سؤال لا بد أن يكون واجه النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد.. النبي عليه السلام بحكمته بذكائه بعقله لا تغيب عنه مثل هذه الاحتمالات لكن السؤال الأهم هو هل كانت النصرانية في تلك الأيام قادرة على أن تشعر هذا الإنسان المسلم بأنها تملك منهجاً عقدياً ومنهجاً اجتماعياً ونموذجاً ومنظومة فكرية تفوق هذا القليل الذي جاء من الإسلام؛ أتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة كاملة بأن ما هو موجود في تلك الأيام من النصرانية لا يمكن أن يزاحم حرفاً واحداً من الإسلام لماذا؟ حين ابتعث الله عيسى عليه السلام ابتعثه في الناصرة في بيت لحم والمنطقة في ذلك الزمان تحت حكم الرومان، والرومان إمبراطورية هائلة إحدى قوتين في العالم معروفتين في العالم القديم على الإطلاق وأرض فلسطين في تلك الأيام في الأيام التي أرسل فيها عيسى عليه السلام كان يسكنها اليهود وعيسى عليه السلام يهودي الأصل والرسالة المسيحية شعبة من اليهودية بدون ريب، فلقي عيسى عليه السلام حرباً شعواء من اليهود اعتبروا دعوة المسيح عليه السلام انشقاقاً على العهد القديم الذي جاء به موسى وتعاونوا مع الرومان مطاردة المسيح وأتباع المسيح عليه السلام واستمرت المطاردة حتى كان عام 313 للميلاد فأصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين المراسيم الشهيرة بمراسيم ميلانو التي اعترفت بحرية الديانات في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ومن جملتها النصرانية وبعد أمد قصير، ولرؤيا رأتها أم قسطنطين؛ اعتنق قسطنطين النصرانية ومشت النصرانية في الإمبراطورية الرومانية منذ ذلك التاريخ لكن السؤال أين الأناجيل: الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام؟ أين هو..! ضاع إنجيل عيسى في المطاردة لقي المسيحيون الأوائل -والحق يقال من الأهوال ما تشيب لهوله الولدان- حتى الإمبراطور المجنون نيرون إمبراطور روما صور له اليهود بافتعال حريق في روما أن المسيحيين هم الذين أحرقوا روما فشواهم في النار وقتلهم وألقاهم للوحوش ودمرهم تدميراً.
الأناجيل ما كتبت في زمن المسيح كتبت بعد وفاة المسيح بما لا يقل عن ثمانين عاماً ثم خلال المدة الواقعة بين السنة الأولى لميلاد المسيح عليه السلام والسنة 313 عقدت عدة مجامع كنسية كان الهدف منها النظر في هذه السير التي كتبها تلامذة المسيح وتلامذة تلامذتهم كانت الدنيا تموج بعدد لا يحصى من الأناجيل؛ كل إنجيل يدعي أنه هو الحق وكان مجتمع خلقيدونا ومجتمع نيقيا وبقية المجامع التي تعقد من قبل الكنائس العامة أن -المسكونية كما يسمونها- تحرم أناجيل وتفرض عقائد معينة، ما أسلم قسطنطين إلا والمسيحية تعتقد في غالبيتها الساحقة أن الله ثالث ثلاثة؛ فهمتم ولاحظتم؛ الله ثالث ثلاثة الابن الذي هو المسيح الله الذي هو الأب جبريل الذي هو الروح القدس، وحصل نزاع أيضاً مريم أم المسيح ما شأنها أيضاً حصلت انشقاقات واستقر على أن مريم أيضاً إله، هذه التشققات في الكنيسة المسيحية رافقتها أيضاً تشققات أخرى على الصعيد السياسي تسمعون أن الله تعالى أنزل في المرحلة المكية:
)ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد(.
كانت الإمبراطورية الرومانية قد اكتسحت من قبل الإمبراطورية الفارسية في ذلك الوقت ووصلت إلى حالة من التمزق لا تحسد عليها أبداً أكثر من ذلك منذ ذلك التاريخ البعيد كان نزاع خفي يدور بين بيزنطة التي هي القسطنطينية وبين روما أو بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغريبة سأقول لكم تاريخين يوحيان إيحاء عميقاً يا إخوة لاحظوا هذين التاريخين 611، 614؛ 611 بداية التنزيل على محمد صلى الله عليه وسلم 614 بداية الإنذار (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر) بين هذين التاريخين منذ بدأ التنبؤ وإلى أن بدأ الإنذار اثنان وأربعون مجلساً كنسياً تعقد في العالم النصراني لإصلاح الفساد الذي استشرى في الكنيسة والذي استشرى بين رجال الكنيسة والذي جعل الرهبان هم الذين يميلون إلى الخمر ويميلون إلى الزنى ويميلون إلى الغناء واللهو والمتاع أيضاً رجال الدين المسيحي بالذات كانوا خولاً وخدماً وعبيداً عند أباطرة الرومان ولا ينسى من التاريخ أنه عام 800 ثماني مئة للميلاد حينما كرس الانشقاق بين الرومان الشرقيين والرومان الغربيين كان البابا ليون الثالث يقف في كنيسة القديس بطرس في مدينة روما ليضع التاج على رأس شارلمان أو شارل الكبير اسألوا لماذا قبيل هذا التاريخ اجتمع عدد من الرجال رجال الكنيسة وقدموا التماساً للإمبراطور شارلمان وكان ذلك الوقت ملكاً من ملوك الفرنجة... الإمبراطورية البيزنطية... كنيسة شرقية..
تتهم كنيسة البابا ليون الثالث بالزنى والكذب وشهادة الزور وبمفاسد لا حصر لها.(/6)
في 24 تشرين الثاني من سنة ثماني مئة للميلاد دخل شارلمان مدينة روما باحتفال مهيب في الأول من كانون الأول عقد عدة اجتماعات تحت رياسته للنظر في الاتهامات الموجهة إلى البابا ليون الثالث.
في 23 كانون الأول أصدر الإمبراطور أو الملك شارلمان في ذلك الوقت قراراً بتبرئة البابا ليون الثالث من التهم بعد أن فرض عليه حلف اليمين من كل ما نسب إليه؛ مع أن التقاليد المسيحية تمنع أن يتعرض البابا لحلف اليمين لأنه رأس الكنيسة، في عيد الميلاد من تلك السنة 25 كانون الأول عام 800 فوجئ شارلمان وهو يؤدي الاعتراف في كنيسة القديس بطرس بالبابا ليون الثالث يرد الجميل يضع تاج الإمبراطورية على رأس شارلمان وبذلك حدثت قصة الانشقاق نهائياً في الإمبراطورية الرومانية وأصبحت هناك كنيستان كنيسة شرقية تابعة لبيزنطا التي هي القسطنطينية، وكنيسة غربية مقرها روما أو الكرسي الرسولي (كنيسة القديس بطرس) وكانت الأوضاع بهذا الشكل وفي ظل حالة من هذا النوع تعج ببدع ونحل؛ منها نحلة بوزنوف ليس ابن الله في الحقيقة لكن ابن الله بالتبني...
ليس ابن الله في الحقيقة ولكنه ابنه الله بالتبني؛ تعرفون ما معنى هذا افترض أنك مشيت في الطريق فوجدت طفلاً ملقى في الأرض لا تعرف أمه ولا تعرف أباه ابن زنى فأخذته وتبنيته، ربيته فيقال هو ابنك بالتبني؛ المسيح بموجب هذه النحلة هو ابن بالتبني؛ الله وجد مريم قد زنت –حاشاها- من ذلك فتبنى ابنها وأرسله رسولاً للعالمين. في تلك الأوقات التي كانت تشيع فيها نحلة الآيوسيين؛ الذين يقولون إن المسيح من طبيعة واحدة هي من جوهر الله طبيعة إلهية بحتة في تلك المرحلة التي كانت المسيحية تشيع فيها آراء لا أغرب ولا أسخف منها؛ كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة في الوقت الذي أصبحت الكنيسة غير قادرة بتاتاً على أن تعطي أي شيء، أي شيء بتاتاً أصبحت الكنيسة معطلة، وأصبحت النصرانية قد استنفدت أغراضها منذ زمن بعيد فحين يشير النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة يأتي من لا يعقل أو أصحاب الغرض والهوى والذين يريدون أن يطعنوا الإسلام؛ ليقولوا إن هذا الاتصال الأول بين المسلمين وبين الحبشة كان فاتحة تطور كاسح بالنسبة للإسلام لأنهم لقحوا العقائد الإسلامية بالعقائد النصرانية يا سبحان الله أي لقاء وأي جامع بين عقائد الإسلام وبين عقائد النصرانية؟
يا سبحان الله أي إشعاع تملكه الحبشة وهي جزء من إمبراطورية ممزقة لكي تعطي مثل هذه التأثيرات؟
يا سبحان الله هل كان المسلمون الذين عايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة فرأوا من طهره ورأوا من عفافه ورأوا من صدقه ورأوا من أمانته ما رأوا هل هؤلاء يجذبهم فجور البابا ليون الثالث..
يا سبحان الله كيف تضل العقول، وكيف يشرد الذهن بصاحبه فيضل به ضلالاً بعيداً؟ لا.. ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغامر بإرسال هؤلاء النفر من المسلمين وما كان يخاف عليهم من أن تتأثر عقائدهم فالنصرانية موجودة في بلاد العرب قبل أن يولد محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ولكن كما قال عمر؛ ما عرفت العرب من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، أما النصرانية كعقائد وأخلاق وشرائع ومعاملات وآداب فقد ضاعت في ظلمات التاريخ منذ زمن بعيد، بعيد جداً.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا كله؛ الحبشة على مرمى حجر من العرب ينبع وجدة ميناءان يؤديان إلى الحبشة، ومتجر قريش مع الحبشة ذاهب وجائي، وأجداد النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا الإيلاف لقريش من ملوك الحبشة يترددون عليها يعرفون.. أخبارها معلومة ليست مجهولة، كل يوم السفن تذهب وتروح تمخر عباب البحر الأحمر الذي هو بحر القُلْزُم وتأخذ البضاعة من الجزيرة العربية إلى الحبشة، وتعود ببضاعة من الحبشة إلى الجزيرة العربية، وهي فيما بين هذا وذاك تنقل الأخبار، وتنقل الحقائق، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم.. الذين تصوروا هذه التصورات الباطلة، كانوا يجهلون ما هو أهم من حقائق التاريخ كانوا يجهلون حقيقة النصرانية في ذلك الحين وقدرتها على العطاء وعلى الإشعاع لا شيء في النصرانية يمكن أن يقبله ذو لب؛ ما معنى الثلاثة في واحد والواحد في ثلاثة وهذه السخافة التي لا تنتهي ما معنى أن يكون البابا معصوماً وهو يتهم بالزنى ويشرب الخمر؟ ما معنى أن يكون البابا يحل شيئاً فتحله السماء. ويعقد شيئاً فتعقده السماء وهو يتملق شارلمان ويرد له الجميل بتتويجه إمبراطوراً على روما الغربية ثمناً لتبرئته من تهم خطيرة مخلة بالشرف والأخلاق والإنسانية أي شيء بقي في النصرانية يمكن أن يتهم الإسلام أنه اقتبسه منها؟(/7)
الإسلام جاء وقد كفت النصرانية عن العطاء وحين ذهب هؤلاء النفر ذهبوا لهذه الغاية بالتحديد التي ذكرها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم اذهبوا إلى أرض الحبشة تخفيفاً عليهم من العذاب الذي يلقونه من القرشيين إلى ذلك الملك حيث كان الرجل معروفاً بالعدل ولذا ردّ وفد قريش ورفض أن يسلم المسلمين للمكيين وأعطاهم الحرية في أن يعيشوا في بلده قال لهم اذهبوا فأنتم (سيوني) أي أحرار من سبكم غرم، ومن ضربكم غرم، أي أنه سيعاقب أي إنسان من الأحباش يعتدي على المسلمين.. وإلى أي مدى؟ نهائياً؟ لا.. قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه وقد جعل الله تبارك وتعالى الفرج للمسلمين بأن هاجروا من مكة إلى المدينة هناك في الهجرة إلى الحبشة رأي (لو ذهبتم إلى أرض الحبشة) أما هنا في الهجرة إلى المدينة، فالأمر مختلف. في الأول أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يهاجروا لكن بعد أي شيء..! جمعهم وقال لهم: انتبهوا قال لهم إني أُرِيْتُ دار هجرتكم (مو) رأيت ولا فكرت ولا قدرت ولا أشرت؛ إني أُرِيْتُ دار هجرتكم أي أن الله تعالى أراني المكان الذي ستهاجرون إليه ليست المسألة بشرية إنما هي ربانية إني أريت دار هجرتكم وإنها أرض ذات نخل بين حرتين والحرتان هم اللتان تكتنفان المدينة المنورة وهي أرض بركانية ذات حجارة سوداء لم يسمِّ المدينة ما ذكر الاسم إنما شخص ووصف الموقع إنها أرض ذات نخل بين حرتين وانطلق المسلمون على هذا الأمل إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وبعد بيعة العقبة الثانية وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يتربص ما الذي كان يمنعه صلوات الله عليه من أن يكون أول المهاجرين؟ ما الذي كان يمنعه من أن يرافق الموكب المسلم الذي هاجر إلى المدينة؟ كان يأتيه أبو بكر يستأذن بالهجرة فيقول له هون عليك اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً، ويصبر أبو بكر وعدة مرات يأتي أبو بكر يقول أتأذن يا رسول الله أن أهاجر فيقول اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً؛ وتحدثنا السيدة عائشة في الحديث حديث الهجرة الذي رواه الأئمة جميعاً قالت:
"طرقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهيرة في ساعة ما كان يأتينا فيها قط فلما رآه أبو بكر دهش قال له ماذا يا رسول الله قال إن الله قد أذن لي بالهجرة إن الله قد أذن لي بالهجرة قال الصحبة يا رسول الله قال نعم الصحبة".(/8)
إذاً فالمسألة هناك رأي أما هنا فوحي شيء إلهي استقرار الدعوة في المدينة بأمر الله أذن الله بالهجرة وأراه دار الهجرة فذهبوا إليها وهناك مجرد رأي ومشورة.. بين الأمرين فرق كبير ماذا بقي. بقي أن أقول إنني أمسكتكم طبعاً وقتاً طويلاً في هذا الجو الذي قد لا يناسبكم وأتعبتكم لكن أتعبتُ نفسي أكثر تأكدوا أن المسألة كما قلت تحتاج منا إلى أن نقول كل شيء ومرة واحدة وسوف نجزئ الحديث أجزاء وقد أصبحنا بحمد الله في حالة من الصحة نستطيع أن نواصل فيها الحديث جمعتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر، بقي علينا أن نلقي في موضوع الهجرة إلى الحبشة سؤالاً: هل في مبادئ الإسلام وشرائط الإسلام ما يشجع على أن تتخذ الحبشة موئلاً وداراً للإسلام؟ لكي نرد على الشق الثاني من الاعتراضات التي أثرناها في أول هذه الخطبة قلنا لا، ونقول الآن لا ونرجو من الله أن يوفقنا لكي نتحدث في هذا الموضوع فنبين أن قوانين الدعوة تمنع بصورة باتة أن تنطلق الدعوة من أرض غير عربية على الإطلاق واحد، وتمنع ثانياً أن تنطلق الدعوة الإسلامية وهي تحت كنف أية سلطة مهما كان لونها ولهذا تحتم أن تنطلق الدعوة من بلاد العرب وتحتم أن تكون الدعوة غير محكومة لا بقانون الرومان ولا بقانون فارس فإلى الجمعة القادمة أسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على إتمام ما بقي مما يتعلق بحادث الهجرة إلى الحبشة حتى نضعه في إطاره الصحيح ونعطيه حجمه الحقيقي وبعد ذلك نعرج على الموضوع الذي نعطيه أهمية بالغة، وهو موضوع السلوك الهادئ الرصين المحب الودود الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم وسلكه المسلمون مع الخصوم لنعود بعد كل هذه الجولة لا لنترك الأمر مجرد افتراضات وتصورات واستنتاجات وإنما نستعرض نماذج لا من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم -وسلوكه فوق الشبهات- وهو القدوة العظمى ولكن من مسالك الأصحاب رضي الله عنهم ماذا أعطاهم الصبر وماذا أثمر لهم صبرهم الطويل في حياتهم الخاصة في أخلاقهم الخاصة في بيوتهم في تعاملهم مع بعضهم في تعاملهم مع المجتمع المشرك حينما انتصروا وملكوا الدنيا في تعاملهم مع الأمم المغلوبة، مع العروش التي أصبحت تحت أقدامهم كيف كانوا يعاملون هؤلاء الناس؟ هل فقدوا فوائد الدروس التي تلقوها وهم يتلقون البلاء في مكة أم عاشت هذه الدروس معهم حتى جعلت الواحد منهم يا إخوة يا مسلمون يا أحباب -أميناً على سياسة الدنيا بكاملها. أقول لكم مستبقاً كل هذه النتائج إن الإسلام نجح نجاحاً منقطع النظير في جعل الإنسان سيد نفسه وأعني أن الإسلام أفلح في أن يجعل الإنسان الفرد قادراً على أن يحكم نفسه من هنا كان قادراً على أن يحكم محيطه وأن يحكم العالم من بعد لا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة لأقول إن المغلولين والصغار التافهين والأوباش الذين يعجزون عن السيطرة على نوازعهم وعلى نفوسهم وعلى شهواتهم هم أحرى وأحرى أن يعجزوا عن حكم العالم ومن هنا نرى في القمة خيانات ورشاوى ومظالم في كل أنحاء الدنيا لأن الناس غير مهذبين، ولأن الناس بلا أخلاق ولأن الناس بلا تربية، فالإسلام يوم يشدد على هذه الناحية يريد من الإنسان الفرد أن يكون سيداً يمشي على الأرض يقول لها أنا هنا أنا هنا لأغير من معالمك ولأخلقك خلقاً جديداً ويريد من الإنسان أن يحكم الدنيا وفقاً لقانون الأخلاق لقانون الله الذي يعمل ويتحرك مفصولاً عن كل دوافع النفس، مفصولاً عن كل حوافز الذات حتى تكون الحركة خالصة لله تبارك وتعالى ومن هنا كان حكم الإسلام لا استغلال ولا سيطرة ولا استعلاء ولا ظلم ولا سرقات ولا ولا ولا ولا.... إلى آخره كان الخليفة تأتيه الأموال فتصب في المسجد صباً فيأتي بالديوان الذي دوَّنَ فيه الناس.. اذهبوا بهذا إلى فلان وهذا إلى فلان وهذا إلى فلان لا يمسي المساء إلا وبيت المال قد وزع كل قرش فيه ذهب إلى المستحقين ليعيش الإنسان عيشة كريمة ولا يقال له تعال انتخبني ولا يقال له تعال ادخل في السجن لأنني أنا سيدك ولأني أنا أطعمك لا ولكن لأنه إنسان بما هو إنسان ينال حق الإنسان ثم بعد ذلك يكنس بيت المال ويرشُّه ويأتي الخليفة فيصلي فيه ركعتين كذلك كانت تساس الأمور وبهذه الأخلاق تستقيم الدنيا وبغيرها لا تستقيم.. بغيرها دمار.. يا يمينيون يا يساريون بغير الإسلام دمار إن الإنسانية كلها إذا لم تفئ إلى قانون الله فسوف تدمر الدنيا على رأسها وإذا أرادت أن تعمر الدنيا وتتفجر بالخير واليمن والنماء والبركة فإلى الإسلام إلى الله إلى شريعة الله وبغير ذلك لا طريق لا شيء لا يمين لا يسار لا أي شيء من هذه التفاهات فهمتم؟ من لم يكن يفهم فليفهم الآن نحن نتكلم بعقل ونتكلم بلا غوغائية ونرغب إلى إخواننا جميعاً يميناً ويساراً، ماركسيين وغير ماركسيين، فقط أن يكونوا أوفياء لعقولهم فقط أن يفكروا كما يفكر الإنسان فقط أن لا يكونوا إمعات لا يكونوا تابعين لا يكونوا تافهين، يفكر بأنه إنسان عالم قائم بذاته يستطيع أن يأخذ(/9)
وأن يعطي أن يقيم وأن يقعد أن يفعل أن يترك أما الإمعات والتافهون فعبء على الإنسانية عار على التاريخ سبة في جبين الإنسانية، نحن نريد هؤلاء وهؤلاء هم الناس، وبذلك فقط تعتدل اتجاهات الحياة نتكلم هذا الكلام وقد يسأل سائل ما قيمة هذا الكلام في بلد معزول لا تعرف عنه الناس شيئاً، وبين أمة مستذلة مستضعفة أمة المسلمين أمة العرب التي تتفجر الأحقاد من حولها فنقول؛ نحن لا نوافق أبداً على أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشرط الاقتصادي وإنما كما قلنا نقرر أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشرط الإنساني فمن أجل ذلك كانت الكلمة أقوى من كل شيء.. كانت أقوى من القنابل الذرية وأقوى من القنابل الهيدروجينية، الكلمة تبقى هي السلاح الفاعل وأنت اليوم تسأل لا تحقرن نفسك لا تدري غداً أين تكون ولا تدري أية مسئولية سوف تتلقاها وتعانيها وأنت بعد ذلك سوف تتذكر أن إنساناً ما مغموراً لا يعرفه أحد في مكان ما من زاوية من زوايا الوطن العربي والإسلامي قلما يخطر على البال قال كذا وقال كذا وتكون قد فرغت من أشياء الدنيا ورجعت إلى العقل فتجد نفسك مرغماً على أن تعتقد وعلى أن تأخذ فإذا أنت تطبق هذا الكلام، من هنا نحن نعول على الكلمة وحين نقول الكلام كل حرف نتحدث به نضع أمام عيوننا مخافة الله تبارك وتعالى.
لا نريد أن ندمر الأجيال ولا نريد أن نخرب الأجيال لو أردنا الدنيا ما كان أسهلها ما كان أقربها ولكن مضى من الله كتاب ناطق توعد فيه الضالين والمضلين بالعذاب المهين، مضى من الله كتاب ناطق وعد الصادقين والمخلصين بجنات تجري من تحتها الأنهار وبذكر مستمر لا ينقطع.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الذكر غير الممنون وغير المقطوع وأن يجعلنا أدوات نافعة في خدمة دينه وشرعة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى الأسبوع القادم أرجو أن ألقاكم وأنتم على أتم استعداد لترافقونا في رحلة شاقة ولكنها مفيدة وممتعة وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/10)
اليهود في أمريكا
تاريخهم _ دورهم في تأييد الكيان الصهيوني _ منظماتهم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الكريم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،، وبعد :
فقد قال الله تعالى ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) المائدة 83 .
وقال عز من قائل ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما اسروا في أنفسهم نادمين ) المائدة 51،52
ولم يعد خافيا أن الأمة الإسلامية لم تزل تتعرض لمعاول الهدم في بنيانها العقائدي والثقافي والأخلاقي والسياسي ، وفي وحدتها وقوتها ، منذ أن تداعت عليها الأمم في عصر الاحتلال الأوربي الصليبي للبلاد الإسلامية ، ومنذ أن زرع أعداؤها الصليبيون هذا الكيان الصهيوني في قلبها ، بتواطؤ بينهم واليهود ، وذلك ليطفئوا نور الله بأفواههم ، متمنين أن يقضوا على دين الإسلام ، فيصبح نسيا منسيا ، غير أن الله تعالى وعد ووعده الحق ، أن يحفظ هذا الدين حتى يظهره على الدين كله ، وأن تبقى عليه طائفة من الناس تجاهد لظهوره لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى ينصره فيظهره على الدين كله ، متى شاء سبحانه ، وحتى يأذن بالتمكين التام له في الأرض آخر الزمان .
وقد بقيت الأمة الإسلامية تجاهد اليهود وأولياءهم من عبدة الصليب الذين لم يجمعهم بعد طول العداء فيما بينهم إلا حقدهم على أمة الإسلام ، بقيت تجاهد اليهود المغتصبين لفلسطين أكثر من نصف قرن من الزمان ، ولازالت المؤامرات تحاك ضدها بغية إكمال المخطط الصليبي اليهودي للقضاء على هذه الأمة والسيطرة الكاملة عليها.
وفي هذه الرسالة المختصرة محاولة لإلقاء الضوء على دور اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية في دعم الكيان الصهيوني ، ودور رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في الاستجابة لضغط المنظمات اليهودية الأمريكية ، مع بيان أهم منظماتهم واختصاصاتها ، والهدف من تأليف هذه الرسالة المختصرة ، هو إيقاف القارئ المسلم على حقيقة الموالاة الوثيقة بين اليهود والولايات المتحدة الأمريكية ، وما تشكله تلك الموالاة من خطر عظيم على الأمة الإسلامية .
وقد قسمت البحث إلى مقدمة و ثلاثة فصول وخاتمة :
الفصل الأول : نبذة تاريخية عن يهود أمريكا.
الفصل الثاني : دورهم في تأييد الكيان الصهيوني بالتأثير على الإدارة الأمريكية .
الفصل الثالث : أهم المنظمات اليهودية في أمريكا .
الفصل الأول
نبذة تاريخية عن يهود أمريكا
هاجر اليهود إلى الولايات المتحدة عبر ثلاث مراحل : المرحلة الأولى هجرة اليهود السفارديم من أسبانيا والبرتغال ، والثانية هجرة اليهود الألمان بعد 1840م ، ثم الهجرة الكبرى من أوربا الشرقية بعد عام 1880م ، ثم تكاثر اليهود حتى وصل عددهم بحلول عام 1920م ، الى ثلاثة ملايين ونصف المليون ، ومنذ ذلك الوقت بدأ اليهود بتأسيس الجمعيات الأخوية والوكالات ا لاجتماعية والمعابد والمدارس وقاموا بتطوير المنظمات الصهيونية من أجل السعي لتحقيق الحلم الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، ولعبوا دورا أساسيا في تغذية الصهيونية السياسية منذ ظهورها 0
وممالا يعلمه الكثيرون أن أول مؤتمر صهيوني إنما عقد في مدينة كاتوويتز بالقرب من الحدود الروسية ، 6/11/1884م ، وقرر المجتمعون استعمار فلسطين بفلاحين يهود ، لكن مؤتمر بال أو بازل بسويسرا عام 1897م ، كان الانطلاقة الحقيقية ، وقد حضر المؤتمرين ممثلون عن يهود أمريكا 0
حرص اليهود في أمريكا على تأسيس ما يسمى ( البلاط اليهودي ) ويقصد به ( ذوو الثراء والنفوذ الذين لهم تأثير كبير ) ، كما فعلوا في أوربا من قبل ، وليس بمستغرب إذن أن يوافق الكونغرس في 20/ 6/ 1922م على وعد بلفور وجاء في قراره ( إن الولايات المتحدة تفضل إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي) 0
ولإحساس زعماء الصهاينة بأن الولايات المتحدة سوف تكون القوة الجديدة القوية بعد الحرب العالمية الثانية اتجه اهتمامهم البالغ إليها ، ولهذا السبب قرر المؤتمر الصهيوني ضرورة أن يكون هناك 40% من الأعضاء المشتركين في المجلس الصهيوني من الولايات المتحدة 0
ومن العجب أن المؤتمر الذي عقده مجلس الطوارئ التابع للمنظمة الصهيونية في أمريكا ( نيويورك ) عام 1943م صدر عنه ثمانية قرارات أخطرها : ضرورة الاعتراف بعلاقة الشعب اليهودي التاريخية بفلسطين ، والاعتراف بحقهم في الدفاع عنها ، والقرار الثالث هو عدم إمكان قيام نظام العالم الجديد على أسس السلام والعدالة والمساواة إلا بحل مشكلة التشرد اليهودي حلا نهائيا 0(/1)
واستطاع اليهود ربط مصير النظام العالمي بقضيتهم بمكر عجيب ، وتحقق لهم ذلك ، فقد صدر قرار التقسيم من عصبة الأمم وتم الإقرار عالميا بحق اليهود في جزء من فلسطين ، وانطلقوا من هذه النقطة إلى أطماعهم الأخرى 0
وأعلن رئيس المنظمة الصيهونية الحاخام ( جولد ستير ) ( بأن مهمة الحركة الصهيونية من ألان فصاعدا هي اكتساب موافقة الحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي على البرنامج الصهيوني الخاص بفلسطين )
وعندما تم إعلان قيام دولة إسرائيل قال أحد أعضاء المنظمة المسؤولة عن التمويل اليهودي في أمريكا سائلا بن غوريون عما تطلبه إسرائيل من يهود أمريكا ، فاجاب الأخير : الدولة الجديدة سوف تحتاج عون الولايات المتحدة لتستطيع البقاء 0
ومن ثم استمر الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل . المصدر موسوعة العلوم السياسية طبع جامعة الكويت .
كتب بول جيكبز وهو متخصص في هذا الشأن ، كتب في مذكراته عام 1965م ، أي قبل النكسة بعامين ، واصفا بطريقة خيالية مدى تأثير مجموعات المنظمات اليهودية في أمريكا ، فقال ( ثمة طريقة خيالية لوصف عمل هذه المجموعات وهي أن شخصا ما يدخل مرحاض إحدى حانات الجادة الثالثة في نيويورك ، وبينما هو واقف عند المبولة ،يلاحظ أن أحدا ما قد كتب (انكحوا اليهود ) على جدار المرحاض ، ويجرى اتصالا هاتفيا سريعا ،ويندفع رجل من عصبة التحالف ضد الافتراء ADL ( وهي منظمة يهودية مشهورة ) نحو الحانة كي يرى الجدار للحصول على بصمات الأصابع ، وتدقق عصبة التحالف البصمات ضمن ملفاتها عن المليونين المعروفين من المعادين للسامية ، ثم تنشر صورة للجدار في نشرتها التالية قائلة : إن هذا يبين أن معاداة السامية تتزايد وأن على الجميع أن ينضموا إلى منظمة بناي بريت ، والتالي في الوصول سيكون ممثل اللجنة الأمريكية اليهودية (AJC) ، والذي سيلتف حوله ثم يعلن خططا من اجل دراسة أكاديمية رئيسية عن الكتابة الجدارية المعادية للسامية ، وستنشر أيضا كتيبا يثبت أن يهوديا هو الذي اخترع ( المارتيني ) ، كي يجري توزيعه في الحانات ، ثم سيصل المجلس اليهودي الأمريكي ، ويضع حاجزا خارج الحانة ، ويقدم عريضة الى المحكمة العليا ، كي تمنع بيع المشروبات الكحولية الى أي شخص يقوم بتعليق معاد للسامية ) انتهى نقلا عن كتاب القوة اليهودية تأليف ج.ج.غولدبرغ .
لم يكن هذا الكلام سوى تعبير خيالي لطيف يصور عمل المنظمات اليهودية في أمريكا ، ومما يدعو للتعجب أن سرعة الانتشار وتنامي وازدياد القدرة على التأثير اليهودي في أمريكا حصل بمعدل زمني يشبه الأسطورة 0
ففي عام 1943م اجتمع وفود من 32 منظمة يهودية في أمريكا لتقرير الدور الذي ستقوم به الجماعة اليهودية الأمريكية لاقامة الدولة في فلسطين ،وتمخض هذا الاجتماع عن تكوين المؤتمر اليهودي الأمريكي المتكون من 46منظمة يهودية تضم مليون ونصف المليون يهودي أمريكي ، نقلا عن الموسوعة السياسية الكويتية0
ولم يأت أيلول عام 1991م ، حتى مثل القوى اليهودية التي تواجه الرئيس جورج بوش الاب عندما قرر تأخير ضمانات القروض التجارية الممنوحة لاسرائيل البالغة 10مليارات دولار ، مثلها 1300 ألف وثلاثمائة قائد لمنظمات يهودية محلية على امتداد أمريكا ، من خامات ومعلمي مدارس ومحامين وعمال اجتماعيين ورجال أعمال ، والمنظمات هي جمعيات دينية يهودية ووكالات حقوق مدنية وصناديق انعاش وجمعيات أخوية 000الخ 0
وقد عبر ( ديفيد لوتشنز ) نائب اتحاد التجمعات الأرثوذكسية اليهودية في أمريكا والمساعد الرئيسي لنائب نيويورك في مجلس الشيوخ عن شعوره بالزهو من هذا النجاح القياسي قائلا ( إن جزءا من الأساطير الجديدة لليهود الأمريكيين أننا لم نعد أقلية ، لقد أصبحنا جزءا من الأكثرية ، إننا مقبولون الان ولدينا نمو ورئيس الولايات المتحدة يجتمع بشكل منتظم مع القيادة اليهودية ، ثمة أمر لا يصدق ، فأنت تتذكر الخمسة والعشرين أو الثلاثين سنة الماضية وعليك أن تقف في خشوع لان هذا قد حدث فعلا في حياتي ، لقد حدث فعلا ، لقد وصلنا ) كتاب القوة اليهودية تأليف ج0ج0 غولدبرغ ص 26 0
ولاريب أن له أن يشعر بالزهو والفرحة الغامرة لاسيما إذا علمنا أن حجم المساعدات الخارجية المرسلة كل سنة إلى إسرائيل تبلغ 3مليارات دولار ، أي أن الشعب الأمريكي يدفع (الخمس ) من المساعدة الخارجية فقط لإسرائيل التي لا تتجاوز 5ملايين نسمة .
الفصل الثاني
اليهود في عهود رؤساء أمريكا
1ـ اليهود في عهد ترومان(/2)
يتم تأثير اليهود في السياسة الأمريكية عن طريقين : أحدهما : وجود يهود في الإدارة الأمريكية ، والطريق الثاني التأثير على شخص الرئيس من خلال انتخابات الرئاسة ، وقد جرت العادة ابتداء من الرئيس روزفلت إلى جونسن ، على أن يعيش بالقرب من كل رئيس شخص ذو وزن سياسي غالبا ما يكون يهوديا ومهمته التصدي للخط السياسي الذي يتبناه المتعاطفون مع العرب في وزراة الخارجية ، ويكون هذا الشخص حلقة اتصال بين الرئيس الأمريكي وزعماء الجالية اليهودية الأمريكية ويطلق عليه لقب ( حامل الحقيبة اليهودية ) ويعتبر عهد ترومان هو بداية الضغط اليهودي المباشر من أجل إسرائيل ، فعندما عارض ترومان مبدئيا عام 1947م إنشاء دولة لليهود في فلسطين قام اليهود بحملة إعلامية كان من نتيجتها تبني النواب والشيوخ قرارات تدعو الرئيس ترومان الى تأييد إقامة الدولة اليهودية ، وتمثلت مشاركة اليهود في إدارة ترومان في كل من ليوبافوسكي مساعد وزير الخارجية ، وماكس ليفا سكرتير وزير الدفاع ، وبرنارد باروح رئيس لجنة الذرة ، وفلنجمان مدير الإنتاج الحربي ، وسام برجر المستشار الخاص لترومان . المصدر : موسوعة العلوم السياسية طبع جامعة الكويت.
2ـ عهد كينيدي
وأما في عهد كيندي فكان اليهود في المراكز الحساسة مثل مورتيمل كابلن رئيس صندوق الدخل القومي ، وبيير سالينجر السكرتير الصحفي للرئيس ، وآرثر جولدبرج وزير العدل ، وويلارد ويلتز الذي جاء وزيرا للعمل بعد جولدبرج ، ويوتي وينو رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية ، وابراهام وبيبكوف وزير الصحة والتعليم .المصدر السابق .
3ـ عهد جونسون
وفي عهد جونسون زاد النفوذ اليهودي في الإدارة الأمريكية وتجلي ذلك في تعاطف جونسون مع إسرائيل ، وقد ضم جونسون إلى إدارته كلا من أبدوين ويزل رئيس اللجنة التنفيذية ، والمستشار المالي الخاص لجونسون وويلير كوهين وزير الصحة وأب فورتاس رئيس المحكمة العليا ، ووالت روستو المستشار الأول للشؤون الخارجية ، المصدر السابق .
