذين ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله تغيير العقيدة كما تقدم ، بل اذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لاجل ماله أو بلده أو أهله ، مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم ، فهذا كافر لا من أكره 00الى أن قال : ولكن رحم الله من تنبه لسر الكلام وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الايات ، من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر ، مع كون القلب بخلاف ذلك ، فان هذا هو الذي ارادوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فافهمه فهما حسنا ، لعلك تعرف شيئا من دين ابراهيم عليه السلام ) مجموعة التوحيد 404(/10)
قال : يقصد موافقتهم في شركهم وكفرهم كتعظيم الاصنام والسجود لها ، وسب دين الاسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، فانه يكفر وان كان في قلبه لايستحل ما فعل ويكره الكفار ويبغض دينهم ، لكن حمله على هذا الناقض العملي الطمع في المال أو الجاه والرئاسة ونحو ذلك ، كما في الحديث ( يصبح كافرا ويمسي مؤمنا ، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) .
قلت : نعم هذا هو مقصوده ، وليس مجرد موافقتهم في مباح أو قبول مشورتهم في أمر يحسنونه ، أو في ارتكاب كبيرة كأن يشرب معهم الخمر مثلا 0
وأما اذا كان في سلطانهم فخاف على نفسه منهم ، فأظهر لهم موافقته لدينهم اذا لقيهم وقلبه كاره ، فانه يدخل في آية الاكراه ، ولكن اذا لم يكن في سلطانهم وانما حمله على موافقتهم الطمع في الدنيا ، فانه يكفر وان لم يستحل وان كان قلبه كارها ، قال شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ( أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم ،وانما حمله على ذلك اما طمع في رياسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال ، او خوف مما يحدث في المآل ، فانه في هذه الحال يكون مرتدا ولا تنفعه كراهته لهم في الباطن ، وهو ممن قال الله فيهم { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } ، فاخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل أو بغضه ، ولامحبة الباطل ، وانما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين ) مجموعة التوحيد 418
قلت : وتأمل قوله ( أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ) وكيف يرد على من لا يجعل من كفر العمل كفرا أكبر قط .
وتأمل قوله ( أو خوف مما يحدث في المآل ) وكونه لم يعذره بذلك ، ولم يرفع عنه حكم التكفير ، وانما بما يقع عليه من الاكراه في الحال ، وسنكمل بقية النقول في الحلقة القادمة ان شاء الله تعالى .
وتأمل قوله ( لعلك تعرف شيئا من دين ابراهيم ) وكيف جعل هذه القضية من صلب الدين وأساس التوحيد .
9ـ وفي أجوبة الامامين حسين وعبدالله ابني الشيخ في بيان ما يصير به المسلم مرتدا ( الامر الرابع : الجلوس عند المشركين في مجالس شركهم من غير انكار والدليل قال تعالى { وقد نزل عليكم في الكتاب ان اذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم اذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وفي أجوبة آل الشيخ رحمهم الله تعالى ( لما سئلوا عن هذه الاية الجواب أن الايةعلى ظاهرها ، ان الرجل اذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فجلس عند الكافرين المستهزئين بآيات الله من غير اكراه ولاانكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، فهو كافر مثلهم ، وان لم يفعل فعلهم ) مجموعة التوحيد 405
قال : اذا كانوا يسبون دين الاسلام مثلا ويكذبون القرآن ويسخرون من أحكامه ، وهو يجالسهم في خوضهم هذا ، ولا ينكر عليهم ، من غير أن يكره على حضور هذه المجالس ، بل يعدهم أهل مجلسه الذين يصاحبهم وينادمهم ويسمع آيات الله يستهزئ بها ولايعرض ، فانه يكفر مالم ينكر أو يقوم ، اذا كان هذا هو معنى الاية فهو واضح ، وهو دليل على أن التصديق والشهادتين لم ينفعاه لانه نقضهما .
قلت : أما دلالة الاية فواضحة كما فسرها هذان الإمامان ، وهي دليل على أن المكفرات العملية لا يشترط فيها الاستحلال ، ولوكان لا يكفر حتى يستحل بمعنى يعتقد جواز خوض أهل مجلسه في آيات الله ، لما كان يكفر بمجرد هذا العمل ، وتأمل أنه لم يفعل شيئا غير أن سكت وبقي معهم ، فكيف لو كان يسب معهم ولايستحل .
10ـ وقالا رحمهما الله ( وهو أن الذي يدعي الاسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل ، بحيث يعده المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم ، وان ادعى الاسلام الا أن يكون يظهر دينه ، ولايتولى المشركين ) مجموعة التوحيد 406
قال : مفهوم هذا مع سياق ما تقدم ، اذا تولى المشركين بهذه الصورة بحيث يخفي دينهم أمامهم غير مكره ،ويتولاهم وينصرهم ويكون معهم بحيث يعدونه منهم ،يوافقهم على دينهم ، فهذا حكمه .
11ـ واسمع هذا النقل عن امام الدعوة المجدد محمد بن عبدالوهاب ، لتعلم حقيقة ما كانوا عليه من فهم لحقيقة الايمان ونواقضه ، يقول رحمه الله كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/300 ( سألني الشريف( شريف مكه آنذاك )عما نقاتل عليه وما نكفر به ؟ فقلت في الجواب : انا لانقاتل الا على ما أجمع عليه العلماء كلهم ( تدبرفي حكايته الاجماع على ما يكفرون به ثم لاحظ ما هي المكفرات التي كانوا يقاتلون عليها ) ،قال : وهو الشهادتان بعد التعريف اذا عرف ثم انكر ونقول أعداؤنا معنا على أنواع : الاول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر انه الشرك ولم يلتفت الى التوحيد علما وعملا ولا ترك الشرك فهذا كافر نقاتله ) .(/11)
قال : هذا كفر الاعراض ، يعلم بقلبه صحة التوحيد ولكن يفعل الشرك فيكون كافرا ، وقد يفعله موافقة لقومه فحسب ، فلا ينفعه علمه بقبح الشرك وأن دين الرسول صلى الله عليه وسلم هو التوحيد ، اذا كان يأتي الشرك ولاينقاد للتوحيد .
قلت : ما رأيك الان فيمن يقول لانكفر من يسجد للاضرحة والقبور ويطوف حولها ويستغيث بها ويفعل السحر 00الخ ، اذا علمنا أنه لايستحله بل يفعل ذلك من باب الدجل على الناس وأكل أموالهم وحبا في رئاسة ينالها بسبب هذه الافعال الشركية ، لانكفره لانه غير مستحل .
قال : هذا هو مذهب المرجئة .
قلت : هو مذهب الجدد أما القدماء فكانوا خيرا من هؤلاء ، لانهم كانوا يقولون نحكم عليه الكفر في أحكام الدنيا لاننا أمرنا بالاخذ بالظاهر وظاهره الكفر ، واذا علم الله انه مصدق بقلبه بالتوحيد ، فهو مؤمن عند الله لان الايمان هو التصديق ، أما الجدد فانه يقولون لانكفره حتى في أحكام الدنيا ، ولو فعل الافعال المذكورة ، وزاد عليها بأن أقام حماية السلطة لعباد القبور والاضرحة وشرع لهم القوانين التي تعاقب من يتعرض لهم ، وأحاطهم برعاية الدولة وتنظيمها والانفاق على هذه الالهة وتزيينها للناس وتنظيم من يشرفون عليها ، تقول المرجئة الجدد لانكفره لانه ناطق بالشهادتين ، ولم يصرح بأنه يستحل ويجحد ويكذب .
قال : انا لله وانا اليه راجعون ، ومن هم هؤلاء الجدد ؟
قلت : لنكمل الحديث عن شيخ الاسلام المجدد ثم نأتي على جواب سؤالك هذا.
ثم قال ( النوع الثاني : من عرف ولكن سب أهل التوحيد ومدح من عبد يوسف والاشقر وأبي علي والخضر ( وهي أضرحة كانت يطاف حولها ويستغاث بها ويسجد لها على زعم أن المقبورين فيها من الصالحين الذين يشفعون عند الله ) وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك فهذا اعظم كفرا ، النوع الثالث : من عرف التوحيد واحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك فهذا أيضا كافر ) .
قال : مهلا ، قف هنا ، هذا النوع كفره الامام بمجرد حبه لاهل الشرك لانهم قومه وقبيلته وكراهيته لاهل التوحيد لانهم يقاتلون قومه فقط ، مع أنه لايفعل ما يفعله قومه من الشرك بل يلتزم دعاء الله وحده .
قلت : نعم ، انطلاقا مما ذكرنا من حقيقة الايمان ، وارتباط الظاهر بالباطن فيه ، وعملا بقوله تعالى ( لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر ، يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو أزواجهم أو عشريتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ) ، فالايمان بالله ورسوله الصحيح الشرعي ، لم يقم بهؤلاء ، بل قام في قلوبهم تصديق مجرد لم يوجب عمل القلب الذي يوجب عمل الجوارح ، بل منع حصول موجب التصديق فيهم ، مانع ايثاروتقديم محبة الاهل والمال على الانتصارلدين الله تعالى ، فأحبوا قومهم المشركين وكرهوا الموحدين .
ولنكمل كلام الامام المجدد ( النوع الرابع : من سلم من هذا كله لكن أهل بدله يصرحون بعداوة أهل التوحيد واتباع أهل الشرك ، ويسعون في قتالهم وعذره أن ترك وطنه يشق عليه ، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ، ويجاهد بماله ونفسه ، فهذا أيضا كافر ، لانهم لو أمروه بترك صيام رمضان ، ولايمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل ، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ، ولايمكنه مفارقتهم إلا بفراق وطنه فعل ، وأما موافقتهم على الجهاد بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله فأكبر مما ذكرنا بكثير ، فهذا أيضا كافر ممن قال الله فيهم ( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم … الآية ) المسائل النجدية 4/300
12ـ ( وقال الامام عبداللطيف بن عبدالرحمن : ( أهل السنة مجمعون أنه لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده ،والمرجئة تقول يكفي التصديق فقط ، ويكون به مؤمنا ، والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لايكفر واقع بين أهل السنة ، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الاسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والثاني لايكفر الا بالجحد والثالث التفريق بين الصلاة وغيرها ، وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الاسلام ومالا ، وبين ما سماه الشارع كفرا ومالم يسمه هذا ما عليه أهل السنة ) مجموعة الرسائل 3/14
قال : هذا الكلام يحتاج الى شرح ، ما معنى الخلاف في أعمال الجوارح واقع بين أهل السنة هل يكفر أو لايكفر ؟
قلت : يعني اختلفوا في أفعال الجوارح التي هي الاركان الاربعة هل يكفر بتركها بدليل ما ذكره بعده فانه حكى ثلاثة أقوال في ذلك ، ولايعني كخلاف الخوارج مع أهل السنة في تكفير مرتكب مطلق الكبائر ، فانه أجل من أن يقول مثل هذا القول .
قال : وما معنى قوله ( وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الاسلام أم لا 00الخ ) .(/12)
قلت : يعني المعاصي التي تكون نواقض عملية وعبر عنها بقوله ( ما يصادم أصل الاسلام ) وبقوله ( وماسماه الشارع كفرا ) فهذه يفرقون بينها وبين سائر المعاصي ، فالاولى يكفر بها ، وأما سائرالمعاصي فلايكفر حتى يستحل ، وقد قدمت لك أمثلة كثيرة ، وتأمل قوله هذا الذي عليه أهل السنة ، وقارن بين قوله و ما يقوله المرجئة الجدد .
13ـ قال شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ( الرابعة قوله أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك ، هل المعنى : نطق بها ولم يعرف شرحها أو نطق ولم يعلم أنه تكفره ؟ فأجاب : فالمسألة الاولى : قد استدل العلماء عليها بقوله تعالى في حق بعض المسلمين المهاجرين في غزوة تبوك ( ولئن سألتهم ليقولون انما كنا نخوض ونلعب ) وذكر السلف والخلف : أن معناها عام الى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول وصفة كلامهم أنهم قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ، يعنون بذلك : رسول الله والعلماء من أصحابه ، فلما نقل الكلام عوف بن مالك أتى القائل يعتذر أنه قاله على وجه اللعب كما يفعله المسافرون ، فنزل الوحي أن هذا كفر بعد الايمان ولو كان على وجه المزح ،والذي يعتذر يظن أن الكفر اذا قاله جادا لا لاعبا 00 الرابعة : اذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه ، وأما كونه أنه لايعرف أنه تكفره فيكفي فيه قوله ( لاتعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ) فهم يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لاتكفرهم ، والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله تعالى ( وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ) ( انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) ( وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) أيظن أن هؤلاء ليسوا كفارا ؟ لكن لاتستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لاجل غربتها ) ص 447 تاريخ نجد .
قلت : فهذا تصريح أنه اذا قال كلمة الكفر الاكبر وهو يعلم معناها فانه يكفر وان لم يستحل وان ظن انها غير مكفرة .
14 ـ وقال العلامة محمد الشوكاني في جواب سؤال عن قوم من الاعراب لايأتون من العمل الا النطق بالشهادتين هل هم كفار ، فقال ( من كان تاركا لاركان الاسلام وجميع فرائضه ورافضا لما يجب عليه من ذلك من الاقوال و الافعال ولم يكن لديه الا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب ان هذا كافر شديد الكفر 00ثم قال : والآيات القرآنية والاحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة ومعلومة لكل فرد من أهل العلم بل هذا الامر الذي بعث الله به رسوله وأنزل لاجله كتبه والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب ايضاح الواضح وتبيين المبين ) ارشاد السائل الى دليل المسائل ص43
قال : نحتاج مع هؤلاء المرجئة العصرية أن نبين هذا الواضح فانا لله وانا اليه راجعون.
15ـ وقال العلامة محمد بن ابراهيم آل الشيخ رحمه الله عمن يعتقد أن تارك جميع الجوارح ليس بكافر ( هذا من فروع مذهب المرجئة وهو الرائج في البلدان التي أهلها يدعون الاسلام ، فالمسلم هو الذي لايكون نصرانيا ولايهوديا بالنسبة الى العمل بالدين ، وان كانوا لاينكرون فضل من يصلى ، لكنه مسلم على كل حال عندهم ( يعني ولو لم يعمل بشيء من الدين ومثل لذلك بالاعمال الظاهرة كالصلاة ) ، وأنه من حزب المسلمين ، وأنه يبغض الكافرين ، هذا بقطع النظر عن الشرك ، فهذه مذاهب ردية ) وقال رحمه الله ( تجد الاسلام الفاشي عند الاكثرية اذا لم ينتسب الى طائفة أخرى ، يقولون مسلم وهو لايصلي ولا يصوم ، والايمان حاصل له وهو تصديق الرسول ) الفتاوى 1/246 .
قال : في هذه النقول كفاية ، وهي ناطقة بوضوح أن مذهب السلف هو أن العمل ركن في الايمان ، وأن الايمان يزول بالتولي عن جميع العمل لا بعضه كما تقول الخوارج ، وأن الكفر الاكبر منه اعتقادي ، ومنه عملي وان كان القلب مصدقا ، وهو مع ذلك لايكون الا مع فساد في عمل القلب أوجب فعل الجوارح للكفرالناقض للايمان ، ضرورة ارتباط الظاهر بالباطن في طبيعة الخلقة الانسانية ، غير أننا لم نؤمر بالتنقيب عن الباطن ، بل نحكم على من أتى بالناقض والكفر العملي الاكبر بالكفر الاكبر كمن سب الرسول واستهزأ بالمصحف وسجد للصليب والأصنام ونحوذلك ، حتى لو لم يكن مستحلا ، ذلك أن عمل القلب ليس هو تصديقه ، فقد يكون في القلب تصديق ويأتي العبد من عمل الكفر ما يكون به كافرا الكفر الاكبر ، هذا على طريقة أهل السنة.
وأن مذهب المرجئة هو عدم التكفير الا بالجحود والتكذيب والاستحلال فقط ، غير أن المتقدمين منهم يجعلون من أتى بالمكفر العملي كافرا ظاهرا ، وأما باطنا فهو مؤمن عندهم ان كان مصدقا .(/13)
وأما المحدثون فأضل سبيلا ، لأنهم لايكفرونه لا ظاهرا ولاباطنا ، الا أن يصرح بأنه جاحد مكذب مستحل لما فعل أو مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسل ، ولو طاف وسجد ودعا وذبح للصليب أو الاضرحة ،وأقام المؤسسات تحميها وتزينها للناس ، وتشرف عليها وتنفق على سدنتها وكهانها وتنظمها ولوعاقب من يمسها بسوء ، ولواستهزء بدين الاسلام وسب شعائره ، ولو قاتل المسلمين ، وأعان الكفار في حربهم للمجاهدين بما يقدر عليه من نفس ومال ، ولو كانوا يقاتلون دفاعا عن المسجد الاقصى ، لايكفر من فعل ذلك كله ـ عند مرجئة العصر ـ الا أن يستحل ذلك ، ويجحد ويكذب ويقول ذلك بلسانه أو يصرح أنه مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسول ، ويقول هؤلاء قبح الله مذهبهم وقد سمعناهم : ألا تراه مسلما يحضر خطبة المولد ، ويبني المساجد ، ويقول بسم الله الرحمن الرحيم في خطابه وينطق بالشهادتين ، ويقول اني مسلم ، فكيف تكفرونه من غير أن يصرح بأنه مستحل أو مستكبر ، ورأيناهم يجعلون من يكفر مثل هؤلاء الزنادقة من الخوارج المارقة ويستحلون تأليب الطواغيت عليه وكتابة التقارير عنه .
فقلت : هل أنت الان من جماعة التكفير ؟ ومن الخوراج ؟ لما تبين لك حقيقة الايمان الذي عليه أهل السنة .
قال : بعد ضحكة طويلة …والله يا أخي لاتلومني على ما قلته أول الحديث وما كنت عليه سابقا من الجهل ، فانني لم أكن أسمع الا الاتهامات والدعاوى المرسلة والطعن فيكم ونسبتكم الى جماعة التكفير ، بلا تحقيق ولاعلم ، ولا وجدت من يدلني على العلم كما سمعت اليوم من هذه النصوص عن العلماء الا اليوم ، فلك مني جزيل الشكر .
وقال : لكن بقي عندي أمران :
الاول : وهو أنه لايخفى عليك ، أن فتنة التكفير قد عاثت في الارض فسادا ردحا من الزمن ، وأنها أشغلت الساحة الاسلامية بتكفير طائش متخبط ، وأخذت تلك الجماعات بلوازم ما أنزل الله بها من سلطان ، حتى فر الناس منها الى هذا غلو في الارجاء ، فكيف السبيل الى اتقاء فتنة التكفير ، بعد أن تبين لنا كيف نتقي فتنة الارجاء ، وهل يجوز الجرأة على تكفير أهل الشهادتين والتتايع فيها بهذا الطيش ؟
قلت : جماعة التكفير انطلقت من نصوص صحيحة ، لكنها فهمتها فهما خاطئا ، والتزمت لاجلها لوازم باطلة ، فوقعت فيما وقعت فيه من تكفير الحكام مطلقا بلا تفصيل ولاتحقيق ولاعلم ، وكذا تكفير الشعوب والمجتمعات ، فألحقت بالدعوة الاسلامية ضررا بالغا ، والعصمة منها باختصار :
أولا : أن لايقدم على أحكام التكفير الا أهل العلم الذين أحاطوا بقواعد الاصول وعرفوا العقائد المنقولة عن أهل السنة .
ثانيا : أن نعلم أنه لايجوز تكفير أهل الشهادتين الا بعلم بما أتوا به من النواقض الاعتقادية أو العملية ، ثم اقامة الحجة عليهم وبيان المحجة بحسب ضوابط ذلك 0
ثالثا : أن نعلم أننا لسنا مكلفين أن ننقب عن بواطن الناس أو نفتش عن عقائدهم ، لنحكم عليهم بالاسلام او الكفر من غير نازلة تحتاج الى حكم معين ، ولا أن نجعل التكفير هدفا في حد ذاته ، بل من أظهر الاسلام وأكل ذبيحتنا وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا ولايجوز امتحان المسلمين سواء ـ الحكام والمحكومون ـ لمعرفة دخائلهم ، ويكفي المؤمن ـ ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة تفصيلية ـ يكفيه أن يكفر بالطاغوت جملة وهو كل ما يعبد من دون الله تعالى ، ولاعليه أن يعرف حكم هذا وذاك ـ سواء كان حاكما أو محكوما ـ تطفلا ودخولا فيما لايعنيه ولم يكلف به ، بل هذا من الهوس وحماقة العقول الفارغة .
هذا باختصار سبيل الخلاص ، فهات الامر الثاني .
قال : أن هؤلاء الذين وقعوا في الارجاء وهم لايشعرون ، انما فروا من هذه الفتنة ، فتنة التفكير ، ويقولون لئن نخطيء في العفو أحب ألينا من أن نخطيء في العقوبة ، أي نخطئ في الحكم على رجل بأنه مسلم ويكون كافرا في واقع الامر ، خير من أن نخطئ في تكفيره ويكون مسلما فان تكفير المسلم من كبائر الذنوب والموبقات .
قلت : نعم هو كذلك ونحن معهم ، اذا اشتبه الامرعلى من يحتاج الى الحكم ـ وقد قدمنا أنه لايجب على المسلم ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة حكم الشخص مسلم هو أم كافر ـ اذا اشتبه عليه الامر فلا يجوز أن يقدم على تكفيرأحد من أهل الشهادتين فانهما أصل الاسلام ، ولايزول بالشك .
غير أن المستنكر أن نعتقد عقائد المرجئة وننسبها الى الدين ونغير أحكام الشريعة ونقدم عليها آراء باطلة لفرق ضالة ، كما أنه من المستنكر أن ينقض الانسان دينه بنواقض مجمع عليها ويكفر بمقتضى أصول أهل السنة ثم لايحكم عليه بالكفر ، ومن المستنكر أن ينسب من يكفر من هذا شأنه الى مذهب الخوارج بالباطل والافتراء .
ولايخفى أنه كما أن التكفير بلادليل جرم عظيم ، كذلك زوال الحدود الشرعية بين الكفر والايمان ، وجعل الكافر مؤمنا ، من أعظم الفساد في الدين ، والنقض لعرى الايمان .(/14)
قال : قد شفيت وكفيت وهديت ، واني لك شاكر ، وعلى مذهب أهل السنة بعون الله صابر .
ملحق
يشتمل على نص جواب العلامة عبدالله بن الغنيمان رئيس الدراسات العليا في الجامعة الاسلامية بالمدينة سابقا ، والعلامة عبدالله بن جبرين من كبار العلماء على سؤال في موضوع منزلة العمل من الإيمان .
بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى سماحة العلامة الشيخ المحقق عبدالله بن الغنيمان حفظه الله وأبقاه ذخرا ، وأسبع عليه وافر الانعام ، من ابنكم حامد عبدالله العلي من الكويت ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فنحمد إليكم الله الذي لاإله إلا هو على سوابغ نعمه ، ومزيد إحسانه وكرمه ، ونسأله سبحانه أن يديم عليكم ما آتاكم من نعمة العلم والحكمة ، ويمن علينا وعليكم بالثبات في الامر ، والعزيمة على الرشد ، ويوزعنا شكر نعمته ، وحسن عبادته .
موجب الخطاب بعد إبلاغ السلام وحصول التشريف بالسؤال عن حالكم والاطمئنان على جنابكم ، طلب جواب أهل العلم ، ومن له اليد الطولى في تحقيق العقيدة السنية ، والطريقة السلفية المرضية ، عن اعتقاد قوم ينسبونه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ،زاعمين :
أن من يصدق بقلبه ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وينطق بلسانه بالشهادتين ولو مرة واحدة لايزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وإن تولى عن الانقياد للشهادتين بعمل الجوارح توليا كليا ، فلا يفعل واجبا من الواجبات قط ، ولاينتهي عن شيء من المحرمات إلا ما أشرب من هواه ، أولم يقدر عليه ، مع تمكنه من الفعل وعلمه بما أوجبه الله تعالى ، ولو عمر مايتذكر فيه من تذكر !
فلما قيل لهم : إن مثل هذا يمتنع أن يكون مؤمنا لأن ترك الانقياد بعمل الجوارح على هذه الصورة ، لايكون إلا مع زوال عمل القلب الذي لايصح الايمان بدونه ، قالوا : يكفيه من عمل القلب ما حمله على النطق بالشهادتين ولو مرة واحدة في دهره ، وبهذا العمل القلبي فحسب ، وبالتصديق والنطق بالشهادتين ولو مرة واحدة ، يصح إيمانه ويكون مسلما ، ولو قال لا أفعل شيئا من فرائض الاسلام ، ولا أستحل تركها ، ولا أنتهي عن شيء من المحرمات ، ولا أستحل فعلها ، أنه بذلك لايكون ناقضا لإيمانه ، بل هو مسلم ناقص بالايمان من أهل الكبائر .
فلما قيل لهم : إن هذا هو اعتقاد المرجئة ، ولايستقيم على طريقة أهل السنة الذين يجعلون الايمان قولا وعملا ، وأن من يتولى عن عمل الجوارح كله مع العلم والقدرة لايكون مؤمنا بل هو كافر وإن نطق بالشهادتين ، وأما أهل الكبائر فهم أهل انقياد في الجملة بالاعمال الظاهرة مع التقصير ، لكنهم اقترفوا كبائر الذنوب ولم يتوبوا منها .
قالوا : بل ما نقوله هو اعتقاد أهل السنة ، وقال بعضهم هو اعتقاد طائفة من أهل السنة ، ونحن على هذا الاعتقاد .
والمطلوب : تحرير المسألة ، وبيان منهج أهل السنة في الباب ، فإن ضاق وقتكم عن التحرير المفصل ، فعلى قدر ما يسعكم من الوقت ، وإن عجلتم الجواب فهو غاية المطلوب ، فإن الحاجة ماسة ، أبقاكم الله ذخرا ، وأيدكم بالتوفق .
وهذا نص جواب العلامة ابن غنيمان حفظه الله
من عبدالله بن محمد الغنيمان إلى الاخ المكرم حامد بن عبدالله العلي ، أعلى الله قدره بطاعته ، وأتم عليه نعمته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كتابكم الكريم وصلنا ، وسؤالكم عن أحوالنا ، فجزاك الله خيرا ، ونخبركم بأننا على ما يسرك والحمد لله رب العالمين .
أما السؤال : فلايخفى عليك أن قول القائل : من صدق بقلبه ونطق بالشهادتين ولو مرة واحدة لايزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وأن تولى عن الانقياد …إلى آخره ، أنه قول باطل مصادم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو قول المرجئة الضلال ، فإن من الضروريات دينا أن الرسول بعث بالايمان والعمل ، وأن من تولى عن العمل فإنه يعتبر غير متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(/15)
والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، والجزاء ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، ومتى حصل للعبد هذا الإيمان ، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام ، الذي هو الاستسلام لله بالطاعة من الشهادتين والصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له مع الحب والخضوع فمن الممتنع أن يكون العبد قد حصل له الإيمان في القلب والحب والانقياد في الباطن ولا يحصل له ذلك في الظاهر كالجوارح مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة ولا يحصل له المراد ففرض أن هناك إيماناً مع تخلف العمل فرض ممتنع وبهذا يتبين أن من آمن بقلبه إيماناً جازماً امتنع أن لا ينطق بالشهادتين ولا يعمل ما أوجب عليه الشرع مع قدرته على ذلك، فعدم العمل مستلزم لانتفاء الإيمان القلبي ، وبهذا يتبين خطأ المرجئة الجهمية ونحوهم في زعمهم بأن مجرد الإيمان القلبي ينفع بدون أعمال الجوارح ، فإن هذا ممتنع حصوله ، فلا يمكن أن يوجد إيمان القلب الجازم إلا ويوجد معه العمل الظاهر ، ولهذا علق الرسول صلى الله عليه وسلم ترك قتال الناس بإتيانهم العمل ، كما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
كما قرن التولي مع التكذيب فإن التولي هو ترك العمل ، وضد ذلك قرن العمل الصالح مع الايمان لانه يستلزمه ، قال شيخ الاسلام ( اسم الايمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله يتناول فعل الواجبات ، وترك المحرمات ) 7/42 من الفتاوى .
وقال : كفر أحمد ووكيع وغيرهما ، من قال بقول جهم في الايمان ، وهو أن الايمان معرفة القلب وتصديقه ، وقال ( اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر وأما الصلاة والزكاة والصوم والحج فاختلفوا في تكفير تاركها ، ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لايكفر بالذنب ، فالمقصود المعاصي كالزنا وشرب الخمر ، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور ) نفس المصدر ص 302
وقال ( فالايمان في القلب لايكون إيمانا بمجرد تصديق ليس له عمل قلب ، وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك ) نفس المصدر 529.
يعني أنه لابد من العمل مع الايمان ، وقد دل على هذا القرآن في مواضع كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( والعصر ، إن الانسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .
فأقسم بأن جنس الانسان في خسران مستمر ، إلا من آمن وعمل صالحا ، وحصل منه التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وقال جل وعلا ( لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون ) فبين أن من لم يؤمن بالله ويعمل صالحا فهو في أسفل سافلين وأسفل سافلين هو جهنم .
والادلة على ذلك من كتاب الله جل وعلا كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لايستكبرون ) ، فنفى الايمان عن غير هؤلاء فمن كان إذا ذكر القرآن ، لايفعل مافرض الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين .
واسم الايمان يطلق تارة على مافي القلب من الاقوال القلبية والاعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك ، وتكون الاقوال الظاهرة والاعمال لوازمه ومقتضاه ودلائله ، وتارة يطلق على مافي البدن جعلا لموجب الايمان ومقتضاه داخلا في مسماه ، وبهذا يتبين أن الاعمال الظاهرة تسمى اسلاما ، وأنها تدخل في مسمى الايمان ، كما ذكر في الفتاوى 7/551
وبهذا يتبين أنه إذا وجد في القلب إيمان ، امتنع أن لايتكلم بالشهادتين او لايعمل مع القدرة على ذلك ، فعدم العمل دليل على عدم الايمان وانتفائه ، ويمتنع أن يحب الانسان غيره حبا جازما ، ثم لايحصل منه حركة ظاهره لوصله ، فمن الخطأ أن يظن أن الايمان إذا وجد في القلب يتخلف عنه العمل .
قال شيخ الاسلام رحمه الله ( منشأ الغلط في هذا الموضع من وجوه ، أحدهما : ظنهم أن العمل والتصديق مستلزم لجميع درجات الايمان ، والثاني : ظنهم أن مافي القلوب لايتفاضل الناس فيه ، والثالث : ظنهم أن مافي القلب من الايمان المقبول ، يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه ، والرابع : ظنهم أن ليس في القلب إلا التصديق وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح ، والصواب أن القلب له عمل مع التصديق ، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر ، وكلامهما مستلزم للباطن ) الفتاوى 7/554
ونرجو أن ييسر الله تعالى الكتابة في الموضوع بتوسع وبيان مقنع والله الموفق. انتهى الجواب .
وهذا جواب العلامة سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله على نفس السؤال السابق:(/16)
قال حفظه الله بعد التحية والسلام ما مختصره: (وبعد فإن التلفظ بالشهادتين يحصل به الدخول في الإسلام من الكفار وذلك لأنهم ينكرونها ثم لا شك بعد ذلك أنهم مطالبون بأركان الإسلام وترك المحرمات ودليل ذلك قوله ((عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) ومن المعلوم أن العبرة بالظاهرة فإن القلب خفي فالأخذ إنما هو بما ظهر لنا فالغيب لا يعلمه إلا الله والوحي قد انقطع وإنما نأخذ الإنسان بالظاهر فمن ترك العبادات وأصر على الترك دل ذلك على ضعف يقينه فيستتاب فإن تاب وإلا قتل..فعلى هذا القول أن هؤلاء كاذبون في زعمهم أنهم مسلمون فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فمن لم يعمل بتعاليم الإسلام فهو كاذب غير مؤمن والله أعلم) انتهى الجواب.
وفي الختام ننبه إلى أن ما يذكره العلماء من أنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً إذا ترك جميع عمل الجوارح يقصد به أن من يدعي أنه مؤمن إذا تولى عن جميع عمل الجوارح ، يكون كاذباً في دعواه ، ويكون كافراً في حقيقة الامر ، ولا ينفعه النطق بالشهادتين، لأنه يمتنع أن يكون مؤمناً بقلبه الإيمان المتضمن لعمل القلب ثم يتولى عن عمل الجوارح تولياً تاماً، وإن كان قد يكون مصدقاً بقلبه ، فإن التصديق المجرد ليس هو الإيمان الشرعي الذي هو ضد الكفر، بل لا بد أن يكون مع التصديق عمل القلب، وحينئذ فالإيمان الشرعي المقبول المتضمن لعمل القلب لا يتخلف عنه عمل الجوارح بالكلية، وليس المقصود أن المسألة برأسها ممتنعة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله أجمعين.(/17)
بيان في المقاطعة بالأدلة مهم
عبد العزيز بن فيصل الرّاجحي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وخيرة الخلق أجمعين ، نبينا وسيد ولد آدم ، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإن أعظمَ نعمة أنعمها الله على العالمين ، بعثتُه المرسلين لبيان حَقّ رَبّ العباد أجمعين ، (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالَحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الَحقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ) ، (رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ لِئَلَّا يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
فكان أعظم الناس حَظًّا ، وأتمَّهم سعادةً مَنْ آمن بهم ونصرهم وعزَّرهم ، وكان أشقى الناس وأتعسهم مَنْ كفر بهم ، وقاتلهم ، وأستهزأ بهم وبما جاءوا به . قال سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوْا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). وقال : (وَمَا نُرْسِلُ الُمرْسَلِيْنَ إِلَّا مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ . وَالَّذِيْنَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ) .
وأوجب سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله الكرام حقوقا عظيمة على أُمَمِهم ، مِنَ الاتِّباع والسمع والطاعة والمحبة فوق محبة النفس والمال والوالد والولد ، والنصرة والتعزير والتوقير والتصديق والتعظيم .
ثم جعل أعظمهم حَقًّا ، وأتمَّهم قَدْرًا ، سيد الثقلين ، وخيرة الأولين والآخرين ، خليله وكليمه ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله أتم صلاة وأتم سلام .
وأخبر عباده المؤمنين بأن نبيه محمدا له عنده المقام المحمود المُعظَّم ، وأنه خليله المُكرَّم ، وصفيه الُمكلَّم ، أُعرج به إليه ، وسمع من ربه كلامه وما أُوحيَ عليه ، وأنه شفيع العباد يوم المعاد ، وأنه شفيعهم يومئذ عند امتناع الأنبياء والرسل عن الشفاعات ، واعتذارهم ببعض الأمور والزَّلَّات ، فيقوم بين يدي ربه داعيا متضرعا ذليلا ، فَيُكْرِمُ رَبُّهُ مقامَهُ عنده ، ويقول له أمام أنبيائه وسائر خلقه « ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ » .
وأخبر سبحانه عبادَهُ مُمْتَنًّا عليهم ببعثتِه إيَّاه لهم : أنه على خلق عظيم ، وأنه رؤوف بهم ورحيم ، يُعْنِتُهُ ما يُعْنِتُهُمْ ، ويَسُرُّهُ ما يَسُرُّهُمْ ، فما دعى لهم إلا بالهداية والرشاد ، وإنْ تمادوا عليه بالتكذيب والعناد .
وأخبر أنه أولى من المؤمنين بأنفسهم ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُوقى بالأنفس والأموال ، وأَنْ يُقَدَّمَ على كُلِّ حال ، كما قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الَمدِيْنَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوْا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوْا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) .
فَعُلِمَ أَنَّ رغبة الإنسان بنفسه أَنْ يصيبَهُ ما يصيب رسولَ الله من المشقة معه حرام .
ومِنْ حَقِّهِ : أن يكون أحبَّ إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق ، كما دَلَّ على ذلك قوله تعالى : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وقال :«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ» أخرجاه في«الصحيحين» .
فصلى الله عليه صلاة دائمة ما دامت السموات والأرض ، وسَلَّمَ عليه سلامًا ما تعبَّد اللهَ المؤمنون بنفل أو فَرْض .
فَصْلٌ
ثم إني قد اطلعتُ قبل أيام على ما نشرته صحيفة « يولاند بوستن » ( Jyllands-Posten ) الدنماركية ، يوم الجمعة ( 26/8/1426هـ -30/9/2005م ) من طعن في النبي ، واستهزاء به وإلحاد ، بنشرهم اثني عشر رسما كاريكوتيرا ساخرا بالنبي ، واستمرت في نشره أسبوعا بعد ذلك ! ثم أعادت عدة صحف أوروبية نشر هذه الرسوم هذا الشهر والذي قبله مرَّة أخرى .
وفي هذا محادَّةٌ لله ورسولِه ، ومحاربةٌ وإيذاءٌ ، وقد قال جَلَّ وعلا في المؤذين له ولرسله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) .(/1)
وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) .
وقال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) .
وقد أوجب الله جَلَّ وعلا على المسلمين كافَّة حقوقا وواجبات في شأن الُمعادين له ولرسله صلى الله عليهم وسلم ، من إيذانهم بالحرب والعداوة والبغضاء .
وجعل حكم سَابِّ رسوله القتل ، سواء كان مسلما أو كافرا ، تاب من سَبِّهِ أم استمر في غَيِّهِ ، بل حتى لو كان السّاب كافرا فأسلم لم يعصم ذلك دمَهُ ، وإنْ قُبِلَ منه إسلامُه ، لذلك يُقتل دون استتابة .
وقد قَرَّرَ هذا كُلَّهُ شيخُ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه أتمَّ تقرير في كتابه العظيم الكبير «الصارم المسلول ، على شاتم الرسول » ، واستدلَّ عليه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع ، وساق فيها ما لا يستطاع دفعه .
قال شيخ الإسلام في أوله (ص3) : (المسألة الأولى : أن مَنْ سَبَّ النبي من مسلم أو كافر : فإنه يجب قتله . هذا مذهب عليه عامة أهل العلم ، قال ابن المنذر :«أجمع عوام أهل العلم على أن حَدَّ مَنْ سَبَّ النبي القتل» ) .
وقد حكى الإجماع غير واحد من الأئمة ، منهم أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي ، وإسحاق بن راهوية ، والخطابي ، ومحمد بن سحنون .
وقال (ص253) : (المسألة الثانية : أنه يتعين قتلُه ، ولايجوز استرقاقُه ، ولا المَنُّ عليه ولا فداؤه) .
وقال (ص300) : (المسألة الثالثة : أنه يُقتل ولا يُستتاب ، سواء كان مسلما أو كافرا . قال الإمام أحمد في رواية حنبل :«كل مَنْ شتم النبي وتنقَّصه مسلما كان أو كافرا : فعليه القتل ، وأرى أَنْ يُقتل ولا يُستتاب » ) .
ثم قال : ( وقال عبد الله : سألت أبي عَمَّنْ شتم النبي يستتاب ؟ قال :«قد وجب عليه القتل ولا يستتاب ، خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ولم يستتبه » ) .
ثم قال (ص301) : (وقال القاضي في«خلافه» وابنُه أبو الحسين : «إذا سَبَّ النبي قُتل ، ولم تقبل توبتُه ، مسلما كان أو كافرا ، ويجعله ناقضا للعهد ، نَصَّ عليه أحمد») .
ثم قال (ص303) : ( وقد صرح بذلك جماعة غيرهم ، فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في«الإرشاد» وهو ممن يُعتمد نقلُه :«ومَنْ سَبَّ رسول الله قُتل ، ولم يُستتب ، ومَنْ سَبَّهُ من أهل الذمة قُتل ، وإِنْ أَسْلَمَ» .
وقال أبو علي بن البَنَّاء في«الخصال والأقسام» له : «ومَنْ سَبَّ النبي وَجَبَ قتلُه ، ولا تُقبل توبتُه ، وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يُقتل أيضا ، ولا يستتاب » قال : « ومذهب مالك كمذهبنا » ) .
فَصْلٌ
ولما كان هذا متعذرا اليوم على المسلمين لضعفهم وتفرقهم أَنْ ينالوا من أعدائه والمستهزئين برسله ، ولتسلط أعدائهم عليهم بذنوبهم : كان الواجب على كُلِّ مسلم في هذا بقدره وبحسبه ، إعذارا إلى الله وبراءةً منهم إليه . قال سبحانه (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقال : (فَاتَّقُوْا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وقال النبي : « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » .
لذا فالواجب اللازم على المسلمين اليوم : إنكارُ هذا المنكر العظيم ، كُلٌّ بما خَوَّلَهُ الله وولَّاهُ ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين قَطْعُ صِلَتِهم بهذه الدولة الُمحادَّة . والواجب على عموم المسلمين تجارا وغيرهم مقاطعة سلعهم وبضائعهم . ليذوقوا وبال أمرهم ، وليحصل بين شركاتهم وتجارهم وعموم شعبهم وبين حكومتهم الراضية بما نُشِرَ شقاقٌ ونزاعٌ بسبب جنايتهم عليهم ، قال تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) .
وليس لهذه المقاطعة غاية تنتهي إليها ، إلا بمحاسبة تلك الصحيفة ومسؤوليها ، ورسَّامي الرسوم وكُلّ ذي صلة بها ، ومعاقبتهم عقوبة حاسمة رادعة .(/2)
أَمَّا ما ينادي به بَعْضُ الُجهَّال ، من أن تكون غايةُ المقاطعة اعتذارَ الحكومة الدنماركية أو الصحيفة : فليس من الحق ولا العقل في شيء ! وحكمٌ لم يشرعه الله ولا رسوله . وهذه الجناية حَقٌّ عظيم لله عزَّ وجلَّ ، ليس لأحد أَنْ يتنازل عنه ، أو يُعلن المسامحة .
قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (ص226) : (إن النبي كان له أَنْ يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته ، وليس للأمة أَنْ يعفوا عن ذلك) .
ثم قال (ص293) : ( ومما يوضح ذلك : أنَّ سَبَّ النبي تعلَّق به عدة حقوق : حَقّ الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله ، وعادى أفضل أوليائه ، وبارزه بالمحاربة ، ومن حيث طعن في كتابه ودينه ، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة .
ومن حيث طعن في ألوهيته ، فإنَّ الطعن في الرسول طَعْنٌ في الُمرْسِل ، وتكذيبَه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى ، وإنكارٌ لكلامه وأمرِه وخبرِه وكثيرٍ من صفاته .
وتعلَّق به حَقُّ جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأُمم ، فإنَّ جميع المؤمنين مؤمنون به ، خصوصا أمته ، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به ، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته ، فالسَّبُّ له أعظم عندهم من سَبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسَبِّ جميعهم ، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين . وتعلَّق به حَقُّ رسول الله من حيث خصوص نفسه) اهـ .
فلا حَقَّ لأحدٍ قط أَنْ يتنازل عن حَقٍّ ليس له ، ومَنْ تنازل عن شيء من ذلك ، فإنما تنازل عن حَقِّ غيره ، فلا يَصِحُّ تنازلُه ولا يجوز .
كما أَنَّ الواجب على المسلمين أيضا : مُناصرةُ كُلِّ تاجر كريم ، غضب لمحادة أولئك العلوج لله ورسوله - فقطع وارداتهم - بالشِّراءِ منه ، تأييدا له ومناصرة ، وتشجيعا لغيره أَنْ يسلك مسلكَهُ ، وينهجَ نهجه .
فَصْلٌ
وفي هذه المقاطعة أربعة أمور عظيمة مُتحقِّقة ، إِنْ تخلَّفَ أحدُها لم تتخلَّفْ بقيتُها :
1 - أحدها : الإعذار إلى الله عزَّ وجلَّ ، وبَذْلُ ما بالوسع والطاقة في نُصرة شرعه ودينه ، فَإِنَّ هذا واجبٌ لازمٌ ، وليس في أيدينا إلا هذا .
2 - والثّاني : احتساب المُقاطِعِ الأجرَ من الله جَلَّ وعلا في ذلك ، وتعبُّده بهجر مُحادِّيه وأعدائه ، والمجاهرين بذلك والمعلنين .
3 - والثّالث : التنكيل بأعداء الله ، وإذاقتهم بَعْضَ وبالِ أمرهم ، بحيث يكون لهم عقوبة مؤلمة ، ويكون لغيرهم رادعا ، حاميا لحياض المسلمين ودينهم وعرض نبيهم .
قال شيخ الإسلام (ص385) : (وأيضا : فإن السَّابَّ ونحوه ، انتهك حرمة الرسول ، ونقَّص قدرَه ، وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين ، وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام ، وطلب إذلال النفوس المؤمنة ، وإزالة عِزِّ الدين ، وإسفال كلمة الله ، وهذا من أبلغ السعي فسادا) .
4 - والرّابع : إظهاره عِزَّةَ المؤمنين وقوَّتهم ، ونَيْلَهُمْ من أعدائهم ومُتنقّصي رسولهم الكريم ، وإِنْ ضعفتْ حيلتهم عن مقاتلته .
فهذه أربع مصالح عظيمة من مقاطعة أولئك المُحادِّين .
فمَنْ زَعَمَ مِنْ أهل النفاق أَنَّ المقاطعة غير نافعة ، أو أَنَّ نفعَها قليل : أُجِيْبَ بهذا .
وقد ظهر - بحمد الله وفضله - في أيام قلائل ، عظيمُ أثر ما حصل من مقاطعتِهم ، وتألمهم الشَّديد من ذلك ، وانشقاق صفوفهم ، وخوف حكومتهم من العواقب ، وخسارتهم الملايين الكثيرة حتى الآن .
لهذا تكالب أعداء الله - عليهم لعائن الله - بنشر تلك الصور في صحف أوروبية كثيرة ، محاولة منهم فَكَّ هذه المقاطعة ، وإضعاف عزم المسلمين وتشتيت أمرهم ، بإلزامهم أنفسهم بمقاطعة الدول الأوروبية مجتمعة أو تركها كلها ! حِيْلَةٌ خبيثةٌ كان قد سَنَّهَا لأسلافهم إبليسُ في ليلة مُهاجَر النبي ، حين أشار على كبار كفار قريش ، اشتراك رجل من كل قبيلة في قتل النبي ، ليضيعَ دَمُهُ في القبائل كُلِّهَا فلا يُطْلَبُ !
لذا فإني أرى أَنْ يُعاقبَ هؤلاء بنقيض قصدهم ، فتستمرّ مقاطعة الدنماركيين وهذا واجب لا محالة ، فإنهم هم الذي سَنُّوا هذا الأمر . أما بقيَّة الدول الأوروبية : فقد عَلِمَ المسلمون ما تُكِنُّهُ نفوسُهم الخبيثة لنبيِّهم ، فيحرص كُلّ مسلم ألا يشتري من بضائعهم إلا ما تدعوه الحاجةُ إليه إِنْ لم يجدْ بديلا من صناعة غيرهم .
كما أغاظتْ هذه المقاطعة كثيرا من المنافقين ، فحاولوا تارة التبرير ، وتارة التهوين ، وتارة بزعم الإصلاح وإرادة الخير !
1 - فمن زاعم أَنَّ المقاطعة ستقطع الحوار معهم !
وهذه كذبةٌ بلقاء ، وحيلةٌ بلهاء ، فإنَّ الله عز وجل لم يَأْذَنْ بالحوار مع الكفار إلا ببنائه على أصلَيْنِ اثنَيْنِ ، هما :
( أ ) دعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإيمان بنبيه محمد .
(ب) وبيان بُطْلان دينهم وفساده ، وأَنْ اللهَ لا يقبله منهم ، ولا يقبل غيرَ الإسلام .(/3)
لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .
وكانتْ حوارات النبي على هذا ، لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ، ولو أقاموهما لآمنوا بالنبي وأسلموا ، كما قال عيسى عليه السلام لهم : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
وقال : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) .
فهل هذه الحواراتُ المزعومةُ ، شرعيةٌ مبنيَّةٌ على هذَيْنِ الأصلَيْنِ ، أو أنَّها غطاء لهدم الدين ، وموالاة الكفار والمشركين ؟!
2 - ومن منافق زاعم : أَنَّ سبب جناية تلك الصحيفة هو تقصير المسلمين أنفسهم في تعريفهم بالإسلام ! فمرادُه تبرئة هؤلاء المحادّين من جنايتهم ، أو تبريرها لهم ، وإناطة جُرْمِها بالمسلمين !
ولم يعلم هذا المنافق أَنَّ النبيَّ - مع شهادة الله التامة له بإبلاغ الرسالة وإتمام الدين - لم يسلم من المستهزئين والساخرين ، قال سبحانه لنبيِّه محمد : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الُمشْرِكِيْنَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الُمسْتَهْزِئِيْنَ) .
بل كُلُّ أنبياء الله كذلك ، قال تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، وقال : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) .
وقال : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) .
وقال لنبيِّه : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُوْنَ) .
3 - ومِنْ منافق زاعم : أنَّه يعارض المقاطعةَ إِنْ كان بها إضرار بمصالح المسلمين !
ولا أدري ما هذا الضرر الفائق لمحادَّتِهم لله واستهزائهم برسوله ، وغير ذلك ممَّا قدَّمنا . أم أن ضرره المترقَّب ما يخشاه من فضل مطعم ومشرب ! فلا أشبع الله إذن بطنَه .
ولو قُدِّرَ حصول ضرر - وهو غير مسلم -: فالواجب احتساب الأجر والصبر ، فإنَّ الجنة لم تُحَفَّ بالشهوات ، وإنما حُفَّتْ بالمكاره ، وإنما جهنم هي المحفوفة برغبات النفوس وأهوائها .
ومع هذا : لم يحصل بحمد الله ضرر ، بل حصل مِنْ نصرة الدِّين وخُذْلان الكفار والمنافقين ما تَقَرُّ به أعين المؤمنين . ولم ينفرد علوج الدنمارك بحمد الله ببضائعهم ، بل قد عَمَّتِ الخيراتُ بلادَنا وبلاد المسلمين من كل دولة وكل بلد ، غير ما في بلاد المسلمين من خيرات تُغْنِيْهم عمَّا في بلاد أولئك المجرمين .
وإنما هذا المتكلم قد أعمى الله بصرَهُ وبصيرتَهُ ، ومُلِئَ قلبُه نفاقا وحَنَقًا ، فما يَسُرُّ المؤمنين لا يَسُرُّهُ وما يُؤْذِي الكفَّارَ لا يُؤْذيه ، وإنما سروره وضرُّه فيما يَسُرُّ أعداء الدين وفيما يَضُرُّهم . فَلْيَمُتْ بغيظه فليس في المؤمنين المُمْتلئة قلوبُهم بحبِّ الله وحُبِّ رسوله ، والذّبّ عن حماهما وشريعته مَنْ يُصْغِي إليه أذنا . غير أَنَّهُ أراد إلباس نفاقه لبوس الخشية على المسلمين ومصالحهم ! فاستتر بثوب خَلِقٍ بَالٍ ، لم يسترْ عورتَهُ ! فقد نَبَّأَنَا اللهُ من أخبارهم ما أظهرَ لنا جَهْرَةً عوارَهم !
فَصْلٌ
وبقي هنا أُمورٌ ، مُبَشِّرَاتٌ وتنبيهاتٌ :
إحداها : قال شيخ الإسلام في«الصارم المسلول» (ص117) : (وإِنَّ الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّهُ ، ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب ، إذ لم يُمْكِنِ النَّاسُ أَنْ يُقيموا عليه الحدَّ .(/4)
ونظير هذا : ما حدَّثناه أعدادٌ من المسلمين العدول ، أهل الفقه والخبرة عمّا جرَّبوه مَرَّاتٍ مُتعدِّدةٍ في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية ، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا ، قالوا : « كنا نحن نحصر الحصن ، أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر ، وهو ممتنعٌ علينا ، حتى نكادَ نيأسُ منه ، إِذْ تعرَّضَ أهلُه لسَبِّ رسول الله ، والوقيعة في عرضه ، فَعُجِّلْنَا فَتْحَهُ ، وتَيَسَّرَ ولم يَكَدْ يتأخرْ إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ، ثم يُفْتَحُ المكانُ عَنْوَةً ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة» .
قالوا : «حتى إِنْ كُنَّا لنتباشرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه» .
وهكذا حدَّثني بَعْضُ أصحابنا الثقات : أَنَّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك .
ومِنْ سُنَّةِ الله : أَنْ يُعَذِّبَ أعداءَه تارةً بعذاب من عنده ، وتارةً بأيدي عباده المؤمنين) .
قال (ص164) : ( ومِنْ سُنَّةِ الله : أَنَّ مَنْ لم يُمْكِنِ المؤمنون أَنْ يُعذِّبوه من الذين يؤذون الله ورسوله ، فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ، ويكفيه إيّاه . كما قدَّمنا بَعْضَ ذلك في قصة الكاتب المفتري ، وكما قال سبحانه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الُمشْرِكِيْنَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الُمسْتَهْزِئِيْنَ ) .
والقِصَّةُ في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة ، قد ذكرها أهلُ السِّيَرِ والتفسير) اهـ .
الثّانية : أَنَّ مع ما في طعن هؤلاء المحادّين من شَرٍّ وإغاظة للمؤمنين ، إلا أَنَّ فيه خيرا عظيما ، فقد أظهر هذا أمورًا خافيةً على كثير من الناس لعدم تدبّرِهم كتابَ رَبِّهم جلَّ وعلا .
ومِنْ تلك الأمور الحسنة :
1 - أنهم عرفوا حقيقة دعاوى كثير من الأدعياء لمحبَّة الله ورسولِه ، الواقفين مواقف الرّيبة من هذه الجريمة ، إمّا بالسّكوت ، أو التّبرير ، أو التّهوين .
2 - وعرفوا عداءَ أولئك الصليبين للإسلام وأهله ورسوله ، بعد أَنْ عَمِيَتْ أعينُ كثيرٍ من الناس عن ذلك ، بتزيين أهل الأهواء والنفاق لأولئك . وإلا فإنَّ الله قد أخبر في كتابه مُحذِّرًا عبادَه المؤمنين منهم فقال : ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) .
وقال : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .
وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) .
3 - وعرفوا قوَّتهم ، وكيف استطاعوا النيلَ من أعدائهم وإذلالهم ، وتشتيتَ كلمتهم وتفريق أمرهم .
الثّالثة : أَنَّ كُلَّ مُتكلِّمٍ بلسان الدّين أو أهله ، بمسامحة أولئك الجناة المحادّين ، أو مسامحة دولتِهم إِن اعتذرتْ أو اعتذرتْ صحيفتُها ، ونشرتْ ذلك في كبرى الصحف أو في غيرها من وسائل الإعلام : فهو إِمَّا منافق ، وإمَّا جاهلٌ مُركَّب .
فالأول : معروفٌ سِرُّ سعيِه بالمسامحة !
والثاني : تنازلَ وسامحَ في شيء ليس من حَقِّهِ ، وليس الأمر فيه إليه ، وقد قدَّمنا ذلك ، فالمقاطعة ماضية لا غاية لها ولا نهاية .
الرَّابعة : قد سَمَّى بَعْضُ أهل البدع والأهواء ، غَضَبَ المؤمنين لنبيِّهم ، واغتياظَهم ممّا نُشِرَ في حَقِّهِ « تقاليد تفرض على أولئك التقدّم باعتذار صريح ينشر في كبريات الصحف العربية » !
وهذا باطلٌ من وجهَيْنِ :
أحدهما : أَنَّ هذا شَرْعٌ من عند الله ، دَلَّ عليه الكتاب والسّنّة والإجماع ، ومَنْ لم تُحْدِثْ عنده تلك الأفعالُ غضبا ولا غيظا فليس بمؤمن . وليستْ تقاليدَ وأعرافًا إِنْ فُعِلَتْ أو تُرِكَتْ فالأمرُ فيها سيان !
الآخر : أَنَّ الاعتذار من الحكومة أو الصحيفة ليس مُسْقِطًا لحقِّ الله جَلَّ وعلا ، ولا حَقَّ نبيِّه ، ولا حَقَّ المسلمين أجمعين . وليس حُكما من الله تبارك وتعالى في شاتمي رسوله والنائلين من جنابه الشَّريف . وإنما هو شَرْعٌ شَرَعَهُ ذلك الفاسدُ ، مُضاهيًا به شَرْعَ الله وشَرْعَ رسولِه ، مُنزلاً حُكْمَهُ هو مكانَ حُكْمِهما !
ومُحاولةٌ منه فاشلةٌ : أَنْ يُظْهِرَ لأعداء الله مَخْرجًا مما وضعوا أنفسَهم فيه ، وأَنْ يُظْهِرَ نفسَهُ لهم أَنَّهُ الدَّالُّ إليه والدَّليل عليه !(/5)
الخامسة : أَنَّ الأمَّة مجتمعةً فيها قُوّةٌ وخيرٌ ، وأنَّها إذا اجتمعتْ على الحقِّ عجز فيها عدوُّها أَنْ ينال منها أو يخيفَها ، فإظهار هؤلاء الكفار في صحفهم الأوروبية الطعنَ والاستهزاءَ بالنبي عَلَنًا ، جَعَلَ المسلمين مُتّحدين في عدائهم ، مُستشعرين خطرَهم وكيدَهم ، وجعل أعداءَهم مُتذبذبين خائفين مِنْ عواقب ذلك وتبعاتِه عليهم . فكُلُّ ما كان عداء أعداء الله للمسلمين ظاهرا : كان تعاونهم على مدافعتِه عظيما .
وكُلُّ ما كان عداؤهم للمسلمين مُستترا تحت أغطيةٍ يصنعونها تلبيسا ، أو يصنعُها لهم المنافقون من علمانيين وليبراليين وغيرهم : كان ذلك مُشَتِّتًا لكلمة المسلمين مُفرِّقًا لاتّحادِهم وتعاونهم لمدافعة عدوِّهم ، حَتَّى يُؤْخَذُوا دَوْلَةً دَوْلَةً !
السَّادسة : أَنَّ إطلاق الغَرْبِ مُسمَّى «الإرهاب» لا يُريدون به المعنى الذي نريده نحن عند إطلاقنا له في المملكة ، وإنَّما يُريدون به الإسلامَ ونبيَّه ، يَظْهَرُ ذلك من رسومِهم للنبي ، حين صوَّروه بِصُوَرٍ تَدُلُّ على مُرادِهم !
لذا فالواجب في هذا أَحَدُ أَمْرَيْنِ :
1 - إِمَّا الاقتصارُ على الألفاظ الشرعية ، الدّالة على المعنى المُراد ، كالحرابة ، والمحادّة ، ونحوهما ، وتَرْكُ لفظ «الإرهاب» . لمعرفة مدلول تلك الألفاظ ، وجهالة مدلول الأخير ، وتنازع النّاس فيه دولاً وأفرادًا .
2 - وإِمَّا حَدُّهُ عالميًا بِحَدٍّ مُنْضَبِطٍ ، وتعريفه بتعريف بَيِّنٍ ، ثم إطلاقُه عليه ، إِنْ كان ذلك الحدُّ مُسلَّمًا صحيحا .
السَّابعة : أَنَّ أعداء الله المحادّين له لم يجدوا عُذْرًا يعتذرون به على قبيح فَعْلَتِهم وعظيم جُرْمِهم ، إلا سماح قوانينهم بحرّيّة التعبير وحرّيّة الصحافة ! ومع أَنَّ هذه حُجّةٌ مدحوضةٌ ، فليس كُلُّ مَنْ أراد شيئا في الغَرْبِ قاله ! كما أنهم لا يسمحون لغيرهم بقول ما يريد إذا كان مخالفا لهم .
فَمَعَ هَذَا كُلِّهِ : فيجب على المسلمين أَنْ يتنبَّهوا إلى ما يُرَادُ بهم مِنْ سَعْيٍ إلى فتح حُرّيّة التعبير المُطلقة عندهم وفي وسائل إعلامِهم ، التي يُراد منها تمرير الكفر والمحادّة لله ولرسوله ، والإذن به ، ولا يظنون أنهم بها يستطيعون قول ما يريدون مما يخافون قولَهُ ويخشون عاقبتَه . وإنَّما يُسلِّطون أعداءَهم عليهم ، وهم لا يستفيدون مِنْ ذلك شيئا !
وَفَّقَ اللهُ المسلمين لما يُحِبُّهُ ويرضاه ، ونَصَرَ دينَهُ ، وأعلا كلمتَهُ ، وأعزَّ جُنْدَهُ ، وأهلكَ أعداءَه ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، ولكنَّ المنافقين لا يعلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
كتبه
عبد العزيز بن فيصل الرّاجحي
الرياض
الجمعة 4 /1/1427هـ(/6)
بيان في لباس المرأة عند محارمها ونسائها
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد كانت نساء المؤمنين في صدر الإسلام قد بلغن الغاية في الطهر والعفة، والحياء والحشمة ببركة الإيمان بالله ورسوله واتباع القرآن والسنة، وكانت النساء في ذلك العهد يلبسن الثياب الساترة، ولا يعرف عنهن التكشف والتبذل عند اجتماعهن ببعضهن أو بمحارمهن، وعلى هذه السنة القويمة جرى عمل نساء الأمة - ولله الحمد - قرنًا بعد قرن إلى عهد قريب، فدخل في كثير من النساء ما دخل من فساد في اللباس والأخلاق لأسباب عديدة ليس هذا موضع بسطها.
ونظرًا لكثرة الاستفاءات الواردة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حدود نظر المرأة إلى المرأة وما يلزمها من اللباس، فإن اللجنة تبين لعموم نساء المسلمين: أنه يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء الذي جعله النبي من الإيمان وشعبةً من شعبه، ومن الحياء المأمور به شرعًا وعرفًا تستر المرأة واحتشامها وتخلقها بالأخلاق التي تبعدها عن مواقع الفتنة ومواضع الريبة.
وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت وحال المهنة كما قال تعالى: ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن او أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخوانهن أو نسائهن [النور:31] الآية، وإذا كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلت عليه السنة، فإنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول ونساء الصحابة ومن ابتعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا، وما جرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية الكريمة هو: ما يظهر من المرأة غالبًا في البيت وحال المهنة ويشق عليها التحرز منه ؛ كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في التكشف فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة هو أيضًا طريق لفتنة المرأة والافتتان بها من بنات جنسها، وهذا موجود بينهن، وفيه أيضًا قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبهًا بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي أنه قال: { من تشبه بقوم فهو منهم } [أخرجه الإمام أحمد وأبو داود].
وفي " صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو أن النبي رأى عليه ثوبين معصفرين فقال: { إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها } وفي صحيح مسلم أيضًا أن النبي قال: { صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا }، ومعنى " كاسيات عاريات ": هو أن تكتسي المرأة ما لا يسرتها، فهي كاسية، وهي في الحقيقة عارية، مثل من تلبس الثوب الرقيق الذي يشف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع جسمها، أو الثوب القصير الذي لا يستر بعض أعضائها.
فالمتعين على نساء المسلمين التزام الهَدْي الذي كان عليه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضى الله عنهن ومن اتبعهن بإحسان من هذه الأمة، والحرص على التستر والاحتشام فذلك أبعد عن أسباب الفتنة، وصانة للنفس عما تثيره دواعي الهوى الموقع في الفواحش.
كما يجب على نساء المسلمين الحذر من الوقوع فيما حرمه الله ورسوله من الألبسة التي فيها تشبه بالكافرات والعاهرات طاعة لله ورسوله ورجاء لثواب الله وخوفًا من عقابه.
كما يجب على كل مسلم أن يتقي الله فيمن تحت ولايته من النساء، فلا يتركهن يلبسن ما حرمه الله ورسوله من الألبسة الخالعة والكاشفة والفاتنة، وليعلم أنه راعٍ ومسؤول عن رعيته يوم القيامة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يهدينا جميعًا سواء السبيل، إنه سميع قريب مجيب. وصلى الله وسلم عن نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
رئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو/ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
عضو/ بكر بن عبد الله أبو زيد
عضو/ صالح بن فوزان الفوزان(/1)
بيان مجمع الفقه الإسلامي حول أفكار الترابي مجمع الفقه الإسلامي*
الرد على من أباح زواج الكافر من المسلمة وساوى بين الرجل والمرأة في الشهادة وأنكر نزول المسيح عليه السلام وجوز إمامة المرأة للرجال مطلقاً وأنكر لزوم الحجاب للمرأة
الحمد لله وحده، الصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين ؛أما بعد فقد وردت إلينا في مجمع الفقه الإسلامي أسئلة من عدد من الناس تتعلق بفتاوى وآراء صدرت عن الدكتور حسن الترابي فيما يتعلق بالقضايا التالية:
أولاً: قوله بجواز زواج غير المسلم (نصرانياً كان أو يهودياً) بالمرأة المسلمة.
ثانياً: قوله بمساواة شهادة المرأة بشهادة الرجل مطلقاً في كل شئ.
ثالثاً: إنكاره نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام آخر الزمان.وجواباً على ذلك نقول:
أولاً:
مما خرج به قائل هذه الأقوال على إجماع الأمة قوله (إن من حق المرأة أن تتزوج كتابياً مسيحياً كان أو يهودياً)!!، ومثل هذا القول حقيق بان يُذكَّر صاحبه بقول ربنا سبحانه (إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون بآيات اللّه وأولئك هم الكاذبون) وهو قول لم يسبقه إليه أحد من الأولين أو الآخرين، مخالف لآيات القرآن الناطقة بحرمة ذلك النكاح وفساده، كقوله تعالى (ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا) وقوله سبحانه (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) ومخالف لإجماع المسلمين الذي نقله غير واحد من أهل العلم، ففي جامع البيان قال الإمام الطبري: والقول في تأويل قوله تعالي (ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) يعني تعالى ذكره بذلك: أن اللّه قد حرّم على المؤمنات أن ينكحن مشركاً كائناً من كان المشرك من أي أصناف الشرك كان، فلا تُنكحوهن أيها المؤمنون منهم، فان ذلك حرام عليكم ولأن تُزَوّجُوهنّ من عبد مؤمن مصدق باللّه وبرسوله وبما جاء به من عند اللّه خير لكم من أن تُزَوّجُوهنّ من حرِّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.. وعن قتادة والزهري في قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركين) قال: لا يحل لك أن تنكح يهودياً أو نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك) وقال القرطبي رحمه اللّه تعالى في كتابه الجامع لأحكام القرآن: (وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام).
ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه اللّه تعالى: (وإذا كان المنتقد لايرضيه من الأدلة على حظر تزويج المسلمة للكتابي السنة المتبعة وإجماع الأمة والقياس الجلي المأخوذ من العلة المنصوصة في القرآن، وإن شئت قلت: وفحوى القرآن وبعض الظواهر العامة، بل يطلب عليه نصاً أصولياً لا يحتمل التأويل، فهذا التزام لم يلتزمه أحد من السلف ولا من الخلف في شئ من أحكام الدين العملية، فهذه هيئة الصلاة التي هي عماد الدين، لم ترد في نصوص القرآن القطعية ولا غير القطعية، فأين النص فيه على أن الصلوات خمس: واحدة منها ركعتان، وواحدة ثلاث ركعات، والبواقي رباعيات؟ وأين النص فيه على توحيد الركوع وتثنية السجود؟ وإنما ثبتت هذه الأركان بالسنة والإجماع).
نقول: إن العلماء مجمعون على تحريم تزويج المسلمة من الكتابي، بل إنهم أجمعوا على أن الكافر ـ كتابياً أو غيره ـ لا يكون ولياً في نكاح مسلمة، ففي المغني لابن قدامة الحنبلي رحمه اللّه قال: (أما الكافر فلا ولاية له على مسلمة بحال، بإجماع أهل العلم، منهم: مالك، والشافعي وأبوعبيد، وأصحاب الرأي وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم). وأما زعم صاحب هذه المقولات بأن (منع التزاوج بين المسلمات والكتابيين أقاويل لا أساس لها من الدين!! ولا تقوم على ساق من الشرع الحنيف!! إنما هي أوهام وتضليل وتجهيل وإغلاق وتحنيط وخداع للعقول والإسلام منها براء!!
فهو جدير بتلك الأوصاف التي رمي بها علماء الأمة سلفاً وخلفاً، وهو بهذا يقارن بين تزويج الكتابية من المسلم دون العكس، وفي توضيح الفارق بين الأمرين نقول: إن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (نصرانية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم، لان كل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف، قال الشيخ عطية محمد سالم: «لماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين:
الأول: أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، والقوامة في الزواج قطعاً لجانب الرجولة، فقد يؤثر الرجل على امرأته فلا تستطيع القيام بدينها كما يجب، وقد تترك دينها بالكلية، وكذلك الأولاد سيكونون تابعين لأبيهم في الدين.(/1)
والجانب الثاني: شمول الإسلام وقصور غيره، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة، وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية، فهو يؤمن بكتابها ورسولها فسيكون معها على مبدأ مَنْ يحترم دينها لإيمانه به في الجملة، فسيكون هناك مجال للتفاهم، وقد يحصل التوصل إلى إسلامها بموجب كتابها، أما الكتابي إذا تزوج مسلمة، فهولا يؤمن بدينها، فلا تجد منه احتراماً لمبدئها ودينها، ولا مجال للمفاهمة معه في أمر لا يؤمن به كلية، وبالتالي فلا مجال للتفاهم ولا للوئام، وإذا فلا جدوى من هذا الزواج بالكلية، فمنع منه ابتداءً).