4ـ عهد نيكسون
وفي عهد نيكسون زاد التأييد لإسرائيل ، وعندما زارت غولدا مائير الولايات المتحدة في فبراير 1973م ، أكدت هذا المعنى ،وأوضحت أن الجيش الإسرائيلي هو خط الدفاع الاول عن المصالح الأمريكية ، مما حدا بالرئيس نيكسون إلى تبني فكرة المشاركين المحليين ووضع إسرائيل في موضع استراتيجي شامل ، وكان دور كسينجر مكملا ومنفذا لهذا المبدأ من خلال موقعه كصانع للسياسة الخارجية الامريكية خلال الفترة من عام 1969م الى عام 1967م ، وبناء على ذلك لعبت الجماعة اليهودية دورا كبيرا في إعادة انتخابات نيكسون للمرة الثانية ، ويرجع الفضل في ذلك إلى هنري كيسنجر ، لان الرئيس في فترة رئاسته الأولى منح إسرائيل مساعدات بلغت 1178مليون دولار ، وهذا الرقم يفوق ما حصلت عليه إسرائيل في تسع سنوات سابقة ، وبعد فوزه للمرة الثانية قام بتعيين عدد من اليهود في المناصب المهمة في الدولة ، ووافق على بيع أربع أسراب من طائرات مقاتلة 0
وهنري كيسنجر هذا يهودي صهيوني تدرج بسرعة في المناصب الحساسة في الإدارة الأمريكية حتى وصل الى تولي حقيبة وزارة الخارجية في أغسطس 1973م ، بالإضافة الى كونه مستشارا للأمن القومي ، وصارت له السيطرة التامة على سياسة أمريكا في الشرق الأوسط، ولقد لعب دورا مهما في إنقاذ الكيان الصهيوني من هزيمته التي تكبد فيها خسائر تربو على 2600 جندي الى جانب خسائر مدمرة في الأراضي في حرب الأسابيع الثلاثة التي باغتت فيها مصر وسوريا إسرائيل في يوم السبت يوم الغفران 6/ 10 / 1973م ، لقد سارع كيسنجر كما ذكر في مذكراته التي نشرت عام 1982م ، ( سنوات من الاضطراب ) أنه طلب المسارعة في تموين الكيان الصهيوني بجسر جوي من الأسلحة اللازمة يوم الأحد 7/ 10 / 1973 ، ثم لعب بعد ذلك دورا أساسيا في إنطلاق المفاوضات التي تسلسلت منذ مفاوضات الكيلو 101 يوم 28 /10/ 73م ، ثم مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر 73م ، ثم اتفاقات فك الارتباط في سيناء ، ثم سعية المتواصل الذي أدى بعد سنوات الى اتفاقية كامب ديفيد التي أثمرت ما نحن فيه الآن من الضعف والهوان ، ويمكن للقارئ التوسع في الدراسة بالرجوع الى موسوعة العلوم السياسية طبع جامعة الكويت ، بالإضافة إلى كتاب القوة اليهودية لمؤلفه ج0ج0 غولدبرغ .(/3)
وفي تصوري أن المتابع لقصة يهود أمريكا لايستطيع أن يصرف النظر عن اعتبار فترة الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر هي أحد أكبر فترات التأثير اليهودي في الإدارة الامريكية ، ومع أن الكاتب ج0ج0 غولدبرغ في كتابه ( القوة اليهودية ) يقرر أن الرئيس نيكسون لم يكن يثق في اليهود ، غير أنه يؤكد أن نيكسون قد كان المسؤول الأول للنفوذ اليهودي الواسع في إدارته ، يقول غولدبرغ ( ومع ذلك ما من رئيس منذ جيمس بوكانن كان صاخبا في نزاعه مع اليهود الأمريكيين كمجموعة أكثر من ريتشارد نيكسون ، وكان الرئيس مستاء بعنف من حقيقة أن لليهود تمثيلا ضخما بين خصومة في حركة مقاومة الحرب ، ومع أنه أخفى عدم ثقته باليهود عن الجمهور ، فانها كانت تظهر سرا بصورة دائمة ، وقد أمر ذات مرة أحد معاونيه كي يضع قائمة بالموظفين اليهود في وزارة العمل ،لاقتناعه بأن خططها الاقتصادية المتشائمه كانت نتيجة مؤامرة (000) وربما يدعو للسخرية إذاً أن نكسون كان المسؤول الأول أكثر من أي شخص آخر ، عن دفع اللوبي اليهودي إلى موقف اللاعب الرئيسي في واشنطن ، وبأسلوب واشنطن سرعان ما تحول صندوق مساعدة إسرائيل ذو المليارات العديدة إلى حق مكتسب وأصبحت إسرائيل وشؤونها قضية ضخمة في واشنطن ، وبفضل نيكسون ووزير خارجيته ، أصبح أفراد اللوبي اليهودي ، بصفتهم أكثر مؤيدي إسرائيل المرئيين ، أشخاصا هامين فجأة ) المصدر السابق 283
وقد وقف كيسنجر عام 1992م خطيبا عندما تلقى جائزة المنظمة السنوية لذكري (إيلي فيسل) عن المحرقة ، فقال هذه الكلمات التي تعبر بوضوح عن دوافع دوره المؤيّد لليهود عندما كان وزيرا للخارجية ، قال ( لقد كنت بصفتي يهوديا ، في موقع إدارة السياسة الخارجية لقوة عظمى ، ولم أحجب مطلقا حقيقة أن اثني عشر فردا من أسرتي قد ماتوا في المحرقة ، وأن مصير الشعب اليهودي نتيجة ذلك كان دائما موضع اهتمام عميق بالنسبة لي ) المصدر السابق 284
5ـ عهد فورد
وفي عهد الرئيس فورد ظهر تحيز أمريكا المطلق تجاه إسرائيل ، فقد عارض الرئيس بشدة أي انسحاب اسرائيلي من الاراضي العربية في أي مفاوضات بينها وبين العرب ، كما اختار وليام سكرانتون وهو يهودي مندوبا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة ، ووافق على استمرار كيسنجر في منصبه في مجلس الامن القومي ، وعندما أعلن الرئيس فورد في مارس عام 1975م ، إعادة تقييم لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وتأجيل المساعدات الأمريكية المالية والعسكرية لإسرائيل قام اللوبي الموالي لإسرائيل بتوجيه رسالة الى الرئيس فورد بتوقيع 76م من أعضاء مجلس الشيوخ يطلبون فيها التجاوب مع المطالب السياسية والعسكرية لإسرائيل ، وقد وجه اللوبي انتقادات شديدة اللهجة وهجوما شرسا على أعضاء مجلس الشيوخ الذين رفضوا التوقيع على الرسالة ومن بينهم السناتور تشارلزبيرسمن شيكاغو والتي أدت الحملة اليهودية ضده إلى عدم نجاحه في انتخابات عام 1948م ، فلاعجب إذن أن تبلغ ما حصلت عليه اسرائيل من مساعدات خلال إدارتي نيكسون وفورد ، وكلاهما جمهوري ، ما بين عامي 1969م _1976يفوق كل ما حصلت عليه من مساعدات أمريكية منذ قيامها وحتى عام 1969م ، أي ما يربو على عشرين عاما منذ تأسيسها ، نقلا عن كتاب الجذور الذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لاسرائيل تأليف حمدان حمدان ص 134، للحديث بقية
6ـ عهد كارتر
وقد وصل بنا الحديث إلى نفوذ يهود أمريكا في فترة الرئيس كارتر صاحب المقولة المشهورة ( لقد آمن وأظهر سبعة من رؤساء أمريكا ، أن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة ، لقد كانت ولاتزال علاقة فريدة ، وهي علاقة لايمكن تقويضها ، لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الامريكي نفسه ، لقد أقام الرواد وأقوام تجمعوا في كلا الشعبين : إسرائيل والولايات المتحدة ، إن شعبي الأمريكي إمة مهاجرين ولاجئين 00اننا نتقاسم معا ميراث التوراة ) الإنجيليون المتجددون ـ الرئيس كارتر
أما كارتر بالرغم من كونه قد أيد في البداية منح وطن للاجئين الفلسطينيين وذلك بعد توليه الرئاسة بشهرين ، غير أن اللوبي الصهيوني المناصر لإسرائيل قام بتعبئة الرأي العام الأمريكي ضد هذا القرار وتدفق سيل من البرقيات على كارتر يندد بسياسته مما جعله يتراجع عن قوله السابق ، وأعلن في إجتماع له مع 53 زعيما يمثلون المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة أنه يتعين على جميع الدول العربية إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل جزء من تسوية شاملة في منطقة الشرق الأوسط ، كما وافق كارتر على منح إسرائيل مبلغ 106مليون دولار لمساعدة إسرائيل في إنتاج الدبابة شاريوت وتزويد اسرائيل بـ18 طائرة مروحية وعدد من طائرات إف 16 المقاتلة المتطورة ، وضغط اللوبي على كارتر لإقالة اندرويونغ ، سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة لاجتماعه مع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية زهدي الطرزي 0(/4)
وبعد صدور البيان الأمريكي السوفيتي متضمنا الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ظهر احتجاج قوي بين الجماعات اليهودية نتيجة لهذه الضغوط من المناصرين لإسرائيل في الكونغرس الأمريكي تراجعت إدارة كارتر عن البيان الأمريكي السوفيتي ولم يعد أساسا لعقد مؤتمر جنيف 0
ودعونا نقرأ ما قاله إسرائيل شاحاك في كتابه ( أسرار مكشوفة ) ص 86فقد كان وصفه للضغوط التي مارسها اليهود على إدارة كارتر أدق وصف قال :( ذلك أن إسرائيل اتبعت سياسات لاتتفق مع المصالح الأمريكية وفضلا عن ذلك ، تمكنت إسرائيل من استغلال نفوذها في الكونغرس ووسائل الإعلام الأمريكية لاجبار الإدارة الأمريكية بين وقت وآخر على عكس سياساتها تماما ، فعندما أعلنت إدارة الرئيس كارتر وفاقها مع الاتحاد السوفيتي ، كبرنامج لسياساتها في الشرق الأوسط قامت حكومة بيغن التي لم تستسغ هذا الموقف بإرسال وزير خارجيتها آنذاك موشيه دايان إلى الولايات المتحدة حيث نجح في ثلاثة أيام في حمل إدارة كارتر على نقض نفسها بصورة مخزية ويمكننا أن ننظر إلى زيارة السادات للقدس ومفاوضات كمب ديفيد ومعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية واجتياح لبنان في العام 1982م ، على أنها أحداث ناجمة كلها عن إذلال دايان لكارتر في تلك القضية )
وكتاب إسرائيل شاحاك هذا ( أسرار مكشوفة ) من أهم الكتب التي تتناول سياسة الكيان الصهيوني بواسطة كاتب يهودي متمرس بتلك السياسة ، وقد طبع مترجما عام 1998م الطبعة الأولى في بيروت ومتوفر محليا ، وقد جمع المؤلف مادة الكتاب مما نشره قادة الكيان الصهيوني في خطابها للنخبة اليهودية ، وهو يقول في مقدمة الكتاب ( وأعتقد أن أهداف دولة إسرائيل وسابقتها الحركة الصهيونية يجب أن تفهم بحسب ما تقوله القيادات الإسرائيلية لاتباعها ، وبحسب ما تقوله للنخبة اليهودية بصفة خاصة ، ذلك أن هذه الأهداف لايمكن أن تفهم على أساس ما يقولونه للعالم الخارجي ) ص 13
7ـ عهد ريغن
في سعيه لكسب الأصوات اليهودية حرص ريغان على زيادة الروابط مع المؤسسات اليهودية الصهيونية في الولايات المتحدة قبل موعد الانتخابات الرئاسية ، وقام ريغان بتعيين اليهودي مارشال بيرغر مسؤولا عن التنسيق بين لجنة الحملة الانتخابية والمجموعات اليهودية في الولايات المتحدة وعين اليهودي ألبرت شبيغل رئيسا لحملته الانتخابية ، وأخذ شبيغل يعرض لليهود سجل ريغان المؤيد لإسرائيل ، ومنها حضور ريغان تجمعات مؤيدة لإسرائيل خلال حرب الأيام الستة في عام 1967م ، عندما كان حاكما لكاليفورنيا .
وخلال حملته الانتخابية زار ريغن المنظمة اليهودية بناي برث في واشنطن في 3أيلول 1980م ، وألقى خطابا قال فيه إن إسرائيل ليست أمة فقط بل هي رمز ففي دفاعنا عن حق ( إسرائيل ) في الوجود إنما ندافع عن ذات القيم التي بنيت على أساسها أمتنا .
وبعد سقوط الشاه وقبل انتخابات الرئاسة الأمريكية أدلى ريغن بتصريح إلى الواشنطن بوست في 15/8/1979م ، جاء فيه : ( إن أي منظمة إقليمية مؤيدة للغرب لن تكون لها أية قيمة عسكرية حقيقية دون أن تشترك إسرائيل فيها بشكل أو بآخر ) .
وكان أهم موضوع في الحملة الانتخابية للمرشح ريغن هو مزاعمه بعجز إدارة كارتر في تقدير أهمية ( ا إسرائيل ) كرصيد استراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ، ففي مقالة له في الواشنطن بوست ذكر بأن وضع الولايات المتحدة سيكون أضعف في المنطقة بدون الأرصدة السياسية والعسكرية التي توفرها إسرائيل كقوة مستقرة وكرادع للهيمنة الراديكالية )
وعندما قررت السعودية عقد صفقة طائرات ألا واكس ،قام اللوبي اليهودي في أمريكا بضغوط كبيرة لإفشال الصفقة ، وتوصلوا أخيرا إلى تقليل فعالية الطائرات إلى أقل حد ممكن حد صرح مستشار الأمن القومي ريتشارد آلن للمراسلين الصحفيين بأن الطائرات غير قادرة على التقاط الصورة التجسسية او تحديد الأهداف الأرضية كما أن السعوديين لم يكونوا جاهزين لتنسيق هجوم عربي جوي تشترك به جميع الدول العربية ضد إسرائيل لان الاواكس ستكون خالية من المعدات المعقدة اللتي تحملها معدات الكترونية وإن الإسرائيليين يستطيعون التشويش على أجهزة الرادار فيها كما أن السعوديين وافقوا على عدم إرسال الاواكس فوق سوريا والأردن ، وقد ضحك المراسلون قائلين ( إذا كانت الطائرات عارية إلى هذا الحد فلماذا كان السعوديون يريدون شراؤها ) .
غير أن الإدارة الأمريكية مع ذلك وافقت على استخدام الفنيين الإسرائيليين للطائرات لمدة 9 ساعات لغرض فحصها والتأكد من قدرتها العدوانية ، ولكن الإسرائيليين كانوا قلقين لان أفضل دفاعاتهم هو بتحقيق ضربة جوية مفاجئة على ارتفاع منخفض ولان الاواكس مزودة برادار يتجه للأسفل قد عمل بصورة جيدة أثناء الغارة الإسرائيلية على العراق الأمر الذي يعني إلغاء أهم التكتيكات فعالية .(/5)
ولهذا الغرض سافر ريتشارد مورفي السفير الجديد في السعودية وطلب تنازلات أخرى من السعوديين وذلك بجعل مهامات الطائرات الاواكس تنفذ بصورة مشتركة من قبل الأمريكيين والسعوديين ، ووافق السعوديين على هذا الامر لغاية عام 1990م ، وأبلغ ريغن الكونغرس بأن هذه الطائرات سوف لاتقترب أكثر من 100ـ 150ميلا من الحدود السياسية ، ويقصد بذلك حدود اسرائيل وذكر المدافعون عن الصفقة بأن مجال العمليات لطائرة الاواكس السعودية سيقتصر على حقول البترول الشرقية وموانيء الخليج مع توسيع نطاق العمل جنوبا لحماية البلاد من غارات تقوم بها اليمن الجنوبية أو أثوبيا .
وبهذا يعلم أن الضغوط التي مارسها اليهود في عهد ريغن في قضية صفقة طائرات الاواكس ، كانت كبيرة ومؤثرة إلى درجة أفقدت هذه الصفقة أي فعالية لها ضد اسرائيل .
وفي عهد ريغن قامت اسرائيل بغزو جنوب لبنان ، وانتشرت أخبار في 18/9/1982م ، بأن مجزرة مروعة حدثت في مخيمي صبرا وشاتيلا في جنوب لبنان ، وذبح آلاف الابرياء في تلك المجزرة ، وأثر هذا الخبر تأثيرا كبيرا في تشويه صورة اسرائيل في أمريكا ، حيث نقلت صورة من المجزرة في وسائل الإعلام الأمريكية .
ورغم أن الأمر العسكري الإسرائيلي ينص على عدم دخول مخيمي صبرا وشاتيلا وعلى أن يقوم جيش الكتائب بذلك ، غير أن رئيس الأركان الإسرائيلي أبلغ قياديي الكتائب عند دخول الجيش الإسرائيلي ألى بيروت الغربية في 15أيلول 1982م بأن جيش الدفاع سوف يدخل أيضا إلى مخيمات اللاجئين صبرا وشاتيلا .
وقد أظهر الرئيس ريغن استياءه مما فعلته إسرائيل في جنوب لبنان ، وقال إن بيغن قد ضلله في موضوع دخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت الغربية ، ثم قام الرئيس الأمريكي بحظر صفقة طائرات إف 16، والتي كان من المقرر تسليمها إلى اسرائيل ، وبعد ذلك استنفر يهود أمريكا لوقف تدهور العلاقات الأمريكية الإسرائيلية كما عبر توماس داين مدير اللوبي الصهيوني ، وعلى إثر ذلك قامت إسرائيل بعدة خطوات وبالاستعانة بنفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لاجل المحافظة على صورة إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية كضامن للمصالح الأمريكية في منطق الشرق الأوسط .
وكان من نتائج هذا التحرك قضية إيران غيت ، وهي مبيعات الأسلحة التي نقلتها إسرائيل الى ايران وتمويل قسم من أرباح الصفقة إلى معارضة نظام الحكم في ساندينستا ( قوات الكونترا ) .
كما قامت الايباك ( اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة ) وهو أقوى لوبي صهيوني في الكونغرس متخصص في التشريعات التي تمس إسرائيل ، قامت بنشر مجموعة دراسات تؤكد على القيمة الاستراتيجية الإسرائيلية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ، ونشر مدير بحوث الايباك مقالات أحادية الموضوع تحت عنوان القيمة الإستراتيجية لإسرائيل على أن تقدم للولايات المتحدة أربع مزايا رئيسة وهي :
أولا : موقعها الجغرافي في منتصف الطريق بين أوربا والخليج العربي مما يجعل الولايات المتحدة قادرة على التحرك على ثلاث مسارح لعمليات الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط ، والجبهتين الوسطى والجنوبية لحلف الناتو.
ثانيا : الاستقرار السياسي كونها غير معرضة للانقلابات والثورات .
ثالثا : والاعتماد السياسي أنها حليف مضمون .
رابعا : التقدم التكنولوجي على أن إسرائيل البلد الوحيد المتقدم تكنولوجيا وأن تكنلوجيتها مشابهة لتكنولوجية الولايات المتحدة .
كما قام المجلس الاستشاري لعلاقات الطائفة اليهودية الأمريكي ، بنشر خطة عمل مشتركة موجهة إلى جميع يهود الولايات المتحدة لاجل دعم إسرائيل ومساندتها في غزو لبنان الذي يعتبر أمرا مشروعا وقد شملت خطة برنامج عام 1982ـ1983م التوصيات التالية :
1ـ نوصي ببرامج تفسيرية تؤكد أن مصالح أمريكا والعالم الحر سوف تشمل تناقضا داخليا قاتلا إن لم تتضمن فرضية أساسية وهي الاعتراف بإسرائيل قوية وآمنة بوصفها حيوية المصالح للولايات المتحدة ومثل هذا الاعتراف يتطلب ما يلي :
· أن تواصل الولايات المتحدة المساعدة الاقتصادية والعسكرية للدفاع عن اسرائيل بينما تتخذ خطوات ملموسة لتنفيذ التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل .
· أن تقدم الولايات المتحدة مثل تلك المساعدة على شكل قروض قد تحول إلى ما يبقى منه إلى منحه ويأخذ بعين الاعتبار حاجات الاقتصاد الإسرائيلي المجهد التي تولدت من الانسحاب من سيناء والنحو المتفجر للأسلحة على أن يتخلى العرب الذين قد يصبحون شركاء بالمصداقية عن أية نية لتدمير إسرائيل .
· توصي بأن بيع الأسلحة الأمريكية لبعض الدول العربية تؤدي إلى تحطيم أمن إسرائيل تدريجيا وأنها تغذي التطرف أكثر مما تخفف منه(/6)
وبعد هذه الضغوط وأمام هذا التحرك ونشاط اللوبي الصهيوني والمنظمات الصيهونية في الولايات المتحدة خفف الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض من حدة قرار الرئيس فقال ( ليس ثمة نتائج رسمية محددة في أن إسرائيل انتهكت شروط قانون تصدير الأسلحة عبر غزوها لبنان ) .
ثم اتخذ الموقف الرسمي الأمريكي موقفا ضد مشروع تقدمت به فرنسا لمطالبة إسرائيل بالانسحاب كامل من لبنان ، وطالب الموقف الأمريكي بإزالة الوجود الفلسطيني المسلح من بيروت وغيرها ، غير ان مجلس الأمن صوت بقرار رقم 508، و509، مطالبا إسرائيل بالانسحاب من لبنان ووقف العلميات العسكرية ، وتقدمت أسبانيا بمشروع قرار لادانة إسرائيل لعدم تطبيقها القرراين ، غير أن الولايات المتحدة استخدمت حق الفيتو ضد المشروع .
وفي عام 1983م ، قام الرئيس ريغان بمشاركة الأقلية اليهودية في عيدهم الهونوكاه ، وألقى خطابا يعتبر من أقوى البيانات تأييدا لإسرائيل ، قال فيه ( إن الروابط بين الشعب الأمريكي والإسرائيلي تنمو الآن بقوة ويجب أن لا تتقوض أبدا ، وإذا ما أجبرت إسرائيل على مغادرة الأمم المتحدة فان أمريكا ستغادرها مع إسرائيل أيضا ) .
وينبغي التأكيد على أن من الأسباب الرئيسية التي حملت ريغن على أن يكون عهده من أهم العهود التي استفاد منها يهود أمريكا لصالح إسرائيل ، هي كما عبر عنها بقوله لرئيس اللوبي الصهيوني توماس داين حيث قال ريغن ( أنت تعرف بأني ألجأ إلى أنبيائكم القدماء في العهد القديم ، وإلى العلاقات التي تكهن بـ( أرمجدون) وأجد نفسي أتساءل ما إذا كنا نحن الجيل الذي سيشهد حدوث ذلك ، وأعرف إذا كنت قد لاحظت هذه النبوءات مؤخرا ولكن صدقني ، أنها تشير إلى الوقت الذي نمر فيه ).
هذا بعض مايكشف دور يهود أمريكا في عهد الرئيس ريغن ، نقلا عن كتاب جماعات الضغط اليهودية في أربع إدارات أمريكية ، أنمار لطيف نصيف ص 174ـ 228 ، وقد أحال فيه إلى كل المصادر الأصلية .
8ـ عهد جورج بوش
مما يوضح دور يهود أمريكا في التأثير في عهد جورج بوش ، حتى أدى ذلك الدور إلى تراجع احتمالات نجاحه في فترة جديدة ، ثم فشله في الانتخابات بالفعل ، ما فعله اليهود عندما قرر بوش رفض منح ضمانات القروض بقيمة 10مليارات دولار ، للكيان الصهيوني من أجل توطين المهاجرين اليهود السوفييتي ، الذين بدءوا بالتدفق خارج روسيا بعد الفوضى التي حلت فيها إثر سقوط الاتحاد السوفيتي .
كان جورج بوش يريد أن يضغط على الكيان الصيهوني من أجل أن يمضي مشروعه الجديد بحل مشكلة الشرق الأوسط ، فرفض أن يمنح ضمانات القروض ، ليبرهن على صدق نوايا الولايات المتحدة الأمريكية في حل المشكلة الفلسطينية ، لكنه لقي ضغطا هائلا من جماعات الضغط اليهودية في أمريكا ، ولعل مؤلف كتاب القوة اليهودية ج.ج. غولدبرغ ، وصف الحادثة وصفا دقيقا ، فلندعه يتحدث في هذا الفصل عن هذا الموضوع :
( كانت القوى السياسية التي تواجه الرئيس في تلك اللحظة ، حوالي ألف وثلاثمائة قائد لمنظمات يهودية محلية على امتداد البلاد ، مجموعة من الحاخامات ومعلمي المدارس ، والمحامين ، والعمال الاجتماعيين ، ورجال الأعمال ، كانوا قد أتوا إلى واشنطن في ذلك اليوم لمناقشة ضمانات القروض مع ممثليهم المنتخبين ، وبشكل منتشر خارجا عبر قبة الكابيتول ، كان مواطنو جماعات الضغط يغطون الكونغرس برسالة انفعالية وحيدة : يجب أن لا يحتجز السبب الخير لحرية اليهود السوفييت رهينة للتقلبات السياسية في عملية سلام الشرق الأوسط .
ولكن بدا أن الكونغرس ينحاز بقوة إلى جماعات الضغط ، وكان هجوم اليوم ـ يعني هجوم بوش في مؤتمر صحفي على ما أسماه القوى السياسية الفعالة ـ ذروة حملة أربعة أشهر من الضغط سعيا وراء ضمانات القرض ، التي اكتسبت دعما كافيا لدفع مجلسي الكونغرس كليهما ، كافيا في الحقيقة ، ليس فقط لدفع الكونغرس ولكن لتهديد بوش بأول نقض للفيتو في رئاسته ، إذا اختار الإصرار على الأمر ، وبدلا عن ذلك ، كان بوش يتجاوز الكونغرس مباشرة إلى الشعب الأمريكي ، متذمرا من القوى السياسية الفعالة المنحازة ضد الفتى الصغير الوحيد في البيت الأبيض .
وكان لانفجاره تأثيره المطلوب ـ أي اتهامه للقوى السياسية الفعالة التي فهم منها أنه يعني اللوبي اليهودي في أمريكا ـ وتلاشى دعم الكونغرس لضمانات القرض بين عشية وضحاها ، ووافقت القيادة في كلا المجلسين على قرار بوش بالتأجيل أربعة أشهر ، لكن النصر الرئاسي لم يتحقق بدون ثمن .
كان جورج بوش يحرز نجاحا في بداية أيلول 1991م ، وعلى الرغم من الاقتصاد الراكد ، كان تقدير الموافقة عليه في الاستفتاء حوالي 70% بالمائة ، وهو أعلى من أي رئيس في الذاكرة عند هذه المرحلة نفسها في فترته الاولى .(/7)
وعلى صعيد العالم كان مظهر الرئيس يبدو مظهرا بطوليا ، فقد تركه انهيار الإمبراطورية السوفيتية خلال السنة والنصف الفائتة المنتصر المفترض في الحرب الباردة ، زعيم القوة العالمية الوحيدة المتبقية ، ومنذ ثمانية أشهر فقط ، كان قد قاد القوى المتحالفة للامم المتحدة في حرب منتصرة ضد الديكتاتور العراقي صدام حسين.
والان أصبح بوش مستعدا لتثبيت مكانته التاريخية بالسعي وراء الفرصة الطيبة في السياسة العالمية ، وهي حل الصراع العربي الإسرائيلي غير القابل للحل ، وقد أصبح الوقت مناسبا لذلك ، كان العرب منقسمين ومشوشين من مغامرة صدام حسين ، والاهم من ذلك أنهم لم يعد لديهم دعم الاتحاد السوفيتي في رفضهم العنيد لإسرائيل الذي دام أربعين سنة ، وآمن بوش بأنهم يمكن إقناعهم بإحلال السلام ، إذا وافقت إسرائيل على تلطيف الاتفاق بإعادة المناطق المحتلة المتنازع عليها التي استولت عليها حرب الأيام الستة في حزيران 1967م .
ولسوء الحظ كانت إسرائيل لا تتصرف بحسب الخطة الموضوعة ، وأزعج الرئيس كثيرا أن رئيس الوزراء إسحاق شامير رفض حتى مناقشة مقايضة الارض بالسلام ، وكان شامير المتشدد طول حياته ، والسيء الظن بالعرب والذي كرس نفسها لرؤيا أرض إسرائيل الكبرى ، ينفق آنذاك كل بنس ممكن من ميزانيته المشدودة الحزام لتوطين المواطنين الإسرائيليين في المناطق المتنازع عليها .
ولكن في خريف عام 1991م ، اعتقد بوش أن لديه شيئا ما يرغب فيه شامير اكثر من الأرض كان إسرائيل مستغرقة في فرار اللاجئين اليهود من فوضى الاتحاد السوفيتي ، ومع حلول عام 1995م ، كان متوقعا أن يصل التدفق إلى مليون شخص ، خمس عدد السكان الكلي الصغير ، وكانت تكاليف توطينهم خلال العقد التالي مقدرة بمبلغ 70 مليار دولا ، ضعف الناتج القومي الإسرائيلي القومي العالم ، وهكذا لم تكن إسرائيل في ذلك الوقت ، في موضع يسمح لها بمناقشة شروط بوش من أجل ضمانات القرض .
إذا فقد كان مؤتمر بوش الصحفي يوم 12 من أيلول ، بالنسبة لغالبية اليهود ، كومضة مبهرة في الليل لن تنطفىء ، وحتى غالبة اليهود الأمريكيين المستوعبين ، وأولئك الذين لا يحضرون الى الكنيس ، وأولئك الذين تزوجو بمسيحيين ويربون أولادهم كمسيحيين ، حتى هؤلاء على العموم ، كانوا يتراجعون غريزيا أمام عبارات مثل ( القوى السياسية الفعالة ) في المواعظ والخطب .
وكانت النتيجة غضبا ، واليهود لم يصوتوا مطلقا للجمهوريين ـ الاكثرية ـ ذكروا بعضهم بعضا بسبب ذلك ، كان اليهود الذين تحولوا إلى قائمة الجمهوريين خلال سنوات نكسون وريغان قد قرروا فجأة إعادة التحول ، وأكثر من كل ذلك ، بدأ يهود من كل خط سياسي ، بكتابة رسائل احتجاج إلى صحفهم ، وإلى ممثليهم ، وإلى البيت الابيض .
وقالت جاكلين ليفين ( إن 12 من أيلول سوف يسمى في التاريخ اليهودي يوم الخيانة الكبرى ، إن بيان بوش كان إظهارا مثيرا للاشمئزاز ، وإذا لم يكن غرضه معاداة السامية ، فهو قريب جدا من ذلك ) .
وقال إد ايمز ، وهو مغن من لوس أنجلس ( لقد فتح ابن الحرام ذاك عيني ) ولم يكن إيمز قد انضم مطلقا إلى منظمة يهودية من قبل ، وفي أيلول 1991م ، أرسل بالبريد أول دفعة مستحقة عليه إلى الايباك ، وأصبح عنصر ضغط متطوعا من أجل إسرائيل .
وراقب مساعدو البيت الأبيض ذلك النمو السريع برعب ن وكررت شوشانا كادرين ( رئيسة مؤتمر رؤساء المنظمات الأمريكية اليهودية الكبرى ) ومؤتمر الرؤساء الرسالة نفسها لهم : وافقوا على ضمانات القرض إذا أردتم معالجة الأمور ، ورفض بوش ، لقد كانت ضمانات القرض مرتبطة بإحكام مع عملية السلام ، ومع سياسة اسحاق شامير المتعلقة بتوطين الإسرائيليين في المناطق المتنازع عليها .
خلال إدارة بوش كانت ردود الفعل على الانفجار مختلطة ، فبعض الرسميين ، بما فيهم بوش نفسه ، كانوا قلقين ومهتمين بايجاد طريقة للقيام باصلاح ، ومادام ذلك لايضعف عملية السلام في الشرق الأوسط ، ولانه لدغ من الاتهامات بمعاداة السامية ، فقد أسرع بوش خلال رحلة جمع الموارد المالية في تشرين الثاني إلى نيويورك ، للاجتماع أخيرا مع مؤتمر الرؤساء و إقامة السلام ، ووضعت خطط لسلسلة من الإيماءات المؤيدة لليهود ، والتي ستتكشف بسرعة عن نتائج دراماتيكية ، وتاريخية تقريبا .
ففي كانون الأول كانت الجمعية العام للأمم المتحدة ستجتمع لإلغاء قراراها لعام 1975م ، الذي يعادل الصهيونية بالتمييز العنصري ، والذي توج صراعا دام عقدين مع أصدقاء إسرائيل في الكونغرس .(/8)
في 5تشرين الثاني 1991م ، بعد سبعة أسابيع من مؤتمر بوش الصحفي المشؤوم ، انطلقت أمريكا إلى صناديق الاقتراع لانتخاب فرعي سيحمل بعض المفاجآت ، كان السباق المثير للاهتمام صراعا مضمون الفوز في بنسلفانيا ، حيث كان مقعد في مجلس الشيوخ قد شغر منذ الربيع الفائت بالوفاة العرضية لجون هاينتس ، الشاب الجذاب الجمهوري المعتدل ، وكان المرشح الجمهوري الحاكم السابق المحبوب رتشارد ثورنبيرغ ، وهو معتدل وأحد أقرب المناصرين للرئيس بوش ، وكان ثورنبيرغ النائب العام لدى بوش قبل استقالته في حزيران كي يخوض الانتخابات من أجل المقعد ، وكان خصمه الديمقراطي هاريس ووفورد أستاذا جامعيا مغمورا ، وكان ثورنبيرغ متقدما بأربع وأربعين نقطة في مجموع الأصوات .
وفي 27أيلول نشرت صحيفة philadelphia inquirer النتائج المذهلة لاستفتاء جديد على امتداد الولاية ، لقد تراجع ثورنبيرغ فجأة إلى أربع وعشرين نقطة ، وكان مستمرا في الهبوط ، وبشكل لايصدق ، كان السباق الآن لصالح ووفورد .
على أي حال ، يقول المطلعون في كلتا الحملتين ، إنه كان ثمة سبب إضافي أكثر دنيوية للهزيمة غير المتوقعة ، وهو النقود ، فخلال أسبوع بعد مؤتمر 12 من أيلول الصحفي للرئيس بوش ، بدأ جامعوا الموارد المالية الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء بملاحظة تغيير واضح في التبرعات بعيدا عن ثورنبيرغ وباتجاه ووفورد ، وكانت تصنيفات لجنة الانتخابات الفدرالية أكثر دقة ، فينما أظهر تصنيف ثورنبيرغ في 16 من تشرين الأول أن جمع الموارد المالية ، حتى السنة الحالية كان ضعفي مالدى ووفورد ، عكس الديمقراطيون الاتجاه في الأسابيع الأخيرة للحملة وجمعوا نقودا بقدر ضعفي نسبة تقدم ثورنبيرغ .
كان الواهبون ذوو الألقاب اليهودية الذين جمعوا حوالي 10بالمائة من تصنيف ثورنبيرغ في 16 تشرين الاول ، غائبين كليا تقريبا من تقريره النهائي.
وبالتأكيد لم يقدم اندفاع الأموال الجديد إلى ووفورد أي رسالة جديدة ، ولكن للمرة الأولى ، كانت لدى ووفورد وسيلة كي يدلي بقصته إلى الناخبين ، وما حدث أنه على امتداد البلاد ، كان اليهود الحانقون ( وبعض المسيحيين المتعاطفين مع إسرائيل) يصبون غضبهم من جورج بوش ، على صديقه رتشارد ثورنبرغ ، وكان المستفيد غير المقصود هو البروفسور الذي سيصبح قريبا عضو مجلس الشيوخ هاريس ووفرد .
بعد خسارة الانتخابات بوقت قصير ، ذهب ثورنبيرغ المترنح لمقابلة صديقه في البيت الأبيض ومناقشة ما يعتبره ربما نزعة جديدة مع دخول البلاد سنة انتخابية جديدة ، وقد قال فيما بعد : قلت للرئيس إنه حيث نشأت في مناطق فحم بنسلفانيا ، إعتاد عمال المناجم على وضع طائر كنارى في قفص عند فتحة مدخل المنجم ، وإذا كان هناك رشح لغاز الميتان في المدخل ، فسيكون الكناري أول من يموت ، وكان ذلك إنذارا لك بوجود مشاكل قادمة ، وأخبرته سيدي الرئيس إني مثل كنارك ، لديك رشح ، وإذا لم تفعل شيئا حيال ذلك فسوف ينال منك أيضا ) .
طبعا ، سار ثورنبيرغ بالإشارة إلى الدعم اليهودي الذي كان باديا في حملة إعادة انتخابات بوش خلال ذلك الخريف من عام 1991م ، كانت البلاد قد ملت من حكم الجمهوريين بعد إحدى عشرة سنة متواصلة .
كلا لم يكن المجتمع اليهودي الذي يؤلف 7، 4 بالمائة من سكان بنسلفانيا ، هو القوة السياسية المسيطرة في الولاية خلال ذلك الخريف ، بل كان واحدا من عدة قوى.
لكن اليهود كانوا قوة سياسية فعالة بصورة لاتقبل الجدل ، ولم يكن جورج بوش مخطئا في إيمانه بذلك حين عقد مؤتمره الصحفي يوم 12أيلول ، كان خطيئة بوش أنه قال ذلك بصوت عال )) انتهى بتصرف واختصار من كتاب القوة اليهودية داخل المؤسسة اليهودية الأمريكية من ص 11إلى 22
9ـ عهد كلنتون
الثماني التي قضاها في البيت الابيض ، ولا أذهب بعيدا إذا قلت أنه منذ عهد ترومان وتعهده بحماية إسرائيل ودعمها اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا ، لم تقدم الإدارات الامريكية المتعاقبة مثل ما قدمته إدارة كلنتون 0(/9)
وجدير بالملاحظة أن الإدارات السابقة ، كانت تدعم الكيان الصهيوني محتجة باضطرارها لإحتواء نفوذ الاتحاد السوفيتي ، الذي بدأ يجد لها موطأ قدم في الدول العربية لم يحظ الكيان الصيهوني برعاية أكثر عطاء وحنانا من إدارة كلنتون طوال السنوات ، ولتحجيم الراديكالية العربية الآخذة في الاتساع آنذاك ، ومنعها من السيطرة على البترول العربي الذي يعد المصدر الحيوي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية ، لكن كلنتون دخل البيت الابيض في يناير 1993م ، ولم يعد ثمة اتحاد سوفيتي ، ولا راديكالية عربية ، وما يسمى بالأصولية الإسلامية التي ابتدعوا منها تهديدا جديدا لمصالح الغرب في الشرق الأوسط ، ليست سوى جماعات متفرقة صغيرة لاتملك من أمرها شيئا ، والأنظمة المحلية كفيلة إبقاءها في حالتها الراهنة ، بعبارة أخرى ليس ثمة خوف على مصالح الولايات المتحدة من شيء ، ومع ذلك فقد تجاوزت إدارة كلنتون كل الخطوط ، وألقت بنفسها بلا استحياء في أحضان الكيان الصيهوني ، حتى إنها تحللت من بعض التحفظات التي التزمتما إدارة بوش الأب ، بعد صيغة مدريد التي أسست على أن الارض مقابل السلام ، انسحاب من الأرض المحتلة سنة 67م ، مقابل سلام من العرب 0
بوش الأب الذي أطلقت في عهده هذه الصيغة ، قد اشترط على إسرائيل عند منحها ضمانات قروض بعشرة بلايين دولار لتموين استيعاب المهاجرين ، أن لاتستعمل خارج نطاق حدود 1967م ، وهددت إدارته بخصم أي مبلغ يتجاوز هذا الشرط من الضمانات ، لكن لما جاءت إدارة كلنتون تحللت من ذلك كله 0
وحشدت إدارة كلنتون أكبر عدد من اليهود في مراكز حساسة في مجلس الأمن القومي والاستخبارات ووزارة الخارجية والدفاع ، والعجب أن يتم منح أحدهم الجنسية الأمريكية وبعد 48 ساعة فقط يعين في مجلس الأمن القومي ، ثم يصبح سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل ، مع اتهامه بتسريب معلومات سرية تتعلق بمفاوضات سرية عن لقاءات أمريكية مع بعض القادة العرب !!!0
كماجاهدت إدارة كلنتون من أجل أن يحصل الكيان الصيهوني على علاقات مع ستين دولة كانت قد قاطعته حتى يمنح الفلسطينين حقوقهم كاملة ، وقد استغلت الادارة مفاوضات السلام التي سميت انقلاب أوسلو، كورقة ضغط على تلك الدول ، تلك المفاوضات التي تبين بعد ذلك أن الكيان الصهيوني لم يدخلها إلا بنية استغلالها بمكر وخبث أطول وقت ممكن وقد فعل 0
كما لم يتردد سفير أمريكا في الأمم المتحدة ( ريتشارد هولبرك ) في الإعلان عن عزمه الضغط على دول المجموعة الأوربية لكي تضم الكيان الصهيوني مما يمكنه من فرص الحصول على مناصب هامة في الأمم المتحدة ووكالاتها حتى الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الامم رغم أنه دولة احتلال في قرارات الأمم المتحدة 0
وأوفدت إدارة كلنتون أحد وزرائها لجامعة الدول العربية للمطالبة رسميا بإلغاء المقاطعة الاقتصادية العربية ، مع أن المفاوضات لم تنته بعد ولم تسفر عن حصول الفلسطينيين على أي حق من حقوقهم ، وسارعت إدارته بمطالبة الحكومة المصرية بإرجاع سفيرها الى الكيان الصيهوني لما سحبته مصر احتجاجا على القمع البشع والوحشي الذي يفعله الجنود اليهود في الأطفال الفلسطينيين ، وبلغت المعونات العسكرية الأمريكية للكيان الصيهوني مستويات غير مسبوقة رغم اعلان الدول العربية ـ وللأسف ـ أن السلام خيار استراتيجي مع الكيان الصهيوني المتفوق نوويا وعسكريا على كل الدول العربية مجتمعة0
ويجدر بنا أن ننقل هنا مقتطفات من البحث الذي قدمه (بول فندلي) للحملة الدولية من أجل القدس ، في 15فبراير 1996م ، في ندوة بعنوان ( وضع نهائي أم لعبة نهائية ؟ المباحثات القادمة بشأن القدس ) ، فقد ذكر حقائق تعد وثيقة مهمة تبين أثر يهود أمريكا على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية لاسيما السياسة الخارجية ، خاصة وهو يتحدث في حقبة الرئيس كلنتون ، قال بول فندلي :
(( لماذا إذن تلعب القوة العظمى الوحيدة في العالم ، والتي تتغنى في أقوالها الرسمية بالمدح والثناء على الأمور المتعلقة بحكم القانون الدولي ، تلعب دور الأسد الجبان فيما يخص قضية القدس ؟ السبب واضح ، وهو : إن ما يملي سياسة أمريكا في هذه المسألة هو العوامل الداخلية ، وليست العوامل الخارجية ، فالسيطرة المحكمة وإن كانت تجري في هدوء هي في أيدي قوة ضغط محلية حسنة التنظيم والتمويل ، ملتزمة التزاما عاطفيا نحو إسرائيل ، وهكذا فإن أعضاء الكونغرس وكل الشخصيات الرئيسية في الأجهزة التنفيذية يقفزون طوعا ، تماما كما تقفز كلاب البودل الذكية المدربة ، داخل أي طوق يقدمه إليهم أنصار إسرائيل المتعصبون .(/10)
كثير من الأمريكيين يعانون من رؤية الإنفاق غير الواضحة التي تحجب الجانب غير المرغوب من الشارع الإسرائيلي ، وكأنه أمر عديم القيمة ، وفي كثير من الأحيان يكون ذلك ناتجا عن التعصب الديني للمسيحيين الأصوليين في أمريكا البالغ عددهم حوالي أربعين مليونا ، والذين يعتقدون بأن إسرائيل تحتل دورا مهما في الخطة الإلهية ، وحيث إنهم مقتنعون أن إسرائيل هي الوريث الشرعي للأرض التي أعطيت للإسرائيليين في العصور القديمة ، فإنهم يطلبون إلى الولايات المتحدة أن تبقى إسرائيل قوية حتى يحين موعد المعركة التي طال انتظارها في سهل هر مجدون ، حيث سيتم خلاص المسيحيين الأصوليين ، كما يعتقدون ، ثم يتحول جميع من يتبقى من اليهود حالا إلى اعتناق النصرانية أو يهلكون ، إن هذه الكتلة من الرأي الأمريكي في خارج نطاق المنطق أو العقل حينما يصل الأمر إلى بحث موضوع إسرائيل والقدس ، فعقولهم كما يظهر تكون مقفلة تماما بالنسبة لهذه القضية .
أما التيار العالم من المسيحيين فيتم التأثير فيه بطريقة أكثر فعالية فالتراتيل التي يغنونها والآيات التي يتلونها من الإنجيل تكون عادة مليئة بالتمجيد لإسرائيل والقدس ، وتربط من غير وعي بين الاثنين في عقول الناس ، أما في المنازل فإنهم يتعرضون لوجبة إعلامية مبرمجة بغرض جعل الفكرة التي عفا عليها الزمن أبدية ، وهي أن اليهود شعب مضطهد ، ولكنها لاتصور اليهود فقط كشعب يمارس الاضطهاد على الآخرين .
وبصرف النظر عن المسيحيين الأصوليين ، فإن القوى المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة هي قليلة العدد نسبيا ، ولكنهم يتمتعون بنفوذ يتغلغل عمقا واتساعا ، وكما هو الحال بالنسبة لاتباع الديانات الأخرى ، فإن اليهود الأمريكيين يميلون إلى الجانب الدفاعي بشأن ديانتهم وأماكنهم المقدسة ، كما أن كثيرا منهم يعتقدون أن امتلاكهم للقدس وغيرها من مناطق فلسطين هو حقهم الالهي المقدس ، وفي الحقيقة فإن عددا من الأصدقاء اليهود قد أوضحوا لي أن إسرائيل ، وليست اليهودية ، قد أصبحت دين غالبية يهود أمريكا وبخاصة اليهود العلمانيين .
عبر وسائل الضغط ذات الكفاءة العالية ، يبقى يهود أمريكا مسيطرين سيطرة محكمة على الكونغرس وعلى الأجهزة التنفيذية وغيرهما من الجهات الحكومية ، فهم يمارسون تأثيرا يتسم بالتخويف والمراقبة الحثيثة في جميع قطاعات الإعلام تقريبا ، وفي كثير من المجالات الأخرى التي تتعلق بالمجتمع كله على الصعيد الأمثل .
وكما أوضح الراحل جورج بول نائب وزير الخارجية السابق في ملاحظته له قائلا : إن أقوى أدوات التخويف التي يستخدمها اللوبي الإسرائيلي هي التهمة الطائشة بمعاداة السامية .
إن العوامل التي رسمنا ملامحها ستساعد على تفسير الحقائق المحزنة التالية :
1ـ قلة من الأمريكيين يعترفون بالحقيقة الموثقة توثيقا كاملا وهي أن إسرائيل من بين أسوأ منتهكي القانون على المسرح الدولي
2ـ قلة من الأمريكيين هم الذين يعترفون بمسؤولية حكومتهم عن الانتهاكات الإسرائيلية
3ـ يتقبل الشعب الأمريكي كحقيقة مسلم بها مع همهمة نادرة الحدوث تدل على عدم الموافقة ، المقولة الخرافية بأن إسرائيل مخولة ولها الحق في أن تكون القدس بكاملها عاصمة لها .