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال: (زواج الكتابي من مسلمة محظور، لأنه يختلف في واقعة عن زواج المسلم بكتابية ـ غير مشركة ـ وهنا يختلف في حكمه ... إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية، كما أن الزوجة هي التي تنتقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع، فإذا تزوج المسلم من الكتابية ـ غير المشركة ـ انتقلت هي إلى دار قومه، ودعى أبناؤه منها باسمه، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو الحصن، ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي، فتعيش بعيداً عن قومها، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها، ويدينون بدين غير دينها، والإسلام يجب أن يهيمن دائماً)أ.هـ
وقد ذهب صاحب تلك الدعاوى الباطلة إلى أن اليهود والنصارى ليسوا مشركين أو كفاراً، فنقول جواباً على ذلك: قد دل القرآن والسنة والإجماع على أن من دان بغير الإسلام فهو كافر، ودينه مردود عليه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وجاء النص القاطع بأن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) أو أشركوا مع اللّه غيره، أو جحدوا نبوة نبي من الأنبياء أنهم كفرة، ولا يدفع عنهم الكفر إيمانهم أو التزامهم بكتبهم، فلو آمنوا حقاً بالنبي والكتاب لآمنوا بجميع الأنبياء والرسل قال الله تعالى (إن الذين يكفرون باللّه ورسله ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ü أولئك الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهينا) وقال تعالى (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه وأنتم تشهدون) وقال (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيد على ما تعملون) وقد كان ذلك خطاباً لأهل الكتاب المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وسلم) وهم يؤمنون بعيسى والإنجيل، وبموسى والتوراة. وقال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم) وقال تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) وقال تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) فكونهم أهل كتاب لا يمنع من كونهم كفاراً، كما نطق بذلك كتاب اللّه، وأما إباحة طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم فإنه لا ينفي الحكم بكفرهم، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه جل وعلاء ولو قال قائل: فما وجه وعد اللّه إياهم بالجنة في قوله سبحانه (إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) نقول: إن هذا الوعد إنما هو للموحدين منهم الذين آمنوا بنبيهم ولم يشركوا باللّه أحدا ولم يدركوا بعثة نبينا محمد(صلى اللّه عليه وسلم) وهذا ما اتفق عليه أهل التفسير والعلم بكتاب اللّه عز وجل ويؤيده أن من اعتقد ألوهية عيسى أو نبوته للّه أو اعتقد أن اللّه فقير أو يمسه اللغوب والتعب فليس مؤمناً باللّه حقيقة وكذلك من اعتقد أن عيسى عليه السلام هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة ويجعل النار لمن لم يؤمن بألوهيته او نبوته، من اعتقد ذلك لم يكن مؤمناً باليوم الآخر حقيقة، ولهذا وصف القرآن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، فقال تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولايحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) نقول: إن كفر اليهود والنصارى يعد من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام، فمن أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في ذلك فهو كافر. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء في سياق ذكره ما هو كفر بالإجماع: (ولهذا نكفِّر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام+ واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك).(/2)
ولا يتنافى اعتقادنا بكفرهم مع برنا إياهم وعدلنا معهم وقيامنا بما أوجب اللّه علينا نحوهم في قوله سبحانه (لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللّه يحب المقسطين).
ثانياً:
وأما قول الدكتور الترابي بأن شهادة المرأة تعدل شهادة الرجل بل تفضلها، فيما نقل عنه في جريدة حزبه بالنص من قوله: «إن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل تماماً وتوازيه بل وأحياناً تكون أفضل منه وأعلم، وشهادتها أقوى منه» ونفيه أن شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، وقوله: «ليس ذلك من الدين أو الإسلام بل هي مجرد أوهام وأباطيل وتدليس أريد بها تغييب وسجن العقول في الأفكار الظلامية التي لا تمت للإسلام في شئ» نقول: يكفينا أن نذكِّر بأن كل مسلم يسمع قول ربنا عز وجل (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) يعلم ضلال قول الترابي وبطلانه وأنه يدعو إلى التشكيك في مُسَلَّمات الدين. وقد قال أهل العلم في تفسير قوله تعالى (فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان مِمَّنْ ترضون من الشُهداء أن تَضِلَّ إحداهُما فتُذكِّر إحداهُما الأخرى): «فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة وهو النسيان وعدم الضبط، فعُلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن على نصف رجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا يُنسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذه معان معقولة ويطول العهد بها في الجملة."
ثالثاً:
إنكاره نزول المسيح بن مريم عليه السلام وتهكمه بمن يعتقدون في نزوله، وزعمه أن ذلك من الخرافات نقول: الاعتقاد في نزول المسيح بن مريم هو قول المسلمين أجمعين سلفاً وخلفاً، للنصوص المتواترة التي أثبتت ذلك، منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله احد) وقد نقل غير واحد من علماء الأمة تواتر النصوص القاضية بنزول المسيح عليه السلام منهم الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) عند قوله تعالى في سورة آل عمران ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) فقد قال بعد أن ذكر الأقوال في معنى التوفي: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: أني قابضك من الأرض ورافعك إلىَّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال (ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال) أ.هـ وقال العلامة السفاريني الحنبلي في شرح منظومته (لوامع الأنوار البهية): قد أجمعت الأمة على نزول عيسى بن مريم السلام عليه ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه.(/3)
وأما استدلاله في ادعاءاته ومزاعمه بقوله تعالى (ياعيسى إني متوفيك) على وفاة عيسى، فهو جار على منهجه في ضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض، ومعلوم أن القرآن يصدق بعضه بعضاً، ولا تتناقض أخباره، كما أن السنة مبيّنة للقرآن، وصنيع الراسخين في العلم أنهم يوفقون بين النصوص ولايضربون بعضها ببعض، وقد قال أهل العلم: إن الوفاة في الآية محمولة على النوم، لان القرآن الكريم قد جعل النوم وفاة في قوله تعالى (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) وقوله سبحانه (اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) وكان (صلى اللّه عليه وسلم) إذا استيقظ من نومه قال (الحمد للّه الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) ومن العلماء من حمل الوفاة في الآية على معنى القبض والحيازة، كما تقول: توفَّي فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى (متوفيك) على هذا قابضك منهم إلىَّ حياً وأما قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) فلا خلاف بين أهل التأويل أن ذلك يكون يوم القيامة حين يسأله ربه جل جلاله (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه) وعلى ذلك فلا إشكال أصلاً، لان المسلمين أجمعين متفقون على أن المسيح عليه السلام سيموت كما يموت سائر البشر، لعموم قوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت) لكن موته ـ عند أهل الحق ـ سيكون بعد نزوله من السماء وقتله الدجال وحكمه بشريعة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قال تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا).
رابعاً:
من المسائل التي أثارها ـ خارجاً بها على السنة النبوية وما استقر عليه عمل المسلمين ـ القول بجواز إمامة المرأة للرجال بإطلاق!! وجواباً على ذلك نقول: إن أمة الإسلام ـ والحمد للّه ـ لم تخلُ في عصر من العصور من نساء مؤمنات فقيهات عالمات فهل يملك الترابي نصاً صحيحاً صريحاً في أن امرأة مسلمة قد أمّت الرجال وأقروها على ذلك؟ إن جابر بن عبداللّه رضي اللّه عنهما قال: خطبنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا تؤمَنَّ امرأة رجلا) وقد علم المسلمون أجمعون من سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام أن خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، وأن الجمعة والجماعة غير واجبة على النساء، فمن أين للترابي مثل هذا الإطلاق؟ وأما استدلاله بإذنه عليه الصلاة والسلام لأم ورقة بأن تؤم أهل دارها، فتفسره الرواية الأخرى (نساء دارها) لكن هذا الرجل في ادعاءاته يتعلق بما شاء من روايات يقضي بها وطره ويحقق غايته من إشاعة البلبلة في صفوف المسلمين.
خامساً:
ومما صادم به في ادعاءاته نصوص القرآن والسنة دعواه أن الحجاب ـ بمعناه الشرعي المعروف ـ غير لازم للمرأة، بل يكفيها أن تغطي رأسها وصدرها!! وهذا من العجب العاجب، ويكفينا في رد تلك الدعوى قول ربنا سبحانه (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن..) وما نطقت به نصوص السنة وما أجمعت عليه الأمة مما يعد مخالفة داخلاً في زمرة من قال اللّه فيهم (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهم وساءت مصيرا(.
وبعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي بعد أن نظر في هذه القضايا في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها، المستمدة من ثوابت ـ الإسلام ـ الكتاب والسنة والإجماع ـ يرى أن الرجل قد خالف الكتاب والسنة وما استقر عليه عمل أهل الإسلام قديماً وحديثاً، والواجب عليه التوبة إلى اللّه تعالى من القول عليه بغير علم وتضليل جماهير المسلمين، والواجب أن يُتَعامَل مع هذا الرجل بما يقضي بالحق ويوقف الشر والضرر.وصلى اللّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/4)
بيان و تبيين لبعض ما يجب في الإنكار على السلاطين
الحمد لله عظيم المنن ، دافع النقم و المِحَن ، ذي الفضل و النعماء على من آمن به و تولاه ، و ذي العزة و الجبروت و البأس الشديد على من حادَّه أو عاداه .
و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و آله و صحبه و من والاه ، ثم أما بعد .
فإن الله تعالى مذ خلقنا و كرمنا و فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يتركنا هملاً نهيم على وجوهنا دون أن يبين لنا سبل الرشاد ، بل بعث فينا نبيه المصطفى صلى الله عليه و سلم بما يصلح العباد و البلاد ، و يسوس الدنيا و أهلها إلى يوم المعاد ، فتوفي عليه الصلاة و السلام و ما من خير إلا و دلنا عليه ، و لا شر إلا حذَّرنا منه ، و أخذ بحُجَزِنا يصرفنا عنه ، و لا علم ينفع في دينٍ أو دنيا إلا أوقفنا عليه .
و لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم بربه و ما من طائر يقلِّبُ جناحيه ، في السماء إلا و قد ذكر لأصحابه منه علماً ، كما روى الطبراني في معجمه الكبير عن أبي الدرداء و أبي ذرٍّ رضي الله عنهما .
فهل يظن عاقل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد عرف ما ستؤول إليه أمور أمته من بعده و أخبر به و بالغ في بيانه ، و ذِكْرِ أشراطه ، و التحذيرِ من أشراره ، يدعنا و شأننا في مجابهة المحن ، و مواجهة الفتن ، دون أن يبين لنا في ذلك سبيلاً رشَداً ، فيأتينا العقلاء منه بقبسٍ أو يجدوا في شرعِه هدى ؟!
كلا و الله ! ما كان الأمر كذلك ، و ما ينبغي له أن يكون ، فقد علَّمنا من لا ينطق عن الهوى كيف نعامل الأمراء في كل حال ، فقال في موعظته التي ذرفت لها العيون و وجلت منها القلوب : ( عليكم بتقوى اللّه ، و السمع و الطاعة ، و إن عبداً حبشياً ) ، رواه ابن ماجة و غيره بإسنادٍ صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه .
و روى الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أنه قال : دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ ، فكان فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا : أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فِي مَنْشَطِنَا وَ مَكْرَهِنَا ، وَ عُسْرِنَا وَ يُسْرِنَا وَ أَثَرَةٍ عَلَيْنَا ، وَ أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً ، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ) .
فقيَّد صلى الله عليه و سلَّم منازعة الأمر – الحُكمَ – أهله ، بظهور الكفر البواح من المنازَع .
و ههنا مسائل يحسن التنبيه إليها بين يدي هذا الحديث الشريف :
أُولاها : التفريق بين إنكار المنكر و بين الخروج على الحاكم ، إذ ليس كل من أنكر منكراً على حاكم ذي سلطة ( شرعية أو غير شرعية ) خارجاً عليه بمجرد الإنكار فضلاً عن أن يكون خارجي المنهج و الفكر و المذهب ، كما يصوره البعض ، لأن الأمَّة مازالت تنكر على حكامها و ولاة أمورها سرّاً و جهراً ، بحسب الإمكان ، و ما يقتضيه الحال ، و لم نقف في تاريخنا المديد على من اتُّهم بالخروج ، أو نسب إلى الخروج أصلاً ، فضلاً عن أن ينسب إلى الخوارج ( كطائفة ) لمجرد إنكار المنكر – علانيةً - على الحاكم ، و دعوته إلى العدل و الإنصاف و ردِّ المظالم و إحقاق الحق .
و يشهد لهذا تبويب الإمام مسلم في صحيحه بما يؤكد على التفريق بين الإنكار الواجب و الخروج المحرم بقوله : بَابُ وُجُوبِ الإِنْكَارِ عَلَى الأُمَرَاءِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ ، وَ تَرْكِ قِتَالِهِمْ .اهـ .
و ما رواه ابن ماجة في سننه بإسنادٍ صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) ، و في رواية : ( كلمة حقًّ ) .
و ما صح في سننه أيضاً من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، أنه قال : عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجلٌ عند الجمرة الأولى ، فقال : يا رسول الله أيُّ الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه . فلما رمى الجمرة الثانية سأله ، فسكت عنه . فلما رمى جمرة العقبة وضَعَ رِجْلَه في الغَرْز ليَركب ، قال : ( أين السائل ؟ ) قال : أنا يا رسول الله . قال : ( كلمة حق عند ذي سلطان جائر ) .
قلتُ : لو كان إنكار المنكر على السلطان الجائر منكَراً ، لما كان القيام به أفضل الجهاد في سبيل الله ! و لما جعل من قُتِل دون ذلك في مقام سيِّد الشهداء ، كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلَّم إذ قال : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، و رجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله ) رواه الحاكم في مستدركه عن جابر بإسناد صحَّحه ، و أقرَّه الذهبي .(/1)
و ثانيها : أن تقييد الإنكار بالإشهار أو الإسرار أمر تحكمه مقاصد الشريعة ، و يجب ضبطه بضوابطها ، و ينظر إليه من خلال المصالح المترتبة على القيام به ، و المفاسد المترتبة على تركه ، و هذا يختلف بحسب الأمور المنكرة ، و حال المنكِر ، و المنكَر عليه ، و أسلوب الإنكار ، لذلك رأينا أئمة السلف ينكرون المنكر على الحاكم علانية تارةً ، و خفيةً تاراتٍ أُخَر ، فيما بينهم و بين الحاكم ، دون أن يتحجَّر أحدهم واسعاً ، أو يحمل الناس على رأيه مكرَهين .
و قد اشتهر من الإسرار في الإنكار موقف أسامة بن زيد من عثمان بن عفان رضي الله عنهم و عن سائر الصحابة الكرام ، حيث كان يتخوله بالموعظة و النصيحة سراً .
فعَنْ شَقِيقٍ بن سلمة ، عَنْ أُسَامَةَ بن زيد ، قَالَ : قِيلَ لَهُ : أَلا تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَتُكَلِّمَهُ ، يَعْنُونَ عُثْمَانَ ، فَيَقُولُ : أَتَرَوْنَ أَنِّي لا أُكَلِّمُهُ إِلا أُسْمِعُكُمْ ، وَ اللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُهُ ، وَ لا أَقُولُ لأَحَدٍ يَكُونُ عَلَيَّ أَمِيراً إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ : ( يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ : مَا لَكَ ؟ أَلَمْ تَكُ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ تَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَ آتِيهِ ) ، رواه أحمد و أصله في صحيح البخاري .
قال القاضي عياض رحمه الله [ كما في فتح الباري : 13 / 57 ] : ( مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك ، بل يتلطف به ، و ينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول ) .
و هذا منهج مبرئٌ لذمة من يقدر على الوصول إلى الأمير أو الوقوف بين يديه ليأمره بالمعروف و ينهاه عن المنكر ، و لكن ليت شعري كيف تبرأ ذمة من لا يملك حيلة و لا يستطيع سبيلاً إلى الإنكار إلا من وراء جُدُرٍ ، إن لم يبذل وُسعَه في قول الحق و العمل به و لو عن بُعدٍ ؟
و معاذ الله أن نبرر الإنكار علانية أو ندعو إليه مع إمكانية تحقيق الغاية المرجوة من الإنكار بين العالم و الحاكم .
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن سعيد بن جهمان قال : ( أتيت عبد الله بن أبي أوفى ، و هو محجوب بالبصرة ، فسلمت عليه . قال لي : من أنت ؟ فقلت : أنا سعيد بن جهمان . قال : فما فعل والدك ؟ قال : قلت : قتلته الأزارقة . قال : لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة ، حدثنا رسول الله أنهم كلاب النار . قال : قلت : الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها ؟ قال : بل الخوارج كلها . قال : قلت : فإن السلطان يظلم الناس و يفعل بهم . قال فتناول يدي ، فغمزها بيده غمزةً شديدة ، ثم قال : ويحك يا ابن جهمان ، عليك بالسواد الأعظم ، عليك بالسواد الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته ، فأخبره بما تعلم ، فإن قبل منك ، و إلا فدعه ؛ فإنك لست بأعلم منه ) .
و هذا مقيد بقول عبد الله بن أبي أوفى صراحةً : إن كان السلطان يسمع منك .
قلتُ : أما إن تترس الأمير بحاشية السوء ، و لم يمكن إيصال الحق إليه ، فلا أقل من تبصير العامة بضررٍ لا يدفع بأقل من العلم به .
و ثالثها : أنَّ حمل معنى الكفر البواح على الخروج من الملة بالكفر الأكبر دون غيره من كبائر المعاصي و فواحش الذنوب ، أمر يسوغ فيه الخلاف ، بل قد وقع الخلاف فيه يقيناً ، بذهاب بعض العلماء إلى تأويل الكفر البواح بالمعاصي ، كما فعل الإمام النووي رحمه الله إذ قال في شرحه لصحيح مسلم [ 12 / 229 ] :
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ) هكذا هو لمعظم الرُّواة . و في معظم النُّسخ : بواحاً بالواو . و في بعضها : براحاً ، و الباء مفتوحة فيهما . و معناهما: كفراً ظاهراً ، و المراد بالكفر هنا : المعاصي . و معنى ( عندكم من اللهِ فيه برهان ) أي : تعلمونه من دين اللهِ .
و معنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، و لا تعترضوا عليهم ؛ إلاَّ أن تروا منهم منكراً محقَّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم ، و قولوا بالحقِّ حيث ما كنتم ، و أمَّا الخروج عليهم و قتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، و إن كانوا فسقة ظالمين ، و قد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته ، و أجمع أهل السُّنَّة أنَّه لا ينعزل السُّلطان بالفسق ) .(/2)
فتأمل وفقك الله لهداه كيف ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى تأويل الكفر البواح بالمعاصي ، و لم يحمله على الكفر المخرج من الملة ، فضلاً عن أن يقصره عليه ، و لم يرَ بأساً في منازعة ولاة الأمر و الاعتراض عليهم حال وقوعهم في المعاصي و المنكرات المحققة المعروفة بما يُعلَم من قواعد الإسلام ، شريطة أن لا يكون ذلك بالسيف ما لم يُتيقَّن خروج الحاكم من الملة بالكُليَّة .
و مع ذلك فقد نقل [ في شرح صحيح مسلم أيضاً 2 / 26 ] عن إمام الحرمين رحمه الله القول بمشروعية التواطؤ لخلع الإمام الفاسق بما هو أقل من الكفر و إن استلزم ذلك إشهار السلاح في وجهه و محاربته ، حيث قال : ( قال إمام الحرمين رحمه الله: و إذا جار والي الوقت و ظهر ظلمه و غشمه و لم ينزجر حين زُجِرَ عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحلِّ و العقد التَّواطؤ على خلعه ، و لو بشهر الأسلحة و نصب الحروب ، هذا كلام إمام الحرمين ، و هذا الَّذي ذكره من خلعه غريب ، و مع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه ) .
فاتق الله في يا من يعيب على إخوانه القيام بما هو أدنى مما ذهب إليه إمام الحرمين و أقره عليه النووي بشرطه المذكور ، و ارأف بإخوانك الذين ينكرون منكراً قعدت عن إنكاره ، و لولا ما حملوه عنك من القيام بالواجب الكفائي لكنت من الآثمين ، فادع لهم ، و احفظ ظهورهم ، و لا تكن عوناً للظالمين عليهم .
و حذار من أن تتوهم في كلامنا هذا تحريضاً على ارتكاب أعلى المفسدتين مع إمكانية تحاشيهما أو الاكتفاء بارتكاب أدناهما ، لأن الدعوة إلى إنكار المنكر على الحاكم المسلم علانية خلافُ الأصل الذي ندعو إليه ، و نحتسب الأجر عليه .
إذ إن الإنكار على الحاكم المسلم سراً هو الأصل ما دام ذلك كافياً و كفيلاً لإحقاق الحق و دفع المنكر بأقل منه .
أما إن تعذر ذلك و خُشيَ من تفشي المنكر ، و شيوع الفاحشة في الذين آمنوا فيعدل عن هذا الأصل إلى ما لا يتم الواجب إلا به ، و من ذلك الإنكار علانية علَّ ذلك يبلغ من كان له قلبٌ أو ألقى السمع و هو شهيد ، فيبذل وسعه ، و يبرئ ذمَّته في التصدي للمنكر و أهله قبل فوات الأوان ، و يكون ذلك في حالات منها :
الحالة الأولى : إذا شهد العالم وقوع المنكر أو وافق حضور الوالي المتلبس به ، فيجب الإنكار في الحال ، و لا يسعه تأخيره عن وقت الحاجة لبيانه .
و مثال ذلك ما عرف من إنكار أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، و غيره على مروان بن الحكم تقديم خطبتي العيد على الصلاة ، خلافاً للسنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم .
فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده عن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوانُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؟ فَقَالَ مروان : قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ . فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ) الحديث .
الحالة الثانية : إذا غلب على الظن تعالي الحاكم على الحق و أهله ، و تطاوله على من يأمره و ينهاه بسيفه و بطشه ، فعندئذ يجد الداعية مندوحة من المواجهة مع من لا يتورع عن إراقة دماء مخالفيه و معارضيه ( بالحق ) ، فيعدل إلى إنكار المنكر بما تيسر من وسائل أُخَر ، و أقلها تحذير العباد من المنكر الذي يقره الحاكم و لا ينكره .
روى ابن ماجة في سننه بإسناد حسن عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ) قالوا : و كيف يذل نفسه ؟ قال : ( يتعرض من البلاء لما لا يطيقه ) .
و روى ابن سعدٍ في طبقاته عن عمارة بن مهران ، قال : قيل للحسن : أَلا تَدْخُلُ عَلَى الأمَرَاءِ ، فَتَأْمُرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ تَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : ( لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ، إِنَّ سُيُوفَهُمْ لَتَسْبِقُ أَلْسِنَتَنَا ، إِذَا تَكَلَّمْنَا قَالُوا بِسُيُوفِهِمْ هَكَذَا ، وَ وَصَفَ لَنَا بِيَدِهِ ضَرْباً ) .
و لا يستفاد من هذا أن الحسن ، ترك الأمراء و شأنهم فلم يأمرهم و لم ينهَهم ، و حاشاه من ذلك و هو الغيور على دين الله ، الذي لا يخاف فيه لومة لائم ، و لكنه لم ينكر منكرهم في مجالسهم دفعاً لمفسدة أكبر ، و لم يعدِم وسيلةً أخرى لإحقاق الحق و الأمر به ، و إبطال المنكر و النهي عنه ، كما يبدو ، و الله أعلم .(/3)
الحالة الثالثة : إذا كان المنكر الواجب إنكاره يبلغ في ضرره و شرِّه عموم الأمة ، و لا يقتصر في ذلك على الحاكم العاصي أو خاصته ، فهذا لا بد من أن يحذَّر منه كل من قد يقع فيه ، أو يلتبس عليه أمره ، أو يتضرر به ، و من هذا القبيل إسقاط الجهاد حال كونه فرضاً متعيناً على المسلمين كما هو الحال اليوم في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، فلو قدِّرَ أن حاكماً دعا إلى وضع الحرب مع العدو ، و تنازل عن الحَرَم و الحُرُمات ، و الديار و المقدَّسات ، فقد أتى منكراً جسيماً يجب إنكاره عليه ، و تبصير الأمة بخطره كي لا تموت فيهم الغيرة على الدين ، و العزيمة على مجاهدة المعتدين .
و مثل ذلك التحذيرُ من المنكرات السارية كالتعامل بالربا ، و إشاعة الفواحش ، و سائر ما يعم شره ، و لا يؤمن الوقوع فيه ، و من أخطر ذلك ما تبثه وسائل الإعلام و الإجرام من لوثات العقول و الأفكار و السلوك و الأخلاق ، فهذه و أمثالها أمور يجب على القادر أن ينكرها على الحكام ، و يحذِّر من خطرها المحكومين ، نصيحة لله و لرسوله و لعامة المسلمين و خاصتهم .
و لا تبرأ الذمة في هذه الأحوال بمجرد الهمس في أذن الحاكم بوجود هذه المنكرات ، إن لم يفض ذلك إلى تغييرها ، و يعصم المسلمين من الوقوع في شرورها ، بل لا بد من إنكارها علناً ، و بيان مفاسدها و مخاطرها على رؤوس الأشهاد ، ليهلك من هلك عن بيِّنة و يحيى من حيَّ عن بيِّنة .
روى الحاكم في مستدركه أن أميراً من أمراء الكوفة دعا ساحراً يلعب بين يدي الناس ، فبلغ جندباً ، فأقبل بسيفه و اشتمل عليه ، فلما رآه ضربه بسيفه فتفرق الناس عنه ، فقال : أيها الناس ، لن تُراعوا إنما أردت الساحر ، فأخذه الأمير فحبسه ، فبلغ ذلك سلمان ، فقال : ( بئس ما صنعا لم يكن ينبغي لهذا و هو إمام يؤتم به يدعو ساحراً يلعب بين يديه ، و لا ينبغي لهذا أن يعاتب أميره بالسيف ) .
و يظهر من سياق هذا الخبر أنَّ تغيير المنكر بالسيف كان لعموم شرِّه و خطره ، حيث كان الساحر يلعب بين يدي الناس ، و هذه فتنة ظاهرة يتعين إنكارها و دفعها ، و هذا ما أقدم عليه جندب بعد أن بيَّن للناس أنَّه ما خرج ليريعهم ، بل خرج ليقيهم الفتنة بسيفه ، و هذا اجتهاد منه ، أنكر عليه سلمان خروجه بالسيف فيه ، و لم ينكر عليه مجرد مخالفة الحاكم أو اعتراض سبيل الساحر الفتان ، و الله أعلم .
الحالة الرابعة : إذا بلغه أن الحاكم قضى قضاءً ، أو أمر أمراً يخالف كتاب الله و سنَّة رسوله ، فيجب إنكار المنكر حينما يبلغه ، إذا بلغه من ثقةٍ ، و لا يجوز له الكف عن الإنكار أو التوقف فيه ، أو إرجاؤه إلى حين لقاء الأمير ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، و لو سكت العالم عن المنكر لحظة سماعه به أو بلوغه إيَّاه لأوهم إقراره له ، خاصَّةً إذا كان عالماً يُتَّبَع ، و إماماً قدوةً علَماً .
روى عبد الرزاق في مصنَّفه عن عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ و قد سَأَلَهُ رَجُلٌ ، أَتُحَرِّمُ رَضْعَةٌ أَوْ رَضْعَتَانِ ؟ فَقَالَ : ( مَا نَعْلَمُ الأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلا حَرَامًا ) ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - يُرِيدُ ابْنَ الزُّبَيْرِ - يَزْعُمُ أَنَّهُ لا تُحَرِّمُ رَضْعَةٌ ، وَ لا رَضْعَتَانِ . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : ( قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَائِكَ وَ قَضَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ) و رواه بنحوه الدارقطني ، و سعيد بن منصور كلٌّ منهما في سننه .
الحالة الخامسة : إذا نهى السلطان عن تبليغ حق ، أو إحياء سنَّةٍ أو إماتة بدعةٍ ، فإن على الداعية الصادق أن يؤثر طاعة الرحمن على طاعة السلطان .
روى عبد الرزاق في مصنَّفه عن الشعبي ، عن عمه قيس بن عبدٍ قال : اختلفتُ إلى عبد الله بن مسعود سنةً فما رأيته مصلياً صلاة الضحى و لا صائماً يوماً من غير رمضان ، قال : فبينا نحن عنده ذات ليلة أُتيَ فقيل له : هذا رسول الوليد ، فقال عبد الله : ( أطفئوا المصباح ) ، فَدَخَلَ ، فقال له : إن الأمير يقول لك : اترك هؤلاء الكلمات التي تقول ، قال : ( و ما هن ؟ ) قال : ( هذه الكلمات ؟ ) قال : فلم يزل يرددهن ، قال : قولَك : كلٌّ مُحدَثَةٍ بدعةٌ ، قال : ( إني لن أتركهن ) ، قال : فإنه يقول لك : فاخرج ، قال : ( فإني خارج ) ، قال : فخرج إلى المدينة .
قلتُ : و غير بعيدٍ عن هذه الصورة ما ( قد ) يعمد إليه بعض ولاة المسلمين اليوم من تغييرٍ لمناهج التعليم ؛ يراد منه التغاضي عن بعض أحكام الشريعة ، أو كتمان بعضها ، أو تضييع بعض حدودها و أحكامها كتلك المتعلقة بباب الولاء و البراء و الإعداد و الاستعداد و الخروج في سبيل الله للجهاد .
و الموفَّق من عرف الطريق فسلَكَها ، و أعرض عن الشُّبَهِ و من عَرَضَها .(/4)
الحالة السادسة : إذا وقع الحاكم في منكر ، أو اقترف مظلمة بسبب فتوى حملت على غير وجهها من عالم ثقة ، فالواجب على العالم أن يسعى حثيثاً لتبرئة ذمته ، و رفع الظلم الواقع بسببه .
رواه أبو بكر الخلال في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عن أَبي بَكْرٍ الْمَروذِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ شَرِيكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يُونُسَ ، يَقُولُ : صَلَّيْتُ عِنْدَ الْمَقَامِ عِشَاءَ الآخِرَةِ ، وَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عِنْدَ الْمَقَامِ ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ ، فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : يَا سُفْيَانُ ، بِأَيِّ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّ أَنْ يُحْبَسَ ابْنِي بِسَبَبِكَ ؟ وَ كَانَ أَرَى مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ : فَرَأَيْتُ سُفْيَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الْمَقَامِ ، فَإِذَا الْوَالِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : لِمَ تَحْبِسُ رَجُلاً بِسَبَبِي ؟ قَالَ : فَقَالَ لَهُ الأَمِيرُ : أَوْ قَالَ : الْوَالِي - شَكَّ الْمَرْوَزِيُّ - : هَذَا اللَّيْلُ ، وَ بَابُ السِّجْنِ مُغْلَقٌ ، قَالَ سُفْيَانُ : ( لا أَبْرَحُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى تُخْرِجَهُ ) ، قَالَ : ( فَأَرْسَلَ وَ جِيءَ بِالْمَفَاتِيحِ ، وَ فَتَحَ بَابَ السِّجْنِ ، وَ جِيءَ بِابْنِهَا ، حَتَّى دُفِعَ إِلَيْهَا ) .
قلتُ : خليق بعلمائنا الأثبات في هذا الزمان أن ينكروا على الحاكم استغلال فتاوى الأئمة للزج بشباب الأمة في غياهب السجون ، و دياهب المعتقلات ، و أجدر بهم أن يكفوا عن الإفتاء بما من شأنه أن يوقع الحاكم في المظالم ، و يولجهم أبواب الجور و الحيف بتبرير من يقذف شباب الأمة بالخروج على الحكام و المروق من الشريعة لمجرد حماسهم و غيرتهم على دينهم و ديارهم و أهليهم الذين يُعمل فيهم الأعداء القتل و التشريد .
و لست إذ أرى مشروعة الإنكار العلني على الحكام في الحالات الست التي أوردتها أقصر الحق على ما ذكرت ، و لكنه استقراء واقع المسلمين ، والنظر حال السلف الصالحين ، و ضبط ذلك بضوابط الشرع المتين ، فإن وفقت في عرضه فالحمد لله ربِّ العالمين ، و إلا فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .
و ما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت و إليه أنيب
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب(/5)
بيانٌ في الواجب على المسلمين تجاه ما نشرته بعض الصحف الدنماركية
10-2-2006
بقلم عبدالعزيز بن فيصل الراجحي
"...لما كان هذا متعذرا اليوم على المسلمين لضعفهم وتفرقهم أَنْ ينالوا من أعدائه والمستهزئين برسله ، ولتسلط أعدائهم عليهم بذنوبهم : كان الواجب على كُلِّ مسلم في هذا بقدره وبحسبه ..."
بيانٌ في الواجب على المسلمين تجاه ما نشرته بعض الصحف الدنماركية والأوروبية في حق النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وخيرة الخلق أجمعين ، نبينا وسيد ولد آدم ، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإن أعظمَ نعمة أنعمها الله على العالمين ، بعثتُه المرسلين لبيان حَقّ رَبّ العباد أجمعين ، (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالَحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الَحقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ) ، (رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ لِئَلَّا يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
فكان أعظم الناس حَظًّا ، وأتمَّهم سعادةً مَنْ آمن بهم ونصرهم وعزَّرهم ، وكان أشقى الناس وأتعسهم مَنْ كفر بهم ، وقاتلهم ، وأستهزأ بهم وبما جاءوا به . قال سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوْا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
وقال : (وَمَا نُرْسِلُ الُمرْسَلِيْنَ إِلَّا مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ . وَالَّذِيْنَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ) .
وأوجب سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله الكرام حقوقا عظيمة على أُمَمِهم ، مِنَ الاتِّباع والسمع والطاعة والمحبة فوق محبة النفس والمال والوالد والولد ، والنصرة والتعزير والتوقير والتصديق والتعظيم .
ثم جعل أعظمهم حَقًّا ، وأتمَّهم قَدْرًا ، سيد الثقلين ، وخيرة الأولين والآخرين ، خليله وكليمه ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله أتم صلاة وأتم سلام . وأخبر عباده المؤمنين بأن نبيه محمدا له عنده المقام المحمود المُعظَّم ، وأنه خليله المُكرَّم ، وصفيه الُمكلَّم ، أُعرج به إليه ، وسمع من ربه كلامه وما أُوحيَ عليه ، وأنه شفيع العباد يوم المعاد ، وأنه شفيعهم يومئذ عند امتناع الأنبياء والرسل عن الشفاعات ، واعتذارهم ببعض الأمور والزَّلَّات ، فيقوم بين يدي ربه داعيا متضرعا ذليلا ، فَيُكْرِمُ رَبُّهُ مقامَهُ عنده ، ويقول له أمام أنبيائه وسائر خلقه « ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ » .
وأخبر سبحانه عبادَهُ مُمْتَنًّا عليهم ببعثتِه إيَّاه لهم : أنه على خلق عظيم ، وأنه رؤوف بهم ورحيم ، يُعْنِتُهُ ما يُعْنِتُهُمْ ، ويَسُرُّهُ ما يَسُرُّهُمْ ، فما دعى لهم إلا بالهداية والرشاد ، وإنْ تمادوا عليه بالتكذيب والعناد . وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم أولى من المؤمنين بأنفسهم ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُوقى بالأنفس والأموال ، وأَنْ يُقَدَّمَ على كُلِّ حال ، كما قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الَمدِيْنَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوْا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوْا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) .
فَعُلِمَ أَنَّ رغبة الإنسان بنفسه أَنْ يصيبَهُ ما يصيب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام .
ومِنْ حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم : أن يكون أحبَّ إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق ، كما دَلَّ على ذلك قوله تعالى : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) . وقال صلى الله عليه وسلم :«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ» أخرجاه في«الصحيحين» . فصلى الله عليه صلاة دائمة ما دامت السموات والأرض ، وسَلَّمَ عليه سلامًا ما تعبَّد اللهَ المؤمنون بنفل أو فَرْض .
فَصْلٌ(/1)
ثم إني قد اطلعتُ قبل أيام على ما نشرته صحيفة « يولاند بوستن » ( Jyllands-Posten ) الدنماركية ، يوم الجمعة ( 26/8/1426هـ -3/9/25م ) من طعن في النبي صلى الله عليه وسلم ، واستهزاء به وإلحاد ، بنشرهم اثني عشر رسما كاريكوتيرا ساخرا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واستمرت في نشره أسبوعا بعد ذلك ! ثم أعادت عدة صحف أوروبية نشر هذه الرسوم هذا الشهر والذي قبله مرَّة أخرى . وفي هذا محادَّةٌ لله ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، ومحاربةٌ وإيذاءٌ ، وقد قال جَلَّ وعلا في المؤذين له ولرسله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) . وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) . وقال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) .
وقد أوجب الله جَلَّ وعلا على المسلمين كافَّة حقوقا وواجبات في شأن الُمعادين له ولرسله صلى الله عليهم وسلم ، من إيذانهم بالحرب والعداوة والبغضاء . وجعل حكم سَابِّ رسوله صلى الله عليه وسلم القتل ، سواء كان مسلما أو كافرا ، تاب من سَبِّهِ أم استمر في غَيِّهِ ، بل حتى لو كان السّاب كافرا فأسلم لم يعصم ذلك دمَهُ ، وإنْ قُبِلَ منه إسلامُه ، لذلك يُقتل دون استتابة .
وقد قَرَّرَ هذا كُلَّهُ شيخُ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه أتمَّ تقرير في كتابه العظيم الكبير «الصارم المسلول ، على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم » ، واستدلَّ عليه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع ، وساق فيها ما لا يستطاع دفعه .
قال شيخ الإسلام في أوله (ص3) : (المسألة الأولى : أن مَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر : فإنه يجب قتله . هذا مذهب عليه عامة أهل العلم ، قال ابن المنذر :«أجمع عوام أهل العلم على أن حَدَّ مَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم القتل» ) .
وقد حكى الإجماع غير واحد من الأئمة ، منهم أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي ، وإسحاق بن راهوية ، والخطابي ، ومحمد بن سحنون .
وقال (ص3) : (المسألة الثانية : أنه يتعين قتلُه ، ولايجوز استرقاقُه ، ولا المَنُّ عليه ولا فداؤه) . وقال (ص3) : (المسألة الثالثة : أنه يُقتل ولا يُستتاب ، سواء كان مسلما أو كافرا . قال الإمام أحمد في رواية حنبل :«كل مَنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم وتنقَّصه مسلما كان أو كافرا : فعليه القتل ، وأرى أَنْ يُقتل ولا يُستتاب » ) .
ثم قال : ( وقال عبد الله : سألت أبي عَمَّنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب ؟ قال :«قد وجب عليه القتل ولا يستتاب ، خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه » ) .
ثم قال (ص31) : (وقال القاضي في«خلافه» وابنُه أبو الحسين : «إذا سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ، ولم تقبل توبتُه ، مسلما كان أو كافرا ، ويجعله ناقضا للعهد ، نَصَّ عليه أحمد») .
ثم قال (ص33) : ( وقد صرح بذلك جماعة غيرهم ، فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في«الإرشاد» وهو ممن يُعتمد نقلُه :«ومَنْ سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل ، ولم يُستتب ، ومَنْ سَبَّهُ من أهل الذمة قُتل ، وإِنْ أَسْلَمَ» . وقال أبو علي بن البَنَّاء في«الخصال والأقسام» له : «ومَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَجَبَ قتلُه ، ولا تُقبل توبتُه ، وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يُقتل أيضا ، ولا يستتاب » قال : « ومذهب مالك كمذهبنا » ) .
فَصْلٌ
ولما كان هذا متعذرا اليوم على المسلمين لضعفهم وتفرقهم أَنْ ينالوا من أعدائه والمستهزئين برسله ، ولتسلط أعدائهم عليهم بذنوبهم : كان الواجب على كُلِّ مسلم في هذا بقدره وبحسبه ، إعذارا إلى الله وبراءةً منهم إليه .
قال سبحانه (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقال : (فَاتَّقُوْا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » .
لذا فالواجب اللازم على المسلمين اليوم : إنكارُ هذا المنكر العظيم ، كُلٌّ بما خَوَّلَهُ الله وولَّاهُ ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين قَطْعُ صِلَتِهم بهذه الدولة الُمحادَّة .(/2)
والواجب على عموم المسلمين تجارا وغيرهم مقاطعة سلعهم وبضائعهم . ليذوقوا وبال أمرهم ، وليحصل بين شركاتهم وتجارهم وعموم شعبهم وبين حكومتهم الراضية بما نُشِرَ شقاقٌ ونزاعٌ بسبب جنايتهم عليهم ، قال تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) .
وليس لهذه المقاطعة غاية تنتهي إليها ، إلا بمحاسبة تلك الصحيفة ومسؤوليها ، ورسَّامي الرسوم وكُلّ ذي صلة بها ، ومعاقبتهم عقوبة حاسمة رادعة . أَمَّا ما ينادي به بَعْضُ الُجهَّال ، من أن تكون غايةُ المقاطعة اعتذارَ الحكومة الدنماركية أو الصحيفة : فليس من الحق ولا العقل في شيء ! وحكمٌ لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذه الجناية حَقٌّ عظيم لله عزَّ وجلَّ ، ليس لأحد أَنْ يتنازل عنه ، أو يُعلن المسامحة . قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (ص226) : (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أَنْ يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته ، وليس للأمة أَنْ يعفوا عن ذلك) . ثم قال (ص293) : ( ومما يوضح ذلك : أنَّ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم تعلَّق به عدة حقوق : حَقّ الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله صلى الله عليه وسلم ، وعادى أفضل أوليائه ، وبارزه بالمحاربة ، ومن حيث طعن في كتابه ودينه ، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة . ومن حيث طعن في ألوهيته ، فإنَّ الطعن في الرسول طَعْنٌ في الُمرْسِل ، وتكذيبَه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى ، وإنكارٌ لكلامه وأمرِه وخبرِه وكثيرٍ من صفاته . وتعلَّق به حَقُّ جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأُمم ، فإنَّ جميع المؤمنين مؤمنون به ، خصوصا أمته ، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به ، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته ، فالسَّبُّ له أعظم عندهم من سَبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسَبِّ جميعهم ، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين . وتعلَّق به حَقُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه) اهـ .
فلا حَقَّ لأحدٍ قط أَنْ يتنازل عن حَقٍّ ليس له ، ومَنْ تنازل عن شيء من ذلك ، فإنما تنازل عن حَقِّ غيره ، فلا يَصِحُّ تنازلُه ولا يجوز . كما أَنَّ الواجب على المسلمين أيضا : مُناصرةُ كُلِّ تاجر كريم ، غضب لمحادة أولئك العلوج لله ورسوله صلى الله عليه وسلم - فقطع وارداتهم - بالشِّراءِ منه ، تأييدا له ومناصرة ، وتشجيعا لغيره أَنْ يسلك مسلكَهُ ، وينهجَ نهجه .
فَصْلٌ
وفي هذه المقاطعة أربعة أمور عظيمة مُتحقِّقة ، إِنْ تخلَّفَ أحدُها لم تتخلَّفْ بقيتُها : 1
- أحدها :
الإعذار إلى الله عزَّ وجلَّ ، وبَذْلُ ما بالوسع والطاقة في نُصرة شرعه ودينه ، فَإِنَّ هذا واجبٌ لازمٌ ، وليس في أيدينا إلا هذا .
2 - والثّاني : احتساب المُقاطِعِ الأجرَ من الله جَلَّ وعلا في ذلك ، وتعبُّده بهجر مُحادِّيه وأعدائه ، والمجاهرين بذلك والمعلنين .
3 - والثّالث : التنكيل بأعداء الله ، وإذاقتهم بَعْضَ وبالِ أمرهم ، بحيث يكون لهم عقوبة مؤلمة ، ويكون لغيرهم رادعا ، حاميا لحياض المسلمين ودينهم وعرض نبيهم صلى الله عليه وسلم . قال شيخ الإسلام (ص385) : (وأيضا : فإن السَّابَّ ونحوه ، انتهك حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونقَّص قدرَه ، وآذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين ، وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام ، وطلب إذلال النفوس المؤمنة ، وإزالة عِزِّ الدين ، وإسفال كلمة الله ، وهذا من أبلغ السعي فسادا) .
4 - والرّابع : إظهاره عِزَّةَ المؤمنين وقوَّتهم ، ونَيْلَهُمْ من أعدائهم ومُتنقّصي رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم ، وإِنْ ضعفتْ حيلتهم عن مقاتلته . فهذه أربع مصالح عظيمة من مقاطعة أولئك المُحادِّين .
فمَنْ زَعَمَ مِنْ أهل النفاق أَنَّ المقاطعة غير نافعة ، أو أَنَّ نفعَها قليل : أُجِيْبَ بهذا .(/3)
وقد ظهر - بحمد الله وفضله - في أيام قلائل ، عظيمُ أثر ما حصل من مقاطعتِهم ، وتألمهم الشَّديد من ذلك ، وانشقاق صفوفهم ، وخوف حكومتهم من العواقب ، وخسارتهم الملايين الكثيرة حتى الآن . لهذا تكالب أعداء الله - عليهم لعائن الله - بنشر تلك الصور في صحف أوروبية كثيرة ، محاولة منهم فَكَّ هذه المقاطعة ، وإضعاف عزم المسلمين وتشتيت أمرهم ، بإلزامهم أنفسهم بمقاطعة الدول الأوروبية مجتمعة أو تركها كلها ! حِيْلَةٌ خبيثةٌ كان قد سَنَّهَا لأسلافهم إبليسُ في ليلة مُهاجَر النبي صلى الله عليه وسلم ، حين أشار على كبار كفار قريش ، اشتراك رجل من كل قبيلة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ليضيعَ دَمُهُ في القبائل كُلِّهَا فلا يُطْلَبُ ! لذا فإني أرى أَنْ يُعاقبَ هؤلاء بنقيض قصدهم ، فتستمرّ مقاطعة الدنماركيين وهذا واجب لا محالة ، فإنهم هم الذي سَنُّوا هذا الأمر .
أما بقيَّة الدول الأوروبية : فقد عَلِمَ المسلمون ما تُكِنُّهُ نفوسُهم الخبيثة لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فيحرص كُلّ مسلم ألا يشتري من بضائعهم إلا ما تدعوه الحاجةُ إليه إِنْ لم يجدْ بديلا من صناعة غيرهم . كما أغاظتْ هذه المقاطعة كثيرا من المنافقين ، فحاولوا تارة التبرير ، وتارة التهوين ، وتارة بزعم الإصلاح وإرادة الخير ! .
1 - فمن زاعم أَنَّ المقاطعة ستقطع الحوار معهم ! وهذه كذبةٌ بلقاء ، وحيلةٌ بلهاء ، فإنَّ الله عز وجل لم يَأْذَنْ بالحوار مع الكفار إلا ببنائه على أصلَيْنِ اثنَيْنِ ، هما :
( أ ) دعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
(ب) وبيان بُطْلان دينهم وفساده ، وأَنْ اللهَ لا يقبله منهم ، ولا يقبل غيرَ الإسلام .
لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) .
وكانتْ حوارات النبي صلى الله عليه وسلم على هذا ، لهذا قال سبحانه : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ، ولو أقاموهما لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ، كما قال عيسى عليه السلام لهم : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) . وقال : (فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) . فهل هذه الحواراتُ المزعومةُ ، شرعيةٌ مبنيَّةٌ على هذَيْنِ الأصلَيْنِ ، أو أنَّها غطاء لهدم الدين ، وموالاة الكفار والمشركين ؟!.
2 - ومن منافق زاعم : أَنَّ سبب جناية تلك الصحيفة هو تقصير المسلمين أنفسهم في تعريفهم بالإسلام ! فمرادُه تبرئة هؤلاء المحادّين من جنايتهم ، أو تبريرها لهم ، وإناطة جُرْمِها بالمسلمين ! ولم يعلم هذا المنافق أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم - مع شهادة الله التامة له بإبلاغ الرسالة وإتمام الدين - لم يسلم من المستهزئين والساخرين ، قال سبحانه لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الُمشْرِكِيْنَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الُمسْتَهْزِئِيْنَ) . بل كُلُّ أنبياء الله كذلك ، قال تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، وقال : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) . وقال : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) . وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُوْنَ) .(/4)
3 - ومِنْ منافق زاعم : أنَّه يعارض المقاطعةَ إِنْ كان بها إضرار بمصالح المسلمين ! ولا أدري ما هذا الضرر الفائق لمحادَّتِهم لله واستهزائهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك ممَّا قدَّمنا . أم أن ضرره المترقَّب ما يخشاه من فضل مطعم ومشرب ! فلا أشبع الله إذن بطنَه . ولو قُدِّرَ حصول ضرر - وهو غير مسلم -: فالواجب احتساب الأجر والصبر ، فإنَّ الجنة لم تُحَفَّ بالشهوات ، وإنما حُفَّتْ بالمكاره ، وإنما جهنم هي المحفوفة برغبات النفوس وأهوائها .
ومع هذا : لم يحصل بحمد الله ضرر ، بل حصل مِنْ نصرة الدِّين وخُذْلان الكفار والمنافقين ما تَقَرُّ به أعين المؤمنين . ولم ينفرد علوج الدنمارك بحمد الله ببضائعهم ، بل قد عَمَّتِ الخيراتُ بلادَنا وبلاد المسلمين من كل دولة وكل بلد ، غير ما في بلاد المسلمين من خيرات تُغْنِيْهم عمَّا في بلاد أولئك المجرمين .
وإنما هذا المتكلم قد أعمى الله بصرَهُ وبصيرتَهُ ، ومُلِئَ قلبُه نفاقا وحَنَقًا ، فما يَسُرُّ المؤمنين لا يَسُرُّهُ وما يُؤْذِي الكفَّارَ لا يُؤْذيه ، وإنما سروره وضرُّه فيما يَسُرُّ أعداء الدين وفيما يَضُرُّهم . فَلْيَمُتْ بغيظه فليس في المؤمنين المُمْتلئة قلوبُهم بحبِّ الله وحُبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذّبّ عن حماهما وشريعته مَنْ يُصْغِي إليه أذنا . غير أَنَّهُ أراد إلباس نفاقه لبوس الخشية على المسلمين ومصالحهم ! فاستتر بثوب خَلِقٍ بَالٍ ، لم يسترْ عورتَهُ ! فقد نَبَّأَنَا اللهُ من أخبارهم ما أظهرَ لنا جَهْرَةً عوارَهم !.
فَصْلٌ
وبقي هنا أُمورٌ ، مُبَشِّرَاتٌ وتنبيهاتٌ :
إحداها :
قال شيخ الإسلام في«الصارم المسلول» (ص117) : (وإِنَّ الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسَبَّهُ ، ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب ، إذ لم يُمْكِنِ النَّاسُ أَنْ يُقيموا عليه الحدَّ . ونظير هذا : ما حدَّثناه أعدادٌ من المسلمين العدول ، أهل الفقه والخبرة عمّا جرَّبوه مَرَّاتٍ مُتعدِّدةٍ في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية ، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا ، قالوا : « كنا نحن نحصر الحصن ، أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر ، وهو ممتنعٌ علينا ، حتى نكادَ نيأسُ منه ، إِذْ تعرَّضَ أهلُه لسَبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوقيعة في عرضه ، فَعُجِّلْنَا فَتْحَهُ ، وتَيَسَّرَ ولم يَكَدْ يتأخرْ إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ، ثم يُفْتَحُ المكانُ عَنْوَةً ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة» . قالوا : «حتى إِنْ كُنَّا لنتباشرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه صلى الله عليه وسلم ، مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه» . وهكذا حدَّثني بَعْضُ أصحابنا الثقات : أَنَّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك . ومِنْ سُنَّةِ الله : أَنْ يُعَذِّبَ أعداءَه تارةً بعذاب من عنده ، وتارةً بأيدي عباده المؤمنين) .
قال (ص164) : ( ومِنْ سُنَّةِ الله : أَنَّ مَنْ لم يُمْكِنِ المؤمنون أَنْ يُعذِّبوه من الذين يؤذون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكفيه إيّاه . كما قدَّمنا بَعْضَ ذلك في قصة الكاتب المفتري ، وكما قال سبحانه (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الُمشْرِكِيْنَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الُمسْتَهْزِئِيْنَ ) . والقِصَّةُ في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة ، قد ذكرها أهلُ السِّيَرِ والتفسير) اهـ .
الثّانية :
أَنَّ مع ما في طعن هؤلاء المحادّين من شَرٍّ وإغاظة للمؤمنين ، إلا أَنَّ فيه خيرا عظيما ، فقد أظهر هذا أمورًا خافيةً على كثير من الناس لعدم تدبّرِهم كتابَ رَبِّهم جلَّ وعلا .
ومِنْ تلك الأمور الحسنة :
1- أنهم عرفوا حقيقة دعاوى كثير من الأدعياء لمحبَّة الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، الواقفين مواقف الرّيبة من هذه الجريمة ، إمّا بالسّكوت ، أو التّبرير ، أو التّهوين .(/5)
2 - وعرفوا عداءَ أولئك الصليبين للإسلام وأهله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بعد أَنْ عَمِيَتْ أعينُ كثيرٍ من الناس عن ذلك ، بتزيين أهل الأهواء والنفاق لأولئك . وإلا فإنَّ الله قد أخبر في كتابه مُحذِّرًا عبادَه المؤمنين منهم فقال : ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) . وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) . وقال : (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) . وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) .
3 - وعرفوا قوَّتهم ، وكيف استطاعوا النيلَ من أعدائهم وإذلالهم ، وتشتيتَ كلمتهم وتفريق أمرهم .
الثّالثة :
أَنَّ كُلَّ مُتكلِّمٍ بلسان الدّين أو أهله ، بمسامحة أولئك الجناة المحادّين ، أو مسامحة دولتِهم إِن اعتذرتْ أو اعتذرتْ صحيفتُها ، ونشرتْ ذلك في كبرى الصحف أو في غيرها من وسائل الإعلام : فهو إِمَّا منافق ، وإمَّا جاهلٌ مُركَّب . فالأول : معروفٌ سِرُّ سعيِه بالمسامحة ! والثاني : تنازلَ وسامحَ في شيء ليس من حَقِّهِ ، وليس الأمر فيه إليه ، وقد قدَّمنا ذلك ، فالمقاطعة ماضية لا غاية لها ولا نهاية .
الرَّابعة :
قد سَمَّى بَعْضُ أهل البدع والأهواء ، غَضَبَ المؤمنين لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، واغتياظَهم ممّا نُشِرَ في حَقِّهِ « تقاليد تفرض على أولئك التقدّم باعتذار صريح ينشر في كبريات الصحف العربية » ! .
وهذا باطلٌ من وجهَيْنِ : أحدهما : أَنَّ هذا شَرْعٌ من عند الله ، دَلَّ عليه الكتاب والسّنّة والإجماع ، ومَنْ لم تُحْدِثْ عنده تلك الأفعالُ غضبا ولا غيظا فليس بمؤمن . وليستْ تقاليدَ وأعرافًا إِنْ فُعِلَتْ أو تُرِكَتْ فالأمرُ فيها سيان ! الآخر : أَنَّ الاعتذار من الحكومة أو الصحيفة ليس مُسْقِطًا لحقِّ الله جَلَّ وعلا ، ولا حَقَّ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ولا حَقَّ المسلمين أجمعين . وليس حُكما من الله تبارك وتعالى في شاتمي رسوله صلى الله عليه وسلم والنائلين من جنابه الشَّريف . وإنما هو شَرْعٌ شَرَعَهُ ذلك الفاسدُ ، مُضاهيًا به شَرْعَ الله وشَرْعَ رسولِه صلى الله عليه وسلم ، مُنزلاً حُكْمَهُ هو مكانَ حُكْمِهما ! ومُحاولةٌ منه فاشلةٌ : أَنْ يُظْهِرَ لأعداء الله مَخْرجًا مما وضعوا أنفسَهم فيه ، وأَنْ يُظْهِرَ نفسَهُ لهم أَنَّهُ الدَّالُّ إليه والدَّليل عليه !.
الخامسة :
أَنَّ الأمَّة مجتمعةً فيها قُوّةٌ وخيرٌ ، وأنَّها إذا اجتمعتْ على الحقِّ عجز فيها عدوُّها أَنْ ينال منها أو يخيفَها ، فإظهار هؤلاء الكفار في صحفهم الأوروبية الطعنَ والاستهزاءَ بالنبي صلى الله عليه وسلم عَلَنًا ، جَعَلَ المسلمين مُتّحدين في عدائهم ، مُستشعرين خطرَهم وكيدَهم ، وجعل أعداءَهم مُتذبذبين خائفين مِنْ عواقب ذلك وتبعاتِه عليهم .
فكُلُّ ما كان عداء أعداء الله للمسلمين ظاهرا : كان تعاونهم على مدافعتِه عظيما . وكُلُّ ما كان عداؤهم للمسلمين مُستترا تحت أغطيةٍ يصنعونها تلبيسا ، أو يصنعُها لهم المنافقون من علمانيين وليبراليين وغيرهم : كان ذلك مُشَتِّتًا لكلمة المسلمين مُفرِّقًا لاتّحادِهم وتعاونهم لمدافعة عدوِّهم ، حَتَّى يُؤْخَذُوا دَوْلَةً دَوْلَةً ! .
السَّادسة :
أَنَّ إطلاق الغَرْبِ مُسمَّى «الإرهاب» لا يُريدون به المعنى الذي نريده نحن عند إطلاقنا له في المملكة ، وإنَّما يُريدون به الإسلامَ ونبيَّه صلى الله عليه وسلم ، يَظْهَرُ ذلك من رسومِهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، حين صوَّروه بِصُوَرٍ تَدُلُّ على مُرادِهم ! لذا فالواجب في هذا أَحَدُ أَمْرَيْنِ :
1 - إِمَّا الاقتصارُ على الألفاظ الشرعية ، الدّالة على المعنى المُراد ، كالحرابة ، والمحادّة ، ونحوهما ، وتَرْكُ لفظ «الإرهاب» . لمعرفة مدلول تلك الألفاظ ، وجهالة مدلول الأخير ، وتنازع النّاس فيه دولاً وأفرادًا .
2 - وإِمَّا حَدُّهُ عالميًا بِحَدٍّ مُنْضَبِطٍ ، وتعريفه بتعريف بَيِّنٍ ، ثم إطلاقُه عليه ، إِنْ كان ذلك الحدُّ مُسلَّمًا صحيحا .
السَّابعة :(/6)
أَنَّ أعداء الله المحادّين له لم يجدوا عُذْرًا يعتذرون به على قبيح فَعْلَتِهم وعظيم جُرْمِهم ، إلا سماح قوانينهم بحرّيّة التعبير وحرّيّة الصحافة ! ومع أَنَّ هذه حُجّةٌ مدحوضةٌ ، فليس كُلُّ مَنْ أراد شيئا في الغَرْبِ قاله ! كما أنهم لا يسمحون لغيرهم بقول ما يريد إذا كان مخالفا لهم .
فَمَعَ هَذَا كُلِّهِ : فيجب على المسلمين أَنْ يتنبَّهوا إلى ما يُرَادُ بهم مِنْ سَعْيٍ إلى فتح حُرّيّة التعبير المُطلقة عندهم وفي وسائل إعلامِهم ، التي يُراد منها تمرير الكفر والمحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والإذن به ، ولا يظنون أنهم بها يستطيعون قول ما يريدون مما يخافون قولَهُ ويخشون عاقبتَه . وإنَّما يُسلِّطون أعداءَهم عليهم ، وهم لا يستفيدون مِنْ ذلك شيئا ! وَفَّقَ اللهُ المسلمين لما يُحِبُّهُ ويرضاه ، ونَصَرَ دينَهُ ، وأعلا كلمتَهُ ، وأعزَّ جُنْدَهُ ، وأهلكَ أعداءَه ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، ولكنَّ المنافقين لا يعلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(/7)
بيت أسس علي التقوى
... ولا تقل لهما أف
الحمد لله القائل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً:(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:23/24).
والصلاة والسلام على رسول الله الذي بعثه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وصلي الله عليه وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد.. عباد الله:
إن من أعظم المعاصي التي عصي الله بها في الأرض سبحانه وتعالي، قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، ولذلك توعد الله بالعذاب الأليم العاق والقاطع.
وهي جريمة شنيعة تقشعر لها الأبدان ويندي لها الجبين، أنكرها حتى الجاهليون واليهود والنصارى في شرائعهم.
ولذلك يقشعر جلد المؤمن يوم يري الابن كلما كبرت وشب وقوي تغمط حق والديه يوم أذهبا العمر والشباب وزهرة الحياة في تربية.. فقد سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، ولما كبرا وضعفا ودنيا من القبر، واصبحا قاب قوسين أو أدني من الموت، أنكر حقهما وجعلهما في مكان من الذلة لا يعلمه إلا الله.
ولذلك قرن الله حقه بحقهما وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الرحم، يقو جل ذكره: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(الاسراء: الآية23) فقد قضاه وأمره وأوجبه سبحانه وتعالي بأن لا يعبد إلا هو.
ومع عبادته سبحانه وتعالي يقوم بر الوالدين وصلة الأب والأم وصلة الرحم.
وأنظر لهذه الصورة العجيبة للأب وهو محدب الظهر، قليل الصبر، قد شاب رأسه ولحيته.
وصورة الأم وهي شمطاء الرأس ، فقد دنت من القبر، وأصبحت تتلهف علي شبابها وصباها الذي أنفقته في تربية هذا الابن ، فلما ترعرع وقوي ظهره واشتد ساعده كان نكالاً وغضباً ونكداً علي والديه.
( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ)(الاسراء: الآية23)، حتى كلمة أف على صغرها عند الناس لا تقال للوالدين.
فقل لي بالله أيهما أعظم، حق كلمة أف أم الذين جحدوا حق الوالدين وعقوهما وجعلوا جزاءهما السب والشتم والغلظة والنكال والقطيعة؟
حتى أنه وجد في المجتمع من يعيش في الفلل والشقق البهية، ويركب المراكب الواطية ويأكل الموائد الشهية، ووالده في فقر وفي حاجة ملحة وفي ضنك لا يعلمه إلا الله.
أي قلوب هذه القلوب؟
وأي أرواح هذه الأرواح؟
وقد بكت العرب في جاهليتها وإسلامها العقوق، وتوجعت واشتكت إلى بارئها منه.
في الأدب والسير ، أن أعرابياً وفد على الخليفة وهو يبكي.
قال الخليفة: ما لك؟
قال : اصبت بأعظم من مصيبة المال.
قال: ما قصدك؟
قال: ربيت ولدي، سهرت ونام،واشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب ظهري من الأيام والليالي تغمط حقي، ثم بكى وقال:
وربيته حتى تركته أخا القوم
واستنغنى عن الطر شاربه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي
لوى الله يده الذي هو غالبه
قيل : فلويت يد الابن وأصبحت وراء ظهره.
وفي السير وبعض التفاسير كالكشاف بأسانيد فيها نظر، أن رجلاً وفد على الرسول صلي الله عليه وسلم يشتكي قال: (( ما لك ؟)).
قال: مظلوم يا رسول الله من ابني.
قال (( أي ظلم؟)).
قال: ربيته، فلما كبر وضعف بصري، وضعف عظمي، ودنا أجلي، تغمط حقي فقابلني بالغلظة والجفاء.
قال صلي الله عليه وسلم : (( هل قلت فيه شيئاً؟)).
قال: نعم، قلت فيه:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً
تعل بما أجري عليك وتنهل
إذ ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلا شاكياً أتململ
يقول ك ما هذا جزائي، وما هذا رد الجميل، وما هذا حفظ المعروف، حتى الليلة التي تسقم فيها أبقي معك.. أنت السقيم ولكن أخذت السقم عنك، وأنت المريض فأخذت المرض منك.
وحق للقلوب اللينة، وللعيون الرقراقة بالدموع، أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت منها قلوب الوالدين.
فهل أظلم وهل أكبر وأشنع من أري تري ابنك وق أصبح في مصاف الرجال، وقد أعطيته شبابك وزهرة ولذة روحك وشذا نفسك، ثم رد عليك الجميل بالقبيح، فإذا صوته في البيت صائل.. لا ينفذ لك أمراً.. ولا يخفض لك جناحاً؟
إنها يا عباد الله مأساة ما بعدها مأساة.
يقول صلي الله عليه وسلم وهو يسأل عن الأعمال الصالحة أيها أزكى وأيها أعظم؟
قال : ((الصلاة لوقتها))
قيل : ثم أي ؟
قال : (( بر الوالدين)).
قيل: ثم أي؟
قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
ويسافر صلي الله عليه وسلم بالقلوب ويحدثها عن رجل من بني إسرائيل كان باراَ بوالديه.(/1)
ويا عجباً أن يوجد في اليهود والنصارى من تلين قلوبهم لوالديهم وهم أحفاد القردة والخنازير، وهم أعداء الله ، وهم الذين لعنهم الله من فوق سبه سماوات.
ويوجد في بلاد المسلمين من قسا قلبه، ومن طمس علي فكره، فلا يلين قلبه أبداً.
عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (( أنطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله تعالي بصالح أعمالكم.
قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (2) قبلهما أهلا ولا مالا ، فنأي بي طلب الشجر يوماً فلم أرح (3) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت ـ والقدح علي يدي ـ
أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون (1) عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه ..)) الحديث.
عباد الله، إن العقوق مأساة وجدت في المجتمعات وفي البيوت، وأصبحت من أعظم المشكلات على الأباء والأمهات مشكلة الابن.
وفي بعض الآثار يود الرجل في آخر الزمان أن يربي جرو كلب ولا يربي ابنا (3).
نعم .. وجد هذا، ورأينا ورأي غيرنا الآباء الذين أصبحوا في الشيخوخة وهم يتباكون ويتضرعون ويجأرون من هذه الذرية الظالمة.
فهل من عودة يا شباب الإسلام إلى الله؟
وهل من بر وجوده مع الآباء والأمهات؟
يأتي رجل للرسول صلي الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟
قال : (( أمك))
قال: ثم من؟
قال : (( أمك)).
قال : ثم من؟
قال: (( أمك)).
قال : ثم من؟
قال: ((أبوك)) (1).
فالأم لها ثلاثة أرباع الحق، فهي التي حملت وأرضعت وألحقت وأدفأت ، فجزي الله آباءنا وأمهاتنا خير الجزاء، وأسقاهم الله من الحوض المورود ، فلا يظمؤون بعد تلك الشربة أبداً.
نعم.. إن بر الوالدين قضية كبري، ومن فوائد بر الوالدين:
ـ أن يهديك سواء السبيل.
ـ وأن يصلح الله ذريتك.
ـ وأن يمدك بعون منه .
ـ وأن يسددك ي أقوالك.
ومن آثار العقوق: اللعنة من الله )فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:23،22).
قال بعض أهل العلم: أصمهم فلا يسمعون ، وأعمى أبصارهم فلا يتدبرون ولا يتفكرون ولا يعقلون.
قال تعالي: )وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25) .
وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( لا يدخل الجنة قاطع))، وهو من قطع رحمه ووالديه، قطع الله حبله من السماء، وقطع ذمته وعهده.
ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم : (( لم خلق الله الرحم تعلقت بالعرش وقالت: يارب هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
قال: ألا ترضين أن اصل من وصلك، واقطع من قطعك؟
قالت : بلي يا رب.
قال: فذلك لك، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)).
فأنزلها الله في الأرض.
والغريب أن الجاهليين وهم يعبدون الوثن يفتخرون بصلة الرحم.
يقول المقنع الكندي الجاهلي:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبيت بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هتكوا مجدي بنيت لهم مجدا
ولست بأحمل حقداً عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
عباد الله.. لقد كان أرق الناس وأحلم الناس الرسول صلي الله عليه وسلم ولذلك ذكر الله خلقه ومجد أنفاسه في القرآن فقال: )وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
وقال : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك)(آل عمران: الآية159).
وقد بلغ في صلة الرحم مبلغاً عظيماً ضرب به المثل على مدي التاريخ.
فما سمعت الدنيا بأوصل منه صلي الله عليه وسلم .
قام أقاربه وأبناء عمه فأخرجوه من مكة وطاردوه وشتموه وسبوه وآذوه ، وحاربوه في المعارك، ونازلو في الميدان، وقاموا عليه بحرب عسكرية وإعلامية واقتصادية.
فلما انتصر ماذا فعل؟
لقد دخل مكة منتصراً ، ووقف له الأعلام مكبرة، وطنت لذكر نصره الجبال، فوقف على حلق باب الكعبة صلي الله عليه وسلم وهو يقول للقرابة والعمومة : (( ما ترون أني فاعل بكم))؟.
فقالوا ـ وهم يتباكون ـ : أخ كريم وابن أخ كريم.
فيقول : (( اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وكأنه يقول: عفا الله عنكم وسامحكم.(/2)
ويأتي ابن عمه أبو سفيان بن الحارث فيسمع بالانتصار وهو قد آذى الرسول صلي الله عليه وسلم وسبه، فيأخذ أطفاله ويخرج من مكة، فيلقاه على بن أبي طالب فيقول: إلى أين تذهب؟
قال : أذهب بأطفالي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعرياً، والله إن ظفر بي محمد ليقطعني إرباً إرباً.
فيقول على وهو يعرف الرسول صلي الله عليه وسلم : أخطأت يا أبا سفيان ، إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أوصل الناس وابر الناس، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: ) لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف: الآية92)
فهل من مقتد بأفعاله وأخلاقه؟ فإنه هو الأسوة الحقة، وإن اتباعه نجاة من العار والدمار.
تأتيه أخته صلي الله عليه وسلم وقد ابتعدت عنه ما يقارب أربعين سنة وهي لا تعرفه وهو لا يعرفها، فقد مرت سنوات، وأيام وأيام، وأعوام أعوام، فتأتي لتسلم على أخيها من الرضاعة وهو تحت سدرة، والناس بسيوفهم بين يديه وهو يوزع الغنائم، فتستأذن ، فيقول لها الصحابة: من أنت؟
فتقول : أنا أخت الرسول صلي الله عليه وسلم من الرضاعة، أنا الشيماء بنت الحارث، أرضعتني أنا وإياه حليمة السعدية.
فيخبرون الرسول صلي الله عليه وسلم فتترقرق الدموع في عينيه، ويقوم لها ليلقاها في الطريق ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد طول المدة وبعد الوحشة والغربة، ويجلسها مكانه ويظللها من الشمس (1).
تصوروا رسول البشرية ، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، يظلل هذه العجوز من الشمس لرضعة واحدة؟
فأين الذين قطعوا عماتهم وخالاتهم وبناتهم وأخواتهم، بل حتى الميراث الذي أحله الله لهن حرموه عليهن.
وقد سمعنا من العجائز الطاعنات في السن من تقف الواحدة تبكي وتقول : ظلمني..أنصفني الله منه.
فيسأل الرسول صلي الله عليه وسلم أخته عن أحوالهم ثم يقول لها: (( اختاري الحياة هنا أو تريدين أهلك؟)).
فتقول : أريد أهلي (2).
فيعطيها المال ليعلم الناس صلة الأرحام.
عباد الله .. أوصيكم ونفسي بصلة الأرحام وببر الوالدين، ففيهما الخير الكثير والأجر العميم من الله سبحانه، وفيهما من تقريب القلوب لبعضها وإزالة الشحناء والغل فيما بينهما.
فبروا آباءكم وأمهاتكم ، وصلوا أرحامكم لتدخلوا الجنة مولاكم.
فقد قال صلي الله عليه وسلم كما سبق : (( لا يدخل الجنة قاطع))، أي قاطع رحم.
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
شكوى الوالدين
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً على الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد..
بينما الحجاج مشغولون بالطواف في الحرم، والشمس حارة والزحام كثيف ، والناس واقفون عند الكعبة المشرفة يسألون المولي جل جلاله..
كان رجل من أهل اليمن يحمل لأمه على كتفيه، وقد تصبب عرقه واضطراب نفسه، وهو يطوف بها لأنها مقعدة، ويري أن من الواجب عليه أن يكافئها ، لأنه قد كان يوماً ت الأيام حملاً في بطنها ثم طفلاً في حضنها.
سهرت لينام، وجاعت ليشبع، وظمئت ليروي، فظن أنه كافأها حقاً
وكان ابن عمر الصحابي الجليل واقفاً عند المقام.
فقال الرجل: السلام عليك يا ابن عمر، أنا الابن وهذه والدتي، أتري أني كافأتها؟
قال ابن عمر : والذي نفسي بيده ولا بزفرة من زفراتها.
فكل هذا التعب والإعياء والجهد لا يساوي زفرة واحدة زفرتها في ساعة الولادة.
هذه صورة واحدة من صور المعاناة التي يقدمها الوالد وتقدمها الوالدة لهذا الإنسان.
جلس الرسول صلي الله عليه وسلم بين أصحابه، وإذا بشيخ كبير يدلف عليهم يتكئ علي عصاه، وقد احدودب ظهره ورق عظم واشتعل رأسه شيباً.
وقف علي رأس المعلم الجليل يشكو إليه من مظلمة من أبنه الذي عقه وتولي عنه في كبره.
فقال : يا رسول الله ابني ظلمني، ربيته صغيراً ، فجعت ليشبع، وظمئ ليروي ، وتعبت ليرتاح.
فلما اشتد ساعده تغمط حقي وأغلظ لي ولوي يدي.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( وهل قلت فيه شيئاً))؟
قال: نعم يا رسول الله.
قال: (( ماذا قلت))؟
قال: قلت:
غدوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعمل بما أجري عليك وتنهل
إذا لليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها بدا ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فدمعت عيناه صلي الله عليه وسلم وقال: (( علي بالابن)).
فذهب الصحابة فقادوا ابنه فإذا هو في جسم البغل!
فأوقفه أمامه وأخذ بتلاليب ثوبه وقال: (( أنت ومالك لأبيك)) ، والمعني : أنت كمثل الرقيق لهذا الوالد يبيعك ويشتريك، فما أنت إلا من متاعه ودنياه.(/3)
وهذه الصورة تتكرر كثيراً في عالم اليوم، مرات من أناس شبوا علي الطوق وقويت سواعدهم واشتدت كواهلم وكبرت جماجمهم، فعقوا ربهم أولاً فما عرفوا بيوته، وأعرضوا عن كتابه وع سنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
ثم عقوا الوالدين في وقت الضعف
فلم نعد نرى إلا الشيوخ والعجائز وهم يبكون من ذلكم العقوق الأليم.
وكم رأينا من طاعن في السن يدب على الأرض دبيباً يشكو ابنه.
ونحن نرفع شكواه إلي الواحد الأحد الذي ينصف سبحانه، والذي لا تسقط عنده مظلمة.
يروي لنا المعصوم صلي الله عليه وسلم قصة ثلاثة خرجوا إلي الصحراء من بني إسرائيل، فأظلم عليهم الليل البهيم، فصعدوا جبلاً ودخلوا غاراً ، فانطبقت عليهم الصخرة فسدت أبواب الغار، فلا اتصال ولا عشيرة ولا قبيلة ولا أهل.
وهذه ساعة الاضطرار، )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء)(النمل: الآية62).
ولا يجيب المضطر إلا هو سبحانه، ولا يكشف المكروب إلا هو سبحانه، ولا يفرج عن المغموم إلا هو سبحانه.
ولقد ذكرتك والظلام مخيم والأسد تزأر في ربا الصحراء
في وحشة لو غبت عني ساعة لوجدتني شلوا من الأشلاء
ضل الطريق فقمت أدعو في الدجي متضرعاً في حندس الظلماء
فأتوا يدفعون الصخرة فما اندفعت، وليس عندهم لا طعام ولا كساء ولا شراب.
بل هو الموت المحقق.
فاتصلت حبالهم بحبال الله، والتجأوا إليه سبحانه.
فقال قائل منهم: والله لا ينجيكم أحد إلا الله، فادعوه بصالح أعمالكم.
فقام الأول فتذكر أعماله فما وجد أحسن ولا أطيب من بره بوالديه.
فخاطب الله علام الغيوب الذي يعلم السر واخفي وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان شيخان كبيران وكنت لا أقدم عليهما أهلاً ولا ولداً، وقد غبت يوماً فأتيت وإذا هما نائمان فحلبت غبوقهما ـ أي لبنهما في الليل ـ فقمت بالإناء علي رأسهما حتى طلع الصباح والصبية يتضاغون ( أي يصيحون ) تحت قدمي أحداً عليهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك فاكشف عنا ما نحن فيه.
فانزاحت الصخرة قليلاً عن باب الغار غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
فقام الآخر .. إلى آخر الحديث المشهور.
ويقول المعصوم صلي الله عليه وسلم : (( لا يدخل الجنة قاطع)).
ويقول صلي الله عليه وسلم : (( لما خلق الله الرحم تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة))، أي: أشكو إليك القطيعة في الدنيا فأنصفني من القاطع.
(( قال الله لها : ألا ترضين أن اصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلي، قال: فذلك لك)).
فالقاطع يقطعه الله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد22،23) .
وقد قرن سبحانه حقه بحق الوالدين في القرآن كثيراً، فقال: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:23/24).
فكلمة (أف) علي صغر حروفها لا يجوز أن تقال للوالدين.
فكيف بمن تنعم في القصور والفلل وأهان والديه؟
وكيف بمن قدم زوجته على أمه؟
وكيف بمن أغلظ في الخطاب وعصى في الجواب؟
إنها صور تتكرر في مجتمعنا ونراها ونسمعها كثيراً.
فليت أصحاب العقوق يتعظون بتلكم الآيات والأحاديث التي تحذرهم من هذا المسلك الأليم، الذي لا يستحقه الأبوان اللذان تعبا وشقيا وربيا.
وليتهم يعتبرون بقصص الصالحين وببرهم بوالديهم.
كان ابن سيرين يقدم لوالدته الطعام ولا يأكل من الإناء الذي تأكل منه خشية أن تسبق يده إلى لقمة تشتهيها.
وكان الإمام أحمد على جلالته يخدم والدته في البيت حيث لم يكن لها إلا هو بعد الله معيناً.
فكان يصنع طعامها ويكنس بيتها ويقوم بالأعمال عنها.
وللعقوق صور كثيرة، منها عقوق الوالدين كما سب وهو اشهره.
ولكن هناك عقوق من نوع آخر، وهو عقوق الأمة لبارئها كما نري، حيث انصرفت عن دينها وعن طاعة ربها وأصبحت تقلد الكافر البعيد في كل أحواله وسلوكياته، متوهمة أن التطور والحضارة يكونان في ذلك التقليد وتلك التبعية.
وما علمت أن الحضارة والرقي هي في التميز بشخصيتها وتحقيق كتاب ربها وسنة نبيها صلي الله عليه وسلم على الواقع.
اسأل الله أن يسدد هذه الأمة ويعيدها إلى مجدها من جديد لتكون خير أمة أخرجت للناس.
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
استعاذ الرحم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد ..(/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه تبارك وتعالي قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.
قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك؟
قالت: بلي يا ربي.
قال: فهو لك)).
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( فاقرأوا إن شئتم : : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد22،23) .
في هذا الحديث مسائل أولها: قوله صلي الله عليه وسلم : (( لما خلق الله الخلق)).
قال أهل الحديث: المقصود من الخلق خلق السماوات والأرض.
وقال ابن حجر: قد يكون لما خلق الله الخلق يعني لما كتب تقدير الخلق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض.
أقول: هذا خطأ وبعيد، وهو يخالف ظاهر الحديث، فإن الرسول صلي الله عليه وسلم أخبرنا جهارا أنه تعالي قد خلق الخلق أي انتهي من ذلك سبحانه وتعالي.
والمقادير كما تعلمون، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، كتبها الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في الحديث: (( إن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة))، فهو في كتاب عنده على العرش سبحانه وتعالي.
وفي الكتاب نفسه: (( إن رحمتي وسعت كل شيء))، وفي الكتاب: (( إن رحمتي سبقت غضبي)).
فنسأل الله أن يرحمنا وإياكم.
وقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام كما هو مبين في القرآن.
(( حتى إذا فرغ من خلقه))، يعني انتهي سبحانه وتعالي من خلق الخلق وتكوين السماوات والأرض.
(( قالت الرحم)) : أي الرحم الموصولة.
وبعضهم يقول: رحم المرأة لأنه مكان الحمل.
والذي يظهر: أنها العلاقة التي تربط الناس بعضهم ببعض.
قال تعالي: ) وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ )(النساء: الآية1).
فقالت : (( هذا مقام العائذ بك من القطيعة)). فتكلمت الرحم.
فهل تكلمت بلسان المقال أم الحال؟
المعتزلة يقولون في مثل هذا: تكلمت بلسان الحال، كقولة سبحانه وتعالي عن السماوات والأرض: ) قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت: الآية11)لا بصوت وإنما بلسان حالها.
وأهل السنة يقولون : لا.. بل نحمله على الظاهر وأنها تكلمت حقيقة، لأن الله أخبرنا أنها تكلمت.
فلماذا نصرف ذلك عن ظاهره؟
وفي رواية مسلم: أنها أخذت بقائمة العرش.
وفي رواية أخري صحيحة: أنها تعلقت بعرش الله كالشاكية تعوذ إلى الله من الذي يقطعها.
لأن المستجير يتعلق بمن به ويلتجيء إليه، ولذلك قالت: (( هذا مقام العائذ بك))، يعني: قمت يا ربي مقاماً أعوذ بك من القاطع وأستعيذ بك من القطيعة ، فأنقذني وأنجدني.
ولا يكون الالتجاء والعوذ إلا إلى الله سبحانه وتعالي، فقوله تعالي: ) فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(النحل: الآية98).
وهو يعيذ سبحانه وتعالي ويحير عليه.
ولذلك لما سحر عليه الصلاة والسلام أنزل الله عز وجل قوله:(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق:1) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس:1).
فالاستعاذة تكون بالله، وإنما أشرك من أشرك من العرب لأنهم كانوا يستعيذون بغير الله.
فكانوا مثلاً يستعيذون بسيد الوادي من الجن.
قال تعالي: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (الجن:6) .
فالعوذ إنما يكون بالله، ولا يملك أن يعيذ إلا الله، لأنه صاحب المنعة.
ولذلك لأم سبحانه وتعالي من أتخذ إلها غيره فقال: )وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) (الفرقان:3) .
وفي كتب الأدب أن أحد الشعراء من الأندلس دخل على سلطان من سلاطين الدنيا فقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فسكت السلطان المجرم، وأقره عليه الناس وما أنكروا.
فأخبره الله من هو الواحد القهار، ومن هو الذي بيده مقاليد كل شيء.
فابتلي الله هذا الشاعر بمرض عضال أعيي به الأطباء، حتى أنه كان ينبح كما ينبح الكلب علي فراشه، ويتقلب ظهراً لبطن ليلاً ونهاراً.
لأن الله أراد أن يذيقه معني هذا البيت.
وفي الأخير انتبه الشاعر من سكاره، وأخذ يقول وهو في مرض الموت وقد أصبح جلداً على عظمك:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقي
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
قالوا للإمام احمد: ما هو التوكل؟
قال: التوكل كما فعل إبراهيم لما أصبح قريباً من النار قال: ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: الآية173).
ويذكرون في ترجمة إبراهيم عليه السلام أنه لما وضع في المنجنيق فأصبح بدل القذيفة...(/5)
فتولي عنه الأصدقاء والأحباء والقرابة، فأصبح التوحيد في باطنه وفي قلبه مثل الجبال لأنه سيد الموحدين مع رسولنا صلي الله عليه وسلم .
فقال جبريل له وهو في الهواء: يا إبراهيم ألك إلى حاجة؟
وجبريل عليه السلام بإذن الله باستطاعته أم ينقذه.
فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
فما أصبح قريباً من النار قال: ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: الآية173) النبي صلي الله عليه وسلم فلما أصابه سوء.
وفي صحيح البخاري موقوفاً على ابن عباس قال رضي الله عنهما: ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: الآية173). قالها إبراهيم لما ألقي في النار، ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وقالها محمد صلي الله عليه وسلم لما قيل له: ) إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: الآية173). الجواب: )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174) .
وتقدم كثيراً قصة خالد بن الوليد لما أتي إلى معركة اليرموك وكان جيشه يقارب ثلاثين ألفاً وجيش الروم مائتان وثمانون ألفاً.
فلما التقي الجيشان واصطف الجمعان وتبارز الفريقان قال أحد المسلمين لخالد: ما أكثر الروم وما أقلنا!
قال خالد: لا والله، بل ما أكثرنا وما أقل الروم، لأن الله معنا سبحانه وتعالي.
قال مسلم آخر: أظن يا خالد أنا نفر اليوم إلى جبل أجا وسلمى.
قال: لا والله لا نفر إلى جبل أجا وسلمى، ولكن نفر إلى الله : ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: الآية173).
وبدأت المعركة فانتصر خالد، لأن الله حسيبه وهو كافيه سبحانه وتعالي.
قال : (( قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة))، أي: أعوذ بك يا رب ممن يقطعني في الحياة لأن قاطع الرحم استحق اللعنة من الله، ففي الكتاب الحكيم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّه)(محمد: 22/23). فهو ملعون.
يقول جعفر الصادق لابنه: يا بني لا ترافق ثلاثة:
1- لا ترافق الفاجر فيعديك بفجوره.
2- ولا ترافق قاطع الرحم، فإنه ملعون في السماء ملعون في الأرض.
3- ولا ترافق البخيل، فإنه يبيعك وأجيرك من القاطع.
قال الله: (( نعم))، يعني أعيذك وأجيرك من القاطع.
ثم قال سبحانه : (( إما ترضين أن اصل من وصلك وأقطع من قطعك))؟
قالت: (( بلي)).
والجواب ببلي لأن العرض كان بأداة الاستفهام.
ولذلك لما قال سبحانه وتعالي: ) أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى )(لأعراف: الآية172).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم، لكفروا ، لأنه لا يجاب عند الاستفهام بنعم، لأن معناها يكون حينئذٍ التقرير بالمذكور ، فكأنهم يقولون والعياذ بالله: نعم لست بربنا!
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( أقرأوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّه)(محمد: 22/23).
يقول سبحانه: إذا فعلتم ما فعلتم وكفرتم بالله فما بقي عليكم إلا أن تقطعوا أرحامكم ، هذا مجمل معني الآية.
وهذا كما تقول للإنسان إذا أذنب واخطأ: ما بقي عليك إلا أن تترك الصلاة، أو إذا شئت اترك الصلاة.
وأنت لا تقره على ذلك لكنك تتهدده وتنذره.
فالله يقول: إذا توليتم عن الإيمان فلن يبق إلا أن تقطعوا أرحامكم ، فهو أهون ذنباً من ترك الإيمان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)).
قوله: (شجنه) ضبطت ( شجنة) و ( شجنة).
والشجنة: القطعة من الشيء.
والشجون: المنحيات في الوديان.
والشجون كذلك: العروق في الجسم.
والشجون: هي الأحاديث التي يأخذ بعضها ببعض. تقول العرب: الحديث ذو شجون، أي الحديث يأخذ بعضه ببعض ، تقول العرب: الحديث ذو شجون، أي الحديث يأخذ بعضه ببعض، والحديث مشوق لا ينتهي الإنسان من حديث إلا ويبدأ في حديث آخر، كما يقول ابن الرومي:
وحديثهما السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز
ويقولون : الشجن الأسى واللوعة ، أنا ذو شجن أي أنا ذو أسى ولوعة.
وأشجاني كذا: أي ذكرني وأطربني.
تذكرت والذكرى تهيج على الفتي ومن عادة المحزون أن يتذكرا
والشجنة هنا القطيعة من الشيء ، يعني من الرحمن.
قيل : فيض من فيوضاته سبحانه وتعالي.
وقيل: خلق من خلقه، فتكون إضافتها من باب التشريف أي أن الله خلقها سبحانه وتعالي.
أو اشتقت لها اسماً من اسمه تبارك وتعالي( الرحمن) ، وهذا الاشتياق للتشريف.(/6)
وبعض أهل العلم من أهل السنة يقولون: إن اسم الرسول محمد صلي الله عليه وسلم مشتق من اسم الله، لأن الله هو المحمود سبحانه وتعالي وهو صاحب الحمد، حتى يقول حسان:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
قال الله: (0 من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته،))، وهذا كالحديث السابق.
وليعلم أن صلة الرحم المرغب فيها كثيراً هي أن تصل أرحامك الذين يقطعونك وتحرص على ذلك، فهذا أعلى درجات صلة الرحم، لأنه صلي الله عليه وسلم كان يقول: (( ليس الواصل بالمكافىء ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).
أي أن الذي يستحق اسمم الوصل هو من يصل من يقطعه من أرحامه.
ولذلك مر علينا كثيراً قصة الرجل يصل أرحامه ويودهم وهم لا يصلونه ولا يودونه ، فاشتكي إلى الرسول صلي الله عليه وسلم فقال له صلي الله عليه وسلم : (( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) والمل هو: الرماد الحار.
وهذا كما قال الشاعر:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا هتكوا عرضى وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
أسال الله لي ولكم أن يجعلنا ممن يصل أرحامه ليصله الله في الدنيا والآخرة.
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أحوال البيوت
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض.. وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.. والصلاة والسلام على المعلم النحرير، والهادي والبشير النذير، محمد بن عبد الله.
أما بعد..
إخواتي في الله.. لقد حمل آباؤكم هذه العقيدة في الوغي ففتحوا بلاد الفرس والرومان، وحفظوا حدود الله في أيامه وتباعدوا عن طاعة الشيطان.
فانظر لمن تنكب طريقهم؟ من الذين هجروا المساجد والصلاة، وتركوا سنن الرسول ومنهج القرآن، ونادوا بتحرير المرأة وخروجها من بيتها لتخالط الرجال.. وتزاحمهم في كل مكان.
يقول الشاعر فيهم:
أما التلاوة فالغناء لديهم
لعب البلوت وجلسة الدخان
أكلوا الربا وتسابقوا كسبه
وتصارعوا لمخدر فتان
فاستأهلوا غضب الإله فدكهم
بالجوع والتكسير والفيضان
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112)
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً) (8(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً) (الطلاق:8/9) .
في العدد الأخير من جريدة (المسلمون) نبأ مخيف ومرعب.. خبر مزعج ..قصة طويلة لأربع نسوة عرب في بلد عربي يدعي الإسلام.
أولئك النسوة انتقلن إلى بلد عربي آخر فقبضن كمروجات مخدرات.. وهؤلاء النسوة تصل أعمار بعضهن الستين! معهن أطفال وأزواج وبنات وأولاد!
ولكن من نسي الله قطع الله حبله.
فحكم عليهن بالإعدام.. ونحن لا نعترض علي الإعدام .. فهذا أقل جزاء لمثل هذا النموذج من الناس.
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)
إنما نتساءل : ما أسباب هذه الجريمة التي أغضبت الله؟ وما أسباب هذه السقطة التي ما بعدها سقطة؟ ما هو التحليل الاستقرائي والاستنتاج العلمي لهذه المعصية التي يقع فيها المجتمع المسلم صباح مساء؟ وتشارك الفتيات مع الشباب في ترويج المخدرات والزنا والعهر والجلسات الحمراء، وإغضاب الله الواحد الأحد.
السبب هو أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم)(الحشر: الآية19).
بل وحد في بعض المناطق أن بعض النساء بلغت الأربعين وهي لا تصلي! ولا تعرف أحكام الحيض ! ولا أحكام الغسل من الجنابة!
إنه نسيان الله.. إنه الجهل بالدين.
واستبدلوا هذا الإيمان بهذه المغريات الحادثة، كالفيديو الذي يهدم في الساعة الواحدة ما يهدمه جيش نابليون وهتلر في السنة.
وبالمجلة الخليعة التي أصبحت تباع مع الخضروات والخبز.. وتهدم بالصور العارية ما تهدمه الجيوش العالمية في ستة أشهر.(/7)
ثم يوحد معهن زوج أو أب يأكل ويشرب لكنه لا يحمل الإيمان.. لا يحمل الغيرة ولا الغضب لانتهاك حدود الله، فلا يزعجه أن تخرج امرأته سافرة.. متبرجة.. متعطرة..متزينة.. فتذهب الساعات الطويلة في الأسواق . وتخرج الفتاة وتعاكس بالهاتف من شاءت، وتراسل من شاءت.. إلا من رحم الله.
والأب لم يدخل الإيمان البيت، ولم يعلم أهل بيته الصلاة، ولم يدخل لهم الكتيب الإسلامي ولا الشريط الإسلامي.
ولم يصطحب أهله إلى درس إسلامي أو محاضرة إسلامية، فتبقي المرأة جاهلة بالإسلام، تسمع ألف أغنية.. وتري ألف مسلسل.. وتشاهد ألف مسرحية.. وتطالع ألف مجلة.
ولكنها ما سمعت تلاوة للقرآن، أو حديثاً نبوياً، أو محاضرة ، أو درساً.
وقد زاد من هذا التحلل والفساد وجود طبقة من المجتمع الإسلامي تسعي بعلم أو دون علم إلى هدم أخلاقه.. ونشر الرذيلة فيه.. فمثلاً:
إحسان عبد القدوس له أكثر من ثلاثين سنة نشرة يكتب فيها، فيستهزئ بالرسول صلي الله عليه وسلم ، ويستهزئ بالرسالة، ويستهزئ بالدين.. وله كتاب عنوانه ( أنا حرة) ينادي فيه المرأة أن تعصي زوجها وأن تصاحب من شاءت من الناس وان تصادق كل أحد.. ثم يقول : الزنا عرف تقليدي!!
ونجيب محفوظ الذي أخذ جائزة نوبل علي الدجل.. لأنه روج للإلحاد .. ولأنه أداة للصهيونية العالمية.. له قصة بعنوان ( أولاد حارتنا) يستحي الشيطان أن يقرأها! من الخبث والدعارة والانحطاط الذي فيها )أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ )(الجاثية: الآية23)ز
إن اعظم واجباتنا في الحياة أن تكون أمة تشهد على الناس )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )(البقرة: الآية143)، نكون شهداء على الناس إذا قمنا بواجب الله بأنفسنا .. وبدين الله في مجتمعنا .. والشهادة على الناس بأن نشهد على الأمم هل هم مستقيمون أم منحرفون؟ هل هم عاصين أم ضالون؟ هل هم راشدون أم غاوون.
لكن كيف نشهد على الناس إذا كنا منحرفين متهاونين عاصين متمردين على شرع الله؟
يقول تعالي: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: الآية110)، نكون خير أمة إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر.. وهي مسالة ماتت إلا في قلب من رحم الله، وأصبحت عند كثير من الناس، بل الرأي العام، منوطة بفئة من الناس لا يجوز أن يأمر إلا هم .. ولا ينهي إلا هم.. ولا يدعو إلا هم، وهذا خطا.
قال تعالي: )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78/79) .
فواجب علينا أن نهتم بأمر النساء بالمعروف ونهيهن عن المنكر، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم أخبر أن اشد فتنة تقع فيها الأمة هي فتنة النساء.
وأن نستهل موضوع الزواج، وأن نرحب بالصالحين من شباب المسلمين، وأن نمنع تكدس الفتيات في البيوت !
فتاة من الفتيات بلغت الأربعين ، ومنع أبوها أن تتزوج، وغيرها كثير.. فواجب أن ننصح هؤلاء الآباء بعدم المغالاة في مهور بناتهم..
وأن يحرصوا على إعفافهن .. في زمن كثرت فيه الفتن.
فالزواج من سنن المرسلين (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً )(الرعد: الآية38).
فالواجب على المسلمين أن يسهلوا أمور الزواج، فأشرف بنات العالمين فاطمة الزهراء بنت محمد صلي الله عليه وسلم ، أم الحسن والحسين، مهرها درع لا تساوي درهمين.
وبنت سعيد بن المسيب يتقدم لها الوليد بن عبد الملك ابن خليفة المسلمين فيرفضه سعيد.
قالوا : لم؟
قال: أأنقلها من بيت القرآن إلى بيت الغناء والقيان؟
ثم زوجها بدرهمين لفقير من طلابه، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أصول التربية النبوية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة.
اللهم صل على محمد ما تفوح بمسك وفاح، وما ترنم حمام وناح، وما شدا بليل وصاح.
المصلحون يد جمعت هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لم تفعل الأنواء(/8)
وإذا رحمت فأنت في الدنيا أم وأب هذان في الدنيا هما الرحماء
فصلي الله وسلم على بطل الدعوة الرائدة، وأستاذها وموجهها ومعلمها، فما اجتمعنا إلا على رسالته، ولا تآخينا إلا على منهجه، ولا تصافينا إلا على مبادئه الخالدة.
كيف ربي رسول الله صلي الله عليه وسلم أصحابه؟
وكيف أخرجهم عظماء؟
يوم أتي زعماء التراب فمحقوا شعوبهم ليربوا منهم عبيداً وأرقاء.. أتي محمد صلي الله عليه وسلم ليخرج من الأمة العربية البائسة أمة ماجدة خالدة )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)
يا قوميون أين مجدكم قبل الإسلام؟
وأين تاريخكم قبل الرسالة الخالدة؟
فأنتم لا شيء قبل محمد صلي الله عليه وسلم.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت سعى لها
فأمدها مدداً وأعلي شأنها وأمات شانئها واصلح بالها
فهذه الدعوة المباركة تحتاج إلى موجه ومرشد وأستاذ وبطل.
وموجهها وأستاذها وبطلها محمد صلي الله عليه وسلم ، فهو لا يزال يقود الركب بسنته حتى يسلم ويدخلها من باب الجنة صلي الله عليه وسلم .
ظن المستعمر أنه سوف يسحق شبابنا، وسوف يهاجم شبابنا بالمرأة والكأس.
وأبى الله إلا أن يتم نورهن ورد كيد المستعمر في نحره، وأقبلت وجوه الشباب تسجد لله ويقول لسان حالها:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أصول هذه الرسالة خمسة:
أولها: تربية صلي الله عليه وسلم لصحابه على الحب لله ورسوله حباً يقطع من أجله الجسم وتمزق من أجله شغاف الروح.
الأصل الثاني: تربيتهم على الشجاعة والإقدام ، حيث يقتحمون الأسوار ويسلمون أرواحهم للسيوف تمزقها لتدخل جنة عرضها السماوات والأرض.
الأصل الثالث: الصراحة والوضوح.
الأصل الرابع: الرفق الذي سلكه محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم قدم دعوته للناس في أطباق الحب على رياحين المودة، وعلى باقة من الإخلاص والانسجام.
أما الأصل الخامس: فهو تربيتهم على الطموح وعلو الهمة، وأن لا يرضي أحدهم بالدنيا وذهب الدنيا من أجل أن يبيع ولو طرقة عين من مبادئه.
فأما الأصل الأول: فإنه أعظم الأصول، فقد أتي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فجاء اليهود يتعاطسون عنده ويقولون : نحن نحب الله، لكن ما نتبعك ، فكذب الله حبهم وأبطل دعواهم وقال لهم: )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(آل عمران: الآية31) .
)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).
أتي صلي الله عليه وسلم فلقن حب الله عز وجل حبه صلي الله عليه وسلم .
يقول له عمر كما في البخاري : يا رسول الله، والله إنك أحب إلى من مالي ومن أهلي ومن ولدي إلا من نفسي.
قال: (( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك)).
قال: فوالله يا رسول الله إنك أحب إلى حتى من نفسي.
قال : (( الآن يا عمر)).
وعند الترمذي بسند حسنه بعض أهل العلم أن عمر لما أراد العمرة قال له صلي الله عليه وسلم : (( لا تنسنا من دعائك يا أخي)).
قائد عظيم وزعيم عملاق يقول لأحد تلاميذه (أخي).
قال عمر معلقاً: كلمة ما أحب أن لي بها الدنيا وما عليها.
وذهب عمر إلى العمرة ولكن كأنه قد ترك قلبه مع الرسول صلي الله عليه وسلم وأشواقه وأحاسيسه.
بنتم وبنا فما ابتليت جوارحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآفينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
والحب أثبت أصالته في المعركة.
فمن الذي دفع أنس بن النضر أن يهب بسيفه إلى بسيفه إلى أحد فيقول له سعد بن معاذ : عد يا أنس.
قال: إليك عني يا سعد، والله الذي لا إله إلا هو إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
ويموت ويضرب بثمانين ضبرية.
أليس هذا بحب صادق؟
ومن الذي دفع حنظلة الغسيل أن يترك زوجته في أول ليلة ويهب وعليه جنابه، فيقتل نفسه في سبيل الله ويقدم نفسه علامة على الحب، حتى يقول صلي الله عليه وسلم وهو يلتفت إلى السماء ويشيح بطرفه: (( والذي نفسي بيده إني لأرى الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض)).
أليس بحب هذا؟ بلي والله إنه من أعظم الحب وأرقي الحب.
ويأتي عبد الله الأنصاري والد جابر فيتكفن ويتطيب بعد أن يكسر غمد سيفه على ركبته، ويلتفت ويقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها
والجود بالنفس أغلى غاية الجود(/9)
ويذهب للمعركة فيقتل، فيبكي ابنه جابر فيقول صلي الله عليه وسلم : (( لا تبكه، أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)). ويقول النبي صلي الله عليه وسلم في شأنه أيضاً : (( ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك فكلمة كفاحاً، فقال : تمن على أعطك ، قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون))
فجعل الله روحه وأرواح إخوانه الذين قتلوا معه كما جاء في الحديث(( في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل..)).
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأي رضاك أعز شيء فاشترى
هم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم الذين رباهم على الحب.
وعبد الله بن جحش أول من سمي بالأمير يأتي يوم أحد فيقول: يا رب ، اللهم إنك تعلم أني أحبك وهذا مهر البيعة، اللهم إن كنت تعلم ذلك فلاق بيني وبين عدو لك قوي باسه فيقتلني فيك.
لم يقل أقتله، بل قال يقتلني ، فيبقر بطني ويجدع انفي ويفقأ عيني ويقطع أذني، فإذا قلت لي: لم افعل بك هذا؟ قلت: فيك يا رب.
ولذلك فأحباب الله يسارعون إلى محاب الله.
وفي حديث عند الطبراني من قوله صلي الله عليه وسلم : (( يضحك ربك إلى ثلاثة))، ولله ضحك يليق بجلالة لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله.. أحد الثلاثة رجل حمله الحب فسافر في قافلة وتعب من السفر، فلما نزل أصحابه ناموا على الأرض وأما فما نام، قام إلى الماء البارد وتوضأ ، فاستقبل القبلة وأخذ يبكي ويدعو ويناجي الواحد الأحد.
فيقول الله لملائكته: يا ملائكتي انظروا لعبدي هذا: ترك فراشه الوثير ولحافة الدافئ وقام إلى الماء البارد يتوضأ ويدعو، أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة.
أليس هذا بحب؟ بل أعلي من كل حب.
وفي مذكرات لبعض الدعاة أن شاباً مسلماً من بلاد الجزيرة العربية سافر إلى بلاد الإنجليز، إلى لندن، وهناك أعلن توحيده وأعلن صموده وأعلن إيمانه، لأنه خرج من بلاد الحرمين ومن جزيرة التحدي.
سكن في بيت إنجليزي مع عجوز، فكان يقوم مع صلاة الفجر في البرد القارس المثلج، فيتوضأ والعجوز تلاحظه.
فتقول له: أمجنون أنت؟
قال: لا
قالت: وكيف تقوم في هذه الساعة لتتوضأ؟
قال : ديني يأمرني بذلك.
قالت: ألا تؤخر؟
قال: لو أخرت ما قبل الله مني.
فهزت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد، هذه إرادة تكسر الحديد.
أما الأصل الثاني: فتربيتهم على الشجاعة والإقدام.
فالحياة ليست عبودية للمادة أو خوفاً من المستقبل وتأمينه، فالمستقبل بيد الله سبحان وتعالي فهو الذي يؤمنه.
يقولون للشاب في الثلاثين: أمن مستقبلك، فإذا مستقبله زوجة وسيارة وفلة.
يصبح فيقول: أصبحنا وأصبحت الفلة لله، وأمسينا وأمست السيارة لله.
يفكر في الفلة وهو ساجد، وفي الزوجة وهو راكع، وفي السيارة وهو على جبنه.
أي طموح وأي شجاعة هذه؟
ويموت من أجل الفلة، ويحب من أجل الفلة، ويسميها مستقبلاً.
وهذا ليس مستقبلاً، لأن المستقبل أن تكون مؤمناً بالله وأن تهيئ لك مكاناً في جنة عرضها السماوات والأرض.
لقد ربي المربي العظيم تلاميذه على أن يبيعوا أنفسهم من الله سبحان وتعالي.
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
قال ابن القيم ما معناه: أنزل الله حكماً من السماء، أتي به جبريل وأملاه محمد صلي الله عليه وسلم ، ونص المعاهدة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى )(التوبة: الآية111).
فتقدم أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم بالثمن وهو الأرواح، والسلعة وهي الجنة فتبايعوا.
فقال ابن رواحة: يا رسول الله ماذا تريد منا؟
قال: (( أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم)).
قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال : (( لكم الجنة)).
قال: ربح البيع، والله لا نقبل ولا نستقيل.
ثم قم من المجلس.
قال ابن القيم : والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
يرسل صلي الله عليه وسلم حبيب بن زيد رسولاً على مسيلمة الكذاب.
فيقول له مسيلمة: من أنت؟
قال : أتتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال : نعم اشهد.
قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: لا أسمع شيئاً.
فأعاد عليه الكلام ،فأعاد الجواب.
فأمر جنوده أن يقطعوه إرباً إرباً ، وقطعه قطعة، فأخذوا يقطعون منه قطعة فتتدحرج بالدم إلى الأرض.
فيعيد الكلام عليه قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال: نعم أشهد.
قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: لا أسمع شيئاً.
حتى قتله ونحره شهيداً وارتفعت روحه إلى الله، (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (27)(/10)
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (28) (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (29) (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:27-30).
وجعفر بن أبي طالب تقطع يده اليمني في مؤتة فيأخذ الراية باليسرى، فتقطع يسراه، فيحتضن الراية، فتقع السيوف في صدره وهو يقول وهو يبتسم.
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
على إن لاقيتها ضرابها
وخالد بن الوليد بعد قتل القواد الثلاثة في مؤتة أخذ السيف فكسره على رؤوس الأعداء، ثم أخذ الثاني فكسره، حتى كسره تسعة أسياف، فما صبرت في يده إلا صحيفة يمانية.
قال ابن كثير: قتل بذلك بيده اليوم خمسة آلاف.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مجريها
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمي الروم إلا طاش راميها
وعمير بن الحمام يسمع الرسول صلي الله عليه وسلم يوم بدر وهو يقول لأصحابه: (( لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)) فدنا المشركون، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، قال: (( نعم))، قال: بخ بخ. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( أما يحملك على قولك بخ بخ)) قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاءه أن أكون من أهلها، قال: (( فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال : لئنا أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة ، فرمي بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.
ولسنا على الأعقاب تدمي كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وربي صلي الله عليه وسلم أصحابه على الصراحة والوضوح ، وهو الأصل الثالث من أصول التربية، فليس هناك ألغاز ولا مجاملات، ولا نفاق ولا تقية، بل هو وضوح وصفاء.
فأبناء الصحراء يعيشون بصفاء الصحراء.
يأتي رجل كما في الصحيحين فيقول: يا رسول الله هلكت.
قال: وقعت على أهلي وأنا صائم.
قال: (( أعتق رقبة)).
قال: ما أملك إلا رقبتي.. وضوح وصراحة.
قال: وهل أوقعتني فيما أوقعتني إلا الصيام.. يعني ما استطعت أكمل يوماً ووقعت، فكيف أصوم شهرين؟
قال: (( أطعم ستين مسكيناً)).
قال: على أفقر مني!
قال: (( أجلس)).
فجلس ، فأتي النبي بعذق، فقال صلي الله عليه وسلم : (( خذ هذا تصدق به على الفقراء في المدينة)) أو كما قال.
قال: أعلى أفقر منى يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها رجل أفقر منى.
قال: (( خذه وأطعمه أهلك)).
أليس في هذا وضوح وصراحة بلا مجاملة؟
لقد ربي صلي الله عليه وسلم أصحابه على أن يتكلموا بما في قلوبهم، وجعل من خالف قوله فعله من أهل النفاق، ( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم)(الفتح: الآية11).
أما المؤمن فقلبه ولسانه سيان.
يأتيه رجل فيقول صلي الله عليه وسلم : (( اسلم)).
قال : اسلم يا رسول الله ولكن أشترط شرطاً ( وضوح وصراحة).
قال: (( ما هو؟)).
قال : أن تبيح لي الزنا فإني لا أستطيع أن اصبر.
فقام الصحابة يريدون أن يضربوه ويؤدبوه، فقال صلي الله عليه وسلم : (( دعوه)).
ثم وضع يده الحبيبة الشريفة على صدر هذا الرجل وقال: ((أترضاه لأمك؟))
قال: لا
قال: ((أترضاه لأختك؟)).
قال: لا
قال: ((رضاه لابنتك؟))
قال: لا
فقال: (( كيف ترضى للناس ما لا ترضي لنفسك؟)).
قال: أشهد أنك لرسول الله، أتوب إلى الله حتى من الزنا.
تربية خالدة وعلم رائع جميل.
الأصل الرابع: اللين والرفق، فقد أتي صلي الله عليه وسلم بمدرسة اللين والرفق، وما كان اللين والرفق في شئ إلا زانه وما نزع من شئ إلا شأنه.
أرسل اله عز وجل موسى وهارون إلى فرعون فقال لهما وهما في الطريق: )فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44) .
اللين عجيب.
فخذ لك صاحباً خليلاً فإني مبتغي صاحباً مثلي
عزيز منالي لا ينال مودتي إلا مسلم كامل العقل
ولا يلبث الأخذان أن يتفرقوا إذا لم يؤلف روح شكل إلى شكل
يقول صلي الله عليه وسلم : (( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة)).
ويقول الحبيب : (( ألا أنبئكم بأحبكم إلى وأقربكم منى مجالساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً)).
وقال تعالي عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(آل عمران: الآية159) (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) .
يأتي ليصلي صلي الله عليه وسلم ، فيأتي أعرابي من الصحراء ليصلي معه، وفي التحيات يدعو الأعرابي ويرفع صوته ويقول: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً!(/11)
فيسلم صلي الله عليه وسلم فيقول: (( من قال منكم كذا وكذا؟)).
وهو يدري أنه الأعرابي ، لكن يريد أن تأتي من الإعرابي.
فسكت الناس.
قال صلي الله عليه وسلم : (( من قال منكم كذا وكذا؟)).
فرفع الأعرابي يده لينال جائزة!!
فقال: أنا يا رسول الله.
فتبسم صلي الله عليه وسلم وقال ك (( لقد تحجرت واسعاً، إن رحمة الله وسعت كل شيء)).
يقول تعالي: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء)(لأعراف: الآية156).
فما يلبث الأعرابي إلا أن يكمل طريقة ومشواره فيذهب في طرف المسجد فيبول!
فيقوم الصحابة يريدون أن يلقنوه درساً من التعليم لا ينساه أبداً.
فيقول صلي الله عليه وسلم : (( دعوه ، اتركوه)) ويجلسهم صلي الله عليه وسلم ويستدعي الأعرابي ويجلسه لأن الأمر أسهل من ذلك.
ويقول صلي الله عليه وسلم : (( إلى بذنوب من ماء))، فيأتون بذنوب من ماء فيصبونه على بول الأعرابي.
لقد انتهت المشكلة.
فقال صلي الله عليه وسلم للأعرابي : (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من الأذى، إنما هي للتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل)).
فيقوم الأعرابي فيتوضأ ويصبح مسلماً، ويخبرهم صلي الله عليه وسلم أنهم لو ضربوه لدخل النار بسببهم.
ويأتي أعرابي آخر فيجر بردة الرسول صلي الله عليه وسلم فتؤثر حواشيها في عنق وفي كتف الرسول صلي الله عليه وسلم ، فيلتفت صلي الله عليه وسلم ، فيقول الأعرابي: أعطني يا محمد من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا أمك.. وما الداعي لهذا الكلام؟ ولم هذا الحرج؟ ولماذا هذه الجفوة؟
فنظر صلي الله عليه وسلم إليه وتبسم وضحك إليه.
فقام الصحابة يريدون البطش به.
فقال صلي الله عليه وسلم : ((دعوه )) ثم أخذ من يده وأعطاه من مال الله زبيباً وحباً وثياباً وقال: (( هل أحسنت إليك ؟)).
قال: نعم، فجزاءك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء.
قال: (( إذا خرجت فقل لأصحابي ذلك فإنهم وحدوا في أنفسهم)).
فيخرج به صلي الله عليه وسلم فيسأله أمامهم: (( هل أحسنت إليك؟)).
قال: نعم جزاك الله من أهل وعشيرة جير الجزاء.
فتبسم صلي الله عليه وسلم ويقول: (( أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي؟)).
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: (( مثلنا كرجل كان له دابة فرت منه فلحقها، فلما رآها الناس لحقوها فما زادت لا فراراً، فقال الرجل: يا أيها الناس خلوا بيني وبين دابتي فأنا أعرف بها، فأخذ شيئاً من خشاش الأرض وخضار الأرض فأشار للدابة فأتت وأكلت، فأمسكها وقيدها، ولو تركتكم وهذا الأعرابي لضربتموه ثم ارتد فدخل النار)).
وعاد الإعرابي إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.
إن هذا الأصل الرابع من أعظم أصول التربية، وإن الجفاء والغلظة لا تكسبك إلا بغضاً وحقداً، وإن اللين لا يكسبك إلا حباً في القلوب والأرواح.
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: والله ما رآني صلي الله عليه وسلم إلا تبسم وجهي.
ما أحسن البسمة! هي السحر الحلال.
قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟
قل: تبسمك في وجوه الرجال.
وفرق بين المتكبر الجاف الذي لا يبتسم، وإذا تبسم كأنه يقطر عليك بالقطارة، أو كأنه ينفق عليك من دمه ، أو كأنه يمن عليك بالبمسة، وبين من تلقاه بشوشاً طلقاً.
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً اعكوك من نورهم ما يتحف الساري
تروي وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم يسري بها الساري
وفي صحيح مسلم أن معاوية بن الحكم السلمي دخل المسجد فصلي مع الصحابة وراء الرسول صلي الله عليه وسلم ، فعطس رجل، فقال معاوية ـ وهو لا يعرف الحكم ـ : رحمك الله!
فعطس ثانية.
فقال: رحمك الله.
فضرب الصحابة على أفخاذهم ينبهونه.
قال: ويل أمي ماذا فعلت؟
يريدونه يسكت فزاد في الكلام.
فلما سلم صلي الله عليه وسلم قال معاوية: فدعاني بأبي هو وأمي، فما رأيت معلما أحسن منه ولا أحلم منه ولا أرحم منه، ما كهرني ولا سبني ولا شتمني بل وضع يده على كتفي وقال: (( إن هذه الصلاة لا تصلح للكلام، وإنما هي لقراءة القرآن والذكر والتسبيح)).
وأي إبداع بعد هذا الإبداع؟ وأي لين بعد هذا اللين؟
أما الأصل الخامس فهو الطموح وعلو الهمة.
فقد ربي صلي الله عليه وسلم أصحابه علي التعلق بالعالي وترك السفاسف.
ولذلك تجد شبابهم وأطفالهم في زمن الرسول صلي الله عليه وسلم كانوا أصحاب همة عالية وطموح راق، فابن عباس مثلاً من طموحه أنه كان يتابع الرسول صلي الله عليه وسلم في بيت خالته ميمونة ليعلم كيف يقيم الليل وكيف يكون شأنه أثناء الليل.
وابن عمر رضي الله عنهما يتخصص في متابعة حركات وسكنات الرسول صلي الله عليه وسلم خارج بيته وهو لا زال صغير السن.
فلذلك حفظ كثير من السنن التي لم تأت إلا من طريقه.
وهكذا غيرهما.(/12)
فأين أولئك من أطفالنا في هذه السنين ؟ عندما اصبح أكبر طموحهم أن يجمعوا الطوابع أو يضيعوا الوقت في اللعب.
أو أن يكون أحدهم في الكبر تاجراً يملك الملايين أو صاحب منصب يتباهي به عند الناس.
ومن همة الصحابة أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان جالساً معهم يوماً من الأيام، فأخبرهم أن للجنة أبواباً ثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وهكذا..
فقال أبو بكر وهمته تحركه: يا رسول الله أيدعي أحد من تلك الأبواب جميعاً؟
قال صلي الله عليه وسلم : (( نعم يا أبا بكر وأرجو أن تكون منهم)).
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء في الأول
فيسألهم صلي الله عليه وسلم عن حاجتهم فكل منهم اختار شيئاً زائلاً
أنظر إلى الهمة والطموح.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( أعني على نفسك بكثرة السجود)).
هذه نماذج من الهمة العالية التي غرسها صلي الله عليه وسلم في أصحابه.
والنماذج كثيرة من حياتهم الحافلة.
فواجب على كل مرب أن يغرس هذا المبدأ، مبدأ الطموح والهمة العالية في نفوس أبنائه وتلاميذه حتى يتربوا على حب المعالي والمنازل الرفيعة بدلاً من أن تجول طموحاتهم حول السفاسف والأمور الهزيلة.
والله أعلم ، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
إليكم أبها الآباء
الحمد لله الذي جعل الأبناء لعيون الآباء قرة.. وجعلهم لقلوبهم مسرة.. وجعل الأبناء في جبين السعادة درة.. وأوصي بهم وبتربيتهم في الكتاب والسنة كرة من بعد كرة.
والصلاة والسلام على خير الآباء أبي الزهراء .. سيد الأولياء .. وأعظم الأصفياء.. وأجل المربين التبلاء.
واشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعل آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الآباء النبلاء.. إن من أعظم المواهب التي يهبها الله تبارك وتعالي للعيد أن يرزقه الذرية الصالحة الناصحة والأبناء النجباء الأتقياء، حينها تسعد في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا العطاء الرباني يصلح بسببين اثنين:
أولهما: قضاء وقدراً من الحي القيوم، وهداية منه تبارك وتعالي.
وثانيهما: سبب كسبي من العبد بالتربية والتعليم والتوجيه.
فإبراهيم الخليل دعا الله تبارك وتعالي أن يجنب أبناءه الشرك والوثنية: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (ابراهيم:35) ، كأنه يقول: يا رب لا تجعل أبنائي وثنين ومشركين وفجرة ، حينها تنغص الحياة وتتكدر على، وتظلم الدنيا في عيني.
ويقول بعدها بآيات : )رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (ابراهيم:37)، يا رب : أبنائي يقيمون الصلاة فلا تضيعهم يا رب.
أبنائي طائعين أتقياء أخيار فلا تجعلهم ضلالاً ومشركين.
ويقول في سورة البقرة يوم طلب الولاية من الله له ولأبنائه: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)(ابراهيم: من الآية40)، فقال الله: ) لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة: الآية124). ولو كان الأب خيراً باراً سعيداً تقياً فلن تنال ولاية الله ابنه الفاجر، لأن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب ولا واسطة ولا شفاعة، ألا من ارتضي من عباده الأخيار.
وزكريا عليه السلام يشرف على الهرم ويدركه الشيب ويضمحل جسمه، فيلتفت إلى القبلة ويرفع أكف الضراعة إلى الحي القيوم ويقول: ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً(4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً) (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب)(مريم: الآية4ـ6)النبي صلي الله عليه وسلم يقول : يا رب أسألك ابناً صالحاً يرثني في الخير ويدعو لي وأنا في القبر فيكون في ميزان حسناتي.
ويقول الله في سورة الكهف بعد أن حفظ للغلامين الكنز: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً )(الكهف: الآية82).
ويمن الله على زكريا عيه السلام بهداية أبنائه فيقول: ) وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)(الانبياء: الآية90).
ومدرسة التوجيه والتربية في القرآن تعتمد على الوصايا النافعة لا على المبادئ المهزوزة الفاشلة، والتعاليم التي اسقيها أبناء المسلمين في هذا العصر، فنشأ جيل فاسق وفاجر إلا من رحم بك.
يقول لقمان لابنه وهو يعظه: ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: الآية13) أي وصية هذه ؟ وأي تعاليم هذه التعاليم؟ وأي مبادئ هذه المبادئ؟(/13)
وتربية الأبناء أيها الآباء النبلاء الفضلاء الشرفاء تحصل في أمور أفرد بعض العلماء فيها تصانيف، ومن أجل ما تحصل به.. أمور:
أولها: اختيار الزوجة الصالحة.. ويوم تفشل في اختيار المرأة الصالحة سوف ينشأ النشء غير مستقيم ولا مهتد ولا مسترشد.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (( تنكح المرأة لأربع: لماها وانسبها ولجمالها ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك)).
فأهل فارس يتزوجون للجمال.
واليهود يتزوجون للنسب.
وأما أمة محمد عليه الصلاة والسلام فيتزوجون للدين وللاستقامة. فالأم إذا كانت صالحة مرشدة نشأ أولادها حفظة لكتاب الله أخياراً إبرارأ سعداء، يتشرفون بحمل الرسالة ولا يخجلون إذا تلبسوا بالسنة.
والأمر الثاني: يحصل بذكر الله يوم أن يلتقي الرجل بالمرأة.
والأمر الثالث: يوم يقع رأس المولود.
فإن من هدي الإسلام مع هذا المولود أموراً كثيرة:
منها : أن الرسول صلي الله عليه وسلم لما ولد الحسين بن على أذن في أذنه.
لينشأ الطفل على لا إله إلا الله ، ولينشأ على الأذان ، وليغرس في قلبه معالم هذا الأذان ، وليجيب إليه المساجد والرياض الخضرة بتقوى الله وبذكر الله.
أذن صلي الله عليه وسلم في أذنه لتهتز بالوحدانية، ولينشأ قلبه على الصمدانية ، وليكون عبداُ لله من أول يوم.
ومما زادني شرفاً وفخراً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبينا
وفي بعض الآثار ونقل هذا عن عمر بن عبد العزيز ، أنه يقام في الأذن الأخرى فيؤذن في الأذن اليمنى ويقام في الأخرى.
ومنها : أن النبي صلي الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً كما في السنن، وقال عليه الصلاة والسلام: (( كل مولود مرهون بعقيقته يعق عنه يوم السابع)).
ومنها: أن يحلق رأسه ويتصدق بوزنه فضة كما ثبت ذلك في الآثار والأحاديث الصحيحة.
ومنها: أنه صلي الله عليه وسلم سن للآباء تحسين الأسماء للأبناء النبي صلي الله عليه وسلم ففي الصحيح: (( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)).
فليكن اسم ابنك جميلاً، اسماً إسلامياً عربياً قوياً، لا اسماً فيه أنوثة، ولا اسماً فيه تدليع وتدليل، ولا اسماً مستورداً من الخواجات والعملاء والضلال أبناء الوثنية.
ورد عنه صلي الله عليه وسلم أن الناس اختاروا الأسماء الطيبة البديعة المليحة الحسنة، لتكون عنواناً لكم يوم القيامة ويوم العرض الأكبر تدعون بها.
وسنن الإسلام كذلك أن يربي الطفل على تقوى الله، وأن تغرس في قلبه طاعة الله، وأن تزرع في قلبه شجرة الإيمان.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول لابن عباس وهو طفل كما في الترمذي بسند حسن: (( احفظ الله يحفظك)).
ومن أدب الإسلام وهديه مع الأطفال أنه إذا بلغ الطفل السابعة يؤمر بالصلاة، فيقول له الأب: صل معي.. هيا إلى المسجد ... حتى يعتاد ذلك.
ويوم أن يعرف الابن طريق المسجد فلن يعرف طريق السجن ولا الحبس أبداً، ولن يعرف طريق الخمارة ولا المقاهي اللاهية ولا المنتزهات الاغية، ولا جلساء السوء ولا الليالي الحمراء.
فإذا بلغ العاشرة أمر لأمراً جازماً .. واستخدم معه الضرب.
هذه تعاليم سماوية ومبادئ أصلية جليلة لا بد أن تكتب في الصدور لا في السطور.
فإذا ما ترعرع ، فاستصحبه دائماً واحضر به جلسات الخير ومنديات البر ومعالم التوحيد ومحاضرات التوجيه والتربية، ولا تتركه لاعباً ولاهياً في السكك وتأتي أنت تتعلم.. كأنك تهدم من شق وتبني من شق.
ومن الأمور التي يؤكد عليها الإسلام وهي في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم أن يكون الأب قدوة لابنه.
ولم يفشل كثير من الآباء في تربية أبنائهم إلا يوم أن ربوهم بالقول وتركوا الفعل والعمل، (َتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2).
يريد من ابنه أن يكون صادقا بالقول، لكن هذا الأب كاذب يتعدى حدود الله في العمل.
يريد من ابنه أن يكون مصلياً محافظاً على الصلوات الخمس في الجماعة، ولكن هذا الأب لا يعرف المسجد أبداً.
فكيف يهتدي؟
إن الابن في مرحلة الشبيبة يقلد أباه تقليداً تاماً، فمن الهدى ومن الخير ومن السداد والمصلحة يا عباد الله أن نكون قدوة لأبنائنا في البيوت نأمرهم بالخير ونأتيه، وننهاهم عن المنكر ونجتنبه، ليصلح الله لنا الظاهر والباطن.
ومن الأمور المهمة: تعليم الأبناء تعليماً شرعياً يعتمد على الكتاب والسنة.. لا تعليماً ثقافياً سامجاً لا يقود إلى المسجد ولا يجيب إليهم طاعة الله وطاعة رسوله صلي الله عليه وسلم ، ولا يجنبهم المعاصي.(/14)
فينبغي عليك أن تحرص على تحفيظه كتاب الله منذ الصغر ليكبر وقد حفظ وفهم في دين الله ونال الأجر العظيم الذي لن ينساه لك ما دام حياً.
وكذلك ينبغي اختيار الصحبة الصالحة له.. وعدم تركه يتخير من شاء من زملائه الذين قد يكونون من غير أهل الاستقامة والصلاح، لأنه:
عن المرء لا تسال وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
أسال الله أن يصلح للجميع أبناءهم ليكونوا قرة عين لهم وسعادة في الدنيا والآخرة.
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الطفل المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد ..
إذا كان الحديث عن محمد صلي الله عليه وسلم فإنه حديث جميل ومفيد وممتع.
وفي الرسالة سنأخذ جانباً واحداً من حياته العظيمة صلي الله عليه وسلم ، وهو جانب الطفل، فنعرف كيف ربي الطفل؟ وكيف حنا على الطفل؟
وكيف غرس في الطفل الإيمان.
يا طفل غرد في تبسم أحمد
وابسم ضياء جبينه المتلالي
واسعد برؤية خير من وطئ الثري
راعي اليتامي قائد الأبطال
وعناصر هذا الدرس خمسة:
أولها: مكانة الطفل في قلب محمد صلي الله عليه وسلم .
ثانيها: تربية صلي الله عليه وسلم للأطفال.
ثالثها: رحمته بالأطفال صلي الله عليه وسلم .
رابعها : من أحكام الأطفال.
خامساً: الأطفال الكبار أهل الاهتمامات العالية الشاهقة المرتفعة التي غرسها محمد صلي الله عليه وسلم .
أما مكانة الطفل في قلب محمد صلي الله عليه وسلم فهي مكانة عالية جداً ، فقد كان صلي الله عليه وسلم يحنك الأطفال بيده ليشرقوا على نور لا إله إلا الله محمد رسول الله، فينشأ الطفل في عهده صلي الله عليه وسلم أكبر قضاياه في الحياة أن ينصر دين الله، وأن يرفع كلمة لا إله إلا الله، وأن يسجد لله.
ولقد وجد الطفل في الرسول الكف الحانية ، والدمعة المؤثرة، والبسمة الرقيقة ، والدعابة الحية.
ووجد الطفل في الرسول صلي الله عليه وسلم الأب المربي، والشيخ الجليل، والمصلح النبيل. فكان أطفال الصحابة ينهجون نهجه صلي الله عليه وسلم في حركاته وسكناته لأنه مؤثر جد مؤثر، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك)(آل عمران: الآية159).
فهو صلي الله عليه وسلم منذ النطفة الأولي لهذا الطفل المسلم وهو يرعاه ويهتم به.
ففي الصحيحين عنه صلي الله عليه وسلم انه قال: (( لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم رزق بمولود لم يضره شيطان.
وأما إذا ولد الطفل فقد صح عنه صلي الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (( ما من مولود إلا وقد نزغه الشيطان إلا عيسى ابن مريم))النبي صلي الله عليه وسلم أما ترى الطفل كيف يبكي عند ولادته.
سبحان الله! لقد كان في بطن ضيق ولم يبك، فلما خرج إلى أرض فسيحة بكي!.
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أنت تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
وقال الثاني:
ويكفيك من ضيق الحياة وبؤسها
دليلاً بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنه
لفي بطن أم كان بالعيش يسعد
وقال أبو العتاهية في أبيات عجيبة جميلة:
أذان الطفل في الميلاد دوماً
وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه قليل
كما بين الإقامة والصلاة
أي إبداع هذا! معني الأبيات أن الطفل يؤذن في أذنه حين يولد ولكن لا يصلى ولا يصلى عليه، ولكن تتأخر الصلاة إلى موته.. وهي صلاة الجنازة! فكأن الأذان والصلاة هما صلاة واحدة.
وهذا دليل على قصر هذه الدنيا، لأنها شابهت ما بين الأذان والإقامة.
ويولد الطفل لكن يولد على التوحيد ولا إله إلا الله، فما من طفل في العالم إلا ويولد وفي قلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .
فأول ما يقع رأسه على الأرض يقع علي العقيدة الحية، ويقع على الرسالة الخالدة، ويقع موحداً مؤمناً على الفطرة، )ِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(الروم: الآية30).
فلا يولد شيوعياً، ولا علمانياً، ولا ماسونياً، ولا يهودياً، ولا نصرانياً، ولكن يولد حنيفاً مسلماً.
وقد صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))، إذا فهو مسلم، أول ما يأتي الطفل أو الطفلة يولدان على هذا الدين الحنيف.
فإذا وقع الطفل في الأرض كان من هديه صلي الله عليه وسلم أن يؤذن في أذنه .
والأذان في أذن الطفل حديث حسن عند أبي داود وغيره.
وقد أذن صلي الله عليه وسلم في أذن الحسن ابن ابنته.
قال أهل العلم : إنما أذن صلي الله عليه وسلم في أذنه لمقاصد.
منها : أن يلهمه الله التوحيد وأن يكون على الفطرة.
ومنها: أن الأذان إعلان للإسلام.
ومنها: أن الأذان يطرد الشيطان.(/15)
أما الإقامة فحديثها ضعيف، ولكن يكفي الأذان أن يخترق هذه الآذان ليصل إلى القلب فيغرس أشجاراً من الإيمان ومن اليقين ومن الإخلاص.
وطفل ينزل من بطن أمه فيتلقى بالأذان طفل سعيد في الحقيقة، وطفل طيب الأعراق وطيب الأصل وطيب المنشأ بإذن الله.
وكان صلي الله عليه وسلم يحتك الأطفال ـ كما سبق ـ ، والتحنيك أن يأخذ صلي الله عليه وسلم تمراً أو نحوه فيدخل أصبعه الشريفة في فم الطفل قبل أن يأكل فيلقمه إياه.
وكانت المرأة المسلمة إذا أنجبت طفلاً بعثت به إلى معلم الخير في لفائف، ليكون أول ما يباشر بطنه ريق محمد صلي الله عليه وسلم ، الريق المبارك، الريق الصافي، الريق الطيب الجميل.
قال أنس في الصحيح : ولدت أم سليم ابناً لها ـ هذا الابن أخ لأنس من أمه ـ فقالت : أذهب به إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم .
فأخذ أنس الطفل وذهب به إلى معلم الخير، فاستقبله صلي الله عليه وسلم وحنكه بتمرة، فكأن الطفل يمتصها بشوق، فقال صلي الله عليه وسلم : (( انظروا لحب الأنصار التمر)).
وكان صلي الله عليه وسلم يسمي الأطفال، لكنه كان يختار أسماء إسلامية شرعية تقود الطفل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وكان يقول في الصحيح : (( أحب السماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن))النبي صلي الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
وكان يقول : (( اصدق الأسماء همام وحارث)).
قل ابن تيمية ك إنما قال همام لأن الإنسان يهم بقلبه، وهو حارث بحركته دائماً، فجمع بين الاثنين صلي الله عليه وسلم .
والعرب كانت تحب السماء القوية اللامعة ، ولذلك كانوا يسمون بأسماء الأسود كاسم ( حمزة) ( أسامة) ( حيدرة).
أما في عصرنا هذا فقد أصبحوا يسمون الأولاد بأسماء منكرة، إما غير أصلية ولا قوية كأسماء تدل على الأنوثة والرقة.
أو أسماء لا يعرف لها معني ، كاسم ( صنيهيت)، فهو لا فعل ماضي ولا مضارع ولا اسم ولا حرف! و( شليويح)!.
وقد سمي صلي الله عليه وسلم بأسماء الأنبياء، فلما ولد له ولد سماه على اسم إبراهيم الخليل عليه السلام، لأنه كان أشبه الناس بإبراهيم (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ)(آل عمران: الآية68).
وسمي ابن موسى الأشعري ( إبراهيم).
وكان صلي الله عليه وسلم يغير الأسماء المنكرة، فقد اسم (غاوي) على (راشد)، وغير (ظالم) إلى مقسط) وغير (عاصية) إلى ( جميلة)، وغير اسم (بره) إلى ( زينب).
ونهي عن التسمية بيسار ونجيح ورباح لكي لا يقال: أرباح في البيت؟ فيقال: لا .. فيذهب البال إلى التشاؤم.
ومن السنة للطفل أن الرسول صلي الله عليه وسلم أمر بحلق رأسه تفاؤلاً بأن يزيل الله الأذى عنه.
كما يقال عن الحلق في العمرة والحج بأنها تفاؤل بذلك.
ويتصدق بوزنه ورقاً للمساكين، وهذه حكمه عظيمة ربما أدركناها أو لم ندركها، لينشأ متصدقاً ، ولينشا مزكياً، ولينشأ على سنة الرسول صلي الله عليه وسلم .
وأمر صلي الله عليه وسلم بالعقيقة عن الغلام كما في الصحيح: عن الولد شاتان وعن الجارية شاة واحدة.
وكان يكره صلي الله عليه وسلم العقوق ، وصح عنه انه قال صلي الله عليه وسلم : (( كل غلام مرتهن بعقيقته))، فمن السنة أن تذبح شاتين اثنتين إذا ولد لك مولود ذكر، وأما الأنثى فشاة واحدة، لحكمة بالغة ومقصد جميل، استبشاراً بهذا المولود ، ولينشأ على بر وصدقة، ولتطعم جيرانك وإخوانك منها.
فإن الولد الصالح من أعظم النعم، قال زكريا عليه السلام: ) رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)(الانبياء: الآية89) فرزقه الله ذرية صالحة.
والولد الصالح حياة، والولد الصالح أثر، والولد الصالح اتصال لك بالنور والخلود، والولد الصالح يدعو لك بعد الممات فيزيد في عملك الصالح صلاحاً وفي خيرك خيراً وفي برك براً، والولد الصالح يدركك في الشيخوخة فيقم من عضدك ويقوي من ساعدك ويكون لك نعم الأثر.
قال البخاري في الصحيح في كتاب الجهاد (باب) من طلب الولد للجهاد، ثم أتي بقصة سليمان عليه السلام عندما قال: ( لأطوفن الليلة علي مائة امرأة ) وفي لفظ ( على ستين) وفي لفظ ( على سبعين) ، كلهن يلدن مجاهداً في سبيل الله) لكنه لم يقل ( إن شاء الله)، فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت نصف ولد.
فالولد الصالح هو من أحسن ما يكون إذا ولد على الفطرة ونشأ نشأة طيبة، فكان من شكر المنعم سبحانه وتعالى أن تعق عنه بعقيقة، وأن تطعم جيرانك وإخوانك وأحبابك.
وكان صلي الله عليه وسلم يداعب الأطفال بعد أن يكونوا في سنن المداعبة، ويفهموا الكلام، ويفهموا البسمة الحانية والفكاهة.
الفيافي حالمات بالمني تتلقاك بتصفيق مثير
أنت للطفل أب في مهده عجباً من قلبك الفذ الكبير
وعند أحمد والنسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه قال: خرج علينا الرسول صلي الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي صلاة الظهر أو صلاة العصر، فتأخر صلي الله عليه وسلم في السجود.(/16)
أتدرون ما السبب؟ لقد أتي الحسن بن على ابن ابنته فرأي الرسول صلي الله عليه وسلم ساجداً فارتحله وصعد على ظهره.