وبموجب الشروط الواردة في قرار الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم بليوني دولار سنويا كضمانات قروض ، وافقت إسرائيل على عدم استخدام أي من هذه الأموال في بناء مستوطنات يهودية في الأراضي المحتلة بما فيها القدس ، وقد اشترط التشريع الخاص بذلك أنه في حال حدوث انتهاك للاتفاق فإن القروض ستحسم بمعدل دولار مقابل دولار لاخلالها بهذا الشرط ، وبدلا من توبيخ اسرائيل ومعاقبتها ، قام كلنتون فعليا بالتخلي عن القانون ، وذلك بتسليمه اسرائيل شيكا بمبلغ 300مليون دولار كمساعدات ، تعويضا عن التخفيض في قيمة القرض ، ومع ذلك لم يثر هذا التذلل الرئاسي للدولة الخارجة عن القانون أي احتجاج من الكونغرس بل مر مرور الكرام ، كما أنه لم يحظ إلا بتغطية إعلامية ضئيلة ))(/11)
وقال بول فندلي أيضا عن قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في عهد كلنتون ، قال ( لم ترتفع سوى احتجاجات واهية عندما صوت أعضاء الكونغرس بالإجماع تقريبا في تشرين أول أكتوبر لنقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس في مدة لا تتعدى عام 1999م ، وصل مشروع نقل السفارة الى مجلس النواب تحت ظروف استثنائية ، لم يناقش المشروع ضمن اللجنة المختصة ، بل ولم ينظر في أمر عرضه للنقاش ، لقد أوقف العمل بجميع القواعد المتبعة في المجلس ، وفي مخالفة لاتفاقية معمول بها منذ مدة طويلة ، لم تستشر الاقلية التي عارضت المشروع عندما حددت زعامة المجلس مدة أربعين دقيقة ، واستبعدت إمكانية إجراء أية تعديلات عليه ، لماذا تلك العجلة ؟ ببساطة كان ذلك حالة من التذلل الفاضح أمام المصالح الداخلية في تأييد اسرائيل ، وحسبما جاء في تفسير عضو الكونغرس هاملتون وهو أحد أكثر أعضاء المجلس تفكيرا واطلاعا : (( فإن الاعضاء الرئيسيين الذين تبنوا المشروع يريدون ببساطة أن يقدموه لرئيس وزراء اسرائيل وعمدة القدس عندما يحضرون الاحتفال الذي سيقام لهما في اليوم التالي تحت قبة مجلس الكونغرس )).
ولعل في هذا كفاية ، وهذه المعلومات التي قدمها بول فندلي ، أدلة دامغة على مدى التأثير اليهودي في الادراة الأمريكية وأنه وصل إلى حد توجيه دفة السياسة الامريكية إلى حيث توجد مصالح الكيان الصهيوني ، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح القومية للولايات المتحدة الأمريكية .
الفصل الثالث
المنظمات اليهودية
رغم كون اليهود أقلية في أمريكا ، غير انهم أكثر الاقليات تنظيما ، وقد استطاع اليهود أن ينشروا في الولايات المتحدة الأمريكية عددا لا يحصى من المعابد ، ومراكز الشباب ، ومنظمات تمويل ، ومجموعات ثقافية وتعليمية ، ووكالات للعلاقات الطائفية ، وهيئات خيرية ، وأغلبها علماني ، ولكنها تستند إلى أساس اجتماعي وعرقي لليهود.
ويمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام :
1ـ منظمات طائفية
2ـ منظمات صهيونية
3ـ منظمات ذات توجه خاص
4ـ منظمات تمويل
5ـ اللوبي المناصر لإسرائيل
وهذه نبذة مختصرة عن كل قسم من هذه الأقسام :
1ـ المنظمات الطائفية : وهي نوعان
النوع الأول : منظمات دفاعية
النوع الثاني : اتحادات يهودية
أما النوع الأول ، وهي المنظمات الدفاعية ، فبعد الحرب العالمية الثانية ، تم توسيع عمل هذه المنظمات وأسقطت كلمة دفاعية ، وأعادت تعريف نفسها بأنها وكالات علاقات الطائفة وانصبت اهتماماتها على العلاقات بين المجموعات والحقوق المدنية والحرية الدينية والفصل بين الكنيسة والدولة وأحوال اليهود في العالم والعمل لدعم إسرائيل ، وتتمثل المنظمات الدفاعية في اللجنة اليهودية الأمريكية والكونغرس اليهودي الأمريكي وعصبة مناهضة الافتراء التابعة لـ(بناي بيرث) .
وأما النوع الثاني : فهي وكالات محلية مسؤولة عن التمويل والتخطيط ويتم التنسيق بين هذه ا لاتحادات بواسطة منظمتين مظليتين هما :
المجلس الاستشاري لعلاقات الطائفة اليهودية القومية
مجلس الاتحادات اليهودية
وأما أهم المنظمات الطائفية بنوعيها السابقين في الولايات المتحدة الأمريكية فهي:
1ـ مجلس الاتحادات اليهودية
2ـ المجلس الاستشاري لعلاقات الطائفة اليهودية القومية ،وينتظم تحته 11منظمة قومية ، و111منظمة محلية .
3ـ اللجنة اليهودية الأمريكية ( وهي منظمة نخبة ) وينتظم تحتها 23مكتب تنظيم ، و80 فرع ، وهي تقوم بتتبع مستمر للمواقف الأمريكية العامة من اليهود وإسرائيل ، وإعداد المذكرات والنشرات المتعلقة بتفسير مواقف إسرائيل لصانعي السياسة الأمريكية ورؤساء الأعمال والكنيسة والعمال والعاملين .
4ـ الكونغرس اليهودي الأمريكي
5ـ عصبة مناهضة الافتراء التابعة لـ(بناي بيرث ) أي أبناء العهد ، وقد تأسست عام 1843، ولها فروع في 42دولة ولها في أمريكا 50فرعا ، واهتمامها ينصب على العلاقات اليهودية المسيحية ، واهتمت مؤخرا بالعلاقات بين اليهود والسود ، وقد اكتسبت شرعيتها الأدبية ومكانتها المرموقة إلى الحد الذي دفع الرئيس ريغان إلى وضع قرار مشترك في الكونغرس يعلن فيه أن 12/11 هو يوم عصبة مناهضة الافتراء .
2ـ المنظمات الصيهونية :
وطبقا للتعريف المعاصر للصهيونية الذي ورد عام 1968م ، عن المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين بالقدس ، فإن أهداف الصهيونية المعاصرة التي تتمسك بها المنظمات الصهيونية هي :
· وحدة الشعب اليهودي ومركزية إسرائيل في الحياة اليهودية .
· تجميع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي أرض إسرائيل عن طريق الهجرة.
· المحافظة على هوية الشعب اليهودي بتنمية التعليم اليهودي والعبراني والقيم الروحية والثقافية .
· حماية الحقوق اليهودية في كل مكان .
وبناء على هذا فالمنظمات الصهيونية الأمريكية تشجع الهجرة ، وتعليم العبرية وترعى النشاطات السياسية والثقافية المناصرة لإسرائيل .
وهي تضم المنظمات التالية :
1ـ الوكالة اليهودية لإسرائيل(/12)
2ـ المنظمة الصهيونية العالمية
3ـ الاتحاد الصهيوني الأمريكي
4ـ منظمة هداسا وتعني الريحان
5ـ المنظمة الصيهونية في أمريكا
6ـ رابطة الصهيونيين الإصلاحيين
3ـ المنظمات ذات التوجه الخاص :
وتضم المنظمات التالية :
1ـ عصبة الصداقة الإسرائيلية الأمريكية
2ـ مؤسسة الشباب للسلام في الشرق الأوسط
3ـ اللجنة القومية للعمال في إسرائيل وهي منظمة مظلية لمجموعات العمال الأمريكيين
4ـ مجلس اتحاد العمال الأمريكيين
5ـ الامريكيون من أجل إسرائيل آمنة
6ـ المجلس القومي لإسرائيل الفتاة
4ـ منظمات التمويل :
وتعتبر جباية الأموال من اليهود الأمريكيين جيدة التنظيم وتقدر بنحو بليون دولار سنويا ، وتشمل فئتين من المنظمات :
أـ فئة تجمع الأموال من المساهمات المعفاة من الضرائب :
· النداء اليهودي المستجد
· النداء الإسرائيلي
· لجنة التوزيع المشترك اليهودية الأمريكية
· الصندوق القومي اليهودي في أمريكا
· صندوق قضية إسرائيل
· صندوق إسرائيل الجديد
ب ـ فئة تجتذب الاستثمارات العالمية إلى إسرائيل وتضع الأموال تحت تصرف الحكومة الإسرائيلية كي تقترضها بشروط ملائمة ، وهي :
· منظمة سندات دولة إسرائيل
· الشركة الاقتصادية الإسرائيلية
· الشركة الأمريكية الإسرائيلية
5ـ اللوبي المناصر لإسرائيل :
يضم اللوبي المناصر لإسرائيل المنظمات التالية :
· اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة ( إيباك ).
· لجان العمل السياسي المناصر لإسرائيل .
· مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى .
· المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي.
وتعد ( إيباك ) المنظمة الوحيدة المسجلة رسميا في الكونغرس الأمريكي على هيئة لوبي فيما يختص بالتشريعات التي تمس إسرائيل ، وهي غير معفاة من الضرائب ، ولاتقبل أي تمويل من الحكومة الإسرائيلية حتى لاتسجل في وزارة العدل الأمريكية على أنها وكالة أجنبية ، ويشغل منصب رئيسها عادة رجل ثري وذو نفوذ ويتمتع باحترام المؤسسة اليهودية الأمريكية وينتمي إليها .
المصدر موسوعة العلوم السياسية طبع جامعة الكويت .
الخاتمة
بعد هذه الجولة في تاريخ يهود أمريكا ودورهم في تأييد الكيان الصهيوني ومدى تأثيرهم على رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وعلى الادراة الأمريكية ، وأهم منظماتهم النشطة في أمريكا ، نستخلص أن الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية يرجع إلى الستة ملايين يهودي الذين يشغلون مناصب مهمة في مؤسسات المال والأعمال والإعلام والبنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس ، وهي جالية قليلة العدد ، لكنها جيدة التنظيم ، مثقفة في مجال السياسة الخارجية ، وثرية .
كما يرجع إلى أن الرأي العام الأمريكي بنفسه قد تشبع باعتقادات مردها إلى العقيدة البروتستانتية والتي تملي عليه الإيمان بضرورة حماية الكيان الصهيوني لان ذلك علامة على قرب ظهور المسيح عليه السلام.
وإلى أن يهود أمريكا استطاعوا ربط مصير الكيان الصهيوني بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك بوضع الكيان الصهيوني في موضع الدفاع عن مصالح أمريكا في الشرق الأوسط ، والوقوف في وجه الخطر الإسلامي الأصولي .
وبهذا الولاء الحميم بين اليهود والصليبيين ، تتحد مواقف الولايات المتحدة الأمريكية مع الكيان الصهيوني ضد مصالح الأمة الإسلامية ، وبه تنتهك حرماتها وكرامتها ، وتستباح دماء أبناءها ، وتغتصب أرضها ، وتسلب حقوقها ، وصدق الله العظيم إذ قال ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لايهدي القوم الظالمين ) المائدة 51 والحمد لله رب العالمين والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل .(/13)
اليهود في القرآن
عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله العليم الخبير، فصَّل لنا سبحانه في الكتاب كل كبير وصغير، أحمده سبحانه وأشكره على عطائه الوفير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم النقير والقطمير، وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى الأمين صلى الله وعلى آله وصحبه ومن سار على النهج إلى يوم الدين. أمابعد:
فاتقوا الله عباد الله فهي أساس البصيرة في الدنيا والدين يقول ربكم جل وعلا: { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأنفال:29].
معاشر من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً إن من فضل الله علينا وعليكم وعلى أمة الإسلام أجمعين أن أنزل لنا هذا الكتاب المبارك -القرآن- فيه حل لكل مشكلاتنا وفيه إخبار لنا بكل ما يسعدنا ويشقينا كتاب كامل عجيب، كيف لا وهو كلام الرب الصانع لهذا الكون العليم بكل خفاياه ودقائقه والذي يقول فيه سبحانه واصفاً له: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام:38].
وما ذلت أمة الإسلام وما تخبطت هذا التخبط وما ضاعت في صحراء هذا التيه إلا يوم أن وضعت كتاب ربها وراء ظهرها وأخذت تبحث لها عن منهج ودستور عند الآخرين فصدق عليها قول رب العالمين:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [طه:124].
أمة القرآن، ومن القضايا التي فصل لنا فيها تفصيلاً كثيراً ووضحها لنا بجلاء لعظم خطرها، قضية هذه الطائفة النجسة المجرمة، طائفة اليهود ثم إخوانهم من النصارى، و شرع لنا من حكمته جل شأنه أن نتعوذ في كل ركعة من صلاتنا من طريق اليهود والنصارى: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }.
وذلك حتى تظل قضية تميز العبد المسلم عن هاتين الطائفتين المنحرفتين حاضرة في ذهنه، فيظل متيقظ الحس لمكرهما، حذراً من كيدهما. ومن عرف اليهود على حقيقتهم التي جاء بها الكتاب وجاءت بها السنة، لم يفاجأ بما حدث ويحدث منهم خلال الأيام الماضية مع إخواننا في فلسطين، اليهود قوم أهل كذب وافتراء يجري الكذب في دمائهم ويتردد مع أنفاسهم ومن خستهم وحقارتهم أنهم كذبوا على خالقهم كذبوا على رب العالمين جل جلاله نسبوا للواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد الولد أخبرنا الله عن ذلك بقوله: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [التوبة:30] ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكيف تثق أمة القرآن في وعودهم أو في كلامهم؟ اليهود وصفوا ربهم بأوصاف قبيحة قذرة، يتعفف العبد أن يصف بها عبد مثله!
واستمعوا لذلك يخبركم به رب العالمين: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [المائدة:64].
وصفوا الله الذي بيده خزائن السموات والأرض سبحانه بالفقر، ونسبوا الغنى لأنفسهم، فردّ الله عليهم قولهم في الكتاب بقوله: { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [آل عمران:181].
فأمة تطاولت على رب العالمين بهذه الفرية القبيحة، أنتعجّب من تطاولها على بشر من البشر؟ اليهود كذبوا كذبة وافتروا فرية وصدّقوها وروجوا لها في العالم، فرد الله عليهم فريتهم ودحضها في كتابه يوم أن قال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة:18].(/1)
اليهود قتلة، سفّاكون للدماء، فما يتعجب المرء مما يعملوه في إخواننا اليوم، فهم قد تجرؤا وسفكوا دماء أنبيائهم، فهل يتورّعون عن قتل المسلمين؟ فقد قتلوا عدداً من الأنبياء وحاولوا قتل عيسى بن مريم فنجاه الله من كيدهم: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } [النساء:157].
أرأيتم يا أمة الإسلام، لم يكتفوا بمحاولة القتل بل أخذوا يتفاخرون بعملهم الإجرامي وهم قد قتلوا شبيهاً له، وقد حاولوا نفس المحاولة مع نبينا صلى الله عليه وسلم، يوم أن جاءته اليهودية بكتف الشاة المسمومة، فحفظه الله من مكرهم وكيدهم، وهاهم اليوم يقتلون إخواننا في فلسطين.
ووالله الذي لا إله إلا هو لو قدروا على أن يقتلوا أمة الإسلام بأكملها لفعلوا وما توانوا في ذلك !
اليهود قوم خونة لا يوفون بعهد ولا ميثاق فهم لم يوفوا بعهودهم مع ربهم، وقد بيّن الله لنا ذلك في أكثر من موضع من كتابه، وأن ما نزل بهم من عقوبات كان بسبب نقضهم للعهود { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء:155].
اليهود تجرءوا على كتاب ربهم فحرّفوه وبدلوه عن علم { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } [المائدة:13].
{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء:46].
فقوم هذه حالهم حرفوا كتاب ربهم ألا يحرفون عهودهم ومواثيقهم مع عباده؟ اليهود قوم أهل إفساد في الأرض، يشعلون الحروب ليشغلوا البشرية بها عن كشف حقيقتهم.
وصفهم الله بذلك بقوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [المائدة:64].
اليهود قوم جبناء لا يستطيعون المواجهة المباشرة، وإنما يتترسون خلف حصونهم وأسلحتهم ولا يستطيعون المواجهة طويلة الأمد.
وصفهم لنا ربنا في كتابه بقوله: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ .. } [البقرة:96].
وبقوله جل شأنه: { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } [الحشر:14].
اليهود قوم متفرّقون مهما بدا للبادي أنهم صف واحد؛ أخبرنا بذلك العليم الخبير بقوله: { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ }.
وبقوله:{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [المائدة:64].
اليهود صدوا عن سبيل الله وأكلوا الربا الذي حرمه الله فاستحقوا العقوبة.
يقول الله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء:160-161].
يهود تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعنهم الله في كتابه على لسان أنبيائه فقال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ.كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ .تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [ المائدة:78-80].
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [المائدة:82].
الخطبة الثانية(/2)
الحمد لله ولي المتقين وناصر المظلومين ومجيب دعوة المضطرين، أحمده سبحانه وأشكره وعد بنصر عباده المؤمنين ولو بعد حين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، النبي المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على النهج إلى يوم الدين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وثقوا بنصر ربكم لأمة الإسلام، وأنه قريب متى ما عادت هذه الأمة إلى ربها تلكم سنة ربانية قررها الله في كتابه يوم أن قال: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:214].
وبقوله: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف:110].
وبقوله: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا } [الشرح:5-6].
ولكن لا بد من أن يكون لنا دور عملي في القضية؛ لا بد أن نشرح لأبنائنا ونعلمهم من هم اليهود من خلال الكتاب والسنة حتى لا تميل أنفسهم إليهم في يوم من الأيام، وينبغي أن نعلمهم أنهم لا يمكن أن يتغيروا مهما تغير الزمان والظروف؛ فيهود اليوم هم نسخة من يهود الأمس، ولذلك فصل الله لنا أمرهم في الكتاب الخالد، ثم نبعد أبناءنا عن نقط التناقض بين ما يعتقدونه وما يقرؤونه في كتاب ربهم وبين واقعهم العملي، فنقول لهم كيف تقولون في كل ركعة { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم.صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } ، وأنتم تحملون في رؤوسكم بعض الأفكار التي يروّجون لها، وعلى رؤوسكم قصات شعر تتشبهون بهم، وعلى أجسادكم ملابس تحاكي ملابسهم، وفي بطونكم من إنتاجهم، وهكذا..، أليس هذا من التناقض العجيب..؟(/3)
اليهود ونابليون
د. محمد بن إبراهيم أبا الخيل أستاذ المسعاعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 18/5/1423
28/07/2002
إن التذكير باتصال اليهود بنابليون ذو أهمية بالغة في السنوات الأخيرة ، إذ أننا ـ منذ فترة ـ نرى كتابات ممن يُسمون بالمستنيرين تُبعث من جديد ، ويروج لها بين المسلمين ، وكما هو معلوم أنها تحوي ـ فيما تحويه ـ تمجيداً لحملة نابليون على مصر بصفتها ـ كما يزعمون ـ السبب الأكبر في انبعاث نهضتنا الحديثة . فنابليون عند هؤلاء ـ تصريحاً أو تلميحاً ـ هو الذي انهض الشرق بعد طول رقاد . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإننا نعيش في زمن أفصح فيه النصارى ـ ممثلين بكنيسة روما ـ واليهود في فلسطين المحتلة عن تعاونهم بشكل مكشوف بتوقيع اتفاقية رسمية نشرت أمام أنظار العالم قبل سنوات ، و عدها وزير الخارجية اليهودي حينها أكبر إنجاز لدولة إسرائيل منذ قيامها. ونحن نعلم أن الولاية بين اليهود و النصارى و التناصر فيما بينهم و تعاونهم ضد الأمة المسلمة سنة ربانية لا تتغير بمرور السنين ، ولا تتبدل بتوالي الأيام ، وإن كانت تخبو في فترات ، وتتجلى كالشمس في فترات أخرى . قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ....الآية)(1)
فالتعاون بين المغضوب عليهم والضالين ـ سواء المعلن عنه أو المستتر ـ لضرب الإسلام وأهله له شواهده السافرة عبر تاريخنا الإسلامي الطويل .، منها ما حصل أيام الحملة الفرنسية على مصر .
لقد تعود اليهود ـ على مدى تاريخهم ـ على استغلال الأحداث ، و عطفها لصالحهم ، و ليس كما يقال إنهم ـ دوماً ـ هم الذين يصنعون الأحداث ، و يخططون لها ، فهم ـ مثلاً ـ استفادوا من الثورة الفرنسية ، ووظفوها لرفع كاهل الاستعباد عنهم الذي طالما أرهقهم عسراً . فشعار الحرية والمساواة والإخاء الذي رفعه المتظاهرون الفرنسيون خدم اليهود بالذات ، فأصبح لهذا الشعار مفهوم خاص عندهم جدوا في تعميمه . فالحرية استغلوها في كسر التقاليد ، ونبذ الأخلاق ، و الخروج عن المعهود من الحشمة و الحياء . أما المساواة والإخاء فنظروا إليها على أنها وسيلة لهم للتسرب إلى أجهزة الدولة ومرافقها المختلفة ، ثم التساوي مع غيرهم في العلم بها ، ومن ثم تخلصهم من سبة الاحتقار و موجة الازدراء التي كانت تلاحقهم أينما حلوا في هذه المعمورة .(2)
ولقد كان مفكرو اليهود أيام الثورة الفرنسية و بُعَيْدها يتناقلون الأحاديث فيما بينهم عن مستقبل بني جلدتهم ، ويتداولون الأراء و المشروعات حول عودتهم إلى الأرض التي اعتقدوا أن أنبياءهم بشروهم بالعودة إليها ، مثال ذلك ما عرضه بهذا الشأن البرنس دي لينيه في سنة 1212هـ (1797م ) على إمبراطور النمسا .(3)
ثم إنه لما نزل نابليون سواحل مصر في محرم 1213هـ ( يوليو 1798) واتجه صوب بلاد الشام لاحتلالها في شهر رمضان من السنة نفسها ( فبراير 1799) (4) أطل اليهود برؤوسهم وسعوا لاستثمار هذا التحرك الفرنسي لصالحهم . ففي ( 17 فبراير 1799) عرض توماس كوربت الضابط في الجيش الفرنسي على عضو حكومة نابليون المسيو بول باراراس Paul Bararas مشروعاً يقترح فيه الاستفادة من اليهود في تحركات نابليون في بلاد الشام ، فدعاه ـ في ذلك المشروع ـ إلى أن يتصل بكبار اليهود ، ويثير في نفوسهم تحقيق تلك الأمنية التي ما برحوا يأملون تحقيقها ألا وهي اجتماع شتاتهم في فلسطين ، ومن ثم يطلب منهم جمع الأموال لا بتياع الأراضي هناك من فرنسا ، فضلاً عن تجهيز المراكب البحرية ، و التدريب العسكري للشباب اليهود للاشتراك في حروب نابليون الشامية ، ثم يعود كوربت مرة أخرى في خطابهِ الذي يحمل تفاصيل المشروع إلى باراراس ـ ليؤكد أهمية الاستعانة باليهود في مخططات نابليون في الشرق ، إذ يرى أن مصالح فرنسا تتفق تماماً مع مصالح اليهود في المنطقة ، فأموال اليهود ـ حسب قوله ـ ستنشط التجارة بين أوربا وآسيا ، كما أن اليهود أنفسهم سيوفرون لفرنسا عنصراً بشرياً موالياً يرسخ استعمارها لمصر وبلاد الشام ، لأنه ليس من المعقول أن يهاجر الفرنسيون إلى تلك البلاد البعيدة و يُخلون وطنهم الأصلي ( فرنسا ) ، بل أنه أشار إلى أن اليهود سيقدمون أهم الضمانات لبث الفوضى وإشعال الفتن في إمبراطورية العثمانيين .(5)(/1)
بادر باراراس بإيصال مشروع كوربت إلى نابليون الذي استصوب الفكرة ، واستعان بعلماء يهود مثل فنتور أستاذ اللغات الشرقية بجامعة باريس و المتبحر باللغة العبرية الذي صاغ نداءً إلى اليهود استوحاه من مقترحات كوربت ، فأشار فيه إلى أن فرنسا رغم الصعوبات التي تواجهها فهي بحكم رسالتها لدفع الظلم عن الشعوب فإنها مصممة على تقديم مهد إسرائيل لليهود . ومما جاء في هذا النداء : " .. يا ورثة فلسطين الشرعيين إن فرنسا تناديكم الآن للعمل على إعادة إحتلال وطنكم ، و استرجاع ما فقد منكم ... أسرعوا فإن هذه اللحظة لن تعوض قبل آلاف السنين للمطالبة باسترجاع حقوقكم المدنية بين شعوب العالم ... "(6)
وقد أُعلن هذا النداء في الجريدة الرسمية الفرنسية يوم 20 أبريل سنة 1799م(7) .و يصادف ذلك محاصرة نابليون لمدينة عكا التي كان قد بدأ بحصارها في 16 مارس(8). وفي هذا إثبات بأن حكومة نابليون آنذاك قد اقتنعت بما عُرض عليها في شأن اليهود، وشرعت ـ فعلاً ـ في التعامل معهم على أساس منحهم الأرض التي ما فتئوا يتطلعون إليها لإقامة دولة لهم عليها في فلسطين ،خصوصاً وأن ذلك يتضمن تطابقاً في مصالح الطرفين ، واتفاقاً في وجهات النظر إزاء المسلمين بتمزيق دولتهم الامبراطورية العثمانية ، وبث بذور الشقاق في أرجائها، بل والعمل على تحطيم الولاء و البراء في وسط المسلمين .(9)
وصفوة القول إن ما تم من خطوات تعاونية بين نابليون واليهود فهو تجسيد لتلك السنة الخالدة في ولاء اليهود والنصارى لبعضهم بعضاً . ومهما قيل عن نابليون بأنه لا يعتقد بدين ، أو إنه عدو للأديان بما فيها الدين النصراني ، فالسنة الربانية تنطبق عليه ، لأنه ليس هو الوحيد حينذاك الذي يدبر شئون فرنسا ، أليس الشعب الفرنسي جله من النصارى ؟ ناهيك عن كون الكفار عامة من يهود و نصارى و ملحدين من عادتهم الاجتماع على حرب المسلمين (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ....الآية )(10) ، (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ..الآية )(11) .
(1)- سورة المائدة ، آية 51
(2) ـ انظر : سفر الحوالي : العلمانية ، ط ، الأولى 1402/1982، ص175
(3) ـ عبدالله التل : الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام ، ص.الثانية ، ص 17
(4) ـ عبدالرحمن الجبرتي ، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار ، ط. دار الجيل ، 2/180 ، 251
(5) ـ انظر نص الخطاب في : عبدالله التل. الأفعى اليهودية ، ص : 18، 22
(6) ـ المرجع نفسه ، ص : 22 ، 23
(7) ـ عبدالله عزام : حماس ، ط. الأولى 1409هـ /1989 ، ص: 14
(8) ـ الياس الحويك ، تاريخ نابليون الأول ، ط. دار ومكتبة الهلال 1/131
(9) ـ التل : الأفعى اليهودية ، ص 20 ، 21 ،22
(10) ـ سورة الأنفال ، آية 73
(11) ـ سورة البقرة ، آية 105(/2)
اليهود يحرصون على الحياة
نقلا عن : كتاب : الشخصية اليهودية في القرآن الكريم نسخة للطباعة القراء : 7971
هذا خلق ذميم عند اليهود، مرتبط بسلسلة رذائلهم وقبائحهم الأخلاقية الأخرى، وله صلة وثيقة بالجبن والذل والمسكنة، إنه الحرص على الحياة، والتهالك عليها، والرغبة فيها .
قال تعالى : { ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ـ ومن الذين أشركوا ن يودّ أحدُهم لو يُعمّر ألفَ سنة ن وما بمُزَحزٍحه من العذاب أن يُعمّر والله بصير بما يعملون } . البقرة 96 .
يهود حريصون على الحياة، ولو كانت أية حياة، المهم أن يعيشوا حياتهم والسلام .
ولا يهمهم أن تكون حياة عزيزة أو حياة ذليلة ..
حياة رجال أو حياة أشباه رجال ..
حياة بشر أو حياة حشرات وحيوانات ..
بل إنهم يفضلون الحياة الثانية، الممزوجة بالذل والجبن على الحياة الأولى العزيزة الكريمة ..
لأن حياة العزة والكرامة تحتاج إلى مواصفات خاصة لا توجد عند اليهود، وإلى رجال مخصوصين لا يكونون من بين يهود، وإلى ضريبة باهظة يجبن عن دفعها يهود، وإلى ثمن مرتفع يبخل عن بذله يهود !!
هم يكتفون من الحياة بظاهرها وقشورها، أليسوا يأكلون ويشربون ؟ -مثل الأنعام-
أليسوا يتنفسون ويتحركون ؟ -مثل الدواب-
أليسوا ينامون ويستيقظون ؟ -مثل الحيوانات-
أليسوا يمارسون حياتهم بحيوانية وشهوانية ؟ -مثل البهائم-
إذن هم يعيشون الحياة المطلوبة، هم أسعد الناس في هذه الحياة .
إنها حياة بمقياس يهود، وليست بمقياس الرجال الأعزة، وإنها حياة تليق بيهود ولا تليق بالرجال الأعزة، وإنه لا يُعجب بهذه الحياة ولا يقبل بها ولا يحرص عليها إلا من كانت له مثل شخصية يهود ونفسيتهم وأخلاقهم .
هذه كلها بعض ما يوحي بها تنكير كلمة ( حياة ) في قوله ( ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة ) ذلك التنكير الذي يحوي الكثير من التهوين والتحقير .
وحياة يهود في تاريخهم كله لا تخرج عن هذا التنكير والتهوين والتحقير والإذلال(/1)
اليَتيمان
أحس (ماجد) أنه لم يفهم شيئا مما يقرأ، وأن عينيه تبصران الحروف وتريان الكلم ولكن عقله لا يدرك معناها، إنه لا يفكر في الدرس، إنه يفكر في هذه المجرمة وما جرَّت عليه من نكد، وكيف نغَّصت حياته وحياة أخته المسكينة وجعلتها جحيما متسعراً، ونظر في (المفكرة) فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد، ولابد له من القراءة والاستعداد، فكيف يقرأ وكيف يستعد؟ وأنَّى له الهدوء والاستقرار في هذا البيت وهذه المرأة تطارده وتؤذيه ولا تدعه يستريح لحظة، وإذا هي كفت عنه انصرفت إلى أخته تصب عليها ويلاتها؟… هل يرضى لنفسه أن يرسب في أول سنة من سنيّ الثانوية وقد كان (في الابتدائي) المجلّي دائما بين رفاقه، والأول في صفه؟
وإنه لفي تفكيره؛ وإذا به يسمع صوت العاصفة… وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجيء الأمطار فتروي الأرض ثم تطلع الشمس، فتنمي الغصن الذي انكسر وتنبت معه غصنا جديدا، وعاصفة الدار تهب كل ساعة، فتكسر قلبه وقلب أخته الطفلة ذات السنوات الست، ثم لا تجبر هذا الكسر أبدا… فكأن عاصفة الحقل أرحم وأرق قلباً وأكثر (إنسانية) من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوة تسبي القلوب… وما هي إلا الحيَّة في لينها ونقشها، وفي سمها ومكرها.
لقد سمع سبّها وشتمها وصوت يدها، شلَّت يدها، وهي تقع على يد الطفلة البريئة، فلم يستطع القعود، ولم يكن يقدر أن يقوم لحمايتها خوفا من أبيه، من هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها على حرب هذه المسكينة وتجريعها غصص الحياة قبل أن تدري ما الحياة… فوقف ينظر من (الشبّاك) فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة، وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، وإلى جانبها أختها الصغرى، طافحة الوجه صحة، بارقة العينين ظفرا وتغلّبا، مزهوّة بثيابها الغالية… فشعر بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعا، ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب؟ أما كانت فرحة أبيها وزينة حياته؟ أما كانت أعز إنسان عليه؟ فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة؛ لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أما التدليل فلأختها، التي تصغر عنها سنتين، والطرف لها، كأنما هي البنت المفردة، على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها، بل هي شرّ من خادمة، فالخادم قد تلقى أناسا لهم قلوب، وفي قلوبهم دين فيعاملونها كأولادهم، وأبوها هي لم يبقى في صدره قلب ليكون في قلبه شرف يدفعه أن يعامل ابنته، ابنة صلبه، معاملة الخادم المدللة، لقد كتب الله على هذه الطفلة أن تكون يتيمة الأبوين، إذ ماتت أمها فلم يبقى لها أم، ومات ضمير أبيها فلم يبقى لها أب!
وسمع صوت خالته (امرأة الأب تدعى في الشام خالة) تناديها: (تعالي ولك يا خنزيرة –ولك كلمة شامية محرفة عن كلمة ويلك تردد دائما-)!
وكان هذا هو اسمها عندها، (الخنزيرة) لم تكن تناديها إلا به، فإذا جاء أبوها فهي البنت، تعالي يا بنت، روحي يا بنت! أما أختها فهي الحبيبة، فين أنت يا حبيبتي؟ تعالي يا عيني!
وعاد الصوت يزمجر في الدار؛ ألا تسمعين أختك تبكي؟ انظري الذي تريده فهاتيه لها! ألا تجاوبين؟ هل أنت خرساء؟ قولي: ماذا تريد؟
فأجابت المسكينة بصوت خائف؛ إنها تريد الشكولاطه…
ـ ولماذا بقيتِ واقفة مثل الدبّة! اذهبي فأعطيها ما تريد!
فوقفت المسكينة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها. لقد اشترى أبوها البارحة كفا من الشكولاطة، أعطاه لابنته الصغيرة فأكلته وأختها تنظر إليها، فتضايقت من نظراتها فرمت إليها بقطعة منه، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرّة التي تحدق فيه وهو يأكل، وأخذت المسكينة القطعة فرحة، ولم تجرؤ أن تأكلها على اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشكولاطة…
ـ ولِكْ يا ملعونة فين الشكولاطة؟
فسكتت… ولكن الصغرى قالت: هناك يا ماما عندها، أخذتها الملعونة مني!
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها، كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت (متلبسة بالجرم المشهود) ورأت خالتها الشكولاطة معها حل البلاء الأعظم!
ـ يا سارقة يا ملعونة، هكذا علمتك أمك… تسرقين ما ليس لك؟
وكان ماجد يحتمل كل شيء، إلا الإساءة إلى ذكرى أمه، فلما سمعها تذكرها، لم يتمالك نفسه أن صاح بها:
ـ أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي.
فتشمرت له واستعدت… وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائما فكان يحتمل صامتا لا يبدو عليه أنه يحفلها أو يأبه لها، فكان ذلك يغيظها منه، وتتمنى أن تجد سبيلا إلى شفاء غيظها منه وها هي ذي قد وجدتها…
ـ لا تسمح لي؟ أرجوك يا سعادة البك اسمح لي أن في عرضك… آه! ألا يكفي أني أتعب وأنصب لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود. لقد ضاع تعبي معك أيها اللئيم، ولكن ليس بعجيب أنت ابن أمك…
ـ قلت لك كفّي عن ذكر أمي، وإلا أسكتُّك.(/1)
واقترب منها، فصرخت الخبيثة وولولت وأسمعت الجيران…
تريد أن تضربني؟ آه يا خاين، يا منكر الجميل، وْلي… يا ناس يا عالم، الحقوني يا اخواتي…
وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أي إلى الزاوية التي سموها غرفة، وخصوه بها لتتخلص سيدة الدار من رؤيته دائما في وجهها!
* * * * * * * *
ودخل الأب المساء وكان عابسا على عادته باسرا لا يبتسم في وجود أولاده، لئلا يجترئوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم ولم يكن كذلك قبل ولكنه استنَّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت إلى الدار هذه الأفعى وصبَّت سمَّها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن ماجدا وأخته ولدان مدلّلان فاسدان لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة…
وكانت خبيثة إذا دنا موعد رواحه إلى الدار، تخلع ثيابها وتلبس ثيابا جديدة، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني وتلبس وجها فيه سمات الطهر والطفولة، صنعه لها مكرها وخبثها، ولا تنسى أن تنظف البنتين وتلبسهما ثيابا متشابهة كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنتها على ابنته..
دخل فاستقبلته استقبال المحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة، ولكنها وضعت في وجهها لونا من الألم البريء تبدو معها كأنها المظلومة المسكينة، ولحقته إلى المخدع تساعده على إبدال حلّته هناك روت له قصة مكذوبة مشوهة فملأت صدره غضبا وحنقا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه، ودعا بالبنت فجاءت خائفة تمشي مشية المسوق إلى الموت، ووقفت أمامه كأنها الحَمَل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عال، كأنه قوس المحكمة وأوقفها أمامه، كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه، وأفهمها قبح السرقة، وعنَّفها وزجرها… وهو ينظر إلى ولده ماجد شزرا، وكانت نظراته متوعده منذرة بالشرِّ، ولم يستطع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة وهي بريئة منها، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر، فتعجل بذلك الشّر على نفسه.
انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالها، وأرعد فيها صوت الأب المغضب المهتاج:
ـ تريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، يا ملعون؟ حسبت أنك إذ بلغت الرابعة عشر قد أصبحت رجلا؟ وهل يضرب الرجل خالته؟ إنني أكسر يدك يا شقي!
ـ والله يا بابا مو صحيح…
ـ ووقاحة أيضا؟ أما بقي عنك أدب أبدا؟ أتُكَذِّبُ خالتك؟
ـ أنا لا أكذبها، ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة.
عند ذلك وثب الأب وانحط بقوته وغلظته وما أتْرَعتْ به نفسَه من مكرها زوجتُه، انحط على الغلام وأقبل يضربه ضرب مجنون ذاهب الرشد، ولم يشف غيظَ نفسه ضربُه فأخذ الدفتر الأسود الذي أودعه دروسه كلها، فمزقه تمزيقا… ثم تركه هو وأخته بلا عشاء عقوبة لهما وزجرا…
* * * * * * * *
تعشى الزوجان وابنتهما، وأويا إلى مخدعهما، والغلام جاثم مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه، وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبنى عليه أمله ومستقبله… ثم قام يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوَّحت به قنبلة… فإذا هي آلف لا سبيل إلى جمعها، ولا تعود دفترا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشرا سويا يتكلم ويمشي… فأيقن انه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته، وكبر عليه الأمر، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم، وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره، وجعلت أيامه تكر راجعة أمام عينيه كما يكر فلم السينما…
رأى ذلك الوجه الحبيب، وجه أمه، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر، رآها في صحتها وشبابها، ورأى البيت وما فيه إلا السلم والهدوء والحب، ورأى أباه أبا حقيقيا تفيض به روح الأبوة من عينيه الحانيتين، ويديه الممتلئتين أبدا بالطُّرَف واللطَف، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام…
ويكرُّ الفلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها، ويحسبه مرضا عارضا… ثم يرى الدار والاضطراب ظاهر فيها، والحزن باد على وجوه أهلها، ويسمع البكاء والنحيب، ويجدهم يبتعدون به، ويخفون النبأ عنه، ولكنه يفهم أن أمه قد ماتت. ماتت؟ إنها كلمة تمرُّ عليه أمرا هينا فلا يأبه به، وكان قد سمع بالموت، وقرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره من قريب ولم يدخل داره، ولم يذقه في حبيب ولا نسيب، غير أن الأيام سرعان ما علمته ما هو الموت حين صحا صبيحة الغد على بكاء أخته الحلوة المحبُّبة إلى أمها، والتي كانت محببة تلك الأيام إلى أبيها، ففتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانبها لترضعها وتضمها إلى صدرها، واشتد بكاء البنت، وطفق الولد ينادي: ماما… ثم جفا فراشه وقام يبحث عنها، فوجد أباه وجمعا من قريباته، يبكون هم أيضا… فسألهم: أين أمه؟ فلم يجيبوه… وحين أراد الغدوُّ على المدرسة، فناداها فلم تأت لتعد له حقيبته وتلبسه ثيابه ولم تقف لوداعه وراء الباب تُقبله وتوصيه ألا يخاصم أحدا وألا يلعب في الأزقُّة، ثم إذا ابتعد عادت تناديه لتكرر تقبيله وتوصيته، وحين عاد من المدرسة فوجد امرأة غريبة ترضع أخته… لمذا ترضعها امرأة غريبة؟ وأين ماما؟!(/2)
ويكر الفلم، ويرى أباه رفيقا به حانيا عليه يحاول أن يكون له ولأخته أما وأبا، ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم المشؤوم، ورأى ذلك اليوم المشؤوم، يوم قال له أبوه: ستأتيك يا ماجد أم جديدة… أم جديدة؟ هذا شيء لم يسمع به إنه يعرف كيف تجيء أخت جديدة، إن أمه تلدها من بطنها، أما الأم فمن أين تولد؟ وانتظر وجاءت الأم الجديدة، وكان حلوة، ثيابها جميلة، وخدودها بلون الشفق، وشفاهها حمر، ليست كشفاه الناس. وعجب من لون شفاهها، ولكنه لم يحببها ولم يمل إليها، وكانت في أيامها الأولى رقيقة لطيفة، كالغرسة الصغيرة، فلما مرت الأيام واستقرت في الأرض ومدُّت فيها جذورها، صارت يابسة كجذع الدوحة، وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطريِّ وزهرها الجميل… ولما ولدت هذه البنت انقلبت شيطانة على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة. والعياذ بالله من المرأة الجميلة إذا كانت في حقيقتها شيطانة على صورة أفعى!
وانطمست صور الماضي الحبيب، واضمحل الفلم، ولم يبق منه إلى هذه الصورة البشعة المقيتة، ورآها تكبر وتعظم حتى أحاطت به وملأت حياته، وحجبت عنه ضياء الذكرى ونور الأمل… وسمع قهقهة فانتفض وأحسّ كأن رنينها طلقات (متر اليوز) قد سقط رصاصه في فؤاده، وكانت قهقهة هذه المرأة التي أخذت مكان أمه يتخللها صليل ضحك أبيه… وأنصت فإذا هو يسمع بكاء خافتا حزينا مستمرا، فتذكر أخته التي نسيها، وذكُّره جوعه بأن المسكينة قد باتت بلا عشاء، ولعلها قد بقيت بلا غداء أيضا، فإن هذه المجرمة تشغلها النهار كله بخدمتها وخدمة ابنتها، وتقفل دونها غرفة الطعام، فلا تعطيها إلا كسرة من الخبز، وتذهب فتطعه ابنتها خفية، فإذا جاء الأب العشية، ولبست أمامه وجهها البريء… شكت إليه مرض البنت وضعفها:
ـ مسكينة هذه البنت، إنها لا تتغذى… انظر إلى جسمها، ألا تريها لطبيب؟… ولكن ماذا يصنع لها الطبيب، إنها عنيدة سيئة الخلق… أدعوها للطعام فلا تأكل، وعنادها سيقضي على صحتها…
فيناديها أبوها ويقول لها:
ـ ولك يا بنت ما هذا العناد؟ كلي وإلا كسرت رأسك!
فتتقدم لتأكل، فترى المرأة… تنظر إليها من وراء أبيها نظرة الوعيد، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف وترتد…
فتقول المرأة لزوجها، ألم أقل لك، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية؟
فيهز رأسه، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها، وشد أذنها، وطردها من الغرفة، ويكون ذلك عشاها كل عشية!
تذكُّر ماجد أخته فقام إليها فرفعا وضمها إلى صدره.
ـ مالك؟ لماذا تبكين؟ اسكتي يا حبيبتي؟
ـ جوعانة!
جوعانة؟ من أين يأتيها بالطعام؟ وقام يفتش… فأسعده الحظ فوجد باب غرفة الطعام مفتوحا، وعهده به يقفل دائما، ووجد على المائدة بقايا العشاء، فحملها إليها فأكلتها فرحة بها مقبلة عليها، كأنها لم تكن من قبل الابنة المدللة المحبوبة، التي لا يرد لها طلب لو طلبت طلب، ولا يخيب لها رجاء، وآلمه أن يراها تفرح إذا أكلت بقايا أختها وأبيها يسرقها لها سرقة من غرفة الطعام، وعادت صور الماضي فتدفقت على نفسه وطغت عليها ورجعت صورة أمه فتمثلت له، وسمعها تناديه… لقد تجسم هذا الخيال الذي كان يراه دائما ماثلا في نفسه، حتى رده إلى الماضي وأنساه حاضره… ولم يعد يرى في أخته البنت اليتيمة المظلومة، وإنما يراها الطفلة المحبوبة التي تجد أما تعطف عليها، وتحبها…
ونسي دفتره الممزُّق، ومستقبله الضائع، وحياته المرُّة، وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنيه… إلى صوت أمه…
ـ قومي يا حبيبتي، ألا تسمعين صوت أمك، تعالي نروح عند ماما!
فأجفلت البنت وارتاعت، لأنها لم تكن تعرف لها أما إلا هذه المرأة المجرمة… وخافت منها وأبت أن تذهب إليها. لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوُّهت في نفس الطفلة أجمل صورة عرفها الإنسان: صورة الأم!
ـ تعالي نروح عن ماما الحلوة: أمك… إنها هناك في محل جميل: في الجنة… ألا تسمعين صوتها؟
وحملها بين يديه، وفتح الباب، ومضى بها… يحدوه هذا الصوت الذي يرنُّ في أذنيه حلوا عذبا، إلى المكان الذي فيه أمه!
* * * * * * * *
وقرأ الناس في الجرائد ضحى الغد أن العسس وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدا في الرابعة عشرة، قد حملا إلى المستشفى، لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر، أما الغلام فهو يهذي في حمُّاه، يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه، والمرأة التي تشبه الأفعى!(/3)
اليَهود اْليهود اليهُود
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
لا شك أن من أهداف قادة الصليب الجدد السيطرة على العالم، وبخاصة بلدان المسلمين، وبالأخص البلدان العربية منها، ومن أهدافهم نهب خيرات العالم كلها وبخاصة العالم الإسلامي، وبالأخص منه العرب، وأخص ما تريد نهبه الطاقة التي يملك العالم الإسلامي منها وخاصة الخليج العربي، ما يغري بهذا الهدف.
ويتبع ذلك كل ما يحقق الهيمنة على الاقتصاد ووسائله و السيطرة الكاملة على ممرات بلدان المسلمين وأجوائها، وبالأخص البلدان العربي.
ومن أهدافهم نشر ما يسمونه بالديمقراطية الفوضوية التي تحقق في بلدان العالم الولاء الكامل لهم الذي يحقق لهم محاربة كل منهج أو مبدأ أو فكر أو حزب أو جماعة تقف أما أطماعهم وسيطرتهم.
ولكن أصل أصول هذه الأهداف تمكين اليهود في قلب الأمة الإسلامية وبالأخص الدول العربية ليكونوا هم قادة قطار المنطقة بأكملها. والقضاء على أي مقاومة جهادية ضد اليهود في فلسطين والعراق وخارجهما، وتمكين العملاء الموالين لليهود في كل البلدان العربية.
وسبب كون اليهود هم الأصل الأصيل لهذه الأهداف أنهم إذا تمكنوا في المنطقة من الاستقرار والأمان أصبحوا هم وكلاء الصليبيين في الشرق الإسلامي وما على أمريكا إلا بناء قواعد عسكرية في الأرض الفلسطينية شاملة لكل الأنواع العسكرية البرية والجوية والبحرية وتزويدها بالقادة العسكريين والجيش النوعي المدرب وسيكون غالبه من اليهود في الدول الغربية كلها، فلا يحتاجون إلى بقية الدول المجاورة لليهود، بل سيتفرغون لتهديدها بدون أن يفكروا في المشاكل والعقبات التي يتعرضون لها الآن في المنطقة مما يسمونه الإرهاب.
وسيمكنهم ذلك من تحقيق جميع الأهداف الأخرى : اقتصادية كانت أو مالية أو تجارية أو زراعية أو اجتماعية أخلاقية وسيفسدون في الأرض الإسلامية بوساطة اليهود.
لذلك يجب أن نعلم أن كل الضغوط التي يقوم بها قادة الصليبيين في أمريكا على أي دولة من الدول في الشعوب الإسلامية وبالأخص الدول العربية إنما المقصود الأول فيها هو الموافقة التامة على ما يسمونه بالتطبيع مع اليهود، على أساس ما يريده اليهود من الاستيلاء على الأراضي العربية التي لا يريدون التفريط فيها سواء كانت في الأرض الفلسطينية أو في غيرها من دول الجوار أو ما يسمونها بدول الطوق، إضافة إلى الاستيلاء على القدس وعلى المسجد الأقصى، وإلى البت في عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين تقض عودتهم مضاجع اليهود وترتعد منها فرائصهم سواء إلى أصل أرضهم التي طردوا منها فيما يسمى ما وراء الخط الأخضر أو فيما سيسمى بالدولة الفلسطينية التي لا تعدو أن تكون أرضا شبيهة بمراكز بلدية، لأن عودة اللاجئين ستثقل كفة الميزان العربي الإسلامي بكثرة العدد الذي يعرف اليهود أن سيئ العاقبة بالسبة لهم، ولذلك يحاولون توطينهم في البلدان التي تشتتوا فيها، والمفاوضات الغربية مع البلدان التي لجأ إليها الفلسطينيون جارية من زمن بعيد.
لذل يجب أن ندرك أن غزو العراق والضغط على غيره من البلدان المجاورة له كسوريا ولبنان وما يدعونه من أسباب في مقتل فلان أو علان أو تسرب من يسمونهم بالإرهابيين من حدود هذه الدولة أو تلك يجب أن ندرك أن الغرض من ذلك كله هو تمكين اليهود في المنطقة بالقوة عن طريق موافقة الدول العربية على تنفيذه، على رغم أنوف الشعوب التي ترفض رفضا باتا الاعتراف باليهود.
فلا هدف يمكن أن يقنع تحقيقُه القادةَ الصليبيين، ولو سلمناهم جميع آبار النفط وخضعنا لهم خضوعا كاملا في كل مطالبهم، وحققنا كل أهدافهم، مالم نستسلم للاعتراف الكامل باليهود على أساس شروطهم هم في السياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والمناهج والثقافة العامة، والرضا بالغبن لإخواننا في فلسطين مهما كان مجحفا!.
وأهم ما يجب التنبه له أن ما يظهر من الخصام بين القادة الأمريكان وبعض الدول المجاورة للعراق، يخفي وراءه غير ما يظهر، فالصفقة بين قادة الصليب والموالين لهم المستفيدين من غزوهم الاستئثار بحكم العراق والهيمنة عليه، صفقة تدل عليها قرائن كثيرة أهمها التعاون العسكري بين الجيش الأمريكي والجيش المسمى بالعراقي الذي ينفذ أوامر تأتيه من خارج العراق، ويدربه خبراء عسكريون من خارج العراق جنبا إلى جنب مع خبراء الجيش الأمريكي، وجميعهم يصوبون سلاحهم ضد رجال الجهاد الذين يأبون أن يبيتوا على ضيم الاحتلال وظلمه ويدمرون قراهم ومدنهم ويحرقونها، هذه وحدها تكفي قرينة على وجود صفقة بين قادة الاحتلال الأمريكي وتلك الدول التي تظهر الوقوف ضد أمريكا وأطماعها.(/1)
وإن نتيجة استتباب الأمن للصليبيين واليهود ومن يريد الصليبيون تمكينهم في العراق هي الاستعداد لتطبيق ما في العراق على الدول المجاورة في المنطقة وخاصة دول الخليج التي هددها ولا يزال يهددها قادة الجيش الموالي لأمريكا في العراق، فهل نعي تلك الأهداف وأصلها الأصيل، ونعد أنفسنا لتلافي الخطر قبل استفحاله، أو نرحب به لتتجرع شعوبنا غصصه وفتنه؟
فالْيهود اليَهود اليهود هم أساس كل أهداف ما حدث وسيحدث من فساد وفوضى في المنطقة!(/2)
امتحان القلوب
مقدمة
معنى امتحان القلوب
مواطن امتحان القلوب
من أمراض القلوب
علاج أمراض القلوب
علامات صحة القلب وسلامته
علامات مرض القلب وشقاوته
امتحان القلوب (1)
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(3) [سورة النساء،الآية:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)(4) [سورة الأحزاب، الآية: 70].
أما بعد:
فإن الحديث عن القلب وامتحانه وابتلائه حديث بالغ الأهمية في وقت قست فيه القلوب، وضعف فيه الإيمان، واشتغل فيه بالدنيا، وأعرض الناس عن الآخرة.
ونحن نرى في هذا العصر تطورا هائلا في جراحة القلب البشري، حتى كان من آخر ذلك ما نسمع عن زراعة القلب ونقله مع الدقة المتناهية في تحديد الأمراض الحسية التي تنتاب القلب، وبيان طرق معالجتها وتشخيصها. ولن أتحدث هنا عن الأمراض الحسية، وما ينتاب هذا القلب من أدواء.
لكنني سأتحدث عما يعرض لهذا القلب خلال سيره إلى الله من امتحانات وابتلاءات وما علامات صحته وعلته؟ وما مواطن الابتلاء والامتحان لهذا القلب؟
وسوف أركز خلال الحديث عن القلب على الاستشهاد بكلام الله وكلام رسوله، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الأصل هو الاستقاء من منبع الكتاب والسنة؛ وإنما نصصت على هذا حتى يعلم أن الحديث عن القلب ليس بالأمر الهين ولا السهل، فلا أحد أعلم بأحوال هذا القلب وما ينتابه من خالقه (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)(5) [سورة الملك، الآية: 14]. (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(6) [سورة طه، الآية: 7]. (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(7) [سورة غافر، الآية: 19]. ومن أنزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(8) [سورة النجم، الآيتان: 3-4].
ولأنبه إلى خطورة دعوى كثير من الناس معرفة المقاصد من أعمال القلوب مما لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- وانشغلوا بما نهوا عنه وتكلموا شططا:
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(9) [سورة الإسراء، الآية: 36]. وأنى لنا بمعرفة أسرار القلوب وخواطرها:
ومكلف الأشياء فوق طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
لماذا الحديث عن القلب
يكتسب الحديث عن القلب أهمية خاصة، لعدة أمور أجملها فيما يأتي:
أولا: أن الله -سبحانه وتعالى- أمر بتطهير القلب، وتنقيته، وتزكيته، بل جعل الله -سبحانه وتعالى- من غايات الرسالة المحمدية تزكية الناس، وقدمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها، يقول الله -تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(10) [سورة الجمعة، الآية: 2]. قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)(11) [سورة المدثر، الآية: 4]. جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب (12).
ويقول - سبحانه وتعالى- عن اليهود والمنافقين: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(13) [سورة المائدة، الآية: 41].
فهذا سبب بارز ومهم للحديث عن القلب.
ثانيا: أثر هذا القلب في حياة الإنسان فهو الموجه والمخطط، والأعضاء والجوارح تنفذ.
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها المؤلف فأذن لنا مشكورا بإخراجها.
(2) - سورة آل عمران آية: 102.
(3) - سورة النساء آية: 1.
(4) - سورة الأحزاب آية: 70.
(5) - سورة الملك آية: 14.
(6) - سورة طه آية: 7.
(7) - سورة غافر آية: 19.
(8) - سورة النجم آية: 3-4.
(9) - سورة الإسراء آية: 36.
(10) - سورة الجمعة آية: 2.
(11) - سورة المدثر آية: 4.
(12) - رسالة أمراض القلوب ص 52.
(13) - سورة المائدة آية: 41.(/1)
يقول أبو هريرة رضي الله عنه"القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث القلب خبثت جنوده". (1).
ثالثا: ومن الأسباب الجوهرية للحديث عن هذا الموضوع غفلة كثير من الناس عن قلوبهم، فتجد -مثلا- بعض طلبة العلم يتوسع في بحث بعض الأعمال الدقيقة، ويتفقه فيها فقها عجيبا: هل تحريك الأصبع سنة؟ ومتى وكيف يحرك؟... إلخ، والبحث فيها نافع ومهم ولا شك، في حين يغفل البحث في أعمال القلب وأحواله، وأدوائه وعلله، وهذا أهمّ وأجلّ.
رابعا: أن كثيرا من المشكلات بين الناس، وبالأخص بين طلبة العلم، سببها أمراض تعتري القلوب، ولا تبنى على حقائق شرعية، فهذه المشكلات تترجم أحوال قلوب أصحابها، وما فيها من أمراض مثل: الحسد، والغل، والكبر، والاحتقار، وسوء الظن... إلخ، وسبيل حلها الأمثل هو علاج هذه القلوب؟ وإلا فالمرض سيظهر بين حين وآخر كلما ظهرت دواعيه.
ونظرة إلى واقع المجتمع، وما يحدث فيه بين الناس من مشكلات اجتماعية، وخصومات في الحقوق والأموال تثبت صحة ذلك.
خامسا: إن سلامة القلب وخلوصه سبب لسعادة الدنيا والآخرة، فسلامة القلب من الغل والحسد والبغضاء وسائر الأدواء سبب للسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2) [سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89]. وانظر إلى حال أبي بكر رضي الله عنهوغيره ممن رزق قلبا سليما، خاليا من الضغائن والعلل.
سادسا: يقول الإمام عبد الله بن أبي جمرة. "وددت أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم؛ فما أتي كثير ممن أتي إلا من قبل تضييع ذلك (3).
حيث يبين هذا الإمام أهمية تعليم الناس مقاصدهم في أعمالهم، وتنبيههم على مفسدات الأعمال. فإنه كما أننا نشهد من يتخصص في أنواع العلوم كالحديث والفقه والتفسير والنحو والفرائض وغيرها، فيتقن هذه العلوم، ويبلغها الناس، فنحن بحاجة إلى من يتقن الحديث عن مقامات القلب وأحواله، وأعماله وعلله وأدوائه، فيعلمها الناس ويصحح مقاصدهم ونياتهم.
سابعا: ما أعطي الله لهذا القلب من مكانه في الدنيا والآخرة، وانظر إلى أدلة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-:
1- يقول الله -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(4) [سورة الشعراء، الآيات: 87-88-89]. فلن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم.
2- يقول -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)(5) [سورة ق، الآية: 31]. فأين القلب المنيب وما صفته؟
3- وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " (6).
4- وفي الصحيحين من حديث النعمان من بشير رضي الله عنهمرفوعا: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " (7).
وكفى بهذا الحديث واعظا وزاجرا، وعبرة لأولي الألباب.
ثامنا: أن أقوال القلب -وهي تصديقاته وإقرارته-، وأعماله وحركاته من: خوف ورجاء ومحبة وتوكل وخشية وغيرها. هي أعظم أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة، وبتخلفها يتخلف الإيمان. وها هم المنافقون يقولون الشهادة بألسنتهم، ويشاركون المسلمن في أعمالهم الظاهرة، ولكنهم بتخلف إقرارهم وتصديقهم كانوا (فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)(8) [سورة النساء، الآية: 145].
تاسعا: أن كثيرا من الناس جعلوا جل همهم تفسير مقاصد الناس، وتحميل تصرفاتهم ما لا تحتمل، وتجاهل الظاهر، وترتيب الأحكام على تنبؤ عمل القلوب، مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، والغريب أن هناك من يعتبر هذا الأمر ذكاء وفراسة وفطنة، وليس هو من الفراسة الشرعية في شيء. فنحن مأمورون أن نؤاخذ الناس بظواهرهم ونكل سرائرهم إلى الله.
وأخيرا: إذا كانت هذه مكانة القلب وأهميته. فهلا وقفنا مع أنفسنا لننظر كيف عملنا بقلوبنا، بل ماذا عملت بنا قلوبنا.
كم ننشغل في أشياء كثيرة من أمور دنيانا ومعاشنا ووظائفنا، وإذا بقي لنا شيء من الاهتمام أعطيناه لأعمالنا الظاهرة.
__________
(1) - التحفة العراقية.
(2) - سورة الشعراء آية: 88-89.
(3) - محاضرة الشيخ سلمان العودة عن النية. المدخل لابن الحاج (1/ 3).
(4) - سورة الشعراء آية: 87-88-89.
(5) - سورة ق آية: 31.
(6) - رواه مسلم (4/1987).
(7) - رواه البخاري (1/126 فتح) ومسلم (3/1219).
(8) - سورة النساء آية: 145.(/2)
وأما هذا القلب فقليل منا من ينظر إليه، ويعطيه الاهتمام اللائق به، وعسى أن يكون فيما سبق من ذكر أهمية القلب وأثره في حياة الإنسان ما يدعونا إلى مراجعة هذا القلب، وإعطائه المكانة اللائقة به.
معنى امتحان القلوب
قلوبنا -أيها الأخوة- ممتحنة صباح مساء، تمتحن في كل لحظة من لحظات حياتنا، فهل نحن منتبهون لهذا، فغلطة واحدة قد تودي بحياة هذا القلب، وتحبط ذلك العمل.
قال -تعالى-: (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 154].
وقال -سبحانه وتعالى-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(2) [سورة الحجرات، الآية: 3].
فمن هؤلاء الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؟
هذه الآية نزلت في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهأنه: " قدم ركب من تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد ابن زرارة، فقال عمر: بل أمَّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله...) [الحجرات: 1]، حتى انقضت " (3).
نعم! لا مجاملة في هذا الدين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(4) ثم ماذا؟ (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (5) [سورة الحجرات، الآية: 2].
سبحان الله! موقف في نظر الكثيرين لا يستحق.
من الذي يهدَّد في هذه الآية؟ أبو بكر الذي قال فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر " (6).
وعمر الذي قال فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا (أي طريقا) إلا سلك فجا غير فجك " (7) لكنهما -رضي الله عنهما- تابا، وأنابا، واستغفرا، وأقسم أحدهما ألا يكلِّم الرسول، صلى الله عليه وسلم إلا سرا كأخي السرار.
هنا خرجت النتيجة: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)(8) [سورة الحجرات، الآية: 3]. أي أخلص قلوبهم للتقوى، حتى أصبحت لا تصلح إلا له. (9).
موقف واحد يسير في نظرنا لرجلين هما أفضل أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وامتحان يسير لغفلةٍ بدرت منهما.
ولكن! ماذا نقول عن أحوالنا؟
كم من امتحان رسبنا فيه ونحن لا نشعر.
وهنا سرّ بديع في هذه الآية: (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(10)؛ لأنه قد يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر، فهو لا يتصور أن يحبط عمله بذلك العمل، أو لا يلقي لعمله بالا.
وكم من عملٍ أو كلمةٍ أودت بصاحبها وهو لا يشعر.
وإذا كان رفع الصوت عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم كاد أن يحبط عمل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فما سيكون حال من يرفع صوته فوق صوت الحق؟ أولئك الذين يقدمون شريعة الطاغوت على شريعة الله، أولئك الذين يعادون ويوالون في سبيل الشيطان.
وحتى نزيد في إيضاح معنى (امتحان القلوب) لنتأمل هذا الحديث العظيم الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهعن النبي، صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا (11) فأيُّ قلب أشربها (12) نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها (13) نكت فيه نكتة بيضاء، حتي تصيرعلى قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادّا (14) كالكوز مُجَخيِّا (15) لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه " (16).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 154.
(2) - سورة الحجرات آية: 3.
(3) - رواه البخاري (9/147 فتح).
(4) - سورة الحجرات آية: 2.
(5) - سورة الحجرات آية: 2.
(6) - رواه البخاري (1/558 فتح) ومسلم (4/1856).
(7) - أخرجه البخاري (6/339 فتح) ومسلم (4/1863).
(8) - سورة الحجرات آية: 3.
(9) - قال الألوسي في تفسير الآية: والمراد أخلصها للتقوى، أي جعلها خالصة لأجل التقوى، أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق، كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى، انظر روح المعاني تفسير سورة الحجرات.
(10) - سورة الحجرات آية: 2.
(11) - عودا عودا أي: تعاد وتتكرر شيئا بعد شيء.
(12) - أشربها أي: دخلت فيه ولزمته.
(13) - أنكرها أي: ردها.
(14) - مربادًا أي: شديد السواد في بياض.
(15) - مجخيا أي: كالكأس المنكوس، لا يعلق به خيرا وحكمة.
(16) - رواه مسلم (1/128-129).(/3)
جعل الله قلوبنا بيضاء، وطهرها من المعاصي والرذائل والشبهات. ففي الحديث التعبير بالفعل المضارع (تعرض)، وهو هنا يدل على استمرار البلاء والامتحان: كما أن هذه الفتن لا تأتي دفعة واحدة، وإنما شيئا فشيئا حتى يصبح القلب أسود -والعياذ بالله- أو يسلمه الله فينجح في الامتحان فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا. والرب -جل وعلا- يدعو عبده إلى خوفه، ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين (1) وهذا هو موضع الفتنة والابتلاء.
ملحوظة:
وها هنا ملحوظة مهمة، وهي أن بعض المشتغلين بالدعوة وطلب العلم يظنون أن غاية الابتلاء والامتحان هو الأذى الجسدي: من سجن وتعذيب وأسر وقتل، وغيرها، أو أذىً معنوي من: مقاطعة الناس له، أو عدم استجابة، أو سخرية واستهزاء به، وغيرها، وهذا قصر لمفهوم الابتلاء على بعض أنواعه، وإلا فإن أشد أنواع الابتلاء هو ابتلاء هذا القلب وامتحانه، وكم رأينا ممن نجح في امتحان الأذى. والتعذيب، لكنهم أخفقوا في امتحان القلب! ولذلك كان من دعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 8].
ونختم هذه المقدمة في معنى امتحان القلب وابتلائه بهذه الدعوة الربانية للمؤمنين متضمنة تحذيرا مخيفا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(3) [سورة الأنفال، الآية: 24].
نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يوفقنا ويعيننا على الاستجابة لله وللرسول، وأن يحي قلوبنا، وألا يحال بيننا وبين قلوبنا بمعاصينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أنواع مما يطرأ على القلب من العلل والأدواء
وهذه المضغة الصغيرة (القلب) أمرها عجيب، وما شبه هذا القلب إلا بالبحر، نراه في الظاهر رؤية سطحية، لكنه في الحقيقة عالم بحد ذاته، ففيه من أنواع الحيوانات والنباتات العجيبة ما حير علماء البحار.
وهكذا القلب، فإن من تأمله حق التأمل وجد أن أمره مثير للعجب بما يحصل له من أحوال وانفعالات، وبما يتباين فيه الناس من أحوال ومقامات وصفات، وهذا غيض من فيض في عالم هذا القلب الصغير الكبير.
وهذه إشارات قرآنية لبعض ما يطرأ على القلب من علل وأدواء، فمن ذلك: الغفلة، العمى، الزيغ، التقلب، الاشمئزاز، الإقفال، القسوة، اللهو، الرياء، النفاق، الحسد.. وهلم جرّا.
سبحان الله! كل هذا على القلب؟ نعم، وأعظم من ذلك بكثير.
والنتيجة: أن يتعرض هذا القلب للطبع والختم والموت بعد نزول هذه الأمراض، وعدم مدافعة الإنسان لها، فيكون قلبه أسود.
أنواع من أحوال القلب السليم وأوصافه
وكما أن القلب يتعرض للأمراض والعلل، فإن هذا القلب يحصل له من الأحوال الإيمانية، والمقامات التعبدية من الصفات المحمودة مثل: اللين، والإخبات، والخشوع، والإخلاص، والحب لله، والتقوى، والثبات، والخوف، والرجاء، والإنابة، وغيرها كثير.
والنتيجة: السلامة (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(4) [سورة الشعراء، الآية: 89]. والحياة، والإيمان، وصفة قلب صاحبه أبيض.
مواطن امتحان القلوب
ومواطن امتحان القلوب كثيرة، وحسبنا أن نشير إشارات سريعة إلى جملة منها. وإنما أشرنا إلى هذه المجالات لأن كثيرا من الناس يتصور أن القلب إنما يمتحن بالشهوات والمعاصي، ولكننا سوف نرى أن هذا من المواطن التي يمتحن فيها القلب، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(5) [سورة الأنبياء، الآية: 35].
فمن المواطن التي يمتحن فيها القلب (6).
1- العبادة:
فالعبادة مثل: الصلاة والصدقة والصيام والحج وغيرها موضع امتحان وابتلاء، ففيها ابتلاء في تحقيق الإخلاص لله، وعدم مراعاة الناس بها، يقول الله -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)(7) [سورة الفرقان، الآية: 23]. وفي الحديث المرفوع: " إياكم وشرك السرائر قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي جاهرا لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر " (8).
__________
(1) - انظر رسالة مرض القلب وصحته.
(2) - سورة آل عمران آية: 8.
(3) - سورة الأنفال آية: 24.
(4) - سورة الشعراء آية: 89.
(5) - سورة الأنبياء آية: 35.
(6) - المواطن غير الأسباب فهي أعم من ذلك، فالعلم موطنا وليس سببا، والشهوات موطنا وسببا.
(7) - سورة الفرقان آية: 23.
(8) - صحه ابن خزيمة وغيره.(/4)
وفي العبادة ابتلاء بتصحيحها، وأدائها كما جاءت عن النبي الأمن، وابتلاء بتحقيق التقوى فيها، يقول- تعالى-: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)(1) [سورة الحج، الآية: 37]. وهذا جزء يسير من الابتلاء الذي يحدث في هذا الموطن.
2- العلم: (2)
وهذا موطن خصب لامتحان القلوب، وكم فشل أناس في هذا الامتحان، فطائفة طلبوا العلم لله، ثم تحولت النية إلى الشهوة الخفية، حب الرئاسة، الشهرة، التصدر، التعالي على الأقران، المراء والجدل، القدح في الخصوم.. وغيرها.
وفي الحديث: " من تعلم علما مما يُبْتَغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " يعني: ريحها (3).
3- الدعوة:
وهذا المجال من أشد مجالات امتحان القلوب. وأصحاب الدعوة المشتغلون بها من أشد الناس معاناة لهذا الامتحان. فشهوة توجيه الآخرين، والشهرة، والتعالي على الخلق كلها امتحانات قد تجعل الدعوة وبالا على صاحبها -والعياذ بالله- وفتنة النكوص عن الدعوة، أو توجيهها إلى غير رضى الله داء عضال.
4- الخلاف والجدل:
وهو مرتع من مراتع الشيطان. ومزرعة من مزارعه، ولذلك نبهنا الله جل وعلا إلى الأسلوب الأمثل في المجادلة فقال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(4) [سورة النحل، الآية: 125]. ولأنه قد يكون الباعث للجدال هو الانتصار للحق، ثم يتحول إلى انتصار للنفس، وهنا مكمن الداء قال - سبحانه-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(5) [سورة العنكبوت، الآية: 46].
وصدق ابن مسعود رضي الله عنهحيث قال: إن الخلاف شر كله.
5- الشهوات:
وإنما أخرتها قصدا؛ لأن كثيرا من الناس يقصر امتحان القلوب على الشهوات: المال، والمركب، والنساء، والبنين، والبنيان، وهذه لا شك أنها فتنة وابتلاء (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(6) [سورة التغابن، الآية: 15]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " (7) لكن ما سبق أعظم أثرا وأوقع في أمراض هذا القلب، وسلبه عافيته.
6- الشبهات والفتن:
وهما مجال رحب من مجالات مرض القلب وسبب لكثير من العلل كما سيأتي بيانه.
7- الرياسة والمناصب:
فكم تغيرت من نفوس، وتباغضت من قلوب بسبب هذا الموطن الذي قل أن يسلم منه أحد، فالحسد والغيرة والحقد والغل أمراض مبعثها هذا الأمر في غالب الأحوال والأحيان.
8- النسب والحسب والجاه:
وهو أرض مثمرة لأمراض القلوب وأدوائه، فالتعالى والتفاخر والكبر وغيرها من أمراض القلوب تنطلق من هذه الأرض، ففيها تنبت ومنها تثمر.
ولعلنا الآن نبين شيئا من الأمراض والأدواء التي يكثر امتحان القلب بها، إلا إننا سنقدم لها تنبيهات مهمة:
تنبيهات مهمة
أولا: الحذر، الحذر من قيام الأخ إذا علم بهذه الأمراض والعلل بتصنيف الناس وينزل هذه الأمراض عليهم، فإن فعل ذلك أحد فهو أول الراسبين، فإن أعمال القلوب لرب القلوب -جل وعلا- يقول الله -سبحانه وتعالى- مخاطبا نبيه في حق المنافقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(8) [سورة النساء، الآية: 63]. وإنما الصواب في أن نعرفها، فنصحح قلوبنا، ونقيها هذه الأدواء.
ثانيا: وكما يحذر الإنسان مما سبق، فينبغي ألا ينشغل بقلوب الناس عن قلبه، ولنتدبر أيها الإخوة هذه القصة المعبرة، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهقال: " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم، فهزمناهم- ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه (أي ألحقنا به وعلوناه) قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته. قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا (أي لاجئا ومعتصما بها)، وليس بمخلص في إسلامه. قال: فقال أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله. قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم " وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا " (9).
__________
(1) - سورة الحج آية: 37.
(2) - انظر رسالة التعالم للعلامة بكر أبو زيد.
(3) - رواه أبو داود (15/349 بذل) وابن ماجة (1/93) وحسنه التزمذي.
(4) - سورة النحل آية: 125.
(5) - سورة العنكبوت آية: 46.
(6) - سورة التغابن آية: 15.
(7) - رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري (4/2098).
(8) - سورة النساء آية: 63.
(9) - رواه البخاري (7/517 فتح) ومسلم (1/96) وقد أطال في عرض روايات الحديث.(/5)
والله -سبحانه وتعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(1) [سورة النساء، الآية: 94]. فلا ينبغي التمادي في ذلك، والتساهل فيه.
ثالثا: أن نعنى ببيان هذه الأمراض للناس، وندلهم على سبل الوقاية منها، فكثير منهم يعيش في غفلة تامة، ويحرصون على الوقاية من الأمراض الحسية، أكثر من اهتمامهم بأمراض قلوبهم.
رابعا: هناك أسباب كثيرة لأمراض القلوب وفسادها من أهمها:
1- الجهل.
2- الفتن.
3- الشهوات والمعاصي.
4- الشبهات.
5- الغفلة عن ذكر الله.
6- الهوى.
7- الرفقة السيئة.
8- أكل الحرام كالربا والرشوة وغيرهما.
9- إطلاق البصر فيما حرم الله.
10- الغيبة والنميمة.
11- الانشغال بالدنيا وجعلها جل همه وقصده.
من أمراض القلوب
1- النفاق
2- الرياء
3- مرض الشبهة والشك والريبة
4- سوء الظن
5- الحسد والغيرة
6- الكبر والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم
7- الحقد والغل
8- اليأس
9- الهوى ومحبة غير الله
10- الخشية والخوف من غير الله
11- الوسواس
12- قسوة القلوب
13- التحزب لغير الحق
النفاق
وهو من أخطر هذه الأمراض، وأشدها فتكا بالإنسان، وأفظعها عاقبة في الآخرة.
ولا يتصور أحد أن النفاق قد انتهى بنهاية عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونهاية شخصياته البارزة كعبد الله بن أبي بن سلول وغيره، بل إن النفاق الآن لا يقل خطورة عنه في الماضي.
ولقد كان السلف الصالح من أشد الناس خوفا من النفاق، وهذا عمر بن الخطاب -وهو من هو صحبة وعلما وعملا وإخلاصا- يناشد حذيفة: هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك (2).
وهذا ابن أبي مليكة -رحمه الله- وهو سيد من سادات التابعين يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي، كلهم يخشى النفاق على نفسه (3).
ونحن الآن نقول: هل نجد ثلاثين يخافون النفاق على أنفسهم، ومن تأمل صفات المنافقين مما ذكره الله في كتابه في مواضع كثيرة، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الأمر جد خطير، خاصة ونحن نرى تساهل الناس في الاتصاف بصفاتهم، مع أمنهم من ذلك، ومن ذلك:
أن بعض الناس يتحدث عن القضاة وأخطائهم، ومثالبهم بحق وبغير حق، ويتعدى الحديث إلى أقضيتهم وأحكامهم. ثم هو يحسن للناس أحوال الغربيين وأحكامهم ومساواتهم، جاهلا أو متجاهلا ما هم فيه من شقاء وتبرم وضياع، بتركهم شرع الله وكفرهم بآياته.
والله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(4) [سورة النساء، الآية: 65].
وهذا أمر أصبح حديث بعض المجالس، فالله الله من التشبه بصفات المنافقين، والسير في ركابهم، من كره الدين وبغض المتدينيين ونحو ذلك.
الرياء
وهذا مرض جد خطير لخفائه، ولأثره في إفساد العمل، وقلة من يسلم منه، وقد جاء في الحديث يقول الله -تعالى-: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " (5).
وفي الحديث الآخر: " من سمّع سمّع الله به، ومن يراء يراء الله به " (6) وقد ذكر الله من صفات المنافقين (يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً)(7) [سورة النساء، الآية: 142].
وهو أدق من الشعرة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)(8) [سورة الفرقان، الآية: 23].
مرض الشبهة والشك والريبة
يقول الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)(9) [سورة آل عمران، الآية: 7].
__________
(1) - سورة النساء آية: 94.
(2) - نسبه في كنز العمال (13/344) إلى رسته.
(3) - رواه البخاري تعليقا عنه (1/ 109) وقال ابن حجر: أخرجه المروزي مطولا في كتاب الإيمان، وأبو زرعة في تاريخه.
(4) - سورة النساء آية: 65.
(5) - رواه مسلم (4/2289).
(6) - رواه البخاري (11/335) ومسلم (4/2289).
(7) - سورة النساء آية: 142.
(8) - سورة الفرقان آية: 23.
(9) - سورة آل عمران آية: 7.(/6)
ويقول سبحانه: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(1) [سورة التوبة، الآية: 45]. ويقول: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)(2) [سورة التوبة، الآية: 110]. وقال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا)(3) [سورة النور، الآية: 50]. (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)(4) [سورة الأحزاب، الآية: 12]. (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)(5) [سورة المدثر، الآية: 31].
وهو من أخطر الأمراض، وأشدها فتكا، ولا يزال بالإنسان حتى يوقعه في الشرك والكفر.
ودواؤه كثرة الاستعاذة بالله من الشيطان، وكراهية هذا الوارد، ومدافعته بالاستعانة بالله، والرجوع إلى الإيمان بالله ورسوله والاعتراف بوحدانيته وصفاته، وفي الحديث: " لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فيلقل: آمنت بالله ورسوله " (6) وفي رواية: " فليستعذ بالله، ولينته " (7).
سوءالظن
وسوء الظن بالله من أعظم أمراض القلب ولعلنا هنا نقف وقفة يسيرة حوله، للتحذير منه، وبيان خطورته.
فمن الناس من يسيء الظن بالله -تعالى-، حيث يسيء الظن بوعده، ونصره لعباده المؤمنين، ولدعاته المجاهدين.
ومن الناس من يسيء الظن بربه أن يرزقه، فتجده يثق بما في أيدي الناس أعظم من ثقته بما عند الله، ويظن أن رزقه إنما هو بيد الحكومة أو الشركة أو الناس. وتجده يضع لذلك الحسابات، ناسيا التوكل على الله والثقة به، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)(8) [سورة هود، الآية: 6].
وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- من يسيئون الظن به، وجعله من أمر الجاهلية (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)(9) [سورة آل عمران، الآية: 154].
وقال سبحانه: (وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(10) [سورة الفتح، الآية: 12]. (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(11) [سورة فصلت، الآية: 23]. (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)(12) [سورة الأحزاب، الآية: 10]. (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(13) (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)(14) [سورة الفتح، الآية: 6]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(15) [سورة الحجرات، الآية: 12].
ويقول صلى الله عليه وسلم ناصحا أمته: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " (16).
وعلينا أن نحسن الظن بالله، فالله عند ظن عبده به: قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء " (17) الحديث.
الحسد والغيرة
ومن منا ينجو منهما. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والحسذ مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد. لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه (18) ولذلك يقول الله -جل وعلا-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(19) [سورة النساء، الآية: 54]. وأمرنا بالتعوذ صباح مساء (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)(20) [سورة الفلق، الآية: 5]..
وفي الحديث المتفق عليه " لا تباغضوا ولا تحاسدوا " وعن أبي هريرة رضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " أو قال: " العشب " (21).
ويقول الحسن البصري: عمه في صدرك، فإنه لا يضرك، ما لم تعتد به يد أو لسان (22).
__________
(1) - سورة التوبة آية: 45.
(2) - سورة التوبة آية: 110.
(3) - سورة النور آية: 50.
(4) - سورة الأحزاب آية: 12.
(5) - سورة المدثر آية: 31.
(6) - رواه مسلم (1/119).
(7) - رواه مسلم (1/120).
(8) - سورة هود آية: 6.
(9) - سورة آل عمران آية: 154.
(10) - سورة الفتح آية: 12.
(11) - سورة فصلت آية: 23.
(12) - سورة الأحزاب آية: 10.
(13) - سورة يونس آية: 36.
(14) - سورة الفتح آية: 6.
(15) - سورة الحجرات آية: 12.
(16) - متفق عليه.
(17) - رواه أبو داود.
(18) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.
(19) - سورة النساء آية: 54.
(20) - سورة الفلق آية: 5.
(21) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.
(22) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.(/7)
وأما عن علاجه، فقد ذكر شيخ الإسلام كلاما طيبا في علاجه، حيث يقول: "من وجد في نفسه حسدا لغيره، فعليه أن يستعمل معه التقوى، والصبر، فيكره ذلك من نفسه". (1).
ولما كان الحسد لا يسلم منه أحد خاصة النساء والعوام، أحببت أن أنبه على الفرق بين الحسد والغبطة، فالأول مذموم كما سبق-، والثاني غير مذموم.
فالأول: يتمنى أن تزول النعمة من صاحبه.
وأما الآخر فهو يحب أن يعطاها دون أن يتمنى زوالها من أخيه، وفي الحديث: " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " (2). أخرجاه. وفي رواية: " لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله هذا الكتاب، فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فتصدق به آناء الليل وآناء النهار " (3).
الكبر والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم
يقول الله - عز وجل - (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)(4) [سورة غافر، الآية: 56].
ويقول -جل وعلا-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(5) [سورة الأعراف، الآية: 146].
ويقول -جل وعلا-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(6) [سورة القصص، الآية: 83]. وقال -سبحانه-: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(7) [سورة غافر، الآية: 35]. وقال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(8) [سورة النحل، الآية: 23]. وقال - سبحانه-: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً)(9) [سورة التوبة، الآية: 25].
ومن وصايا لقمان لابنه: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)(10) [سورة لقمان، الآية: 18]. وتزكية النفس بلاء وأي بلاء: قال -جل وعلا-: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(11) [سورة النجم، الآية: 32].
وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)(12) [سورة النساء، الآية: 49]. ونهى - سبحانه- عن السخرية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ)(13) [سورة الحجرات، الآية: 11]. والاستهزاء مرض مهلك: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(14) [سورة التوبة، الآيتان: 65-66]. (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)(15) [سورة المطففين، الآية: 29].
ويقول صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "، (16) ويقول صلى الله عليه وسلم " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " (17).
وقد كثر في زماننا احتقار الآخرين، والتعالي والتكبر عليهم، فتجد أحدهم يحتقر فلانا لأنه دونه في العلم، أو لأنه دونه في المرتبة أو الوظيفة، أو لأنه فقير، أو لأنه من قبيلة كذا... وهلم جرا.
وقد ورد عنه، صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم " (18).
وبعض الناس يتأفف من أن ينادي من هو أقل منه درجة أو رتبة باسم الأخوة، بل يصدر إليه الأمر دون تهذيب أو حسن أسلوب، ودون مراعاة لنفسيته، كل ذلك بدعوى المحافظة على الهيبة والهيمنة.
وما روى المسكين أنه ربما أن يكون من يراه فراشا أحب عند الله وأفضل بآلاف المرات، يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم " رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " (19).
ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا قضية الاستهزاء بالصالحين، وهي قضية خطيرة.
__________
(1) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.
(2) - رواه البخاري (1/165) ومسلم (1/559) عن ابن مسعود- رضي الله عنه.
(3) - رواه البخاري (9/73) ومسلم (1/559) عن ابن عمر- رضي الله.
(4) - سورة غافر آية: 56.
(5) - سورة الأعراف آية: 146.
(6) - سورة القصص آية: 83.
(7) - سورة غافر آية: 35.
(8) - سورة النحل آية: 23.
(9) - سورة التوبة آية: 25.
(10) - سورة لقمان آية: 18.
(11) - سورة النجم آية: 32.
(12) - سورة النساء آية: 49.
(13) - سورة الحجرات آية: 11.
(14) - سورة التوبة آية: 65-66.
(15) - سورة المطففين آية: 29.
(16) - رواه مسلم (1/93).
(17) - رواه مسلم (4/1986).
(18) - رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(19) - رواه مسلم (4/2024).(/8)
يقول الله -تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(1) [سورة التوبة، الآيتان: 65-66].
وكذلك الاستهزاء ببعض الشعائر كاللحية والحجاب وتقصير الثوب مما يخشى على من يستهزئ بها من الردة -والعياذ بالله- فلننتبه ولننبه إخواننا، فالأمر جد خطير.
الحقد والغل
فمن دعاء المؤمنين التابعين بإحسان: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا)(2) [سورة الحشر، الآية: 10].
ويقول تعالى مخبرا عن إكرامه لأهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(3) [سورة الحجر، الآية: 47]. (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ)(4) [سورة الأعراف، الآية: 43].
ولعلنا نقتصر في الحديث عن هذا المرض بهذه القصة المعبرة: قصة عبد الله بن عمرو بن العاص، ذلك الشاب الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم وأدبه وعلمه، رباهم على مواطن العزة والقوة والعلم، لا كحال كثير من شبابنا اليوم ممن استهوتهم الرياضة أو الفن أو غيرها مما لا ينفعهم، بل يضرهم.
روي الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنهقال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته (أي: تقطر) من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي (أي: خاصمت) فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار (أي: استيقظ) وتقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كبير عمل. فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا. ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق " (5).
إذن ! هذا هو قدر امتلاء القلب بمحبة المسلمين، والصفح عنهم، والصبر عليهم.
ولنتدبر أخي المسلم -هذا الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا: " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا (أي: أخروا) هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا " (6).
وقد ذكر الأطباء أن الغل يؤدي بصاحبه في الدنيا لأثره السيء على صحة الإنسان وسلامته، وهذه هي العقوبة العاجلة والآجلة أشد وأنكى.
اليأس
وهو مرض ينشأ عند استحكام البلاء، واستبطاء نصر الله، فييأس بعض الناس من نصر الله ووعده (7) بما يؤدي عند بعضهم إلى ترك الدعوة والعمل، وأعظم من ذلك اعتقاد تخلف وعد الله أو وعيده في الدنيا أو الآخرة.
ولا نزال نسمع أن بعض الناس تخلفوا عن الطريق لاعتقادهم -مثلا- أنه في ضوء هذا الواقع المر، واستحكام أعداء الله، وقبضتهم على زمام الأمور، وسيطرتهم على الأوضاع السياسية والاقتصادية، لا يمكن أن ينتصر الإسلام أو تقوم له قائمة.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 65-66.
(2) - سورة الحشر آية: 10.
(3) - سورة الحجر آية: 47.
(4) - سورة الأعراف آية: 43.
(5) - رواه أحمد (19/238 فتح) والنسائي في عمل اليوم والليلة، وقال ابن كثير في رواية النسائي، هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، تفسير ابن كثير (4/337) ط المعرفة.
(6) - رواه مسلم (4/ 1987).
(7) - وتحسن الإشارة هنا إلى أن معنى قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا) [يوسف: 110]، أي حتى استيأسوا من قومهم، أي يئسوا من إسلامهم وإجابة دعوتهم، وهذا تفسير عائشة- رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري.(/9)
وهذه قصة أخبرني بها أحد الأصدقاء عن رجل صالح خير مارس الدعوة إلى الله، ثم تخلى عن ذلك. فجاءه محبوه، وسألوه عن ذلك، فقال: هل نستطيع أن ندعو إلى الله في غفلة عن أمريكا، وأجهزة تصنتها ومخابراتها، فهل يخفى عليها شيء، وعلى هذا فلن نستطيع عمل شيء- هكذا قال.
وقد نسي هذا المسكين أن الله (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1) [سورة يوسف، الآية: 21].
وهذه قصة موسى -مثلا- تحكي في كل مرحلة من مراحل حياته أو دعوته عناية الله به وبالدعوة، وإملاء الله للظالمين، والتمكين لهذه الدعوة ولنتأمل قوله -تعالى-: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)(2) [سورة القصص، الآية: 8]. وقوله -تعالى-: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(3) [سورة القصص، الآية: 13]. وقوله - عز وجل -: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(4) [سورة القصص، الآية: 20]. ولما قال بعض قومه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)(5) [سورة الشعراء، الآية: 61]. قال لهم واثقا: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(6) [سورة الشعراء، الآية: 62]. وهكذا قصص الأنبياء تبين حفظ الله لدعوته، وإملاءه للطغاة الظلمة، حتى تتمكن هذه الدعوة الربانية (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)(7) [سورة القصص، الآية: 5].
ويعجبني أن أذكر هنا قصة مشهورة تبين نقاء النظرة، وصفاء السريرة لرجل من عامة الناس، فإن آباءنا يذكرون أنه في أثناء حصار إحدى المدن، حدث أن بدء الناس يتحدثون عن الطائرات التي قد يستخدمها العدو، ففزع بعض الناس وخافوا، ولم يكونوا رأوا الطائرات بعد، فجاء هذا الأعرابي، وسأل الناس عن هذه الطائرات؟ قالوا: شيء يأتي من فوق يرمينا بالقنابل، فقال: بفطرته السليمة - أهي فوق الله أم الله فوقها؟! فلما أجابوه بأن الله أعلى منها، قال: لا تهمكم. وما أحوجنا إلى أمثال أصحاب هذه الفطر السليمة.
وهذه قصة أخرى تتميما للفائدة، إلا إن صاحبها شاعر فاسق ماجن وهي أنه لما قام أحد رؤساء الدول العربية، وقال: إن (99%) من أوراق القضية الفلسطينية بيد أمريكا، ومعنى هذا: أن نستسلم لأمريكا، ونسلمها مقاليد الأمور، فرد عليه هذا الشاعر الفاسق قائلا:
ولتعلم أمريكا أنها ليست هي الله العزيز القدير ... ولن تمنع الطائر من أن يطير
(وصدق وهو كذوب).
فلننتبه إلى هذا المرض، ولنستشعر قوله -تعالى-: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(8) [سورة المائدة، الآية: 3].
وأخيرا فلنتأمل قوله -تعالى-: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(9) [سورة يوسف، الآية: 87].
الهوى ومحبة غير الله
__________
(1) - سورة يوسف آية: 21.
(2) - سورة القصص آية: 8.
(3) - سورة القصص آية: 13.
(4) - سورة القصص آية: 20.
(5) - سورة الشعراء آية: 61.
(6) - سورة الشعراء آية: 62.
(7) - سورة القصص آية: 5.
(8) - سورة المائدة آية: 3.
(9) - سورة يوسف آية: 87.(/10)
فإنه آفة الآفات، والسم الزعاف لهذا القلب، يوم أن تكون محبة الشخص لغير الله، وموالاته ومعاداته في سبيل دنياه، وأهوائه، وأطماعه الشخصية. وهذا لا شك موصل صاحبه إلى الهلاك والبوار وتأمل معي في هذه الآيات:(1) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)(2) [سورة النجم، الآية: 23] (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 71] (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً)(4) [سورة القصص، الآية: 50] (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)(5) [سورة الجاثية الآية: 23] (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)(6) [سورة محمد، الآية: 16] (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(7) [سورة الأنعام، الآية: 119] والهوى مرض من أمراض القلب سواء أكان الهوى بمعناه العام أو الخاص.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان كون الحب يعمي ويصم: ".. ولذلك قال الشاعر:
عدو لمن عادت, وسلم لأهلها ... ومن قربت ليلى أحب وأقربا (8)
فهذا جعل الولاء والبراء في ليلى، وليس في الله.
وذكر شيخ الإسلام أيضا قصة رجل أحب امرأة سوداء حبا عجيبا، أخذت عليه مجامع قلبه، فيقول هذا الرجل:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب
والواجب أن يكون حبنا وبغضنا، وعطاؤنا ومنعنا، وفعلنا وتركنا لله -سبحانه وتعالى- لا شريك له، ممتثلين قوله، صلى الله عليه وسلم " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع الله، فقد استكمل الإيمان " (9).
وأسوأ أنواع الحب محبة أعداء الله.
الخشية والخوف من غير الله
يقول تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(10) [سورة المائدة، الآية: 44] ويقول- عز وجل-: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة التوبة، الآية: 13].
ومن صفات الذين في قلوبهم مرض أنهم يقولون (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)(12) [سورة المائدة، الآية: 52] ومن صفات الذين سلمت قلوبهم وآمنت (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(13) [سورة آل عمران، الآية: 173].
وهناك خوف جبلي لا يقدح في المعتقد كخوف الإنسان من عدوه إنسانا أو حيوانا، أما الخشية فلا تكون إلا من الله.
وعدم الخوف دليل على قوة القلب وجسارته، كما أنه دليل على الإيمان، قال الإمام أحمد: "لو صححت لم تخف أحدا"، أي من المخلوقين.
الوسواس
وهو بلاء عمّ وطمّ، وصار يلعب بكثير من الناس، ويضيع عليهم فرائضهم وعباداتهم، يقول الشيخ السعدي -في جواب له عن دواء الوسواس: ليس له دواء إلا سؤال الله العافية، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاجتهاد في دفع الوساوس، وأن يتلهى عنها ولا يجعلها تشغل فكره، فإنه إذا تمادت فيه الوساوس اشتدت واستحكمت، وإذا حرص على دفعها والتلهي عن الذي يقع في القلب اضمحلت شيئا فشيئا، والله أعلم (14).
وقد أمرنا بالتعوذ منه كما في سورة الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(15) [الناس: 1- 6].
قسوة القلب
وهو مرض تنشأ عنه أمراض، وتظهر له أعراض ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وأخذ بالأسباب: وتظهر خطورة هذا الداء من خلال هذه الآيات:
__________
(1) - دلالة هذه الآيات أعم مما ذكر فينتبه لذلك.
(2) - سورة النجم آية: 23.
(3) - سورة الأنعام آية: 71.
(4) - سورة القصص آية: 50.
(5) - سورة الجاثية آية: 23.
(6) - سورة محمد آية: 16.
(7) - سورة الأنعام آية: 119.
(8) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.
(9) - رواه أحمد عن معاذ بن أنس وغيره.
(10) - سورة المائدة آية: 44.
(11) - سورة التوبة آية: 13.
(12) - سورة المائدة آية: 52.
(13) - سورة آل عمران آية: 173.
(14) - ينصح في هذا المجال الرجوع إلى كتاب العلامة ابن القيم إغاثة اللهفان، وكذلك محاضرة: "رسالة إلى موسوس" للشيخ سلمان العودة.
(15) - سورة الناس آية: 1-6.(/11)
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )(1) [سورة البقرة، الآية: 74] (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 43] (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(3) [الزمر: 22] (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)(4) [سورة الحديد، الآية: 16].
وأبعد القلوب من الله القلب القاسي.
التحزب لغير الحق
وهو مرض خطير، وداء يقتل ويهلك الأفراد والأمة على حد سواء، وهو على نوعين:
1- التحزب لبعض المبادئ الأرضية:
كالقومية والوطنية والعلمانية وغيرها من المبادئ الضالة، وهذه قد راج سوقها وكثر، خاصة في هذه الأيام، ونحن نسمع عما يسمى (الوحدة الوطنية)، وهي الحب على أساس المواطنة، فما كان من وطنك تحبه سواء كان مسلما أو فاسقا أو كافرا، فالمهم أنه مواطن مثلك، بينما لا تحمل هذا الشعور لأخ مسلم من غير وطنك، ولو كان من أتقى الناس.
فهي موالاة ومعاداة على أساس الوطن. حتى قال أحدهم -فض الله فاه-: كل حب يذهب ويتلاشى إلا حب الوطن. يعني إلا حب التراب، حب الأرض، ملأ الله جوفه قيحا وصديدا، هكذا: كل حب يذهب حتى حب الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا حب الوطن، فهو شرك من نوع جديد.
وما دري هذا المسكين أننا لا نزال نقرأ في القرآن: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(5) وقد نزلت في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي لهب، ونحن نتبرأ منه ونبغضه. ونحن لا نزال نثني على بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، ونترضى عنهم، ونسأل الله أن نحشر في زمرتهم.
ولا يفهم من هذا الكلام أننا لا نحب الوطن، كلا، فهو أمر جبلي مركوز في النفس، لكن حب الوطن لا بد أن يكون خاضعا لحب الله ورسوله. وهل هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وطنه وأفضل بقاع الأرض (مكة) إلا لما كان في ذلك مرضاة لله ورسوله، وهكذا المهاجرون وغيرهم.
2- التحزب من بعض المسلمين ضد بعض:
فنجد بعض الدعاة يتحزبون ضد بعض، وبعض طلبة العلم يتحزبون ضد بعض، فيحب هذا أكثر من هذا لأن الأول من حزبه، ولو كان الثاني أتقى منه وأفضل. وهذا خطأ كبير، وهذا يحب ذاك لأنه يتبع شيخه أو إمامه، ويعادي الآخر لأنه يتبع إماما أو شيخا آخر.
فالواجب موالاة المسلمين لإيمانهم، ومعاداة الكفار لكفرهم، ولا يجوز التحزب لغير الحق، فإنه يورث الأمة التفرق والتشتت (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 105] وهناك فرق كبير بين التحزب وبين التنافس في الخير فالتنافس مطلوب ومحمود (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 133] (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)(8) [سورة الحديد، الآية: 21] أما التحزب فمذموم، وكم أودى بأمم وجماعات وأفراد. حتى صار حال بعضهم كما قال الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ... وإن ترشد غزية أرشد
وعلاج التحزب بالتجرد لله -جل وعلا-، والسلامة من الهوى والتحري في المنهج، وأن نعرف الرجال بالحق، لا الحق، بقول الرجال.
واذكر الدعاء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم " (9).
وأخيرا: قد يقول قائل: ولكن ما العلاج؟ فأنت شخصت الداء، فهلا بينت الدواء، وعلمتنا طريق النجاة.
فلا أدعي أنني سوف أحيط بجوانب علاج أمراض القلوب، ولكن حسبي أن أذكر شيئا من الوسائل لعلاج هذه الأمراض، اختصرها بما يأتي:
علاج أمراض القلوب
أولا: إن أساس صحة القلب وسلامته في إيمانه بالله ويتفرع عنه ما يأتي:
1- كمال محبة الله: بأن يكون حبه لله، وفي الله، وأن يكون بغضه ومعاداته لله، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أعظم وسائل علاج القلب: أن يمتلئ قلب الإنسان بحب الله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)(10) [سورة البقرة، الآية: 165] وأما وسائل محبة الله فكثيرة، منها:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 74.
(2) - سورة الأنعام آية: 43.
(3) - سورة الزمر آية: 22.
(4) - سورة الحديد آية: 16.
(5) - سورة المسد آية: 1.
(6) - سورة آل عمران آية: 105.
(7) - سورة آل عمران آية: 133.
(8) - سورة الحديد آية: 21.
(9) - هناك خلط كبير بين الحزبية والانتماء، حتى أصبح الحديث عن أحدهما يراد به المعنى الآخر، مع أن هناك فرقا بينهما، فالحزبية مذمومة، إلا تحزب المؤمنين ضد الكافرين، والانتماء لأهل السنة والجماعة مشروع، ولا يذم منه إلا ما كان انتماء بدعيا أو جاهليا.
(10) - سورة البقرة آية: 165.(/12)
قراءة القرآن وتدبره وفهم معانيه، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ودوام ذكر الله على كل حال، وإيثار محابه على هوى نفسك ومحابها، ومطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وانكسار القلب بين يدي الله - عز وجل - وغيرها من الوسائل (1).
ثانيا: الإخلاص:
يقول - عز وجل - (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآيتان: 162-163].
أخلصوا لله - عز وجل - في أعمالكم، وستجدون راحة في صدوركم، ولذلك يقول الله - عز وجل - (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)(3).
ثالثا: حسن المتابعة:
بأن يكون عمله واعتقاده وفق ما أمر الله ورسوله. يقول الله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 31]. ويقول - عز وجل - (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(5) [سورة الحشر، الآية: 7].
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(6) [سورة الأحزاب، الآية: 36].
فلو سألنا أنفسنا: هل ننطلق في كل تصرفاتنا وأعمالنا ونياتنا وفق ما شرع الله؟
إن بعض الناس ينطلق في تصرفاته من هوى زوجته، وبعضهم من هوى رئيسه، وبعضهم أعراف قبيلته أو نظام جماعته وهكذا، ولو خالف أمر الله ورسوله.
ولو ناقشت أحدهم مرة، فقلت له: لم يا أخي تعمل هذا العمل؟ لقال: رئيسي هو الذي أمرني به، فقلت: ولكنه حرام، لأجاب: أعرف أنه حرام، ولكن ماذا أعمل؟ لو لم أفعل لما رشحني للترقية، أو لفصلني من الوظيفة أو... الخ. فأين المتابعة لله ولرسوله من هذا الذي قدم هوى رئيسه على مرضاة ربه؟
إننا بحاجة إلى مراجعة أعمالنا، وتحقيق صدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (7).
وفي الحديث الصحيح: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
ومما يعين على تحقيق هذه الأصول ليسلم القلب، وينمو مما يعرض له من ابتلاء وامتحان ما يأتي:
1- ذكر الله:
فإنه يجلو صدأ القلوب، ويذهب ما ران عليها من آثام ومعاص، ويزيد من قرب الإنسان لربه لا سيما إذا كان مستشعرا للذكر، مصاحبا له في كل أحواله وحركاته وهيئاته.
يقول الله - عز وجل - (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)(8) [سورة الحشر، الآية: 16] ويقول - عز وجل - (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(9) [سورة الإسراء، الآية: 82] وقد ذم الله المنافقين في كتابه لقلة ذكرهم لله. فذكر الله علاج حاسم لابتلاء القلب وامتحانه (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(10) [سورة الرعد، الآية: 28]
ومن أعظم أنواع ذكر الله: قراءة القرآن، يقول - تعالى -: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(11) [سورة محمد، الآية: 24].
ونحن نرى كثيرا من المسلمين يستغرق في قراءة، الصحف والجرايد، ومطالعة وسائل الإعلام وقتا طويلا بلا تعب ولا كلل ولا ملل. بينما تجد الواحد منهم لا يقرأ ولو جزءا يسيرا من القرآن، بل لو جلس وقتا لقراءة القرآن لم يلبث أن يمل ويعدوه إلى غيره.
يقول أحد السلف: والله لو طهرت قلوبنا ما مللنا من قراءة القرآن.
2- المراقبة والمحاسبة:
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله-: أنها من أهم العوامل لعلاج القلب واستقامته.
يقول ابن القيم: وهلاك النفس من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، ولذلك ورد في الأثر: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني" (12) وكان عمر يقول:
__________
(1) - انظر مدارج السالكين (3/18) لابن القيم ج 1 دار النفائس.
(2) - سورة الأنعام آية: 162-163.
(3) - سورة البينة آية: 5.
(4) - سورة آل عمران آية: 31.
(5) - سورة الحشر آية: 7.
(6) - سورة الأحزاب آية: 36.
(7) - قال النووي: حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة، بإسناد صحيح، وأعله ابن رجب كما في جامع العلوم والحكم ص 1574 ط دار الفرقان.
(8) - سورة الحديد آية: 16.
(9) - سورة الإسراء آية: 82.
(10) - سورة الرعد آية: 28.
(11) - سورة محمد آية: 24.
(12) - رواه أحمد (4/ 124)، وابن ماجة (2/1423) والترمذي (4/ 550) وحسنه، وضعفه غيره، وليس فيه (الأماني).(/13)
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا" (1) ويقول الحسن: "لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه"، ويقول أيضا: "إن العبد ما يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته"، وقال ميمون بن مهران: "إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح" (2).
فيراقب الإنسان نفسه قبل العمل: في إخلاصه، ومتابعته. ويراقب قلبه في تحقيقه للمحبة لله وفي الله، ويجاهدها على ذلك. كما يحاسبها بعد العمل على التقصير فيه، وعدم كمال الإخلاص.
ولا ريب أن هذين من أهم الوسائل لعلاج أمراض القلب، يقول - تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(3) [سورة العنكبوت، الآية: 69].
3- وسائل أخرى:
فمنها العلم، تحقيق التقوى، قيام الليل، كثرة الدعاء خاصة في الثلث الأخير من الليل، فإن سهام الليل لا تخطيء، فليكثر الإنسان فيه من التضرع إلى الله، وسؤاله الصفح والمغفرة والستر والتجاوز.
ومنها إطابة المطعم والملبس، وكثرة الصدقة، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(4) [سورة التوبة، الآية: 103].
ومن أعظمها: غض البصر، قال - سبحانه-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(5) [سورة النور، الآية: 30] وهنا، وبعد أن ذكرنا علاج أمراض القلوب، نذكر كلاما نفيسا لابن القيم.
علامات صحة القلب وسلامته، وعلامات موته وشقاوته.
علامات صحة القلب وسلامته
قال ابن القيم -رحمه الله- في علامات صحة القلب ونجاته:
1- أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى يتوب إلى الله وينيب.
2- أنه لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من عبادته.
3- أنه إذا فاته ورده وجد لفواته ألما أشد من فوات ماله. وهنا وقفة! رحم الله ابن القيم، فما عساه يقول فيمن ليس له ورد، بل ما عساه يقول فيمن إذا فاتته الصلاة المفروضة لا يجد ألما وحسرة، وكأنه لم يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " (6) (أي: كأنما فقد أهله وماله وهلكوا).
4- أنه يجد لذة في العبادة كثر من لذة الطعام والشراب [فهل يجد أحدنا لذة في العبادة،؟!] أو يجد اللذة إذا خرج منها؟!.
5- أنه إذا دخل في الصلاة ذهب غمه وهمه في الدنيا [ونحن لا تجتمع الأمور والأعمال علينا إلا في الصلاة، حتى قال لي أحد الأخوة: إنه رأى رجلا بعد أن دخل في الصلاة أخرج فاتورة للحساب، وأخذ يراجع الحسابات -وهو في الصلاة- إلى قصص كثيرة تبين ذهاب الخشوع، والخضوع بين يدي الله - عز وجل - في الصلاة.
فأين لذة الصلاة عند هؤلاء؟ وأين الصلاة التي كان الرسول، صلى الله عليه وسلم يقول فيها: " أرحنا بالصلاة يا بلال (7) " ويقول: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " (8) فإن لسان حال كثير من المصلين "أرحنا من الصلاة" وتجد أحدهم لو أطال الإمام القراءة، سرد عليه محفوظاته في الأحاديث التي تأمر برعاية حال المأمومين، بينما لو أخل الإمام بأدائها وواجباتها لم يجد من ينبهه -إلا ما شاء الله- والله المستعان.
6- أن يكون همه لله وفي ذات الله، وهذا مقام رفيع.
7- أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا أشهد من شح البخيل بماله.
8- أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أكثر من اهتمامه بالعمل ذاته (9) [وهذه نقطة مهمة جدا. فيجب أن يكون اهتمام الإنسان بتصحيح العمل كبيرا في: تصحيح القصد، وتحقيق المتابعة، وتحقيق العبودية في العمل؛ فإن هذا هو الغاية من العمل.
فهذه علامات لسلامة القلب وصحته، وإليك -أخي القارئ- علامات شقاوته وعلته.
علامات مرض القلب وشقاوته
حيث ذكر ابن القيم من علامات مرضه جملة، منها:
1- أنه لا تؤلمه جراحات القبائح.
فهل نتألم نحن لجراحات قلوبنا، وما نقترفه من معاص وآثام في الليل والنهار؟
وهل نندم ونعزم على التوبة كلما أذنبنا؟
وهل آلمنا ما نراه في مجتمعنا من معاص ومنكرات؟
وهل عملنا على تغييرها ما استطعنا، وهذا أمر -لا شك- عظيم-؛ فإن القلب الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا في نفسه ولا في مجتمعه قلب يحتاج صاحبه إلى تدارك نفسه قبل فوات الأوان.
2- أنه يجد لذة في المعصية، وراحة بعد عملها [وإنما حال المؤمن إذا عصى الله أن يندم ويستغفر ويتحسر على ما فات، ويسارع في التوبة إلى الله].
وهناك من الناس -للأسف- من ينطبق عليه كلام ابن القيم، فبعض مشاهدي الأفلام نجده يجد لذة في مشاهدتها، ولا تكاد تفارقه تلك اللذة لمدة طويلة.
__________
(1) - الأثر رواه الترمذي (4/ 550).
(2) - انظر رسالة مرض القلب وصحته.
(3) - سورة العنكبوت آية: 69.
(4) - سورة التوبة آية: 103.
(5) - سورة النور آية: 30.
(6) - رراه البخاري (2/ 30) ومسلم (1/ 436).
(7) - رواه أحمد 5/364، 371) وأبو داود (19/ 223 بذل).
(8) - رواه أحمد (3/ 128، 199، 185) والنسائي (7/ 61) وغيرهما.
(9) - انظر رسالة مرض القلب وصحته.(/14)
وكذلك نجد من متابعي المباريات من يجد لذة في مشاهدتها وحضورها، ولا تفارقه النشوة لفترة -خاصة إذا فاز فريقه- فهل نعي بعد ذلك خطورة هذا الأمر؟
3- أنه يقدم الأدنى على الأعلى، ويهتم بالتوافه على حساب معالي الأمور [فماذا نقول عن بعض المسلمين ممن أصبح لا يهتم بحال إخوانه وشئون أمته، بينما يعرف من التوافه أكثر مما يعرف عن أمور دينه، وأخبار علماء الإسلام وأئمته].
وكم يتأسف الإنسان على أموال كثير من شبابنا ممن أغرم بحب الرياضة والفن، ويهتم لها ويحزن ويغتم، أكثر مما يهتم لقضايا إخوانه في: أفغانستان، فلسطين، الفلبين، أريتربا... الخ. فهل هذا قلبه سليم؟ بل نقول لهذا: أدرك قلبك فهو على شفا هلكة.
4- أنه يكره الحق ويضيق صدره به، وهذا بداية طريق النفاق، بل غايته.
5- أنه يجد وحشة من الصالحين، ويأنس بالعصاة والمذنبين [فتجد من الناس من لا يطيق الجلوس مع الصالحين، ولا يأنس بهم؛ بل يستهزئ بهم ومجالسهم، ولا ينشرح صدره إلا في مجالسة أهل السوء وأرباب المنكرات، ولا شك أن هذا دليل على ما في قلب صاحبه من فساد ومرض].
6- قبوله الشبهة، وتأثره بها، وحبه للجدل، وعزوفه عن قراءة القرآن.
7- الخوف من غير الله، ولذلك يقول الإمام أحمد: لو صححت قلبك لم تخف أحدا، [وهذا العز بن عبد السلام يتقدم أمام أحد الملوك الطغاة، ويتكلم عليه بكلام شديد، فلما مضى قال له الناس: أما خفت يا إمام، فقال: تصورت عظمة الله، فأصبح عندي كالهر، والآن نرى من الناس من يخاف من: المسئول، الضابط وغيرهما أكثر من +خوفه من الله، وهذا لا شك دخن في قلب صاحبه، والعاقل خصيم نفسه].
8- وجود العشق في قلبه، قال شيخ الإسلام: وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب فيه صارفان يصرفانه عن العشق، إنابته إلى الله ومحبته له، وخوفه من الله.
9- أنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ولا يتأثر بموعظة.
خاتمة
لئن كنت قد أطلت في عرض هذا الموضوع، فمرد ذلك إلى أن يستأثر باهتمامكم، فالله الله في قلوبكم، بالرفق بها وحملها على الخير، والعناية بها أو منعها وحمايتها مما يضرها.
وكم يصاب الإنسان بالحزن عندما يعلم أنه مصاب بمرض حسي في قلبه، فهل حزنا مثل ذلك من جراحات القلب وأمراضه، من المعاصي والآثام، من الامتحان الذي يعرض على قلوبنا صباح مساء.
فلنتق الله في قلوبنا. ففي صلاحه النجاة (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(1) [سورة الشعراء، الآيتان: 88-89].
هل راقبنا الله فيما انتشر من الذنوب من: أكل الربا، والمعاونة عليه، وأخذ الرشوة وإعطائها، ومن الولوغ في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، في ذنوب لا يحصيها محص ولا يعدها عاد؟
ولنرحم هذه القلوب، ولنحملها على طاعة الله بإكثار قراءة القرآن ومدارسته، وكثرة النوافل والعبادات، وكثرة الصدقة، وذكر الله - عز وجل - حتى نلقى الله بقلوب سليمة مخبتة أواهة أوابة، وأكرر التحذير من انشغال كثير من الناس بقلوب إخوانهم غافلين عن قلوبهم، فالنجاة النجاة.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم إنا نسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة الشعراء آية: 88-89.(/15)
امتداد حقوق الإنسان
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... إن الإسلام هو الدين الحق من عند الله ، بعث به جميع الأنبياء والمرسلين ، الذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فاكتمل الدين به ، منهجاً ربّانياً للإنسان ، للناس كافة ، للبشرية كلها :
(( .. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .. ))[ المائدة : 3 ]
فالإسلام ينظر إلى الإنسان وإلى حقوقه في هذه الحياة الدنيا نظرة شاملة تمتد مع مختلف الأحوال والظروف ، ومع العصور والأزمان ، ومع الأقطار والأجناس ، نظرة عادلة دقيقة ، متوازنة على أسس ربّانية .
إن حقوق الإنسان تأخذ امتدادها وشمولها في الإسلام من القاعدة الربانية الأولى ، قاعدة الإيمان والتوحيد ، كما يبيّنها لنا الحديث الشريف الذي نعيده هنا للتأكيد والتذكير :
" يا معاذ بن جبل هل تدري ما حق الله على عباده وما حق عباده على الله ؟ فإِنّ حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً "[ رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة ](1)
من هذا التصوّر ، من هذه القاعدة الربانيّة تنطلق حقوق الإنسان وتنطلق مسؤولياته ، وتترابط الحقوق والمسؤوليات بذلك .
ومن هنا نرى أن الحقوق والمسؤوليات شرع من عند الله لا يعصف بها كِبْر الإنسان ولا غروره ، ولا أوهامه ولا ظنونه ، ولا مصالحه المتبدلة المتناقضة ، ولكنها تدخل في أعمال الإنسان وأعماق مصالحة الطاهرة في الدنيا كما شرعها الله له .
فارتباط الحقوق بالمسؤوليات على النحو الذي عرضناه ، وارتباط الحقوق والمسؤوليات بجميع مصالح الإنسان الطاهرة العادلة التي شرعها الله له ، هو المعنى الأول من معاني شمول النظرة الإسلامية لحقوق الإنسان .
ولا تنحصر حقوق الإنسان ولا تنشأ من ارتباطه بأرض ، لتنفي الحقوق عن إنسان ارتبط بأَرض أخرى . ولا تنحصر الحقوق باللون واللغة والجنس ، ولكنها تمتد مع الإنسان حيثما كان ، ومهما كان لونه أو كانت لغته ، إنها نظرة في الإسلام شاملة لحقوق الإنسان في الأرض كلها بألوانه ولغاته . وهذا هو المعنى الثاني للامتداد والشمول .
وتمتد نظرة الإسلام إلى الإنسان في جميع مراحل حياته ، ويقرر لكل مرحلة حقوقها ومسؤولياتها فالإسلام يقرر حق رعاية الجنين ، والرضيع والفطيم والصبيّ والفتى والرجل والشيخ والهرم ، لتكون هذه الحقوق ملّبية لحاجة كل مرحلة من مراحل حياة الإنسان . وتمتد هذه الحقوق إلى الميّت ، فتنشأ له حقوق نابعة من القاعدة الربانية الأولى التي سبق ذكرها . إنها حقوق حدّدها الله رب العالمين وبلغها رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا هو المعنى الثالث من معاني الشمول والامتداد .
والمعنى الرابع للشمول والامتداد هو امتداد الحقوق والمسؤوليات في الإسلام إلى جميع الروابط الإيمانية وعلاقاتها . وأول هذه الروابط أخوة الإيمان التي فرضها الله وفصّل حقوقها ومسؤولياتها حتى لا تقف عند حدود العواطف التي تشتعل وتنطفئ حسب المصالح والأهواء . فكانت هذه الرابطة بحقوقها ومسؤولياتها جزءاً من إيمان وتوحيد . وكذلك رابطة الجوار والمصاحبة في العمل أو السفر ، وكل رابطة تنشأ في الإسلام وتنبع من الإيمان وتخضع لشرع الله ، هي علاقة لها حقوق ومسؤوليات في الإسلام .
والمعنى الخامس من معاني الشمول والامتداد هو امتداد الحقوق والمسؤوليات إلى جميع مستويات الأمة ابتداء من وليّ الأمر إلى العلماء حتى الخادم والمولى . فقد فصّل الإسلام في هذه الحقوق والمسؤوليات لتتوازن موازنة أمينة عادلة تحفظ للأمة ترابطها . وتجد أن من الموالي في الإسلام من بلغ منزلة في العلم عالية ، رفعته في الأمة وتاريخها . فنافع مولى عبدالله بن عمر كان من رواة حديث رسول الله ، ومن الرواة الموثوقين الذين تأخذ الأمة عنهم روايتهم . إنهم كانوا يتمتعون بحقوق لا يكاد يتمتع بها كثير من عبيد حضارة القرن العشرين في أكثر الدول تقدّماً ماديّاً . وللخادم منزلته واحترامه وحقوقه كذلك ، حقوق تكاد تُفقد في أعاصير الحضارة المادية وتهافتها وصراعها على الدنيا .
والمعنى السادس هو امتداد الحقوق والمسؤوليات إلى الأرحام ، الحقوق التي فصّلها الإسلام ورعاها لتكون الصِّلات كريمة نديّة بالإيمان عَبِقة بعبق المودة والإحسان .
لقد رعى الإسلام حقوق جميع هذه الروابط الإيمانية ومسؤولياتها ، وجميع حقوق المستويات ومسؤولياتها ، حتى لا تتحول أي رابطة إلى عصبية جاهلية ، ولا تتحول حقوق أي مستوى إلى كبر وغرور ، وظلم وطغيان .(/1)
ومن أهم الروابط الإِيمانية التي يرعاها الإِسلام ويفصّل حقوقها ومسؤولياتها روابط الأسرة ، الروابط التي تربط بين الزوج والزوجة ، وبين الوالدين والأبناء ، وبين الأبناء أنفسهم ، لتظلّ الأسرة هي النواة التي يبنى منها المجتمع والأمة ، والحياة البشرية ، يرعى الإِسلام هذه الروابط الإيمانية رعاية تصونها من الانحراف أو التحول إِلى عصبيات جاهليّة تنصر الباطل عن الحق . وترعاها رعاية تحفظ لها قوتها وعدالتها . برّ الأبناء بوالديهم برّ يفصله الإسلام تفصيلاً ، وحنان الأبوين على الأبناء ورعايتهما لهم يرعاه الإسلام ويغذيه ليوفي الحنان بالحقوق وليقوم بالمسؤوليات .
إن الصورة من امتداد النظرة لحقوق الإنسان ومسؤولياته وشمولها نظرة فريدة ، لا تجدها لدى أيّ شعب ولا لدى أي تشريع . لقد تفككت الأسرة في حضارة القرن العشرين في دنيا العَلمانية ، وتمزّقت روابط الأسرة وتقطعت وشائجها .
(( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم )) [ محمد : 22 ]
وهذا هو المعنى السابع لامتداد النظرة في الإسلام وشمولها لحقوق الإنسان .
والمعنى الثامن لامتداد حقوق الإنسان في الإسلام وشمولها هو في نظرة الإسلام إلى المرأة وحقوقها . فلا تنحصر الحقوق في الإسلام بالرجل ، وإنما تشمل المرأة وترعاها في جميع أعمارها وأحوالها ، طفلة وصبية وزوجة وأمّاً . ويعطي الإسلام تفصيلات لكل حالة من هذه الحالات . ويرعى المرأة وحقوقها عند الزواج والطلاق ، والميراث والعلم في حدود ما شرع الله ، وأعطاها حق التملك والتصرّف بأموالها ، وغير ذلك .
لقد انتقلت المرأة بالإسلام نقلة عظيمة جداً لم تعرفها في تاريخ أي شعب من الشعوب . إنها انتقلت من الجاهليّة إلى الإسلام ، إِلى نور الإِيمان والتوحيد ، فأعاد لها إنسانيَّتها وفطرتها التي فطرها الله عليها سليمة نقيّة ، ونبعت حقوقها ومسؤولياتها من القاعدة ذاتها ، قاعدة الإيمان والتوحيد .
لقد شعرت المرأة في الإسلام بحُرّيَّتها الطاهرة الحقيقية ، لا بحريَّة الدنس والجنس والفاحشة ، ولا بحريّة الفتنة والفساد والجريمة .
لقد شعرت المرأة في الإسلام بالأمن والطمأنينة والأمان ، حين عرفت حقوقها التي شرعها الله لها ، وحين جعل الله الزوجَ قوّاماً في البيت ، ليرعى حقوق جميع أفراد الأسرة من زوجة وبنين وبنات ومسؤولياتهم ، وليحاسَب عليها كما تُحاسب المرأة بين يدي الله ، وحين جعل الإِسلام مؤسسات الأُمة كلها ترعى هذه الحقوق جميعها وتحميها : المعاهد ، والقضاء ، والولاة ، والعلماء وأولو الأمر ، وقبل كله برُّ الأبناء الذي أمر به الله ، ورعاية الزوج وحدبه ووفاؤه ، والسكن الذي ينشأ من ذلك كله . إن هذا المن الذي تجده المرأة المسلمة يُضاف إلى الأمن الداخلي في نفسها ، الأمن النابع من صفاء الإيمان والتوحيد ، وصدق التقوى وحسن التوكل على الله . إن هذا الأمن لا تعرفه ولا تجده أيّ امرأة في الغرب أو الشرق إلا إذا آمنت وصدق إيمانها ، وأعانها على ذلك قوامة الزوج وبرّ الأبناء والمجتمع المسلم .
لقد تابع الإسلام المرأة في جميع مراحل حياتها وجميع أحوالها وبيَّن لها مسؤولياتها وحقوقها كما فعل مع الرجل ، ومن خلال ذلك ضبط العلاقة بين المرأة والرجل ونظم حدودها وحقوقها ومسؤولياتها .
ولقد أثار بعضهم شبهات حول نظرة الإسلام للمرأة وحقوقها . ولكنّ الحقيقة أن الشبهات هي في نظرة أولئك إلى المرأة وليست في نظرة الإسلام .
الحقيقة المؤلمة أن حضارة الغرب ، حضارة العَلمانيين ، حين دفعت المرأة إلى ميدان العمل ، ورفعت شعار مساواة المرأة بالرجل ، جرّدت المرأة من لباسها وعفَّتها ، ثم جرّدتها من حقوقها وحملتها ما لا تطيق ، في مُتعَ الجنس المتفلت والفاحشة فخدّرتها ، وأهلكتها حين جعلتها تلهث راكضة وراء لقمة العيش . فما رعت حقوق الزوج ، ولا أوفت بحقوق الأبناء ، وتحطمت الأسرة وتمزقت وشائجها ، وذهب السّكن عن حياة الزوج والزوجة .
إن التاريخ يقدم لنا أمثلة رائعة عن عظمة المرأة في الإسلام وما قدمته من خير في ميادين متعددة في الحياة . ويقدم لنا التاريخ أيضاً صوراً مفزعة عن هوان المرأة وذلها وضياعها خارج الإسلام قديماً وحديثاً ، حين أصبحت المرأة موضع لهو الرجال وعبثهم تحت شعارات كاذبة كثيرة وزخارف مضللة .