انظر إلى المنظر! رسول البشرية يسجد في الأرض ض فيرتحله طفل، فيمكث صلي الله عليه وسلم ولا يقوم من السجود، وبعد أن نزل الحسن قام صلي الله عليه وسلم وصلي وسلم واعتذر من الناس وقال: (( يا أيها الناس لعلي تأخرت عليكم في السجود، إن ابني هذا ارتحلتني وأنا في الصلاة فخشيت أن أرفع من السجود فأوذيه)) ، أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
فهل وجدتم رحمة كهذه؟
فكيف لا يحبه الأطفال بعد هذا؟
عن بعض الأطفال اليوم إذا رأوا بعض الناس يخافون ويصيبهم الهلع والفزع.
وبعض الآباء لا يقبل أطفاله، وبعضهم إذا انتهر أطفاله أغمي على أحدهم!
وإذا دخل أبوه عليه في البيت قال لسان حاله: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)!.
وفي الصحيحين أن غلاماً أخاً لأنس اسمه أبو عمير كان له نغر (طائر صغير) يلعب به، فمات النغر فذهب هذا الطفل فأخبر أخاه أنس وقال: مات نغري.
فذهب أنس فأخبر الرسول صلي الله عليه وسلم، فقال صلي الله عليه وسلم لأخيه الصغير: (( يا أبا عمير ما فعل النغير))؟ يقول: احسن الله عزاءك في هذه المصيبة!
فكان يجد من الوقت صلي الله عليه وسلم أن يعزي طفلاً بطائرة.
قال الزنادقة: أهل الحديث لا يفهمون شيئاً، يروون أحاديث لا معاني لها.
قالوا: مثل حديث : (( يا أبا عمير ما فعل النغير))، ليس فيه فائدة.
قال الشافعي: قاتلكم الله، في هذا الحديث ستون فائدة، ثم سردها!
وعودوا إلى فتح البارى لابن حجر فقد ذكر منها عشرين فائدة.
منها: تكنية الصغير.
وتكنية من لا ولد له.
وتصغير الاسم للتحبب.
وملاعبة الأطفال.
والأنس مع الطفل.
وزيادة الطفل في بيت أهله للمصلحة.
ومنها: أن الوقت المباح إذا كان لغرض شرعي صحيح فإنه يؤجر عليه العيد.
ومنها: أخذ الطفل للطائر.
وجواز حبس الطيور في البيوت لملاعبة الأطفال.
ومنها: ربط الخيط في رجل الطائر وأنه ليس من التعذيب.
ومنها: فوائد كثيرة ليس هذا مجال بحثها.
أتته صلي الله عليه وسلم طفلة صغيرة اسمها أم خالد، فوجد عليها ثياباً ممزقة صلي الله عليه وسلم ، وهي طفلة ، فألبسها لباساً ثم قال: (( هذا سنا))، وهذا بلغة الحبشة أي: حسن.. لأنها عاشت مع أمها في الحبشة أيام الهجرة الأولي.
أتظن أن دعابة منه صلي الله عليه وسلم أمر سهل؟
أتظن أن بسمة منه يجود بها لإنسان شيء يسير؟
لا والله، فبعض الناس اليوم يحفظ كلمة من بعض الزعماء أو السلاطين ويقول كلمني وقال لي مباشرة.
فكيف لو كلمك محمد صلي الله عليه وسلم ؟
وعند أحمد بسند حسن أن الرسول صلي الله عليه وسلم صف عبد الله وعبيد الله وكثير أبناء العباس أبناء عمه، وهم ثلاثة صغار بين كل واحد منهم والآخر سنة.
ثم قال: من يسبق إلى فله كذا وكذا.
فأخذوا يتسابقون فسبق أحدهم فأعطاه الجائزة.
سبحان الله !
ربما قال قائل ـ لو قلنا له : افعل هذا مع أطفالك ـ : وقتي ضيق.
ولكن لو عرفت معاني التربية ومعاني الخلود في سيرته صلي الله عليه وسلم لأعطيت هذه الساعة الثمينة من هذا الوقت الضيق.
وعن أنس وهذا صحيح مسلم قال: كان الرسول صلي الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فأرسلني في حاجة، فقلت: والله لا أذهب ! وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله.
هو كان في سن العاشرة تقريباً.
قال : فسكت صلي الله عليه وسلم ، ثم مر بي وأنا ألعب مع الأطفال فأخذ بأذني يضاحكني وقال: (( يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟)).
قلت : سأذهب إن شاء الله ! فذهبت.
ويقول أنس: والله لقد خدمت الرسول صلي الله عليه وسلم عشر سنوات ما قال في أمر فعلته لم فعلته، ولا في أمر لم أفعله لم لم تفعله.
وكان صلي الله عليه وسلم يحمل الحسن والحسين على عاتقه ـ وهذا الحديث عند أبي يعلى بسند حسن ـ فرآه عمر فقال: نعم الفرس تحتكما.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( ونعم الفارسان هما))، أنعم بالحسنـ وأنعم بالحسين، لكن جدهما صلي الله عليه وسلم هو العظيم.
نسب كأن عليه من شمس الضحى
نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وكانت أم قيس بنت محصن تأتيه صلي الله عليه وسلم تستفتيه ، فيأخذ طفلها من يديها ويجلسه في حضنه ليسمع السؤال قبل أن يفتي.
ومرة أخذ الطفل فبال قبل أن تأكل الطعام فنضح بوله صلي الله عليه وسلم .
أي خلق وأي تواضع هذا؟
قال أبو هريرة : كنت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة فانصرف، فانصرفت. فقال: (( أين لكع)) ثلاثاً . (( ادع الحسن بن على))... فالتزمته فقال: (( اللهم إني أحبه، فأحبه، وأحب من يحبه))، وزمرة جده صلي الله عليه وسلم .
وفي كتاب المختارة للضياء أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يلاعب بنت ابنته واسمها زينب وكان يقول: (( يا زوينب يا زوينيب)) ويلاعبها ويمازحها صلي الله عليه وسلم
أما العنصر الثاني فتربية صلي الله عليه وسلم للأطفال.(/17)
لقد كان المعلم الأول، من تربية صلي الله عليه وسلم للأطفال أنه رباهم على الإيمان ، ثم إنه لبي لهم أغراضهم ومقاصدهم الإيمانية المباحة، فلم يحجر عليهم الدعابة.
لأن بعض الناس إذا رأي أطفاله يلعبون أو يصيحون أو ينشدون في البيت غضب عليهم وقال: لا تضيعوا أوقاتكم.
سبحان الله! تريد طفل صغير أن يكون كابن حجر أو كابن تيمية في طفولته.
لابد أ يلعب ، ولابد أن يضحك ، ولابد أن يغرد ، ولابد أن ينشد ، ولكن اجعل لعبه في حدود الشرع، واجعل نشيده ف حدود الأدب.
الأمر الثاني: أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يحيط الطفل بسياج من الآداب الشرعية عند الولادة، وعند التحنيك ، وعند التسمية، وعند العقيقة، وعند النوم، وعند اليقظة، وعند الأكل، وعند الشرب.
صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال ـ كما عند أحمد وأبي داود بسند صحيح: ـ : (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))النبي صلي الله عليه وسلم وفي هذا فوائد:
أولها: أن بداية الأمر في السبع وهو أمر بلا ضرب، لكن تدعوه وتحثه وتحبب إليه الصلاة.
الثانية: أن بداية التعزيز هي سن العاشرة.
الثالثة: أن تفرق بينهم في المضاجع، أي أن يناموا متفرقين لحكم جليلة يعرفها المسلمون.
وكان عمر ابن أبي سلمة يأكل معه مرة من المرات فجعلت يده تطيش في الصفحة، فقال له صلي الله عليه وسلم عدة آداب : (( يا غلام ، سم الله، وكب مما يليك، وكل بيمينك)).
فهي ثلاثة آداب ينبغي على الأب أن يوجه أطفاله إليها: التسمية، والأكل باليمين، والأكل مما يلي الطفل.
وعند الترمذي والنسائي بسند فيه ضعف يقول صلي الله عليه وسلم لأنس : (( يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإنه هلكة))، واستخدم صلي الله عليه وسلم لفظه( يا بني) لأنها محببة وأنيسة للطفل.
ولقمان عليه السلام يوم أوصي ابنه : (يَا بُنَيّ)(لقمان: الآية16) لأنها تجعل الأنس في قلب الطفل، وهي تستخدم لغير الابن من الصلب، فيقال تحبياً ( يا بني).
وكان له صلي الله عليه وسلم في جانب العقيدة مع الأطفال مواقف: يقول ابن عباس والحديث عند أحمد والترمذي : كنت ردف محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم علي حمار.
فقال: (( يا غلام)).
قلت : لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: (( إني أعلمك كلمات)) اسمع إلى الكلمات النيرة.. اسمع إلى الوصايا التي تشري بالدماء ، فهي أغلي من الذهب والفضة: (( أحفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
وصح عند البخاري والدرامي أنه صلي الله عليه وسلم كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم فيقول: (( السلام عليكم ورحمة الله)).
وهذا من التواضع العظيم، لأن المتكبر لا يسلم على الأطفال ولا يسلم على الناس، بل ينتظر من يسلم عليه.
ولذلك (( يحشر المتكبرون يوم القيامة على هيئة الذر يطؤهم الناس)) حديث صحيح رواه مسلم.
فالمتكبرون:
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً
أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروي وتشبع من سيماء طلعتهم
بذكرهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
كان صلي الله عليه وسلم بالليل، فأتاه ابن عباس يصلي معه في ليلة هي من أحسن الليالي في حياة ابن عباس ؛ حيث بات رضي الله عنه عند خالته ميمونة ، لأنه يعلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم سينام عندها تلك الليلة.
فنام في عرض الوسادة، وانتظر حتى جاء الرسول صلي الله عليه وسلم فأوهمهما أنه نائم رضي الله عنه، ونيته من المجيء أن يستفيد من المعلم الأول صلي الله عليه وسلم ، وليعلم كيف صلاته قيامه في الليل.
فلما قام صلي الله عليه وسلم يقضي حاجته أحضر له ابن عباس الماء ووضعه في مكان قريب منه، فلما رأي صلي الله عليه وسلم الماء عنده عرف أنه من ابن عباس فقال: (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)).
وهذه الدعوة النبوية المباركة هي من أعظم ما حازه ابن عباس في حياته كلها، حيث أثرت على مستقبله فجعلته حبر الأمة وترجمان القرآن.
ثم قام صلي الله عليه وسلم يصلي فقام ابن عباس عن يساره ، فجعله صلي الله عليه وسلم عن يمينه، فصلي معه ما شاء الله، ونعم بليلة سعيدة هانئه هي اهنأ من لياليه عند أبيه وأمه.
ومر صلي الله عليه وسلم يوماً من الأيام بابن عمر وهو صغير فأخذ بمنكبه وقال له: (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وهذه وصية ما نسيها ابن عمر رضي الله عنهما، بل بقيت تطن في رأسه حتى مات.
يعطونه الخلافة فيتذكر حديث: (( كن في الدنيا كأنك غريب )).
يقدمون له الذهب والفضة فيتذكر حديث : (( كن في الدنيا كأنك غريب)).(/18)
يسجد عند المقام ويبكي في السجود ويقول: اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة إلا من مخافتك يا رب العالمين.
ومر صلي الله عليه وسلم يوماً فوجد الحسن يأكل من تمر الصدقة؛ وبنو هاشم محرمة عليهم الصدقة، لأنها أوساخ الناس وهم أطهار، قلوبهم طاهرة وبطونهم طاهرة.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( كخ كخ، أما تدري أنا لا نأكل الصدقة)).
و(( كخ كخ)) لفظ تستخدمه العرب زجراً للطفل عن عمل أي شيء غير مناسب.
مات ابنه صلي الله عليه وسلم وعمره سنتان وأشهر، وقيل: أقل من ذلك.. فأخذه بين يديه وقال ودموعه تهراق صلي الله عليه وسلم بأبي وأمي: (( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) فهذا من رحمته بهؤلاء الصغار إذا حلت بهم مصيبة أو كارثة.
وفي الصحيح أن زينب ابنته صلي الله عليه وسلم أرسلت إليه أن يأتي إليها فإن ابنها في سكرات الموت.
والرسول صلي الله عليه وسلم كان مشغولاً بوفد من وفود العرب فقال: (( أبلغوها مني السلام وقولوا لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي، فاتصبر ولتحتسب)).
فأخبروها فقالت : والله ليأتين.
فقام صلي الله عليه وسلم ومعه جل الصحابة، وقدم له الطفل ونفسه تقعقع كأنها في شن، وأخذت دموعه تهراق صلي الله عليه وسلم النبي صلي الله عليه وسلم فيقول ابن عوف: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (( هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
وأتي الأقرع بن حابس ـ والحديث في الابخاري ومسلم ـ وكان صلي الله عليه وسلم يقبل الأطفال.
فقال الأقرع : تقبلون الأطفال عندكم؟
قال : (0 نعم)).
قال: والله إن عندي عشرة أطفال ما قبلت واجداً منهم.
وكان يظن أن الرسول صلي الله عليه وسلم سيقول له: شكراً لك !!
لكنه صلي الله عليه وسلم قال : (( وما أمك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك))، لأن تقبل الأطفال رحمة، وكان يفعله صلي الله عليه وسلم كثيراً.
وصح عنه صلي الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (( غني لأدخل في صلاتي فأتجاوز فيها مما أسمع من بكاء الطفل خشية أن اشق على أمة)).
وعند البخاري أن النبي صلي الله عليه وسلم قال عن الحسن والحسين: (( هما ريحانتاي في الدنيا)).
يقول ابن تيمية في مقتل الحسين بأنه من أعظم المصائب على المسلمين، وعلى المسلم إذا تذكر تلك القصة أن يقول: ( إنا لله وإنا إليه راجعون).
فنحن نحبه في الله لأنه من عباد الله ومن أولياء الله ولقرابته من الرسول صلي الله عليه وسلم .
وفي الصحيحين من حديث أبي قتادة قال: صلي بنا صلي الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قيل العصر وقيل الظهر، فحمل أمامه بنت زينب في الصلاة على كتفه صلي الله عليه وسلم يصلى بها.
فتصور المشهد .. إمام البشرية يجمل طفلة وهو يصلى بالناس صلاة الفريضة بالمسجد.
أي رحمة.. وأي عطف هذا؟
قال: فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها.
وقد صلى الإمام الشوكاني في صنعاء ، فلما سجد سقطت عمامته في المحراب فأخذها وردها.
فأنكر عليه الناس وقالوا: تحمل العمامة وأنت في الصلاة ؟
فقال: حمل العمامة أخف من حمل أمامة؟.
وأما العنصر الرابع فمن أحكام الأطفال، وأنا أعرضها عرضاً موجزاً.
1- أحكام الأطفال أنه ينضح على بول الغلام ويغسل بول الجارية، لما ثبت في الحديث عند أبي داود والترمذي وغيرهما، كما سبق.
وذلك ما لم يأكل الغلام الطعام، فإذا أكل غسل من بوله.
قال الشافعي : لأن حواء خلقت من ضلع آدم فهي من لحم ودم، وأما الطفل فهو من تراب لأن اصل أبيه من تراب.
وهذا اجتهاد منه رحمه الله.
2- تصح إمامه الطفل لأنه ثبت في صحيح البخاري أن عمرو بن سلمة أم قومه وعمره سبع سنوات.
لكن أطفالهم كانوا كباراً في الفهم كباراً في الرجولة. ليسوا كحالنا الذي يبلغ فيه بعض الناس العشرين وهو سفيه.
فليس المقياس بالسن لكنه بالعقل والفهم عن الله عز وجل.
دخل الناس يبايعون عمر بن عبد العزيز وفيهم طفل صغير فسلم وأراد ان يتكلم، فقال عمر بن عبد العزيز: دونك يا طفل فيهم من هو أكبر منك.
فقال : يا أمير المؤمنين ، لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أولى منك بالخلافة!! هل رأيت رداً أحسن من هذا؟
3- متي يجاهد الطفل؟
بين أهل العلم خلاف: فالإمام أحمد يقول: أري في الخامسة عشر للحديث في الصحيحين ، قال ابن عمر: عرضت على رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سن فأجازني.
وقال سمره بن حندب: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستعرض الأطفال للجهاد يريد ان يري من هو القوي منهم فيقبله.
قال: فعرضت عليه فردني.
فبكي سمره.. بكي على ترك الجهاد.
وقبل صلي الله عليه وسلم رافع بن خديج.
فقال سمره: يا رسول الله تقبل رافع بن خديج وأنا اصرعه؟!.
قال: (( صارعه أمام الناس)).
فتصارع هو ورافع فصرعه سمره، فأجاز سمرة.. فهو ما دام صرعه فهذا دليل على أنه يستطيع أن يحمل السلاح ويستطيع أن يقاتل .(/19)
4- وأما سن الرواية وهو التحمل فيختلف باختلاف الأشخاص.
يقول موسى بن هارون أحد المحدثين: إذا فرق بين الدابة والحمار..والدابة هي الحمار!
وبعضهم قال: إذا ميز الخير من الشر.. وهذا أمر نسبي.
وقال بعضهم: بل في السابعة ونحو ذلك.
وقيل: في الخامسة ، أن الحسن حفظ حديث: (( دع ما يريبك إلى ما لا يربيك)) في الخامسة.
والصحيح انه إذا ميز وأصبح عاقلاً يدرك ماذا يقال له واصبح مستعداً للتعليم فإنه يقبل منه.
أما العنصر الخامس وهو الأخير فالأطفال الكبار.
فهم أطفال نعيش معهم في التاريخ، كبار في إيمانهم ، وكبار في مقاصدهم، وكبار في منهجهم وحياتهم.
يعيشون أطفالاً بأجسام الأطفال، لكنهم كبار في معتقداتهم وطموحاتهم ومقاصدهم.
1- ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقد سبق معنا حرصه علي العلم والتعلم والاستفادة من حياة الرسول صلي الله عليه وسلم ، وهمته العالية التي جعلته ينظر للمستقبل ليتخيل نفسه قائداً وعالماً ومفسراً للأمة الإسلامية.. وقد تم له ذلك.
2- أسامة بن زيد يقود الجيوش العظيمة وهو صغير السن، حيث كان في أفراد جيشه كبار الصحابة وفضلاؤهم ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى الخلفاء الراشدون.
فأي علو هذا؟ أن يكون هذا الفتي قائداً لأولئك الغر الميامين.
3- ابن الزبير : أول مولود في المدينة صاحب الحنكة السياسية والدهاء.
وقصته مشهورة مع عمر رضي الله عنه عندما فر الأطفال وهو لم يفر شجاعة وصلابة أمام فاروق الإسلام، فلما سأله قال: لم أعمل جرماً فأخاف منك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك !
فانظر إلى بلاغة الإجابة وحريتها وسموها.
4- أبو محذورة من فتيان مكة، يخرج يرعي الغنم فيعود مؤذناً لأهل مكة ببركة دعاء النبي صلي الله عليه وسلم له.
5- محمد بن القاسم يفتتح الهند والسند وهو فتي كما تعلمون، في جيش قوامه مائة ألف موحد وهو القائد آنذاك.
وهكذا غيرهم من فتيان هذه الأمة وأطفالها الذين كانوا صغاراً في السن لكنهم كانوا كباراً في العقل والفهم والهمة.
أسأل الله لي ولكم قره عين من أبنائنا، وان يجعلهم عبادا صالحين يخدمون هذا الدين الخالد في كل مكان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أحكام المولود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد ..
إنها لبشري سارة ولفتة عجيبة أن يتجه شباب الإسلام أو معظم شباب الإسلام اتجاهاً علمياً إلى الكتاب والسنة، ويحرصوا على ميراث محمد صلي الله عليه وسلم ، ويبدأوا تحصيلهم العلمي جازمين على العودة إلى الله سبحانه وتعالي.
وهي بشري تفرح المؤمن ، لنه لا رسالة إلا بعلم ، ولا علم إلا قال الله وقال رسوله صلي الله عليه وسلم . فالحمد لله الذي جعل من هؤلاء الشباب شباباً يحرصون على العلم النافع المبني على الكتاب وعلى السنة، وعلى تخريج الأحاديث ، وعلى مراجعة أصول الإسلام، وعلى تحقيق المسائل.
قال البخاري...عن سلمان بن عامر الضبي قال صلي الله عليه وسلم : (( مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى))، رواه مع البخاري الجماعة إلا مسلم.
وفي العقيقة مسائل أوردها لكم متتالية:
أولها: تعريف العقيقة.
ثانيها: حكمها.
ثالثها: ما معني إماطة الأذى؟
رابعها: ما معني كل غلام مرتهن بعقيقته؟
خامسها: ما معني تذبح عنه يوم سابعة؟
سادسها: ما معني متكافئتان.
ثامنها: قولها صلي الله عليه وسلم : (( لا احب العقوق لما ذكرت العقيقة ، بينما قال: (( كل غلام مرتهن بعقيقته))، فكيف نجمع بين اللفظين؟
تاسعها: قوله: (( ويطلخ بزعفران)) ، ما معني ذلك؟
العاشر: عقه صلي الله عليه وسلم عن الحسن والحسين.
الحادي عشر: التصدق بالفضة.
الثاني عشر: الأذان في أذن المولود يوم تلده أمه، وهل الإقامة سنة أم لا؟ وتحقيق الكلام في ذلك.
الثالث عشر: استحباب تحنيك المولود وبماذا يحنك؟ وما هو التجنيك؟
الرابع عشر: الأسماء المختارة والأسماء المنهي عنها.
الخامس عشر: هل يجزئ غير الضأن في العقيقة.
السادس عشر: هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية؟
السابع عشر: متي تبح العقيقة؟ وهل تكسر عظامها؟
أقول مستعيناً بالله.
أما العقيقة: فهي مشتقة من العق، وهو القطع والشق.. يقال: عققت اللحم أي قطعتها، وعقت الثوب أي شققته، وعققت الحبل أي قطعته. فهي الشق والقطع، وهي الذبيحة التي تذبح للمولود.
ولا يصح أن تسمي تميمة بل عقيقة، تذبح في اليوم السابع. يقول أحد شعراء العرب:
نفلق هاماً من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
يقول: نقطع رؤوساً عزيزة علينا وأقارب ، لكنهم ظلمونا وجاروا علينا.
استشهد بهذا البيت كما في السير يزيد بن معاوية لما قتل الحسين بن على .
أما حكم العقيقة ففيها أقوال ثلاثة:
1-قال أبو حنيفة: إنها من أعمال الجاهلية ، وأنها ليست بسنة ولا واجب ولا يفعلها إلا جاهلي!(/20)
وهذا القول خطأ منه رحمه الله، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا محمد صلي الله عليه وسلم .
2- وذهبت الظاهرية والليث والحسن البصري إلى أنها واجبة.
واستدلوا بقول الرسول صلي الله عليه وسلم : (( كل غلام مرتهن بعقيقته، فقالوا: ما دام أنه مرتهن فهي واجبة.
3-وتوسط الجمهور فقالوا: هي سنة وليست بواجبة، لقوله صلي الله عليه وسلم في السنن بسند حسن: (( من شاء أن ينسك عن ولده فليفعل ، ومن شاء فليترك)).
أما ابن تيمية وابن القيم فقالا: هي مشروعة.. دون تحديد للحكم.
والأقرب أنها سنة، والأحسن للعبد أن يعق عن ابنه وأن يذبح ، فإن لم يفعل فلا يلزم ولا يحبس ولا يسجن، ولا يطاف به في العشائر والقبائل ويضرب بالجريد والنعال ويقال هذا جزاء من ترك العقيقة عن ابنه!!
لا .. فالأمر أيسر من ذلك.
ما معني إماطة الأذى؟ يقول صلي الله عليه وسلم : (( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى))، الأذى هو: الشعر.
قال ابن سيرسن في سنن أبي داود: ( إن لم يكن الأذى الشعر فلا أدري ما هو).
فمن السنة إذا ولد مولود أن تحلق شعر رأسه، وهو إماطة الأذى.
والشوكاني يعمم ويقول: الشعر وغير الشعر، فالأذى فيه عموم فينظف ويحلق شعره.
وهذه سنة الإسلام.. في سنن أبي داود عن قيس بن عاصم المنقري أنه لما أسلم أمره صلي الله عليه وسلم أن يختتن وأن يلقي عنه شعر الكفر.
قوله : (( كل غلام مرتهن بعقيقته))، ما معني مرتهن؟
لأهل العلم رأيان في قوله:(( مرتهن بعقيقته)).
1- قال الإمام أحمد رحمه الله: (( مرتهن بعيقته))، أي أنه إذا مات وهو طفل لا يشفع في والديه حتى يعق عنه.. لأنه مرتهن أي ممنوع من الشفاعة.
فالطفل يشفع لوالديه إذا مات صغيراً.. ولذلك ندعو له في صلاة الجنازة بأن يشفع لوالديه.
2- وقال بعض العلماء : أي أنه لا يسمي ولا يحلق إلا بعد ذبح العقيقة، فالتسمية والحلق رهينة بالذبييحة.
وهذا كأنه قريب ـ عن شاء الله ـ ولا باس بإدخال قول الإمام أحمد، فالكل ليس عنده دليل تأصيلي تفصيلي، فلا بأس ان يجمع بين هذا القول وقول الإمام أحمد.
متى يذبح عنه؟
السنة أن يذبح عنه في اليوم السابع لحديث أبي داود والترمذي والبيهقي ، وهو حديث صحيح أنها تذبح في اليوم السابع.
فإنه فاته ففي الرابع عشر.
فإن فاته ففي الحادي والعشرين، قاله الترمذي.
وتوقف الشوكاني وطالب الترمذي بالدليل .. لأن ديننا مبني على الدليل.
فنقول للشوكاني وغيره: قد روى البيقهي بسند يقبل التحسين: أنه إذا فات اليوم السابع فتذبح عنه في اليوم الرابع عشر..فإن فات ففي الحادي والعشرين.
فإنك فاتك فلا بأس أن تقضيها ، وإن كبر الابن فعند الطبراني أن الرسول صلي الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما كبر.
ولكن الحديث ضعيف.
وهنا مسائل :
1- هل يجوز أن يتبرع بالذبح عنه غير الوالد؟
الصواب أنه لا يشترط أن يكون الوالد.. لأنه قد يكون فقيراً أو معدماً أو محتاجاً، فتقبل من غيره.
2- ومنها أنه لا بد أن يكون الذبح في اليوم السابع، أما بله فلم يرد بذلك نص ، ولو أن بعض الفقهاء يقولون: يجوز قبل ذلك..لكن هذا مخالف للنص.
3- ورد في بعض الألفاظ ( ويدمي) بدلاً من ( يسمي)،وهو غلط من أحد الرواة. ولكن قال قتادة: يدمي أي يؤخذ من دم الذبيحة بصوفة ويجعل على بطنه ثم رأسه.
وقال بهذا أيضاً ابن عمر وعطاء والحسن.
لكن الصحيح أن هذا خطأ ووهم من (همام) في هذه الرواية، لقوله صلي الله عليه وسلم عند ابن ماجه من حديث يزيد بن عبد الله المزني: (( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم))، وهذا نص.
قالوا لنا: الحديث مرسل.. وصدقوا.
عبد الله بن يزيد بن عبد الله المزني تابعي وأبوه عبد الله المزني صحابي فهو لم يرو عن أبيه فانقطع السند.
لكن الأقرب أيها الأبرار أنه لا يدمي لأن التدمية من أفعال الجاهلية، فقد ورد في السنن أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، فلما أتي الإسلام منع من ذلك.
وقال صلي الله عليه وسلم ـ كما عند ابن حبان ـ : (( واجعلوا مكان الدم خلوقاً)) وفي رواية حسنة: (( زعفران))، أو ما يقوم مكانه من الأطياب.
أما المسألة السادسة: فمعني التسمية.. عند ابن أبي شيبة في المصنف قال: يسمي في اليوم السابع على معنيين:
1- إما أن يسمي في اليوم السابع وهو الصحيح.
2- وقيل يسمي على الذبيحة، أي يقول على عقيقته ( بسم الله).
وأما المسألة السابعة : فقوله: (شاتان متكافئتان) كما في السنن.
معناها أنهما متقاربان في السنن.. فلا تكون هذه كبيرة والأخرى صغيرة.
وقيل: متكافئتان في النوع: فلا تكون هذه ماعز وهذه ضأن، أو هذه ضأن عراقية وهذه نجدية.
ولكن هذا تكلف، والصواب أن تكونا متقاربتين في السن،
ولا بأس أن تكون تيساً وكبشاً يعني من الضأن، ولا بأس أن تكونا أنثيين ، ولكن الذكرين أحسن.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: شاة عن الذكر وشاة عن الأنثى ، واستدل بحديث بريدة: (( كنا نذبح شاة عن الذكر)).
قلنا : الحديث فيه كلام.(/21)
قال: وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: عق رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الحسن والحسين شاة شاة.
قلنا: لا ، بل ورد أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: (( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)).
فيقال لك:
1- إما أن تكون زيادة الشاة زيادة ثقة فتقبل .
2- أو أن نقول: القول مقدم على الفعل .. فالرسول صلي الله عليه وسلم عق عن الحسن شاة وعن الحسين شاة ولكنه قال للناس: (( عن الغلام شاتان)).
فالقول عند أهل الأصول يقدم على الفعل.
المسألة الثامنة: يقول صلي الله عليه وسلم في حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وسنده صحيح لما قالوا له: يا رسول الله كيف العقيقة؟
قال: (( لا أحب العقوق)).
قال الرواي: كأنه كره الاسم صلي الله عليه وسلم .
فالرسول كره العقوق .. لكنه صلي الله عليه وسلم قال كما تقدم في الصحيح: (( لكل غلام مرتهن بعقيقته))، و(( مع الغلام عقيقة)).
والجمع أن يقال: أن الرسول صلي الله عليه وسلم كره الاسم.
وأما قوله لذلك فهو دليل على الجواز، والجواز لا يمنع من الكراهة. هذه قاعدة اصوليةن فربما يكون الأمر مكروهاً لكنه جائز أحياناً.
فالأفضل ألا نقول عقيقة لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لما قال : (( مع الغلام عقيقة)) خاطبهم بلغتهم التي يفهمونها .. ولما قال : (( أكره العقوق)) أراد أن يترفع عن هذه الألفاظ.
المسألة التاسعة: قوله: (( ونلطخه بزعفران)).
والزعفران نبت معروف يسحق ويوضع معه خلوق ويوضع على الرأس .
قال أهل العلم: فيه الدليل على استحباب تلطيخ رأس المولود بالزعفران أو غيره من الخلوق الذي يشابهه ، كالمر والحناء أو الكتم أو ما يشابهه.
المسألة العاشرة: عقه صلي الله عليه وسلم عن الحسن والحسين.. فيه دليل على نه يجوز أن يعق غير الأب عن المولود ... وقد سبق هذا.
وفيه أنه إذا مات الوالد فعلى المتكلفين بالنفقة أن يعقوا عنه.
المسالة الحادية عشر: التصدق بالفضة. ورد أنه يتصدق بوزن شعره ورقاً: أي فضة.
فيقدر ببعض الريالات أو ببعض المال ويتصدق به.
وهل يجزئ الذهب مكان الفضة؟
قال أهل العلم: نعم، فقد روى الطبراني في الأوسط بسند فيه رواد بن الجراح وهو ضعيف: (( أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر بست.. منها أن يتصدق عن المولود بذهب)).
ولكن الصحيح أنه يتصدق بفضة لأن هذه الرواية ضعيفة.
لكن إذا تصدقت بذهب أو بفضة أو بشيء من الدراهم فالأمر سهل.
المسألة الثانية عشر: الأذان في أذن المولود، فقد ورد عنه صلي الله عليه وسلم في سنن أبي داود : (( أنه أذن في أذن الحسن)).
والحكمة أن ينشأ الطفل على ( لا إله إلا الله) وهو صغير، ويكون أول ما يطرق أذنه( لا إله إلا الله).
أما الإقامة فلم ترد إلا من فعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأنت تؤذن فقط، أما الإقامة فلا.
المسألة الثالثة عشر: استحباب تحنيك المولود: فمن السنة إذا ولد لك مولود أن تأخذ شيئاً من تمر أو عسل أو شيئاً حالياً كالسكر وتضعه في فم الطفل.
أتي صلي الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة لما ولد فأخذه صلي الله عليه وسلم ومضغ تمرة بريقه الطاهر صلي الله عليه وسلم ثم وضعها في فمه فأخذ الطفل يتلمظ التمر.
فقال صلي الله عليه وسلم وهو يتبسم : (( انظروا لحب الأنصار للتمر))!!.
المسألة الرابعة عشر: الأسماء المختارة.
من السنة أن تسمي ابنك في يوم السابع وتختار الاسم الإسلامي اللطيف، لا أسماء الخواجات أعداء الرسل وأعداء الكتب وأعداء الرسالات.
فمن الأسماء المختارة ( عبد الله) و ( عبد الرحمن) ، لأنهما اسمان حبيبان إلى الله، صح بهذا الحديث.
بشرط أن يكون اسم الله وارداً في الكتاب والسنة وليس مخترعاً من عندك! فلا تأتي بأسماء وتركبها وتقول ( عبد اليقظان) ( عبد الموجود) ( عبد الساهر) ، فهذا لم يرد.
وقد نهي صلي الله عليه وسلم عن بعض الأسماء : فقد نهي صلي الله عليه وسلم في سنن أبي داود عن اسم يسار ورباح ونجيح وأفلح، لأنه يتشاءم بها، فإذا قلت لأهلك: أيسار في البيت؟
قالوا: ليس فيه يسار .
فكأنك ستشاءم ، وهكذا ألفح ونجيح ورباح.
ومنها أسماء للبنات مكروهة مثل ختنة وعاصية وغاوية ومتخلفة وبليدة وغبية!
والإنسان يتأثر باسمه وصفته ولقبه..فعلى الإنسان أن يحرص على الاسم الإسلامي القوي..ولا يتشاءم ، أي لا يختار اسماً يتشاءم به.
وفي الموطأ للإمام مالك أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال لرجل: (( قم احلب الناقة، ما اسمك؟)).
قال: حرب .
فقال له: (( اجلس)).
فقال للثاني: (( ما اسمك))؟
قال : مرة.
فقال للثالث: (( ما اسمك))؟
قال: صخر.
فقال للرابع: (( ما اسمك))؟
قال: يعيش.
فقال له: (( احلب الناقة)) فحلبها.
فالرسول صلي الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل.
المسألة الخامسة عشر: هل يجزىء غير الغنم في العقيقة كالبقر والإبل؟
والجمهور على إجزاء البقر والإبل ، لما روى الطبراني عن أنس قال: (( يعق عنه من الإبل والبقر والغنم)).
وقال الإمام أحمد: من عق عن ابنه بدنة يعني ناقة فليجعلها كاملة.(/22)
فالصحيح أنه يجوز أن يعق بالإبل والبقر عن المولود ، فلك أن تعق ببدنة عن ابنك، وتكفيك عن شاتين ، والأحسن شاتان.
ولا يشترك فيها ـ أي البدنة ـ سبعة ولا عشرة ، لأن تلك في الأضحية وهذه في العقيقة، فلا يشترك في العقيقة سبعة ولا عشرة.
المسألة السادسة عشر: هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية؟
أي: أن لا تكون عوراء ولا هتماء أو عرجاء ولا شرقاء، إلى غير تلك الأوصاف التي وردت في حديث على.
الصحيح أنه لا يشترط، لأن العقيقة غير الضحية.. فالأضحية قد خصص الرسول صلي الله عليه وسلم القول فيها.
ومن قال بذلك لزمه أن يقول أن كل ولائم السنة يشترط فيها ذلك، كولائم الزواج، لأن بعضهم أوجب وليمة الزواج.
المسألة السابعة عشر: وقت ذبح العقيقة:
لأهل العلم أقوال:
1- قالوا: تذبح بعد الفجر.
2- وقيل : من طلوع الشمس أو من وقت الضحي.
3- وقيل غير ذلك.
4- وقيل: تجزىء من الليل.
والصحيح أنه ليس لها وقت محدد، أعني في ساعات اليوم..
وإلا فإنها كما سبق تذبح في اليوم السابع.
وينبغي أن تجعل العقيقة جدولاً. أي: أن تقسم الأعضاء من المفاصل.. ولا يكسر العظم تفاؤلاً ألا يكسر عظم هذا المولود.
والحديث في ذلك من مراسيل أبي داود عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين (( ولا تكسروا منها عظماً)). وهذا المرسل قد سكت عنه ابن القيم.. وهو مما يستأنس به.
والأفضل أن يفعل بلحمها بعد الطبخ ما هو الأنفع.. فإذا كان جيرانك فقراء ومحتاجين للحم. . فأعطهم منها.
وإن دعوت ضيوفاً عليها فلا حرج.
فأنت مخير بين التصدق بها أو دعوة الضيوف عليها.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حقوق الأبناء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
واشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
حديثي في هذه الأوراق عن الآباء ومسؤولياتهم.. ويا لها والله من مسؤولية عظيمة ألقاها الله عز وجل على عواتقهم من فوق سبع سماوات ، يوم يقول سبحانه لرائد البيت المسلم( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6).
فجيلنا الصالح ابتداء من موكب الأنبياء الكريم يحملون التبعة على أنفسهم، فيقومون بتربية النشء والجيل تربية يريدها الله ويحبها الله.
والله عز وجل قص لنا في محكم كتابه الكريم قصصاً عن الأنبياء والصالحين في ذلك.
أما يقول الله عز وجل عن يعقوب عليه السلام يوم يتلطف مع يوسف ويأخذه بالرفق واللين: )يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً...)(يوسف: الآية5).
أما يقول لقمان وهو يربي ابنه التربية التي يرضاها الله ويريدها الله: )وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ )(لقمان: الآية13) ، فقد غرس الإيمان والتوحيد في قلب الطفل لينشأ عابداً لله عز وجل.
وأول ما يسقط الطفل على الأرض فهو يسقط مسلماً حنيفاً، يقول صلي الله عليه وسلم : (( ما من مولود يولد إلا يولد علي الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
يوم يقع الطفل على الأرض يكون المسؤول الأول عنه هو : الأب ، فواجبه أن يقوده إلى بر السلام وإلى طريق الجنة.
فلقمان عليه السلام يقول لابنه: ) يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه)(لقمان: الآية13) ، احذر أن تكون مشركاً.. احذر أن تجعل لله نداً.. احذر أن تعتقد أن هناك مع الله شريكاً.
ثم قال (ه: )يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة)(لقمان: الآية17) ، هل سمعت أسلوباً أعجب من هذا؟ هل سمعت جودة أعظم من هذه الجودة؟ (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(لقمان: الآية17)ثم قال: ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ )(لقمان: الآية17).فعلم أنه بعد أن يقيم الصلاة وبعد أن يأمر وينهي.. سيواجه شيئاً من المتاعب والمصاعب.. فقال له: ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ )(لقمان: الآية17) .
ثم قال له: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18)، أي لا تتكبر على عباد الله ولا تزه ولا تكن تياهاً معجباً بنفسك، فأنت عبد للواحد الأحد.(/23)
ثم قال عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19) فكن أديباً موجهاً.. كن متواضعاً .. سهلاً ليناً.
والرسول صلي الله عليه وسلم اعتني بتربية الأبناء.. بل هو المربي الأعظم صلي الله عليه وسلم ، بل هو الذي نشر الفضيلة في الجيل.. بل هو الذي أنقذ الله به أهل الضلالة من ضلالتهم وأهل العماية من عمايتهم.
إن البرية يوم مبعث أحمد
نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من
خير البرية نجمها وهلالها
ورد عنه النبي صلي الله عليه وسلم في حديث حسن أنه قال لأنس بن مالك رضي الله عنه: (( يا بني إن استطعت أن تنام وليس في قلبك غش لأحد فأفعل)).
وفي سنن الترمذي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: كنت ردف رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لي: (( يا غلام)).
قلت : لبيك وسعديك يا رسول الله.
قلت : (( يا غلام)).
قلت: (( لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: (( يا غلام)).
قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله.
قال: (( أني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك، تعف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله . واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على ان يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..
رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
إي والله! احفظ الله يحفظك..فهل أوصى الآباء أبناءهم بهذه الكلمة؟
وهل قال الأب لابنه يوم يودعه في الصباح إلى عمله أو إلى مدرسته أو إلى مزرعته: (( احفظ الله يحفظك)).
يقول أحد علماء الأندلس وهو يوصي ابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
نعم! إنه غرس الرقابة والخشية في قلوب الأبناء لينشأوا والخوف يملك جوانحهم من الواحد الأحد، هذه تربية الإيمان التي أرادها الله.
ويقول الأندلسي الآخر وهو يوصي ابنه:
أبا بكر دعوتك لو أجبت
إلى ما فيه حظك لو عقلت
إلى علم تكون به إماماً
إن نهيت وإن أمرت
ويجلو ما بقلبك من عماها
ويهديك السبيل إذا ضللت
ويقول جعفر الصادق ـ رضي الله عنه وارضاه ـ وهو يوصى ابنه:
يا بني لا تصاحب فاجراً ولا عاقاً ولا بخيلاً ولا كذاباًن فإن الفاجر قد استحق لعنة الله.. وإن العاق قد أدركته ظلامه أبيه وأمه.. وإن البخيل يبيعك أحوج ما تكون إليه.. وإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب.
وحبيب بن زيد تربيه أمه تربية صادقة خالصة لوجه الله.. فينشأ مجاهداً ..ويرسله صلي الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب الدجال في اليمامة فيدخل على مسيلمة وعمره ما يقارب العشرين.
فقال له مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال: نعم.
قال: أتتشهد أني رسول الله؟
قال: لا اسمع شيئاً.
فأخذه وقطعه إرباً إرباً، وهو لا يعود عن دينه.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع
اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الحبال وربما
صرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا
نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
الخنساء رضي الله عنها وأرضاها وهي النخاعية تحضر بأبنائها معركة القادسية وهم أربعة، ربتهم على الاستقامة والصلاة وعلى الذكر.. فلما حضرت المعركة قالت لهم: يا أبنائي أنا أمكم.. والله ما خنت أباكم، والله ما خدعت خالكم، فإذا حضرت المعركة فيمموا أوجهها واقبلوا على أبطالها، وقاتلوا رجالها عسي الله أن يقر عيني بشهادتكم.
وبدأت المعركة وقتل الأربعة في أول النهار، وجاء بعض المسلمين يخبرها بذلك.. فتبسمت وفرحت كثيراً.ز وقالت: الحمد لله الذي أسعدني بشهادتهم في سبيله!
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعاهده الحيا
بالري أورق أيما إيراق
وأسماء بنت أبي يكر رضي الله عنها وأرضاها ذات النطاقين اللذين جعلهما الله عز وجل ساماً لها في الجنة.. تقول لابنها عبد الله بن الزبير الفارس المصلوب الذي صلب في الحجون.
تقول له وقد أتي يستسلم خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي يا بني أصبر فإنك على الحق.
قال: يا أماه إني أخاف إذا ذبحوني أن يسلخوني ويقطعوا جسمي.
قالت: يا بني لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها.
فثبت على الحق ولبس أكفانه ومات شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
• حق الأبناء على الآباء:
1- اختيار الزوجة الصالحة.
فما هي مواصفات الزوجة الصالحة؟
يقول صلي الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (( تنكح المرأة لأربعك لمالها
ولجمالها واحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). فالدين هو أهم شيء في المرأة .. فيجعل الدين هو الأصل وما بقي تبع.(/24)
ونحن نؤمن أن الجمال مطلوب، وأن الحسب مرغوب، وكذا المال، كل هذا كما قلت لكم يأتي تبعاً للدين.. لأنه يوم أسيء الاختيار في بعض الأماكن نشأ الجيل معوجاً لا يعرف الله ولا الدار الآخرة.. لأنه تبع لتربية أمه.
فأول مسؤولية الآباء اختيار الزوجة الصالحة التي تريد الله والدار الآخرة.. ولا عبرة والله بالمرأة التي لا تريد الله، ولا تعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم . أما أزري الله عز وجل على امرأة نوح؟ أما عاتب ولام وندد بامرأة لوط؟ ولكنه سبحانه وتعالي مدح امرأة فرعون في بيت فرعون وهو ملحد .. لأن السبب هو الإيمان والتقوى.
حكمة الاتصال: يقول سبحانه وتعالي: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)(الرعد: الآية38) إن اتصال الرجل بالمرأة في الإسلام أمر شريف وليس كما ادعاه أعداء البشرية من أنه لأجل الشهوة الجامحة، بل الحكمة هي إعمار الأرض بوجود الذرية الذين يحملون الرسالة ويحملون الهداية للناس، وإخراج جيل عظيم من الزهاد والعباد والقادة.
فأين ذهبت تلك الحكمة عن تلك العقول والأدمغة التي ما عرفت الطريق إلى الله؟
ولذلك قال البخاري في الصحيح وهي: أن يبدأ الأب بالبذل والعطاء وبإعلان الفرحة وشكر الله على هذه النعمة.
فالأبناء نعمة من الله .. وأي نعمة.
وقد دعا أحد الأنبياء ربه يقول: ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)(الانبياء: الآية89).
وكل مولود مرتهن بعقيقته حتى يعق عنه.
وكذلك من السنة أن يحلق رأسه وان يتصدق بوزنه فضة أو ما يعادلها من المال، وهذا أمر ثبت عنه صلي الله عليه وسلم ، ذكره ابن القيم في كتاب ( تحفة المودود بأحكام المولود) ومعني ذلك أنه تفاؤل بأن الله يحط أخري قد لا تظهر لنا.
2- ومن حقوق الأبناء على الآباء: اختيار الاسم الطيب.. وفي الحديث الصحيح: (( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)).
أما الحديث الذي يقول : (( أحب الأسماء إلى الله ما عبد وحمد)) فهاذ لا يصح..ولكن كل اسم فيه لفظ العبودية طيب وحبيب إلى القلوب، لماذا؟
لأن ابنك يوم يتردد على سمعه هذا الاسم ( عبد الرحمن) ( عبد الوهاب) ( عبد السلام) .. يتذكر الصلة بينه وبين الله الذي شرفه بالعبودية.
ونهي صلي الله عليه وسلم أن يسمي ببعض الأسماء .. فقد جاءه رجل فقال صلي الله عليه وسلم : (( ما اسمك؟)).
قال: غاوي ابن ظالم.
قال صلي الله عليه وسلم : (( بل أنت راشد بن مقسط))ـ فغيره صلي الله عليه وسلم تفاؤلا بأن يكون راشدا مقسطاً.
ويقول صلي الله عليه وسلم : (( أحسنوا أسماءكم وأسماء ابنائكم فإنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء أبائكم)).
وفي موطأ الإمام مالك أنه صلي الله عليه وسلم قال لرجل: (( قم احلب الناقة، ما اسمك))؟
قال: صخر
قال: (( اجلس)).
فقال للرجل الثاني: (( ما سمك))؟
قال: حرب
قال: (( اجلس)).
فقال للثالث: (( ما اسمك))؟
قال: مرة.
قال: (( اجلس)).
فقال للرابع: (( ما اسمك))؟
قال: يعيش
قال : (( قم فاحلب الناقة)).
إنه التفاؤل في الأسماء الطيبة التي تورث الحب وحسن الطالع.
3- ومن حقوق الأبناء على الآباء: الرضاعة الحقة التي يريدها الإسلام، وكثيراً ما أخفق المجتمع الذي نعيش فيه في الرضاعة، إما بأن يسند الطفل إلى غير أمه فلا يكون له علاقة بأمه ولو كانت قادرة على الرضاعة، فينشأ الطفل مبتور الحنان والصلة مع أمه والعطف، فلا تجده ذاك الطفل الذي ينشأ على العطف والأنس بقرب أمه.
فتجد بعض البيوت يفرط في هذا الجانب، فيقدم كثيراً من المرضعات أو الكثير من الوسائل للرضاعة.. ويترك الأم ولو كانت قادرة.. وهذا خطأ ظهرت آثاره في التربية.. فنشأ الأطفال على العقوق والجفاء والقطيعة مع الأمهات.
لأن لبنها ما سري في شرايينه وعروقه.
والله عز وجل ذكر الرضاعة في القرآن فقال: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)(البقرة: الآية233)، وكلما أتم الرضاعة كان أحسن.. وأجود.. ومكن.
واختيار المرضعة إذا اضطررت.. هو من حقوق الأبناء على الآباء ، فلا ترضعه كافرة ولا فاجرة ولا حمقاء ولا سيئة التصرف..فإن لبنها سوف يكون له أثر في عقله وتوجهه.
ولذلك وضع صلي الله عليه وسلم في بادية بني سعد حيث الصفاء والنقاء وحيث الهواء والماء والصحراء.. فتشأ أفصح من فصحاء العرب.. ونشأ أخطب الدنيا.
فالبادية في الجيل الأول لها أثر عظيم في تربية الأولاد.. أما الآن.. فالله المستعان!.
تقول عائشة: ربما رأيت الرسول صلي الله عليه وسلم إذا تهللت أسارير وجهه وأتاه خبر يسره كأنه البدر ليلة أربع عشر وتذكرت قول الشاعر:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت كبرق العارض المنهلل
والسبب هو جودة الرضاعة.. فكان وجهه يبرق مع ما آتاه الله من القوة والحكمة والجمال.. حتى قيل لأبي هريرة : أكان وجهه صلي الله عليه وسلم كالسيف؟(/25)
قال: لا والله.. كالشمس.
وقال أنس: والذي نفسي بيده نظرت لوجه المصطفي صلي الله عليه وسلم ونظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر، ولوجه المصطفي صلي الله عليه وسلم أجمل من البدر.
وقد حذر أهل العلم من استرضاع الحمقي لكي لا يأتي الطفل أحمقاً!!
ذكر ابن كثير في ترجمة القاضي شريح وكان من أذكياء الدنيا، أن ثلاث نسوة دخلن عليه فنظر إليهن وقال:
أما هذه المرأة فثيب.
وأما هذه المرأة فحامل بولد.
وأما هذه المرأة فأرضعتها كلبة!!
قيل لشريح: كيف عرفت ذلك؟
فقال: أما المرأة الحامل فعرفتها لأن صوتها ضعيف.
وأما الثيب: فلأنها تنظر للرجال.
وأما الثالثة: فأرضعتها كلبة لأن في يديها رجفة.
فسئلت النسوة فكن كما قال.
4- ومن الحقوق التي للأبناء على الآباء: القدوة: بأن يكونوا قدوة لأبنائهم، لأن الطفل يقلد أباه دائماً.. فالذكر يقلد الأب والبنت تقلد الأم.
وينشأ ناشيء الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
كيف يقول له: كن صادقاً..ثم يكذب!!
فالفعل فعل قبيح..والقول قول جميل.. )أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
تقول للابن : صل في المسجد، ولكن لا يرانا نصلي.
إنه ظلم للعقل، وظلم للعلم، وظلم للتربية، وظلم للإحساس.
نقول للابن : لا تغتب أحداً.. اتق الله في أعراض المسلمين...
ثم نقع في أعراض الناس بسكاكين من القول الجارح.
يا أيها الأبرار ويا أيها الأخيار..إن القدوة أمرها عظيم؛ لأنك ستسأل عن أبنائك يوم القيامة.
هل أمرتهم؟
هل نهيتهم؟
هل نفذت ما نقول؟
أم أنه كلام دون فعل.
يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه كما في الترمذي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ )(المائدة: الآية105) وأني سمعت الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب)).
فلا يصح أن نصلح في أنفسنا.. وأبناؤنا غير صالحين.
نقرأ ونتهجد بالقرآن.. وأبناؤنا في المقاهي والملاهي.
نقرأ كتب العلم الراشدة.. وأبناؤنا مع المجلة الخليعة ومع القول السخيف.
5-ومن حقوق الأبناء على آبائهم: أمرهم بالصلاة في السابعة ، وضربهم عليها في العاشرة، والتفرقة بينهم في المضاجع.
يوم يبلغ الطفل السابعة تأمره أمراً فحسب بالصلاة ولا تضربه..تقول له: صل، هداك الله، تأخذه بيده وتعلمه طريق المسجد.
فإذا بلغ العاشرة تأخذه بالحزم، فإذا رفض.. تضربه ضرب ناصح وضرب رشيد يريد له الخير مثل ما يريد لنفسه.
ويا لحكمة هذا الدين! ويا لقوته ! ويا لشموله! ويا لعدله! فهو يلاحق الأطفال والنشء والجيل حتى وهم في المضاجع .. فيقول: حرام أن يتضاجعوا في مكان واحد. ففرقوا بينهم في المضاجع.. فالذكر لا ينام في فراش الأنثى ، ولا الأنثى في فراش الذكر.
ولا بأس أن يناموا في غرفة واحدة بشرط أن يفرق بينهم في المضاجع.
6-ومن حقوق الأبناء على آبائهم: تعليمهم العلم النافع..علم قال الله وقال رسوله صلي الله عليه وسلم .
العلم الذي أتي من فوق سبع سماوات .. وليس العلم الرخيص.. وليس العلم السخيف الدخيل الذي أتانا من أعداء البشرية وأعداء الإنسان.
لكن العلم الموروث عن معلم الخير صلي الله عليه وسلم .
وتعليم الجيل من أعظم الخصال الواجبة في الإسلام، فالإسلام لا يعترف بالجهل ولا بالدروشة.
وأما أن نحرم أبناءنا من العلم بحجة أنه أمر مضن..وطريقة طويل وشاق، فهذا من سوء الإرادة وضياع الحكمة.
نعم... إذا حصل الشاب أو البنت على حصيلة من العلم تقيم دينه وتحجزه عن المناهي.. فلا بأس بعد ذلك أن ينطلق في عالم الحياة.. وأن يخوض جميع المجالات المباحة التي يرغبها.. كالتجارة والزراعة وغيرها.
فواجب إذن.. تعليمه العلم النافع.. وغرس الفضيلة في قلبه.
ولذلك كان صلي الله عليه وسلم يحرص على هذا .. فابن عباس رضي الله عنهما شاب في العاشرة من عمره يدخل على المصطفي صلي الله عليه وسلم ليلة من الليالي بعد صلاة العشاء ، فيقوم صلي الله عليه وسلم ليصلي في الليل فيقوم معه ابن عباس.
ويحضر ابن عباس ماء للرسول صلي الله عليه وسلم ليتوضأ به.
فيقول صلي الله عليه وسلم : (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)).
فكانت دعوة من أعظم الدعوات المباركة في حياة ابن عباس.
لم يدع له بالتمكين في الأرض ولا بالصحة في الجسم.. ولا غير ذلك.
وإنما دعا له بأن يجعله الله فقيهاً معلماً مفهماً.. وأن يعلمه الله تأويل كتابه.
ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث معاوية: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)).
فالله الله بالعلم النافع لأبنائكم.. فليس كل علم يكون نافعاً.
وقد قسم الله العلم في القرآن إلى قسمين:
1- العلم النافع.
2- العلم الضار.(/26)
من العلم الضار قوله تعالي عن السحرة: ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ )(البقرة: الآية102).
ويقول الله عن أحد الذين تعلموا العلم.. ولكنه لم ينفعهم ، وهو (باعورا) اليهودي الحبر: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:175/176).
والله يقول في بني إسرائيل ـ وقد حملوا علماً، ولكن لم يستفيدوا منه ولم يكن له أثر في معتقدهم وفي عبادتهم وفي سلوكهم ـ : )مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة: الآية5).
وقال سبحانه وتعالي فيهم: )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13)
فالعلم النافع هو الذي يورث الخشية من الله في القلب.
العلم النافع هو الذي ينشىء الطفل على حب المسجد وحب القرآن والعلم.
وهو الذي يجعل الشاب عابداً لله.. يتقي الله.. ويخافه، )َ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: الآية28) .
وكان صلي الله عليه وسلم يقول: (( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)).
ولذلك كان صلي الله عليه وسلم يربي الناس على العلم النافع الذي يريده الله سبحانه وتعالي.
6- من حقوق الأبناء على الآباء: مصاحبته وغرس الفضيلة والثقة بنفسه..فلا يكون مسلوب الإرادة.. ولا مسلوب الهمة والمكانة.
6-
والكثير من الآباء يخطئون في هذا الجانب فيربون الابن بالسوط والقسوة والعنف، فينشأ الابن وقد سلبت إرادته وقوته ومكانته.
وينشأ مهزوز الإرادة.. لا كلمة له..ولا حق.. ولا رأي.
وهذا العنف لا يورث إلا عنفاً مثله..بلا شك.
ولذلك وصف الله عز وجل رسول الله صلي الله عليه وسلم بالحكمة وبالين..فقال له: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(آل عمران: الآية159) .
وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
ولما فشت هذه التربية العنيفة في كثير من البيوت أصبح الأبناء على قسمين:
إما عاق لأبيه ومشاكس له ومكابر.
وإما أن ينشأ الطفل ذليلاً مخبتاً لا مكانة له.. ولا شجاعة.. ولا إرادة.
وهذا خطأ وقع فيه كثير من الآباء.
في الطبراني أن رجلاً أتي إلى الرسول صلي الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ابني ربيته فسهرت لينام، وظمئت ليروي، وجعت ليشبع، فلما كبر غمطنى حقي!
فقال صلي الله عليه وسلم : (( هل قلت في ذلك شعراً))؟
فأخذ الرجل يبكي ويقول: نعم يا رسول الله، قلت:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً
تعل بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة بالسقم ضاقتك لم أبت
لسقمك إلا شاكياً أتململ
كأني أنا الملدوغ دونك بالذي
لدغت به دوني فعيناي تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها ما كان فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل
أو كان هذا الأب عاقاً لوالديه.. فكان الجزاء من جنس العمل!
7- ومن حقوق الأبناء على الآباء: إبعادهم عن رفقة السوء وأهل الفساد.
يقول الله عز وجل عن الرفقة الصالحة: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67) .فكل خلة.. وكل صحبة..وكل صلة.. وكل صداقة تتقطع وتتلاشى وتنهار إلا صلة الذين يريدون الله والدار الآخرة.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: ( والله لو صمت النهار لا أفطره، ولو قمت الليل لا أنامه.. وأنفقت أموالي في سبيل الله، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية، لخشيت أن يكويني الله علي وجهي في النار).
ولذلك يقول الشافعي وهو يتحدث عن نفسه بتواضع:
أحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
ولكن والله هو منهم!
فيرد عليه الإمام أحمد ويقول:
تحب الصالحين وأنت منهم
ومنكم قد تناولنا الشفاعة
لأنه قرشي هاشمي.
وفي الحديث الذي رواه البخاري: (( المرء يحشر مع من أحب)).
فإن أحببت الصالحين وعملت بعملهم حشرت معهم، والعكس صحيح.
يقول الشافعي مواصلاً حديثه:
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواء في البضاعة!(/27)
يقول: ولو كنت عاصياً ولكني أكره العصاة.. ولا أصاحبهم.
وقال الآخر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يفتدي
فكيف يكون الإنسان صالحاً وهو رفقه السوء؟
يقول أهل العلم: هل كان أفسد على أبي طالب من صحبة السوء؟!
أراده صلي الله عليه وسلم أن يقول: ( لا إله إلا الله) فقال: (( يا عمي قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله))، متفق عليه.
فأراد أن يتلفظ بها.. لينجو من العذاب ويدخل في رحمة الواحد القهار.
فقال له أبو جهل: كيف ترغب عن ملة آبائك وأجدادك !
فأتي هذا الجليس السيء فأراده في نار تلظى..فمات مشركاً كافراً بمغبة رفقاء السوء.
ورفقاء السوء قد انتشروا كثيراً.. وهم أعدي من الجرب.
فالجرب عند أهل العقول يعدي الصحيح، وما سمعنا أن الصحيح يعدي الجرب!
فالواجب على الآباء أن يجنبوا أبناءهم رفقاء السوء.
8- ومن الحقوق الواجبة علي الآباء لأبنائهم: القضاء على أوقات الفراغ التي يعيشونها.
يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115/116) .
كثير من الأبناء يشكون من الفراغ.. فتجد أحدهم في العطل الصيفية يقول: عندي فراغ كبير.
سبحان الله! مسلم وعندك فراغ؟
طالب علم وعندك فراغ؟
ألست من الأمة الخالدة التي ما عرفت الفراغ؟ ولا عرفت ضياع الوقت؟
كيف يكون لديك فراغ.. وعليك أمانة ومسؤولية وحمل ثقيل؟
في صحيح البخاري عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)).
ولما عرف أجيالنا الفراغ ظهر النشء المعوج الذي لا يحمل الرسالة ولا المبدأ ولا المسؤولية.
أعرف السلف الصالح الفراغ؟
ذكروا عن ابن عقيل العالم الكبير الشهير الذي ألف كتاب ( الفنون) وهو يوجد في مكتبة بون في ألمانية في حوالي سبعمائة مجلد!!
إنه من شدة حفظه للوقت كان إذا أتي لينام كتب الصفحات والأفكار التي تخطر على ذهنه قبل النوم، وعندما يستيقظ يصنع مثل ذلك.
فألف من هذا الفراغ وهذا الوقت الفاضل سبعمائة مجلد!!
وذكر عنه صاحب طبقات الحنابلة ابن رجب أنه قال: ربما أكلت الكعك ولا آكل الخبز لأن بينهما في الوقت مقدار قراءة خمسين آية!!
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
وتبقي له حاجة ما بقي
يقول دايل كارنيجي الأمريكي في كتاب ( دع القلق وابدأ الحياة) متحدثاً عن الأمريكان: إنهم لا يعرفون الفراغ.
وقد صدقنا وهو كذوب!.
فإن مصانعهم تهدر ومعاملهم تعمل، ولكنها في الدنيا )يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7) .
يقرأون وينتجون ويقدمون ويخدمون ويفعلون.ز أما أبناء المسلمين فتجدهم يشكون من الفراغ إلا من رحم الله، وخاصة في العطل الصيفية!
وإن اجتهد مجتهد منهم مارس هوايته كما يزعم.
ونحن ليس لنا هواية إلا المحافظة على الصلوات والعيش مع القرآن ومع كتب العلم النافعة..هوايتنا أن نقول للشعوب:
نحن الذين استيقظت بأذنهم
دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
نحن الذي باع الحياة أكفهم
ورأي رضاك أعز شيء فاشتري
ومن الذين دكوا بعزم أكفهم
باب المدينة يوم غزوة خيبرا
فما عرفنا جمع الطوابع إلا عندما تركنا الطريق إلى المسجد.
وما عرفنا مطاردة الحمام والدجاج إلا عندما تركنا الجلوس في حلق العلم!
9- ومن الحقوق التي للأبناء على الآباء: معرفة ميول الابن واتجاهه العلمي والوظيفي ليجعله يواصل في الطريق الذي يحب..فكل ميسر لما خلق له.. ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه( تحفة المودود في أحكام المولود).
فقال : لا تعسف الشاب بعد أن يكبر على ما ينافي طبعه.
فأنت أيها الأب لا ترغمه على تخصص لا يريده.. وعلى طريق لا يحبه إذا اصبح عاقلاً رشيداً عارفاً بمستقبله، وكان الطريق الذي اختاره يرضي الله.
وهذه طريقة محمد صلي الله عليه وسلم مع أصحابه بأن يجعل كلاً منهم في مكانة المناسب..فمثلاً أتي إلى حسان بن ثابت فوجده شاعراً .. فقال له عندما كان يهجي الكفار: (( اهجم وجبريل معك)) فكان رضي الله عنه شاعر الإسلام وشاعر الدعوة.
وجاء لأبي بن كعب.. وكان قارئاً وتالياً لكتاب الله.
فقال: (( أقرؤكم أبي)).
وجاء إلى زيد بن ثابت فوجده فرضياً .. فعلمه الفرائض وقال: (0 أفرضكم زيد)).
وجاء إلي خالد بن الوليد فوجده مجاهداً صنديداً شهماً قائداً، فأعطاه السيف وقال: (( خالد بن الوليد سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين)).
فهذه التخصصات لا بد أن نؤمن بها.. في بيوتنا ومجتمعاتنا لينشأ أبناؤنا على رغباتهم إذا كانت ترضي الله.
هذه حقوق أردت باختصار أن أقدمها في هذه الأوراق للآباء، وأسأل الله أن تكون في ميزان الحسنات، وأن ينفع بها المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.
حافظوا على الصلاة(/28)
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ولك الحمد مثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام،ولك الحمد بمحمد رسول الهدي صلي الله عليه وسلم ، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين ، بصر به من العمي، وأرشد به من الجهالة، وأخرج به من الظلمات إلى النور، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
حديثي في هذا الدرس سيكون عن مبدأ أصيل من مبادىء هذا الدين، فماذا نحن إذا تركنا رسالتنا وتعاليمنا وديننا؟ أي أمة نكون إذا تخلينا عن مبادئنا ومنهجنا ورسالتنا الخالدة التي بعث الله بها محمداً رسول الهدي صلي الله عليه وسلم ؟
قبل بعثه النبي صلي الله عليه وسلم كنا قبائل لم تكن لها حضارة ولا أدب ولا رسالة ولا خلق ولا سلوك ولا منهج، )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعي لها
أتي الإنسان صلي الله عليه وسلم وكان من أعظم أهدافه في العالم أن ينقذ الإنسان، والإنسان بلا إيمان ضائع في الحياة، والإنسان بلا رسالة ميت بلا روح،والإنسان بلا مبادىء دابة أو بهيمة، (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام: الآية122).
وأنت يا أخي القارىء ، إنما أنت جندي تمثل هذا الإسلام، وإنما أنت من مدرسة محمد صلي الله عليه وسلم ، وإن ما تقدمه لأبناء أمتك الإسلامية إنما هو في سجل حسناتك يوم أن تصلح ما بينك وبين الله، وإذا انقطع الحبل الذي بينك وبين الله فلن يصلح أبداً ما بينك وبين الناس.
يقول معاوية بن أبي سفيان لعائشة رضي الله عنهت: اكتبي لي وصية وأوجزي ، فقالت ك بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( من أرضي الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضي عليه الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط الله عليه واسخط عليه الناس)).
وهذا مبدأ معروف أن من قطع ما بينه وبين الله، قطع الله ما بينه وبين الناس ، فما هي الأمانة التي حملك الله إياها؟ وما هي أعظم هذه الأمانة؟ وما هي الوديعة التي أمرت بتأديتها؟
إنها الصلاة يا إخوتي في الله، والذي يخون الصلاة هو أول من يخون مرؤوسيه وأمته، هو أولاً يخون نفسه، ثم يخون أهله وأمته وعهده مع الله تعالي.
فالذي لا يتشرف بالسجود للواحد الأحد على الأرض سوف يسجد لوظيفته ومنصبه، وحذائه وسيارته، ودرهمه وديناره، وفي ذلك يقول صلي الله عليه وسلم : (( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتفش)) سماه عبداً لهذه الأشياء لأنها شغتله عن العبادة الحقيقة التي خلقه الله لأجلها، ولذلك يقول شاعر الباكستان محمد إقبال مناجياً الله عز وجل وهو يقرر مبادئ الإسلام.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبينا
وإرادتنا وقوتنا وعزيمتنا في أداء الصلاة جماعة كل يوم خمس مرات، والذي يتعاهد المسجد كل يوم خمس مرات سوف يكون أميناً مؤتمناً صادقاً مخلصاً منيباً بحول الله وقوته ) إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)(العنكبوت: الآية45).
فصاحب الصلوات الخمس لا يرتكب الفحشاء والمنكر، صاحب الصلوات الخمس لا يتعاطى المخدرات، ولا يكذب ولا يخون.
صاحب الصلوات الخمس لا يضيع وقته، ولا يضيع أسرته، ولا يضيع منهجه في الحياة ، ولذلك يخبرنا صلي الله عليه وسلم بأول برنامجنا الصباحي يوم أن نستقبل الحياة، فيقول صلي الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وغيره: (( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم من ذمته بشيء ، فإن من طلبه من ذمته بشيء كبه على وجهه في النار))، ويوم تترك صلاة الفجر جماعة فانتظر من صاحب هذا الترك كل شيء، لا تستبعد عليه كل جريمة.
من الذي قاد الشباب إلى السجون في المخدرات؟ من الذي قاد فتيان هذه الأمة إلى السرقات والزنى والمخالفات والسيئات؟
كل ذلك يوم تركوا الصلوات )وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36).والذي لا يعرف المسجد يعرفه الله السجن، والذي لا يخاف من الله يخوفه الله من كل شيء ، والذي لا يرجو لقاء الله، يسلط الله عليه من لا يرجو لقاءه.(/29)
فيا إخوتي في الله، الرسول صلي الله عليه وسلم يصف لنا علاجاً لجميع الذنوب والمخالفات، وما أكثرها في حياتنا إلا من رحم الله عز وجل . فيما رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: (( أرايتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقي من درنه شيء؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: (( ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)).
نار الدنيا تطفأ بالماء، لكن نار الآخرة لا تطفأ لأن وقودها الناس والحجارة . والفوز عندنا في الإسلام في قوله تعالي: ) فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ )(آل عمران: الآية185)، فالفوز يبدأ من أن يزحزح أحدنا عن النار، ) فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: الآية185).
والخزي عندنا نحن أهل الإسلام يوم أن يدخل أحدنا جهنم والعياذ بالله، ليس الخزي في عدم الوظيفة، ولا الخزي أن تعيش فقيراً أو مسكيناً أو مريضاً، لا ، الخزي كما رآه المؤمنون في قولهم: )رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران:192).
إخواتي في الله : إن الصلاة شأنها عظيم في هذا الدين، فهي عموده الذي قام عليه، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ولذلك لما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه وهو في سكرات الموت قال: الله الله في الصلاة، وهو في سكرات الموت أوصي بالصلاة فقال صلي الله عليه وسلم : (( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فإذا علم ذلك، فما وجد في الساحة من أمور تجرك إلى الفاحشة والجريمة، إنما هي من تخطيط المستعمر، وهي حرب اشتركت فيها المجلة الخايعة والأغنية الماجنة والفديو المهدم، وكل ذلك يقود الأمة إلى الدمار والعار.
أذكياء الغرب واساطينه بدأوا الآن ينظرون أنه لا حل إلا الإسلام، ومن ينظر إلى الكاتب الأمريكي (( دايل كرنجي)) يعلم أنه عرف الطريق لكن ما عرف السعادة، يقول : لا سعادة إلا أن تتعرف على الله، ومن أراد فليقرأ الكتاب فهو موجود في أسواقنا ومكتباتنا، لكن لما رخصت قيمة المسلم في نفسه بترك الصلاة بدأت تتداول هذه المعاصي، المجلة الخليعة التي تحمل الصورة للداعرة، فتحبب الفاحشة، وتحبب الجريمة.
والأغنية التي تشغل القلب وتلهيه عن محبوبه ومطلوبه وهو الله الواحد الأحد.
قال ابن القيم:
قال ابن عباس : ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
الصور التي تعرض في الساحة كلها لإضلال القلوب ولصدها عن باريها سبحانه وتعالي، فبداية الكارثة كانت يوم تركنا الصلاة أو يوم ترك بعضتا الصلاة، أو يوم تهاون بعضنا في الصلاة.
أحد الأدباء العالميين المسلمين الكبار أتي إلى الجزيرة ورأي المساجد ترتفع منائرها في السماء، ورآها مزخرفة وجميلة، لكن ما رأي مصلين، فبكي وقال:
أري التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال
العجيب كل العجب أن الله يعطي ما يتمناه العبد كله، فمن كانت إرادته أن يحفظه الله حفظه الله، ومن كان مقصده الزيغ أزاغ الله قلبه. وهذا في القرآن، يقول الله لمن أطاعه سبحانه وتعالي: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) ويقول سبحانه وتعالي للزائغين:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(الصف: الآية5 ).
أحد الصالحين وهو عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير كان إذا صلى الصبح رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة ، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فأتته سكرات الموت وأذن لصلاة المغرب، قال: احملوني إلى المسجد، وقالوا: أنت في الموت كيف نحملك إلى المسجد؟ قال: سبحان الله، أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح وأموت هنا!! لا والله. فحملوه على الأكتاف، ووضعوه في المسجد وصلي جالساً، فلما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، ولذلك يقول محمد إقبال:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً احمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
فدين بلا صلاة معناه ضياع، لا منهج ، ولا أخلاق، ولا سلوك.
كيف تطلب من الفرد مدنياً أو عسكرياً أن يكون صادقاً وهو لا يصلي؟ كيف تطلب منه أن يكون أميناً وهو لا يصلي؟ كيف تطلب منه أن يكون وفياً وهو لا يصلي؟ فن هدم ما بينه وبين الله هدم الله ما بينه وبين الناس، ولذلك إرادتنا وقوتنا وأصالتنا وعمقتا في الصلوات الخمس، وحين نتركها نضيع والله هباء منثوراً.(/30)
وأنا قلت : إن مبدأ الصدق هو حفظ الله بظهر الغيب، يقول لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16) .
يقول : لو كانت حبة الخردل هذه، وهي حبة صغيرة كالسمسمة، لو كانت هذه الحبة بصخرة صماء لا يظهر منها شيء أتي بها السميع البصير ، لماذا؟ ليقول له: يا بني لو تسترت بالجدران فالله معك، ولو اختفيت وراء الحيطان فالله معك، ولذلك وجد في الناس من قلت مراقبته للواحد الأحد، فضيع مسؤوليته وأمانته وضيع عمله فجعله هباء منثوراً، فلا بد للعبد من مراقبة الله عز وجل في السر والعلانية، في الخلوة والجلوة، أن يعبد الله عز وجل كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله عز وجل يراه، (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ )(المجادلة: الآية7).
يقول الأندلسي موصياً ابنه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
قيل للإمام أحمد: ما دليل القدرة، قدرة البارى؟ قال: يا عجباً بيضة الدجاج، أما ظاهرها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب الإبريز، تفقس فيخرج منها حيوان سميع ، ألا يدل عل السميع البصير؟
أعرابي يصلي في الصحراء ، بدوي صلي ركعتين، فقال له رجل من الملحدين : لمن تصلي؟ قال: لله. قال: هل رأيته؟ قال: عجباً لك ، الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، وسماء ذات أبراج، وليل داج ، ونجوم تزهر ، وبحر يزخر ، ألا يدل على السميع البصير؟!!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداك
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك
قام صلي الله عليه وسلم على المنبر يوم أحد قبل المعركة بيوم فأعلن الحرب على أبي سفيان، وندد بإجراءاته وبظلمه وبتعسفه حول المدينة، وقال: نقاتلهم في المدينة، ما نقاتلهم في أحد، فقام شاب في الخامسة والعشرين من عمره قال: يا رسول الله لا تحرمني دخول الجنة، فو الله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها.
فتبسم صلي الله عليه وسلم من الذي يحلف على الله فقال: (( بماذا تدخل الجنة؟)) ما هي المؤهلات؟ قال: بخصلتين ، أولهما: أني أحب الله ورسوله، وثانيهما : أني لا أفر يوم الزحف.
قال صلي الله عليه وسلم : (( إن تصدق الله يصدقك))، إن كنت صادقاً فسوف تري، فبدأت المعركة، وحضر هذا الشاب ، وخاضها بنفسه، يريد جنة عرضها السماوات والأرض، ما يقاتل من أجل ناقة أو شاة أو بعير، لا، بل من أجل إرضاء الواحد الأحد، فقتل ومر به صلي الله عليه وسلم ومسح التراب عن وجهه وقال: (( صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله)).
وليس بغريب أن يأتي من أمثالكم من الأبرار الأماجد فيعيدون سيرة السلف الصالح من أمثال خالد بن الوليد الذي تحدي الموت، قال له الرومي: يا خالد إن كنت متوكلاً على الله كما تزعم فهذه القارورة مملوءة سما فاشربها.
فقال خالد: بسم الله توكلت على الله، وشرب القارورة كلها ثم قال: الحمد لله، فما أصابه شيء ، لأنه توكل على الواحد الأحد.
قتيبة بن مسلم أتي يحاصر كابول عاصمة أفغانستان التي ضاعت منا لما ضيعنا الصلوات الخمس، جيوش ما تصلى كيف تنتصر؟ جيوش ما تعرف الله كيف تتوجه إلى الله ؟ كيف ينزل النصر والفتح والرزق إلا من عند الواحد الأحد؟ النصر من السماء ليس من الأرض ، أتينا إلى الدنيا ما عندنا إلا خيول قليلة، وثياب ممزقة، ورماح مكسرة، ففتحنا الدنيا.
سعد بن أبي وقاص ـ قبل أن آتي إلى قتيبة ـ حضر القادسية بثلاثين ألفاً وجيش فارس مائتان وثمانون ألفاً ، فقام سعد يصلى الظهر بالمسلمين، قال: الله أكبر، فكبر معه ثلاثون ألفاً، وركع فركعوا في لحظة واحدة ثم سجد فسجدوا جميعاً، فقال رستم قائد فارس وهو ينظر من بعيد إلى الجيش في انتظام، فعض أنامله وقال : علم محمد الكلاب الأدب ، بل علم صلي الله عليه وسلم الأسود الأدب، وبدأت المعركة.
قال رستم قائد فارس لسعد: أريد أن ترسل لي جندياً من جنودك لأكلمه، فأرسل سعد ربعي بن عامر في الثلاثين من عمره، قال: لا تغير من هيئتك شيئاً، فإنا لن نفتح إلا بطاعة الله، يقول: لا تأخذ شيئاً، لا تلبس تاجاً، ولا ذهباً ولا حريراً، كن على هيئتك، لأن مبادئنا في قلوبنا، وإرادتنا تحطم الحديد، فذهب ربعي بفرسه ورمحه وثيابه ودخل على رستم.
فلما رآه رستم هو ووزراؤه وقواد الجيوش ضحكوا، قال رستم: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور، والرمح المثلم والثياب الممزقة؟ قال ربعي: أي والله، إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العبادة إلى عبادة رب العبادة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.(/31)
وبدأت المعركة، وفي ثلاثة أيام صفي سعد حساب المجرم، وسحقهم في الساحة، (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:25/29) .
حاصر قتيبة بن مسلم كابول ليفتحها، وقبل الحصار قال: التمسوا لي محمد بن واسع، ابحثوا لي عن العابد الزاهد محمد بن واسع الأزدي أحد العباد الكبار ممن حضر المعركة، فذهبوا فوجدوه قد صلي ركعتي الضحي وأتكأ على رمحه ورفع سبابته إلى الواحد الأحد...من أين يأتي النصر والفتح؟ من الله. من أين يأتي الرزق؟ من الله.
يا حافظ الآمال أنـ ـت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم على كي يجتاحني فنصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
دخلت بعض الجيوش العربية إسرائيل وقد كتب على بعض أعلامها:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان
وضربت الدبابات في الصباح، وفي ما يقارب الساعة العاشرة دخلت الجيوش بلادها مهزومة ، وإذا الثكالى يندبن ويلطمن وجوههن، وإذا موشي ديان يتكلم على الشاشة ويضحك ويقول: العرب لا يعرفون القتال، ابن القرد والخنزير يتكلم عليهم ما تركوا الصلوات الخمس وكفروا بالواحد الأحد، أخزاهم الله، فتكلم هذا القرد لأنه وجد في الساحة شكلاً آخر غير الشكل الذي واجه به اليهود الصحابة، ليسوا من أحفاد خالد وسعد وطارق وصلاح الدين.
رجل آخر يقول في مجمع ويصفقون له، يقول:
هبوا لي ديناً يجعل العرب ملة وسيروا بجثماني على دين برهم
يكفر بالإسلام يقول: أعطوني أي دين يجمع العرب غير الإسلام.
بلادك قدمها على كل مله ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
تعالي الله عما يقولون علواً كبيراً.
قال قتيبة بن مسلم: التمسوا لي محمد بن واسع فوجدوه يمد أصبعه ويدعو الله، فعادوا إلى قتيبة فاخبروه، فقال: الحمد لله، والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ون مائة ألف شاب طرير، فإذا علم ذلك فلا نطلب التوفيق إلا من الواحد الأحد، والتوفيق إنما يأتي عندما نصلح ما بيننا وبين الله ونصلح ما بيننا وبين الناس.
يقول أحد الصالحين: والله إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وخلق خادمي، من يعصي الله يعصي الله عليه كل أمر، مسؤوله لا يرضي عنه، أمته لا ترضي عنه، ولاة الأمور لا يرضون عنه، ومن تردي برداء ألبسة الله ذلك الرداء.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضي والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
العنصر الثاني: أوصيكم باجتناب المعاصي ما ظهر منها وما بطن، والمعاصي هذه مقت وغضب ولعنة من الله الواحد الأحد. يقول الله عن بني إسرائيل : )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ )(المائدة: الآية13) ويقول سبحانه وتعالي فيهم: ) كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّه)(الجمعة: الآية5) .
والله عز وجل يقول: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) .
علم أن من ضيع الله في الطاعات يبتلى بالمعاصي، وأن من ثبته الله على الطاعات يثبته حتى الموت ، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (ابراهيم:27).
حدثني بعض الإخوة أن في الجزائر شاب عابد ولي من الأولياء أتته حادثة انقلاب سيارة، فأغمي عليه ثلاثة أيام... أترون ماذا كان يقول في الثلاثة أيام؟ كان يقرأ الفاتجة على لسانه وهو مغمي عليه لا يدرك شيئاً، كان يردد الفاتحة صباح ومساء حتى أتاه موته.
شاب آخر في هذه البلاد أتاه حادث انقلاب سيارة فوجد تحت الكفر وهو في حالة شنيعة وهو يردد: هل رأي الحب سكارى مثلنا!! ، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (ابراهيم:27).
ذلك يوم نشأ على الفاتحة ، مات على الفاتحة، وهذا يوم أن نشأ على هل رأي الحب سكارى مثلنا، مات على ذلك لأن معتقده ومبدأه ومنهجه هذا الصنف، والله يثبت من يشاء ويضل من يشاء لكن بأسباب وبإرادات وبمزاولة من العبد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(/32)
إذا علم هذا، فإن واجب العبد أن يكف عن المعاصي ، وأن يتقي الله ليسدده الله عز وجل ويأخذ بيده، ونحن نعترف بنعم الله علينا ظاهرة وباطنة، لكن وجد من أبنائنا من بدلوا نعمة الله كفراً، )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (ابراهيم:28).
والذي يطالع في الأحداث التي وقعت في الساحة قبل أيام يري أن هناك أناساً يعيشون بلا إدراك وأنه ينقصهم الوعي، وأنه لا بد من دعوة هؤلاء وحثهم على الطاعة، وهذا واجب الدعاة والآباء والأساتذة، على هؤلاء جميعاً أن يوجهوا ذاك الجيل، الجيل الذي ترك المسجد، فلما ترك المسجد أتي ليشغل فراغه بكل شيء ، جيل يتابع أحداثاً ما كان لها أن تتابع، هدد الأمن وأزعج الناس وضيع وقته ومستقبله.
أري الكافر أن هذه أمتنا، وأن هذه رسالتنا في الحياة، زمجرة، ورقص ، وتصفيق ، وتهتك ونهيق وزفير، والإسلام بريء من هذا، الإسلام دين عقل ونقل، والإسلام مبادىء خالدة ، الإسلام رسالة في الحياة، )وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:18/19) ، الإسلام رسالة.
فالعنصر الثاني: أن نكف عن المعاصي، يقول الشافعي وقد شكا لشيخه سوء الحفظ والنسيان فأمره بترك معصية الله عز وجل :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتي لعاص
أحد الناس نظر نظرة لا تجوز له فقال له أحد العلماء: أتنظر إلى الحرام، والله لتجدن نتيجتها وغبها بعد حين، قال: نسيت القرآن بعد أربعين سنة، لأنها اثر.
وىثار الذنوب كثيرة، منها: قسوة القلب، وقسوة القلب ضرب به اليهود ضربة قاسية، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم. ومن آثار الذنوب اللعنة، لأن العبد إذا استمر في الذنوب وطبع على قلبه لعن والعياذ بالله.
ومن آثار الذنوب قلة البركة في الرزق، ومن آثار الذنوب الضنك في المعيشة، رأيناهم ورأيتموهم يسكنون في القصور الشاهقة ويركبون السيارات الفاخرة ويلبسون الملابس الفاخرة ويتنعمون بالمشارب والمطاعم، لكنهم ما وجدوا الأمن والسكينة، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:124/126).
إبراهيم بن أدهم أحد الصالحين ، يعيش على الرصيف وما يجد إلا كسرة خبز، ولكنه بذكره وتلاوته وعبادته يعيش في رغد من العيش، في جنة ، قال له الناس: هل أنت سعيد؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو، إنا في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
ابن تيمية شيخ الإسلام ما كان يملك من الدنيا إلا ثوب وعمامة، لكن يقول وقد سجنه أهل البدع وأهل المعاصي لما أنكر عليهم قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أني سرت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
أغلقوا عليه باب السجن فقال: ) فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد: الآية13) ، يقول له أحد الفجرة من السلاجقة: يا ابن تيمية يزعم الناس أنك تريد أن تلغي ملكنا، وتأخذ ملكنا.
قال: ملكك؟
قال: نعم.
قال: والله ملكك لا يساوى عندنا فلساً واحداً ، لأنه يريد السعادة، والسعادة لا تحصل والله إلا بذكر الله، ومن يقرأ (0 دع القلق وابدأ الحياة)) لدايل كارينجي، و(( الإنسان لا يقوم وحده)) لكيرسي ميرسون، يري أنهم ما وجدوا السعادة.
يقول أحدهم: بحثنا عن السعادة فأخفقنا.. وهذا الذي ألف الكتاب أخذ السكين وذبح نفسه فمات، لأنه ما وجد السعادة.
ما هي السعادة؟ السعادة أن تتوضأ كل يوم خمس مرات، السعادة أن تصلي كل يوم خمس مرات فرائض وأن تتزود بالنوافل، السعادة أن تطالع القرآن المجيد وأن تتدبر آياته، السعادة أن تكون ذاكراً للواحد الأحد ، السعادة أن تجدد التوبة لك دائماً، السعادة أن تخرج المنكرات والفواحش والمعاصي من بيتك، أن تكون رجلاً حازماً مربياً معلماً موجهاً في مجتمعك وأمتك، وتقودهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6)(/33)
بعض الناس كبير في السن جاوز الأربعين، حدثنا عنه أنه لما أتت المباراة كان ينظر إلي الشاشة ، فلما أتت الصلاة أراد ألا تفوته المباراة فأخذ غترته وجدعها وأنزلها في الأرض ثم نقر أربعاً وسلم، وأخذ يتابع المبارة!! أهذه صلاة؟ أهذا قلب أوتي نوراً؟ ) ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(النور الآية40).
بعض الناس وجد أنه يتحمس لقضايا الدنيا، ولو ضيع ابنه عشرة ريالات لأقام الدنيا وأقعدها على تضييعها، ولكن ابنه لا يصلي، ابنه يدخن، ابنه يستمع الغناء الماجن صباح ومساء ، ابنه لا يقرأ القرآن ، ابنه مع الشلل والعصابات المنحرفة في المقاهي والمنتديات ومع ذلك لا يغضب!! أي قلب هذا؟
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
يا أيها الإخوة الأخيار، يا أيها الأبطال، يا أبناء من رفعوا لا إله إلا الله، ووزعوا لا إله إلا الله على البشرية، إنني أسألكم بالله العظيم أن نعرف مسؤولياتنا ومهماتنا،ومقاصدنا في الحياة الدنيا، إذا عرفنا ذلك نفعنا أمتنا وبلادنا وديننا، ورفعنا أنفسنا فوق هامات الجميع، وإلا لو كانت المسألة مسألة تقدم مادي وحضاري دنيوي لكان الكفار فوقنا في كل شيء.
نحن ما صنعنا طيارة ولا سيارة ولا صاروخاً ولا برادة ولا ثلاجة، لكننا أتينا لنصنع القلوب، أتينا لنقدم للناس إسلاماً وديناًن يقول كيرسي ميرسون: أعطيناكم الطائرة والصاروخ والثلاجة والبرادة، وأنتم لم تعطونا الإسلام، حرمتمونا الإسلام، نعم إنهم يريدون الإسلام.
لقد أخفق كل دين في الساحة إلا دين الله وهو الإسلام . جربت العلمانية فإذا هي لعنة، وجربت النصرانية المحرفة فإذا هي لعنه، وجربت الشيوعية فإذا هي لعنه، وأتي الناس يدخلون في دين الله، ولكن شبابنا بدا كثير منهم معجباً بنفسه، متكبراً على أوامر ربه، ومنهم من ترك الصلاة بالكلية ، فهل هؤلاء الذين سيقدمون الإسلام للبشرية؟
فيا إخوتي في الله، هذه المعلومات ليست بغريبة عليكم ولا جديدة، ولكن من باب الذكري والاتعاظ، لعل الله أن يرحم حالنا، لأن المعاصي كثرت، وسببها ترك الصلوات الخمس، ولذلك كتب عمر إلى سعد في القادسية: الصلاة الصلاة، فإن عدوكم لن يغلبكم إلا بمعاصيكم أو كما قال عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فيا إخوتي في الله، أسأل الله أن يغفر لي ولكم الذنوب والخطايا، وأن يجعلنا صالحين مصلحين، مصلين صائمين، ذاكرين عابدين.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتا فإن رجعنا إلى الشاطيء عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فيا الإخوة الأخيار، يا من تقدمون النفع للأمة، يا من تسهرون لينام الآخرون، ) قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(التحريم: الآية6).
أطفئوا عنكم نار جهنم، أنقذوا عنكم نار جهنم، أنقذوا أنفسكم وأهليكم من النار، حافظوا على عهد ربكم ولا تضيعوه بتضييع الصلوات الخمس في المساجد، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حافظوا على كتاب ربكم تلاوة وحفظاً وفهماً وتدبراً ، أعدوا أنفسكم ليوم قال فيه: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:1/2) .
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الصلاة..الصلاة
الحمد لله الذي كان بعبادة خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أخرج الأمة المظلومة المنهوبة والمسلوبة إلى فضاء النور والريادة والقيادة، حول الأمة المسكينة التابعة المقلدة إلى أمة قائدة رائدة معلمة.
صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
يقول صلي الله عليه وسلم في الصحيحين: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فأمره الله أن يقاتل هذا الإنسان حتى يسجد لله.
إنها المفاصلة بين الإنسان وبين الدين يوم أن يتهاون بالصلاة، أو يترك الصلاة، أو يتنكر للصلاة، أو لا يتعرف على بيت الله، أو لا يسجد لله. حينها يصبح هذا الإنسان لا قداسة له ولا حرمة ولا مكانة ولا قيمة.(/34)
هذا الإنسان يوم يترك الصلاة يكون رخيصاً لا قيمة له، تهان كرامته ويعزر بقطع رأسه، قيل حداً وقيل قتلاً على الكفر وهو الصحيح.
فالرسول صلي الله عليه وسلم أمره الله أن يشهر السيف فيقاتل هذا الإنسان حتى يعترف بالصلاة ويصليها.
يقول الله عن جيل من الأجيال الذين تهاونوا بالصلاة: )فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59) ، قال أحد السلف: أما إنهم ما تركوها ولكن أخروها عن أوقاتها.
أي إسلام لمسلم يدعي الإسلام وهو يترك الصلاة ولا يصليها حتى يخرج وقتها؟ أي دين له، ما معني لا إله إلا الله لرجل تؤخره تجارته عن الصلاة، أو وظيفته أو عمله أو منصبه أو اجتماعه؟ ثم يأتي بعدها يتبجح على الأمة وعلى العالم بأنه مسلم بهويته، فأين الصلاة؟
)إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:142) ، إنهم يصلون الساعة ولكن صلاة العصر بعد غروب الشمس، وصلاة الظهر الساعة الثانية، وصلاة المغرب مع صلاة العشاء، وصلاة الفجر مع طلوع الشمس.
فأين الإسلام؟
وأين لا إله إلا الله؟
وأين التحمس للدين؟
حضرت رسول الله صلي الله عليه وسلم معركة الأحزاب قبل أن تنزل صلاة الخوف ، فقام يقاتل المشركين في جهاد ودمه يثعب في الأرض في مخاصمة لأعداء الله، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس ، ما نسيها وهو في لهو.. حاشا وكلا، أو في مباحات حاشا وكلا، بل نسيها أثناء احتدام الصراع مع الخصم، فاليهود والمشركون والمنافقون أنسوه صلاة العصر.
فلما غربت الشمس قال لعمر: (( أخروا علينا صلاة العصر ـ أو شغلونا عن صلاة العصر ـ ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً)).
ثم قام صلي الله عليه وسلم وصلاها. وأنزل بعدها الله صلاة الخوف كي يصليها الخائف في صف القتال، ويصليها الذي يمتطي الدبابة، ويصليها المريض على السرير، فلا يعذر أحد، بل يصليها الجريح وهو في جراحه.
إن تأخير الصلاة عن وقتها من النفاق الصريح الذي وقع فيه كثير من الناس إلا من رحم ربك.
قال صلي الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت: (( الله الله في الصلاة، وما ملكت أيمانكم)).
أي دين بلا صلاة؟
ما معني لا إلهه إلا الله؟
ما معني الانتساب للإسلام بلا صلاة؟
يقولون : نحن مسلمون..ولكنهم في تهاون بالصلاة ، ونقر للصلاة ، وتأخير للصلاة.
فأين لا إله إلا الله؟
وأين الصدق مع الله؟
صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( والذي نفسي بيده لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار)).
لماذا؟
لأنهم أصبحوا في عداد المنافقين، يتدرعون بالإسلام ولكن لا يصلون مع الناس، ويدعون لا إله إلا الله ولكن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، أو حتى يخرج وقتها.
يسأل صلي الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال.
قال : (( الصلاة في أول وقتها)).
ويقول صلي الله عليه وسلم : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).فدمه مسفوك بسيف الشريعة، وهو خارج من الملة لا طهر له ولا قداسة ولا عرض ولا حرمة، فيصبح لا حماية له ولا حضانه ولا صيانة لأنه حارب الله.
ويقول صلي الله عليه وسلم : (( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))، فلم يعذر الرسول صلي الله عليه وسلم أحداً عن ترك الصلاة إلا من عذره الله ( أعني الجماعة).
يقول ابن مسعود : والذي نفسي بيده لقد كان يؤتي بالرجل يهادي به بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف.
ومرض أحد الصالحين من التابعين اسمه ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير، وهو في مرض الموت سمع أذان المغرب فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد.
قالوا : أنت مريض وقد عذرك الله.
قال: لا إله إلا الله، أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح وأصلي في البيت؟! والله لتحملني.
فلما سجد السجدة الخيرة من صلاة المغرب قبض الله روحه.
يقول أهل العمل: إن هذا الرجل كان إذا صلي الفجر كان يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، يعني الجميلة البديعة الرائعة.
ما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد.
فالميتة الحسنة أن يتوفاك ربك بعد فريضة، او في صف الجهاد في سبيل الله، أو يتوفاك وأنت على طهارة، أو يتوفاك وأنت في السجود، وأنت في طلب العلم، أو يتوفاك وأنت منفق في سبيل الله.
والميتة القبيحة هي أن يتوفى الله العبد وهو على الأغنية الماجنة، أو على السهرة الماجنة، أو في سفر لطلب الفاحشة، أو على كاس الخمر. هذه هي الميتة التي تعوذ منها الصالحون.
سعيد بن المسيب كان بيته في أقصي المدينة، وكان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد المصطفي صلي الله عليه وسلم ، فقال له إخوانه: خذ سراجاً لتري به الطريق في ظلام الليل.
قال: يكفيني نور الله، ) وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(النور: الآية40).(/35)
ولذلك في الحديث عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). أفي القيامة ظلمات؟ أفي القيامة ليل؟ أي والله ليل أدهي من الليل، وظلمة أدهي من الظلمة ، يجعلها الله لأعداء المساجد والذين انحرفوا عن بيوت الله، فيظلم عليهم طرقاتهم عندما يقولون للمؤمنين: ) انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً )(الحديد: الآية13) ، فلا نور لمن لا نور له.
كان سعيد هذا عالم التابعين، بعين واحدة، قالوا: من كثرة البكاء في السحر من خشية الله.
كان يذهب بهذه العين في ظلام المدينة إلى المسجد ويقول في سكرات الموت وهو يبتسم: والله ما أذن المؤذن منذ ا{بعين سنة إلا وأنا في المسجد قبل الأذان.
ولكن أتي خلف أكلوا نعم الله وتمرغوا في أيادي الله، ونسوا حظهم من الله، فأصبحت الصلاة في حياتهم من آخر الاهتمامات.
ودع عمر رضي الله عنه وأرضاه سعداً إلى القادسية وأخذه على جانب وأوصاه بالجيش وبالصلاة وقال: الله الله بالصلاة، فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي.
وكان الصحابة إذا حضر الخوف، وتلاحمت السيوف، وأشرعت الرماح، وتنزلت الروس من على الأكتاف، تركوا الصفوف لطائفة وقامت طائفة تصلي.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلي الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
حضر أجدادنا الذين فتحوا الدنيا بلا إله ألا الله حصار كابل عاصمة أفغانستان وطوقوها من كل جهة، ولبسوا أكفانهم لأنهم يريدون الحياة في عز أو الموت في سبيل الله، )قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْن)(التوبة: الآية52) إما الشهادة وإما النصر.
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفي بالمطايا طيب ذكراك حاديا
وقفوا بأكفانهم يحاصرون كابل، ولما صلوا الظهر قال القائد العظيم فتيبة بن مسلم الذي كان قبل المعركة يبكي ويمرغ وجهه في التراب ويطلب النصر من الله، فلما وقف بعد صلاة الظهر وكان جيشه مائة ألف قال: ابحثوا لي عن الرجل الصالح محمد بن واسع، أين هو؟ محمد بن واسع، مفتي الجيش الإمام الزاهد العلامة، قال: ابحثوا لي أين هو في هذه الساعة.. ساعة الصفر.. ساعة تنزل النصر من السماء.. ساعة بيع الأرواح .ز ساعة تفتح الجنان واستقبال الحور العين لشلهداء.. ساعة حضور الملائكة.
قال : ابحثوا عن محمد بن واسع، فالتمسوه فوجدوه يبكي وقد اتكأ على رمحه ورفع أصبعه يقول: يا حي يا قيوم.
فأخبروا قتيبة فدمعت عيناه ثم قال: والذي نفسي بيده لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مئة ألف سيف شهير، ومن مئة ألف شاب طرير.
وابتدأت المعركة وانتصر المسلمون وصلوا صلاة العصر داخل كابل.
إنها الصلاة التي هي الحياة، حياة القلوب ، إنها الميثاق ، إنها العهد بين الإنسان وبين الله، ويوم يتهاوان بها أو لا يصليها المسلم جماعة مع استطاعته فعلم أنه قد أدركه الخذلان، وأن حبل الله قد انقطع منه وأن اللعنة قد نالت .
عباد الله إن من أسباب سعادتنا وحفظ الله لنا ورغد العيش الذي نعيشه أن نحافظ على عهد الله في الصلاة وأن نتواصي بها.
يقول لقمان عليه السلام لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك)(لقمان: الآية17) فهل من مصل؟ وهل من مؤد للصلاة في أول وقتها؟ وهل من حريص على تلك الشعيرة العظيمة التي أتي بها صلي الله عليه وسلم ؟ فإنها الحياة.
طعن عمر في صلاة الفجر رضي الله عنه وأرضاه ، ففاتته ركعة واحدة، غلبه الدم وحمل على أكتاف الرجال ووصل إلى بيته فقال: هل صليت؟
قالوا : بقي عليك ركعة.
فقام يصلي فأغمي عليه ، ثم عقد الصلاة فأغمي عليه، ثم أتم الركعة.
فقال: الحمد لله الذي أعانني على الصلاة، الله الله في الصلاة لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
فمن حفظ الصلاة حفظه الله، ومن ضيع الصلاة ضيعه الله ، ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت: الآية45).
أقول هذا لأني أخشى أن يؤخر الناس الصلاة لظروف الاصطياف في أبها وما جاورها ، فربما يجعل الرغد والأمن والسكينة بعض النفوس تلهى عن الله، وتبعد عن الله، أو تؤخر فريضة الله، بحجة النزهة أو الزيارة أو الفرجة.
فالله الله في الصلاة يا عباد الله من مقيم ومصطاف ، أدوها في وقتها بخشوع لعل الله أن يرحمنا .
وأما عن يوم الجمعة فأقول:
إن يوم الجمعة أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام..يوم الجمعة عيد لنا.. يوم الجمعة تاريخ.. يوم الجمعة له قصة من أعظم القصص.. هذا اليوم الذي نعيشه في هذه اللحظات خلق الله فيه آدم وأدخله الله الجنة وأخرجه من الجنة وفيه تقوم الساعة.(/36)
هذا اليوم وهذه الساعة كان هو موعد النزال بين موسى وفرعون، يوم الصراع العالمي بين الحق والباطل، يوم نزل موسى بلا إله إلا الله والعصا، وفرعون بالدنيا ودجاجلة الدنيا وسحرة الدنيا فقال: ) مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً)(طه: الآية59) .
ولكن ما هو واجب هذا اليوم علينا؟
إن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس جعلوا هذا اليوم موسماً للنزهة، وفي طريقهم يضيعون صلاة الجمعة، فلا يحضرون الخطبة ولا يؤدون شعائر الصلاة، ولا يتهؤون لهذا الجمع العظيم الذي هو جمع من أعظم الأيام في أيام الله.
فمن الصباح الباكر والملائكة على أبواب المساجد تسجل الأول فالأول، فإذا دخل الخطيب طوت الصحف وأنصت لسماع الخطبة.
ومن الصباح والكائنات مصغية تنتظر قيام الساعة كما صح به الحديث.
وقد نص شيخ الإسلام على أن المسافر إذا حضر صلاة الجمعة في المدينة فإن عليه أن يحضرها في المسجد.
فالمسافر وهو في حال السفر إذا نزل في مدية تقام فيها الجمعة عليه وجوباً أن يحضر صلاة الجمعة ليستمع الخطبة، ليعيش مشاعر المسلمين وأحاسيس المسلمين.
أيها المسلمون ! في يوم الجمعة علينا واجبات:
منها الاغتسال والطيب، وقد أوجبها بعض أهل العلم والجمهور على سنية الغسل.
لماذا الاغتسال؟
للقاء الله، لأنه يوم عيد وربما أتتك المنية في هذا اليوم، وهو يذكرك بيوم العرض الأكبر على الله، واليوم الأكبر يوم القيامة يتجمل له بغير هذا الجمال الظاهري الذي نتجمل به هذا اليوم ، فليس في يوم القيامة مطارف ولا ثياب ولا زينة ظاهرية، )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18)
السجل مكشوف ، والبدن عار، والقلب مفتوح ، والضمائر معروفة، والتاريخ مفتوح أمام من لا تخفي عليه خافية، )وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(الأنعام: من الآية94)، )وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )(الكهف: من الآية49).
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه ينبه الناس على هذا اليوم ويأمرهم بالتهيؤ فيقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله.
أما الظواهر فجميلة ، ولكن البواطن فلا ندري ما حالها.
لبسنا واشياً من كل حسن فما سترت ملابسنا الخطايا
وتلك قصورنا بالجو شاخت وتلك قبورنا أضحت صلايا
أيها المسلمون ، ومن المشاعر الحية يوم الجمعة كثرة قراءة القرآن، فهل يعقل أن الخطيب يدخل وبعد دقائق يدخل المصلون بعده؟ بل أن المساجد يبقي فيها مجال وسيع للناس، فإذا سلم الخطيب دخل المتخلفون بلا أجور يشهدون الصلاة.
فأين الساعة الأولي؟ والثانية؟
وأين أهل الصفوف الأولي؟ ولا يزال قوم يتقدمون حتى يقدمهم الله في من عنده، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله في من عنده.
وبعض الغوغاء الذين لا يفهمون أحكام الله يبيعون ويشترون بعد النداء الثاني وبعد دخول الخطيب، أي بيع لهم؟ لا أربح الله بيعهم ! ولا أربح الله تجارتهم، والملائكة تنصت الاستماع ، والسماء مفتوحة لصعود الدعاء، وخطباء الأمة الإسلامية على المنابر، وقلوب الناس منفتحة لسماع كلام الخطيب، والسكينة تغشي الناس، والرحمة تحف بهم، والله يباهي بهم في السماء، وهؤلاء اللاهون يبيعون ويشترون ويجرحون مشاعر المسلمين.
إنه جرح لمشاعر المسلمين أن يباع وأن يشتري بعد النداء الثاني، وإنه تعد على حرمة صلاة الجمعة.
ومن الآداب والسنن يوم الجمعة كما ذكرت التطيب لها والتزين لأن الله يقول: )يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(لأعراف: الآية31) .
فيا أيها المسلمون: الصلاة الصلاة ، عليكم بالمحافظة عليها، ويأتي على راسها صلاة الجمعة، فحافظوا عليها وأدوها بخشوع، واستعدوا لها لعل الله أن يرحمنا برحمته.
والله أعلم، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
دفاع عن المرأة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يقول المولى جلت قدرته وهو يذكر الناس بتقواه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)(/37)
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21) .
قال بعض أهل التفسير:( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء:1) أي: خلق حواء من ضلع آدم.
وقال غيره: بل كل زوج من أصل الزوج الآخر ) لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا )(لأعراف: الآية189) أي يسكن بعضهم إلى بعض. وسمي الله الأزواج سكناً وهن ستر في الدنيا والآخرة.
وقد حث صلي الله عليه وسلم على الرحمة بالمرأة ودافع عنها، وهو الذي أعلن حقوقها يوم عرفة فأوصي بهن، ولقد رزقه الله أربع بنات وأحيا الله بناته حتى رآهن وزوجهن ودفن بعضهم، وكان يبدأ بهن قبل أن يسافر ويبدأ بهن إذا وصل من السفر من حبه لهن صلي الله عليه وسلم .
كان يقول صلي الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (( إن المرأة خلقت من ضلع)) وقال ابن عباس : من ضلع آدم.
وقد روي أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنهما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( إن النساء شقائق الرجال))، حديث حسن.. والمعني أن المرأة شقيقة الرجل ، وأنها نصف المجتمع ، وأنها مؤدبة للرسالة في بنات جنسها.
والمرأة عندنا أم وزوجة وأخت وبنت ومعلمة ومربية وداعية. قال سبحانه وهو يتفضل على عباده في العمل الصالح: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )(الأحزاب: الآية35)، وذكر الله أفعال الخير حتى ختم الآية.
ويقول سبحانه وتعالي في سورة آل عمران يوم ذكر الدعاة والمجاهدين والمهاجرين: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض)(آل عمران: الآية195) وقال سبحانه وتعالي: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
فهناك حزب هم المؤمنون والمؤمنات، وهناك حزب هم المنافقون والمنافقات ، وهناك لواء المسلمين والمسلمات، وهناك لواء المشركين والمشركات.
وقال صلي الله عليه وسلم : (( الله الله في النساء فإنهن عوان عندكم))، قال أهل الغريب: عوان: أي أسيرات.
فالمرأة أسيرة وواجب على المسلم إن يرحمها وأن يقدرها ويحترمها.
وصح عنه صلي الله عليه وسلم عند أبي داود وغيره أنه قال: (( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))، فخير الناس لأهله محمد صلي الله عليه وسلم . قالوا لعائشة: كيف كان صلي الله عليه وسلم إذا دخل عليكن..قالت : ( كان يدخل ضاحكاً بساماً)، برغم المشاكل التي تطوف بأمته والحوادث المستقرة على رأسه، ولو وضعت على كثير من البشر لما استطاعوا حملها.
وفي كتاب البخاري في الأدب قال زيد بن ثابت: المزاح مع الأهل، والوقار خارج البيت. وبعض الناس عكس ذلك؛ مزاح ضحاك مع زملائه.. وقطوب عبوس مع أهله في بيته.
وقال بعض الشعراء المسلمين:
سلام أيها الأم الحنون
ويا أم الرجال الشجون
فأنت ولودة الأبطال نحمي
عفافك بالجماجم لا يهون
وقال أديب عصري يدافع عن المرأة أما الحضارة الزائقة المزعومة:
أخرجوها من العفاف إلى السوق
وشقوا جلبابها بالمخاصر
جعلوها علي المجلات رمزاً
للهراء المفضوح بكف فاجر
وادعوا أنهم بها قد حرروا الجيل
وقد مزقوا الحياء بالخناجر
دخل أحد الحكماء على ملك من الملوك فوجد طفلة الملك جالسة عند الملك، فقال الملك: سمعت أن الناس يقولون إن البنات يقربن البعيد ويبعدن القريب ويقطعن الأرحام.
قال الحكيم : كلا أيها الملك، والله إنهن رياحين القلوب، أتين بالرجال وحملن بالأبطال..درر مكنونة ومطارف مصونة.. يقمن على المريض ويذكرن الميت.. رحيمات بالأولاد خدومات للأجداد.. حجاب عن النار وكنز في السواد.
وقد قال صلي الله عليه وسلم : (( من عال جارتين فرباهن وأحسن إليهن وزوجهن كن له حجاباً من النار))، فالحجاب من النار تربية البنات في البيت على تعاليم الكتاب والسنة.
قال أبو الطيب المتنبي وهو يرثي أخت سيف الدولة:
ولو كان النساء كمن عرفنا
لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
يقول : لو كان النساء مثل أختك يا سيف الدولة فضلت النساء على الرجال. ففي الرجال من لا يساوي قلامة ظفر من امرأة، وفي النساء من تساوي ألف رجل.
لماذا نهتم بالمرأة؟
لماذا ندافع عن المرأة؟ لأنها مظلومة ظلمت من المجتمع الجاهلي الوثني الشركي في الجزيرة العربية.. فحرموها الميراث والرأي وجعلوها عقيماً عن حمل المبادئ ، واستخفوا بها وعملوها كما عاملتها الحضارة الغربية والثقافة المادية تماماً.
فأي مصيبة حلت بالمرأة في جاهليتها؟ مصيبة دهياء لا يعلمها إلا الله.(/38)
وهي مظلومة من الوضع الكافر الذي نعيشه الآن يوم أخرجوا المرأة بعد الحرب العالمية الثانية لتقود الدبابة والطائرة، وتأخذ السلاح وتحمل الكلاشنكوف ، وتصارع الأبطال ، وتقاتل في ساحة المعركة، وتكون جندية مرور.
إنها والله أمور تدل على أنهم ما قدروا المرأة حق قدرها وخذلوها في أعظم شيء تملكه وهو العفاف والحياء والطهر.
والمرأة مظلومة من بعض الآباء لأن كثيراً منهم لا يعرق قدر المرأة ولا يستشيرها ولا يعتبر رأيها، ومنهم من كان حجر عثرة في زواج ابنته، فإذا ما تقدم الكفء رفضه برأيه هو لا برأيها .. ولا يخبرها، حتى تعيش العنوسة والأسى.
وهي مظلومة أيضاً من بعض الأزواج .. فهو يتعامل معها كأنها دابة في البيت..فلا احترام ولا رحمة ولا سماع رأي ولا مناقشة بالتي أحسن، ولا حقوق ، وإنما هو يراها من صنف آخر ويتعامل معها بفظاظة وغلظة.
والله عز وجل يدافع عن المرأة لأن المرأة من المسلمين المؤمنين ..قال سبحانه وتعالي: )إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)(الحج: الآية38).
والرسول صلي الله عليه وسلم يدافع عن المرأة منذ أعطاها حقوقها وسن لها صلي الله عليه وسلم ما لها من حق في كثير من المناسبات. ولكن المجتمع لما جهل الفقه في الدين، وجهل الكتاب والسنة، حدث فيه أشياء يستغربها العقلاء، فمثلاً:
منها: أنهم يقولون في المجالس إذا ذكر أحدهم المرأة( المرأة أكرمكم الله)!!فهذا الجاهل وهذا الأحمق، ظن أنه إذا ذكر المرأة دنس الأسماع أو المجلس فيقول: ( أكرمكم الله)، فهذه كلمة خاطئة وحرام أن ينطق بها وأن تقال.. وعلى من حضر المجلس وسمع أن ينكر بأشد الإنكار.
ومنها: أن بعض الناس يجد غضاضة ويجد احتقاراً ويجد نقصاً بأن يتكني لاسم البنت أو المرأة ، فيأنف أن نقول له : ( يا أبا فاطمة)و( يا أيا أسماء) و( يا أبا خديجة) ، وهذا خطأ وقد تكني الصالحون ببناتهم، والأبطال في المعارك.
وكان كثير من السلف يسمي الرسول صلي الله عليه وسلم ويكنيه( أبا الزهراء)، أي فاطمة البتول بنت الرسول صلي الله عليه وسلم التي يقول فيها محمد إقبال شاعر الباكستان:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو اشرف مرسل
جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلى زوج لا تسل عنه سوي
سيفاً غدا بيمينه تياها
وقال شوقي:
أبا الزهراء قد جاوزت حدي
بمدحك غير أن لي أساء
وكان صناديد العرب ينتسب الواحد منهم لأمة ليزداد شرفاً وفخراَ بصفتها أنها عفيفة وشريفة وأنها محترمة.
قال الشاعر ـ وهو جرير ـ :
فما كعب بن مامة وابن سعدي
باشرف منك يا عمر الجوادا
تعود صالح الأخلاق إني
رأيت المرء يلزم ما استعادا
عليكم ذا الندي عمر بن ليلي
كريم المال قد سبق الجوادا
وعمر بن ليلي هو عمر بن عبد العزيز ، وكان يرتاح إذا قالوا له: يا ابن ليلي.
وكان عثمان رضي الله عنه يرتاح في مجالسه إذا قالوا له يا ابن أروي.
ودخل النابغة الذبياني على النعمان بن المنذر ومدحه في قصره أمام الناس وأثني عليه وعلى حكومته في المناذرة وهم ملوك العرب وقال:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
توارثنا من أزمان يوم حليمة
على اليوم قد جربنا كل التجارب
فيقول : من عهد جدتكم حليمة وسيوفكم تقطر دماً من أعدائكم! فارتاح وأعطاه الجائزة.
وكان قطري بن الفجاءة كنيته(أبو نعامة) وهي بنته، وقيل فرسه، والصحيح أنها بنته، فكان إذا حمي الوطيس خلع خوذته من على رأسه وقال: ( أنا أبو نعامة).
وكان الرسول صلي الله عليه وسلم يسمي النساء بأسمائهن.. وكان الصحابة يتداولون أسماء نساء الصحابة ، وبنات الصحابة، وأخوات الصحابة، لأنها ما دامت شريفة وعفيفة وطاهرة فهي جزء من المجتمع.
دخلت زينب امرأة ابن مسعود والحديث في الصحيحين واستأذنت على الرسول صلي الله عليه وسلم ، وكان بلال بالباب ، فقال صلي الله عليه وسلم : (( من بالباب))؟
قال: امرأة ابن مسعود..فأذن لها.
وفي الصحيحين أن أم هانئ أخت على ابن بن أبي طالب استأذنت فقال صلي الله عليه وسلم (( من))؟
قالت: أم هانئ.
قال: (( مرحبا بأم هانئ)).
ونحن نعرف قائمة نساء الصحابة.. نعرف اسم امرأة أبي بكر وعمر وعلى وعثمان والعشرة وأهل بدر وشعراء الصحابة . ولكن لما طال الأمد أنف بعض الناس أن تذكر أسماؤهن.
ومن الأخطاء المعاصرة في حق المرأة: عدم سماع رأيها وفكرها.. ويرون أن المرأة لا تأتي برأي صائب! ويقولون : إن شارت عليك المرأة برأي فخالفها!
وهؤلاء مخطئون.. بل كثير منهن في رأيهن البركة والخير الكثير، والرسول صلي الله عليه وسلم كما في الصحيحين استشار الجارية عن عائشة وعن عفافها، وعن سترها ، فأشارت على رسول الهدي صلي الله عليه وسلم ، فكيف بالعاقلات الكبيرات المؤمنات الداعيات المحترمات.(/39)
ومنها: حرمانها الميراث، وهذه مأساة تعيشها المجتمعات البدوية والقروية والقبلية .. ويرون من العيب أن تذهب المرأة وتطلب ميراثها من أهلها، وينددون بمن يفعل ذلك، وهم المخطئون، وعلى هؤلاء أن يؤدبوا تأديباً رادعاً يزجرهم هم وأمثالهم، وأن ترفع قضاياهم للمحاكم الشرعية حتى يؤخذ بحقهم الإجراء اللازم لأنهم خالفوا شرع الله ورفضوا الكتاب والسنة.
ومنها: تحجيم دورها في الولادة والإنجاب.. فيفهم بعض الجهلاء أن دور المرأة أن تنجب ، وأن تحمل ، وأن تضع الطعام، وأن ترضع فقط، وأما غير ذلك من الحياة ليس لها مجال في ذلك. وهذا خطأ ، لأن لها التربية ولها أن تعلم البنات، ولها أن تدعو، ولها أن تشارك برأيها، ولها أن تشارك بدعائها، ولها أن تقوم على أطفالها، ولها أن تخرج الزعماء والقادة والشهداء والصالحين.
ومنها: إتعابها بالعمل وتكليفها فوق الطاقة. وهذا يوجد في المجتمع البدوي والقروي والقبلي، فيجعلونها تكدح كدحاً لا يعلمه إلا الله ، حتى كأنهم لا يتصورون لها طاقة محدودة وأنها ضعيفة، وأنها تحمل وتضع، وأنها تعاني الأمرين، فتشارك في الزراعة والحراثة وفي رعي الأغنام وفي صنع الطعام وفي كنس البيت وفي غير ذلك، حتى تبقي تعمل الساعات الطويلة من العمل المضني الذي لا يعمله إلا عمال المناجم!
وهذا أمر لا يقره الإسلام، فهن لهن طاقة.. وهي امرأة ضعيفة .. وكان صلي الله عليه وسلم يقول: (( الله الله في النساء))، أي إنهن ضعيفات لا يستطعن حمل كثير من الأمور.
ومنها: حرمانها من التعليم في بعض الجهات.. والتعليم عندنا جائز بمواصفات إسلامية وتحت مظلة )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5).
عن تعليم المرأة ما يقوم بشؤون دينها وما يجعلها خائفة من الله متحجة متحشمة لهو من أفضل التعليم.
وقد علم الرسول صلي الله عليه وسلم الصحابيات. وأتت امرأة فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بك يجاهدون معك ويحجون معك ويغزون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فجعل لهن صلي الله عليه وسلم يوم الاثنين يعلمهن في ذاك اليوم ويفتيهن صلي الله عليه وسلم
وفي الصحيحين أنه خطب يوم العيد ثم قال لبلال: (( هيا بنا إلى النساء)) فخطبهن النبي صلي الله عليه وسلم وقال: (( تصدقن ولو بحليكن)) ، أو كما ورد في الحديث.
فقضية أن تبقي المرأة جاهلة لا تعرف القرآن ولا تحفظ كتاب الله عز وجل، ولا تعرف السنة والفقه.. قضية خاطئة نرفضها.
وأما التعليم الفاضح الذي يدعو المرأة أن تشارك الرجل في البرلمان، وأن تشاركه في حقوق الحياة، وأن تخرج متبذلة متكشفة سافرة، فهذا نرفضه وتعتبره تعليماً جاهلياً لا يزيدها إلا رداءة ولا يقودها إلا إلى النار.
نحن نريد تعليماً إسلامياً موقراً مقدساً يقودها إلى جنة عرضها السماوات والأرض كما كانت نساؤنا الأوائل.
فقد كانت عائشة رضي الله عنها عالمة. قال الزهري: كانت عائشة تحفظ من الشعر ثمانية عشر ألف بيت. وكانت تفتي الصحابة في معضلات المسائل. وهناك كتاب ألفه بعض المحدثين اسمه( استدركته عائشة على كبار الصحابة).
وفتاويها جمعت في مجلد كبير وهي مجتهدة ومتطلعة.
وعمرة بنت عبد الرحمن عالمة من عالمات التابعين.
ومعاذة بنت سعيد بن المسيب كذلك.
وكذلك كريمة بنت أحمد شيخة ابن حجر في فتح الباري! روت لأكثر من ستين ألفاً صحيح البخاري، وعالمات كثيرات حملتهن الكتب والسير والتواريخ.
ومنها: وضعها في عمل لا يليق بمكانتها.. كرعيها الأغنام والخروج للاحتطاب، وكذلك تريبها على السلاح والجيش، وفي المرور، وفي مواجهة الناس كالجوازات وعلى المنافذ العامة، وفي المستشفيات، وفي مباشرة الرجال، وفي النوادي الطبية وفي أماكن التمريض. فكل هذا لا يجوز في الإسلام ، فلا بد أن يكون عملها في حقلها مع بنات جنسها لا تري الرجال ولا يرونها.
وقد سألت صحابية رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو حديث حسن: ما أحسن شئ للمرأة ؟ قال: (( أن لا تري الرجال ولا يرونها))، وهي وصيته صلي الله عليه وسلم التي تبقي ابد الدهر خلا للمرأة في دنياها وأخراها.
ومنها : أن أي مشكلة تقع في البيت تجعل من نصيب المرأة، فهي سببها وأساسها، بل تجد في القضايا الشرعية عند القضاة إذا أتي الرجل يتحدث بسط لسانه في زوجته وتكلم عن ظلمها وعن إساءتها .. وهي خجولة لا تستطيع أن تبدي حجتها فيظلمها ويزيد عليها.
فهي كما قال تعالي: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف:18) .
ومنها: عدم فتح مجالات الدعوة للمرأة ، فينبغي أن يجعل لها محاضرات ودروس لبنات جنسها، أو حلقات تعليمية في القرآن وفي علم الحديث والتفسير والفقه، أو تقوم المرأة كذلك في حيها بجمع جاراتها على درس أسبوعي أو في القرى؛ لأن النساء يعشن في جهل رهيب بالتعاليم الشرعية.. فضلاً عن ما يخطط لهن من الأعداء.(/40)
ومنها: توجيه الغزو الفكري والخلقي للمرأة بواسطة المجلات والأفلام. وقد رأيت في بعض الأسواق أكثر من 18مجلة تحمل صور المرأة على الغلاف، وهم يعرضون المرأة في باب الجمال فقط، لا يعرضونها من باب الدين، أو أنهم يشيدون بعقلها أو بمكانتها أو بمستواها العلمي أو بذكائها أو بمصداقيتها أو بطهرها، إنما بجانب الجمال المتهتك!!
وأيضاً مجلات الأزياء تحمل أحجاماً كبري في تفصيلات الموضات الجديدة والأشكال والطرازت الحديثة في لباس المرأة وفي زيها.
وأيضاً مجلات الخياطة والتفصيل ، فهناك مقاسات كاشفة فاضحة عارية تعرض في البيوت.
أيضاً الأغاني التي أمطرت بها الأسواق وأحرج بها الناس.
أيضاً فقد جعلت المرأة في كثير من الأماكن وسيلة للدعاية كوضع المضيفات مثلاً.
وكذلك سكرتيرات في بعض المكاتب، وفي بعض السفارات، وفي بعض المنتديات والنوادي ، وكذلك في الفنادق وأماكن تجمع الناس.
ومنها: أن الكثير من الناس يدعون إلى التعدد ولا يذكرون العدل بين الزوجات الذي هو الأهم. فإن كثيراً من المحاضرين والدعاة يدعون الناس إلى أن يعددوا وأن يكثروا من الزوجات، ولكن لا يذكرون في محاضرة واحدة.. العدل بين الزوجات، فإن هذا أهم.
ولذلك وجد من تزوج بثانية فأهمل الأولي تماماً، فجعلها ليست مطلقة ولا متزوجة، وإنما معلقة، وجعلها كأنها خلقت هكذا لا اعتبار لها في الحياة.
ومنهم من ظلم حتى أنه يعطي هذه ثلاث ليال وهذه ليلة !.
ومنهم من لا يعدل في النفقة، ولا في الخلق، ولا في السكني، ولا في الطعام، ولا في غير ذلك مما يجب العدل فيه.
ومنها: مطالبة المرأة بحقوق الرجل دون ذكر حقوق المرأة على الرجل. فتجد كثيراً من الناس يطلبون من المرأة أن تؤدي حقوق الرجل كاملة غير منقوصة..أما حقها فلا يذكر!.
ومنها : التعامل معها بعنف وفظاظة إلى درجة الضرب حتى إن بعضهم يعلق( مشعاباً) في بيته!.
وهذا ظلم وإثم عظيم.. وقد قال صلي الله عليه وسلم : (( قد طاف بأبيات آل محمد نساء يشتكين من أزواجهن، وإن أولئك ليسوا بأخياركم أو من خيرتكم))، أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
فمن يفعل ذلك ليس من خيرة الناس وليس من صفوتهم.
جاءت فاطمة بنت قيس إلى الرسول صلي الله عليه وسلم واستشارته في ثلاة تقدموا لها: ( ابو الجهم، ومعاوية بن أبي سفيان، وأسامة بن زيد).
فقال: (( أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له))
(( وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه))، أي أنه يضرب نساءه.
((وأما أسامة فرجل خير، أنكحي أسامة)).
قالت: فتزوجت أسامة فاغتبطت به.
فالضرب ليس حلاً شرعياً إلا في مواطن ذكرها الله ـ عز وجل ـ في كتابه، وأن يكون ضرباً غير مبرح، وهو أن لا يكون مؤذياً، ولا يكون في الوجه ولا على البطن أو مكان حساس.
قيل لأحد القضاة ـ وكان يحب زينب امرأته وجلست معه أربعين سنة ـ: اضربتها في حياتك؟
قال: والله ما مددت يدي عليها.
ثم أنشد:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم
فشلت يميني يوم اضرب زينبا
ومنها: اشتغال كثير من الناس في أمور الحياة.. وترك المرأة بلا حقوق، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إن لأهلك عليك حقاً)).
ومنها: التجريح للنساء بكلمات بذيئة كاللعن والشتم.
والكثيرات منهن تتوهم أن اللعن طلاق وأنها تخرج من عصمته، والصحيح أن اللعن كبيرة من الكبائر.. وعليه أن يستغفر ويتوب.
ومنها: إفشاء سر المرأة وخصوصيات حياتها مع زوجها، والمرأة إذا أفضت إلى زوجها أو أفضى لها بحديث خاص لا يصح أن ينشر.
ولكن تجد بعض الناس لبرودته وقلة شهامته، ولانخلاعه وقلة غيرته، يخبر زملاءه ,إخوانه بماذا قالت له!
وقد حذر صلي الله عليه وسلم من هذا، ووصف أولئك أنهم من أقل الناس مروءة ، أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
أيها الإخوة الكرام! هذا دفاع بسيط عن المرأة في حقوق قد أتثبتها لها الإسلام، فلعلنا أن نكون خير نصير لهن، وأن نبتعد عن تلكم الصفات المذمومة التي ذكرتها لكم.. وأن تعطي المرأة حقوقها كاملة.
والله أعلم وصلي الله على نبينا محمد.
لبيك أختاه
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد..
يا فتاة الدين يا بنت الحجاب أنت في أوطان أسما والرباب
أنت من يحفظ الله لها عرضـ ـها بين الأفاعي والذئاب
استري وجهك عن حر اللظي وارتدي في زمن الفسق الثياب
وانعمي في ظل دين خالد رددي يا أختنا أم الكتاب
أتي صلي الله عليه وسلم بالنور .. وهذا النور لا يكون إلا في شرعه.. في الوحي المقدس الذي نزل به جبريل على الرسول صلي الله عليه وسلم ، ) وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)(النور: من الآية40).(/41)
وشارك في هذا النور المرأة والرجل جنباً إلى جنب، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً )(النساء: الآية1).
إذا الرجال والنساء.. يستقبلون النور من الله عز وجل ويتطهرون ويحملون الإيمان ويتعبدون لله عز وجل بإياك نعبد وإياك نستعين.
إذا..الرسالة للرجال والنساء.
إذا التكريم للجميع.. إذا.. حمل هذه المبادئ للذكر والأنثى، قال سبحانه : )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى )(آل عمران: الآية195)، فتشارك الأنثى الرجل في الاستجابة لدعوة الله عز وجل، )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )(الأحزاب: الآية35) ، إنه عالم خالد يشارك فيه الصنفان والنوعان والفريقان، ويوم تطمس معالم النور ولا تهتدي المرأة إلى طريقها الحق، حينها تظل وتصبح لا قيمة لها في الحياة.
يقول( زولا) أديب الجنس الفرنسي وهو يهتك بالمرأة: إنها لا أثر لها في عالم الحياة! ويشكك الناس في المرأة هل هي إنسان أم حيوان!!
تعالي الله عما يقول ذاك المجرم.. بل هي المطهرة أم العلماء وأم القادة وأم الفاتحين وأم الزعماء..أليست هي أم عمر وطارق وأم صلاح الدين؟ أليست هي أم أحمد وأم الشافعي وأم أبي حنيفة وأم مالك وابن القيم؟ أليست هي المربية التي يحفظ الله بها سبحانه وتعالي الجيل ويرعى بها البيت يوم تحمل لا إله إلا الله؟ ويوم تتجه إلى الله متحجبة طيبة ورعة.
إن الإسلام قد رعي المرأة رعاية شاملة، فالرسول صلي الله عليه وسلم أعلن حقوقها في عرفات ونادى الناس صلي الله عليه وسلم وهو يقول : (( الله الله في النساء، فإنهن عوان عندكم))، وكان يقول صلي الله عليه وسلم : (( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)).
فعاش صلي الله عليه وسلم مع المرأة زوجاً وأخاً وابناً وأباً. وأكرمه الله عز وجل بأربع بنات، وعشن معه كثيراً ، بينما أبناؤه من الذكور كانوا يموتون في الصبا. وكانت بناته صلي الله عليه وسلم يسكن قلبه.. فكان إذا سافر زار فاطمة وإذا عاد بدأ بها.
وتقول عائشة كما في البخاري: كان صلي الله عليه وسلم إذا زار فاطمة قامت له وقبلته وأجلسته مكانها، وإذا زارته قام لها وقبلها وأجلسها مكانه. أي عطف، وأي حنان، وأي شفقة، وأي رحمة تلك؟
جاء الإسلام ليجعلها متحجبة كالشمس في الغمامة.. وكسماء المزن، وكالدرة في الصدف، فأبي المجرمون إلا أن يخرجوها سافرة متهتكة تتبع الأزياء وتبيع نفسها وتكون للدعاية.
إن العرب قبل الإسلام كانوا لا يعترفون بالمرأة المتهتكة.
نظر أعرابي إلي امرأته فوجدها تنظر إلى الأجانب، فغضب وتركها وفارقها. وقال:
إذا وقع الذباب علي طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كان الكلاب ولغن فيه
وفي عالم اليوم أراد الإسلام للمرأة المسلمة العفيفة أن تخرج من حجابها والتزامها بدينها.. أن تخرج لتختلط بالرجال وتزاحمهم وتلاقيهم وتضاحكهم.. كل هذا بدعوى التحضر والتنور.
واستخدموا لذلك وسائل كثيرة على مر السنين الماضية، كان من أخطرها ..مجال الإعلام.
فبعد أن تمكنوا من إخراج المرأة في بعض الدول العربية والإسلامية الأخرى.. أرادوا لهذا البلد أن ينضم للركب.
فسخروا كل قواهم لنشر الفاحشة وإشاعتها بين نسائنا.
فابتدأت المجلات المفسدة بالحملة الشرسة ضد المرأة في المجتمع السعودي.
وتولت كبر هذه الحملة.. مجلة(سيدتهم) المذمومة ، فبدأت في طرح المقابلات مع بعض النساء السعوديات، والتركيز على مسألة التذمر من القيود الإسلامية على المرأة في هذا المجتمع.. ويسمونها ( تقاليد) ! أو ( عادات)!
وتوالت المقالات والمقابلات والكلمات والسخريات . ولكن كل ذلك مكتوب عند رب السماوات وسيجازى كل عامل بعمله.
ومهمتنا في هذه الأوراق أن نبحث سوياً عن حل لمواجهة مثل هذا الغزو المكثف .. لعل الله أن يرد كيدهم في نحورهم.
فما هي موانعنا أما هذا الزحف؟ وكيف نتقي هذا الإجرام.. وهذا الكفر والزندقة؟
نتقي ذلك بأمور:
1- بتقوى الله عز وجل .. فلا حافظ لنا إلا الله.
تقوي الله عز وجل بامتثال شرعه واجتناب نهيه. والمرأة يوم تتقي الله لا تأتي بالأعمال المحرمة الفاتنة.
وتقوى الله تتضمن تذكر الآخرة بأهوالها، وتذكر أول ليلة توضع فيها هذه المرأة في قبرها .. وما سيواجهها في تلك الليلة من مفزعات.(/42)
كان بعض الصالحين إذا ذكر أول ليلة أغمي عليه. وهي ليلة مرعوبة، تكون المرأة مع زوجها ومع أهلها ومع أولادها متزينة ساكنة، فيخطفها الموت وتنقل إلى أول ليلة، إلى مكان لا أنيس فيه ولا حبيب ولا صاحب، ثم يظهر لبعضهن ـ والعياذ بالله ـ أنها خانت زوجها وخانت ربها وخانت أسرتها وخانت أمتها وخانت كتاب ربها وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .. فيا للعار ويا للدمار ويا للخسار ويا للنهاية المؤلمة الأسيفة.
قال تعالي: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281).
الموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال ولا يشتبه
إن كان خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
هذه قضية كبرى، لعل المرأة أن تتأمل وأن تفكر طويلاً فيها.. يقول تعالي: )وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُم)(الأنعام: الآية94).
2-من الموانع: الحجاب الشرعي. هذه الشامة العظيمة التي أتي بها صلي الله عليه وسلم .. وهذه القيمة للمرأة والتي لا يملكها أي مجتمع آخر غير المجتمع المسلم.. بل إن بعضهم بدأ يطال بها لما رأي فوائدها.
ففي فرنسا بدأت الفرنسيات ينادين بالحجاب لأن الشعب يعي إلى الدمار والهاوية. فالأعراض مزقت، والمرأة لم تصبح لها مكانة، والمجرمين تعدوا الحدود..وأصبح الإنسان لا يجد مكاناً للعيش الآمن. والحجاب الذي أعنيه يتضمن تغطية وجه المرأة ويديها ؛ لأنها إن لم تغط وجهها ظهر للناظرين.. وظهرت زينتها وفتنتها.
وللأسف أنه يوجد من اكتفين فقط بتغطية الرأس وتعلقن ببعض الأدلة الواهية، وخرجن في الشوارع وخالطهن الرجال. وإن هذه كارثة ومخالفة لدين الله عز وجل.. إن هذا أول الهدم.. وأول الشرود عن منهج الله عز وجل.
ومن كانت في شك فلتراجع كتب أهل العلم ولتراجع الأدلة والبراهين.
2-الدعوة في سبيل الله والدعوة إلى منهج الله، أي تكون المرأة داعية مؤثرة..وإنني أشكر كل الشكر داعيات كثيرات في بلادنا بدأن في إرسال الكلمة بالتأثير على أخواتهن بواسطة الهاتف..بواسطة المراسلة.. بواسطة المحاضرة..وبواسطة إهداء الشريط الإسلامي. فعفا الله عمن فعلت ذلك. فوصيتي أن تنبعث المرأة داعية مؤثرة
في بنات جنسها وفي من حولها.. وتكون حاملة لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
إن العلماء قدموا جانب الشباب والرجال، لكن القطاع المهم وهن النساء يحتجن لداعيات، يحتجن إلى مخلصات طيبات صادقات.. يوصلن كلمة الحق إلى القلوب ويتكلمن عما يراد بنا.
والعجيب ! أن بعض الكاتبات في الصحف يكتبن كلاماً ضاراً ويدعين إلى أمور تخالف دين الله..فأين الملتزمات؟
3- الزواج..فالله عز وجل سن الزواج سنة كونية بين الذكر والأنثى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)(الرعد: الآية38) لتحفظ الأعراض ..وتحفظ الأنساب .. وتحفظ السر.
لتكون الأمة شريفة عفيفة مطهرة.
وقد وجد في مجتمعنا من يعارض زواج المرأة البكر.. أو يتباطأ في تزويج بناته بحجج واهية، مما أنتج انتشار ظاهرة العنوسة.
والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه وإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
فعلى المرأة أن تتزوج إذا وجدت الكفء.
وعند الطبراني بسند حسن: (( من تزوج فقد أحصن نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر)).
وعلى المرأة أن لا تصدق هذه الدعوات التي نسمعها التي تنادي المرأة بعدم الزواج حتى تنتهي من الجامعة أو الماجستير!!فلا تتزوج حتى يذهب جمالها وشبابها فلا تصبح مرغوبة مطلوبة. وتضيع عمر الحياة الزوجية وعمر البيت وعمر الأطفال الذي هو من أحسن ما يكون ، والذي هو سر السعادة بعد الإيمان وبعد العمل الصالح.
ووصيتي أيضاً: نشر الفكر في جانب النساء والفتيات بأن لا يتأخرن في الزواج، فإن العنوسة مأساة.
واسأل الله عز وجل الهادية والثبات والسداد والرشد والعون، وأن يحفظنا من كل مكروه.. ومن كل سوء .. ومن كل من يريد بنا فساداً وشراً ، وأن يكفينا إياه بما شاء.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
هموم فتاة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيتها الأخت المسلمة المؤمنة ، يا صانعة الأجيال، وأم شباب الإسلام والقواد والعلماء والزعماء، إنك مسؤولة أمام الله سبحانه وتعالي عن دورك في الحياة.