وقد أخذ كثير من أبناء الحضارة الغربية يشعرون بما فقدته المرأة حين تركت البيت ورعايته ومسؤولياته ، وجرت تلهث في ميادين العمل الملوث بالفاحشة . لقد ذكرنا بعضاً مما كتبه غوربا تشوف عن ذلك " البيروسترويكا " ، حين أقرّ بان المجتمع ظَلَم المرأة والرجل والأبناء ، حين تَعُد المرأة تجد وقتاً للراحة في بيتها ، ولممارسة حق الأمومة ورعاية أبنائها وزوجها .(/2)
وكذلك أشار نيكسون في كتابه الأخير : " ماذا بعد الإسلام " عن انهيار الأسرة في أمريكا وانتشار الجريمة والفساد في المجتمع ، وقدّم إحصائيات هامة عن هذه القضايا ، وعن انهيار التعليم والمواليد غير الشرعيين وغير ذلك .
لقد كان من أخطر نتائج انفلات المرأة من ضوابط الإسلام انتشار الجريمة ، وفساد الأجيال ، حتى لم يعد العلم قادراً على ضبط المجتمع ومنع الجريمة ، ولا المعاهد ولا دوائر المن ولا رجال الشرطة ولا القانون .(2)
وتمتد نظرة الإسلام إلى حقوق الإنسان لتشمل جميع الطوائف وأصحاب الديانات . فقدم الإسلام بذلك المعنى التاسع والصورة المشرقة لعدالة الإسلام في نظرته إلى حقوق الإنسان .
أما بالنسبة للكافرين والمشركين فقد جادلهم الإسلام أدق جدال ، وردّ عليهم أعدل ردّ من خلال دعوتهم إلى الإسلام . إن الإسلام جاء ليجتثَّ جذور الكفر من الأرض وليجفف منابعه . ذلك لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يمثل الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، لأن من مات كافراً سيدخل النار . فمهمة الإسلام إذن هي إنقاذ الإنسان من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة .
لذلك كان الحق الأول للكافر في الإسلام هو أن يُدعى إلى الإسلام دعوة واضحة صريحة ، دعوة تحمل معها الحجة البيّنة المقنعة والأسلوب الأعمق أثراً في النفس . ولقد أخذت هذه الدعوة مساحة واسعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنها هي القضية الخطر والأكبر ، وهي القضية الأولى .
من حق الكافر أن يُدعى إلى الإسلام بجلاء ووضوح ، ومن مسؤولية الأمة المسلمة أن تقوم بذلك .
ومن حقّه كذلك أن لا يجبر على الإيمان ، بل يترك له الحق في أن يتخذ هو بنفسه قراره في أن يؤمن أولا يؤمن . فإن تاب وآمن فيصبح من المؤمنين ، يرتبط معهم بأخوّة الإِيمان ، ويتمتع بحقوقهم ويتحمل مسؤولياته النابعة من ذلك .
(( فإن تاب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصّل الآيات لقوم يعلمون ))[ التوبة : 11 ]
وأما إن استمرّ وبقي على كفره ، فليس له في أرض الإسلام مجال . لا مجال في دار الإسلام للكفر ولا للكافرين ، فيطبق عليهم شرع الله كما جاءت به نصوص الكتاب والسنة . أما إن جاء أحد المشركين مستجيراً فيجار حتى يُبلَّغ رسالة الله ، ثم يُعان ليبلغ مأمنه .
(( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون )) [ التوبة : 6 ]
موقف الإسلام من الكافرين مفصَّل في منهاج الله كل التفصيل . أما بالنسبة لأهل الكتاب فقد جعل الله لهم وضعاً مختلفاً في الحقوق عن الكافرين والمشركين ، وإن كانوا من حيث المعتقد كافرين ، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاهم حقوقاً في الإسلام ليست للكافرين ولا المشركين ، لأنهم أصحاب كتاب أُنْزِل من عند الله ، وأتباع رسل بعثهم الله برسالته ، ولكنهم بدّلوا وحرّفوا وظلموا ، فحسابهم في الآخرة عند الله سبحانه وتعالى كما هو حساب جميع عباده وخلقه . أما الدنيا فهم في ذمّة المسلمين ، على أن لا يخونوا ولا يغدروا ، ويخضعوا لدولة الإسلام ، تمضي عليهم شريعته التي تفصل حقوقهم ومسؤولياتهم .
ويظل الحق الأول لهؤلاء وهؤلاء أن يبلَّغوا رسالة الإسلام وأن يُدعوا إليها بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم فيعاملون على قدر ظلمهم وبما يردّهم عن الفتنة والفساد :
(( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ))[ العنكبوت : 46 ]
هذه هي الدعوة الإسلامية : إِبلاغ لرسالة الله إلى جميع خلقه ، ومتابعة تحقيق أهدافها في الواقع البشري ، أهدافها الرّبانية الثابتة .
وتمتد حقوق الإنسان في الإسلام إلى جميع ميادين الإنسان وحالاته سواء أكان ذلك في الإقامة أم السفر . فللسفر حقوق وواجبات ، وقواعد وآداب ، يتابعها الإسلام ويرعاها ، وينشِّيء الأجيال عليها . فابن السبيل له حق الرعاية والعون المادي والمعنوي . وهذه الصورة العاشرة .
وحقوق الإنسان تمتد في الإسلام إلى جميع ميادين حياته ونشاطه وعمله ، ابتداء من البيت والأسرة ، إلى المعهد والدراسة ، إلى المسجد ، إلى السوق ، إلى الوظيفة . وكذلك تمتد إلى فكرة وكلمته وسعيه وعلاقاته، لتكون الحقوق في هذا كله منضبطة بضوابط إيمانية ربّانية مفصّلة ، ومتكاملة متناسقة ، ومترابطة مع المسؤوليات في كلّ حالة .
وكما ذكرنا سابقاً فليس الهدف هنا إيراد جميع التفصيلات التي توضح ذلك ، فهذا أمر لا نستطيعه نحن ولا يستطيعه غيرنا ، لأن هذه التفصيلات هي منهاج الله كله .(/3)
من هذا العرض الموجز يمكن أن ندرك أنه مع امتداد نظرة الإسلام لحقوق الإنسان هذا الامتداد الذي عرضناه ، جعل الله للإنسان حقّاً مؤكداً في الدار الآخرة لمن مات مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً . فأي امتداد للحقوق أكبر من هذا ؟ لقد جعل الله للإنسان حقاً أن يدخله الجنة إن مات على غير شرك ، أَي إن أدّى الحق الذي عليه ، فيؤدّي الله الحق الذي وعده إياه .
حقوق الإنسان في الإسلام ممتدة مع جميع العصور والأجيال والأجناس ، ومع جميع خلق الله ومراحل حياتهم وأحوالهم ، وهي ممتدة من الدنيا إلى الآخرة .
وليست القضية مجرد الامتداد ، ولكنها الترابط والتناسق أيضاً . الترابط والتناسق النابعان من القاعدة الأولى التي عرضناها في أول الفصل ، ومن تكامل منهاج الله وترابطه حقاً كاملاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :
(( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ))[ فصّلت : 41 ، 42 ]
وإِن ما سيرد ذكره من حقوق للإنسان في الفصول المقبلة ، لا يمثل كامل حقوقه في الإسلام ، وإنما هي قبسات أو مقتطفات . وما نذكره من هذه المقتطفات فإنه حقوق للرجل والمرأة كذلك . فإنّ الله قد كرّم الإنسان رجلاً أو امرأة ، والمرأة لها حق الحياة والأمن ، وحق العمل في حدود ما شرعه الله ، وحق التملك ، وحق التفكير وحرية الرأي ، وحق التعلم ، وغير ذلك مما سنذكره .
ولكن المرأة لها حقوقها الخاصة المتوازنة مع مسؤولياتها . فهي ليست مسؤولة عن الإنفاق على البيت إلا إذا هي أحبّت أن تعين زوجها برضائهما واتفاقهما ، وحق قبول من يتقدّم لها للزواج أو رفضه على أسس شرعية ، وحقوق أُخرى بينها الإسلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط:3 ) ، ( ج:6 ) ، ( حديث: 7845 ) .
( 2 ) يراجع كتاب "قبسات من الكتاب والسنة " للمؤلف : الفصل الثالث من الباب الخامس ( ص195 ـ 224 ) وكتاب واقع المسلمين أمراض وعلاج: الباب الأول ، الفصل الخامس : ( ص : 105 ـ 124 ) ، لدراسة أوسع عن المرأة في الإسلام . وكتاب التعامل مع مجتمع غير مسلم من خلال الانتماء الصادق إلى الإسلام : الباب الثاني ـ الفصل الرابع ( ص: 67 ـ 78 ) .(/4)
امتلاك النفس عند الغضب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فحينما يأتي إنسان إلى رجل حكيم يطلب منه الوصية بما هو خير له فإنه يرى نفسه مسؤولا عنه ,وذلك بأن يمنحه خالص نصحه , فكيف إذا كان من طُلب منه النصح هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لاينطق عن الهوى ؟
ولقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني , قال: لاتغضب , فردد مرارًا قال: لاتغضب. أخرجه الإمام البخاري(صحيح البخاري رقم 6116 , الأدب , (10/519) من حديث أبي هريرة ).
ومعنى اجتناب الغضب أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب فلا يُقْدم على قول أو فعل يندم عليه في حال الرضى , بحيث يكون كل سلوكه محكوما بعقله السليم في حالتي الغضب والرضى , لا بالغرائز الجامحة .
وإذا كان سلوك الإنسان محكوما بوحي من عقله السليم فإنه يحوز الخير كله ويبتعد عن الشر كله , لأن العقل السليم ينسجم تماما مع الدين الإسلامي الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها .
وهكذا جاءت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل في كلمة واحدة , ولكن هذه الكلمة تتضمن توجيها عاليا نحو السلوك الأمثل , فالإنسان في حال الغضب يتصرف بدافع من عاطفته بعيدا عن تحكم العقل الرشيد , فلا يؤمَن – والحال هذه – عليه أن يتفوه بكلام سفاهة أو أن يعتدي بجوارحه على من غضب عليه,فالحلم عند الغضب ضمان لسلوك المسلم في كف أذاه بلسانه ويده.
وإذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل كف الأذى رمزًا للمسلم الحق وذلك في قوله "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" فإننا نعلم سمو المقاصد التي اشتمل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "لاتغضب" .
ويبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة الإنسان الذي يملك نفسه عند الغضب بقوله "ليس الشديد بالصُّرَعة , إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(صحيح البخاري رقم 6114 , الأدب ( 10/518) .
فالشديد ليس هو القوي في بدنه الذي يصرع الرجال , وإن كان هذا يعدُّ في عرف الناس شديدًا , إنما الشديد حقا هو الذي يملك نفسه عند الغضب , لأنه استطاع أن يتغلب على ثلاثة :
1- على من أغضبه لأنه حينما يملك نفسه ويحجم عن الرد على مخاصمه يكون قد غلبه بحسن الخلق والسبق إلى الفضيلة , حيث بادر إلى حسم الموقف والقضاء على الفتنة قبل أن يستعر أوارها ويشتد لهيبها .
2 – على شيطانه الذي يبادر إلى حضور الموقف منذ أن يبدأ النزاع ويظهر الغضب .
3 – على شيطان خصمه الذي يحضر أيضا ويشارك في إيقاد نار الفتنة .
ولقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من ملك نفسه عند الغضب بالجزاء العظيم في الآخرة كما جاء في قوله "من كظم غيظا – وهو يستطيع أن ينفذه – دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء"( أخرجه الإمامان أبو داود والترمذي من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه , وهو حديث حسن(سنن الترمذي رقم 2021 , البر والصلة , باب من جاء في كظم الغيظ , سنن أبي داود رقم 4777 , الأدب و باب من كظم غيظا).
فهذا ثواب جزيل لعمل جليل , فالذي يكظم غيظه ويحكم نفسه فلا يتصرف بما لايليق طاعةً لله تعالى فإنه يستحق هذا الجزاء الكبير , ذلك لأن كبح جماح النفس ساعة الغضب ليس بالشيء اليسير , فإذا فعل الإنسان مايشق عليه ابتغاء رضوان الله تعالى فإنه قد بلغ درجة عالية من الإيمان .
ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنواع من السلوك القولي والفعلي بقصد صرف النفس عن أي تصرف يتنافى مع الدين والعقل السليم , فمن ذلك ما أخرجه الإمامان البخاري ومسلم من حديث سليمان بن صُرَد رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس, وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه مايجد , لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , فقالوا للرجل : ألا تسمع مايقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني لست بمجنون (صحيح البخاري رقم 6115 , الأدب (10/518)،
صحيح مسلم , رقم 2610 , البر ( ص 2015)
وهذا يبين أن صاحب هذا القول إما منافق أو أعرابي لايفقه أمور الدين أما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يسارعون إلى تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته .
وفي هذا الحديث توجيه إلى أحد الطرق المؤثرة في حماية المسلم من آثار الغضب لأن الشيطان الرجيم هو أحد العوامل المؤثرة في حمل الغاضب على التصرف بما لايليق فإذا استعاذ منه المسلم الغاضب بحضور قلب وتعظيم لله تعالى فإن مفعوله يبطل ويحصل للغاضب الهدوء والسكينة.(/1)
وأخرج الإمامان أحمد وأبو داود من خبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس , فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" وهو حديث حسن (سنن أبي داود رقم 4782 , في الأدب باب مايقال عند الغضب مسند أحمد 5/152).
وأخرج الإمام أبو داود من حديث أبي وائل القاص بن عبد الله الصنعاني قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه , فقام فتوضأ , فقال : حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء , فإذا غضب أحدكم فليتوضأ " وهو حديث حسن (سنن أبي داود رقم 4784 , في الأدب , باب مايقال عند الغضب وأخرجه الإمام أحمد 4/226 ).
فهذه توجيهات نبوية كريمة في مجالي القول والعمل لتخفيف الغضب وتجفيف منابعه, فالقول أولا بالاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم , لأن الشيطان يحضر ساعة الغضب فيحاول أن يوسوس في قلب المسلم ليقول مالا يحسن ويتصرف بما لايليق , ولابد عند الاستعاذة من حضور القلب وذلك بتذكر عظمة الله تعالى وهيمنته على كل شيء , فإن زال الغضب وإلا فإن على الغاضب أن يغير من حاله التي هو عليها فإن كان قائما فليجلس فإن ذهب الغضب وإلا فليضطجع , وذلك لأن لحظات الغضب ثوان معدودات فإذا غير الإنسان من وضعه فإن هذه الثواني تنقضي قبل أن يتصرف بما لايليق , فإن كان الغضب مستحكمًا إلى حد أنه لم ينفع معه ذلك فإن عليه أن يذهب ويتوضأ , وهذا فيه إرغام للشيطان وإبطال لكيده , كما أن المدة التي سيقضيها الغاضب في الوضوء كافية لإزالة كل آثار الغضب .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة عليهم السلام يحضرون مجالس الخلاف التي تقع بين المؤمنين فيثبِّتون المؤمنين بتسكين قلوبهم ويسددونهم نحو السلوك الأفضل , فإذا استجابوا لنداء النفوس الغضبية فردوا على مخالفيهم بمثل ذلك الكلام الذي أغضبهم غادرتهم الملائكة وحضر الشيطان , وفي هذا المعنى أخرج الإمام أبو داود من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه , فصمت أبو بكر , ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر فقال أبو بكر : أوَجدتَ عليّ يارسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك :فلما انتصرت وقع الشيطان,فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان"( سنن أبي داود رقم 4896 – 4897 , الأدب , باب في الانتصار . وهو حديث حسن).(/2)
امرأة عِمران...
منال المغربي
Yafa-48@hotmail.com
إذا تأمّلنا في واقعِ المرأة اليوم نجدْ أنّها في حَاجة أكثر من أيِّ وقتٍ مَضى إلى إِعادةِ بلورةِ شخصيتها مِنْ جديد (فكريّاً وروحيّا ًوسلوكيّاً) وفِقَ التصوْرالإسلامي الصحيح والمنهج الربّاني القََويم حتى تتمكّن مِنَ القِيامِ بدورها الخطير في المجتمع وهو: بناء جيلٍ محَرّرٍ من كل ما يعُوقُه عن الانطلاق نحو تحقيقِ العزّةِ والنصر والتمكين للأمّة الإسلاميّة. ولأهميّة دورها هذا عَرَض القرآن الكريم في سورةِ آل عِمران قصّةَ (أمٍّ) قَلّ نظيرُها في أيامنا هذه، وهي امرأة عِمران عليها السلام لتكون قدوة لغيرها من النساء على مرّ التاريخ، فقال تعالى:
((.. إذ قالت امرأة عِمران ربِّ إنّي نذرتُ لك ما في بطني محَرّراً فتقبّل مني إنّك أنت السميع العليم. فلمّا وضعتْها قالت ربِّي إني وضعتُها أنثى واللهُ أعلم بما وضعتْ وليس الذكرُ كالأنثى وإنّي سميتُها مريمَ وإني أُعيذها بكَ وذريتَها من الشيطان الرجيم . فتقبّلها ربُّها بقَبولٍ حَسَنٍ وأنبتها نباتاً حَسَناً...)).
فمنْ هي امرأة عِمران؟
هي حِنّة بنت فاقوذ بن قبيل، وقد ذكر ابن كثير والطبري وغيرهما أنّها كانت عجوزاً لا تحبل، فبينما هي في ظلِّ شجرة نظرتْ إلى طائر يُطْعم فرخاً له، فدعتْ الله أن يهبَ لها ولداً، ونذرتْ لله إنْ حَمِلتْ لتجعلنَّه محَرّراً - أي حبيساً في خِدمة بيت المقدس -، فحملتْ بمريم، وأثناءَ حَمْلها توفي زوجها عِمران. ولقد ذكرَ كثير مِنَ المفسّرين أنّ أمّها حين وضعتها لفّتها في خِرَقها، ثمّ خرجتْ بها إلى المسجد، فسلّمتها إلى العبّاد الذين هم مقيمون فيه.
من خِلال قصتها هذه نستشف أنّ حِنّة كانتْ نموذجاً:
- للمرأة المؤمنة العابدة الشاكرة، ويتجلّى ذلك بكَثْرةِ مناجاتها لله، وتَضرعها إليه كي يرْزقها ولداً، وأنْ يَتقبّل منها نذيرها، وأنْ يُبارك لها في وليدتها، ويُعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم.
- نموذجاً للمرأة المُجابة الدعاء، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّه يدل على عُمْقِ إيمانها وإخلاصها لله عزّوجل، ويبدو ذلك باستجابةِ الله لدعائها بأنْ رَزَقها ولداً رغم كِبَر سنها.
- مِثْالاً للمرأة التي فهِِِمتْ المعنى الحقيقي للحريّة التي لا تكون إلا بالتحرّر منْ عُبوديّة ما سوى الله عزّوجل، ويتجلّى ذلك من خلال نذْرها أنْ يكون مولودها محرّراً، قال مجاهد: (إنّ المحرّر هوالخالص لله عزّ وجل، لا يَشُوبه مِنْ أمر الدنيا ولا يُشْغله شاغل عن عِبَادةِ الله).
- نموذجاً للمرأة التي تَسْتَشْعرعِظَم مسؤولياتها تُجاه أولادها، مِنْ ناحية تربيتهم التربية الحَسَنة ليس فقط دنيوياً بل دينيّاً وأخلاقياًّ، فأوّل ما فكّرت به حِنّة أََثناء حمْلها وبعدَ وَضْعِها أنْ يكون وَلدها عبْداً مؤمناً صالحاً، وإِعداده ليخدم دين الله عزّوجل.
- نموذجاً للمرأة الحريصة على ابنتها كلّ الحِرص، ويظْهر ذلك منْ خِلال دعائها لله عزّ وجل أنْ يُعيذها وذريتها مِنَ الشيطان الرجيم.
- نموذجاً للمرأة الطَّموحة التي تحمل همّاً، فامرأة عِمران لم تقْتصر اهتماماتها في الحياة على إنجابِ الأطفال بل كانتْ تطمحْ أنْ يكون وليدها خادماً لبيت المقدِس، بل أكثرمن ذلك: أنْ يكون نبي ذلك الزمان كما ذكرتْ بعض التفاسير.
- نموذجاً للمرأة الحكيمة الواعية بعيدة النظر، فحِنّة لم تمتعضْ من إنْجابها مريم لأنّها (أنثى) بل لعلْمها أنّ (التحرير) في شريعتها لم يكن جائزاً إلا بحقِّ الغِلْمان لِما يعتري الفتاة مِنَ الأحوال ما يَحول بينها وبين البقاء في المسجد من: (الحيض، أو النفاس عند الولادة)، ولمعرفتها المُسْبقة بطبيعةِ كل من المرأةِ والرجل، فالذَّكَر يصْلح للخدمة لقوتِهِ وشدّته؛ بالإضافة إلى ذلك لا يَلْحَقه عيبٌ في الخدمةِ والاختلاطِ بالناس عكس المرأة التي "لا ينبغي أن تكون مع الرجال" كما قالتْ حِنة، ولقد ذَكَرَ هذه العبارة الطبري في تفسيره.
ومن قِصّة حِنّة نستخلص العديد من الفوائدِ والعِبر:
- حُسن اختيار أسماء الأولاد- وهذا ما فعلتْه امرأة عِمران التي سمّت ابنتها مريم-، الذي يعني بلغةِ قومها (العابِدة) أو (خادمة الربّ)- لأنّ هذا من حَقِّّ الولد على أهْلِهِ-، ومِنَ الأفضل أنْ يكون الاسم إسلاميّاً عربيّاً، ولا سيما اليوم بعد أن كَثُرت الأسماء التي لبستْ ثوب الغرب، التي تدلّ على الهزيمةِ النفسيّة.
- الدعاء للأولاد كما كانتْ تَفْعل حِنّة، وتجنْب الدعاء عليهم.
- الفرح بولادةِ البنات، وعدم التبرّم بقدومهن؛ ففضل تربية البنات لا يَخْفَى كما أكّدتْ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تكريم البنات، الذي لا يكون إلا بِحُسْنِ تربيتهن وِفْقَ ما يحبّه الله ويرضاه، ومِنْ مظاهر هذا التكريم أنّ امرأة عِمران لم تتراجعْ عن الوفاءِ بِنَذْرِها رَغم إِنْجَابها فتاة، كما أنّ العُبّاد تنازعوا فيها أيُّهم يكْفلها.(/1)
- تعويد الذكورعلى حياة الخشونة والجِدّ والاجتهاد وتجنيبهم الكسل والبَطالة والراحة والدَّعة، وما نَذْرُ أمرأة عِمران أن يكون وليدها خادماً لبيت المقدس ليقوم على أموره إلا دليلاً على ذلك.
- التواضع لله عزّوجل؛ فرغم المكانة الاجتماعية والدينيّة التي كانتْ تنعم بها عائلة عِمران (فربّ الأسرة –عِمران- كان إمام العبّاد وصاحب صلاتهم، والنبي زكريا عليه السلام كان زوج أخت حِنّة، أو زوج ابنتها كما ذكرتْ بعض الروايات) لم تتحرّجْ امرأة عِمران عن نذرِ ولدها ليكون خادماً في بيت المقدس ليقوم على أموره من كِناسة وغيرها، فكانت النتيجة أن خلّد الله عز وجل اسم هذه العائلة في القرآن الكريم، فمَن تواضعَ لله رَفعه.
- المبادرة إلى فِعل الخيراتِ والطاعات، ويُلاحَظ أنّ امرأة عِمران لم تنتظرْ من أحد أن يَدُلَّها إلى سُبُل الخير بل سارعتْ و بادرتْ من نفْسِها لتقديم ما تستطيع لخدمة دينها.
- عدم البخل بالمواهبِ والقدُرات والإمكانات -وإن قلّتْ- لخدمةِ دين الله عزّ وجل، ولتكن أُسوتنا حِنة التي نذرتْ مولودها ليكون وقْف لله تعالى.
ختاماً نقول: إنّ وعي المرأة المسلمة لدورها الحقيقي في هذه الحياة كونها مربيّة الأجيال وصانعة الرجال لا يقلْ أهميّة عن الجهاد في سبيل الله لأنّها بإِعدادها للجيل المسلم وتنشئته التنشئة الإسلامية الصحيحة تكون قد رابطتْ على ثغرٍ من الثغورِ الحسّاسة التي اعتادَ أعداء الإسلام أنْ يأْتُوه من قِبلها؛ بل أكثر من ذلك تكون: قد ساهمتْ بإعداد القائد الذي سيساهم بتحرير المسجد الأقصى بإذنه تعالى(/2)
امرأة فاتتها الصلاة في السفر فهل عليها قضاء ؟
السؤال :
امرأة في الثالثة و الثلاثين من عمرها تقول :
إني أعمل في وظيفة حكوميّة ، و كلفت بالسفر أثناء الدورة الشهرية فلم استطع الصلاة بسببها ، إلى أن وجبت عليّ الطهارة و انقطع الطمث ، لكني أصبت بعد ذلك ببرد شديد في صدري لم استطع معه التطهر إلا بعد الموعد الواجب بيومين .
فالرجاء طمأنتي هل علي من وزر فيما فعلت ، و هل يجب علي قضاء صلاة اليومين التي لم أصلّها في وقتها ؟ أم أن هناك كفارة أؤديها ؟
و لكم مني جزيل الشكر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
ثمة ثلاث مسائل تتعلّق بما ورد في سؤالك ، و إليك بيان حكم كلٍّ منها بالتفصيل :
المسألة الأولى ، و تتعلّق بحكم سفر المرأة بدون محرم :
و من المقرر عند أهل العلم أن السفر لا يحلّ للمرأة إلاّ مع ذي محرَم ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن إلا النسائي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ » .
و روى البخاري و الترمذي و أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ » .
و قد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّه يحرم عليها الخروج بغير محرم في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً .
و أباح الحنفيّة لها الخروج إلى ما دون مسافة القصر بغير محرم .
و على كلا القولين فإنّه يحرم على المرأة أن تسافر أكثر من اثنين و ثمانين كيلو متراً ( عند من يرى التحديد بالمسافة ) و أن تشرع فيما يعتبر سفراً في عُرف الناس عادةً ( باعتبار العادةِ محكّمةً كما في القاعدة الفقهيّة ) .
و من فرّقَ من المعاصرين بين سَفَرٍ و سفر ، و ذهبَ إلى عدم اشتراط المحرَم في السفر بوسائل النقل المعاصرة لما يكتنفُها من الأمان ، محجوج بعموم الدليل الوارد في التحريم ، و لا حجّة في قول أحدٍ ما لم يُقِم عليه دليلاً من الكتاب أو السنّة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى عِلمٍ يُخالف في أن الله فرض اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم و التسليم لحكمه ، و أن الله عزّ و جل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، و أنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و أنّ ما سواهما تبع لهما ، و أن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد ) [ الأم : 7 / 273 ] .
المسألة الثانية في وجوب رفع الحدث الأكبر عن المحدث على الفور متى أمكنه ذلك ، فإذا وجب فلا يسقطه عذر ، و لكنه يخفف بسحب القدرة ، تيسيراً على الأمة و رفعاً للحرج و المشقة عن العباد .
و حيث إن السائلة لم تكن قادرةً على استعمال الماء في الغسل الواجب للطهارة بسبب البرد المؤذي لصحتها ، فإنها معذورة في تركه ، و لكن يلزمها أن تلجأ إلى التيمم لأداء الصلوات الواجبة في أوقاتها ، ثم تغتسل حينما يزول المانع ؛ مرضاً كان أو غيره ، و لا تقضي شيئاً مما صلته متيممة قبل الاغتسال ؛ لأن التيمم يبيح العبادة و إن لم يرفع الحدث .
روى الشيخان عن عمار بن ياسر قال بعثني النبي صلى الله عليه و سلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرَّغُ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين ، و ظاهر كفيه ووجهه و هذا اللفظ لمسلم ، و في رواية للبخاري و ضرب بكفيه الأرض نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه و كفيه .
و الشاهد من هذا الحديث الشريف في أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عماراً التيمم عند وجود العذر المانع من استعمال الماء ، و تعميم البدن به في الغسل من الحدث الأكبر ( جنابةً أو حيضاً أو نفاساً ) .
و كان الواجب على الأخت السائلة أداء الصلوات في أوقاتها مع التيمم لكل صلاة ، ريثما يزول العذر المانع من الغسل ، و حيث إنها لم تقم بما وجب عليها ؛ فهي آثمة إن كانت على علم بالحكم الشرعي و فرطت فيه ، أو معذورة إن لم تكن تعلمه .
المسألة الثالثة : المعروف من مذهبنا في مسألة ترك الصلاة و قضاء الفوائت ثلاث صور :
الصورة الأولى : تارك الصلاة بالكلية كافر خارج من ملة الإسلام ، يستتاب و يدعى إلى الإسلام من جديد ، فإن تاب ورجع فتوبته تجب ما قبلها ، و ليس عليه قضاء شيء مما فاته لأن أحكام الإسلام لم تكن سارية عليه حال كفره بترك الصلاة .
الصورة الثانية : من أكثر من ترك الصلاة ، و لكنها لم يتركها جُملةً ، ثم تاب و ندم و استقام ، و عزم على أداء الصلاة بقية عمره ، فهو مقبول التوبة إن شاء الله ، و للعلماء في إيجاب قضاء الصلوات الفوائد عليه قولان :(/1)
أولهما : أنه يجب عليه القضاء على التراخي بحيث يقضي مع كل فرضٍ حاضرٍ فرضاً فائتاً أو أكثر ، بحسب طاقته و قدرته .
و ثانيهما أن التوبه تكفيه ، و عليه الإكثار من النوافل بالليل و النهار ليجبر بها ما كان من تقصيره في أداء الفرائض المكتوبه مع قدرته على أدائها ، و هذا رأي وجيه ، نرجّحه لما ثبت من أن النافلة تجبر النقص في الفريضة ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُهُ ؛ فإن صلحت فقد أفلَح و أنجَح ، و إن فسَدَت فقد خاب و خسر ، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز و جل : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك ) [ رواه أصحاب السنن غير أبي داود بإسناد صحيح ] .
الصورة الثالثة : أن يكون الأصل في العبد المكلف الحفاظ على الصلاة ، و عدم التفريط أو التقصير في أداء شيئ منها من غير عذر ، و لكن تفوته – أحياناً – الصلاة و الصلاتان ، و نحو ذلك من الصلوات المعدودة ، و تتفرع هذه الصورة بحسب السبب الباعث على ترك الصلاة إلى فرعين :
الفرع الأول : أن يكون الترك بسبب النوم أو النسيان ، فلا يأثم من ترك الصلاة لهذين السببين ؛ أحدهما أو كلاهما ، و لكن عليه أداؤها متى زال العذر ، ففي الصحيحين و سنن ابن ماجة و الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) .
و الواجب المبادرة إلى صلاتها عقب التذكر مباشرةً ، حتى لو كان ذلك في أوقات النهي عن الصلاة على المعتمد .
قال أبو عيسى الترمذي : و يروى عن علي ابن أبي طالب أنه قال في الرجل ينسى الصلاة ؛ قال : يصليها متى ما ذكرها في وقت أو في غير وقت ، و هو قول الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحق . و يروى عن أبي بكرة أنه نام عن صلاة العصر فاستيقظ عند غروب الشمس فلم يصل حتى غربت الشمس و قد ذهب قوم من أهل الكوفة إلى هذا و أما أصحابنا فذهبوا إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه .اهـ .
و عن أبي جحيفة رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس ، فقال : إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم ، فمن نام عن صلاة ؛ فليصلها إذا اسيقظ ، ومن نسي صلاة ؛ فليصل إذا ذكر ) . [ رواه أبو يعلى و الطبراني في الكبير ، و صححه الألباني في الصحيحة : 396 ] وزاد في رواية : ( لا كفارة لها إلا ذلك ) .
قلتُ : لا خلاف بين أهل العلم في أن على النائم إذا استيقظ و الناسي إذا ذكر أداء ما فاتهما من الصلاة بسبب النسيان أو النوم ، و ان اختلف بعض العلماء في اعتبار ذلك أداءً أو قضاءً فالخلاف لفظي لا مشاحة فيه ، و لا أثر له في الحكم ، و لكن الخلاف وارد فيما سيأتي و هو :
الفرع الثاني : أن يكون ترك الصلاة المكتوبة عمداً بسبب التفريط و نحوه ، و على من هذا حاله القضاء أيضاً ؛ أسوةً بالنائم و الناسي ، و قياساً لحكمه على حكمهما ، و إلى هذا ذهب جمهور العلماء ، و خلافاً للظاهرية ، فقد قال أبو محمد ابن حزم [ في المحلى ] : ( من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبداً ، فيُكثِر من فعل الخير و صلاة التطوع ؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة و ليتب و ليستغفر الله عز و جل ) .
و مذهب الجمهور أفسح في الرخصة و أرجح في الحجة و الدليل ، لذلك كان عليه العمل وبه الفتيا عندنا .
قال ابن عبد البر في الاستذكار : فإن قيل : فلم خصَّ النائم و الناسي بالذكر في قوله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها ، قيل : خصَّ النائم و الناسي ليرتفع التوهّم و الظنّ فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما ، فأبان أنَّ سقوط المأثم عنهما غير مسقط لما لزمَهما من فرض الصلاة ، و أنها واجبة عليهما عند الذكر بها ؛ يقضيها كل واحد إذا ذكرها ، و لم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهَّمة في النائم و الناسي ليست فيه و لا عذر له في ترك فرض ، و إذا كان النائم و الناسي و هما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها ، فالمتعمِّد أولى بأن لا يسقط عنه فرض الصلاة ، و قد شذَّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمِّد في ترك الصلاة في وقتها بأن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس .اهـ .
و خلاصة الأمر أن على الأخت السائلة أن تبادر بقضاء ما فاتها من الصلوات ، فور التمكن ، و ليس لها أن تعدل عن القضاء إلى الإطعام للتكفير عن التقصير ، لأن ترك الصلاة لا مكفر له إلا التوبة الصادقة النصوح .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
املك نفسك عند الغضب
23/7/1426
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله كما ينبغي لجليل وجهه وعظيم سلطانه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فمازالت الوقفات مع سورة نبي الله يوسف تترى، ونقف هنا مع مشهد آخر يبين عظمة هذا النبي الكريم. لما ظن إخوة يوسف أن بنيامين سرق _حسبما رأوا من شواهد_ قالوا ليوسف _وهم لا يعرفونه_: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. كيف كان رد يوسف _عليه السلام_ وهو عزيز مصر، ويعلم أن هؤلاء الذين أمامه هم إخوانه الذين فعلوا به ما فعلوا، وكل ما جرى له ولأبيه ولأخيه من مصائب بسببهم؟
يتوقع أن تكون ردة فعل الحاكم أشد، لكن يوسف _عليه السلام_ لم تستغرقه اللحظة الحاضرة، مع أنه لو حدث العكس لا يستغرب بحكم طبيعة الملك والسلطان، وهم مخطئون مستحقون للعقوبة، لكن يوسف _عليه السلام_ ضبط أعصابه "فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً" (يوسف: من الآية77)، حتى هذه الكلمة لم ينطقها يوسف _عليه السلام_، ولذلك لما ذكر الله الأنبياء في سورة الأنعام ومنهم يوسف _عليه السلام_ قال: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام:90) بمثل هذا نقتدي. ما أحوجنا إلى ضبط اللسان. والله لو ضبطنا ألسنتنا مع زوجاتنا وأولادنا وجيراننا وإخواننا لتغيرت أحوالنا. "أمسك عليك لسانك" يقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم– وعندما سأله معاذ: يا رسول الله ونحن مؤاخذون بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم. كيف يحدث الطلاق؟ بسبب هذا اللسان. كيف يحدث القتل؟ بسبب هذا اللسان. كيف تحدث العداوات؟ بسبب هذا اللسان، ولذلك أثنى الله _جل وعلا_ على من كظم غيظه وضبط لسانه "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: من الآية134) وفي قوله _تعالى_: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت:34).
إخوة يوسف قالوا هذه الكلمة وهم يعتقدون أن الذي يتكلمون أمامه ليس يوسف، لا شك عندهم في ذلك، والواقع خلاف ذلك. كم من الناس يتحدث أحياناً في مجلس من المجالس فيصيب قوماً بجهالة وهو لم يتصور أن الذي أمامه هو المعني، فقد يسب الإنسان عائلة وسب العائلة لا يجوز أصلاً، لكن لم يكن يتصور أن يكون أحد أفراد هذه العائلة موجود في المجلس، بل ربما قد يذكر قصة ليست مناسبة، هو لا يعلم من هو صاحبها، يفاجأ بعد ذلك بعد أن يذكر القصة أن الناس يبتسمون لماذا؟ لأن صاحب القصة موجود في المجلس فيقع في حرج شديد، بل قد تترتب على ذلك مفاسد عظيمة، ولو تأدب الناس بأدب الإسلام لسلموا من مثل هذا.
نسأل الله _تعالى_ أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
انتبه عندما تريد الزواج
إيمان مغازي الشرقاوي
هل مررت يوماً بصحراء قاحلة، لا زرع فيها ولا ماء، تعصف بك الريح تارة، والجوع تارة أخرى، وتتعثر بك الخطى حيناً من الوقت، وبينما أنت على تلك الحال إذ بفرج الله يأتي، ويمنّ الله عليك فينتهي بك المطاف إلى واحة خضراء مليئة بخيرات الله تسر الناظرين، وتبهج السائرين، ومنها يتبلغ المسافرون إلى ما شاء الله، بعد أن يتركوا خلفهم أثراً يدل على سيرهم في هذا الطريق يوماً ما...؟!
وهل تذوقت حلاوة الشبع ولذته بعد أن كابدت مرارة الجوع والحرمان، فسكنتْ نفسك بعد اضطراب، واطمأنت روحك بعد خوف وشتات، وهدأت فرائصك واستقرت بعد طول ارتعاد؟
كذلك هو الزواج.. سكينة للنفس وراحة للفؤاد.. سكن للروح وحياة طيبة للأجساد.. وهو الواحة الخضراء في صحراء الحياة، يتمتع فيها المحبون فتمتزج أرواحهم بحب ووداد، بعد أن أخذوا على أنفسهم العهد والميثاق أن يعيشوا معاً على كلمة سواء، لا اعوجاج فيها ولا التواء، وتعاهدوا معاً على رعاية تلك الواحة الغنّاء لتستمر خضرتها وتورق أشجارها، وتخرج ثماراً وبذوراً طيبة، وغراساً صالحة تثقل في الميزان وتجود بالربح الوفير.
مآرب وأهداف
نعم.. إنها آية الزواج.. قارب العبور في خضم الأمواج.. إنه المودة.. الرحمة.. السكن.. التآلف.. المشاركة بالقلب والجسد، ألا ما أعظمها من حياة بعيدة عن حياة العبث والحرام، تتحقق فيها تلك المآرب والأهداف، ومع ما فيه من تضحية وإيثار، وحبس للنفس عن التفلت من تبعاته ومسؤولياته، فإننا نقول لكل من يريد الزواج: انتبه عندما تريد أن تدخل من ذلك الباب! فهو أشبه بالقفص الذهبي الذي يغري بريقه الداخلين، لكن محبسه ليس كأي حبس وإنما هو حبس محبب إلى القلوب، وتشتاق إليه الأنفس وتحنّ! لذلك فإن لهذا الدخول تبعات، كما أن ذلك القفص الجميل محوط بقيود، وإن كانت ذهبية! فانتبه..لأن لداخله حقوقاً، وعليه واجبات! ولا بد من دفع رسوم الدخول!
وحين تحسن النوايا وتتحابّ القلوب، وتكون المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان، في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر.. وحين يصبح التأني والحلم والأناة، وحسن الظن والتماس الأعذار، والعمل لوجه الله تعالى شعاراً لنا في الحياة.. تسير سفينة الزواج بأمان، فإذا ما اعترضها عارض وتلاطمت الأمواج، وتعالت الصيحات ظهر الربّان الحكيم الذي يعرف فنّ القيادة وأصولها، وكيفية إدارة الدفة في اتجاهها الصحيح، فيأخذ بأسباب الأمان ويصل إلى الشاطيء بسلام.
القوامة على الأسرة
وما أحسن القيادة التي تؤتي أكلها وتثمر ثمارها غضة طرية في كل حين، وما أعظمها إن كان التكليف بها من لدن رب حكيم عليم، رحيم بعباده، وهنيئاً لمن قام بما كلف به دون تقصير، ويا لخزي وندامة من لم يقم بما عليه حق القيام في يوم يشيب من هوله الولدان، والجزاء من جنس العمل، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
لقد كلّف الله سبحانه الرجال بقيادة دفة الأسرة، وخصّهم بدرجة القوامة، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على" بعض وبما أنفقوا من أموالهم (سورة النساء: 34). وهي ليست قوامة تشريف بقدر ما هي تكليف وتبعات ومسؤولية، وليست قوامة تسلط وتعنت وجبروت، بل رعاية وعناية وإحسان، لا ضرر فيها ولا ضرار.. قال {: "من ضارّ ضارّه الله، ومن شاقّ شق الله عليه".. وقال: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه ابن ماجه).
اجتياز البوابة
ومن هذا المنطلق ننطلق معا ونجتاز تلك البوابة لندخل ذلك القفص الذهبي الذي من حرم دخوله تمنى لو عاد قطاره إلى محطته السابقة ليحطّ برحاله هناك أمام ذلك الباب ليصبح آمناً في حصن حصين من الشيطان الرجيم... لذا فقد قال رسولنا {: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني". (رواه الحاكم).
وقديما قالوا: من خير ما يتخذ الإنسان في دنياه: كي ما يستقيم دينه، قلب شكور ولسان ذاكر: وزوجة صالحة تعينه.
حقوق وواجبات
إنه الزواج.. العفة والطهارة والإحصان.. المودة والرحمة والأمان.. السكن والأنس والاطمئنان.. من رُزقه ووُفق إليه نال من الخير الكثير، وهو أخذ وعطاء.. حقوق وواجبات.. إيثار وإنكار للذات.. وقبل ذلك طاعة وعبادة وقربة من أجلّ القربات.. به تُطلب الرحمات وترفع الدرجات. قال رسول الله {: "إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه نظر الله تعالى إليهما نظرة رحمة، فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما". (رواه ميسرة بن علي ورمز له السيوطي بالصحة).
تُرى أخي الزوج.. أختي الزوجة.. متى نظر كل منكما للآخر نظرة الرحمة تلك؟! ومتى أخذ كل منكما بكف شريكه أخذ عطف ورعاية ومحبة ليكون جزاؤه عند الله من جنس عمله؟ قد يكون ذلك العمل هامشياً في نظر البعض لا أثر له في موازينهم، لكنه نظر في غير موضعه، فكل ما من شأنه جلب رحمة الله فهو عند الله عظيم.. هي نظرة ولمسة تنزل الرحمات، فما أعظم تلك النظرة، وما أروع تلك اللمسة!!(/1)
قيد حديدي
وإن كان الأمر كذلك فما بال أقوام جعلوا من ذلك القفص الذهبي المليء بالرحمات قيداً حديدياً تُكبّل به الأيدي، وتُهان بسببه النفوس، وربما تمله وتتمنى الفكاك منه بأي سبيل كان وبأي ثمن يُدفع؟! ما الخلل إذن؟ وما الداء؟ وأين نجد الدواء؟ فوالله إنه لشيء عجاب أن تنقلب الموازين وتتحول جنبات البيت الآمن الذي يريده الله كروضات الجنات إلى أرض مستعرة تقذف حمماً بركانية ثائرة تأكل الأخضر واليابس من أمن الدار، وإلى نار تلظّى تتأجج بالليل والنهار! تُرى ما السبب؟ وكيف نتحول بالزواج وبالبيت إلى ما يتمناه كل إنسان سليم الفطرة سويّ التفكير، فيصبح روضة تسر الناظرين، وبستاناً يضم أحسن
الورود وأطيب الرياحين بدلاً من أرض جدباء لا تأتي إلا بالأشواك والهشيم..
الصحبة الطيبة
لقد أوصى الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه زوجته فقال لها: "إذا رأيتني غضبت فرضني، وإن رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب".. نعم.. إنها الصحبة الطيبة التي تعرف أن لها حقاً، وللآخرين حقوقاً.. فتعطي قبل أن تأخذ، وتعرف لكل ذي حق حقه.. الحياة شركة مشتركة، والحقوق والواجبات فيها كثيرة.
إصلاح النواة
ولمّا كان البيت المسلم هو النواة في الأمة المسلمة، ومتى صلح قويت الأمة، فجدير بنا أن نصلح النواة ونحيطها بسياج الرعاية والريّ والإهتمام، بعيداً عن الآفات التي تحد من صلاحيتها أو تؤثر فيها. ولما كان الزوج هو رب الأسرة وقيّمها كما أوضحنا، وبه يقتدي أهل بيته ومنه يتعلمون، فلا بد أن يكون على عاتقه الحمل الأكبر من الرعاية والمعرفة التامة بالحقوق والواجبات، وإذا علم ذلك أتبع علمه بالعمل... لذا سنقدم لكم إن شاء الله سلسلة القفص الذهبي، يكون مسيرنا فيها معاً على الطريق من أجل أسرة مسلمة سعيدة مستقرة، بعيداً عن آفات الجهل بالحقوق والواجبات، نتطرق معاً لبعض المؤثرات على تلك الأسرة سلباً وإيجاباً، من أجل بناء أقوى وزواج أبقى.(/2)
انتبهوا أيها السادة بيوتنا مهددة من الداخل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد:-
خطابي.... إلى السادة أولياء الأمور من المسلمين الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
أخاطب..... من نطق بكلمة التوحيد وعلم أن لا معبود بحق إلا الله تعالى.
أخاطب.... من يعظم حرمات الله ويعظم شعائره التي هي من تقوى القلوب.
أخاطب..المسلم الذي يريد لنفسه أولا"النجاة ولأهله ومجتمعه عيشة نقية طاهرة في ظل الشريعة الغراء.
ولا أخاطب .....أولئك الإباحيين الذين لا يرجون لله وقارا ولا يرعون للدين حرمة ولا يقيمون للمبادئ والمروءة والشرف وزناً أولئك الذين أشربت قلوبهم الإباحية فاستمرءوا الزنا و الخنا...أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا...!!
ماذا أعددت للأمة في نكبتها.
دأب أعداء الإسلام على إغراق شباب المسلمين في الشهوات وإبعاده عن معاني الدين فأصبحنا نجد كثيرا من شباب الأمة تائها تافها، لا هم له سوى السعي وراء الشهوات، كم عدد الشباب الذي يقضى ليله في( السيبرات )أمام شاشات الكمبيوتر وأمام الدشوش والفضائيات يشاهدون العهر والفجور؟ الإجابة سوف تكون مزعجة يحزن لها من فى قلبه بقية خير… وترتسم بها بسمة عريضة على وجه إبليس القبيح. لاشك أنه قد حقق نصرا عظيما حينما استبدل الشباب المسلم الذى هو أمل الأمة الذي هو شر محض بالمحاريب والمصاحف والبكاء من خشية من خشية الله.
أين ليلنا من ليل السلف الصالح رضي الله عنهم؟… تورمت أقدامهم من قيام الليل وتقرحت أشداقهم من كثرة الصيام….أما شباب اليوم –ويا عجباه – تورمت أقدامهم من التسكع على النواصي وقوارع الطرق و تقرحت أشداقهم من التدخين و المخدرات و أصبحت وجوههم مصفرة لا تسر الناظرين، ، وأصبح من الصور التى يمكن أن تراها دوما فى المدن الكبيرة تلك الفتاة التى تنفخ الدخان من نافذة سيارتها تتحدى فطرة الله فيها ويالحسرة من ابتلى بمثلها.
إذا سرت فى الطريق كم بيتا" تسمع القرآن يرتل فيه، ونساؤه متحجبات.،وكم بيتا تئن سقوفها من وطأة المعاصي.... غناء وتبرج وتحلل وبعد عن رب العالمين... نسبة تقطع نياط القلوب قال من هو الخلق عليم ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ: من لآية13
ففي أي الخندقين أنت أيها السيد؟ يامن ستسأل بين يدي الذي يعلم السر وأخفى عن بيتك وأهلك ...هل أنت في خندق الشيطان تبارز الله تعالى بنعمه وتعصاه وأنت في ملكه ؟ أم أنك فى خندق الموحدين الذين يحار بون الشيطان ويقاتلونه بسنن النبي الأمين، و يدحرونه بالتمسك بكتاب رب العالمين.
أيها السيد:من الذي يأكل طعامك ويسكن بيتك ويتمتع بمالك وترعاه ليلك ونهارك وتحوطه بكلاءتك ؟؟
هل هي تلك المرأة المتبرجة المتهتكة التي هي أعظم أدوات الشيطان في إضلال العباد..؟ أم أنه ذلك الشاب التافه التائه البعيد عن سراط الله المستقيم ؟، لا تلقى باللائمة على غيرك وترمى بالتقصير سواك أنت المسئول أمام الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم :( الرجل راع فى أهل بيته وهو مسئول عن رعيته؟ والمرأة راعية فى بيت زوجها وولده وهى مسئولة عنهم. متفق عليه
فأدرك نفسك، وتدارك مافاتك، وتلك بعض الإشارات والصوى - العلامات - على طريق الهدى .،وأرجو أن يتمسك بها من أراد الآخرة وسعى لهل سعيها وهو مؤمن من السادة ولاة الأمور وكذلك السيدات لأنهن كما بين النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الماضى مسئولات أمام الله تعالى فتعالوا معى نضع أيدينا على بعض المخالفات التى غيرت معالم البيت المسلم و نتلمس هدى النبى الكريم صلى الله عليه وسلم فى علاج هذه الأخطاء.
لا عز إلا في كنف العزيز:
من طرائف ما ذكره أحد شيوخ الدولة العثمانية في بلاد الإنكليز أنه اجتمع مرة مع بعض كبراء الدولة البريطانية فقال له أحد الحاضرين لماذا تصرون أن تبقى المرأة المسلمة في الشرق متخلفة معزولة عن الرجال محجوبة عن النور....؟ فقال له السفير العثماني: لأن نساءنا في الشرق لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن فخجل الرجل ولم يحر جوابا . لن تجد للحياة طعما حتى تعمل بالكتاب والسنة.. فإلى الذين يبحثون عن السعادة في الحانات والخمارات وأماكن اللهو هل وجدتم ما وعدكم الشيطان حقا؟
الوقاية خير من العلاج:-
لما كان الزنا هاوية سحيقة من اقترب منها سقط فيها سد الإسلام كل الطرق المؤدية إليه وأحاطه بكثير من الحواجز وهو ما يسمى بسد الذرائع، ومنها : الاختلاط الماجن ، والمصافحة والملامسة ،والخلوة ، والنظر ، والتجاوزات الشرعية ،تلك خمسة كأنها قنابل موقوتة تهدد البيوت المسلمة بالدمار .
أولا" الاختلاط:-(/1)
وهو وجود جمع من الجنسين في مكان واحد دون الضوابط الشرعية كما في الجامعات و وسائل المواصلات وقد بدأت الدعوة إليه على يد أعداء الإسلام من الكفار أمثال "مرقص فهمي" "ودار كير" ثم تولى كبره العلمانيون من أمثال سعد زغلول وطه حسين وقاسم أمين ولطفي السيد من أذناب الغرب المتحلل فسعوا فى نشره في بلاد المسلمين بعدما ذاقت أوروبا وأمريكا ويلاته .،إن الفطرة التي فطر الله الناس عليها أن المرأة تميل إلى الرجل والعكس (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
أراد دعاة الحرية الزائفة أن يغيروا نواميس الكون ويبدلوا سنن الحياة فقاتلوا لإخراج المرأة من بيتها لتخالط الرجل في مناحى الحياة وقد تهيأت الأجواء وذابت المبادىء والأخلاق وكسرت الحواجز الفطرية فظهر ما يسمى بالصداقة الجريئة " البريئة" بين الجنسين. والحب العاهر " الطاهر" و صديق العائلة " البوى فرند " فانتشر الفساد وأطل الزنا من بيوت من قبل كانت محصنة فى ظل الشريعة الغراء.
الاختلاط محرم على أشرف الخلق :
قال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)
(الأحزاب:53)
أيها السيد :هل تعرف هذا المتاع الذي تسأل الصحابة عنه أمهات المؤمنين؟ إنه هو السؤال عن أحاديث رسول الله وسننه ، فكيف إذا كان السائل هو من دون الصحابة وأمهات المؤمنين فى الخلق والدين وطهارة القلوب ، كيف إذا ظهر الجهل وتبرجت النساء وفسدت الأخلاق وظهرت الفتن ،ألا يجدر بنا أن نأخذ حذرنا ونحصن بيوتنا من هذه الآفة العظيمة.
الاختلاط ممنوع فى أشرف الأغراض:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد يوما فوجد الرجال قد اختلطوا بالنساء فى الطرقات حين خرجوا من الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء عليكن بحافات الطريق" فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به. 929 صحيح الجامع
الاختلاط ممنوع فى أشرف الأوقات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" رواه أبو داود صحيح الجامع 3310
فتبين من كلامه الحث على البعد بين الجنسين لأن الشر كله فى الدنو والاقتراب ..مع أن القلوب أطهر ما تكون عند الصلاة، فهل تدعى وأنت في مكان يموج بالشباب والفتيات أن قلبك طاهر ؟ هيهات لم تزعم.
عجبت…… داعية الاختلاط يأباه .
هاجم قاسم أمين الاختلاط فغضبت الأميرة "نازلي" فأدار دفة أفكاره 180 درجة ودعا إلى الاختلاط فلما ذهب إليه المؤرخ الإسلامى "رفيق العظم " قال له "لقد جئت هذه المرة للحديث مع زوجتك في بعض المسائل الاجتماعية" فغضب قاسم أمين "كيف يطلب منه مقابلة زوجته" فقال له "وفيق العظم : أولست تدعوا إلى هذا؟ فلما لا تقبل التجربة مع نفسك. يتبع فى العدد القادم بإذن الله.
الشيخ /عادل أبومختار السعود
نائب رئيس تحرير مجلة الهدى النبوى(/2)
انتبهوا يا سنة العالم!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
إن الخصومة التي تظهر للناس على سطح السياسة الدولية بين الأمريكان وبعض الدول المجاورة للعراق، هي خصومة خادعة ومكر خبيث، الهدف منها القضاء على كيان أهل السنة واستئصال تاريخهم الذي بدأ بناؤه في العهد الراشدي الذي يبغضه بعض من يدعون الإسلام ومحبة أهل البيت هذا العهد الذي قضى على الدولة الفارسية، وأقام الحضارة الإسلامية التي أوقدت نار الحقد في قلوب المهزومين الذين كانوا يتربعون على عرش إمبراطورية مترامية الأطراف.
وإن المخطط الشيعي ضد أهل السنة في العالم الإسلامي، ومنه الدول العربية، قد بدأ من عام 1979م الذي قامت فيه أول حكومة أعلنت تصدير سياستها للسيطرة على العالم الإسلامي، وبدأت بإحداث الاضطرابات في مواسم الحج، واستضافة كثير من شباب أهل السنة للدراسة في مدينة "قم" ليعودوا إلى بلدانهم آياتٍ وحُجَجاً لكي يحدثون فيها فتنا واضطرابا بين أهل السنة، وقد حصل ذلك فعلا وانخدع بهم في حينه كثير من أهل السنة في الدول العربية وغيرها، ومنهم بعض العلماء والدعاة وأيدتهم بعض الصحف الإسلامية ظنا بزعم أن الخلافة الإسلامية التي ستجمع المسلمين في كل الأقطار الإسلامية في ظل رايتها قد آذنت بالرجوع إلى هذه الأمة... ثم اكتشف المتفائلون أن ما كانوا يظنونه ماء ليس سرابا بقيعة فقط، بل هو مشروع لتصدير مذهب معين بالقوة إلى المسلمين الذين استمروا في السير على مذهب أهل لسنة والجماعة المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي طبقه الجيل المباشر لتلقي الهدى الرباني من القدوة الحسنة للأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن ظهرت للمتفائلين أهداف المشروع الخميني وفي طليعتها هدف تصدير ما يسمى بـ(الثورة الإسلامية) كفوا عن الثناء والمديح الذي كالوه للزعيم الشيعي، بل بدأت الصحف الإسلامية التي كانت تؤيده تكفر عن إطرائها له بكشف ماكان مستورا عن المسلمين، وأذكر من تلك الصحف "مجلة المجتمع الكويتية"
وكان من المتفائلين والمؤيدين للخميني بعض الدعاة من أساتذة أهل السنة الذين التقيتهم في مناسبات كثيرة من المؤتمرات والندوات الرسمية والأهلية، وحصل بيني وبينهم حوار حول اندفاعهم المؤيد للزعيم الشيعي، وكان بعضهم يرد علي بصيغة المزاح: الشيخ القادري متأثر بالعقل الجمعي الذي يسيطر على زملائه العلماء في بلده، وأذكر أن زعيما سودانيا قال لي عندما حذرت من العقائد الشيعية الإني عشرية: إنكم تبعثون عقائد من قبور، قد ماتت واندثرت.
ومن الأساتذة الذين ذهبوا في وفد إلى الخميني لتهنئته، الشيخ سعيد حوا رحمه الله، ولكنه انقلب 190 درجة بعد أن كُشِفت له حقائق الزعيم في عقائده وفي سياساته وبخاصة موقفه من المظلومين من أهل السنة، في بعض الشعوب التي تسلط عليها من هم للخميني حلفاء خلصاء، إضافة إلى اضطهاد أهل السنة في إيران، فكتب ناقدا له رسالة بعنوان: :الخميني شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف"
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=21&book=1727
ولقد احتضنت الدولة الإيرانية بعض المراجع الشيعية التي كانت أصولها وافدة إلى العراق ودرب أفرادَها الحرسُ الإيراني منتظرة اليوم الذي تسلمها أمريكا السلطة في العراق، فكانت الهجمة الأمريكية التي تواطأت معها الزُّمَر الشيعية في أمريكا وبريطانيا، هي الفرصة السانحة لتنفيذ الخطة الإيرانية الأمريكية على العراق في الحرب الأخيرة، فتدفقت الكتائب الشيعية المدربة في إيران – وعلى رأسها – ما يسمى "لواء بدر" ومدربوه الإيرانيون بعد الغزو الأمريكي مباشرة إلى العراق على مرأى ومسمع من الجيش الأمريكي الذي اصطف وراءه لهدم المدن السنية على رءوس أهلها.
ولتغطية الخداع الشيعي الأمريكي المعتدِيَيْنِ على أهل السنة في العراق، رفعت أمريكا وإيران عنوان الخلاف والشقاق بينهما، وكانت أمريكا تصرح بأن إيران ترسل السلاح والمقاتلين إلى العراق، وهي - أمريكا – تشكو من اجتياز المقاتلين الإيرانيين الحدود الشرقية للعراق، وتجمع جيشها و"لواء بدر" للهجوم على أهل السنة في الغرب والوسط!
ولقد حذرنا مرارا من الخداع الأمريكي الإيراني، ودعونا أهل السنة في العراق إلى اجتماع كلمتهم وتوحيد مرجعيتهم في شئونهم السياسية ليقوا أنفسهم من الحرب الشيعية الأمريكية عليهم.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_hadath&p=82
ولكنهم – مع أسفنا الشديد – تفرقوا في سياستهم، فقسم منهم أعلنوا عدم دخولهم في الألاعيب السياسية الأمريكية الشيعية المرسومة لتمييع أهل السنة وإذابتهم والسيطرة في نهاية الأمر عليهم، واغتر بعضهم ببريق السياسة ودخلوا في زنزانة سجنها السياسي البغيض، في الوقت الذي تنزف دماء ابنائهم في وسط العراق وغربه.(/1)
وها هي اليوم أمريكا تهدد السلطة الإيرانية في وسائل الإعلام وتشكو من تدخلها في العراق، ويصطف جيشها مع الجيش الموالي لإيران، ضد أهل السنة في سامراء، ثم يعلن كلا الطرفين قبول التفاوض مع الأخر بطلب في الشأن العراقي من الربيب الإيراني زعيم "لواء بدر"
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2006-03/16/article10.shtml
وإن الواجب على علماء أهل السنة ومفكريهم وسياسييهم أن يبينوا لهم ما يضرهم وما ينفعهم، سواء تعلق بعقيدتهم أو اقتصادهم أو سياستهم أو العدوان على بلادهم، و السكوت عن ذلك مع العلم به غير لائق بهم، فهاهم مراجع الشيعة وعلماؤهم وسياسيوهم واقتصاديوهم ومقاتلوهم يقوم كل منهم بدوره.
وهاهي فضائياتهم في كل من إيران والعراق ولبنان، بل وفي بعض الدول الغربية، تبث لكل تلك الفئات عقائدهم وأفكارهم وسياساتهم، وموضوعاتهم موجهة توجيها ذكيا ونشيطا إلى شبابنا وشاباتنا منطلقين في ذلك من أساس يدعونه، وهو منهم براء، ونحن أولى به منهم، وهو الولاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يرفعون رايته مع إهانة لصفوة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهدفهم من ذلك تكثير سوادهم لينقضوا على أهل السنة في العالم وليس في العراق فقط، وإن أول البلدان التي ستنال قسطها من عدوانهم إذا تمكنوا هي الدول المجاورة – وبالأخص دول الخليج – التي بها من المغريات الدينية والاقتصادية ما لا يوجد في غيرها.
إن الأمريكان واليهود والبريطانيين وبعض الدول الغربية، يعلمون علم اليقين أن العقبة الكأداء أمام تحقيق أهدافهم هم أهل السنة وليس الشيعة، لأن الشيعة قد تعاونوا مع المعتدين على البلدان الإسلامية من قديم الزمن، كما هي الحال مع التتار، وهم اليوم قد تعاونوا معهم في أفغانستان وركبوا دباباتهم عندما احتلوا العراق، ولا تخدعنا تصريحات خلافاتهم المعلنة فالنار تحت الرماد.
وللشيعة في البلدان الإسلامية مواطنون يوالونهم ضد أهل البلد الذي يستوطنونه، لا يجوز الاستهانة بهم، في الجزيرة العربية وغيرها.
لقد صدرت تصريحات من بعض المسئولين الحكوميين على مستويات عليا في بعض الشعوب الإسلامية السنية تحذر من الخطر الشيعي ثم سكتت.
والمسئولون الرسميون قد يضطرون إلى السكوت لأسباب سياسية ودبلوماسية ...ولكننا نحن الشعوب لا يجوز لنا السكوت على خطر نسمعه بآذاننا ونراه بأعيننا، ولا ينبغي أن نخفي الحقائق عن شعوبنا تحت لغة دبلوماسية غير واضحة، خشية من وقوعنا فيما وقع فيه أهل الكتاب قبلنا الذين نهاهم تعالى عن ذلك نهيا صريحا فصيحا في الكتاب العربي المبين:
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة]
فهل سينتبه أهل السنة للخطر المحدق بهم من قبل العدو اليهودي والصليبي ومن يواليه عليهم؟(/2)
انتحار ملحد
في مساء الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1940م وجدت جثة \"إسماعيل أدهم\" طافية على مياه البحر المتوسط، \"وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين ويطلب إحراقها\"(1) !! فمن هو إسماعيل هذا الذي آثر هذه النهاية المروعة ؟ !
يقول عنه صاحب الأعلام : \"إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم باشا أدهم: عارف بالرياضيات، له اشتغال بالتاريخ، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم أحرز الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام 1931، وعين مدرساً للرياضيات في جامعة سان بطرنسبرج، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات في معهد أتاتورك ! بأنقرة ، وعاد إلى مصر سنة 1936 فنشر كتاباً وضعه في \"الإلحاد\" وكتب في مجلاتها، أغرق نفسه بالإسكندرية منتحراً\"(2)
قلت: تأثر إسماعيل أدهم بالمد الشيوعي الإلحادي بسبب إدمانه قراءة إنتاج القوم حتى علقت أفكارهم بعقله وتمكنت من قلبه ؛ فألف إثر ذلك –كما سبق- رسالة سماها \"لماذا أنا ملحد؟\"(3) ! جاء فيها: قوله عن نفسه: \"أسست جماعة لنشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، وقصة تطور الدين ونشأته… وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد\"(4) .
وقد رد على رسالته هذه: الدكتور أحمد زكي أبو شادي برسالة عنوانها: \"لماذا أنا مؤمن؟\"(5). ورد عليها: محمد فريد وجدي بمقالة عنوانها \"لماذا هو ملحد؟\"(6)
انتحر إسماعيل مظهر وله من العمر تسعة وعشرون سنة؛ أي في ريعان شبابه، فكانت نهايته نهاية مأساوية لشاب مسلم موهوب، قال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات : \"كان شديد الذكاء.. واسع الثقافة\"،(7) وقال عنه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأنه صاحب \"ذهن متوقد لامع\"(8) كان الأول على دفعته في البكالوريا(9)، ثم حاز الدكتوراه وألّف مؤلفات كثيرة، ودرّس، وكان يحسن التحدث بست لغات(10)، كل هذا وهو في هذا العمر الصغير.. إلا أنه بعدها اختار الكفر على الإيمان، وتدرج في مهاوي الضلال إلى أن وصل إلى آخر دركاته وهي الإلحاد –والعياذ بالله- لتكون خاتمته في تكلم الجثة الطافية على مياه البحر آيةً لمن خلفه من شباب الإسلام النابهين أن لا يفتروا بذكائهم ومواهبهم، فيخوضوا –لأجلها- ذات اليمين وذات الشمال واثقين –زعموا!- من أنفسهم، معرضينها للفتن والإنسلاخ من الدين؛ إما بإدمانهم العكوف على كتب أهل الضلال والحيرة والشك كشأن أدهم، أو بمصاحبتهم وألفتهم ومن يشككهم في دينهم ويهون عليهم الطعن فيه أو التحير من بعض شرائعه، مجانبين في ذلك أهل الإيمان ساخرين من نصائحهم، لازمينهم بالتحجر وضيق الأفق!، ومبتعدين رويداً رويداً عن الصراط المستقيم؛ خشية أن يقول قائلهم –ولو بعد حين- : \"لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذين نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي..\" (11) !
وإسماعيل أدهم مجرد أنموذج سقته للإعتبار بحاله حيث ارتد على دبره بعدما جاءه الهدى واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلا فإن الأمثلة من تاريخنا القديم والحديث معلومة مشهورة .
فمن القديم مثلاً: ابن الراوندي الملحد الذي انتهى حاله إلى أن ألف كتاباً سماه \"الدامغ\" يزعم أنه يدمغ به القرآن !! دمغه الله. فهذا الرجل ذكر المؤرخون عنه أنه \"كان في أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك\"(12) وذكروا –أيضاً- شيئاً من ذكائه وعقله، ولكن كما قال الذهبي في ترجمته \"لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة من التقوى\"(13)!
والذي يهمنا من ترجمته هو قول الذهبي عنه : \"كان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم\"(14) !! فكان نهاية هذا التهاون في الجلوس مع المبتدعة والملحدين أن أصبح واحدًا منهم، بل أجرأ على حرمات الله.
ومن الأمثلة المعاصرة : عبد الله القصيمي ، وحاله معلومة للكثيرين.(/1)
ومنها: الشاعر الكويتي فهد العسكر. فقد ذكر صاحبه عبد الله الأنصاري عنه أنه: \"شب متديناً، يؤدي الصلاة مع والده في المسجد، ويحافظ على أدائها مع والده في كل فرض من الفروض، حتى صلاة الفجر، فقد كان والده يأخذه معه إلى المسجد وهو صغير السن؛ إلى أن تشرب الدين في عروقه ودمه\"(15) ثم أصبح مؤذناً بعد ذلك(16). لكنه بعدها –كما يقول صاحبه الأنصاري- \"أغرق في القراءة، واستمر في الإطلاع على مختلف الآراء والأفكار الأدبية والإجتماعية والسياسية… إلى أن تحول تحولاً كليًا في تفكيره، وفي نظرته إلى الحياة، وإلى بعض التقاليد والعادات الموروثة (17) ؛ ثم أخذ يتعاطى الخمرة التي تغزل بها كثيرًا في شعره، وهكذا، إلى أن أصبح منعزلاً في أفكاره وآرائه عن بيئته المتدينة، وعن المجتمع المحافظ\" (18) .
قلت: فنصحه أهله وأقاربه وزجروه عن هذا المسلك المهلك، ولكنه أبى واستكبر، فهجروه واعتزلوه ونبذوه، فلزم العزلة والإنزواء ومعاقرة الخمر مع من هم على (مشربه) إلى أن أصابه الله بالعمى وهلك غير مأسوف عليه. وبعد وفاته لم يصل عليه أحدٌ من أهله (19)، وقاموا بحرق ما وجدوا من أشعاره التي تنضح بالكفر والاعتراض على شرع الله والاستخفاف بشعائره (20).
وسأورد أبياتًا له تدل على ذلك؛ لتعلم حال الرجل، وتعذر أهله وأقاربه على ما قاموا به . يقول العسكر (21):
ليلة ذكرياتها ملء ذهني وهي في ظلمة الأسى قنديلي
ليلة لا كليلة القدر بل خير وخيرٌ والله من ألف جيل
أنا ديني الهوى ودمعي نبيي حين أصبو ووحيه إنجيلي
هذه كما قلت مجرد أمثلة للناكصين على أعقابهم بعد أن أبصروا الطريق، ممن قال الله فيهم { وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } .
ومعرفة أسباب هذا الزيغ الذي يصيب قلوب البعض يحتاج إلى دراسة متعمقة تغور في تلك النماذج وما يماثلها لتستخرج أسبابًا مشتركة بينها؛ لكي توجد الحلول المناسبة الواقية من ذلك –بإذن الله-، فلعل الله ييسر من يقوم بذلك؛ لأهميته القصوى، لاسيما في زماننا هذا زمان المتغيرات. ويحضرني من ذلك على عجالةِ: أنني تلمحت في أحوال كثير من الزائغين ممن يمر بي ذكرهم فوجدتهم لا يخطئون واحدة من هذه الصفات:
1- الذكاء غير المنضبط بضوابط الشرع ، مما يجعل صاحبه يقتحم المهالك بدعوى الثقة في النفس !
2- الكِبر والإعجاب بالنفس، فتجد (الأنا) متضخمة عند هذا الصنف من الناس قبل زيغه. ومما يذكر عن القصيمي مثلاً أنه كان إذا ألف كتابًا ابتدأه بقصيدة له يثني فيها على نفسه وقدراته !
3- الشذوذ ومحبة تتبع الغرائب والنوادر قبل زيغه، كل هذا طلبًا (للشهرة) و(التميز).
4- التهاون في الجلوس مع المنحرفين فكرياً، بدعوى \"الاستفادة\" أو \"الإطلاع\" ! و\"الصاحب ساحب\" كما قيل. ورحم الله الأوزاعي لما قيل له إن فلاناً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع. قال: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل\"(22)
5- عدم إخلاص النية في سلوك طريق الهداية، وإنما كان السلوك مشوباً بالمقاصد الدنيوية أو المجاملات التي سرعان ما تختفي مع طول الطريق الذي لن يصبر عليه إلا المخلصون.
6- عدم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الإكثار من قول \"اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك\".
السياج الذي أقامه السلف :
لقد تنبه السلف لخطورة هذا الأمر الذي يُفسد قلوب ناشئة المسلمين، فلهذا جعلوا بينهم وبينه سياجاً واقياً استنبطوه من النصوص الشرعية (23)، يتضمن النهي عن مخالطة أهل البدع والإنحراف والبعد عن شبهاتهم وإنتاجهم (24) ؛ خشية أن يعلق شيء منها بقلب ضعيف فيتأثر به ويتشربه، فأعادوا وأكثروا حول هذا الموضوع في مصنفاتهم ومروياتهم نصحاً لأبناء المسلمين، فلا تكاد تجد مؤلفاً في العقيدة السلفية إلا ويتضمن فصولاً أو أبواباً في التحذير من أهل الزيغ والتنفير منهم ومن مسلكهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة إلى زبالات البشر (25).
فمن ذلك: قول ابن عباس –رضي الله عنهما- : \"لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلب\" (26).
ومن ذلك: قول عمرو بن قيس الملائي: \"كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك\"(27)(/2)
ومن ذلك: قول الإمام أحمد وقد ذُكر عنده أهل البدع: \"لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم، وكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل البدع والمراء\"(28) وذكر في مسنده –رحمه الله- حديث الدجال وقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: \"من سمع بالدجال فلينأ عنه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشُبه حتى يتبعه\"(29) فقس هذا –رعاك الله- بحال من يجالس أهل البدع والزيغ ويتضلع من كتبهم مدعياً أنه يثق بنفسه !! ساخرًا من تحذيرات أهل الإسلام.
فالسلف – رحمهم الله – نظروا إلى العلوم بهذه القسمة :
1 – العلم الشرعي النافع ؛ وهو علم الكتاب والسنة وما تفرع عنهما . وهو ماوردت النصوص بمدحه ومدح أهله،وذكر أجره العظيم لمن خلصت نيته .
2 – العلم ( الدنيوي ) المباح النافع ؛ كعلوم الزراعة والهندسة والصناعة ونحوها . وهذا العلم كلأ مباح لأهل الأرض كلهم ، هم شركاء فيه ، ومن بذل أسبابه حصله . كما قال تعالى { كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } .
3 – العلم الضار ؛ وهو الذي لا نفع فيه في الدنيا ولا في الآخرة ، بل سيكون وبالاً على صاحبه ، وإن توهم البعض من المخدوعين خلاف ذلك ؛ كالسحر والتنجيم وعلم الكلام والفلسفة ونحوها . ومثله في زماننا : الكتابات الفكرية المنابذة للنصوص الشرعية .
والموفق لهذا التقسيم من وفقه الله .
نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه، وأن يهب لمتفوقي المسلمين الزكاء بعد أن من عليهم بالذكاء، فيكونوا قرة عين لأمتهم ، والله الموفق لكل خير .
كتبه : سليمان بن صالح الخراشي
1423هـ
الهوامش :
(1) مجلة الرسالة : السنة الثامنة، المجلد الثاني، ص 1241، والأعلام الشرقية (ص 860) .
(2) الأعلام للزركلي (1/310 بتصرف) . وله ترجمة في الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (ص 858-860)، وفي تراجم عربية، لمحمد عبد الغني حسن .
(3) نشرها الدكتور أحمد الهواري ضمن الأعمال الكاملة لإسماعيل أدهم (3/80) وتراجم عربية، ص 189. وذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
( 4 ) ذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
( 5 ) مجلة الرسالة، 5 أغسطس 1940م، وانظر: الإسلام والغرب، لمحمد الخير عبد القادر، ص 61، وهوامش على دفتر التنوير، لجابر عصفور، ص136. وقد ذكر أن أبا شادي نشرها في مجلة \"الإمام\" (سبتمبر 1937م).
( 6 ) نشرها الدكتور أحمد الهواري عقب رسالة إسماعيل مظهر، ضمن الأعمال الكاملة له (3/92).
( 7 ) وحي الرسالة (2/218).
( 8 ) تراجم عربية (ص 198) .
( 9 ) الأعلام الشرقية (ص 858) .
( 10 ) السابق (ص 859-860).
( 11 ) القائل هو أبو المعالي الجويني –غفر الله له- وهو من هو ذكاء وتمرساً في علوم الكلام، ثم ختم ذلك بقوله : \"وها أنذا أموت على عقيدة أمي\" ! فهل من معتبر ؟ ! . (انظر: شرح الطحاوية، ص 245، ط التركي والأرنؤط).
( 12 ) سير أعلام النبلاء (14/61).
( 13 ) السابق (14/62).
( 14 ) السابق (14/59).
( 15 ) فهد العسكر، حياته وشعره، لصاحبه عبد الله الأنصاري، ص 54. مع التنبه إلى أن صاحبه هذا يعتذر له كثيرًا ويتهجم على معارضيه من أهل الإسلام.
( 16 ) السابق، ص 25.
( 17 ) بل أحكام الشريعة ! ولكنها المدافعة بالباطل !
( 18 ) السابق، ص 56.
( 19 ) السابق، ص 84.
( 20 ) السابق، ص 75.
( 21 ) السابق ، ص 148.
( 22 ) الإبانة لابن بطة (2/456).
( 23 ) انظرها في رسالة \"موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع\" للدكتور إبراهيم الرحيلي (2/529-563).
( 24 ) إلا لمن أراد الرد على هذا الإنتاج العفن ، وتحذير الأمة منه ، بعد أن يتزود بالعلم الشرعي النافع .
( 25 ) انظر على سبيل المثال: \"الشريعة\" للآجري (3/574 وما بعدها)، و\"أصول اعتقاد أهل السنة\" للالكائي (2/114 وما بعدها)، و\"الإبانة\" لابن بطة (2/429 وما بعدها)، و\"السنة\" لعبد الله بن أحمد. (1/137 وما بعدها) و\"البدع والنهي عنها\" لابن وضاح، وغيرها.
( 26 ) الإبانة، لابن بطة (2/438).
( 27 ) السابق، (2/436).
( 28 ) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/220).
( 29 ) أخرجه أبو داود (4319)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.(/3)
انتفاع الأموات بسعي الأحياء
الحمد لله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمد المصطفى ، و آله و صحبه و من والاه ، و بعد
فقد سُئِلتُ عمّا ينفع الأموات و يبلغهم ثوابه من سعي الأحياء ؟ و أيُّ الأعمال التي يبلغه ثوابها أفضل و أنفع له و لمن يؤديها عنه ، أو يهب ثوابها له ؟
فقُلتُ مستعيناً بالله تعالى :
الأصل في أعمال العباد أنّ ثوابها لفاعِلِها ، أمّا ما أهدى فاعله ثوابَه لغيره ، أو أدّاه نيابةً عن الغير من الأحياء أو الأموات ، فالحكم بصحة الإنابة أو عدَمها ، و بلوغ ثوابه لِمَن وُهِبَ إليه أو عدمُه ، يختلف باختلاف العمَل ، إذ رُخّص في بعض أنواعِه بالنصّ ، و اختُلف في أنواعَ أُخَرْ ، و فيما يلي بيان ذلك مقروناً بأدلّته :
أوّلاً : ما لا خلاف في انتفاع الميت به و إن كان من سعي غيره ، و هو :
الصدقة الجارية ، و هي التي حُبِسَ أصلُها ، و أجريَ نفعها ، كحفر الآبار ، و وقف الضياع و الديار ، و بناء المساجد ، و نحو ذلك من وجوه الخير .
و العلم النافع ( و يدخل فيه التصنيف و التأليف و التحقيق و التعليم و طباعة الكتب النافعة و نشرها ، و الدعوة إلى الله بأيٍّ وسيلة مشروعة ، و ما إلى ذلك ) .
و دعاء الوَلَد الصالح لوالديه أحدِهما أو كلاهما .
و الدليل على ما تقدّم ما رواه مسلم (1631 ) ، و أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ النبي صلى الله عليه و سلّم قال : ( إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثةٍ إلا من صَدَقَة جَارِيَة أو عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ ) .
و في سنن ابن ماجة أيضاً بإسنادٍ صحيح (3660 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه ِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : أَنَّى هَذَا ؟ فَيُقَالُ :باسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ ) .
و ما رواه ابن ماجة في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته ، علماً علَّمَه و نشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مصحفاً ورَّثه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً بناه لابن السبيل ، أو نهراً أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته و حياته ، تلحقه من بعد موته ) .
قلتُ : و من العِلم النافِع الذي ينفع الميت بعد موته ، نشر السنن و إماتة البدع ، و السعي في ذلك بين الناس عن عِلمٍ و بصيرة ، لما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم ) .
الصدَقة عن الميّت :
و ينتفع الميت بصدَقة الحيّ عنه ، لما رواه البخاري ( 1388 ) عن أمّ المؤمنين عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا ( أي ماتت فجأةً ) وَ أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) .
و في الصحيح أيضاً ( 2756 ) عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، أَنَّ سَعدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَ هُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَ أَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) قَالَ : فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ ( اسم لبستان كان له ) صَدَقَة ٌ عَلَيْهَا .
و روى مسلم و ابن ماجة و النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ أَبِي مَاتَ ، وَ تَرَكَ مَالاً وَ لَمْ يُوصِ ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) .
و قد حكى الإمام النووي رحمه الله الإجماع على وصول الدعاء للميت ، و أن أداء الدين عنه يجزئه ، و كذا سائر الصدقات ، تقع عن الميت و يصله ثوابها من ولده أو غيره [ شرح صحيح مسلم : 7 / 90 و 8 / 23 ] .
قلتُ : و الصدَقة عن الميت غير مقيّدة بالصدقة الجارية ، بل الأمر على عمومه ، و ممّا يدل على ذلك فعله صلى الله عليه و سلم ، حيث أشرَكَ غيره في أضحيته – و الأضحية ليست من الصدقات الجارية – و قال عند ذبحها : ( بِاسْمِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ ) [ رواه مسلم : 1967 ] ، مع أنّ في آله الأطهار أحياءٌ و أموات ، و الأضحية عن الميّت صدقة و ليست واجبة .
الحجّ عن الميّت :(/1)
و يُشرَع الحجّ عن الميّت ، و يجزِئه إذا كان النائب أدّى الفريضة عن نفسه أوّلاً ، لما رواه مسلم في صحيحه ( 1149 ) عن عَبْد اللَّهِ بْن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْهما ، قَالَ : بَيْنَما أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ ، وَ إِنَّهَا مَاتَتْ . فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( وَجَبَ أَجْرُكِ وَ رَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ ) قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أفأصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( صُومِي عَنْهَا ) ، قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( حُجِّي عَنْهَا ) .
قلتُ : و لا فرق في الحكم في الحجّ عن الميّت بين حجّة الفريضة ، و ما أوجبَه الميت على نفسه بنذر ، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، فَقَالَتْ : إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهَا ن أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ ؟ ) قَالَتْ : نَعَمْ . فَقَالَ : ( اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ) [ رواه البخاري : 7315 ] .
و في هذا الحديث أيضاً دليلٌ على مشروعيّة أداء الدين عن المتوفى و في ذمّته شيءٌ من حقوق العباد ، و هو من قبيل الصدقة عنه ، إذا لا يجب عن الأحياء إلا أن يتطوّعوا .
الصوم عن الميّت :
و يُشرَع الصوم عن الميّت ، لما رواه الشيخان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت ، و عليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ قال : ( لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ ) قال : نعم . قال : ( فدين الله أحق أن يُقضى ) .
و يدلّ عليه أيضاً حديث بريدة رضي الله عنه الذي رواه مسلمٌ ، و قد تقدّمَ آنفاً .
و في الحديث المتّفق على صحّته عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم : ( من مات و عليه صيامٌ صام عنه وليُّه ) .
و هذا في الصيام الواجب ، كصوم رمضان ، و صوم النذر ، و الكفّارة ، أمّا ما سقط عن العبد في حياته ، فلا يقضى عنه بعد وفاته ، كَمَن وجب عليه الصوم و هو زَمِنٌ فمات قبل أن يبرأ ، أو أفطر في سفَرٍ مباحٍ ، و مات في سفَره ذلك ، فلا قضاء عليه ، و لا على وليّه لكونه معذوراً ، و تجب الكفّارة عِوَضاً عن القضاء في هذه الحالة .