لماذا خلقت؟ ولماذا أوجدت؟ ولماذا سرت على وجه الأرض؟
والرسول صلي الله عليه وسلم هو الذي أتي بمهمة المرأة في الحياة، فجعلها أماً وزوجة وأختاً ومعلمة ومربية وراعية وحافظة.(/43)
وفي هذه الأوراق باقة ورد أريد أن أنثرها على راس كل فتاة وامرأة تريد الله والدار الآخرة. فهناك عدة مسائل يجب التحدث فيها إلى الأخوات والأمهات.
المرأة والإيمان
لقد خاطب الله الناس جميعاً ذكوراً وإناثاً، فقال سبحانه وتعالي بعد أن ذكر الصالحين الأبرار وذكر الفسقة الأشرار: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض)(آل عمران: الآية195).
ويقول سبحانه وتعالي: )إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ )(الأحزاب: الآية35)، فالله عز وجل ذكر المرأة الصالحة القانتة الحافظة للغيب بما حفظ الله سبحانه وتعالي.
وأتي رسولنا صلي الله عليه وسلم فتحدث عن المرأة المسلمة ودورها في الحياة، وأوصي بها خيراً لأنه يعلم أنها شقيقة الرجل وأنها هي التي تقوم على النشء وتربي الأطفال وتخرج العلماء والشهداء.
يقول صلي الله عليه وسلم في الحج الأكبر: ((الله الله في النساء فإتهن عوان عندكم))، ويقول صلي الله عليه وسلم : (( استوصوا بالنساء خيراً))النبي صلي الله عليه وسلم وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال : (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)).
وفي صحيح البخاري( أن أسماء بنت عميس أتت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: (( غلبنا عليك الرجال، يحجون معك ويجاهدون معك ويصلون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك) . وهنا بوب البخاري على ذلك بقوله: ( باب أن يجعل العالم يوماً للنساء من نفسه)، فأعطاهن صلي الله عليه وسلم يوم الاثنين.
وقد رزق صلي الله عليه وسلم أربعاً من البنات كالنجوم، حافظات للغيب بما حفظ الله، ( فاطمة وأم كلثوم وزينب ورقية).
وكان صلي الله عليه وسلم إذا أراد سفراً ودعهن، وإذا أتي من سفر بدأ بهن.
يأتي إلى فاطمة في الليل الدامس ويزورها ويقول لها ولعلي: (( ألا تصليان، ألا أدلكما على خير لكما من خادم، تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثة وثلاثين، وتكبران الله أربعاً وثلاثين)).
فهو يربي ابنته فاطمة على تقوي الله وعلى التسبيح والعبادة والتحميد وعلى الاتصال بالحي القيوم.
يقول محمد إقبال في فاطمة بنت الرسول صلي الله عليه وسلم :
هي بنت من؟ هي أم من ؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو اشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلى زوج لا تسوي سيفاً غدا بيمينه تياها
عاشت في بيت النبوة فرضعت الإيمان والقرآن، فإن كثيراً من النساء يتحلون بالذهب والفضة، ولكنهن فقدن الفضيلة والعفاف وغض البصر والإيمان.
فقدن رضا الله، وفقدن محبته ، وفقدن ستره، وفقدن الحياة الرغيدة . لأنه لا أمن ولا استقرار للمسلم ولا للمسلمة إلا بهذا الدين، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (125)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:124ـ 126).
وعليك أن تتأملي قصص الصالحات ..وتقرئي أخبارهن لعلك أن تحاكيهن في طريق الخير.
وإليك بعضاً من تلكم القصص والأخبار:
1- امرأة فرعون: آسية رضي الله عنها وأرضاها. لا إله إلا الله وآمنت وملأت قلبها بالإيمان . أطاعت الرحمن، وزجها دجال فاجر كافر القي على وجهه في النار.
تقول لله في رجاء ودعاء عجيب : ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(التحريم: الآية11) .
قال ابن القيم عليه رحمة الله : طلبت الجار قبل الدار . فقد طلبت جوار الواحد الأحد وسكني جنة عرضها السماوات والأرض لأنها قد ملت من قصور فرعون.. لأنها قصور ملعونة ودار ملعونة وأرادت جوار الله عز وجل، فسجل الله اسمها في الخالدين وذكرها في العارفين ، وأبقي اسمها في العالمين يدوي في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالي.
2- أم أنس: عندما أتي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة بحثت رضي الله عنها عن هديه تهديها لرسول الله صلي الله عليه وسلم ، فما وجدت إلا ابنها وحبيبها وفلذة كبدها أنس ..فغسلته وألبسته وطيبته، وذهبت به وعمره عشر سنوات وقالت: يا رسول الله ( أنس) ابني وأحب الناس إلى، أهديه لك يخدمك طيلة الحياة ، فادع الله له، فقال صلي الله عليه وسلم : (( اللهم أطل عمره وكثر ماله وولده واغفر ذنبه)).
وذهبت المرأة المؤمنة مهرها في الإسلام أعظم مهر.
فمهرها الإسلام. فقد تقدم لها أبو طلحة وهو مشرك يريد الزواج منها فقالت: أنت مشرك وأنا مسلمة والله لا أتزوج بك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله.
قال: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وسجد لله فتزوجته فكان مهرها الإسلام.(/44)
فقالوا : ما سمعنا بمهر في الجاهلية ولا في الإسلام أعظم من مهر أم سليم رضي الله عنها وأرضاها.
3- الخنساء: ربت أبناءها الأربعة على طاعة الله وحفظتهم القرآن وعلمتهم السنة وقادتهم إلى المسجد.
فلما أتت معركة القادسية ذهبت إلى أبناءها الأربعة وقالت لهم: البسوا أكفانكم ! فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، فأوصتهم وقالت: يا أبنائي والله ما خدعت أباكم ولا غررت خالكم، إذا حضرتم المعركة فتيمموا أبطالها واقتلوا في سبيل الله لعل الله أن يقر عيني بشهادتكم في سبيله.
وهكذا المرأة المسلمة الصالحة التي تربي أبناءها على الإسلام والقرآن وعلى عبادة الواحد الأحد، وتربي بناتها على الحجاب ومخافة الله وعلى مراقبة الله وعلى سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم .
فحضر أبناء الخنساء المعركة وقتلوا في سبيل الله.. وبشروها فتبسمت وقالت: الحمد الذي أقر عيني بشهادتهم في سبياه!
فيا أختي المسلمة نحن أحوج ما نحتاج أن تدخل الإيمان بيوتنا.
والإيمان يكمن في الصلوات الخمس للأبناء والبنات، وأن نرعاهم بالتربية ، وأن نرضعهم مع اللبن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فالأم جامعة كبري، يوم تصلح يصلح الله بها الدين ويربي بها الأخيار والأبرار.
ويوم تفشل يفشل بها المجتمع ويأتي هذا الاعوجاج الخطير الذي نعيشه في مجتمعنا هذه الأيام.
فيا أمة الله، أسألك بالله أن تتقي الله في دين رب العالمين وفي رسالة محمد سيد المرسلين.
يا أمة الله الحجاب! الحجاب!
يا أمة الله، اتقي الله في الأبناء والبنات.
يا أمة الله، اتقي الله في الزوج.
المسائل المهمة للمرأة المسلمة
أولها: حقوق الزوج التي سنها رسول الله صلي الله عليه وسلم وذكر الله أصولها في القرآن.
وهي: طاعته في طاعة الله، وإرضاء الله عز وجل، وحفظه بالغيب يوم يسافر ويغيب عن البيت، وحفظه في السمع والبصر، وفي الفراش وما استحفظك الله عليه.
وإن أمانة الله على المرأة أمانة عظيمة: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)
وأمانتها أن تحفظ زوجها إذا غاب عن بيتها: ) حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ )(النساء: الآية34)، ومن حفظها ألا تتطلع بعينها إلى الأجانب ولا تنظر إلى المحرمات: )وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن)(النور: الآية31).
ثانياً: اعلمي أيتها الأخت المسلمة أن جمال المرأة، وروعة المرأة وحسن المرأة، هو تقواها لله، لا في ذهبها ولا في ثيابها ولا في حليها ولا في بيتها.
وإنما كل الجمال أن تتقي الله، وأن تغض طرفها، وأن تحفظ ما استحفظها الله تبارك وتعالي عليه.. حينها تعيش حياة الأمن والسكينة.
إذن هو جمال التقوى الذي يريده الله سبحانه وتعالي.
ثالثاً: حق الزوجة على زوجها أن يتقي الله فيها، فهي ضعيفة لطيفة تريد الحنان وتريد الرحمة وتريد البر.
فوصيتي إلى الرجال أن يتقوا الله في أمهات الأجيال، وأمهات الأبطال، وأمهات العلماء والزعماء والشهداء ، رحمة وحناناً ورقة ومحافظة ونفقة وكسوة وتعاهداً، كما قال صلي الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر يوم أعلن حقوق المرأة وحقوق الإنسان: (( الله الله في النساء)).
رابعاً: وجد في الساحة من ينادي بتحرير المرأة ! ومعني تحرير المرأة عندهم أن تخرج سافرة متبرجة.. وأن تبيع عرضها لكل مشتر..وأن تبيع قيمها وأخلاقها وسلوكها وأن تهتك عرضها.
وهذا والله خيانة عظمي لرسالة محمد صلي الله عليه وسلم أن تتحرر المرأة من دينها وأصالتها وحجابها وسترها.
إذن فالذي ينادي بالتحرير وبالسفور وترك الحجاب إنما ينادي بهدم سنة محمد صلي الله عليه وسلم ، وينادي بنسف القيم التي أتي بها رسول الله صلي الله عليه وسلم .
فيا أختي المسلمة إياك ، إياك.. أن تسمعي لهذا الناعق الشرير.
فإنه يريد أن يقضي على ديننا وعلى كرامتنا وعلى أعراض أخواتنا وأمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا ) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة: الآية30).
خامساً: وهي تتعلق بمجالس المرأة .. فالذي يلاحظ على كثير من النساء هو كثرة الغيبة والنميمة وقول الزور إلا من عصم الله، ولسان المرأة إلا من رحم ربك سريع في نهش الأعراض، ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم للنساء في يوم العيد: (( تصدقن فإني رايتكن أكثر أهل النار))، قالت امرأة : يا رسول الله ما بالنا أكثر أهل النار؟
قال: (( تكفرن العشير ، وتكثرن اللعن ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن)).
فوصيتي يا أختي المسلمة أن تتقي الله في مجالسك وأن تعرفي من تجالسين.
فكما في الرجال أخيار كذلك في النساء خيرات، وفي النساء شريرات ، وفيهن مغتابات ومزورات وحقيرات.(/45)
فاتقي الله وأحبي الصالحات، واعمري وقتك بذكر الله وتلاوة القرآن ، وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115/116).
فهل أدخلت الكتاب الإسلامي بيتك؟ وهل أدخلت الشريط الإسلامي دارك؟ وهل استمعت إلى الدعوة والتلاوة والمحاضرة والدرس؟ وهل سبحت الله كثيراً؟ وهل هدى الله على يديك امرأة مسلمة ، أو فتاة مؤمنة، فكانت في ميزان حسناتك عند الله؟
سادساً: الحرص على العلم الشرعي، )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: الآية19) ، ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )(المجادلة: من الآية11) ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(الزمر: الآية9) ، ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(طه: الآية114).
)شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18)
العلم الذي تريد هو العلم الذي يدلك على الصلاة والصيام والحج وعلى مخافة ومراقبة الله وعلى تقوي الله.
فنحن في حاجة إلى علم شرعي ترقي به المرأة ، لا علم الفضلات وعلم الحواشي، ولا العلم المضيع للعمر، بل العلم الذي يدل على تقوي الله وكيف تربين أبناءك.
والحياء لا يمنع المرأة المسلمة أن تسأل عن أمر دينها. تسأل العلماء والدعاة وطلبة العلم لتكون على بصيرة، وتتعلم كتاب الله وتجلس في مجلس الخير، وتحفظ سور القرآن وتلم إلماماً مجملاً بالفقه الإسلامي لتعبد الله على بصيرة، )أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام: الآية122)
سابعاً: هناك بعض المغريات طرحت في الساحة الإسلامية وفتكت بالمرأة المسلمة فتكاً ذريعاً وضل بسببها كثير من الفتيات هداهن الله إلى سواء السبيل.
منها: الأغنية الماجنة التي انتشرت وكانت سبباً في حدوث الجريمة والفاحشة والزنا..لأن أهل العلم يقولون : ( الغناء بريد الزنا).
وعقوبات الغناء أربعة:
أولها: قسوة القلب وإعراضه عن ذكر الله عز وجل، فلا تجد رجلاً أو امرأة يدمن الغناء إلا وقلبه قاس لا يستفيد من الخير كما قال تعالي: )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(المائدة: الآية13).
ثانياً: وجود وحشة بين العبد وبين الله، فلا يجد رقة ولا حباً ولا خشوعاً.. لأنه قطع الصلة بينه وبين الله.
ثالثاً: أنه يحرم في الجنة سماع الغناء الذي يجعله الله للمتقين وللأبرار الصالحين، ولذلك عند أحمد في المسند أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: (( إن في الجنة جواري يغنين يقلن نحن الناعمات فلا نباس ، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا)).
قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإ نسان كالنغمات في الأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
رابعاً: ومما تورثه الأغنية كذلك أنها تحبب الفاحشة والجريمة. وقد قال كثير من أهل العلم والفضلاء والنبلاء ومن لهم خبرة واستقراء للمجتمعات: أن أكثر من يقع في جريمة الزنا اللواتي يسمعن الغناء والذين يستمعون الغناء.
فالله الله في مقاطعة هذا الغناء الماجن، فإنه والله محرم.
يقول الله سبحانه وتعالي: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)(لقمان: الآية6)
ويقول صلي الله عليه وسلم كما عند البخاري عن أبي موسى الشعري: (( ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)).
وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة))، وفي لفظ : (( صوت عند نغمة)).
ومن المغريات التي أضرت بالمسلمة: المجلة الخليعة التي راجت، كمجلة سيدتهم والمجلات الأخرى.
وهذه المجلات هدمت جيلنا، وأظلمت قلوب شبابنا، وخربت بيوتنا، وصرفت هممنا عن طريق ربنا وعن سنة نبينا صلي الله عليه وسلم .
وكذلك الفيديو المهدم وما أحدثه في البيوت من إرباك، وما أحدثه من ضلالات، وما أحدثه ممن ثقافات وجرائم ومن مشكلات.
فوصيتي لكن هي تقوي الله واجتناب ما لا يفيد في الدار الآخرة.
ثامناً: وكذلك من الأمور التي يجب التنبه عليها والتطرق إليها أن بعض النساء أو الفتيات أو الشابات أحجمن عن الزواج ورفضته بحجج واهية.
منها: مواصلة الدراسة.(/46)
ومنها: أنها لا تريد الإضرار بضرائر قبلها وشريكات.
ومنها: أنها تريد أن تختار زوجاً فيه مواصفات معينة قد لا توجد في الناس، بأن يكون زاهداً عالماً عابداً حافظاً قائم الليل مجاهداً زعيماً.. وهذه قد تنتظر طويلاً حتى تجد إنساناً بهذه المواصفات، وقد لا يأتي.
فوصيتي لبنات الإسلام أن يعلمن أن في الزواج حفظاً ورعاية وحياة سعيدة.
وامرأة بلا زواج كأنها لم تعش الحياة إلا ناقصة.
ورجل بلا امرأة لا يعيش الحياة بحب ولا طموح.
ولذلك الله تعالي يقول: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة)(الرعد: الآية38)
فمن سنة الله في الحياة أن هيأ المرأة لتكون زوجة، وهيأ الرجل ليكون زوجاً، وما علمنا الصدود عن الزواج إلا في غلاة الصوفية الذين يعيش أحدهم بلا زوجة ويتمدح أمام الناس ويقول : ما تزوجت.
وتقول الصوفية الغالية أنها ما عرفت الزواج!
ويوم أن ترفض الفتاة الرجل الصالح قد يعاقبها الله عز وجل فلا تجد زوجاً.
فالله الله في الحرص على الزواج والاستقرار.
تاسعاً: اعلمي أختي المسلمة أن الإسراف ظاهرة شائعة لدينا.
إسراف في الملابس، وإسراف في الطعام، وإسراف في الأشرية، وإسراف في أثاث البيت.
فأين الدين؟ واين تقوي الله؟
بل وجد من بعض النساء الجاهلات السفيهات أنها تلزم زوجها في كل مناسبة وفي كل حفل أو زواج بلبس جديد وحلى جديد! وحينها يغضب عليها وتنقطع العلاقة بين الزوج وزوجته..
يقول تعالي: )إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الاسراء:27)
ويقول: )وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)
فالاقتصاد ! الاقتصاد! واعلمن أن جمال المرأة في عفافها وفي اقتصادها وزهدها وفي طاعة ربها وفي رضاء زوجها عنها.
صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا صليت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها)).
فهنيئاً لك يا أم الأبطال ، ويا أم العلماء والشهداء، هنيئاً لك تقوى الله.
إنها دعوة من القلب، وإنها باقة ورد إلى فتاة الإسلام أهديها ثانية وثالثة لعلها أن تجد أذناً صاغية وقلباً واعياً. ولعلها أن تجد من يستمع لها ويعمل بها، فقد جاءت ذكرى وقد وصلت فهل من مستمع؟ وهل من مجيب؟
والله أعلم..وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاة مفجوعة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
واشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً.
هي فتاة صرخت برسالة سوف أعرضها لكم وأعلق عليها.
وهذه الرسالة مكونة من ثلاث عشرة صفحة من القطع الصغير كتبتها هي بنفسها وسألتني في آخرها بالله أن أقرأها على الناس. ولكني أطلب منها العذر ..لأنني لن أقرأها كاملة..بل حذفت بعض الكلمات ولم أزد ولو حرفاً واحداً.
والحقيقة أن في النساء كثيرات هن خير من كثير من الرجال. يقول المتنبي وهو يرثي أخت سيف الدولة:
فلو كان النساء كمن عرفنا لفضلت النساء علي الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
ألبي نداء هذه الأخت وهي تصرخ وتقول بأن معها المئات يعانين مشكلتها ويعشن في
مثل ظرفها، والله المستعان.
لبيك صوتك في المسامع يصدع وصراخك المحزون فينا يسمع
ودموعك الحرى تمزق أضلعي والكل من هذا الندا متوجع
وأنا أتذكر أثناء للرسالة قوله صلي الله عليه وسلم : (( رفقاً بالقوارير))، فالرسول يطلب الملاطفة لرقة المرأة وإحساسها الجياش.
* الرسالة:
فضيلة الشيخ فلان بن فلان السلام عليكم ورحمة الله، سمعت محاضرتك رسالة إلى الفقراء أو من الفقراء، وتلك الرسالة التي كتبتها لك الأخت الغيورة بل المقهورة من ظلم واستبداد والدها، فحركت شجوني التي ما سكنت ، وجراحي التي أبداً لم تلتئم ، وحزني المضني القاتل النبي صلي الله عليه وسلم فأمسكت قلمي ومداده دم قلبي ودمع عيني، وكأنما بصيص من الأمل يتراءى لي من بعيد، وإلا فو الله ثم والله ثم والله الذي لا إله إلا هو، إني قد يئست من كل شيء إلا من رحمة الله، فهي الشيء الوحيد الذي يعزيني ، فأنا واثقة بل موقنة ومؤمنة برحمة الله، )ً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(لأعراف: الآية56) .
ذلك أنني يا شيخي الفاضل ووالدي الكريم وأخي الرحيم، عشت مأساة وما زالت أعيشها، واسأل الله الواحد الأحد الفرد الصمد أن يرفع عني عذابه، فإن هذا عذاب أوقعه على الله وابتلاء.(/47)
يا أيها الداعي الكريم، إليك مأساتي وأيامي السوداء..إليك الظلم والقهر الذي أعيشه.. إليك معاناتي أنا وأخواتي في الله، وإن كانت لكل مأساة لكنها في النهاية تصب في قالب واحد وهي أننا بلا أزواج ولا أطفال..بلا حياة بلا أرواح.. أجساد بلا قلوب، حياة قتلها الألم والحزن.
سأطيل عليك ووقتك ثمين، لكن تحمل لأنك تحملت أعباء أكثر من هذه الرسالة.
أنا أعمل معلمة.. وفي آخر كل شهر يفتح الجابي! والدي يده ويقول: ادفعي الجزية! فأنت ومالك لأبيك.
والجابي يعلم منذ أن كنت طالبة أن محصولي سوف يصب عنده، فكلما طرق بابي طارق قال له: ليس بعد( أي كلما خطبها خاطب رفضه والدها من أجل الراتب)!
وأقنعه كثير من أهل الخير ولكنه ما اقتنع، فيذهب إلى الخطاب ويقول : هي لا تقبلك ولا تريدك.
وعاطفتي تريد الزوج والأسرة والمنزل الهادئ السعيد ، وأريد طفلاً يمنحني الأمومة ويطغي على كل مشاعري.
توسط لديه الأعمام والأجداد، لكنه رفض وتعلل بالعلل الباردة.
كنت أميل إلى الالتزام وأصارع نفسي وأجاهد الهوى والشيطان، فنصرني الله عز وجل على كثير من المعاصي، فقد تركت الغناء انتصاراً ، وداومت على السنن الرواتب والوتر وانتصرت في أكثر من موطن.
تقول أخيراً: أحضر أحد عمومتي رجلاً فزوجني والدي وأنا مكرهة، لأن هذا الرجل لا يخاف الله وهو ليس صالحاً..فكان والدي يقول: لا تعطي راتبك زوجك وأعطينيه! ! أصبحت أجاهد زوجي وأعينه على الطاعات والالتزام، فذهب واشتكي إلى والدي!
قالت: وأنا اصبر على الزوج وأدعوه إلى الهداية وأتحمل الضرب منه والأسى لأنني لو عدت إلى والدي لكان حاله أدهى وأمر.
وبعد معاناة مع الزوج مريرة..طلبت الطلاق.. لكنه رفض وقال: ردي على مهري كي أطلقك.
فقلت : لا مهر لك عندي.
فأصر.
فجمعت له ما أراد وأعطيته إياه وهربت إلى بيت أبي، فغضب والدي وهدني ويريد تزويجي لأي إنسان يتقدم ولو كان سكيراً عربيداً.. أو عجوزاً في الستين أو السبعين!! فهربت إلى أمي. فجن جنونه، ثم ذهب يشكوني إلى إدارة التعليم.
ووالله ثم والله ثم والله، لقد كلمني مدير التعليم في منطقتي وقال: لقد حضر والدك وتهدد وتوعد بالويل والثبور وطلب منا فصلك!!
سبحان الله ما هذا العداء؟! فرده مدير التعليم.. ولكنه أصر على رأيه بفصلي وسيذهب إلي الرياض لهذا المقصد! فماذا أفعل؟..هل أتزوج من يريد؟ أم أعيش مطردة مفصولة في بيت والدي.
تقول: أنتم المسؤولون أيها الدعاة والعلماء وطلبة العلم عن هذا الظلم الذي يمارسه آباؤنا، أين رحمة الإسلام التي تتحدثون عنها؟ أينكم عن هذه الفئات الشاذة في المجتمع؟
ثم أين هم الشباب الملتزمون الذين يبحثون عن امرأة صالحة!
فما بالهم لا يتقدمون إليهن وهن كثيرات خلف الستور قد حجبهن أب ظالم، فما بالهم لا يبحثون عنهن؟ أم أن الشروط الدقيقة في جمال المرأة هي التي صرفتهم عن هؤلاء عن هؤلاء الفتيات! هل يرضيهم أن تعيش هؤلاء الفتيات بين أحضان زوج فاسق فاجر لا يرعى حق الله ولا حق الدين؟ هذه رسالتي عرضتها عليك يا شيخ لعلي أن أجد لديك الحل..ولعلك وإخوانك تتحركون لنصرتي والسلام عليك.
وأنا أقول: هذه هي الرسالة قد قرأتها أمامكم وحذفت منها ما استطعت أن أحذف.
والحقيقة أنها رسالة مذهلة لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد.
ويعلم الله أنها ليست غربية على لما أسمع في الهاتف من معاناة أمهات وبنات وأخوات..ومن رسائل واستفسارات وأسئلة.
وهي تبين أن في المجتمع شريحة لا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون ولا يتدبرون ولا يعون.
وتبين أن عندنا في المجتمع أناس قد نزع الله من قلوبهم الرحمة، يقول سبحانه وتعالي: )فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22/23) ، فكأنهم ما قرأوا سيرة المعصوم صلي الله عليه وسلم وهو يقف مع ابنته المريضة فيبكي.
وإذا سافر مر ببناته يودعهن، ويعود من السفر فيبدأ ببناته.
تقول عائشة : كانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخلت على الرسول صلي الله عليه وسلم قام واستقبلها عند الباب وجلس معها صلي الله عليه وسلم بل كان يجلسها مكانه.
ويقول محمد إقبال عن فاطمة الزهراء:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيفاً غدا بيمينه تياها
ومع ذلك اسمعوا لمعانتها، وهذه القصة في صحيح البخاري:
أراد على رضي الله عنه أن يتزوج على فاطمة .. وله ذلك، فاختار بنت أبي جهل وقد مات أبوها.
فذهبت الشائعة إلى فاطمة في البيت.. فذهبت فاطمة إلى أبيها المعصوم سيد البشر وأكبر زعماء الدنيا محرر الإنسان وجلست تبكي.
فقال: (( ما لك؟)).
قالت: يزعم الناس أنك لا تغضب لبناتك..وأخبرته بالخبر.
فقام صلي الله عليه وسلم وجمع الناس وصعد المنبر وعلى بن أبي طالب في
الجماهير.(/48)
فقال: (( أيها الناس، أنا لا أحل حراماً ولا أحرم حلالاً ، ولكن بلغني أن علياً يريد أن يتزوج بنت أبي جهل عدو الله، ووالله الذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده لا تجتمع بنت عدو الله وبنت حبيب الله تحت سقف واحد.
إن فاطمة يربيها ما يربني، ويغضبها ما يغضبني..)) ثم تزل.
فقام على بن أبي طالب فطلق بنت ابي جهل في المسجد.
فكل منا يتصور أن التي كتبت الرسالة هي ابنته، فسيأتيه من الأسى والألم واللوعة ما الله به عليم. وهي في الحقيقة قد حملت الدعاة والعلماء مسؤولية كبيرة.. وهي بلا شك صادق في ذلك.. فلا يكفي منا أن ندبج المحاضرات ونتفوه بالكلمات.. بل لا بد من إيجاد حل أو شفاعة لمثل هؤلاء الفتيات.
فقد كان محمد صلي الله عليه وسلم لا يكتفي بالكلام فقط وإنما يذهب ويشفع بنفسه.
وقصته مع ( جليبيب) مشهورة..فجليبيب أحد الصحابة الفقراء .
قال له صلي الله عليه وسلم : (( يا جليبيب ألا تتزوج؟)).
قال: يا رسول الله من يزوجني؟ لا أهل لي ولا مال ولا نسب.
قال: (( أذهب إلى آل فلان وأبلغهم سلامي وقل لهم: رسول الله يأمركم أن تزوجوني!)).
لا إله إلا الله! أسمعتم شفاعة في التاريخ أعظم من هذه الشفاعة؟
فذهب جليبيب وطرق الباب.
قالوا: من؟
قال: جليبيب.
قالوا: ماذا تريد؟
قال: رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرئكم السلام ويقول: زوجوني ابنتكم!
فتشاور الرجل هو وامرأته ، فجليبيب لا أهل له ولا مال ولكن كيف يرفضان طلب المعصوم؟
فسمعت الفتاة حديث جليبيب فقالت: الرسول صلي الله عليه وسلم يأمركم وترفضان؟!
سبحان الله! ألا تخافان من غضب الله، أنا أجيب.
قالا: فقد أجبنا.
وتزوج جليبيب ورزقه الله فتية، ثم حضر المعركة مع الرسول صلي الله عليه وسلم وقتل سبعة ثم قتلوه.
فقال الرسول صلي الله عليه وسلم : (( تفقدوا القتلي)) فتفقدوا ونسوا جليبيباً.
قال: (( هل بقي أحد؟)).
قالوا: لا
قال: (( لكني أفقد جليبيباً)).
وقام صلي الله عليه وسلم وبحث عنه فوجده قد قتل سبعة وقتلوه.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( أنا منك وأنت مني!)).
فلماذا لا يتولى الدعاة والمشايخ فكرة تزويج الشباب بالفتيات الصالحات..كما فعل صلي الله عليه وسلم ؟
ثم نخاطب هذا الأب الذي أذاق هذه الفتاة المرارة.
نخاطب فيه إيمانه إن كان فيه إيمان: كيف يقابل الله غداً وهو يتعامل مع ابنته بهذا التعامل؟
هذا لا يجوز مع الكافرة، فكيف بابنة صلبه؟
فمن رأي منكم أباً هذا حاله فليناصحه..ويعترف بحاله ليوجه ويرشد لأنه جاهل. وبجهله هذا وظلمه قد وقف حجر عثرة في طريق ابنته أو بناته وهو لا يشعر.
أمر آخر يجب العناية به .. وهو غلاء المهور الذي ازداد وتجاوز حده، حيث اصبح الشاب الراغب في الزواج يتلكأ كثيراً قبل أن يبحث له عن زوجة خشية من هذه التكاليف المرهقة.
فهذا نداء إلى أولياء الأمور بأن يسهلوا زواج بناتهم ويخففوا تكاليفه..فليس مقصدنا اللباس الجميل أو الحلي أو السيارة .. وإنما ليكن مقصدنا الزوج الصالح الذي مع بناتنا بيتاً سعيداً.
وأمر آخر موجه للفتيات.. وهو أن لا تتعذر الواحدة منهن وتحجم عن الزواج بهدف مواصلة الدراسة.. فالزواج لو عقلت أهم من الدراسة. فالزواج بيت وزوج وأولاد ومستقبل حياة.. وأما الدراسة فعرض زائل، وإن صرت فلتشترط على الزوج إكمال الدراسة مع التسديد والتشاور.
وأما رفض المتقدمين بهذه الحجج الواهية فهو تعري للمجتمع للفتن كما أخبر بذلك صلي الله عليه وسلم في قوله: (( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
فلا بد من اجتماع الشرطين الدين والخلق.. فقد يجتمع الدين دون الخلق والإحسان للزوجة، بأن يكون سئ الخلق معها.
وهذا لا يستغرب وجوده في من فيه دين، بل قد وجد في زمانه صلي الله عليه وسلم كما في حديث فاطمة بنت قيس لما شاورته صلي الله عليه وسلم في زواجها من معاوية أو أبي الجهم أو أسامة فقال في الحديث: (( أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه))، قيل في أحد تفسيراته : أنه يضرب المرأة دائما. والشواهد كثيرة.
وقد يكون خلوقاً لكنه لا يصلي أو فاسق .. فلا تتعجل بالزواج منه لأنه فقد الركن الأعظم..بل لا بد من الدين والخلق.
ونصيحتي للشباب أن يتنازلوا عن شئ من شروطهم الشديدة بل والتفصيلية ، لأنهم لن يجدوا بغيتهم بسهولة، ) وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه)(البقرة: الآية267).
ومن الأشياء التي نبهتنا إليها الرسالة هذه الفتاة.. هي: كثرة العوانس في البيوت دون أن يدري بهن أحد.
فكيف نعالج هذه المشكلة؟
الحل عندي في أشياء:
1- أن يعرض الأخ أو الأب بناته على الصالحين بطريقة أو بأخرى.
2- أن يتولى بعض الناس الثقات التوفيق بين الشباب والفتيات كما فعل هذا بعض طلبة العلم، فوفقهم الله بتوفيقهم بين المسلمين والمسلمات لبناء كيان إسلامي جديد كانوا هم سببه.(/49)
3- أن لا تضجر أو تهرب النساء من التعدد، لأنه سنة الرسول صلي الله عليه وسلم ومخرج لنا من هذه المشكلة لو تم حسب ما يريده الإسلام.
أخيراً .. هذه المشكلة وهذه حلولها ..وليتها تتحول إلى عمل واقعي في المجتمع بدلاً
من كلمات على ورق.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
صفات المؤمنات
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة
والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد..
فهذه رسالة حول بعض الصفات التي يجب أن تتحلى بها المرأة المسلمة.
واخترت هذا الموضوع لثلاثة أسباب:
أولها: كثرة الفتن التي طمت وعمت.
السبب الثاني: تقصيرنا دعاة وعلماء وطلبة في جانب المرأة.
السبب الثالث: لعل الله أن ينفع بهذه الرسالة.
إذا علم ذلك فقد قال صلي الله عليه وسلم لفاطمة في أول أيام الدعوة : (( يا فاطمة
أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً))، متفق عليه.
وأنا أقول لكل امرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر: أنقذي نفسك من النار، فإننا لا نملك من الله شيئاً.
قال صلي الله عليه وسلم في الصحيح : (( رأيت النار فإذا اكثر أهلها النساء)).
قالت امرأة: يا رسول الله ما بال النساء؟
قال: (( يكفرن)).
قيل: يكفرن بالله؟
قال: (( يكفرن العشير، ويكثرن اللعن، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت ما رأيت منك خيراً قط)).
وقال صلي الله عليه وسلم : (( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أكثر فتنة بني إسرائيل في النساء))، حديث صحيح.
وقال صلي الله عليه وسلم : (( ما تركت بعدي فتنة أصر على الرجال من النساء)) أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
إذا علم ذلك فهناك نماذج أوجدها الله من المؤمنات على مر التاريخ من أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هناك مؤمنات مسلمات قانتات خاشعات حافظات للغيب بما حفظ الله، منهن على سبيل العرض قبل أن آتي إلى موضوع ( سارة) زوجة إبراهيم عليه السلام، فقد كانت عابدة لله منيبة مخبتة، أسلمت وجهها للواحد الأحد فعصمها وحماها من الفواحش.
ذهب إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى مصر، وكان على مصر ملك طاغية فاجر، فلما رأي سارة أراد أن يأخذها غصباً من إبراهيم.
فلما دخل إليها توضأت وصلت وفوضت أمرها إلى الله، وسألت الواحد الأحد أن يعصمها من هذا الفاجر.
فكان كلما قرب منها لا يستطيع حيث تخذله رجله، وبعد محاولات قال: إنما قربتم لي شيطانة ، خذوها.
وأعطاها جارية.
فقالت لإبراهيم : كفانا الله الفاجر وأخدمنا جارية.
وهذا درس للنساء أن من اعتصمت بالله واتكلت على الله والتجأت إلى الله عصمها الله وحمي عرضها واسلم قلبها للواحد الأحد.
ومنهن ( هاجر) امرأة إبراهيم عليه السلام أيضاً أم إسماعيل، فهي موحدة منيبة قانتة عابدة.
خرجت مع إبراهيم إلي مكة.
فتركها إبراهيم في مكة ثم ذهب.
فقالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟
قال: إلى الله.
ومن اكتفي بالله كفاه، ومن احتمي بالله حماه، ومن ألتجأ إلى الله آواه.
قالت: أمرك الله؟
قالت: نعم.
قالت: إذا لا يضيعنا.
فلما مضى قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (ابراهيم:37) .
فرزقهم الله الثمرات كما نري حيث لا يجوع جائع في مكة.
فالحجاج لا يموتون من الجوع.
وهوت إليها قلوب الملايين من البشر.
فلما ظمئ ولدها قامت تبحث عن الماء، وسعت سبعة أشواط بين الصفا والمروة في الوادي.
فرفس ابنها برجله فخرج الماء.
فأخذت تحول الماء وتقول: زم زم.
قال صلي الله عليه وسلم رسولنا وحبيبنا يعلق على القصة: (( رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت معيناً)).
وفي قصتها دروس للمرأة أن تتوكل عليه سبحانه.
فشب إسماعيل وتزوج امرأة لكنها كانت قليلة التوكل على الله لا تلتجئ إلى الله، فقيرة القلب.
فهي مثل بعض النساء لو جمعت لها مال الدنيا وذهب الدنيا وفضة الدنيا وملابس الدنيا فهي دائماً تشتكي الضيق والفقر.
فأتي إبراهيم عليه السلام يزور ابنه من أرض العراق حيث كان يجوب الدنيا ينشر التوحيد.
فلما وصل إلى مكة وجد إسماعيل قد خرج إلى الصيد في أرض نعمان فوق عرفات.
فطرق الباب، فخرجت هذه المرأة ، فقال إبراهيم: آبين زوجك؟ ـ وهي لا تعرفه ـ .
قالت: يصطاد.
قال: كيف حالكم؟
قالت: في بؤس وفي فقر وفي مسكنة وفي ضنك.
قال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام( والسلام ما يعرفه إلا الموحدون لأن الجاهلية من حولهم) وقولي له يغير عتبة الباب.
ثم ذهب إبراهيم عليه السلام.
فجاء إسماعيل في المساء فقال: هل أتاكم من أحد؟
قالت: أتانا شيخ كبير يتوكأ على عصا وسألني عنك فأخبرته عن حالنا فأقرأك السلام وقال: غير عتبة الباب.(/50)
قال: هذا والدي وأنت عتبة الباب! الحقي بأهلك.
فتزوج بغيرها.
فأتي إبراهيم بعد وقت فطرق الباب.
فخرجت المرأة الصالحة المنيبة الذاكرة، فسألها عن زوجها.
فقالت: في الصيد.
فقال: كيف حالكم؟
قالت: نحن في أحسن حال وفي أرغد عيش وفي سعة من الله وفي نعمة من الله وفي هناء.
قال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له يثبت عتبة البيت.
فأتي إسماعيل فسألها فأخبرته.
فقال: هذا أبي وقد أمرني بإمساكك..لأنك صالحة.
وأما امرأة عمران عليه السلام فقد طائراً ومعه ولده فقالت: يا رب ارزقني ولداً.
لأنه الذرية مكسب عظيم، لكن أفضل العمل الصالح.
فحملت بحمل فتمنت أن يكون ولداً، ونذرت لله إن أنجبت أن يكون خادماً لبيت المقدس.
فأتت بمريم فقالت: ( رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(آل عمران: الآية36)، ما أحسن الكلام.
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا )(آل عمران: الآية37)
فأصبحت خيراً من كثير من الرجال.
وأصبحت عابدة يأتيها رزقها في الصباح والمساء كرامة من الله.
وأتت بعيسى ابن مريم الذي هو من أولي العزم من الرسل عليه السلام، فكان قرة عين لها.
وأما خديجة زوجة محمد صلي الله عليه وسلم فهي أول امرأة في تاريخ الدعوة.
وقد سكبت دموعها وعرقها لنصرة هذا الإنسان العظيم الذي قاد سفينة الحياة إلى شاطئ النجاة.
أتي صلي الله عليه وسلم من الغار في أول لقاء حار مع جبريل وهو يرتعد ويقول: (( زملوني زملوني)).
فقالت: كلا والله لا يخزيك الله، إنك تصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف.
فهي مثال للمرأة التي تخفف عناء الحياة عن زوجها وتعينه على مواجهة صعوباتها.
بخلاف المرأة التي تجعل من الحبة قبة، وتولول على أدني حادث أو خبر.
قال صلي الله عليه وسلم في حديث صحيح: (( يا خديجة إن جبريل يقرئك من الله السلام ويبشرك ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
أي لا ضوضاء فيه ولا تعب.
قالوا عنها: كانت من أعقل النساء في تاريخ الدعوة.
وكانت تاجرة، فدفعت مالها لمحمد صلي الله عليه وسلم ليكون لها أجر بدايات هذه الدعوة.
* صفات المرأة المسلمة:
هي عشر صفات إذا وجدت في المرأة فلتبشر بجنة عرضها السماوات والأرض.
فنحن شهداء الله في أرضه.
مر على الرسول صلي الله عليه وسلم بجنازتين فشهدوا للأولي بالإيمان فقال: ((وجبت)).
والثانية شهدوا عليها بالسوء فقال: (( وجبت))
فسألوا .
فقال صلي الله عليه وسلم : (( الأولى أثنيتم عليها خيراً فقلت وجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فقلت وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه)).
الصفة الأولي: إيمانها بالله تبارك وتعالي الذي يصاحبها في الليل والنهار، في الحل والترحال، وهي قائمة أو قاعدة أو على جنبها.
إيماناً يجعل رقابة الله أقرب إليها من حبل الوريد.
فتتذكر الله سبحانه وتعالي في الخلوة والجلوة، وفي السر والعلن، والضراء والسراء.
قال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )(التوبة: الآية72)، فأفرد المؤمنين رجالاً وأفراد المؤمنات نساء، ليدلل سبحانه وتعالي على أن المؤمنات مخاطبات بهذا الدين.
وقال سبحانه: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96)
قال بعض أهل العلم: ( ودا) خاصاً بينهم وبين الله.
وقالوا: (وداً) في قلوب الناس.
والمرأة المسلمة يجعل الله لها ( وداً) في قلب كل مسلم إذا سمع بصلاحها وبتقواها.
وقال سبحانه: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
فأول صفات المؤمنة أن تتصل بالله دائماً وأبداً ، وأن تربي الإيمان في قلبها وأن تزرعه بالذكر والنوافل والتفكر والتأمل في آيات الله عز وجل.
ولتعلم أن الحياة ليست ذهباً وفضة.
والحياة ليست زوجاً.
لأن المرأة قد تعيش بلا زوج وبلا ذهب وبلا فضة إذا كان معها الإيمان والعمل الصالح، وهي السعيدة الناجية بإذن الله.
لكن إذا أخلت بالصلوات الخمس وبطاعة الله وبفرائضه وبالحجاب فو الله لو سكنت في قصور الدنيا واستخدمت أفخر السيارات وألذ المطعومات لكانت هذه الأمور عليها لعنة ومقتاً وغضباً من الله.
قال سبحانه: ) أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: الآية28).
حياة لا يجدها إلا المؤمن.
فبعض الناس يعيشون في قرى وقد آمنوا بالله عز وجل.
ويجدون كأن لذة الدنيا جمعت لهم، فهم في فرح وحبور وسرور.
وغيرهم يسكنون في ناطحات السحاب ولكن معهم الضنك والهم والضيق.
لماذا؟(/51)
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) )قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:124/126)
فهو عهد من الله أ من آمن وعمل صالحاً أن يحيه حياة طيبة، وأنه من أعرض عن
ذكره أن ينكد عليه حياته ويغلق عليه الأبواب.
وقال سبحانه: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195)
هذا جزاء المؤمن والمؤمنة من الواحد الأحد، ويناقض ذلك الكفر والعياذ بالله، لأن الله أخذ على نفسه عهداً أن يعذب كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة.
والمنافقة هي التي تكذب بالصلوات أو لا تصلي، أو تكذب بشيء من الرسالة، أو تخون زوجها في الخفاء وتظهر بالخشوع والنسك والاستقامة وهي خائنة لله ولرسوله.
الصفة الثانية: لزوم بيتها وعدم تبرجها.
لأن أهل الهدم يريدون أن تخرج المرأة المسلمة خاصة في هذه البلاد التي قامت على الكتاب والسنة، فولاة الأمر فيها يأمرون بالكتاب والسنة.
وأولئك يريدون أن تتبرج المرأة وان تسفك حياءها وأن تكون كما كانت المرأة في
أمريكا وبريطانيا وروسيا، سلعة ممجوجة حيث أدخلوها كل مجال من مجالاتهم ولو كان لا يناسب طبيعتها ، كالورش والمصانع ونحوها.
فتركت بيتها وأطفالها ودينها وعرضها.
أما امرأتنا فهي من نوع آخر.
امرأتنا درة مصونة.
امرأتنا يقول الله فيها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )(الأحزاب: الآية33)، أي لتقر المرأة وتجلس في بيتها فهو مأواها.
قيل لفاطمة في حديث يروي عنها: ما أحسن وصية للنساء؟
قالت: ألا تري الرجال ولا يرونها.
وفي السنن عنه صلي الله عليه وسلم في حديث حسن: (( إذا خرجت المرأة من بيت زوجها متعطرة متزينة فهي زانية)).
وقال صلي الله عليه وسلم : (( صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها)).
فمثلاً صلاتها في غرفة النوم خير من أن صلي في البيت الوسيع في جانب من جوانبه.
وصلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد، ولو أنه صلي الله عليه وسلم قد قال: (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)).
ولكن لزوم بيتها وسترها وعفافها وعرضها أعظم لها عند الله عز وجل أجراً.
فالواجب على المرأة أن تلزم وصية الله ووصية رسوله صلي الله عليه وسلم بأن لا تخرج من بيتها.
قالت العرب: لا يعصم المرأة إلا ثلاثة : زوجها أو بيتها أو قبرها.
ويوم أن تخرج المرأة فمعناه الضياع والعياذ بالله.
الصفة الثالثة: غض بصرها وحفظ نفسها، قال سبحانه: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان)(النساء: الآية25).، أي أصدقاء ، كما يحدث في البلاد الغريبة الكافرة،حيث لا بد أن يكون لها صديق غير الزوج.
وقال سبحانه وتعالي: () حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)(النساء: الآية34)، فهي تحفظ زوجها إذا غاب عنها.
قال صلي الله عليه وسلم يوم عرفة يوم أعلن حقوق الإنسان، ويوم أعلن مبادئ الإنسان وحقوق المرأة قال: (( ولا يوطئن فرشكم من لا ترضونه))، أي لا تستقبل أحداً في غيابكم إلا محارمها.
وقال سبحانه: )وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن)(النور: الآية31) ، يعني عند الريبة والشهوة فهي تغض بصرها ولا تنظر إلي الرجال.
فلتحرص المرأة على عدم كثرة النظر إلى الرجال.
الصفة الرابعة: حفظ لسانها من الغيبة والنميمة.
قال سبحانه: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(الحجرات: الآية12).
واكثر ما ينتشر بين النساء والعياذ بالله هو الغيبة وكثرة اللمز والطعن بالآخرين وخاصة من النساء.
فلا بد للمرأة أن تحفظ لسانها من تلكم الآثام التي قد توردها النار كما أخبر صلي الله عليه وسلم ، وأن تكون مستقيمة في أقوالها وسديدة في كلماتها.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70/71).(/52)
صح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( لا يدخل الجنات قتات))، وفي رواية صحيحة : (( لا يدخل الجنة نمام))، وهو الذي ينقل الكلام، وتدخل المرأة طبعاً في النهي عن ذلك، بل هن أكثر من الرجال في هذا الذنب، وهو نقل الكلام والنميمة بين الناس كما هو ملاحظ.
الصفة الخامسة: حفظ سمعها عن الغناء والخناء وما في حكمه.
والعناء محرم عند علماء الإسلام، ومن احتج علينا ببعض الفتاوى الهابطة التي لا تستند إلى دليل احتججنا عليه بالكتاب والسنة.
والتحريم هو مذهب الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة.
قال سبحانه : )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )(لقمان: الآية6).
وقال صلي الله عليه وسلم في البخاري: (( ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعزف))، واستحلالها إنما يكون بعد التحريم.
وعند ابن خزيمة بسند صحيح قال صلي الله عليه وسلم (( إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة)).
ومن استمع للغناء عوقب بثلاث عقوبات:
1-قطيعة ووحشة بينه وبين الواحد الأحد.
2-أن لا يحب القرآن ولا الذكر ولا الحديث النبوي ولا السيرة.
3-أن يحرمه الله سماع الغناء في الجنة.
قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنـ ـسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فهذا جزاء من استمع الغناء.
وهو بريد الزنا كما قال العلماء.
فواجب المرأة المسلمة أن تطهر بيتها وسمعها من هذا الخبث لتنعم بسعادة في الدنيا والآخرة.
الصفة السادسة: احترام الزوج والقيام بحقه والحرص على راحته وطاعته في طاعة الله.
ورد في حديث عنه صلي الله عليه وسلم : (( إن المرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها،وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها)).
من طاعة الزوج إراحته إذا دخل.
والابتسام في وجهه.
وتطيب خاطرة.
وعدم إحداث المشاكل معه.
وعدم تكليفة التكاليف الباهظة في الإنفاق.
وحفظه بظهر الغيب.
والسكوت حينما يتكلم.
وتربية أبنائه على الإسلام.
وعدم مخالفته فيما يأمر.
الصفة السابعة: الاقتصاد في المعيشة وعدم الإسراف في المأكل والملبس والمسكن.
قال سبحانه: )إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الاسراء:27)
وقال سبحانه: ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام: الآية141)
وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
فواجب على المرأة المسلمة أن تحرص على الاقتصاد في شؤونها وشؤون بيتها ولا تكلف الزوج ما لا يقدر عليه لأسباب تافهة.
فالبيت قد يعيش سعيداً ولو لم توجد فيه كثير من الأمور المعاصرة وجزئيات المخترعات والكماليات.
بل إن كثرة إنفاق الزوج وتحمله قد تجعله يثير المشاكل مع زوجته إلى أن يصل الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.
وأن تحرص على إنفاق فضول مالها في الصدقات التي يدخرها الله عنده لها بدلاً من إضاعتها في ما ستسأل عنه يوم القيامة.
أعطي معاوية رضي الله عنه عائشة أم المؤمنين مائة ألف درهم في يوم واحد فتصدقت بها ونسيت نفسها، وكانت صائمة وأفطرت على التمر والماء.
الصفة الثامنة: عدم التشبه بالرجال.
فتحرص أن لا تقلد الرجل في مشيه ولا في كلامه ولا في لباسه أو أي شئ يختص به.
فقد لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال.
ولعن الله الواصلة والمستوصلة ، الواصلة التي تصل شعرها بشيء للتدليس على الناس بأن شعرها طويل، أو تفعل ذلك بشعر غيرها.
والمستوصلة هي التي تطلب ذلك.
ولعن النامصة والمتنمصة، وهي التي تنتف شعر حواجبها فترققه كما تفعل بعض النساء ـ هداهن الله ـ .
وكذا الواشمة والمستوشمة، وهي التي تغرز الإبر فيها الحبر الأسود أو الأحمر في خدها أو في أنفها لتجملها.
وكذا المتفلجة ، وهي التي توجد الفراغات بين أسنانها لأن كل ذلك من تغيير خلق الله.
وما أحسن المرأة إذا رضيت بخلق ربها لها وتجملت بما يحل لها دون أن تلجأ إلى المحرمات التي نهي عنها الله ونهي عنها رسوله كما سبق.
الصفة التاسعة: أن تحرص على الطاعات والنوافل من الصلاة والصيام والصدقة.
نعم! )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: الآية286).
لأن المرأة أشغالها كثيرة في البيت خاصة مع الأولاد.
لكن لا تنسي نصيبها من ذلك، لا سيما القرآن والذكر لأنه خفيف على اللسان ثقيل في الميزان.
ولا يتأتى لها ذلك إلا بتنظيم وقتها والحرص ألا يضيع هدراً، خاصة وقت السكون والهدوء في الصباح عندا يخلو الجو لها.
ولكن لا يعني التركيز على أمور العبادة أن تصبح المرأة راهبة في البيت لا تعرف إلا سجادتها ، فتضيع حقوق زوجها متعذرة بالطاعات والعبادات.
لا .. فلكل مقام مقال.
بل تحرص على العبادات وتحرص على زوجها واستقباله بالطيب والجمال والنظافة.(/53)
قال أحد الشعراء يمدح زوجته:
تضوع مسكاً بطن نعمان إن مشت به زينب في نسوة عطرات
والنفوس مجبولة على حب الطيب والجمال، فلتفهم ذلك المرأة المسلمة.
الصفة العاشرة: أن تكون آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر داعية إلي الخير في أوساط النساء.
لأن الرجال لا يستطيعون أن يدعوا النساء ويخلوا بهن ويعرفوا مشاكلهن.
أما المرأة فإنها تستطيع أن تغوص في أعماق النساء لأنها مثلهن، فتؤثر فيهن وتجذبهن نحو الخير بواسطة الكلمة والهدية والرسالة ونحوها.
اسأل الله لي ولجميع المسلمين التوفيق، وأن يصلح لنا أزواجنا وذرياتنا ، وأن يجعلهم قرة أعين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
لا تكفرن العشير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن)).
قال: (( يكفرن الإحسان ويكفرن العشير، ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك معروفاً قط))، أخرجه البخاري.
هذا الحديث له مناسبة: أن الرسول صلي الله عليه وسلم خرج يصلي العيد بالناس.
وكان إذا خرج للعيد انتظر قليلاً حتى ترتفع الشمس قيد رمح، ثم لبس لباسه صلي الله عليه وسلم لباس الجمال ولباس التواضع، فمضي إليهم وهم ينتظرونه.
فإذا أطل عليهم بمقدمة المبارك البهي الذي يملأ العين جلالة والقلب مهابة تكلم في الناس بما آتاه الله من وحي السماء.
فلما انتهي من كلامه للناس ذهب إلى النساء في طرف المصلى، وهذا دليل على عدم الاختلاط.
وفيه درس أيضاً بأن المرأة المسلمة تحضر مجالس الخير واجتماعات البر وتستمع إلى الكلمة النافعة والدروس الإسلامية والمحاضرات القيمة.
فإن هذا من أعظم الأمور، لكن شريطة أن تغض بصرها وأن تتقي الله ربها، وأن تحفظ زوجها في غيابه.
وقد أمر صلي الله عليه وسلم في حديث أم عطية في البخاري الحيض والعواتق وذوات الخدور أن يخرجن يوم العيد ، فأما الحائض فتعتزل المصلى وتحضر دعاء المسلمين وتستمع إلى الموعظة والخطبة، ففيه دليل أن الحائض لا تدخل المسجد ولا المصلى الذي يصلى فيه الناس.
ولكن عند أبي داود أن صلاة المرأة في دارها خير من صلاتها في مسجدها.
تقول عائشة كما في البخاري: لو رأي الرسول صلي الله عليه وسلم ما فعلته النساء بعده لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل.
فكيف لو رأيت عائشة المنظر اليوم، وكيف لو رأت التبرج، وكيف لو رأت الاختلاط، وكيف لو رأت ضعف الإيمان وقلة العلم بالسنة والشريعة؟ نسأل الله العافية والسلامة.
فخرج صلي الله عليه وسلم وتكلم للناس، فلما انتهي قال لبلال بن رباح مؤذية : (( هيا بنا إلى النساء)).
فذهب إليهن ووعظهن بهذه الموعظة السابقة.
وقال أول ما تكلم بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله قال: (( تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)).
فقامت امرأة منهن وقالت: ما بالنا نحن أكثر أهل النار؟ ما هو الدليل على أننا أكثر أهل النار؟ وما هو السبب؟ وما هي العلة؟
وفي هذا درس بأن على الطالب أن يناقش ، وأن للمرأة المسلمة إن لم تفهم قضية أن تبعث للعالم فتسأله وتستفتيه.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( تكثرن اللعن ـ هذا في حديث أبي سعيد ـ وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن)).
فتصدقت النساء بحليهن وبما يملكن، وأخذ بلال يعرض ثوبه لأنها لأموال بيت المسلمين.
وفيه درس على أن المرأة المسلمة تشارك بكلمتها وبمالها وبحليها ، وأنها لا يبقي لها إلا ما قدمت عند الله، وأن الحلي والكنز هو الأدب وهو الزهد وهو العفاف.
وقوله صلي الله عليه وسلم : (( ناقصات عقل ودين)) المقصود بنقصان العقل أن شهادتها مع أختها تعادل شهادة رجل لأنها كثيرة النسيان، والاهتمام بأمور البيت والأمور الخاصة بها مما يجعلها تنسي وتضعف عن التذكر.
وأما نقصان الدين فلأنها تحيض فيسقط عنها الصوم والصلاة.
وليس المقصد ما قد يتوهمه بعض الناس من أن هذا قدح بالنساء.
كيف ذاك؟ والله يقول: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )(آل عمران: الآية195) .
كيف ذلك؟ وفيهن العالمات الفاضلات البرات.
منا الفواطم ربات العلا لنا كل الزيانب هم أهل وأخدان
والله لو أنصف التاريخ أمتنا لسجل المجد عذباً وهو سهران
ثم إن الرسول صلي الله عليه وسلم عاش مع المرأة أباً فله بنات، وعاش مع المرأة أخاً فله أخوات، وعاش مع المرأة زوجاً فله زوجات، ثم عاش قريباً فله عمات وخالات.
من قضايا الحديث:
أولاً : فضل الصدقة من النساء وكذا الرجال وأنها منجية من النار.
فيا أبناء لا إله إلا الله، ويا أحفاد محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، تصدقوا.
ما هي الصدقة؟
الصدقة لا حد لأدناها ولا لأعلاها.(/54)
أما أدناه فالبسمة صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.
وأما أعلاها فاسمع إلى الله وهو يقول: )مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261) ، وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( والصدقة تطفئ الخطيئة)).
وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا تصدق المرء المسلم من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً فإن الله يتقبله بيمينه ثم يربيه لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون كجبل أحد)).
وصح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( كل منكم في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضي بين الناس))، إلى غير ذلك من الأحاديث. ومنها ما في الصحيحين قوله صلي الله عليه وسلم : (( ما اصبح الصباح إلا وملكان يناديان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)).
وأما الصدقة فهي أنواع: وأعظمها وأجلها الصدقة بالعلم كما قال ابن القيم ، ثم الصدقة بالنفس بأن تسفك دمك في سبيل الله، وأن تبيع روحك من الله.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
ومن الجود الصدقة بالوقت، فتجد بعض المحسنين الصالحين صرف وقته للمسلمين ليلة ونهاره، فلا راحة ولا نوم بل كله للمسلمين.
متيم بالندي لو قال صاحبه هب لي فديت كرى عينيك لم ينم
يقول: لو طلب النوم من عينه ما نام من كرمه أبداً.
وهذه صفة أهل الشيم والمروءة الجود بالأوقات.
ومنها الجود بالأموال بأن لا تري فاقة ولا حاجة إلا وتنفق فيها.
وإنما حض صلي الله عليه وسلم المرأة على كثرة الصدقة لأن من النساء من يكن بذيئات يكثرن اللعن ويكثرن السب ويكثرن الشتم، وهي خطايا ولا يطفئ الخطايا إلا الصدقات، فنبه صلي الله عليه وسلم المرأة على أن تتصدق من جلبابها ومن ثيابها ومن ذهبها ومن مالها، ومن معروفها، وسوف تلقي ذلك عند الله تبارك وتعالي.
ولما أمر صلي الله عليه وسلم بالصدقة في المصلى ـ والحديث في الصحيحين ـ كان من ضمن الجلوس: زينب امرأة عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه وارضاه، فقامت فدخلت بيتها بعد أن سمعت الموعظة فأخذت حليها وذهبها وفضتها وخرجت من البيت النبي صلي الله عليه وسلم فلقيها ابن مسعود وقال لها: إلى أين؟
قالت: أتصدق به.
قال: أنا وولدك أحق من تصدق به علينا.
فقالت : لا .. حتى أسال الرسول صلي الله عليه وسلم .
فذهبت إلى الرسول صلي الله عليه وسلم في البيت وعند الباب بلال يحرس.
فقالت لبلال: أريد الرسول صلي الله عليه وسلم .
قال: من أنت؟
قالت: أنا زينب امرأة ابن مسعود.
ففيه دليل على أنه لا بأس بمعرفة أسماء النساء في الإسلام إذا كانت المرأة عاقلة ومتحمشة ورشيدة .
فذهب بلال إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: (( زينب تستأذن عليك ـ وفي المدينة ما يقارب سبع زيانب ـ.
فتبسم صلي الله عليه وسلم وقال: (( أي الزيانب)).
قال: زينب امرأة مسعود.
فدخلت وسألته صلي الله عليه وسلم ، فقال : (( صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)).
فذهبت وأعطت حليها لزوجها الفقير.
ففيه دليل على أن المرأة تدفع زكاة مالها لزوجها الفقير ، وهو ما أفتي به أهل العلم.
ثانياً: قوله: (( تكفرن العشير)) الكفران مصدر كفر، وكفر أي: غطي.
يقال : كفرت النبات في الأرض أي غطيته.
وكفر المعروف إذا غطاه.
وإنما سمي الكافر كافراً لأنه جحد معروف الله ، وجحد آيات الله وغطاها.
قال سبحانه وتعالي: ) يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )(الفتح: الآية29) ، قال بعض المفسرين: الكفار الزراع لأنهم يكفرون النبتة في الأرض ويغطونها بالتراب.
وقال غيرهم: بل الكفار هنا هم الكفار المعروفون الذين كفروا بالله وبرسوله وباليوم الآخر.
قوله : (( العشير )) هو الزوج، وإنما سمي عشيراً من المعاشرة وهي المصاحبة، قال سبحانه وتعالي: ) وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )(النساء: الآية19) ، فمن أسباب دخول النار كفران معروف الزوج من الزوجة.
والنساء من طبيعتهن الكفران ـ إلا من رحم الله منهن ـ ، فلو أحسنت وصنعت وفعلت لما أرضاها ذلك إلا إذا كانت صالحة تقية عابدة.
ومن حكمة الله أن جعل الرسول صلي الله عليه وسلم يعايش هموم المرأة وغيرتها ومشاكلها وحوادثها في بيته حيث اجتمع عنده تسع نسوة فعرف دواخلهن وأفكارهن فعلم ما يعيشه الناس.
أتاه رجل فشكا له زوجته فقال: (( هن شر غالب لمن غلب))، أي: هن الغالبان ولو حاولت وحاولت.
وزار أبو أيوب رضي الله عنه عبد الله بن عمر في بيته وهو من عباد الصحابة، ومع ذلك وجد الستور على الجدران في بيته ، فأنكر عليه ذلك الترفه، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء يا أبا ايوب!!
وجاء رجل ليشكو زوجته إلى عمر بن الخطاب، فلما اقترب من الباب سمع صوت امرأة عمر يرتفع على صوت عمر!!(/55)
فقال في نفسه: ( أتيتك يا عبد المعين لتعين، فأنت يا عبد المعين تريد معين)!
فطرق الباب عليه وأخبره بما في نفسه.
وكان عمر حكيماً فقال: إنما العيش بالمعروف ، إنها امرأتي تصنع خبزي وتغسل ثوبي وتخدمني، فإن لم أتلطف معها لما عشنا سوياً أو كما قال رصي الله عنه.
فالواجب نصح المرأة بلطف وتحمل ما يصدر منها.
وفي الصحيح أن الرسول صلي الله عليه وسلم أتي إلى بيت فاطمة ابنته رضي الله عنها ليسألها عن على رضي الله عنه فقالت: غاضبته فحرج، أي أنها تخاصمت هي وإياه!
وهو على وهي فاطمة ، فكيف بمن هو دونهما؟
وواجب على المرأة أن تتقي الله في زوجها، فقد صح من حديث أبي أمامة عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها))، أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
ولا تجحد المعروف، فإن ألأم الناس من جحد المعروف، ولذلك يسمونه عند العرب ( لئيم).
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فأبغض الناس إلى قلوب الناس هو الذي يجحد المعروف وينسي إحسانهم ويتغافل عما قدموه من مكرمات، فكيف بالزوج الذي قدم لزوجته من المكرمات؟
ثالثاً: أنه صلي الله عليه وسلم كان يخاطب النساء ويتكلم إليهن في مجالس خاصة وعامة.
أتت إليه أسماء بنت يزيد فقالت: يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، يحجون معك ويعتمرون معك ويجاهدون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك.
فالتفت صلي الله عليه وسلم وقال للصحابة: (( هل سمعتم بأجمل منها خطاباً؟))
فواعدهن صلي الله عليه وسلم يوم الاثنين.
فقال البخاري ( باب) من جعل للنساء يوماً من نفسه وساق الحديث.
وكان صلي الله عليه وسلم يأخذ البيعة منهن مباشرة كما فعل مع هند بنت عتبة في الصحيح عندما أتت تبايعه بنفسها، فكان صلي الله عليه وسلم يشترط عليهن عدة شروط في البيعة، منها: أن لا يعصينه في معروف، وأن يقمن بالحقوق الزوجية، ونحو ذلك.
وكان صلي الله عليه وسلم يستمع لأسئلتهن ويجيب عليها، ولم يكن يستحين رضي الله عنهن من التفقه في الدين ، فقد ورد في الأحاديث عدة أسئلة من النساء للرسول صلي الله عليه وسلم .
كفاطمة بنت أبي حبيش، وحمنة بنت جحش، وهند بنت عتبة، وأم أنس رضي الله عنهن وغيرهن، كن يسألن عن أمورهن الخاصة، وكان هو صلي الله عليه وسلم يستمع لهن ويجيب دون ضجر أو تضايق.
فواجب العالم أن يعطي النساء جزءاً من وقته يلقي عليهن المواعظ ويجيب على ما يهمهن من شؤون حياتهن الخاصة، كمسائل الحيض والنفاس ونحوها، فإن الإسلام للرجل والمرأة وليس مقصوراً على صنف دون الآخر.
والأمر الثالث الذي يجب على الزوجة ـ وقد ذكرت غيره سابقاً ـ هو أن تحسن العشرة في الخلق والطاعة في المعروف، وأن تحفظ نفسها وماله، فلا تجلس أحداً على فراشه لا يرضاه ولا يرضي دخوله أبداً، ولا تتبرج ولا تنكشف ولا تخونه بالغيب ، فإذا فعلت ذلك فقد اساء ت له كل الإساءة ، وقد قطعت ما بينه وبينها من الرحم ومن الصلة ومن الحقوق ومن الزوجية، ونعوذ بالله من امرأة تفعل ذلك، فالله يقول: ( حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ )(النساء: الآية34) ، والمرأة التي تحفظ الله بالغيب هي التي تحفظ زوجها في نفسها وفي ماله.
أما حقها هي .. فمن حقوقها الرحمة بها واللطف والكسوة والنفقة ، وإعانتها على طاعة الله عز وجل، وإعطاء حقوقها في الوقت وفي غيره، والصبر عليها لأنها خلقت من ضلع أعوج.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حقوق أم زرع
قال البخاري: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وعلى بن حجر قالا: أخبرنا عيسي بن يونس، حدثنا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قال: جلس أحادي عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً.
قالت الأولي: زوجي لحم جمل غث علي راس جب، لا سهل فيرتقي ، ولا سمين فينتقل.
قالت الثانية : زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن سكت أعلق .
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إذا دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجي غياياء ـ أو عياياء ـ طباقاء ، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلالك.
قالت الثامنة: زوجي المس مس ارنب، والريح ريح زرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك، مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعت صوت المزهر، أيقن أنهن هوالك.(/56)
قالت الحادية عشر: زوجي أبو زرع فما أبو زرع، أناس من حلى أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلى نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح ، واشرب فأتقنج.د
أم أبي زرع، فما أم أبي زرع،عكومها رداح، وبيتها فساح.
أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، مضجعة كمسل شطبة، ويشعبه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طول أبيها ، وطوع أمها، وملء كسائها ، وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً ، ولا تنقث ميراثنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً.
قالت : خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين ، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح على نعماً ثرياً ، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال كلى أم زرع، وميري أهلك، قالت: فلو جمعت كل شئ أعطانيه ما بلغ أصغر آتية أبي زرع.
قالت عائشة: قال رسول صلي الله عليه وسلم : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع)).
هذا الحديث أغرب حديث في كتب السنة..وقد شرحه ما يقابل عشرة من العلماء، وأعظم من شرحه القاضي عياض قاضي في المغرب وعالم المغرب، وابن حجر شرحه فيما يقارب ثلاثين صفحة، وهو حديث عجيب فيه أكثر من سبع عشرة فائدة سوف تمر بنا بإذنه سبحانه وتعالي، ولكن نأتي على الشرح.
يقول البخاري ( باب حسن المعاشرة مع الأهل) يقول: : كيف يكون المسلم مع أهله في حسن المعاشرة؟ وفي وطء الكنف؟ وفي لين الجانب؟ وفي السهولة؟ ثم يأتي بحديث المصطفي صلي الله عليه وسلم مع عائشة، ويظهر لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مع كثرة أشغاله وأعماله وارتباطاته، وما يأتيه من نوائب الدهر وأمور الأمة تدار علي ككفه صلي الله عليه وسلم ، وأحداث الأمة وجهاد الأمة وإدارة الأمة وقيادة الأمة.. ومع ذلك وجد وقتاً إلى أن يستمع لمثل هذا الكلام.
وهذا من لين جانبه ومن حلمه ومن بره عليه أفضل الصلاة والسلام كما قال تبارك وتعالي: )وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) ،(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ف)(آل عمران: الآية159).
وعائشة الرواية لهذا الحديث هي بنتها أبيها، فقد كان أبو بكر أحفظ الناس وأفصح الناس، يحفظ السير والأنساب والأخبار والأشعار، وإذا تكلم أبو بكر في مجالس من مجالس العرب سكتوا جميعاً، فأتت ابنته عائشة تشبهه، ومن يشابه أباه ما ظلم!
إن العصا من هذه العصية
لا تلد الحية إلا حية
فكان صلي الله عليه وسلم يأنس بحديث عائشة، ويسألها عن أخبار الناس لأنها كما قال الزهري، كانت تحفظ ثمانية عشر ألف بيت شعر، وكانت تحفظ أخبار العرب، وما وقع في أيام العرب وقصص العرب.
وفي غدوة من الغدوات جلس عليه الصلاة والسلام مستريحاً هادئ البال مطمئن النفس، فأخذ يداعب ويمازح زوجته الطاهرة الصديقة بنت الصديق، فأخذت تقول: يا رسول الله جلس نسوة سلف بهم الدهر، وهؤلاء النساء قال أبو محمد ابن حزم الظاهري: هن من خثعم قبيلة من قبيلة شمران، وهي من قبائل الجنوب الشهيرة في التاريخ.
ومن هذه القبيلة الخثعمي الذي يقول:
ألا يا صبا نجد متي هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداً علي وجد
قالت تخاطب الرسول صلي الله عليه وسلم : جلست إحدى عشرة امرأة فتعاقدن وتعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً..فأزواجهن خرجوا من البيوت .. واجتمعن.
قال أهل العلم كما قال ابن حجر : إذا اجتمع النساء فأكثر حديثهن في الرجال ، وإذا اجتمع الرجال فأكثر حديثهم في المعاش!!
قالت: فتعاهدن عهداً بالله ألا تكذب الواحدة أخواتها في هذا الأمر، وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ، فتقدمت الأولي بحفظ الله تتكلم، فقالت تصف زوجها ( زوجي لحم جمل غث على رأس جبل لا سهل قيرتقي ولا سمين فينتقل)، وصفته بأقبح الأوصاف، فلحم الجمل يقولون هو من أردأ اللحوم، ويقولون إنه يدمي القلوب فمن داوم عليه مرض، وهو من أقسى لحوم الحيوانات على الإطلاق ، وحذر منه كثير من الأطباء.
وليتها قالت: لحم جمل وسكتت، لهان الأمر ، لكنه نحيف هزيل ضعيف.
وتقول : على رأس جبل، فمن وعورة خلقه أنه اصبح كالجبل الذي لا يرتقي.
قالت: لا سهل فيرتقي ، أي بيت الجبل سهل فيرتقي فنأخذ هذا اللحم الغث.
يقول ابن تيمية يستشهد بهذا الكلام وقد سئل عن الفلسفة وعلم المنطق فقال: علم المنطق والفلسفة لحم جمل غث على رأس جبل لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل، وهذا من أحسن ما يستشهد به في مثل هذه المواضع.
قالت الثانية: ( زوجي لا أبث خبره) يعني: لا أريد أن أخبركم بأشياء ، لكن اسمعوا مني موجزاً ، فهو باشر مما أتكلم به عنه!ّ فالرجل فوق ما استطيع أن أتكلم، ولا استطيع أن أصف السوء الذي فيه!(/57)
( إن اذكره عجره وبجره) العجر: عروق في البطن. والبجر : عروق في الظهر. ومعني الكلام أن فيه عجر وبجر فهو مفطوم على الهموم والأحزان.
قال على رضي الله عنه: اللهم إني اشكو إليك عجري وبجري..قالوا: يعني يا رب أشكو إليك همومي وأحزاني وما جري لي، وما عندي من المصائب والكوارث، لأنه فقد الرسول صلي الله عليه وسلم ثم زوجة فاطمة ثم أبا بكر وعمر وعثمان، ثم اختلفت الأمة بين يديه، ثم تكالبت عليه الخوارج.
فتقول المرأة: أنا لا أتكلم في هذا الرجل، يكفي أني أعطيتكم موجزاً، والأحسن أن لا أتكلم لأن الكلام لا يوفي!
قالت الثالثة: (زوجي العشنق) ، العشنق قيل الطويل المفرط الطول.
والطويل المفرط الطول عند بعض العرب يقولون إنه يكون فيه خبل وهبل!
وقيل: هو سئ الخلق شرس الأخلاق، إذا سلمت عليه أقام الدنيا وأقعدها، يعني يغضب مما لا يغضب منه.
قال أهل العلم وأهل الأدب: من غضب بما ليس يغضب فهو أحمق.
قالت: ( زوجي العشنق، إن أنطق أطلق)، أي إذا تكلمت فالطلاق جاهز على طرف اللسان! ( وإن أسكت أعلق) وإن سكت عن الكلام معه فأنا معلقة، ) فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)(النساء: الآية129) كما قال سبحانه وتعالي. والمعلقة هي التي ليست مطلقة ولكنها مع زوجها في البيت وهو لا حاجة له بها.
قالت الرابعة: ( زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة)، تقول : أما زوجها فمثل ليل تهامة، وليل تهامة يقال: لوهج النهار وحرارة النهار يهدأ الليل فيكون من أحسن الليالي ، وهو أحسن من ليالي الحجاز ، فيهب فيه النسيم من هواء البحر العليل، وتبدد فيه الأكناف ،وتتوطأ فيه الأردان، فهو لهدوئه وصلاحه وخيره وقربه وتواضعه مثل ليل تهامة، لا حر ولا قر.. ليس بشديد الحر يعني ليس بجاف، وليس بقر كذلك أي ليس ببارد، لأن بعض الناس تبلغ البرودة به إلى أن يتبلد حسه فلا يغضب أبداً، يقول الشافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار!!
قالت الخامسة: (زوجي إذا دخل فهد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد) ، فهد مشتق من الفهد وهو حيوان اصغر من الأسد، وقد احتار كثير من أهل العلم في وصف الخامسة لزوجها، هل هي تسبه أو تمدحه؟ فإن سبته قالت: هو كثير النوم كالفهد.. لا يستفاد منه.
يقول الجاحظ : أكثر الحيوانات نوماً الفهد، فإنه ينام أكثر مما يستيقظ ، وإذا تعب قليلاً ألقي رأسه حتى ربما تأتي عليه الفئران وهو لا يشعر.
وإن كانت تمدحه فتقول: إنه كالفهد ، لن الفهد يمتاز على الحيوانات بالحياء، وبالخجل من المواقف، والعجيب انهم ذكروا أن الفهد إذا رأي المرأة صدف عنها! فهو كريم الجانب.
وإذا خرج أسد: أي كالأسد في شجاعته لأنه أشجع الحيوانات .
قالت السادسة: (زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث) ، تصف زوجها بالنهمة في الأكل ، والعرب تعيب ذلك، أي أنه إذا جلس على الغداء والعشاء والفطور ما أبقي لها شيئاً..فتقول إذا أكل لف، أي لا يعرف يأكل بالأصابع!!
وإن شرب اشتف، أي يبتلعه مجرجراً نحره كأنه ثور. ونحن نؤمر في السنة أن نمص الماء مصاً لا أن نبتعله بلعاً حتى يجرجر، لأن هذا يؤذي المري.
وإن اضطجع التف: تقول من وحشته أنه إذا اضطجع أخذ الفراش وحده ولا يقترب من زوجته فهو شرس الخلق لا يقترب منه.
ولا يولج الكف ليعلم البث، تقول : أمراض كثيراً وتصيبني الحمي، وزوجي ليس عنده لطف فيسأل عن صحتي.
ومن لطف الرجل مع أهله مع أخته مع زوجته مع بنته أن يقترب كما كان يفعل صلي الله عليه وسلم ويضع يده على كتفها أو على رأسها أو على كفها ليري حرارتها، فهذا من الهدوء وهذا من الأنس، بل الرسول صلي الله عليه وسلم كان ربما إذا رأي يعض الصحابة شبك أصابعه بأصابعه أنساً له، وربما داعبهم فضرب في صدورهم.
قالت السابعة: ( زوجي غياياء ـ أو عياياء ـ طباقاء كل داء له داء. شجك أو فلك أو جمع كلالك) تصف زوجها فتقول : غياياً وفي لفظ عياياً.
فإن كان غياياً فمعناه منتهي الغي فيه، نعوذ بالله من ذلك، يعني أن فيه فجوراً شديداً.
وطباقاً: هو الذي طبق على ذهنه الجهل من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه.
وهو أيضاً يضربها بالشج والفك..لا يعرف المهادنة .. دائماً إذا ضرب يجرح شيئاً، إما إن أن يكسر السن أو يجرح اليد أو يكسر الإصبع! نسأل الله العافية لسوء خلقه يفعل ذلك.
قالت الثامنة: ( زوجي المس مس أرنب) تقول هو لطيف الخلق مثل شعر الأرنب، ( والريح ريح زرنب) الزرنب: شجر طيب الرائحة ينبت في نجد، واستشهدوا على ذلك بقول الأول:
بأبي أنت وفوك الأشنب كأنما ذر عليه الزرنب
أي أنه من لينه ومن طيبته اشبه الزرنب.
قالت التاسعة: ( زوجي رفيع العماد) أي : أنه من كرمه وسؤدده يرفع بيته وبينه على شرفات الطرق.
ولذلك ذكروا عن إبراهيم عليه السلام أن بيته بالصحراء وكان له قصر له بابان..يقول: من يتغى يدخل من هنا ويخرج من هنا، فلكرمه كان دائماً يقول لخدمه ولعبيده ولرقيقه : من يأتي منكم اليوم بضيف فهو حر لوجه الله.(/58)
(طويل النجاد) :النجاد ممسك السيف، وقيل خباء السيف، وقيل غمده ، لأنه من شجاعته طويل النجاد وطويل الجسم كذلك.
(عظيم الرماد) أي: كريم فهو لكثرة كرمه كثر رماد ناره التي يطبخ عليها.
( قريب البيت من الناد): أي أنك إذا سألت عنه وجدته.
قالت العاشرة: (زوجي مالك وما مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك).
تمدح زوجها بالكرم وتقول: له إبل كثيرة وما يأتيه إلا الضيف فيحرك السكين فتعرف الإبل أنهن هوالك، فتمد الناقة عنقها وتتهيأ على الأرض.
هو البحر من أي النواحي أتيته
فدرته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله
والمزهر آلة، وقيل : عود يجمع به الإبل.
قالت الحادية عشرة: (زوجي أبو زرع ـ اسمه أبو زرع ـ فما أبو زرع) ما أدراك ما أبو زرع ( أناس من حلى أذني) أي حلاها في أذنيها، أو أنه أنس من الأنس واللطافة والرقة والشفافية فهو كحلي الأذن( وملأ من شحم عضدي) أي أنه أعطاها من النعم حتى امتلأت (وبجحني فبجحت إلي نفسي)، قالوا: شرفني فتشرفت ، وجعلني أفخر فافتخرت، ( وجدني في أهل غنيمة بشق)، تقول: أهلي كانوا أهل غنم( فجعلني في أهل صهيل) أي الخيل (وأطيط) قيل الإبل وقيل غيرها ، (ودائس ومنق) قال أهل العلم: يقولون إن منق من النقنقة ، وهي نقنقة الدجاج، فتقول : واصبح عنده دجاج. ورد بأن العرب لا تتمدح بالدجاج. ولعلها تمدحه بكثرة الحيوانات دون النظر إلى الدجاج لوحده.
( فعنده أقول فلا أقبح) أي أتكلم بطلاقة، والزوج الذي يكون وسيع الصدر وسيع البال..تتكلم المرأة عنده دائماً، أما الشكس فإنها لا تتكلم عنده إلا بكلمات.
(وأرقد فأتصبح) الصبحة عند العرب في النوم هي النوم بعد صلاة الفجر.
والعرب عندهم للنوم أسماء: هيلولة، وفيلولة، وغيلولة، وقيلولة.
الهيلولة: هي النوم بعد صلاة الفجر، وهي مستقبحة عند العرب.
والفيلولة: النوم ضحي.
والقيلولة: النوم بعد صلاة الظهر أو قبل صلاة الظهر، وعند السلف قبل صلاة الظهر.
والغيلولة: النوم بعد العصر.
ألا إن نومات الضحى تورث الفتي
خبالاً ونومات العصير جنون
ولم يصح في النهي عن النوم بعد العصر حديث، وكل حديث في ذلك فهو باطل أو موضوع، قاله ابن القيم وغيره من أهل العلم.
فتقول هذه المرأة : أنا من سعادتي عند زوجي أنام حتى في الصباح.
(واشرب فأتقنح) ، أي اشرب حتى أرتوي، ثم أزيد من لذة الشراب لبنلً وماء ونبيذاً.
( أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح) تقول: أم أبي زرع أصبحت من النعيم ممتلئة الجسم، ورداح العكون: مجامع البطن، ورداح: أي متينة سمينة.
( وبيتها فساح) فأم أبي زرع عندها بيت وسيع.
( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة)، يعني لا يأخذه إلا مكان صغير عند النوم سلة السيف ينام كمسل شطبة.
( ويشبعه ذراع جفرة)، الجفرة ولد الماعز، وقيل ولد الضأن ، أي ان ذراع الجفرة يكفيه من قلة أكلة لاشتغاله بالمهمات.
(بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ، طوع أبيها)أي تطيع أباها ( وطوع أمها وملء كسائها) يعني إنها في نعمة ( وغيظ لجاراتها) من جمالها.
(جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً) أي لا تنشر الخبر فهي ساكتة صامتة حافظة للسر، ( ولا تضيع مالتا ضياعاً)، فهذه الجارية تحفظ فلا تضيع المال، (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي لا تعشعش في البيت ، يعني لا تجمع الزبالات في البيت.
قالت: ( خرج أبو زرع والأوطاب تمخض) الأوطاب الأسقية التي يوضع فيها اللبن، يعني أنهم يهدونها وأنهم أهل لبن.
( فلقي امرأة معها ولدان) فأعجبته تلك المرأة ، فصدرها كالرمانتين يعني أنها جميلة وأنها لا زالت شابة وعندها ولدان يلعبان معها.
( فطلقني ونكحها) هذا آخر المطاف!!طلق أم زرع.
( فنكحت بعده رجلاً سرياً) يعني من أشراف الناس.
( ركب شرياً وأخذ خطياً) أي ركب فرساً يعدو وأخذ رمحاً، ( وأراح على نعما ثرياً) يعني من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، ( وقال: كلي أم زرع وميري أهلك) حتى أهلك في البيت أرسلي لهم من هذا المال، قالت: ( فلو جمعت كل شئ أعطانيه ما بلغ أضغر آنية أبي زرع) تقول: لو جمعت كل شئ أعطانيه في أصغر آنية من الأواني التي كان يعطينا فيها أبو زرع الأول ما بلغت أي شئ.
يعني أن قلبها معلق به.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال الرسول صلي الله عليه وسلم : (( كنت لك كأبي زرع لأم زرع)).
في الحديث فوائد:
أولها: حسن عشرة المرء لأهله والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع، وهذا واجب الرجل.
ثانياً: فيه جواز أن يحب الرجل أهله بشرط ألا يؤدي ذلك إلى أن تتكبر عليه، لأن بعض النساء من نقصان عقلها إذا أخبرتها أنك تحبها تجنت عليك وقاطعتك وأخذت تغضبك لتري كيف تتحسر عليها!!(/59)
ثالثاً: وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين، فإن هؤلاء النساء افتخرن بأمور الدنيا، لكن الرسول صلي الله عليه وسلم بين أن الفخر بالتقوى وبالدين، وإن أحسن الأوصاف ما وصف به حسن الخلق بعد الدين.
رابعاً: وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها ، فإن المرأة العاقلة الرشيدة المؤمنة التي تخاف الله من أدبها أن تحسن ذكر زوجها عند الناس، فإذا سألوها عن زوجها أن تقول فيه خيراً، ليكون أرفع لها عند الله تبارك وتعالي، وأرفع لذكرها وأعظم لأجرها.
خامساً: وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل ، فإن الرسول صلي الله عليه وسلم قد أكرم عائشة كثيراً أكثر من بعض جاراتها وضرائرها عليه الصلاة والسلام، وربما أتحفها بشئ وهذا لا يقدح في عدله عليه الصلاة والسلام، فهو أعدل الناس وأقرب الناس وأنصف الناس.
سادساً: وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها.
سابعاً: وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بها اعتباراً، فلا بأس أن تتحدث أنت والناس بأخبار أجدادنا والقبائل التي سلفت لأن فيها عبراً وتجارباً.
ثامناً: وفيه جواز الانبساط وتنشيط النفس بذكر طرف الأخبار المستطابة والنوادر، خلاف ما ذهب إليه غلاة العباد وغلاة الصوفية ، فإنهم لا يرون هذا ويقولون هو ضياع للوقت.فالرسول صلي الله عليه وسلم تحدث في هذه القضايا واستمع إليها، فلا بأس أن تتحدث مع الناس في الأسعار والأمطار والأخبار.
تاسعاً: وفيه حث النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم، وهذا أدب أدبنا الله به. فعلى النساء أن ينقين الله عز وجل في أزواجهن فيذكرن جميلهم وما لهم من أياد ولا يعددن السيئات.
أما إذا اضطرت إلى ذلك فلا بأس أن تصفه بحسن أو سوء إذا كان لمصلحة من الهبر أو بالسؤال عنه.
عاشراً: وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل بشرط ألا يسمي ولا يكون غيبة، وهؤلاء النساء كن في الجاهلية قبل تحريم الغيبة.
أما في الإسلام فلا يجوز للمرأة أن تغتاب زوجها كما قال الحافظ ابن حجر إلا لمصلحة ، مثل أن تشتكي عند القاضي أو الحاكم فيقول لها الحاكم : ماذا تنقمين على زوجك؟ فتقول: بخيل أو سئ الخلق أو مقاطع أولا يأتينا.
ولذلك جاءت هند امرأة أبي سفيان إلى الرسول صلي الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله أبو سفيان شحيح.
قال: (( خذي أنت وبنيك من ماله بالمعروف)) فهذه شكته أو بينت عيبه للحاجة.
الحادي عشر: تشجيع النساء أن لا تحرص الواحدة منهن على أن لا يكون قبلها زوجة، لكن تحرص عل رجل الخير والدين والاستقامة وحسن الخلق، لأنها قد تسعد معه ولو كان معه ثلاث نساء أسعد مما لو كانت مع زوج ليس له إلا هي، فالمسألة مسألة دين وتعامل وخلق.
الثاني عشر: وفيه أن الحب يأسر النساء، لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلو.
يقول أبو تمام:
كم منزل في الأرض يعشقه الفتي
وحنينه أبداً لأول منزل
الثالث عشر: فيه جواز وصف النساء إذا لم يؤد ذلك إلى ذكر المحاسن والصفات الداخلية..لأنه منهي عنه.
الرابع عشر: فيه جواز السجع إذا كان من غير تكلف. والسجع هو أن تختم الكلمة أو الكلمات بحرف واحد، وهو جميل في الكلام، لكنه إذا خرج إلى حد الكلفة فمذموم.
تشاكت امرأتان عند الرسول صلي الله عليه وسلم كانت إحداهما قد ضربت الأخرى فقتلت الجنين الذي كان في بطنها فحكم لها النبي صلي الله عليه وسلم بالدية فقام ولي المرأة التي غرمت فقال: كيف ندي من لا نطق ولا استهل، ولا شرب ولا أكل، فمثل ذلك يطل.
فقال صلي الله عليه وسلم : (( أسجع كسجع الكهان))؟!..لأنه تكلف ، وإلا ففي القرآن سجع لكنه غير متكلف وجميل وحبيب إلى النفوس.
الخامس عشر: وفيه أن الطلاق لا يقع بالمشابهة ، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( أنا كأبي زرع)) وأبو زرع طلق امرأته.
السادس عشر: وفيه أن المشبه لا يقتضي أن يكون كالمشبه به، لكن يخالفه في بعض الشيء .. تقول : محمد كالأسد في الشجاعة لكم ليس كالأسد في براثنه وفي مخالبه وفي جلده وفي عينه..لا لكن في الشجاعة وهذا معلوم.
السابع عشر: وفيه مدح الرجل في وجهه إذا علم أن ذلك لا يفسده.
والمقصود أن قضايا الحديث كثيرة، والقاضي عياض قد شرحه في كتاب كبير، ويقول الحافظ: استقصيت من شرحوه فإذا هم ما يقارب عشرة من أهل العلم.
وإنما شرحته لما فيه من الحكم والفوائد إن شاء الله، ولما فيه من اللطافة والأنس، ولأنه قد يعرض لبعض ، وفيه الكلمات الغربية التي تحتاج إلى مراعاة وإلى مراجعة.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/60)
(بيروت الأمس واليوم) 1
د. يوسف بن أحمد القاسم * 15/7/1427
09/08/2006
في هذه الأيام القليلة الماضية قرأت عنواناً لمقال في إحدى صحفنا المحلية, يتحدث عن "ترقب لمعركة!" بالخط العريض, فأذهلني هذا الخبر، وانقدح في ذهني - من أول وهلة - المعركة التي تقودها المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل في جنوب لبنان, ثم تأكد لديّ هذا الشعور حين وقع بصري على جملة بين السطور, تحمل عبارة "حاجز المقاومة" فأيقنت أن المقال –فعلاً- يتطرق لهذا الموضوع الساخن الذي يهم كل مسلم غيور, على الأقل في خضم هذه الأحداث التي تشهدها منطقتنا العربية, فأرجعت البصر كرتين لأرقب زمان ومكان هذه المعركة التي أشار إليها الكاتب, وإذا المفاجأة تطل عليّ من العنوان نفسه؛ حيث كان يبدأ بهذه الجملة "الأسهم السعودية: ترقب لمعركة الـ11 ألف نقطة !!" فظننت أن خطأ ما وقع من الناسخ, وإذا أول استهلال الكاتب يبدد هذا الظن, حيث قال: "اقترب مؤشر الأسهم السعودية أمس من نقطة الـ11 ألفاً التي تعتبر حاجز مقاومة.. !!" وإذا المقاومة غير المقاومة, وإذا المعركة غير المعركة! وهنا أخذ مني الحزن كل مأخذ, واعتصر قلبي ألماً على واقعنا نحن المسلمين, حيث تستباح أرضنا في فلسطين ولبنان, وتُرتكب المجازر على أهلنا في غزة وقانا وغيرها, وفينا من لا يلهج إلا بمعركة الأسهم التي يغنم منها المال, إن غنم ولم يرجع بخفي حنين, أو ربما صفر اليدين.
إنه إذا لم نستشعر هذه الأيام الخطر الذي يحدق بنا, والمخططات التي يرسمها لنا الأعداء, والمؤامرات التي يحيكونها ضدنا، فمتى نستشعر ذلك؟ وهم باتوا لا يخططون في الخفاء, بل يعلنون على الملأ ما يُسمّى بالشرق الأوسط الجديد, والذي يحاول الأعداء أن ينفذوا بنوده بدأ من لبنان, وإذا لم نسطر بأقلامنا ما يخفف عن إخواننا في محنتهم هناك في فلسطين ولبنان, فلا أقل من أن نحترم مشاعرهم, وأن نراعي مشاعر المسلمين في كل مكان, فلا نعطي عنا انطباعاً عبر صحفنا ومقالاتنا, يشعرهم بأنا مشغولون بمعاركنا المالية التي نملأ بها جيوبنا, في الوقت الذي ينشغلون هم فيه بمعاركهم البشرية التي يصدون بها عدوان إسرائيل, عدونا المشترك.
ويعتصر القلب ألماً وحسرة, حين نرى من إخواننا المسلمين من لا يكترث لآلام المسلمين, ولا تتحرك فيه شعرة لأحزانهم ومآسيهم, ويزداد القلب ألماً حين نرى منهم من هو منشغل بلهوه مع اللاهين, وبعبثه مع العابثين, وإخواننا هناك تلهو بهم الآلة العسكرية الإسرائيلية, فتحول أجسامهم إلى أشلاء, وتعبث بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم القنابل الذكية والغبية, فتصيرهم ركاماً بين التراب, كيف يرقأ لنا دمع، ويغمض لنا جفن والمسلمون هناك لا يجدون شربة تبل رمقهم, ولا لقمة تسد جوعتهم، ولا منزلاً يجمع شتاتهم؟ وقد جاء في الأثر (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وفي الحديث الصحيح (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فأين نحن من هذا الهدي النبوي, والشعور الأخلاقي الذي يجسده هذا الحديث؟(/1)
وعوداً على الموضوع أقول: لقد زار أديبنا الراحل علي الطنطاوي- رحمه الله - لبنان قبل عدة عقود من الزمن, فأخذ يصف بأسلوبه الرائع صورة طبيعتها الأخاذة, بقراها المتناثرة على سفوح الجبال, وينابيعها المتدفقة من أعالي الصخور والتلال, وجبالها التي تطل من فوق السحاب, وأشجارها التي تملأ السهول والهضاب, ثم انتقل من وصف هذه الطبيعة الخلابة إلى وصف جانب من الواقع السلوكي الذي يكدر بعض مناطق لبنان, فقال (5/64-66) :"في لبنان- والحق يُقال- من بؤر الفساد, مثل ما فيها أو أضعاف ما فيها من المدارس والكليات, وحسبكم أنه كان وراء الصف المطل على ساحة البرج من العمارات, عمارات أخرى على شوارع فرعية واسعة, على كل لوحة عمارة لوحات فيها أسماء أنثيات, غلطت مرة فدخلت في تلك الشوارع مع أهلي وبناتي - بعد أن تزوجت, ورزقت البنات - فسألتني إحداهن: ما هذه اللوحات؟! فتنبهت وارتبكت, ثم قلت لها: إنها أسماء خياطات وبياعات, واستدرت راجعاً! ولقد دخلت من بعد أكثر من عشرين مدينة من مدن أوروبا, فما كنت أرى في الشوارع ما كنت أراه وأنا أمشي في شوارع بيروت, أماكن البغاء في وسط البلد! أما ما وراء الجدران فلا شأن لمثلي به, ولا وصول لي إليه, لا في أوروبا ولا في لبنان, وما في الدنيا بلد يخلو ولا بلد خلا تماماً من الفواحش, ولكن في الخفاء, لا يكشف عنه الغطاء, ولا يخلع أهله قناع الحياء. وهذا قديم في بيروت" ثم استذكر - رحمه الله- زيارته القديمة للبنان (سنة1356هـ - 1937م) حيث وقعت له بعض المواقف المبكية والطريفة في آن واحد! عندما سافر إليها برفقة بعض محبيه لزيارة أمير البيان شكيب أرسلان, فقال: "ولما دخلنا الفندق - أي: في صوفر - عمامتان عاليتان على رأسي البهجتين, بهجة العراق وبهجة الشام (أي الأثري والبيطار), وعقال نجدي على هامة سيد من سادة نجد هو الشيخ ياسين الرواف, ونحن اثنان مطربشان(أي: اللذان يلبسان الطربوش) الأستاذ عز الدين التنوخي وأنا, لما دخلنا تعلقت بنا الأنظار, ودارت حولنا الأبصار, وحف بنا شباب يسلمون علينا, فقلنا: وعليكم السلام يا إخواننا ... فما راعنا إلا أنهم ضحكوا, وضحك الحاضرون, فقلت لأحدهم: قل لي, لماذا تضحك؟ هل تجد في هيئتي ما يضحك؟ فازداد الخبيث ضحكاً, فهممت به, فوثب الحاضرون فقالوا: يا للعجب أتضرب فتاة! وإذا الذين حسبناهم شباباً فتيات بسراويل (بنطلونات) وحلل (بذلات) فسرنا ونحن مستحيون, نحاول ألاّ نعيدها كرة أخرى. ولما خرجت في الليل لمحت في طريقي واحدة من هؤلاء النسوة, فحيتنا, فقلت لها: مساء الخير يا مدموزيل, فقالت: مدموزيل إيه يا وقح! فقلت في نفسي: إنها متزوجة, وقد ساءها أني دعوتها بالمدموزيل (الآنسة), وأسرعت فتداركت الخطأ, وقلت: بردون مدام, فقالت: مدام في عينك يا قليل الأدب, بأي حق تمزح معي؟ أنا فلان المحامي, فقلت: عفواً بردون! ووليت هارباً, وذهبت إلى صاحب الفندق, فرجوته أن يعمل لنا طريقة للتفريق بين الرجل والمرأة, فدهش مني, ووجم لحظة, ثم قدر أني أمزح, فانطلق ضاحكاً! قلت: إنني لا أمزح, ولكني أقول الجد, وقصصت عليه القصة. قال: وما ذا نعمل؟ قلت: لوحات صغيرة - مثلاً - من النحاس, أو من الفضة, توضع على الصدر, يكتب عليها "رجل" أو "امرأة" , تعلق تحت الثدي الأيسر , في مكان القلب , أو تتخذ حلية من الذهب أو الفضة, عليها صورة ديك - مثلاً- أو دجاجة, أو شاة أو خروف, أو شيء آخر من علامات التذكير والتأنيث. وراقه اقتراحي, وقبله على أنه نكتة, ولم يفكر بالعمل به؛ لأنه لم يجد حاجة إلى هذا التفريق ما دام المذهب الجديد يقول بمساواة الجنسين! تلك بيروت الأمس.(/2)
أما بيروت اليوم ( يقصد سنة الحرب مع إسرائيل عام 1982) وأما الجبل (أي :جبل لبنان) فأنا أسأل الله له الفرج، فلقد ورد أن بني إسرائيل لما رأوا انحراف ناس منهم وضلالهم، وعظوهم ونصحوهم, ثم تركوهم وأقروهم, وآكلوهم وشاربوهم, فلما جاء العذاب عمهم جميعاً. وما أشمت بما حل ببيروت وبلبنان, أيمكن أن أشمت ببلدي وبإخوتي؟ ولكنه قانون الله, إنه شديد العقاب, ولكنه واسع المغفرة, فتح باب التوبة, فما يغلقه حتى تقوم القيامة, القيامة العامة, أو القيامة الفردية حين يحضر الواحد الموت .. وهذا كلام حق, ولكنهم لا يقبلونه, إنهم يستثقلونه ويصدون عنه, فماذا نصنع إذا كان كلامنا لا يسمع". ووصف في موضع آخر (3/207-208) ساحة البرج بلبنان, فقال: "اجتمعت يومئذ المتع فيها, ولكن نأت التقوى عنها, كانت تقوم وراء بيوتها, على بعد أمتار معدودة من وسطها, بيوت البغايا, شامخات كالقصور , سابحات بالنور , على أبوابهن لوحات كبار بأسمائهن , كما تعلق اللوحات على أبواب المحامين, والأطباء, والتجار! كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف, وما أقول هذا شامتاً, فهي بلدي, أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله؛ ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب, وليعتبر من لا يزال على الشط, لم يدن من اللجّ, ولم يدركه بعد الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوروبا, كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق, لا أدخل الزوايا, ولا أكتشف الخبايا, فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت, مما لا يرضاه الله, ولا تقره أطهار الناس, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأله أن يجعل ما قاست درساً نافعاً لها, درساً كافياً لا تحتاج إلى غيره, تحسن الاستفادة منه, والانتفاع به, وأن يكشف عنها الغمة, وأن يعيد إليها الأمن والسلام والنعمة. مشيت وحدي في ساحة البرج نصف الليل, فلم أجد إلا أعقاب السابلة, ولم أجد إلا السكارى وأنصاف السكارى, فضجرت وضاق صدري, وملأ نفسي الشعور بالوحشة, وأحسست فراغاً مخيفاً, فتركت ميدان البرج يضحك بالكهرباء, ويرقص على الألحان التي تنسكب على الميدان من ذرى البنى الرفيعة, فتغمره بجو الفتون, وتركت الناس يحتفلون بعيد رأس السنة, لا يتأملون معاني الوجود, وفلسفة الخلود, وحقيقة الزمان, بل يبتغون المتع الرخيصة, واللذائذ الواطية, في هذه المراقص الخليعة الغارقة في الخمر والعهر, ويمّمت شطر البحر, أمشي في الطرق المظلمة المنعزلة الخالية, لعلي حين فقدت الأنس بالناس, أجد الأنس بالطبيعة .."أهـ .
لقد سطر - رحمه الله - هذه الكلمات, لا بنفس الشامت بلبنان ولكن بنفس الناصح, المشفق, المحب, الغيور على بلده العربي المسلم, - كما هو شعورنا - ليس لبنان فحسب, بل على كل بلد مسلم وقع في وحل المجاهرة بالمعاصي, أو يوشك أن يقع فيه؛ إذ إن المجاهرة بالمعاصي والمنكرات, ولاسيما الكبائر والموبقات, مما يغري المجتمع بالفساد, ويؤجج فيه مشاهد الفتنة, فيستمرئ المنكر ويألفه, حتى لا يعرف معروفاً , ولا ينكر منكراً, وهنا يدق ناقوس الخطر (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) وهذا لا يعني أبداً أن نقطع بأن ما يقع لإخواننا هناك أنه من هذا الباب؛ لأن هذا من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه, ولكن المعني هنا أن تعتبر المجتمعات المسلمة في كل مكان, فلا تستهين بالمنكر والمجاهرة به؛ لأنه منذر بخراب الديار لا سمح الله(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم)، وأنه كلما نزلت بالمسلمين مصيبة, أو حلّت بهم كارثة, فإن الله تعالى هو الذي يجب أن تُعلّق به الآمال, وأن تحط عنده الرحال, وذلك بالتوبة الصادقة, ثم بالأخذ بالأسباب المادية والمعنوية, وعدم التواكل أو الرضوخ لكل ما من شأنه سلب العزة والكرامة, وهاهي لبناننا المنكوبة, تصرخ بذلك المجتمع الغربي, مدعي العدالة, وحقوق الإنسان! فلا يجيب, ولا يستجيب, بل يساهم بآلاته المدمرة وقنابله الفتاكة في رفع الصراخ, وزيادة الأنين.(/3)
وإذا كان ما حققته المقاومة اللبنانية من انتصارات على أرض المعركة ومن إثخان في العدو قد أكد أن المحتل لا يجدي معه إلا المقاومة ورفع راية الجهاد الذي يحسب له العدو ألف حساب, فإننا نعلم علم اليقين أن المقاومة المتمثلة في حزب الله, أنها مقاومة شيعية, لها مصالحها وأجندتها المعروفة في المنطقة, والتي من ورائها إيران على سبيل الخصوص, إلا أننا وإن كنا لا نتفق معهم في تلك المعتقدات التي يدينونها, والمصالح التي يخططون لها, إلا أننا في الوقت ذاته نفرح بما تحققه هذه المقاومة على أرض المعركة؛ لأنهم يحاربون عدواً مشتركاً, وهو إسرائيل, الذي ما فتئ ينفذ المجازر تلو المجازر بإخواننا في فلسطين ولبنان, كما أن له المصالح والأجندة الأخطر في المنطقة برمتها مع حلفائه الغربيين. وإذا كان المسلمون في العصر الأول قد فرحوا بانتصار الروم – لأنهم أهل كتاب – على الفرس, مع أنهم جميعاً كفار, وللجميع أهدافه في المنطقة في ذلك الزمن الغابر, فمن باب أولى أن نفرح بانتصار المظلوم على الظالم, لاسيما والخلاف في تكفير عامة الشيعة محل خلاف بين أهل العلم وكلام شيخ الإسلام بن تيمية معلوم في هذا الباب، وإن كان للجميع أهدافه في هذه المنطقة, لا سيما وأن الوقوف مع المظلوم هنا هو تحت شعار نصرتهم ضد إسرائيل, لا أكثر من ذلك, وهذا لا يعني بطبيعة الحال تأييدهم على معتقداتهم الدينية, أو على مطامعهم التوسعية إن كان ثمة مطامع لهم في هذه المنطقة, وهذا يخرجنا من المعادلة الثنائية الخاطئة (إما مع حزب الله أو ضده!) فنحن نقف مع الحق حيث كان, مع المظلوم على الظالم, بقدر مظلمته, أما الموقف المحايد, فهو سيجعلنا في مأزق لا نُحسد عليه أمام تلك الشعوب المنكوبة، بل أمام العالم أجمع!!
إن أي صمت عربي أو إسلامي على هذه الحرب التي تمارس على هذا الشعب الأعزل, فإنه جريمة سيسجلها التاريخ بمداد أسود, وعلى صفحات سوداء, تبقى عاراً في جبين الأمة, لا يغسله الماء, ولا يطهره التراب.
وإن تعجب, فعجب ممن لا يرفع إلا شعار العروبة, ولا ينادي إلا بها, ولا يستغيث إلا بشعوبها, والمسلمون لم يتحدوا يوماً باسمها, ولم يتفقوا لحظة تحت ظلها, بل إن الفتوحات الإسلامية للدول العربية والإسلامية على مر التاريخ لم تكن إلا باسم الإسلام, بدأ بعهد النبوة والخلافة الراشدة, ومروراً بعصر الخلافة الأموية والعباسية, وانتهاء بزمن الخلافة العثمانية, فلم نختزل هذا النداء في هذا النطاق الضيق؟ ولم نهمش هذه المساحة الإسلامية الواسعة التي تترجمها مشاعر المسلمين في كل مكان, كما نشاهدها في القنوات الفضائية, وشاشات التلفزة, والتي تعكس صدق هذه المشاعر, وحرقة هذه القلوب على بلادها المسلمة, والله من وراء القصد.
* عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء(/4)
بيضة الديك
د.وسيم فتح الله
</TD
لا يزال إبليس عليه لعائن الله يضحك الحين بعد الآخر من سذاجة الإبليسيين من بني آدم، ولا يزال يجد في أتباع الهوى ومرضى القلوب لقمةً سائغة يمضغها تارة ويمجها تارةً أخرى ليلقي بها في حضيض الهوى ودياجير الضلال، ولكن بعد أن يلوث أمثال هؤلاء الإبليسيين نقاء الفطرة البشرية وصفاء صفحة العبودية التي يسعى النورانيون من بني آدم إلى صونها من كل منكر خبيث. ولئن كان المعلوم من الدين بالضرورة محل اتفاق عقلاء المسلمين فإن أتباع إبليس يأبون إلا أن يجعلوا من هذه المُسلَّمات اليقينية التي يدركها الأطفال والصبيان فضلاً عن العقلاء المكلفين مرتعاً لحماقاتهم ومعبداً يتقربون فيه إلى إبليس بقرابين الشهوات والمعاصي، شأنهم شأن من قال الله تعالى فيهم:" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبعُ كل شيطانٍ مريد. كُتب عليه أنه مَن تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير"(الحج 3-4). ولئن كان أتباع إبليس من السذاجة بمكان، فإن أتباع الحق من تلاميذ وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتصرون على إنكار المنكرات الجزئية التي ينزلق إليها هؤلاء، وإنما يتأملون في أبعاد المكيدة الإبليسية التي جند لها الشيطان جنود الهوى والشهوات، ويستنفرون طاقات الأمة لإحباط هذه المؤامرات قبل أن تبذر بذور الفتنة في الأمة، وقبل أن تؤتي غراس الشيطان أكلها الخبيث، وهكذا فلنكن ...
إن حادثة وقوف امرأة في محاولة سمجة ممجوجة لإمامة الجمعة والصلاة في بعص المحاضن الإبليسية ليست إلا أنموذجاً من هذه السخافات الإبليسية التي قد يرى البعض في الرد عليها اعتناء يزيد على ما يليق بها من إهمال، ولكن السياق العام الذي تحدث فيه هذه الواقعة يدفعنا إلى مزيد نظر وتأمل، ذلك أن هذه الحادثة تمثل في حقيقة الأمر جزئيةً منهجية ضمن مكيدة منظمة قد تولى كِبرها جناح الصليبية المتطرفة بهدف تحقيق أمرين اثنين؛ أحدهما استكمال جزئيات الأنموذج العصراني للمجتمع المسلم الذي يحقق التوأمة بين الدين والديمقراطية بحيث يسمح لمنسوبي الأمة الإسلامية أن يحافظوا على مظاهر الشعائر الدينية في نفس الوقت الذي يقدمون فيه قرابين الولاء والطاعة لطواغيت العصر وكبراء الإبليسيين، والثاني خرق الحواجز الإيمانية المانعة من الخنوثة والميوعة العقدية من خلال تفريغ مفهوم الرجولة من أبعادها الدينية وتحويل الرجال إلى نفرٍ من المخنثين المائعين الذين لا تُرفع بهم مساجد ولا تبنى بهم أمة ولا يُدافع بهم عن دولة، وحينذاك يكتمل المخطط الإبليسي لرؤوس الصليبية المتقيحة في استعباد باقي هذه الأمة وسلخها عن دينها.
إن عُباد الأهواء ممن تسول لهم أنفسهم الانخراط في منظومة العبودية الإبليسية يظنون أنهم يعاندون قول الله عز وجل :" الرجال قوامون على النساء " (النساء 34) حين تؤم الصلاة امرأة أو تخطب فيهم الجمعة أو يُجعل الطلاق في يدها، كما يظنون أنهم يعاندون قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة"(البخاري) حين تترأس امرأة دولة أو رئاسة وزراء فتقود قومها وتسوسهم ولربما استدرجهم الله تعالى بشيء من النجاح الظاهر في أمور الدنيا، وما علم أولئك الهلكى أن النجاح في أمور الدنيا شيء وأن الفلاح شيء آخر، وما علموا أيضاً أن قوله تعالى :"الرجال قوامون على النساء" وقوله صلى الله عليه وسلم :"لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة" من قبيل الأمر الشرعي الذي قد يكون الأمر الكوني بخلافه محنةً وابتلاءً واستدراجاً من الله عز وجل، فلا يهولنك أيها المسلم مخالفة ظاهر الأمور لمقتضى الأمر الشرعي، بل انظر إلى قوله تعالى:" فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"(الأنعام 44)، فإذا تدبرت في هذه السنة الشرعية لم تغتر بظواهر الابتلاء القدري بإذن الله.(/1)
إن هذه المعاندة الإبليسية إذاً ليست إلا تمرداً على الحق سبحانه وتعالى من نوع تمرد إبليس عن أمره سبحانه وتعالى حيث اعترض إبليس اللعين على أمر رب العالمين استشرافاً منه لما ليس بأهل له وطمعاً في منزلة لم ينزله الله تعالى إياها، تأمل قول الله تعالى حكاية عن عناد إبليس:" قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(الأعراف 12) فهذا القياس العقلي المنحرف في مقابل أمر الله عز وجل هو محور هلاك إبليس وكل تابع من تابعي إبليس إلى يوم الدين، كتلك التي قرأت فيما تزعم قول الله عز وجل :" وليس الذكر كالأنثى"(آل عمران 36)، وقوله تعالى :" وللرجال عليهن درجة" (البقرة 228)، وقوله تعالى :" وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم"(الأنبياء 7)، ثم استكبرت عن هذه النصوص بعقلها الفاسد لتقول بلسان حالها ومقالها إن الأنثى كالذكر ولا تأبه أن يكون مأواها ومحضنها في بث هذا الصديد بيتاً من بيوت الكفر وصومعة من صوامع الشرك، وزادها الله تعالى استدراجاً أن أوقف لها رهطاً من الحمقى يركعون بركوعها ويسجدون بسجودها ولربما يرون القول بإغماض العينين في الصلاة درءً لفتنة النظر إلى مفاتن إمامتهم أو قرينتهم في الصف...
إن الوقوف عند ظاهر هذا الحدث وغض الطرف عنه كونه حصل في بلاد الكفر ليمثل غفلةً حقيقية عما يحصل اليوم في بلاد المسلمين من " تسييد" النساء في مجتمعات المسلمين من خلال وضع النساء في مناصب الولايات العامة فهذه وزيرة اقتصاد وتلك وزيرة تعليم وأخرى رئيسة وزراء أو رئيسة دولة وما إلى ذلك من حماقات، وإن غاية هذه المنظومة أعني منظومة تسييد النسوة إنما هي تخنيث الرجال والوصول بهم إلى درجة من الميوعة تحول بينهم وبين قول الله عز وجل :" من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"(الأحزاب 23) وهذا هو الهدف، القضاء على هذه النخبة من رجال مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم والزج بذكور هذه الأمة في مهالك الميوعة والدياثة والخنوثة، ثم ليستبح أعداء الدين من أمتنا ما شاؤوا ...
ونحن إذ نسطر هذه الكلمات إعلاناً لله تبارك وتعالى ببرائتنا من هذه الطاعات الإبليسية لنجند أنفسنا في ميدان الجهاد في سبيل الله جنوداً محمديين ورجالاً معاهدين نحتسب أنفاسنا في رباطنا على ثغور الدين عند مليكٍ مقتدرٍ، في حين تحاول الرجلات من النساء مخالفة فطرة الله ومخالفة خلق الله، فها نحن ننتظر من الله الجنة والرضوان، وها هنَّ ينتظرن بيضة الديك...(/2)
بيع أسهم الشركات قبل التداول
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ البيوع/بيع الأسهم والسندات
التاريخ ... 18/02/1426هـ
السؤال
ما حكم بيع أسهم الشركات والبنوك قبل التداول؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
سهم الشركة إذا لم يطرح للتداول لا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأمور منها:
1) وجود الربا بنوعيه: الفضل والنساء؛ لأن السهم يمثل نقداً، ورصيد الشركة معظمه أو كله نقد أيضاً - وإن وجد في رأسمال الشركة أعيان وممتلكات فهي بحكم المعدوم لوقف التعامل فيها المتمثل بعدم التداول لأسهمها.
2) إن ملكية الأسهم وإن تعينت عدداً وقيمة، فهي موقوفة حكماً بعدم تداولها، فالسهم -حينئذ- يشبه العين المرهونة لا يجوز بيعها عند جمهور العلماء إلا بموافقة الطرفين، وهما الشركة والمساهم - أو بأمر الحاكم.
3) البيع والشراء للأسهم قبل تداولها - فيه جهالة وغرر، إذ قد يباع السهم قبل التداول بسعر مرتفع عن سعره بعد طرحه أو العكس، فيلحق الضرر بالاثنين البائع والمشتري.
4) قد يقع بسبب هذا البيع منازعات وخصومات بين الطرفين، ولن يوثق عقد البيع قبل التداول بين الجهات ذات العلاقة، خاصة إذا كان المبلغ كبيراً، مما قد يسبب ضياع حقوق الناس.
5) في هذا البيع مخالفة لنظام بيع الأسهم الموضوعة للصالح العام، علاوة على ما في هذا من افتئات على ولي الأمر الذي أقر نظام هذه الشركات على هذا النحو لمصلحة الناس عامة.
والخلاصة: إن بيع أسهم الشركات والبنوك قبل السماح بتداولها - ولو بعد التخصيص- لا يجوز؛ والبنوك الإسلامية كالشركات، أما البنوك الربوية فلا يجوز تعاطي أسهمها بالبيع أو الشراء مطلقاً، لا قبل التخصص والتداول ولا بعده.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
بيع الدين بالدين أقسامه وشروطه
راشد بن فهد آل حفيظ 6/5/1426
13/06/2005
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا بحث مختصر عن مسألة بيع الدين بالدين، جمعت فيه ما وقفت عليه من كلام بعض المحققين من أهل العلم، في هذه المسألة، مع بيان المذهب "مذهب الحنابلة" وذلك لأهميتها، وتعلقها ببعض أبواب البيوع، ولأنها مما يشكل على البعض، بل قد يخطئ فيها، وقد رتبته في مبحثين على النحو التالي:
المبحث الأول: أقسام بيع الدين بالدين، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: بيع الواجب بالواجب.
المطلب الثاني: بيع الساقط بالساقط.
المطلب الثالث: بيع الساقط بالواجب، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الدين الذي يجوز بيعه.
المسألة الثانية: بيع الدين لغير من هو عليه.
المطلب الرابع: بيع الواجب بالساقط.
المبحث الثاني: شروط جواز بيع الدين.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصًا لوجهه، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، إنه قريب مجيب.
المبحث الأول
أقسام بيع الدين بالدين (1)
المطلب الأول
بيع الواجب بالواجب
القسم الأول: بيع الواجب بالواجب:
وهو بيع دين مؤجل لم يقبض بدين مؤجل آخر لم يقبض، أو بيع الدين المؤخر الذي لم يقبض بالدين المؤخر الذي لم يقبض.
فكلاهما مؤخر مؤجل، لم يقبض أحدهما، أو يسقط(2).
"مثل أن يسلم شيئًا مؤخرًا في الذمة في شيء في الذمة"(3) وهو محرم بالإجماع(4) وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه(5)، بحديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الكالئ بالكالئ"(6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وهذا مثل أن يسلف إليه شيئًا مؤجلاً في شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، .. والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين"(7).
وقال رحمه الله: "لا يجوز باتفاقهم، لأنه كلاً منهما شغل ذمته بما للآخر من غير منفعة حصلت لأحدهما، والمقصود بالبيع النفع،فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال أسلمت إليك مائة درهم إلى سنة في وسق حنطة، ولم يعطه شيئًا، فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة، بل مضرة، هذا يطلب هذا بالدراهم، ولم ينتفع واحد منهما، بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به(8).
وقال رحمه الله: "والمقصود من العقود: القبض، فهذا عقد لم يحصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة"(9).
وقال رحمه الله: "إنه عقد وإيجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين، ولا لهما"(10).
وقال ابن القيم –رحمه الله-: "إنه اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بلا فائدة"(11). وقال –رحمه الله-:"وفيه ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النساء بعينها"(12).
المطلب الثاني
بيع الساقط بالساقط
القسم الثاني: بيع الساقط بالساقط:
وهو: بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط" (13) مثل أن يكون لأحدهما عند الآخر، وللآخر عند الأول دراهم، فيبيع هذا بهذا"(14).
وهو ما يعرف بمسألة المقاصة(15).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وهذا بيع دين ساقط بدين ساقط، ومذهب أبي حنيفة(16)، ومالك(17)، جوازه"(18).
وقال رحمه الله: "والأظهر جواز هذا، لأنه برئت ذمة كل منهما، فهو خلاف ما يشغل ذمة كل منهما.." (19).
وقال رحمه الله: "إن هذا يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين، ولهذا كان هذا جائزًا في أظهر قولي العلماء كمذهب مالك، وأبي حنيفة"(20).
وقال رحمه الله: "إن براءة ذمة كل منهما منفعة له"(21) . وقال ابن القيم –رحمه الله- معللاً للجواز:
"لأن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع"(22).
واختار الجواز –كذلك- العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي(23)، وتلميذه العلامة الشيخ محمد بن عثيمين(24)، رحمهما الله.
أما المذهب: فلا يجوز ذلك، لأنه بيع دين بدين(25).
ويجاب عن ذلك بأن بيع الدين بالدين المنهي عنه هو بيع الواجب بالواجب، لاشتغال الذمتين فيه بغير منفعة –كما تقدم- "بخلاف بيع الساقط بالساقط، فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له"(26).(/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "لفظ النهي عن بيع الدين بالدين لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف..، قال أحمد: لم يصح فيه حديث، ولكن هو إجماع، وهذا مثل أن يسلف إليه شيئًا مؤجلاً في شيء مؤجل، فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، وإذا كان العمدة في هذا هو الإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين، فهذه الصورة –وهي بيع ما هو ثابت في الذمة ليسقط بما هو في الذمة- ليس في تحريمه نص ولا إجماع ولا قياس، فإن كلاً منهما اشترى ما في ذمته، وهو مقبوض له بما في ذمة الآخر، فهو كما لو كان لكل منها عند الآخر وديعة، فاشتراها بوديعته عند الآخر، وهنا حصلت بالبيع براءة كل منهما، وهي ضد ما يحصل ببيع الدين الواجب بالدين الواجب"(27).
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "اشتهر أنه نهي عن بيع الدين بالدين، لكن هذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الدين المطلق هو المؤخر، فيكون هو بيع الكالئ بالكالئ"(28).
وقال –رحمه الله-: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن بيع الدين بالدين، ولكن روي "إنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" مع ضعف الحديث، لكن بيع المؤخر بالمؤخر لا يجوز باتفاقهم"(29).
وقال –رحمه الله-: "وكونه يشمله لفظ بيع دين، ولو كان هذا لفظ صاحب الشرع لم يتناول هذا، فإنه إنما يراد بذلك إذا جعل على هذا دين بدين يجعل على هذا، وهذا لم يبق على هذا دين ولا على هذا دين فأي محذور في هذا؟ بل هذا خير من أن يؤمر كل واحد منهما بإعطاء ما عليه، ثم استيفاء ما له على الآخر، فإن في هذا ضررًا على هذا وعلى هذا، وتضييع ما لهما لو كان معهما ما يوفيان، فكيف إذا لم يكن معهما ذلك؟ ينزه الشرع عن تحريمه فإن الشارع حكيم لا يحرم ما ينفع ولا يضر"(30).
المطلب الثالث
بيع الساقط بالواجب
القسم الثالث: بيع الساقط بالواجب:
هو بيع دين ثابت يسقط ويجب ثمنه(31).
كمن باع مائة صاع من البر ثابتة له في ذمة شخص بمائتي ريال(32).
وهذا جائز على الصحيح، سواء كان الدين المبيع دين سلم، أو رأس مال السلم –بعد فسخ العقد- أو غيرهما، وسواء باعه على من هو عليه، أو غيره، لكن بشروط –كما سيأتي- لأنه لا دليل على المنع، والأصل حل البيع، ولأن ما في الذمة مقبوض للمدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد(33)، وقال ابن عباس، ولكن بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن"(34).
ومن المناسب هنا الكلام عن هاتين المسألتين:
المسألة الأولى: الدين الذي يجوز بيعه.
يجوز بيع كل دين مستقر –من ثمن مبيع، وأجرة استوفي نفعها، أو فرغت مدتها، وقرض، ومهر بعد الدخول، وجعل بعد عمل، وديةٍ، وأرش، وقيمة متلف، -إلا دين السلم "المسلم فيه" على المذهب(35).
وقد نص الإمام أحمد في رواية: على جواز بيعه كذلك.
واختار شيخ الإسلام(36) وتلميذه العلامة ابن القيم(37)، والعلامة ابن سعدي(38)، وتلميذه ابن عثيمين(39)، لكن بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وهذه الرواية أكثر في نصوص أحمد، وهي أشبه بأصوله"(40).
وقال –رحمه الله-: "وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأن دين السلم مبيع"(41).
وقال رحمه الله: "وهو مذهب مالك، وقد نص أحمد، على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات"(42).
وقال رحمه الله: "وهو قول ابن عباس، ولا يعرف له في الصحابة مخالف، وذلك لأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع، ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه، كالعوض الآخر"(43).
وقال ابن القيم –رحمه الله-: "وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه، كسائر الديون، من القرض وغيره"(44).
فإن قيل: ما الجواب عن حديث: "من أسلف في شيء، فلا يصرفه إلى غيره"(45).
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف(46).
الثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر، لأنه بهذا سوف يتضمن الربح فيما لم يضمن(47).
فإن لم يتضمن الربح فجائز، على الصحيح(48) كما سيأتي في القسم الرابع.
فإن قيل: إن بيع دين السلم "المسلم فيه" بيع لما لم يقبض، والبيع قبل القبض منهي عنه(49). فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: أن النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون"(50).
بدليل ما ثبت عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أنه قال للرسول –صلى الله عليه وسلم-: "إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء"(51).(/2)
"فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه، فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره"(52).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
"إن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملكٍ له، فلا يقاس هذا بهذا، فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة، فإنه بيع"(53).
وقال ابن القيم –رحمه الله-:
"وأما نهي النبي –صلى الله عليه وسلم- عن بيع الطعام قبل قبضه فهذا إنما هو في المعين، أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملكٍ له فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضًا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي في دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملكه شيئًا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم يسمى بيعًا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعًا فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعًا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة"(54).
الثاني: أن النهي عن بيع المبيع قبل قبضه مختص بما إذا باعه على غير بائعه، أما إذا باعه على بائعه فجائز(55).
فإن قيل: ما الجواب عن قول الموفق ابن قدامة –رحمه الله-: "وأما بيع المسلم فيه قبل قبضه فما نعلم في تحريمه خلافًا.." (56).
فالجواب: "أنه قال بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه، وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد، وذلك لأن دين السلم مبيع"(57).
ومثله –على الصحيح- رأس مال السلم- أي بعد فسخ عقد السلم –يصح بيعه(58)، وهو أحد الوجهين في المذهب(59)، والوجه الثاني: لا يصح، وهو المذهب(60).
المسألة الثانية: بيع الدين لغير من هو عليه:
المذهب: لا يجوز بيعه لغير من هو عليه(61) لأنه غير قادر على تسليمه، أشبه بيع الآبق(62).
وقد نص الإمام أحمد في رواية على جواز بيعه لغير من هو عليه(63)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(64).
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-:
"مذهب مالك يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضًا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه"(65).
وقال رحمه الله: "بيع الدين ممن هو عليه جائز...، وعند مالك يجوز بيعه ممن ليس هو عليه، وهو رواية عن أحمد"(66) .
وقال رحمه الله: "تنازع العلماء في بيع الدين على الغير، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه"(67).
وقال رحمه الله:
"وهذا –يعني عدم التمكن من التسليم- حجة من منع بيع الدين ممن ليس عليه، قال: لأنه غرر ليس بمقبوض، ومن جوّزه قال: بيعه كالحوالة عليه، وكبيع المودع، والمعار، فإنه مقبوض حكمًا، ولهذا جوّزنا بيع الثمار"(68).(69)
وقال ابن القيم –رحمه الله-: "نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره، وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكمون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع، حكاه شيخنا أبو العباس بن تيمية –رحمه الله-(70).
وقد رجَّح محمد –رحمه الله-: "وعن أحمد رواية ثانية بجواز بيعه لغير من هو عليه، لكن بشروط:
قال الشيخ محمد –رحمه الله-: "وعن أحمد رواية ثانية بجواز بيعه لغير من هو عليه(71) اختارها الشيخ تقي الدين(72)، قلت: وهو الصواب بشرط أن يكون من عليه الدين غنيًا باذلاً، وأن لا يبيعه بما لا يباع به نسيئة"(73).
وقال رحمه الله: "ولا يجوز لغير من هو عليه، وعنه: بلى، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو الصواب، لكن بقدر القيمة، كما تقدم لئلا يربح فيما لم يضمن، هكذا اشترط(74)، وهو صحيح، وينبغي أن يزاد شرط آخر، وهو القدرة على أخذه من الغريم، وإلا لم يصح، لأن من الشروط القدرة على تسليم المبيع.." (75). وقال – رحمه الله-: (إذا باع ديناً في ذمة مقرٍ(76) على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز؛ لأنه لا دليل على منعه، والأصل حل البيع) (77).(/3)
لأنه إذا باع ديناً بهذه الصفة، فلن يكون ثمة غرر ولا مخاطرة –حينئذ- كبيع المغصوب على قادر على أخذه(78) وبيع الآبق على قادر على رده(79).
فإن قيل: ما الحكم إذا تعذر أخذ الدين في المدين؟
فالجواب: أن للمشتري الفسخ- حينئذ- قياساً على بيع المغصوب على قادر على أخذه(80) فإنه إذا تعذر أخذه فللمشتري الفسخ، على المذهب(81).
فإن قيل: فهل يجوز بيع دين مؤجل على الغير بدين مؤجل آخر؟(82).
فالجواب: لا، لا يجوز ذلك بالاتفاق(83)، سواء باعه على من هو عليه، أو على الغير(84)، لاشتغال الذمتين فيه بغير فائدة – كما تقدم في المطلب الأول-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (لا يجوز باتفاقهم – يعني بيع الواجب بالواجب- لأن كلاً منهما شغل ذمته بما للآخر من غير منفعة وصلت لأحدهما، والمقصود بالبيع النفع) (85).
وقال –رحمه الله-: (المقصود من العقود القبض، فهو – يعني بيع الواجب بالواجب- عقد لم يصل به مقصود أصلاً، بل هو التزام بلا فائدة) (86).
وقال –رحمه الله-: (ففيه – يعني بيع الواجب بالواجب- شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد) (87).
المطلب الرابع
القسم الرابع: بيع الواجب بالساقط
وهو: إسقاط دين ثابت في ذمة شخص، وجعله ثمناً (رأس مال سلم) لموصوف في الذمة (مسلم فيه) مؤجلٍ معلومٍ(88)(89).
قال ابن القيم –رحمه الله-: (كما لو أسلم إليه في كُرِّ – مكيال لأهل العراق- حنطة بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجب له عليه دين وسقط عنه دين غيره) (90).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم –رحمه الله-: (بأن يكون لزيد على عمرو دراهم مثلاً فيجعلها رأس مال سلم في طعام ونحوه) (91).
وهذا جائز -أيضاً- على الصحيح، لكن بشروط – كما سيأتي – لأنه لا دليل على المنع، والأصل حل البيع، ولأن ما في الذمة مقبوض للمدين.
قال ابن القيم –رحمه الله-: (وقد حكي الإجماع(92) على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا(93)، شيخ الإسلام ابن تيمية واختار جوازه(94)، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ- بيع الواجب بالواجب- فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة) (95).
ثم قال رحمه الله: (وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته، والآخر يحصل على الربح- وذلك في بيع العين بالدين- جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها بها ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دين بدين فلم ينهه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز(96).
وقال رحمه الله: (لا إجماع معلوم في المسألة، وإن كان قد حكي، فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدين بالدين، والمجوز له يقول: ليس عن الشرع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين، وغاية ما ورد فيه حديث، وفيه ما فيه (أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ(97)، والكالئ المؤخر، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئاً في ذمته فقد سقط الدين من ذمته، وخلفه دين آخر واجب، فهذا كبيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة(98).
وقد اشترط شيخ الإسلام ابن تيمية(99)، وتلميذه العلامة ابن القيم(100) – رحمهما الله- لجواز مثل ذلك: ألا يربح فيه، وألا يباع بما لا يباع به نسيئة.
أما المذهب: فلا يجوز ذلك – وقد حكي إجماعاً(101) – لأنه بيع دين بدين(102) ويجاب عن ذلك بما تقدم من أن بيع الدين بالدين المحرم هو بيع الواجب بالواجب لاشتغال الذمتين فيه بغير منفعة، أما هنا في بيع الواجب بالساقط فقد أفرغها من دين وشغلها بغيره، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، ولا إجماع في المسألة، ولا نص، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام، ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض، فهذا لا يجوز بالاتفاق) (103).
وقال رحمه الله: (فهذا الذي لا يجوز بالإجماع، والإجماع إنما هو في الدين الواجب بالدين الواجب، كالسلف المؤجل من الطرفين(104).
قال ابن القيم –رحمه الله-: (فهذا هو الممنوع بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئاً في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب، فهذا كبيع الساقط بالواجب(105).
فإن قيل: إن هذا سوف يتخذ حيلة على قلب الدين المحرم(106).(/4)
فالجواب: إن جواز ذلك مشروط بألا يربح فيه – كما تقدم- وبهذا يزول هذا الإشكال. فإن قيل: إن لشيخ الإسلام(107)، وتلميذه ابن القيم –رحمهما الله- كلاماً قد يشكل على اختيارهما في هذه المسألة(108)، وهو قولهما: لا يجوز أن يجعل المسلم فيه (دين السلم)- سلماً وثمناً لمسلم فيه آخر.
فالجواب عن ذلك من وجهين: الأول: أنهما ذكرا ذلك بناء على التسليم بصحة حديث: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره(109)".(110)
الثاني: أنهما لا يجيزان ذلك إذا كان سيربح فيه، أما إذا لم يربح فيه فلا بأس به عندهما(111)(112).
وقد سألت الشيخ الفقيه العلامة محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله- عن هذه المسألة، وهي: إسقاط الدين الثابت في ذمة شخص وجعله ثمناً لموصوف في الذمة مؤجل معلوم.
وقرأت عليه كلام العلامة ابن القيم – في الإعلام (2/9)- الذي رجح فيه جواز ذلك، وذكر أنه اختيار شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم قلت: ما رأيكم في ذلك؟ هل هو جائز؟
فقال الشيخ- رحمه الله-: نعم، هذا جائز، وليس فيه شيء، لكن بشرط ألا يربح فيه، وبشرط آخر ألا يبيعه بما لا يباع به نسيئة. ا.هـ.
فقلت: لقد باعه بمؤجل، ألا يشترط أن يكون حالاً؟
فال الشيخ –رحمه الله-:لا، لا يشترط؛ لأن الثمن قد قبض. ا.هـ.
فقلت: لقد قلتم –حفظكم الله- في الفرائد صـ 161-: (الخامس: ألا يبيعه بمؤجل فإن باعه بمؤجل فحرام باطل؛ لأنه بيع دين بدين).
فقال الشيخ-رحمه الله-: (إن المحذور في ذلك أن يؤجل من أجل أن يربح فيه، أما إذا لم يربح فلا بأس، ما دام الثمن قد قبض. ا.هـ.
فقلت: وقلتم أيضاً في الفرائد: (لأنه يتخذ حيلة على قلب الدين المحرم)، وقلتم أيضاً في مختارات من الإعلام صـ 39-: (وفيه محذور، وهو التحيل على قلب الدين كما هو ظاهر) فقال الشيخ –رحمه الله-: هذا إذا ربح فيه، أما إذا لم يربح، وأخذه بسعر يومه فلا بأس. ا.هـ، يوم الأحد 23/6/1420هـ.
ثم راجعته في المسألة مرة أخرى وقرأت عليه كلامه السابق الموجود في الفرائد، والمختارات مرة أخرى فأكد لي جواز ذلك بالشرطين السابقين.
فقلت له: إن لشيخ الإسلام، وتلميذه العلامة ابن القيم –رحمهما الله- كلاماً قد يشكل على اختيارهما في هذه المسألة، وهو قولهما: إنه لا يجوز أن يجعل المسلم فيه ثمناً لمسلم فيه آخر- وقد تقدم ذلك قريباً-.
فقال الشيخ –رحمه الله- هذا إذا كان سيربح فيه، أما إذا لم يربح، فلا بأس به عندهما ا.هـ، يوم الأربعاء 26/6/1420هـ.
فإن قيل: فإذا ارتفع سعر المسلم فيه عند حول أجله ارتفاعاً معتاداً، فهل يؤثر ذلك على صحة العقد؟
فالجواب: لا، لا يؤثر؛ لكون العقد قد وقع صحيحاً؛ لخلوه من الربح في الدين المبيع (المسلم فيه).
لكن يبقى أن يقال: هل يلزم المسلم أن يدفع للمسلم إليه القدر الزائد الذي طرأ في السعر؟
فالجواب: أن ذلك محل نظر، فقد يقال بذلك، لئلا يربح فيما لم يضمن، وقد يقال بعدمه – يعني أنه لا يلزمه ذلك- لأنه لم يشترط ذلك، ولم يكن له يدٌ فيه؛ وإنما هو رزق ساقه الله –تعالى- إليه، بسبب ارتفاع الأسعار المعتاد. والله أعلم.
المبحث الثاني
شروط جواز بيع الدين
يشترط لجواز بيع الدين – وهو تلخيص لما معنى- ما يلي:
الشرط الأول: "أن يكون معلوماً"(113) فإن كان مجهولاً لم يصح، إلا على سبيل المصالحة(114).
الشرط: أن يباع بسعر يومه (ألا يربح فيه). وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها.." (115)، ولأنه إذا باعه بأكثر من سعر يومه ربح فيه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يُضمن(116)، أي نهى عن الربح في شيء لم يدخل في ضمان البائع، والدين في ضمان من هو في ذمته، (في ضمان المدين)، ولم يدخل بعد في ضمان من هو له (في ضمان الدائن) حتى يجوز له الربح فيه. (117) قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (فلم يجوِّز بيع الدين ممن هو عليه بربح، فإنه ربح فيما لم يضمن، فإنه لم يقبض، ولم يصر في ضمانه، والربح إنما يكون للتاجر الذي نفع الناس بتجارته، فأخذ الربح بإزاء نفعه، فلم يأكل أموال الناس بالباطل) (118).
ثم قال رحمه الله: (فإذا كان له دين وباعه من المدين بربح فقد أكل هذا الربح بالباطل، إذا كان لم يضمن الدين ولم يعمل فيه عملاً) (119).
وقال رحمه الله: (فلا يربح حتى يصير في حوزته، ويعمل فيها عملاً من أعمال التجارة: إما بنقلها إلى مكان آخر، الذي يشتري في بلد ويبيع في آخر، وإما حبسها إلى وقت آخر، وأقل ما يكون قبضها، فإن القبض عمل، وأما مجرد التخلية في المنقول فليس فيها عمل) (120).
فإن قيل: فهل يجوز بيعه بأقل من سعر يومه؟ فالجواب: نعم، يجوز ذلك؛ لأنه لم يربح فيه، بل زاد المدين خيراً، وأبرأه من بعض حقه(121).
فإن قيل: ما الجواب عن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها.." (122).(/5)
فالجواب: أن المفهوم لا عموم له، بل يصدق بصورة واحدة مخالفة(123). والصورة المخالفة هنا هي إذا باعه بأكثر من سعر يومه، فهذا لا يجوز؛ لأنه يدخل في ربح ما لم يضمنه(124).
الشرط الثالث: أن يقبض عوضه في مجلس العقد، إن باعه بما لا يباع به نسيئة؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في أخذ الدراهم عن الدنانير والعكس: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء"(125).
أما إن باعه بما يباع به نسيئة فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يبيعه بمعين، كقوله: بعتك ما في ذمتك بهذا الثوب. فحينئذ لا يشترط القبض في المجلس – بلا إشكال- وهو المذهب(126).
الثانية: أن يبيعه بغير معين بموصوف في الذمة حال، كقوله: بعتك ما في ذمتك بثوب صفته كذا وكذا، فحينئذ يشترط القبض على المذهب(127)، "لئلا يصير بيع دين بدين"(128). والصحيح أنه لا يشترط القبض هنا أيضاً.
واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(129)، وتلميذه العلامة ابن القيم،(130)(131) والعلامة الشيخ محمد بن عثيمين(132) –رحمة الله على الجميع- لعدم جريان ربا النسيئة بينهما(133)، وقد تقدم الجواب عن دليل المذهب.
الشرط الرابع: ألا يباع بمؤجل، إن كان مؤجلاً باقياً على تأجيله، لم يُسقط؛ لأن بيعه بمؤجل إن كان مؤجلاً باقياً على تأجيله لم يسقط هو بيع الواجب بالواجب، المنهي عنه بالاتفاق كما تقدم- أما إن كان مؤجلاً فأسقطه، واعتاض عنه بمؤجل فجائز على الصحيح.
الشرط الخامس: أن يكون الدين مستقراً.
فإن كان غير مستقر- كدين الكتابة، وصداق قبل الدخول والخلوة، وجعل قبل عمل، وأجرة قبل فراغ المدة، أو قبل استيفاء نفعها لم يصح بيعه(134)، لعدم تمام الملك، ولأنه قد يستقر وقد لا يستقر(135).
ويشترط على المذهب – إضافة إلى ما سبق- ما يلي:
1) ألا يباع لغير من هو عليه.
والصحيح أن ذلك لا يشترط –كما تقدم- وأنه يجوز بيعه للغير بالشروط المتقدمة، وبشروط ثلاثة أيضاً هي: أن يكون الدين ثابتاً ببينة أو إقرار، وأن يكون المشتري قادراً على استخراجه من المدين، وألا يباع بما لا يباع به نسيئة.
2) ألا يبيعه بمؤجل.
والصحيح أن ذلك لا يشترط، إلا إن كان الدين الذي في ذمة المدين مؤجلاً باقياً على تأجيله لم يسقط.
3) ألا يكون دين سلم (مسلم فيه)، والصحيح أن ذلك لا يشترط، وقد تقدم ذلك.
4) ألا يكون رأس مال سلم (ثمن المسلم فيه)، وذلك بأن يفسخ عقد السلم، فيقوم المسلم ببيع رأس ماله على المسلم إليه، فلا يصح على المذهب – كما تقدم- والصحيح صحته، وعدم اشتراط هذا الشرط، وقد تقدم ذلك أيضاً في آخر المسألة الأولى من المطلب الثالث.
5) ألا يكون ثمناً لمبيع، ثم يعتاض عنه بما لا يباع بالمبيع نسيئة.
مثل أن يكون الدين ثمناً لبر فيعتاض عنه بشعير، أو غيره مما يشارك البر في علة الربا، فلا يصح ذلك لئلا تتخذ ذريعة إلى الربا، وحيلة عليه، وهذا هو المذهب(136). والصحيح أن ذلك جائز، إذا لم يكن حيلة مقصودة.
واختاره موفق الدين بن قدامة(137)، وشرف الدين بن قاضي الجبل(138) والعلامة ابن القيم(139) والعلامة ابن سعدي(140).
وقد توسط شيخ الإسلام ابن تيمية بين القولين، فجوزه لحاجة(141) وتبعه على ذلك العلامة الشيخ محمد بن عثيمين(142) رحمة الله على الجميع.
قال ابن القيم –رحمه الله- عن هذه المسألة: (فيها قولان أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا(143) والأول اختيار عامة الأصحاب، والصحيح الجواز) (144).
وإلى هنا انتهى ما أردنا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
لمزيد من الاطلاع حول الموضوع:
* عقد الكالئ بالكالئ: تدليلاً وتعليلاً
(1) الدين: ما ثبت من المال في الذمة، معجم لغة الفقهاء ص. 189.
(2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/512, 29/472 ، والعقود ص235، وتفسير آيات أشكلت 22/638، 665، وإعلام الموقعين 2/8، وإغاثة اللهفان 1/364.
(3) تفسير آيات أشكلت 2/655.
(4) انظر المغني 6/106، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/512، 29/472، والعقود ص 235، وتفسير آيات أشكلت 2/637، 665، إعلام الموقعين 2/8، 3/340.
(5) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/512، 29/472، 30/264، والعقود ص235، وتفسير آيات أشكلت 2/637، 665، وأعلام الموقعين 2/8، وإغاثة اللهفان 11/364.(/6)
(6) أخرجه الدار قطني في سننه 3/71-72، والحاكم في مستدركه 2/65-66، والبيهقي في السنن الكبرى 5/290، وقد تفرد به موسى بن عبيدة الربذي، قال الإمام أحمد: لا تحل الرواية عنه، ولا أعرف هذا عن غيره، وقال أيضًا ليس في هذا حديث يصح. أ.هـ من التلخيص 3/62، والمغني 6/106، والعقود ص 235، وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. أ.هـ من التلخيص 3/62، وقد ضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود ص 235، وفي تفسير آيات 2/638، 665، وابن حجر في البلوغ 2/25، حيث قال: "رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف" وضعفه الألباني في الإرواء 5/220.
(7) العقود ص 235.
(8) تفسير آيات أشكلت 2/665 بتصرف يسير.
(9) العقود ص 235.
(10) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 30/264 بتصرف يسير جدًا.
(11) إعلام الموقعين 2/9.
(12) إغاثة اللهفان 1/364، بتصرف يسير جدًا.
(13) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/472.
(14) العقود ص235.
(15) انظر إعلام الموقعين 2/9، وتهذيب السنن 9/262، والإنصاف 12/105-106.
(16) انظر الهداية 3/84.
(17) انظر بداية المجتهد 2/200.
(18) العقود ص 235.
(19) تفسير آيات 2/639.
(20) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/472 بتصرف يسير جدًا.
(21) تفسير آيات 2/665.
(22) إعلام الموقعين 2/9 بتصرف يسير.
(23) انظر الإرشاد ص 100.
(24) انظر حاشيته على الروض 1/519، والشرح الممتع 8/447.
(25) تفسير آيات أشكلت 2/665.
(26) العقود ص 235.
(27) العقود ص 235.
(28) تفسير آيات أشكلت 2/639.
(29) المصدر السابق 2/665.
(30) المصدر السابق 2/640.
(31) انظر إعلام الموقعين 2/9، والإنصاف 12/105-106.
(32) انظر إعلام الموقعين 2/9، والشرح الممتع 8/433.
(33) انظر الفروع 4/186، والإنصاف 12/292، 296، 297، 299.
(34) انظر الأخبار العلمية ص 193.
(35) انظر المغني 6/415، والفروع 4/186، والإنصاف 10/292، 296، 297، المبدع 4/1199، والكشاف ومتنه 3/1553، والمنتهى 22/390-391.
(36) انظر الأخبار العلمية ص 193، ومجموع فتاوى 29/503-506، 519، والفروع 4/186، والإنصاف 12/292.
(37) انظر إعلام الموقعين 2/9، وتهذيب السنن 9/260.
(38) انظر المختارات الجليلة ص 149، والإرشاد ص 100، والفتاوى السعدية ص 249، ص25، ص 521.
(39) انظر حاشيته على الروض 1/517، 538 –540، والمنتقى من فرائد الفوائد ص161، والشرح الممتع 8/432.
(40) مجموع فتاوى 29/505.
(41) المصدر السابق 29/506.
(42) المصدر السابق 29/503.
(43) المصدر السابق 29/519.
(44) تهذيب السنن 9/260.
(45) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع باب السلف لا يحوّل، برقم (3468)، 3/480، وابن ماجه، في كتاب التجارات باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره برقم (2283)، 2/766، وفي سنده عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، قال ابن حجر –في التلخيص 3/60 : "وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطرار" أ.هـ. وضعّف الحديث كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/517، 519، وابن القيم في تهذيب السنن 9/257، والألباني في الإرواء 5/215.
(46) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/517، 519، وتهذيب السنن 9/257، 261، والتلخيص الحبير 3/60، والإرواء 5/215.
(47) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/517، 519، وتهذيب السنن 9/257، 261.
(48) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/512، 29/516، وتفسير آيات أشكلت 2/638، وتهذيب السنن 9/291، وإعلام الموقعين.
(49) انظر المغني 6/415، وشرح الزركشي 4/17-18، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/519، وتهذيب السنن 9/256، 258.
(50) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/519.
(51) أخرجه أحمد في المسند 7/50، 264، 266، أبو داود في كتاب البيوع باب في اقتضاء الذهب من الورق، برقم (3354)، 3/442، والترمذي في أبواب البيوع، باب ما جاء في الصرف، 4/370، تحفة ، والنسائي في الصغرى، في البيوع، باب بيع الفضة بالذهب...، 7/324-325، السيوطي، وابن ماجه في كتاب التجارات باب اقتضاء الذهب من الذهب..، برقم (2262) و 2/760، وصححه الحاكم في مستدركه 2/50، ووافقه الذهبي وصححه كذلك النووي في المجموع 9/108-109، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند 7/175، فقد أخرج النسائي في الصغرى 7/325، عن ابن عمر –رضي الله عنهما- "أنه كان لا يرى بأسًا يعني في قبض الدراهم من الدنانير، والدنانير من الدراهم".
(52) تهذيب السنن 9/257.
(53) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/512 بتصرف يسير.
(54) تهذيب السنن 9/257-258.
(55) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/505، 512-514، 517، والأخبار العلمية ص 187-188، والفروع 4/186، وتهذيب السنن 9/258، 282.
(56) المغني 6/415.
(57) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 29/506.
(58) انظر الأخبار العلمية ص 193، والفتاوى السعدية ص 249-251، والمنتقى من فرائد الفوائد ص161.
(59) انظر الإنصاف 12/292-293، 296-298.(/7)
(60) انظر الفروع 4/186-187، والإنصاف 12/292، 298، والكشاف ومتنه 3/1554.
(61) انظر الفروع 4/185-186، والإنصاف 12/299، والكشاف ومتنه 3/1555.
(62) انظر الكشاف 3/1555.
(63) انظر الفروع 4/185-186، والإنصاف 12/299.
(64) انظر المصدرين السابقين، والأخبار العلمية ص 193، وتهذيب السنن 9/257، والمنتقى من فرائد الفوائد ص 160.
(65) مجموع الفتاوى 29/506.
(66) المصدر السابق 29/401.
(67) مجموع الفتاوى 30/265.
(68) قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 29/508 "يجوز في أصح الروايتين عن أحمد للمشتري أن يبيع هذا الثمر، مع أنه من ضمان البائع" أ.هـ.
(69) مجموع الفتاوى 29/403.
(70) تهذيب السنن 9/257.
(71) انظر الفروع 4/185-186، والإنصاف 12/299.
(72) انظر المصدرين السابقين والأخبار العلمية ص 193.
(73) المنتقى من فرائد الفوائد ص 1160.
(74) انظر المصادر السابقة.
(75) حاشيته على الروض 1/539.
(76) ومثل ذلك إذا ثبت ببينة.
(77) الشرح الممتع (8/436).
(78) المذهب: صحة بيعه على قادر على أخذه. انظر الفروع (4/21)، والإنصاف (11/89-90) والمنتهى (2/261)، والروض ومتنه (11/461)، والشرح الممتع (8/162).
(79) الصواب: صحة بيعه على قادر على رده، واختاره الموفق في الكافي (3/20)، وصاحب الشرح فيه (11/ 89. 93-94)، وقدمه ابن مفلح في الفروع (4/21)، وقال اختاره الشيخ – يعني ابن قدامة- وغيره، وذكره القاضي في موضع (و هـ م) يعني وفاقاً لأبي حنيفة ومالك) ا.هـ وصوبه المرداوي في الإنصاف (11/89/94)، وانظر الشرح الممتع (8/59).
(80) انظر المنتقى من فرائد الفوائد ص 160.
(81) انظر الفروع (4/21)، والإنصاف (11/90. 94)، والمنتهى (2/261).
(82) مثل أن يكون لزيد في ذمة عمر سيارة مؤجلة إلى سنة، فيبيعها زيد على بكر بمائة ألف مؤجلة إلى سنتين، مع بقاء الدينين مؤجلين.
(83) انظر المغني (6/106)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/512. 29. 472)، والعقود (ص 235)، وتفسير آيات أشكلت (2/637. 665)، وإعلام الموقعين (2/8)، وإغاثة اللهفان (1/364).
(84) تنبيه: قد يظن البعض أن شيخ الإسلام –رحمه الله- يجيز هذه الصورة وهي بيع الدين المؤجل بالدين المؤجل، إذا كان ذلك على الغير؛ لأنه يجيز بيع الدين على الغير، وهذا من الخطأ عليه –رحمه الله- لأنه وإن أجاز بيعه على الغير فلا يلزم أن يجيز هذه الصورة (بيعه على الغير وهو مؤجل بدين مؤجل آخر) بل مقتضى كلامه- المتقدم في المطلب الأول- عدم جواز هذه الصورة، وجواز ما سقط فيه أحد الدينين، أو كلاهما. انظر العقود (ص235)، وتفسير آيات أشكلت (2/637.639. 665)، إعلام الموقعين (2/9).
(85) تفسير آيات أشكلت (2/665).
(86) العقود (ص 235).
(87) مجموع الفتاوى (29/472).
(88) فإن قيل: ما الفرق بينه وبين القسم الثالث؟
فالجواب: أن الفرق إنما هو من حيث تقدم الثمن والمثمن في القسمين، وتأخرهما، وإلا فالحكم واحد على الصحيح – كما سيأتي- ففي القسم الثالث: المتقدم والساقط هو المثمن، والمتأخر والواجب هو الثمن (عقد البيع المعروف تماماً)، وفي القسم الرابع: المتقدم والساقط هو الثمن، والمتأخر والواجب هو المثمن (عقد السلم المعروف تماماً).
(89) انظر إعلام الموقعين (2/9)، والمغني (6/410)، والشرح (12/281)، والإنصاف (12/105)، والكشاف (3/1512، 1551، 1554، وحاشية ابن قاسم على الروض (4/523. 5/26).
(90) إعلام الموقعين (2/9).
(91) حاشيته على الروض (5/26).
(92) قال موفق الدين ابن قدامة – رحمه الله- (إذا كان له في ذمة رجل دينار فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي) ا.هـ المغني (6/410)، وذكره صاحب الشرح الكبير فيه (12/281).
(93) قال شيخ الإسلام – رحمه الله- (بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام، ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض، فهذا لا يجوز بالاتفاق). فتاواه (20/512).
(94) انظر مجموع فتاواه (20/512. 29. 472. 264)، والعقود ص 235 وتفسير آيات أشكلت (2/638. 639. 640. 665.
(95) إعلام الموقعين (2/9).
(96) إعلام الموقعين (2/9).
(97) تقدم تخريجه هامش (6).
(98) إعلام الموقعين (3/340) بتصرف يسير جداً.
(99) انظر مجموع فتاواه (29/503. 510. 519)، وتفسير آيات أشكلت (2/659-662. 639).
(100) انظر تهذيب السنن (9/257. 259. 261).
(101) انظر المغني (6/410)، والشرح الكبير (122/281)، وحاشية ابن قاسم (4/522).
(102) انظر الفروع (4/186-187)، والإنصاف (12/298)، والمنتهى (2/356. 388. 3911)، والكشاف ومتنه (3/1512. 1551. والروض (1. 516)-517. 540).
(103) مجموع فتاواه (20/512).
(104) العقود (ص235).
(105) إعلام الموقعين (3/340) بتصرف يسير جداً.(/8)
(106) انظر حاشية ابن قاسم (4/523)، ومختارات من إعلام الموقعين (ص 39)، والمنتقى من فرائد الفوائد (ص 161).
(107) انظر مجموع فتاواه (29/517. 519).
(108) انظر تهذيب السنن (9/57. 261).
(109) سبق تخريجه هامش رقم (45).
(110) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/519)، وتهذيب السنن (9/257. 261).
(111) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/512. 29/472. 510. 511. 516.) وتفسير (2/638-639-640-665)، وإعلام الموقعين (2/8-9. 3/340)، وتهذيب السنن (9/261) وحاشية الشيخ محمد بن عثيمين على الروض (1/517)، والشرح الممتع (8/434).
(112) وقاله لي الشيخ العلامة محمد بن عثيمين يوم الأربعاء 26/6/1420هـ وذلك عندما سألته عن هذه المسألة (بيع الواجب بالساقط)، وقرأت عليه كلامه فيها في المنتقى من فرائد الفوائد (ص 161)، ومختارات من إعلام الموقعين (ص39)، وكلام ابن القيم في إعلام الموقعين (2/9).
(113) انظر المغني (6/411)، والشرح والإنصاف (12/233، 282-283).
(114) المنتقى من فرائد الفوائد (ص 160).
(115) تقدم تخريجه هامش (51).
(116) أخرجه أحمد في المسند (110/120)، وأبو داود، في كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، برقم (3504)، (3/495)، والترمذي، في أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، وقال عنه: "حسن صحيح" (4/3611) تحفة، والنسائي، في البيوع، باب سلف وبيع (7/340)، سيوطي، وابن ماجة، في كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عنده، وعن ربح ما لم يُضمن، برقم (2188) (2/737-738)، والحاكم في المستدرك (2/21)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه كذلك أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/120)، والألباني في الإرواء (5/147)، 148)، وفي صحيح سنن أبي داود (2/669).
(117) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/510-511. 519، وتفسير آيات أشكلت (2/659-662)، وتهذيب السنن (9/259. 2611)، والشرح الممتع (8/222. 375- 376. 433. 435).
(118) تفسير آيات أشكلت (2/659).
(119) المصدر السابق (2/660).
(120) تفسير آيات أشكلت (2/656).
(121) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (229/505. 518- 519)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص 432)، وتهذيب السنن (9/259)، والمنتقى من فرائد الفوائد (ص 160)، والشرح الممتع (8/376. 434)، وحاشية الشيخ محمد بن عثيمين على الروض (11/516-517. 538-539).
(122) تقدم تخريجه هامش (51).
(123) انظر المغني (1/48)، والإنصاف (1/133)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/520. 21/73. 498)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص23-24)، وفقه الكتاب والسنة (المسائل الماردينية) لشيخ الإسلام (ص 57-58)، والأخبار العلمية (ص 312)، وتهذيب السنن (1/85-86)، والقواعد والفوائد الأصولية (ص 314)، والشرح الممتع (1/33. 8/434).
(124) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (129/518-519)، ومختصر الفتاوى المصرية ص 432، وتهذيب السنن (9/259)، والشرح الممتع (8/434)، وحاشية الشيخ محمد بن عثيمين على الروض (1/516-517، 538-539).
(125) تقدم تخريجه هامش (51).
(126) انظر الفروع (4/186-187)، والإنصاف (12/298)، والمنتهى (2/391)، والكشاف ومتنه (3/1554-1555)، وحاشية الشيخ محمد على الروض (1/517. 540).
(127) انظر الفروع (4/186-187)، والإنصاف (12/298)، المنتهى (2/391)، والكشاف ومتنه (3/1554-1555)، والروض (22/516-517. 540).
(128) الكشاف (3/1554).
(129) انظر مجموع الفتاوى (29/516)، وتفسير آيات أشكلت (2/639)، وإعلام الموقعين (2/9).
(130) انظر إعلام الموقعين (2/9. 3/340)، وتهذيب السنن (9/259). 2611).
(131) وقد تقدم أنهما –رحمهما الله- يجيزان في هذه الصورة التأجيل كذلك، فالجواز هنا عندهما من باب أولى.
(132) انظر المنتقى من فرائد الفوائد (ص 160)، وحاشيته على الروض (1/517)، والشرح الممتع (8/434).
(133) انظر تفسير آيات أشكلت (2/639)، وتهذيب السنن (9/261)، وحاشية الشيخ محمد على الروض (1/517).
(134) انظر الفروع (4/185)، والإنصاف (12/296-298)، والمنتهى (2/391)، والكشاف ومتنه (3/1554-1555)، والروض (1/539)، والمنتقى من فرائد الفوائد (ص161).
(135) انظر المنتقى من فرائد الفوائد (ص 161).
(136) انظر المغني (6/263-264)، والشرح والإنصاف (11/196-199)، والفروع (4/171)، والمنتهى (2/284)، والكشاف ومتنه (39/1434. 1554)، والروض (1/472)، والمنتقى من فرائد الفوائد (ص 161).
(137) انظر المغني (6/263-264)، والشرح الكبير (11/197-199).
(138) انظر الإنصاف (11/196-197).
(139) انظر تهذيب السنن (9/262).
(140) انظر الإرشاد إلى معرفة الأحكام (ص 99)، والفتاوى السعدية (ص 249)، (ص 250).
(141) انظر مجموع الفتاوى (29/300-301. 448-450. 518-519)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص 432)، والفروع (4/1711)، والأخبار العلمية (ص 190)، والإنصاف (11/196-197).
(142) انظر الشيخ الممتع (8/222).(/9)
(143) لكن شيخ الإسلام قيده بالحاجة. انظر الفروع (4/171)، والأخبار العلمية (ص190).
(144) تهذيب السنن (9/262)، وانظر المغني (6/263-264)، الشرح الكبير (197-199).(/10)
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
... يعتبر تأسس شركة بيت المال الفلسطيني العربي عملاً رائداً قام به مجموعة من رجال الاعمال لدعم عجلة الاقتصاد الفلسطيني وذلك للإستثمار وفق أحكام الشريعة الاسلامية السمحة من أجل النهوض بالاقتصاد مع المحافظة على الأسس الاجتماعية والدينية وبشكل خاص الابتعاد عن الربا. إن الهدف الرئيس لشركة بيت المال الفلسطيني العربي هو الاستثمار بطريق الحلال وفق الأسس والمبادىء التي أقرتها الشريعة الاسلامية ولترسيخ التصور الاقتصادي الإسلامي وللتخلص من الربا الذي يعتبر السمة الغالبة على النظام الاقتصادي العالمي.
... ونحن في شركة بيت المال الفلسطيني العربي قررنا أن نكون المبادرين في التخلص من الربا و التعامل بالعقود الصحيحة وفق الشروط والضوابط التي وضعها الفقهاء والعلماء. ومن هذه العقود {بيع المرابحة للآمر بالشراء} الذي أقرته مجامع علمية متخصصة وأصبح من أهم وسائل الاستثمار في المصارف والشركات الاسلامية.
... ومن أجل توضيح هذا العقد بصورة جلية ولدفع الشبهات التي أثيرت عليه قام د. حسام الدين عفانة رئيس هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي بإعداد هذه الدراسة واستعرض فيها أراء العلماء في هذا العقد والأسس التي إعتمد عليها وبين كيفية تعامل الشركة بهذا العقد بجلاء ووضوح.
... وإن نشر هذه الدراسة يعد إسهاماً من شركة بيت المال لنشر الدراسات والبحوث التي تدعم مسيرة الإقتصاد الإسلامي.
... ونسأل الله العظيم أن يوفقنا لخدمة هذا الشعب وأن نكون دائماً المبادرين في دفع عجلة الإقتصاد الفلسطيني إلى الأمام والله ولي التوفيق.
د. محمد صرصور
مدير عام شركة بيت المال الفلسطيني العربي
الفصل الأول:
بيع المرابحة للآمر بالشراء وحكمه وفيه مبحثان:
المبحث الأول:
تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء وصوره.
المبحث الثاني:
خلاف العلماء المعاصرين في حكم بيع
المرابحة للآمر بالشراء وأدلتهم وبيان الراجح.
المقدمة
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
... { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
... { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
... { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً}.
... وبعد.... يقول الله تعالى في محكم كتابه: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}. وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: { لعن الله آ كل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء} رواه مسلم.
... ومما لا شك فيه أن الربا هو السمة الغالبة على النظام الاقتصادي العالمي ومما يؤسف له أن الأمة الاسلامية قد غرقت في بحور الربا وإن من قوارب النجاة من هذه البحور المصارف والشركات الإسلامية التي تعتبر من مظاهر الصحوة الاسلامية المباركة والتي قدمت الاسلام ليحل المشكلات التي تواجه العالم الاسلامي ومنها المشكلة الاقتصادية وعلى وجه الخصوص مشكلة الربا فالواجب على الأمة أن تطوع الحياة للإسلام وتجعله المصدر الأول والأخير لحل كافة المعضلات.
... وقد بدأت المصارف والشركات الاسلامية مسيرتها منذ عهد قريب في طريق عقباته كثيرة ومصاعبه ليست قليلة وقد حاول العلماء المعاصرون ايجاد سبل لاستثمار الأموال بطرق مشروعة تقوم على أساس صحيح من نظام المعاملات في الاسلام. ومن هذه الطرق ما اصطلح على تسميته (بيع المرابحة للآمر بالشراء) وأخذوا في تأصيل هذا العقد وفق الأصول الشرعية وما أن بدأت المصارف الاسلامية بتطبيق هذا البيع حتى نشأ نقاش علمي عميق في مدى شرعية هذا النوع من المعاملات وعقدت الندوات والمؤتمرات وقدمت البحوث وألفت الكتب مما أثرى المكتبة الاسلامية في هذا الباب الذي كانت تفتقر إليه. وقد كان المؤلفون والباحثون بين مؤيد ومدافع عن هذا العقد وبين معارض له باعتباره يتنافى مع أصول العقود الصحيحة وقد أخذت معظم المصارف الاسلامية وكذلك الشركات الاسلامية بهذا العقد وتعاملت به وفق شروط وضوابط محددة بناء على رأي العلماء الذين أجازوه وكان من ضمن هذه الشركات التي أخذت به وتعاملت به(شركة بيت المال الفلسطيني العربي).(/1)
... وهي أول شركة تنشأ في فلسطين تتعامل وفق أحكام الشريعة الاسلامية وقد رغبت في المساهمة في دراسة بيع المرابحة للآمر بالشراء من الناحيتين النظرية والعملية التطبيقية فكانت هذه الد راسة المشتملة على الجانب النظري من حيث التعريف ببيع المرابحة وحكمه عند الفقهاء المتقدمين ثم التعريف ببيع المرابحة للآمر بالشراء واختلاف الفقهاء المعاصرين فيه وبيان أدلتهم مع بيان القول الراجح في المسألة.
... وأما الجانب العملي فتحدثت فيه عن نشأة شركة بيت المال وأهدافها ونشاطاتها الاستثمارية وكيفية تعاملها ببيع المرابحة للآمر بالشراء والخطوات المتبعة في ذلك وتعرضت للشبهات التي أثيرت حول تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء وأجبت عليها. وبما أن تجربة شركة بيت المال جديدة والأحوال في بلادنا صعبة من نواحٍ كثيرة فهي تحتاج الى التسديد والتوجيه باستمرار وهذا الواجب ملقى على عاتق هيئة الرقابة الشرعية للشركة التي تبذل جهودا طيبة في هذا المجال وتلقى توجيهاتها من قبل العاملين في الشركة والقائمين عليها آذاناً صاغية وتنفيذا حسناً وكل ذلك خدمة للمسلمين الذين يبحثون عن الربح الحلال وتأكيداً لاثبات منهج الاسلام ومقدرته الفائقة على وضع الحلول لكل المشكلات التي تواجه الناس في ظل الاحتكام لشرع الله.
... وأخيراً فإنني قد استفدت كثيراً من جهود من سبقني في الكتابة في هذا الموضوع فجزاهم الله خيراً كما وأشكر الأخوة القائمين على شركة بيت المال لما قدموه من مساعدة من أجل اتمام هذه ا لدراسة ونشرها فجزاهم الله خيرا الجزاء.
... هذا وإن ما قدمته في هذه الدراسة هو جهد البشر الذي يسري عليه الخطا والنقصان وهما أمران من طبيعة الإنسان ورحم الله إمرءاًَ أهدى إلي أخطائي.
... وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
... ... ... ... كتبه د. حسام الدين عفانة
... ... ... ... ... أبوديس- القدس
صباح يوم الخميس الحادي عشر من شهر رجب 1417
وفق الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني 1996
تمهيد ويشمل:
أولاً: تعريف البيع لغة واصطلاحاً.
ثانياً: تعريف بيع المرابحة ... وبيان حكمه.
نعرف البيع في اللغة والاصطلاح ثم نعرف بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء المتقدمين ونبين حكمه:
اولاً: - تعريف البيع:
... أ- البيع لغة هو مقابلة شيء بشيء أو هو مطلق المبادلة وهو من أسماء الاضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده مثل الشراء كما في قوله تعالى { وشروه بثمن بخس} (1) أي باعوه(2).
... ب- وفي إصطلاح الفقهاء عرفوه بتعريفات كثيرة منها مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكاً أو هو مقابلة مال بمال على وجه مخصوص (3) وقيل غير ذلك.
وينقسم البيع إلى أربعة أقسام:-
الأول: بيع المقايضة:وهو بيع العين بالعين كبيع الثوب بالحنطة.
الثاني: البيع المطلق:وهو بيع العين بالدين كبيع الثوب بالدنانير.
الثالث: الصرف: وهو بيع الدين بالدين كبيع الدنانير بالدراهم.
الرابع: السلم: وهو بيع الدين بالعين كبيع الزيتون بالدراهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة يوسف الآ ية 20.
2- إنظر المصباح المنير ص61 مادة بيع، لسان العرب 1/556 مادة بيع، الصحاح 3/1189 مادة بيع.
3- أنيس الفقهاء ص 201 التعريفات ص 27، الفقه الإسلامي وأدلته 4/344 الموسوعة الفقهية 9/5.
ويقسم البيع المطلق بالنظر الى الثمن الى أربعة أقسام هي:-
... 1- بيع المرابحة وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معين.
... 2- بيع التوليه وهو المبادلة بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان.
... 3- بيع الوضيعة وهو المبادلة بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه.
... 4- بيع المساومة وهو مبادلة المبيع بما يتراضى العاقدان(1).
ثانيا: تعريف بيع المرابحة:-
... أ- كلمة المرابحة في اللغة مأخوذة من كلمة ربح وتعني النماء في التجر وربح في تجارته يربح ربحا وتربحا أي إستشف.... وهذا بيع مربح إذا كان يربح فيه والعرب تقول: - ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها. وتجارة رابحة: يربح فيها.. وأربحته على سلعته أي أعطيته ربحاً ... وبعت الشيء مرابحة ويقال بعته السلعة مرابحة على كل عشرة د راهم درهم وكذلك اشتريته مرابحة (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إنظر الفقه الإسلامي وأدلته 4/595-596 الكليات ص 240.
2- لسان العرب 5/103 مادة ربح
...
... ب- وأما المرابحة اصطلاحاً فقد عرفها الفقهاء بتعريفات كثيرة منها:-
... - قال الامام المرغيناني الحنفي (المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح ) (1)
... - وعرفها صاحب ملتقى الأبحر الحنفي بقوله (المرابحة بيع ما شراه بما شراه وزيادة )(2).
... - وعرفها صاحب تنوير الأبصار الحنفي بقوله (بيع ما ملكه بما قام عليه وبفضل)(3).(/2)
... - وعرفها الشيخ خليل المالكي بقوله (المرابحة وهي بيع ما اشترى بثمنه وربح علم)(4).
... - وعرفها ابن رشد المالكي بقوله (هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحاً ما للدينار أو الدرهم)(5).
... -وعرفها ابن جزي المالكي بقوله (فأما المرابحة فهو أن يعرف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل ان يقول اشتريتها بعشرة وتربحني د يناراً أو دينارين وإما على التفصيل وهو أن يقول تربحني درهما لكل دينار أو غير ذلك)(6).
... - وعرفها الشيخ أبو اسحق اشيرازي الشافعي بقوله (ان يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول ثمنها مئة وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة)(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الهداية 6/122. 2- ملتقى الأبحر 2/34. 3- رد المحتارة 5/132. 4- شرح الدردير 2/72. 5 - بداية المجتهد 2/178.
6- القوانين الفقهية ص 174. 7- المهذب مع المجموع 13/3.
... - وعرفها الشيخ الماوردي الشافعي بقوله (واما بيع المرابحة فصورته أن يقول أبيعك هذا الثوب مرابحة على أن الشراء مئة درهم وأربح في كل عشرة واحد)(1).
... - وعرفها الشيخ ابن قد امة المقدسي الحنبلي بقوله (البيع برأس المال وربح معلوم)(2).
... - وعرفها صاحب حدائق الأزهار الزيدي بقوله (نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة)(3).
... وخلاصة القول في تعريف بيع المرابحة أنه يقوم على أساس معرفة الثمن الأول وزيادة ربح عليه حيث إن المرابحة من بيوع الأمانة فينبغي أن يكون الثمن الأول معلوماً وأن يكون الربح معلوماً أيضا. وبناء عليه يكون تعريف بيع المرابحةهو: - بيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معلوم متفق عليه بين المتعاقدين.(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحاوي الكبير 5/279.
2- المغني 4/136.
3- حدائق الأزهار مع شرحه السيل الجرار 3/136.
4- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 30.
... ج- حكم المرابحة:
... يرى جمهور الفقهاء أن بيع المرابحة من البيوع الجائزة شرعاً ولا كراهة فيه.
... قال الماوردي (وأما بيع المرابحة فصورته أن يقول أبيعك هذا الثوب مرابحة على أن الشراء مئة درهم وأربح في كل عشرة واحد فهذا بيع جائز لا يكره.. والدليل على جوازه عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) ولان الثمن في بيع المرابحة معلوم كما أنه في بيع المساومة معلوم إذ لا فرق بين قوله بعتك هذا الثوب بمئة وعشرة وبين قوله بعتك بمئة وربح كل عشرة واحد وان كلا الثمنين مئة وعشرة وأن اختلفت العبارتان كما لا فرق بين قوله بعتك هذا الثوب بتسعين وبين قوله بمئة الا عشرة في أن كلا الثمنين تسعون وأن اختلفت العبارتان ولا وجه لما ذكر من جهالة الثمن لأن مبلغه وان كان مجهولاً حال العقد فقد عقداه بما يصير الثمن به معلوماً بعد العقد وذلك لا يمنع من صحة العقد. كما لو باعه صبرة طعام كل قفيز بدرهم صح البيع وان كان مبلغ الثمن مجهولاً وقت العقد لانهما عقداه بما يصير الثمن به معلوماً بعد العقد...)(1).
... وقال الشوكاني (هذا بيع أذن الله سبحانه به بقوله (تجارة عن تراض) وبقوله (أحل الله البيع وحرم الربا) وهذا يشمل كل بيع كائنا ما كان إذا لم يصحبه مانع شرعي أو يفقد فيه التراضي)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحاوي الكبير 5/279.
2- السيل الجرار 3/136.
... ويدل على جواز بيع المرابحة ما ورد في الحديث عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أفضل؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)(1).
... ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن ابي سعيد الخدري ان الرسول عليه الصلاة والسلام قال (... انما البيع عن تراض)(2).
... فهذه العمومات من كتاب الله و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على جواز بيع المرابحة كما ان الحاجة تدعو لتعامل الناس بالمرابحة قال المرغيناني (والحاجة ماسة الى هذا النوع من البيع لان الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج الى ان يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وزيادة ربح...)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 4/61.
وقال الحافظ ابن حجر ورجاله لا بأس بهم التلخيص الحبير 3/3.
2- رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال الشيخ الألباني صحيح إنظر الارواء 5/125، وقال الشيخ الأرناؤوط اسناده قوي. صحيح ابن حبان 11/341.
3- الهداية 6/123.
المبحث الاول:
تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء وصوره.
أولاً: نشأة إصطلاح بيع المرابحة للآمر بالشراء:(/3)
... بيع المرابحة للآمر بالشراء اصطلاح حديث ظهر منذ فترة وجيزة وأول من استعمله بهذا الشكل هو د. سامي حمود في رسالته الدكتوراه بعنوان (تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية) المقدمة الى جامعة القاهرة - كلية الحقوق وقد نوقشت رسالته في 30/6/1976.
... ويقول د. سامي حمود عن ذلك (وقد كان بيع المرابحة للآمر بالشراء بصورته المعروفة حاليا في التعامل المصرفي كشفاً وفق الله اليه الباحث أثناء اعداده لرسالة الدكتوراه في الفترة الواقعة بين 1973 - 1976 حيث تم التوصل الى هذا العنوان الاصطلاحي بتوجيه من الاستاذ الشيخ العلامة محمد فرج السنهوري رحمه الله تعالى حيث كان استاذ مادة الفقه الاسلامي المقارن للدراسات العليا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة)(1).
... وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح لدى البنوك الاسلامية والشركات التي تتعامل وفق أحكام الشريعة الاسلامية وصارت هذه المعاملة من أكثر ما تتعامل به البنوك الاسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. سامي حمود ص 1092 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
... والحقيقة ان هذا الاصطلاح (بيع المرابحة للآمر بالشراء) إصطلاح حديث ولا شك ولكن حقيقته كانت معروفة عند الفقهاء المتقدمين وإن اختلفت التسمية فقد ذكره محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وذكره الامام مالك في الموطأ والامام الشافعي في الام كما سيأتي ذلك عنهم(1).
ثانيا: تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء.
عرفه العلماء المعاصرون بعدة تعريفات منها:-
... 1- عرفه د. سامي حمود بقوله (أن يتقدم العميل الى المصرف طالباً منه شراء السلعة المطلوبة بالوصف الذي يحدده العميل وعلى أساس الوعد منه بشراء تلك السلعة فعلاً مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها ويدفع الثمن مقسطاً حسب امكانياته)(2).
... 2- وجاء تعريف بيع المرابحة للآمر بالشراء في قانون البنك الاسلامي الأردني بما يلي: (قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك - كليا أو جزيئاً - وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عليه عند الإبتداء)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المرابحة للآمر بالشراء د. بكر ابو زيد ص 978 مجلة مجمع الفقه الأسلامي عدد 5 ج2 . المرابحة للآمر بالشراء د. الصديق الضرير ص 995 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
2- تطوير الأعمال المصرفية ص 432 بتصرف يسير.
3- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. سامي حمود ص1092 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2، بيع المرابحة أحمد ملحم ص 77.
... 3- وعرفه د. يونس المصري بقوله (أن يتقدم الراغب في شراء سلعة الى المصرف لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقداً ولأن البائع لا يبيعها له إلى أجل إما لعدم مزاولته للبيوع المؤجلة أو لعدم معرفته بالمشتري أو لحاجته إلى المال النقدي فيشتريها المصرف بثمن نقدي ويبيعها إلى عميله بثمن مؤجل أعلى) (1).
... 4- وعرفه د. محمد سليمان الاشقر بقوله (يتفق البنك والعميل على أن يقوم البنك بشراء البضاعة.. ويلتزم العميل أن يشتريها من البنك بعد ذلك ويلتزم البنك بأن يبيعها له وذلك بسعر عاجل أو بسعر آجل تحدد نسبة الزيادة فيه على سعر الشراء مسبقاً)(2).
... 5- وعرفه الباحث أحمد ملحم بقوله (طلب شراء للحصول على مبيع موصوف مقدم من عميل الى مصرف يقابله قبول من المصرف ووعد من الطرفين الأول بالشراء والثاني بالبيع بثمن وربح يتفق عليها مسبقاً)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. رفيق المصري ص1133 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2.
2- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الاسلامية د. الاشقر ص 6.
3- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 79.
...
وغير ذلك من التعريفات الكثيرة وكلها تدور على الأسس التالية:-
أولاً: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء ثلاثي الأطراف أي أنه يوجد عندنا ثلاثة متعاقدين.
... الأول: الآمر بالشراء.
... الثاني: المصرف الاسلامي.
... الثالث: البائع.
... وهذا الأمر يختلف فيه بيع المرابحة للآمر بالشراء عن المرابحة المعروفة عند الفقهاء المتقدمين حيث إن المرابحة المعروفة عند الفقهاء المتقدمين ثنائية الأطراف.
ثانيا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء يتم باتمام الخطوات التالية:-
... أ- طلب من العميل يقدمه للمصرف الإسلامي لشراء سلعة موصوفة.
... ب- قبول من المصرف لشراء السلعة الموصوفة.
... ج- وعد من العميل لشراء السلعة الموصوفة من المصرف بعد تملك المصرف لها.(/4)
... د- وعد من المصرف ببيع السلعة الموصوفة للعميل وقد يكون الوعد لازماً أو غير لازم كما سيأتي بيانه.
... هـ- شراء المصرف للسلعة الموصوفة نقداًَ.
... و- بيع المصرف للسلعة الموصوفة للعميل بأجل مع زيادة ربح متفق عليها بين المصرف والعميل.
ثالثا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء عند إجالة النظر فيه يتكون مما يلي:-
... 1- وعد بالشراء من العميل للمصرف ووعد بالبيع من المصرف للعميل وتسمى هذه العملية مواعدة وتوقع المصارف الاسلامية مع عملائها على ما يسمى وعد بالشراء.
... 2- يشتري المصرف السلعة من البائع ويوقع على عقد بيع بين المصرف والبائع.
... 3- عقد بيع بين الآمر بالشراء والمصرف الاسلامي بعد تملك المصرف للسلعة الموصوفة بناء على طلب العميل.
رابعاً: صور تعامل المصارف الإسلامية مع بيع المرابحة للآمر بالشراء.
... بعد البحث والتقصي وجد أن المصارف الإسلامية تتعامل بثلاث صور لبيع المرابحة للآمر بالشراء:
... الصورة الأولى وهي الأكثر تداولاً والأشهر استعمالا بين المصارف الإسلامية وقد صورها لنا الدكتور يوسف القرضاوي تصويراً مبسطاً بصورة واقعية عملية فقال (ذهب زيد من الناس الى المصرف الإسلامي وقال له: أنا صاحب مستشفى لعلاج أمراض القلب، وأريد شراء أجهزة حديثة متطورة لإجراء العمليات الجراحية القلبية ، من الشركة الفلانية بألمانيا أو الولايات المتحدة. وليس معي الآن ثمنها، أو معي جزء منه ولا أريد أن ألجا إلى البنوك الربوية لأستلف عن طريقها ما أريد وأدفع الفائدة المقررة المحرمة. فهل يستطيع المصرف الأسلامي أن يساعدني في هذا الأمر دون أن أتورط في الربا؟ هل يستطيع المصرف أن يشتري لي ما أريد بربح معقول على أن أدفع له الثمن بعد مدة محددة، فأستفيد بتشغيل مشفاي، ويستفيد بتشغيل ماله، ويستفيد المجتمع من وراء ذلك التعاون؟ قال مسئول المصرف: نعم يستطيع المصرف أن يشتري لك هذه الأجهزة بالمواصفات التي تحددها، ومن الجهة التي تعينها، على أن تربحه فيها مقداراً معيناً أو نسبة معينة وتدفع في الأجل المحدد ولكن البيع لا ينعقد إلا بعد أن يشتري المصرف الأجهزة المذكورة ويحوزها بالفعل بنفسه أو عن طريق وكيله حتى يكون البيع لما ملكه بالفعل. فكل ما بين المصرف وبينك الآن تواعد على البيع بعد تملك السلعة وحيازتها. قال العميل: المصرف إذن هو المسئول عن شراء الأجهزة المطلوبة ودفع ثمنها ونقلها وشحنها وتحمل مخاطرها، فإذا هلكت هلكت على ضمانه وتحت مسئوليته، وإذا ظهر فيها عيب بعد تسلمها يتحمل تبعة الرد بالعيب. كما هو مقرر شرعاً. قال المسئول: نعم بكل تأكيد. ولكن الذي يخشاه المصرف أن يحقق رغبتك ويجيبك الى طلبك بشراء الأجهزة المطلوبة، فإذا تم شراؤها وإحضارها، أخلفت وعدك معه. وهنا قد لا يجد المصرف من يشتري هذه السلعة منه لندرة من يحتاج إليها، أو قد لا يبيعها إلا بعد مدة طويلة، وفي هذا تعطيل للمال، وإضرار بالمساهمين والمستثمرين الذين إئتمنوا إدارة المصرف على حسن تثميرها لأموالهم.
... قال العميل صاحب المستشفى: إن المسلم إذا أوعد لم يخلف، وأنا مستعد أن أكتب على نفسي تعهداً بشراء الأجهزة بعد حضورها بالثمن المتفق عليه، الذي هو ثمن الشراء مع المصاريف والربح المسمى مقداراً أو نسبة كما أني مستعد لتحمل نتيجة النكول عن وعدي. ولكن ما يضمن لي ألا يرجع المصرف عن وعده إذا ظهر له عميل يعطيه أكثر، أو غلت السلعة المطلوبة في السوق غلاءً بينا؟
... قال المسئول: المصرف أيضاً ملتزم بوعده. ومستعد لكتابة تعهد بهذا وتحمل نتيجة أي نكون منه.
... قال العميل: اتفقنا.
... قال المسئول: إذن نستطيع أن نوقع بيننا على هذا، في صورة طلب رغبة ووعد منك بشراء المطلوب، ووعد من المصرف بالبيع، فإذا تملك المصرف السلعة وحازها وقعنا عقداً آخر بالبيع على أساس الاتفاق السابق)(1).
... وهذه الصورة تقوم على أساس أن الوعد ملزم للطرفين المتعاقدين العميل والمصرف وسيأتي تفصيل الخلاف بين العلماء في مدى إلزامية الوعد.
... قال د. يوسف القرضاوي معلقاً على الصورة السابقة: (وهذه الصورة إذا حللناها إلى عناصرها الأولية نجدها مركبة من وعدين: وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه: الآمر بالشراء. ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة (أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول أو الثمن والكلفة). وهذا هو المقصود بكلمة المرابحة هنا.
... وقد اختار المصرف والعميل كلاهما الإلتزام بالوعد وتحمل نتائج النكول عنه كما تتضمن الصورة: أن الثمن الذي اتفق عليه بين المصرف والعميل ثمن مؤجل والغالب أن يراعى في تقدير الثمن مدة الأجل كما يفعل ذلك كل من يبيع بالأجل(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 24-25.
2- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 25-26.(/5)
... الصورة الثانية: وهي شبيهة بالصورة الأولى: إلا أنها تقوم على أساس عدم الالزام بالوعد لأي من المتعاقدين العميل او المصرف(1).
... الصورة الثالثة: وهي مثل الصورتين السابقتين إلا أنها تقوم على أساس الإلزام بالوعد لأحد الفريقين العمل أو المصرف(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء د. رفيق المصري ص 1141 مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج 2.
2- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 112-113.
المبحث الثاني:
خلاف العلماء المعاصرين في حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء
... اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة اختلافاً كبيراً فمنهم من يرى جواز هذا العقد ومنهم من يرى أن هذا العقد باطل ويحرم التعامل به ولكل من الفريقين وجهته وسنستعرض أدلة الفريقين باختصار ونصل إلى القول الراجح إن شاء الله بعد دراسة أدلة الفريقين والردود عليها:
المطلب الأول:
... القائلون بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء مع كون الوعد ملزماً للمتعاقدين قال بهذا الرأي جماعة من فقهاء العصر منهم:
1- د. سامي حمود في كتابه تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الاسلامية(1).
2- د. يوسف القرضاوي في كتابه بيع المرابحة للأمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية(2).
3- د. علي أحمد السالوس في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء نظرات في التطبيق العملي(3).
4- د. الصديق محمد الأمين الضرير في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ص 430.
2- نشرته مكتبة وهبة في طبعته الثانية سنة 1407هـ - 1987م.
3- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1059. 8- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1211.
4- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 991. 9- نقلاً عن بيع المرابحة أحمد ملحم ص117.
5- د. ابراهيم فاضل الدبو في بحثه بعنوان المرابحة للآمر بالشراء دراسة مقارنة(1).
6- الشيخ محمد علي التسخيري في بحثه بعنوان نظرة الى عقد المرابحة للآمر بالشراء(2).
7- الشيخ محمد عبده عمر في بحثه بعنوان المرابحة في الاصطلاح الشرعي(3).
8- د. عبد الستار أبو غدة في بحثه بعنوان اسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الاسلامية (4).
9- د. محمد بدوي في مقال له في مجلة المسلم المعاصر (5).
10- الشيخ عبد الحميد السائح في كتابه الفتاوى (6).
11- د. محمد عمر شابرا في كتابه (نحو نظام نقدي عادل) (7).
... وغير هؤلاء كثير.
وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بأدلة كثيرة أذكر أهمها:
الأول: الأصل في المعاملات الإباحة:
... " إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده ولا أقول هنا ما قاله البعض من ضرورة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة ففي الأحكام الفرعية العملية يكفينا النص الصحيح الصريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1003.
2- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1181.
3- مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1191.
4-مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 1211.
5- نقلاً عن بيع المرابحة احمد ملحم ص 117.
6- الفتاوى الشرعية ج1 ص30. 7- ص 288.
... وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله. فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع. وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المحرم والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً"(1).
... " ومما ينبغي تأكيده هنا: أن الاتجاه التشريعي في القرآن والسنة هو الميل إلى تقليل المحرمات وتضييق دائرتها تخفيفاً على المكلفين ولهذا كرهت كثرة الأسئلة في زمن الوحي لما قد يؤدي إليه من كثرة التكليفات وهو ما يشير إليه قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم} (المائدة : 101).(/6)
... وقوله عليه الصلاة والسلام: {ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم} وقوله: {إن أعظم المسلمين على المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته}. فلا ينبغي أن نخالف هذا الاتجاه القرآني والنبوي بتكثير المحرمات وتوسيع دائرة الممنوعات)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 13.
2- المصدر السابق ص 14-15.
الثاني: عموم النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على حل جميع أنواع البيع إلا ما استثناه الدليل الخاص.
... قال د. يوسف القرضاوي: (إن البيع خاصة جاء في حله نص صريح من كتاب الله تعالى يرد به على اليهود الذين زعموا أن الربا كالبيع أو البيع كالربا لا فرق بينهما. (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا). (البقرة 275) فهذه الجملة القرآنية (وأحل الله البيع) تفيد حل كل أنواع البيع سواء كان عيناً بعين (المقايضة) أم ثمناً بثمن (الصرف) أو ثمنا بعين (السلم) أو عينا بثمن (هو البيع المطلق). وسواء كان حالاً أم مؤجلاً نافذاً أو موقوفاً. وسواء كان بيعا بطريق المساومة أم بطريق الأمانة وهو يشمل: المرابحة (وهو البيع بزيادة على الثمن الأول) والتولية (وهو البيع بالثمن الأول) والوضيعة (وهو البيع بأنقص من الثمن الأول)، أو بطريق المزايدة.
... فهذه كلها وغيرها حلال لأنها من البيع الذي أحله الله تعالى: ولا يحرم من البيوع إلا ما حرمه الله ورسوله بنص محكم لا شبهة فيه.
... وأنقل هنا كلمة قوية لأبن حزم في "محلاه" برغم تضييقه في "العقود والشروط" قال في المسألة 1501: (والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة: وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً وكذلك المساومة أيضا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) (الأنعام 119) فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن اذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام او حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة وما عدا هذين فليس فرضا ولا حراماً فهو بالضرورة حلال إذ ليس هنالك قسم رابع.
... وهذا الذي قاله ابن حزم - في حل ما لم يفصل لنا تحريمه من البيوع - مقرر في جميع المذاهب.
فعند المالكية نجد العلامة ابن رشد الجد في كتابه "المقدمات" يقول:
... "البيوع الجائزة هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي لأن الله تعالى أباح البيع لعباده وأذن لهم فيه في غير ما آية من كتابه. من ذلك قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)... ولفظ البيع عام لأن الإسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام صار من ألفاظ العموم.. واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه إلا أن يأتي ما يخصه فإن خص منه شيء بقي ما بعد المخصوص على عمومه أيضاً. فيندرج تحت قوله تعالى: (وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل... فبقي ما عداها على أصل الإباحة".
... وعند الحنفية - نجد صاحب الهداية يقول في باب المرابحة والتولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح. قال: والبيعان جائزان لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة الى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج الى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما ولهذا كان مبناهما على الأمانة.. إلخ.
... وهنا يعلق محقق الحنفية الكمال بن الهمام على استدلال صاحب الهداية فيقول: ولا يخفى أنه لا يحتاج الى دليل خاص لجوازها بعد الدليل المثبت لجواز البيع مطلقاً بما تراضيا عليه بعد أن لا يخل بما علم شرطاً للصحة بل دليل شرعية البيع مطلقاً بشروطه المعلومة هو دليل جوازها...".
... وقال الإمام الشافعي في كتابه "الأم" تفريعا على قول الله (وأحل الله البيع):
... فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر (أي التصرف ) فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه يداخل في المعنى المنهي عنه. وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى".
... وهذا أظهر الأقوال وأصحها في معنى الآية كما ذكر النووي فلفظ البيع في الآية لفظ عموم يتناول كل بيع ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل واستدل لذلك صاحب الحاوي (الماوردي) بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين الجائز فدل على أن الآية الكريمة تناولت إباحة جميع البيوع إلا ما خص منها وبين صلى الله عليه وسلم المخصوص.(/7)
... وعند الحنابلة نجد شيخ الاسلام ابن تيمية يؤكد: "أن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله مثل أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر. .
... ثم يقول: والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها الى الله ما دل الكتاب والسنة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"(1).
الثالث: النصوص الواردة عن بعض الفقهاء في إجازة هذا العقد وأهم هذه النصوص ما يلي:
... 1- إن أهم نص اعتمد عليه هؤلاء العلماء هو ما قاله الإمام الشافعي في الأم حيث إن د. سامي حمود اشار إلى نص الإمام الشافعي لهذه المسألة فقال: (وقد كانت هذه الصورة من صور الوساطة التي يستطيع المصرف اللاربوي أن يقوم فيها بأعمال الإئتمان التجاري بكل أنواعه منافساً - بكل قوة- سائر البنوك الربوية محل تفكير مشوب بالتخوف الى ان اطمأنت النفس بوجود هذا النوع من أنواع التعاقد مذكورا نصا على وجه التقريب في كتاب الأم للإمام الشافعي حيث يقول رحمه الله في ذلك: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل فالشراء جائز والذي قال أربحك فيها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 15-18.
بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعاً وان شاء تركه وهكذا إن قال اشتر لي متاعاً ووصفه له أو متاعاً أي متاع شئت وانا أربحك فيه فكل هذا سواء يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال أبتاعه واشتريه منك بنقد أو دين يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الخيار فإن حدداه جاز..."(1).
... 2- جاء في كتاب الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني قال: "قلت: أرأيت رجلاً أمر رجلاً أن يشتري داراَ بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها فتبقى في يد المأمور كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ويقبضها ويجيء الآمر ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم فيقول المأمور: هي لك بذلك فيكون ذلك للآمر لازما ويكون استيجابا من المأمور للمشتري: أي ولا يقل المأمور مبتدئاً بعتك إياها بألف ومائة لأن خياره يسقط بذلك فيفقد حقه في إعادة البيت الى بائعه وان لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تطوير الاعمال المصرفية ص 433.
2- المرابحة للآمر بالشراء د. بكر أبو زيد. مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص978-979.
... 3- قال العلامة ابن القيم: "رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار - أو هذه السلعة من فلان - بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خياراً أنقص من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه"(1).
الرابع: المعاملات مبنية على مراعاة العلل والمصالح:
... إن الشرع لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم وهو أساس تحريم الربا والاحتكار والغش ونحوها.
... أو خشي منه أن يؤدي الى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم الميسر والغرر.
... فالمنع في هذه الأمور ليس تعبدياً بل هو معلل ومفهوم وإذا فهمت العلة فإن الحكم يدور معها وجوداً وعدماً.
... وهذا هو الأصل في باب المعاملات بخلاف باب العبادات فالأصل فيه التعبد وامتثال المكلف لما هو مطلوب منه دون بحث عن العلة أو المصلحة.
... وبناء على أن الأصل في المعاملات النظر الى المصلحة رأينا بعض فقهاء التابعين قد أجازوا التسعير مع ما ورد فيه من الحديث إلتفاتا إلى العلة والمقصد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إعلام الموقعين 4/29.
... ومثل ذلك إجازتهم عقد الاستصناع مع أنه بيع معدوم نظراً لحاجة الناس إليه وجريان العمل به وقلة النزاع فيه.(1)(/8)
الخامس: إن القول بجواز هذه المعاملة فيه تيسير على الناس ومن المعلوم أن الشريعة الاسلامية قد جاءت برفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم وقد تضافرت النصوص الشرعية على ذلك فمنها قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (2). وقوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم} (3) وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (4).
... وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" رواه البخاري وغيره.
... وقوله عليه الصلاة والسلام: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري وغيره.
... وإن جمهور اناس في عصرنا أحوج ما يكونون الى التيسير والرفق رعاية لظروفهم وما غلب على أكثرهم من رقة الدين وضعف اليقين وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم والمعوقات عن الخير. ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسروا عليهم في مسائل الفروع على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 18.
2- سورة النساء الآية 28.
3- سورة البقرة الآية 185.
4- سورة الحج الآية 78.
... وليس معنى هذا التيسير أن نلوي أعناق النصوص المحكمة أو نجتريء على القواعد الثابتة.
... ولكن المعنى المقصود بالتيسير هو أن نراعي مصالح الناس وحاجاتهم التي جاء شرع الله لتحقيقها على أكمل وجه(1).
السادس: قاسوا بيع المرابحة للآمر بالشراء على عقد الاستصناع عند الحنفية فقد أتفق أئمة الحنفية على جواز عقد الاستصناع واعتباره بيعاً صحيحاً برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد ولكنهم أجازوه استحساناً لتعامل الناس به.
... وقد اختلفوا في تكييفه أهو مواعدة أم معاقدة؟ وقد اعتبره فريق منهم مواعدة. وإذا تم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع (بكسر النون) بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه لأنه اشترى ما لم يره.
... ولا خيار للصانع لأنه بائع باع ما لم يره ومن هو كذلك فلا خيار له وهو الأصح بناء على جعله بيعاً لا عدة.
... وفي رواية عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن له الخيار أيضاً دفعاً للضرر عنه لأنه لا يمكن تسليم المعقود عليه الا بضرر. وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما أما الصانع فلما تقدم، وأما المشتري فلأن الصانع أتلف ماله "بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات" ليصل الى بدله فلو ثبت الخيار تضرر الصانع لأن غيره لا يشتريه بمثله.
وأخذت مجلة الأحكام العدلية بقول أبي يوسف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د . القرضاوي ص18.
... والمرابحة تشبه عقد الاستصناع بأنها تقوم على البيع والمواعدة والمبيع موصوف وليس موجوداً ويقابل الصانع في عقد الاستصناع المصرف في عقد المرابحة حيث أن كلاً منهما (الصانع والمصرف) مطالب بتلبية طلب المشتري بشيء موصوف غير موجود بناء على مواعدة بينهما.
... واذا كان عقد الاستصناع قد أجيز استحساناً ولم يعط كل من المشتري والصانع الخيار بل ألزما بما تواعدا عليه على رأي أبي يوسف.فمن الممكن أن تأخذ المرابحة الحكم نفسه)(1).
السابع: قالوا يجوز أن يكون الوعد لازماً للمتعاقدين في بيع المرابحة للآمر بالشراء لأن الوفاء بالوعد واجب ديانة ويجوز الإلزام به قضاءً وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم أبن شبرمة حيث قال: (الوعد كله لازم ويقضى به على الواعد ويجبر)(2) وهو مذهب كثير من السلف منهم الحسن البصري والخليفة عمر بن عبد العزيز واسحق بن راهويه وغيرهم.
وقد استدلوا على قولهم بأدلة كثيرة منها:
... أ- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (3).
... وجه الاستدلال من الآية: أن العقود تعني المربوط وأحدها عقد يقال: عقدت العهد والحبل والعقد هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وكل ما كان غير خارج عن الشريعة وكذا ما عقد الإنسان على نفسه لله من الطاعات(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المرابحة أحمد ملحم ص 124-125.
2- المحلى 6/278 المسألة 1126.
3- سورة المائدة الآية 1.
4- الوفاء بالوعد د . ابراهيم الدبو مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 796.
... ب- واستدلوا بقوله تعالى : {يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} (1).
... فالوعد إذا أخلف قول نكل الواعد عن فعله فيلزم أن يكون كذباً محرماً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً(2).
... ج- وقالوا: إن الله قد ذم بعض المنافقين بقوله: {فأعقبهم نفاقاً إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعودوه وبما كانوا يكذبون} (3).(/9)
... والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس إذا لا فرق في اصل الحرمة بين الأمرين كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس(4).
... د- ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان}(5).
وفي رواية أخرى: {من علامات المنافق ثلاث...} (6).
وفي رواية أخرى: {آية المنافق ثلاث.. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم}(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الصف آية 3.
2- الفروق 4/20.
3- سورة التوبة الآية 77.
4- الوفاء بالوعد د. القرضاوي مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج2 ص 845.
5- رواه البخاري ومسلم انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/97.
6- رواه مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي 1/236.
7- رواه مسلم انظر صحيح مسلم بشرح النووي 1/237.
... وورد في حديث آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر واذا خاصم فجر} (1).
... وجه الاستدلال بهذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عد إخلاف الوعد من خصال المنافقين والنفاق مذموم شرعاً وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار حيث قال: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (2). وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرماً والوفاء به واجب.
... هـ- ما ورد في الحديث عن عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم (الإثم) والمغرم (الدين) فقيل له: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم (إستدان) حدث فكذب ووعد فأخلف"(3).
... ومعنى هذا أن الاستدانة تجره الى المعصية بالكذب في الحديث والخلف في الوعد(4).
... و- ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة"(5) وغير ذلك من الأدلة التي تدل على وجوب الوفاء بالوعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه البخاري ومسلم انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/98 صحيح مسلم بشرح النووي 1/235.
2- سورة النساء الآية 145.
3- رواه البخاري أنظر صحيح البخاري مع الفتح 5/458.
4- بيع المرابحة د. القرضاوي ص 67.
5- رواه ابو داود انظر عون المعبود 13/228 وقال الشيخ الألباني: حسن انظر صحيح سنن أبي داود 3/943. وانظر السلسلة الصحيحة 2/384.
ثانيا: القائلون بتحريم بيع المرابحة للآمر بالشراء وبأنه عقد باطل إذا كان الوعد ملزماً للمتعاقدين وقال بهذا كل من:
... 1- د. محمد سليمان الأشقر في كتابه (بيع المرابحة كما تجريه المصارف الاسلامية)(1).
... 2- د. بكر بن عبد الله أبو زيد في بحثه بعنوان (المرابحة للآمر بالشراء بيع المواعدة)(2).
... 3- د. رفيق المصري في بحثه (بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الاسلامية )(3).
... وفي مقال له بمجلة الأمة القطرية بعنوان (بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الاسلامية)(4).
... وفي مقال له بمجلة المسلم المعاصر بعنوان (كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء)(5).
... 4- د. حسن عبد الله الأمين في مقال له بمجلة المسلم المعاصر بعنوان (الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة)(6).
... 5- الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في مقال له بمجلة الجامعة الإسلامية بعنوان شرعية المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نشرت الطبعة الثانية منه دار النفائس - عمان الأردن سنة 1415-1995.
2- نشرته مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج2 ص965.
3- نشرته مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج2 ص 1127.
4- مجلة الأمة القطرية العدد61 في المحرم سنة 1406 أيلول 1985 نقلاً عن كتاب القرضاوي بيع المرابحة ص 90.
5- مجلة المسلم المعاصر عدد 32/ 1402 نقلاً عن المرابحة أحمد ملحم ص 127.
6- مجلة المسلم المعاصر عدد 35/ 1403 نقلا عن المرابحة أحمد ملحم ص 127.
7- مجلة الجامعة الاسلامية المدينة المنورة عدد 59 لعام 1403 نقلا عن مجلة مجمع الفقه الاسلامي عدد 5 ج 2ص 1117.
... وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بأدلة كثيرة على بطلان هذا البيع وحرمته أذكر أهمها:
... الأول: أنه منهي عنه شرعاً لأنه يعتبر من باب بيع ما لا يملك أو بيع ما ليس عندك:(/10)
... قال د. محمد الأشقر: (فإذا جرى الاتفاق على هذا - بيع المرابحة للآمر بالشراء- فهو عقد باطل وحرام لأسباب:
... .... إن البنك باع للعميل ما لم يملك "وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض" وقد اشار الى هذه العلة في بطلان هذا النوع من البيع الإمام الشافعي في كتابه الأم.. واشار له ابن عبد البر من المالكية... وصاحب المغني من الحنابلة...)(1).
... الثاني: إن هذا العقد باطل لأنه من باب البيع المعلق (أنه باع بيعاً مطلقاً أي لأنه قال للبنك إن اشترتموها اشتريتها منكم وقد صرح بالتعليل للبطلان بهذه العلة الإمام الشافعي.. وابن رشد من المالكية.. حيث قال: "لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور)(2).
... الثالث: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء من باب الحيلة على الإقراض بالربا وقد اشار الى هذه العلة المالكية كقول ابن عبد البر في الكافي: (معناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة مثال ذلك: أن يطلب رجل من آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة وهو يعلم انها ليست عنده ويقول له:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بيع المرابحة د. محمد الأشقر ص 7-8.
2- المصدر السابق ص 8.
أشترها من مالكها بعشرة وهي علي باثني عشر إلى أجل كذا. فهذا لا يجوز لما ذكرنا".
... واصل تعليل الفساد بهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه البخاري: "أنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مرجأ"(1).
... الرابع: إن هذه المعاملة تدخل في باب بيع العينة المنهي عنه وبيع العينة هو الذي يكون قصد المشتري فيه الحصول على العين أي النقد وليس الحصول على السلعة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(2).
... ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن قصد العميل من العملية هو الحصول على النقود وكذلك المصرف فإن قصده الحصول على الربح فهي إذن ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال. والمصرف لم يشتر هذه السلعة إلا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري وليس له قصد في شرائها"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر السابق ص 8.
2- رواه أبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم انظر عون المعبود 9/240 سنن البيهقي 5/316، الفتح الرباني 14/25-26، 15/44 وقال الحافظ ابن حجر: صححه ابن القطان بعد أن أخرجه من الزهد لأحمد..) التلخيص الحبير 3/19 وقال الشيخ الألباني: (وهو حديث صحيح لمجموع طرقه..) السلسلة الصحيحة 1/15.
3- بيع المرابحة أحمد ملحم ص 128.
...
... الخامس: إن هذه المعاملة تدخل ضمن بيع الكاليء بالكاليء أي الدين بالدين وورد النهي عنه شرعاً لما روي في الحديث عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالىء بالكالىء"(1).
... قال د. رفيق المصري: (بيع المرابحة مع الملزم(2) يفضي إلى بيع مؤجل البدلين.. فلا المصرف يسلم السلعة في الحال ولا العميل يسلم الثمن وهذا ابتداءً الدين بالدين أو الكالىء بالكالىء الذي أجمع الفقهاء على النهي عنه مع ضعف الحديث الوارد فيه)(3).
... السادس: إن هذه المعاملة تدخل ضمن عقدين في عقد (بيعتين في بيعة) فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة(4).. فالمواعدة إذا لم تكن ملزمة للطرفين لم يكن ثمة بيعتان في بيعة لكنها إذا صارت ملزمة صارت عقداً بعد أن كانت وعداً وكان هناك بيعتان في بيعة. فالبيعة الأولى بين المصرف وعميله المشتري والثانية بين المصرف والبائع(5).
... السابع: قالوا: إن هذه المعاملة لم يقل بإباحتها فقهاء الأمة بل وجد من قال بحرمتها(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه الدارقطني والحاكم وفيه ضعف قال الحافظ ابن حجر: وصححه الحاكم على شرط مسلم فوهم.. ) التلخيص الحبير 3/26.
2- لعل صحة العبارة (مع الوعد الملزم).
3- بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الأمة العدد 61 نقلاً عن بيع المرابحة للقرضاوي ص 96.
4- رواه النسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم انظر صحيح سنن النسائي 3/958 صحيح سنن الترمذي 2/8 سنن البيهقي 5/343 وقال الشيخ الألباني إنه حديث حسن ارواء الغليل 5/149-150.
5- بيع المرابحة د. رفيق المصري مجلة الأمة العدد 61 ص 96-97.
6- بيع المرابحة للقرضاوي ص 32.(/11)