أمّا الحجّ و الصيام عن الميّت تنفّلاً ، فلا أعلَمُ دليلاً على مشروعيّته ، و إن قال به جماعة من أهل العلم .
و خلاصة ما تقدّم أنّ من الأعمال الصالحة ما يُشرَع أداؤه عن الميت ، و ينتفع به بعد موته بالاتفاق ؛ كالدعاء و الصدقة مطلقاً ، و الحج و الصوم الواجبين ، و لا فَرقَ في ذلك كلّه بين أن يؤدّيه عن الميت قريب أو غريب ، لعموم الأدلّة ، و ما خُصَّ الوَلد الصالح بالذكر إلا لقربه من الميّت ، و لكون ما يقوم به تجاه والديه من البرّ الواجب عليه تجاههما ، فكان تخصيصه تذكيراً له بحقّ والديه و تنبيهاً إلى ما ينبغي أن يقوم به من البر بهما بعد موتهما ، و للوالدين بواجبهما في تنشئته تنشئةً صالحاً ، لأنّ الانتفاع بعد الممات يكون بدعاء الولد الصالح ( و ليس أيّ ولد ) ، و الله أعلم .
قلتُ : و من المناسب في هذا المقام أن نتناول بالبيان مسألة قراءة القرآن عن الميت ، أو التصدّق عليه بثواب القراءة أو مثل ثوابها ، كما هو الشائع في معظم أمصار المسلمين اليوم .
فهل يصل ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الميت ؟
هذه مسألة خلافيّة قديمة ، و لأهل العلم فيها قولان معروفان :
القول الأوّل : أنّه لا يصل ، و هذا هو المشهور من مذهب الشافعي ، و يؤيّده عدم ورود النص المجوّز للقراءة عن الميت ، فتكون القراءةٌ بدعة منكرةً ، لأنَّها عبادة ، و الأصل في العبادات التوقيف ، و عليه فلا يثاب فاعلها ، و لا ينتفع بها من وُهِبَتْ إليه .
و قد ذهَب إلى هذا القول طائفة من المحققين المعاصرين ، و معظم علماء الدعوة السلفيّة .
القول الثاني : أنّ ثواب القراءة يصل إلى الميّت ، و هذا مذهب الجمهور ( الأئمّة الثلاثة ، و جماعة من أصحاب الشافعي ، و غيرهم ) ، بل زُعمَ على وُصوله الإجماع السكوتي .
ففي المغني لابن قدامة : قال أحمد بن حنبل : الميت يصل إليه كل شيء من الخير ، للنصوص الواردة فيه ، و لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ، و يقرؤون ، و يُهدون لموتاهم من غير نكير ، فكان إجماعاً . اهـ .(/2)
و القول بوصول الثواب إلى الميت هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ، و قد انتصر له في غير موضع من كتبه ، و تابَعه على ذلك تلميذه ابن القيّم ، و حجّته عدَم ورود النهي ، و أنّه يقاس على ما أخبر الشارع بانتفاع الأموات بها ، و بلوغهم ثوابها إذا أُهديَ إليهم ، كالدعاء و الصدقة و الصوم و الحج .
قال شيخ الإسلام : ( أما القراءة ، و الصدقة و غيرهما من أعمال البر ؛ فلا نزاع بين علماء السُنَّة و الجماعة في وصول ثواب العبادات المالية ؛ كالصدقة و العتق ، كما يصل إليه أيضاً الدعاء و الاستغفار ، و الصلاة عليه صلاة الجنازة ، و الدعاء عند قبره .
و تنازعوا في وصول الأعمال البدنية ؛ كالصوم ، و الصلاة ، و القراءة ، و الصواب : أن الجميع يصل إليه ... و هذا مذهب أحمد ، و أبي حنيفة ، و طائفة من أصحاب مالك ، و الشافعي .
و أما احتجاج بعضهم بقوله تعالى : ( وَ أنْ لَيْسَ للإنْسانِ إلاَّ ما سَعَى ) [ النجم : 39 ] ؛ فيقال له : قد ثبت بالسنة المتواترة و إجماع الأمة أنه يصلى عليه ، و يدعى له، و يستغفر له ، و هذا من سعي غيره ، و كذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه و العتق ، و هو من سعي غيره ، و ما كان من جوابهم في موارد الإجماع ؛ فهو جواب الباقين في مواقع النزاع ، و للناس في ذلك أجوبة متعددة .
لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل : إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه ؛ و إنما قال : ( لَيْسَ للإنْسانِ إلاَّ ما سَعَى ) ؛ فهو لا يملك إلا سعيه و لا يستحق غير ذلك ، و أما سعي غيره ؛ فهو له ، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه و نفع نفسه ، فمال غيره ، و نفعُ غيره هو كذلك للغير ، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز .
و هكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك ، كما ينفعه بدعائه له و الصدقة عنه ، و هو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم ، سواء كان من أقاربه أو غيرهم ، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه و دعائهم له عند قبره ) [ مجموع الفتاوى : 24 / 366 ] .
أمّا عن التفضيل بين العبادات التي تؤدّى عن الميّت ، و يُهدى إليه ثوابُها ، فالحال على ما هو عليه بالنسبة للحيّ و لا فَرْق .
قال ابن القيم رحمه الله : قيل : الأفضل ما كان أنفع في نفسه ، فالعتق عنه ، و الصدقة ، أفضل من الصيام عنه ، و أفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه ، و كانت دائمة مستمرة ، و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم :( أفضل الصدقة سقي الماء ) ، و هذا في موضع يقل فيه الماء ، و يكثر فيه العطش ، و إلا فسقي الماء على الأنهار و القُنِيِّ لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة ، و كذلك الدعاء ، و الاستغفار له ، إذا كان بصدق من الداعي و إخلاص و تضرع ، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة ، و الوقوف للدعاء على قبره .اهـ .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/3)
انتهاء الأجل هو السبب الوحيد للموت
إن الواقع المحسوس، والآيات البينات في القرآن الكريم، تدل بشكل قاطع، أنّ كلّ ما نراه من أحياء: نباتاً أو حيواناً أو إنساناً، مصيره إلى الموت والفناء. وما من أحياء موجودة أو ستوجد في المستقبل، إلا وستصير يوماً إلى الموت والفناء، وفي النهاية لا يبقى الا الله تعالى، ويفنى الكون، ويفنى الإنسان، وتفنى الحياة، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن].
ـــــ
إن الناس قد ذهبت بهم الظنون، وجانَبَهم الصواب، عندما بحثوا سبب الموت عموماً، وسبب موت الإنسان بخاصة. فمن قائل إن سبب الموت هو الطاعون فيما يتصل بانسان مات بعد إصابته بمرض الطاعون، أو أن سبب الموت هو السرطان لأن مريضاً كان مصابا بالسرطان قبل موته . أو أن سبب الموت هو طعنة بسكينة، أو طلقة برصاص، أو قطع الرأس أو توقف القلب، ...
وعدّ بعض الناس هذه الأمور أسباباً مباشرة للموت، وبناء على هذا يحصل الموت إذا حصلت هذه الأشياء ، ولا يحصل الموت إذا لم تحصل، فيكون حصول الموت في فهمهم هو بحصول هذه الأسباب لا بانتهاء الأجل، مع أن المسلمين يقولون بألسنتهم إن الإنسان يموت بسبب انتهاء أجله. وبالتالي يكون المميت في رأيهم هو هذه الأسباب وليس الله تعالى، حتى وإن ردّدوا بألسنتهم أنّ الله هو المحيي والمميت .
أما حقيقة الأمر في هذا، أن سبب الموت واحد وهو انتهاء الأجل، وأن الله تعالى هو المحيي والمميت، كما دل على ذلك الفهم البين الواضح لآيات القرآن الكريم. وحقيقة الأمر كذلك أن شيئاً ما حتى يصلح أن يكون سببا لا بد أن ينتج المسبَّب حتما ، وأن المسبَّب لا يمكن أن ينتج إلا عن سببه وحده، وهذا بخلاف الحالة، فإنها ظرف خاص بملابسات خاصة يحصل فيها الشيء عادة، ولكن هذا الشيء (وهو الموت هنا) قد يتخلف ولا يحصل. ولنأخذ مثلا للسبب ومثلا للحالة، فالحياة سبب للحركة الذاتية في الحيوان، فإذا وجدت الحياة فيه وجدت الحركة الذاتية فيه، وإذا عدمت الحياة فيه عدمت الحركة الذاتية فيه. وهذا بخلاف المطر بالنسبة لإنباتِ الزرع، فإنه حالة من الحالات التي ينبت بها الزرع، وليس سببا لإنبات الزرع. فالمطر ينبت الزرع عادة ولكن قد ينزل المطر ولا ينبت الرزع، وقد ينبت الزرع من رطوبة الارض، كالزرع الصيفي الذي ينبت بدون نزول المطر. وشبيه المطر مرض الطاعون، وضرب الرصاص، وغير ذلك، فهذه قد توجد ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت من غير أن يوجد أي شيء من هذه الأشياء التي يحصل فيها الموت عادة. لذلك فمرض الطاعون، والسرطان، والغرق، وضرب الرصاص، مثلا هي حالات يحصل فيها الموت عادة، ولكنها ليست سببا للموت .
والمتتبع لكثير من الأشياء التي يحصل فيها الموت، والمتتبع للموت نفسه يتأكد من ذلك واقعياً، فيجد أنه قد تحصل هذه الأشياء التي يحصل منها الموت عادة ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت بدون حصول هذه الأشياء، فمثلا قد يُضرَب شخص سكينا ضربة قاتلة، ويجمع الأطباء على أنها قاتلة، ثم لا يموت فيها المضروب بل يشفى ويعافى منها. وقد يحصل الموت دون سبب ظاهر، كأن يقف قلب إنسان فجأة فيموت في الحال دون أن يتبين لجميع الأطباء بعد الفحص الدقيق نوع الحالة التي يحصل فيها وقوف القلب، والحوادث على ذلك كثيرة يعرفها الأطباء وقد شهدت فيها المستشفيات في العالم آلاف الحوادث. ومن أجل ذلك يقول الأطباء إن فلاناً المريض ميؤوس منه حسب تعاليم الطب، ولكن قد يعافى، وهذا فوق علمنا، ويقولون إن فلاناً لا خطر عليه وهو معافى، وقد تجاوز دور الخطر، ثم ينتكس فجأة فيموت. وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذه الأشياء التي حصل منها الموت ليست أسباباً له، إذ لو كانت أسباباً له لما تخلف، ولما حصل بغيرها، فمجرد تخلفها ولو مرة واحدة، ومجرد حصول الموت بدونها ولو مرة واحدة، يدل قطعا على أنها ليست أسبابا للموت، بل هي حالات يحصل فيها الموت. أما السبب الحقيقي للموت الذي ينتج المسبَّب، أي ينتج الموت، هو أمر غيرها، وليست هي .
ربّ قائل يقول: نعم، إن هذه الأشياء التي تحصل، ويحصل فيها الموت عادة، هي حالات وليست أسبابا، لأنها قد تتخلف عن إحداث الموت، أي قد تحصل أحيانا ولا يحصل منها الموت، ولكن هنالك أسبابٌ مشاهدة محسوسة يحصل منها الموت قطعا ولا يتخلف فتكون هي سبب الموت . فمثلا قطع الرقبة وإزالة الرأس عنها يحصل منه الموت قطعاً ولا يتخلف، ووقف القلب يحصل منه الموت قطعاً ولا يتخلف. فهذه وأمثالها من أعضاء جسم الأنسان مما يحصل منه الموت قطعاً هو سبب الموت. ويقولون: نعم إن ضربة الرقبة بالسيف حالة من حالات الموت وليست سبباً للموت، وإن طعنة القلب بالسكين حالة من حالات الموت وليست سبباً للموت، وهكذا، ولكن قطع الرقبة ووقف القلب سبب للموت. فلمَ لا نقول: إن هذا سبب الموت؟(/1)
والجواب على ذلك: إن قطع الرقبة وإزالة الرأس عن الجسم لا يحصل من نفسه، فلا يحصل من الرقبة نفسها ولا من الرأس، فلا يحصل الا بمؤثر خارجي عنها ، فلا يصلح حينئذ أن يكون قطع الرقبة (أي زوالها عن الجسد) سبباً للموت، بل الأمر الذي فعل القطع هو الذي يُظن أن يكون سبب الموت وليس نفس القطع، لأن القطع لا يحصل من ذاته بل بمؤثر خارجي.
وكذلك وقف القلب لا يحصل من نفسه، بل لا بد من مؤثر خارجي عنه، فلا يصلح حينئذ أن يكون وقف القلب سببا للموت، بل الأمر الذي سبب وقف القلب هو الذي يُظَنّ أن يكون سبب الموت وليس وقف القلب ذاته، لأن وقف القلب لا يحصل من ذاته، بل بمؤثر خارجي.
وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون انقطاع الرقبة أو توقف القلب مظنة أن يكون سبباً للموت مطلقا. فلم يبق مظنة سبب الموت إلا المؤثر الخارجي .
وكذلك لا يكون سبب الموت هو المؤثر الخارجي، لأنه ثبت عقلاً وواقعاً أنه قد يحصل المؤثر الخارجي ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت دون أن يحصل هذا المؤثر الخارجي. والأصل في السبب، حتى يكون سبباً فعلاً، هو أن ينتج المسبَّب حتما. فلم يبقَ إلا أن السبب الحقيقي للموت الذي ينتج المسبب حتماً، وهو الموت، هو غير هذه الأشياء.
وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتدي اليه، لأنه لا يقع تحت الحس، فلا بد أن يخبرنا به الله تعالى. وأن يكون هذا الإخبار عن السبب الحقيقي للموت بدليل قطعي الثبوت عن الله تعالى، قطعي الدلالة في معناه حتى نؤمن به؛ لأن ذلك من العقائد وهي لا تثبت إلا بالدليل القطعي .
وقد رأينا كيف أن الله تعالى قد أخبرنا في آيات قرآنية متعددة قطعية في معانيها ودلالتها، بأن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأن الله تعالى وحده هو الذي يميت.
ويكفي أن نشيرَ مرة أخرى إلى بعض هذه الآيات. يقول تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً } [آل عمران 145]. أي كتب الموت كتاباً مؤجلاً مؤقتاً إلى أجل معلوم . ولا يملك أحد أن يغير في هذا الأجل المكتوب الذي قدره الله تعالى، إذ يقول تعالى: { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون].
وإذا كان الله قد قدّر للأنفس آجالاً، فقد قدر للأمم آجالا كذلك لا يمكن تجاوزها ، كما يقول تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف]. وقال تعالى: { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون].
آثار هذا المفهوم العقدي عند المسلمين:
إن المسلم الذي يعتقد اعتقاداً جازماً، بعد تفكر وتدبر واعيين، أن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وأن هذا الأجل قد حدّده الله تعالى، ولا يملك أحد سواه أن يغيره، يزيد فيه أو ينقص منه ولو لحظة، تجده مسلماً مقداماً، غير هيّاب ولا وجل، ينهض للقيام بما فرض الله عليه من واجبات ومسؤوليات تجاه نفسه وأمته ودينه، ويركب من أجل ذلك الصعاب، ويقتحم المخاطر دون أن يخشى أحداً إلا الله تعالى. وتراه يقول الحق حيثما كان لا يماري فيه أحداً، وينكر المنكر حاصلاً من أي امرئ كان، لا يداهنه فيه.
على مثل هذا الوضوح والفهم في العقيدة أعدّ رسول الله B أصحابه فكانوا معه كالزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.
وكانوا من بعده مصابيح الهدى وفرسان الوغى ومنارات العلم وسادة الدنيا وقادتها.
هكذا كان بلال بن رباح، وكان خباب بن الأرت، وهكذا كانت سمية، يجهرون بالحق ويصبرون على الأذى فيه بالغا ما بلغ. وهكذا كان خالد بن الوليد، وأبو محجن الثقفي، وأم نسيبة الأنصارية في ساحات الوغى والجهاد.
وهكذا كان الصدّيق والفاروق، عيوناً ساهرة على الإسلام وأهله، وقّافين عند الحق قوامين عليه.
بل هكذا كان المسلمون جميعاً في بدر، ومؤتة، والأحزاب، وحنين، والقادسية، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، عندما كان الموت فاغراً لهم فاه، ما هابوه بل تمنَّوه طلبا للشهادة في سبيل الله.
وهكذا كان أسوتنا وقدوتنا محمد رسول الله B في كل مشهد من مشاهد حياته منذ بعث حتى لحق بالرفيق الأعلى، يتحدى قريشاً وقادتها وهو فرد أعزل إلا من إيمانه ويقينه أن الآجال بيد الله، يسخرون منه فيواجههم متحديا لهم قائلاً: «أتسمعون يا معشر قريش. أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح».
وفاوضه عمه أبو طالب نيابة عنهم فيقول له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته».
وعندما بلغه نبأ خروج قريش لقتاله عام الحديبية، ما كان جوابه على ذلك إلا أن قال: «فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»، كناية عن الموت.(/2)
ويوم حنين، عندما أذهل المسلمين هولُ المفاجأة فانفضّوا راجعين، وقف رسول الله في نفر من أصحابه وأهل بيته صامدين، ونادى فيهم، وأمر العباس أن يصيح بهم حتى سمعوا النداء فكرّوا عائدين ملبين: لبيك، لبيك .
على مثل هذا الفهم الواعي لعقيدة الإسلام وشريعته تبنى العقول، وتقوّم النفوس، وتشيد الأمم، وتقام الدول، وتزدهر الحضارات ويسود العدل وتختفي من المجتمعات مظاهر الظلم والفساد والعدوان، ومن حياة المسلمين أمارات الجُبن والتردد والخنوع .
ولا يضيرُنا عند ذلك ما يصفنا به أعداء الإسلام وزبانيته، من الحكام المأجورين، والعلماء المهزومين، والكتاب المضبوعين، من كوننا إرهابيين، نحب الإرهاب ونمارسه، ونشجّع العنف وندعمه، ونتغنّى بالشهادة في سبيل الله ونمنّي أنفسنا بها. فوالله ما قامت للإسلام دولته الأولى إلاّ بعد أن وُجِدَ أنصاره في المدينة، ولا حسم مكائدَ اليهود والمنافقين فيها، إلاّ قوة المسلمين، وقيادة رسول الله الحكيمة فيهم، ولا حملت رسالة الإسلام إلى نصف الأرض المعمورة يومئذ، سوى كتائب الجهاد التي باعت أنفُساً تموت غداً بأنفسٍ لا تموت أبداً.
ولكن أنّى يكون ذلك بعد أن أزال الكفار الخلافة من حياة المسلمين، وأبعدوا الإسلام عن حياتهم، وحكموهم بأنظمة الغرب الباطلة، وحضارته الفاسدة، ومنعوا كل مخلص يعمل لعودة الحكم بالإسلام، بل طاردوهم وعاقبوهم مستخدمين مختلف الذرائع الواهية. وما درى هؤلاء وزبانيتهم أنّ مارد الإسلام العملاق قد صحا، ولن تستطيع قوة في الأرض بإذن الله أن تكبّله من جديد، بل سيمضي في العمل حتى يتحقق وعد الله للمسلمين بالنصر المبين.
يقول سبحانه وتعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [الصف/9].
فسيظهر الله سبحانه وتعالى _عمّا قريب إن شاء الله_ دين الحق، وهو الإسلام، دين محمد B على كل الأديان والنُظُم والشرائع. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين(/3)
انتهى أجله قبل أن يصلي ...
28-11-2005
يا شيخ أترى ذلك الرجل العجوز ؟
الشيخ : نعم ، ولكن ما به !
إنه لا يصلي .
الشيخ : سبحان الله ماذا تقول : لا يصلي !!!!!!
نعم إنه لا يصلي ؟
الشيخ : أمتأكد أنت؟
نعم متأكد .
الشيخ : بهذا العمر ولا يصلي !!!
هلاّ يا شيخنا ذهبت إليه وتحدثت معه .
الشيخ : بالتأكيد يا بني هذا واجب علي .
الشيخ : السلام عليك يا أخي .
العجوز : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته .
الشيخ : كيف حالك يا رجل ؟
العجوز : بخير والحمد لله .
الشيخ : أصحيح ما يقال عنك ؟
العجوز : يقال عني ! وماذا يقال عني ؟
الشيخ : يقال عنك أنك لا تصلي .
العجوز : لقد أخفتني حسبت أنه حصل خطب ما ، أهذا ما يقال عني ؟
الشيخ : نعم .
العجوز : هذا صحيح ، فأنا لا أصلي .
الشيخ : وأنت بهذا العمر !
العجوز : ولكن قلبي ممتلئ إيماناً ، فأنا مؤمن والحمد لله ، ولكنني لا أصلي تثاقلاً واسأل الله أن يهديني كي أصلي .
الشيخ : قلبك ممتلئ إيماناَ ! هذا غير صحيح ، لو كان قلبك ممتلأ إيماناً لاستقامت جوراحك ، هذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ) . ولكن بسبب ضعف إيمانك أنت لا تصلي ،فلا تخدعنّ نفسك بهذه الأكذوبة وعد إلى الله قبل فوات الأوان .
العجوز : ولكن ماذا علي لو تركت الصلاة ؟ فأنا مؤمن وقد وعد الله المؤمنين بالجنة حتى أصحاب الكبائر منهم ، فلما تقنطني من رحمة ربي التي وسعت كل شيء؟
الشيخ : أنا يا هذا لا أقنطك من رحمة الله ، ولكني لا أريد أن تكون من الذين يأمنون مكر الله سبحانه فتكون من الخاسرين .
يا أخي : الصلاة عمود الدين ، من أقامها أقام الدين ، ومن هدمها هدم الدين ، بل هي الفارق بين الإيمان والكفر ، أما سمعت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بين الإيمان والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر ) . فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تكفير تارك الصلاة الكفر الأكبر ، وينسب هذا القول إلى إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، ثم اعلم أن ترك الصلاة من أعظم الكبائر بل هو من الكبائر التي لا يغفرها الله سبحانه لمن لم يتب منها فهي من الشرك كما ثبت ذلك في رواية ثانية : ( فمن تركها فقد أشرك ) . ومن المعلوم لكل مسلم أن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، والشرك الذي لا يغفره الله يشمل الشرك الأكبر والأصغر على حد سواء ، إلا أن من الفروق بينهما أن الله سبحانه لا يخلد أصحاب الشرك الأصغر في النار ، ثم اعلم يا هذا أن من أعظم الذنوب التي يستحق أصحابها عليها العذاب يوم القيامة ترك الصلاة ، قال تعالى عن أهل النار : ( ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين ) . وقال سبحانه : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ) . فكيف بعد هذا كله لا تتوب إلى الله وتصلي ؟
العجوز : إني أريد أن أصلي ، ولكن ...
الشيخ يقاطعه قائلاً : دون لكن ، يا أخي إنك لا تضمن عمرك فإن الأعمار بيد الله سبحانه فما من إنسان إلى مصيره إلى الموت قال سبحانه : ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات ابن آدم شيعه ثلاثة ، شيعه أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد ، يرجع أهله وماله ، ويبقى عمله ) . وخير الأعمال عند الله الصلاة كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( سددوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) . بل هي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أول ما يحاسب المرء عليه يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله ) . واعلم يا أخي أن هذه الحياة الدنيا متاع الغرور قال تعالى : ( اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فترته مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، خلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً أو متعلماً ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء ) . فكيف نحرص على الدنيا ونترك الآخرة ونحن نعلم يقيناً حقيقة الدنيا وأنها ليست لنا بل هي سجن المؤمن وجنة الكافر ،وأنت يا أخي قد بلغت من العمر ما يعذرك الله به فلا تكونن يوم القيامة من الهالكين .
العجوز : حسناً سمعت قولك وفهمته وقد عملت ما عليك ، فدعني الآن وشأني .
الشيخ : لقد نصحتك والأمر راجع إليك .
وبعد مضي يومين اثنين يسمع الشيخ صوتاً يناديه .
يا شيخ ...(/1)
الشيخ: من؟ أنت مرة ثانية ماذا تريد ؟
يا شيخ أتذكر ذلك العجوز الذي تحدثت معه بالأمس ؟
الشيخ : نعم أذكره جيداً .
إنه قد مات .
ماذا تقول : مات !!!! أمتأكد أنت ؟
نعم يا شيخ لقد مات ، مات صباح الأمس .
الشيخ ، سبحان الله ! وكيف مات ؟
لقد خرج في الصباح إلى أرضه ، وبيده معوله ، ثم سقط فوقع على رأسه فمات من فوره، ولكن يا شيخ لقد رأيت من أمره عجباً .
الشيخ : وماذا رأيت ؟
رأيته مسجى في أرضه البعيدة عن الطريق الرئيسي ، وقد طلبت له سيارة إسعاف حتى تنقله ، إلا أن سيارة الإسعاف تأخرت حتى وصلت بسبب وعورة الطريق ، وأغرب من ذلك يا شيخ !
الشيخ : ماذا ؟
لقد تعطلت فرامل السيارة واحتاج الناس إلى سيارة أخرى لتنقل الجثة .
الشيخ :يا إلهي ، وماذا حصل ؟
لقد مكثت الجثة وقتاً طويلاً في الشمس إذ لم يكن هنالك شجرة تظلل الجثة بها حتى انتفخت وأصبح مظهرها مروعاً ، وبعد وقت ليس بالقليل وصلت السيارة الثانية ، فحملت الجثة وسارت بها ولكنها في الطريق ...
الشيخ : ماذا حصل لها ؟
توقفت فجأة فقد تعطل المحرك .
الشيخ : الله أكبر إنه أمر حقاً عظيم ،وماذا حدث بعد ذلك ؟
استدعيت سيارة أخرى فما أوصلت الجثة إلى مغسلة الأموات إلا بعد صلاة الظهر .
وبعد أن غسلت الجثة وصلي عليها حملت إلى المقبرة ، وقد حدث هنالك أمر غريب للغاية .
الشيخ : وماذا حصل ؟
عندما أراد الناس وضع الجثة في القبر ، وجدوا باب القبر ضيقاً لا يتسع للجثة خاصة وأنها منتفخة ، فتعذر عليهم إدخالها في القبر وركنوا الجثة على حافة المقبرة واخذوا يبحثون له عن قبر آخر ، ولكنهم لم يجدوا القبر إلا بعد صلاة المغرب ، فتأمل يا شيخنا الحبيب ماذا حل بالجثة بعد كل هذا ؟
الشيخ : سبحان الله لو كان هذا يعلم ما سيحل به لما ترك السجود حتى فاضت روحه إلى الله سبحانه ، ولكن الأمل يولد الغفلة فيصبح المرء لا يفكر إلا بالدنيا الزائلة ، ويا بني اقصص هذه القصة على الناس لعلهم يتذكرون فإن فيها الموعظة الحسنة والذكرى الطيبة ، والذكرى تنفع المؤمنين .
هذه قصة حقيقية حصلت مع الشيخ حفظه الله تعالى(/2)
انثري الورد من يديك نديَّا
· الجزيرة العربية
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
انْثُري الوردَ من يَدَيْك نَدِيّاً ... ... واسْكُبي العِطْرَ واملأي كلّ نَادِ
واغْرسي الغَرْسَةَ الذّكيَّةَ في الأَرْ ... ... ضِ و مُدِّي مِنَ الجنَى و الزّادِ
وأطْلِقي النّسمة العليلة تسْري ... ... بينَ لفْحِ الهجير والإِبرادِ
يالُبَرْدِ لظّلالِ ! يَالَنَدَاهُ ! ... ... رَفْرَفَتْ فيه لهفَةٌ من فؤادي
أنتِ أنشودةُ الزمانِ ولحنٌ ... ... لم يَزَلْ في فمِ الزّمان الشادي
لهْفَةُ الشَّوقِ بين جَنْبَيكِ تُغني ... ... كلَّ سَارٍ على الطريقِ وبادي
الصّحَارى تَمُوجُ من عَبَقِ التا ... ... رِيخ ذكْرى مَلاحِمٍ وجهادِ
ورِمَالٌ يا لَلرَّمال ! فمِسْكٌ ... ... نَشرُها للورى وطيب بادي
لهفَ نفسي ! وكلُّ حبّة رَمْلٍ ... ... لؤلؤٌ شعَّ كالبريق الهادي
*** ... * ... ***
حفَّكِ الماءُ ! هَمْسُه قَصَصُ التا ... ... رِيخ دفْقُ الرّؤى ووحْيُ الجِلادِ
والبِحارُ التي يُصَارعُها المو ... ... جُ دَوِيّ العصور و الآبادِ
بَيْنَ شطيكِ يا بحار حَديثٌ ... ... مُلهِمُ القلبِ عبقريُّ الرّشادِ
كم عروسٍ على شواطِئِك الزّرْ ... ... قاء أهْدَتْ إلى الورى من أيادِ
رسلاً للهُدى وعَزْمِةَ فرسا ... ... نٍ ووصْلَ الأَمْجَادِ بالأمجادِ
كلُّ ما في البحار من جوهَرٍ حُرٍّ ... ... عَطاءُ القُلوب والأَكبادِ
نَثَرَتْ بِرَّها الوفيَّ على البَرِّ ... ... وفي البَحْر ، في الذُّرا ، في الوِهادِ
من صَفاء الهُدى ومن آية الوَ ... ... حْي ومن نُورهِ ومن إِسْعادِ
وجُنودِ الرَّسول أصْحابِه الغُرِّ ... ... بُدورِ الزَّمَان والآمَادِ
*** ... * ... ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان عبر وعبرات .(/1)
انسحبا بأقل الخسائر!!
أثر الطلاق على الأطفال
المكان: غرفة الأبناء.
الزمان: بعد العشاء.
الأشخاص: هؤلاء الأبناء يقفون خلف باب غرفتهم .. القلق والخوف يحيط بهم ...
ماذا يحدث؟ وما هذه الأصوات العالية؟
إنه صوت الأب والأم في شجار كبير .. يسأل الأبناء تُرى بماذا سينتهي هذا الشجار ومتى؟
يفركون أيديهم .. ينظرون في عيونهم الدامعة القلقة الحزينة .. نريد أن ننام ولكن كيف ننام؟
وكيف سنذهب إلى المدرسة صباحًا بعد هذه الليلة السوداء؟
هل سيحدث .. الطلاق؟
هل ستتزوج يا أحمد؟ لا لن أتزوج عندما أكبر.
وأنت يا هدي ماذا تفعلين عندما تكبرين؟ سأكمل دراستي وأعمل ولن أتزوج إن الزواج تجربة مريرة.
هذا حوار يدور بين الأبناء وسط هذا الجو المفعم المشحون. كما قال الشاعر:
غلطة ثم لقطة فجواب فشجار ففرقة فطلاق
عزيزي القارئ:
إن الزواج شركة بين اثنين، والأبناء هم مشروع هذه الشركة، وهو رابطة مقدسة وميثاق غليظ، وعلى الزوجين مراعاة المصالح المشتركة بينهما، وعدم إظهار المعارضة الصريحة أو الكراهية الشديدة أمام الأبناء؛ لأن هذا يحدث القلق والعقد النفسية لما يرونه من قدوة سيئة داخل أسرة مضطربة ممزقة، ثم إن الاستمرار في بيت يقوم على الشجار والخلاف لن يكون محضنًا لأولاد صالحين أسوياء، فإن معظم المنحرفين ينشئون في مثل هذه البيوت المنكودة، وإن الخلاف الذي يحطم الأعصاب يذهب بكل إمكانات العبقرية ويقضي على المواهب التي يمكن أن تنتج خيرًا وبركة.
ـ وإنا نجد ردود أفعال الأطفال ـ في هذا الجو ـ عنيفة، فبدلاً من حالة الامتنان ناحية الأم والأب على تضحياتهم وبذلهما من أجل الأبناء، يحل محل هذا الامتنان الضائع نوع من اللوم والتذمر يدور بداخل الأبناء هذا السؤال:
لماذا تزوجتما إذن؟
ليتكم لم تتزوجوا حتى لا تنجبونا.
فعلى الزوجين في هذه الحالة إن حسما أمرهما وقررا الانفصال أن ينسحبا بأقل الخسائر ومن البديهي أن لكل اختيار سلبياته وإيجابياته، فقد ينفصل الزوجان ويستريح كل واحد منهما عن الآخر ولكن لب الخسارة هنا هو الأطفال.
ولا يختلف اثنان أن الخسائر التي هي في جانب الأبناء خسائر عميقة قلبًا وقالبًا، فمن يصرف على الأولاد؟ ومن يحميهم؟ وأين صورة الأب الذي يحتاجونه الأبناء في مناسباتهم الاجتماعية؟ أو في مواقفهم التي قد تستدعي وجود الأب؟ ومع من سيعيشون؟ مع الأم؟ أم مع الأب؟ أم مع الجدة؟
وأين الأمن النفسي الذي تحققه التربية في الجو الأسري الطبيعي ـ أي مع الأب والأم ـ ؟
رسالة من زوج:
هذا زوج يكتب لزوجته التي تريد الطلاق:
'الطلاق يا عزيزتي ليس لعبة يلهو بها الكبار، كلما أرادوا الهروب من المواجهة، الطلاق كلمة كبيرة جدًا تعني تشرد الأطفال، تعني خروج أحدنا من شرايين الآخر'.
نعم عزيزي القارئ:
إن الطلاق يعني إضاعة الأولاد، الطفل .. هذا المخلوق الجميل الرقيق هو هدية من الله لم تكن تملكها من قبل فأهداها الله لك، فكيف تضيع الهدية؟ وتدعها بلا محضن .. بلا ملبس .. بلا مال .. بلا نفس هادئة مستقرة.
وصدق الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
إن اليتيم من تلقى له أمًّا
... ... من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
تخلت أو أبًا مشغولاً
انسحبا بأقل الخسائر:
فمن الأزواج من إذا طلق زوجته وكان له أولاد تسبب في ضياعهم وفساد أخلاقهم إما:
ـ بإهمالهم أو بقلة الإنفاق عليهم.
ـ أو برفضه أن يعيشوا معه.
ـ أو بأخذهم من أمهم بالقوة.
ـ فإن كان الطفل صغيرًا فلا بأس أن يبقى عند أمه.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا بطني له وعاء، وحجري له دواء، وثدي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني.
فقال: 'أنت أحق به ما لم تنكحي' [رواه أحمد وأبو داود والحاكم وحسنه الألباني].
وأما إذا كان الطفل كبيرًا مميزًا بين مصلحته ومضرته فإن الحاكم يخيره بين أبيه وأمه، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلامًا بين أبيه وأمه. [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في الإرواء].
ـ وإذا كان الطفل مميزًا وخشي عليه أبوه أن تهمله أمه إن هو بقي عندها فالمصلحة تقتضي أن يأخذه أبوه إذا كان سيقوم بواجبه. وأما إذا استويا فأمه أولى به.
[مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية].
ـ وإجمالاً ينبغي للزوجين ألا يجعلا أولادهما ضحية للعناد والتعنت والمهاترات، بل ينبغي أن يكون الأولاد بمعزل عن المشكلات وأن يؤثر الوالدان مصلحة الأولاد سواء في بقائهم عند الأب أو عند الأم.
ولهذا اختار بعض أهل العلم في موضوع الحضانة النظر في مصلحة الولد سواء أكان صغيرًا أو كبيرًا مميزًا، واستدلوا على ذلك باختلاف الأحاديث في هذا الباب وتنوع إجابات النبي صلى الله عليه وسلم.
مسك الختام في ظلال الآية {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].(/1)
إن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترق وتخلو من كل شائبة، يلاحقها باستجاشة شعور التقوى، ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل، ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة الزوجية ناجحة كانت أم خائبة، ولتبقي القلوب نقية موصولة بالله في كل حال خالصة صافية.
والله سبحانه وتعالى يجعل الإحسان والمعروف والتفضل حتى في حالة الانفصال عبادة لله مثلها مثل الصلاة وسائر العبادات، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن، وهو يتسق مع القصور التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله والغاية من طاعة الله، وذلك حتى في حالة انفصال عرى الزوجية.
وختامًا نقول: 'إن كرام الناس وأهل الوفاء يحفظون الفضل، ولا ينسون الإحسان مهما تقادم عليه الزمان ويدعون ما بينهما من 'أطفال'.(/2)
انصح ولا تفضح وقوّم ولا تكسر
الشيخ : يونس الزلاوي
بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين أقول ..... لقد قرأت العديد من المقالات في المدة الأخيرة فآلمتني وأحزنتني لما وجدت فيها من التعيير والتشهير والفضح والكشف عن العورات فأحببت أن أقدم هذه الكلمات لعلها تكون بابا للنصح والإرشاد لا للطرد والإبعاد ، وبابا لتقويم والتعديل لا للكسر والتهديم .
( أمور متفق عليها )
أولا : ذكر الإنسان أين كان بما يكره ، إذا كان المقصود منه مجرد الذم والعيب والنقص ، محرم ، وأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين أو خاصة لبعضهم ، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة ، فليس بمحرم ، بل مندوب إليه ، وقد قرر هذا العلماء في كتبهم ومن أراد المزيد فليرجع إليها في مظانها من كتب الجرح وتعديل .
ثانيا : أن الناس عامة وخاصة معترفون ومتفقون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا المتأخرين ، لأن هذا من اختصاص رب العالمين ، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم وتباعهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيرا ، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم ، وعلى ذلك أمثلة كثيرة وشواهد لا تعد ولا تحصى ، وأذكر لك طرفا منها : كما قال : عمر رضي الله عنه في مهور النساء ، وردت عليه امرأة بقوله تعالى : " وآتيتم إحداهن قنطار " فرجع عن قوله ، وقال: أصابت امرأة ورجل أخطأ . وروي عمه أنه قال : كل أحد أفقه من عمر .
( أحسن المحامل )
من عُرف منه بتصنيفاته ومقالاته النصح لله ورسوله والمؤمنين فإنه يجب أن يعامل بالإكرام والاحترام والتعظيم ومن حمل كلمه على غير ذلك فهو ممن يظن بالبرئ ظن السوء ، وذلك من الظن الذي حرمه الله تعالى ، وهو داخل في قوله سبحانه وتعالى : " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " فإن ظن السوء ممن لا يظهر منه أمرات السوء مما حرمه الله ورسوله فقد جمع هذا الظان بين اكتساب الخطيئة والإثم ورمي البرئ بها ويقوى دخوله في الوعيد إذا ظهرت منه قلة الورع وإطلاق اللسان ، وكثرة الغيبة والبهتان ، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله .
ومن عرف منه هذه الصفات ، والتي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان ، فإن يحمل تعرضه للعلماء والرد عليهم على من عرف أنه أرد بتصنيفاته ومقالاته التنقيص والذم وإظهار العيب ، فإنه يستحق أن يقابل بالهوان ، ومن لم تظهر عليه أمرات بالكلية تدل على شيء ، فإنه يجب أن يحمل كلامه على أحسن محملاته ، ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته ، وقد قال عمر رضي الله عنه (( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا (( . .
( فرّق بين النصح والتعيير )
قال الفضيل رحمه الله تعالى : المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير . فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير وهو أن النصح يقترن به الستر ، والتعيير يقترن به الإعلان ، وكان يقال : من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره .
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ، ويحبون أن يكون سرا فيما بين الآمر والمأمور ، فإن هذا من علاما ت النصح ، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها .
وأما الإشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله ، قال تعالى : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف " اجتهد أن تستر العصاة ، فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام ، وأحق شيء بالستر : العورة . فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير ، وهما من خصال الفجار ، ولأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للمعايب والنقائص ، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن ، وهتك عرضه ، فهو يعيد ذلك ويبديه ، ومقصده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس ليدخل عليه بذلك الضرر في الدنيا .
وأما الناصح فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له ، وبذلك وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم .... " وقال : في وصفه أصحباه : محمد رسول الله والذين نعه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...." .
وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهي القسوة ومحبة إيذاء أخيه المؤمن ، وإدخال الضر عليه ، وهذا صفة الشيطان الذي يزين لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران .(/1)
فأخي وقرة عيني : إذا قلت لأحد في وجهه ما يكره ، فإن كان هذا على وجه النصح فهو حسن ، وقد قال بعض السلف لبعض إخوانه : لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره . فإذا أخبر ت أخاك بعيبه ليجتنبه كان ذلك حسنا ، ويحق لمن أُخبر بعيب من عيوبه ، يعتذر منها ، إن كان له منها عذر ، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ والذنب فهو قبيح مذموم ، قيل لبعض السلف : أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : إن كان يريد أن يوبخني فلا .
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يثرب الأمة الزانية مع أمره بجلدها ، فتجلد حدا ، ولا تعير بالذنب ولا توبخ به . وفي الترمذي مرفوعا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه (( من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله )). فهل رأيت أخي شتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة .
( لا تعير بالذنب فتُعاقب به )
إن عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن ، وتتبع عيوبه وكشف عوراته ، أن يتتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته ، من حديث وثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تظهر الشماتة بأخيك فيعاقبه الله ويبتليك . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالمنطق فلو أن رجلا عيّر رجلا برضاع كلبة لرضعها . ومن أعجب ما قرأت في ذلك ما حكاه ابن سيرين عليه رحمة الله عن قصته لما ركبه الدين وحبس به قال : إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيرت رجلا منذ أربعين سنة فقلت له : يا مفلس . فأصابه الله بالدين والحبس ، سبحان الله من هذه المقالة التي قالها في أخيه ، فكم من مقالات قلناها ونقولها أعظم وأشنع من ( يا مفلس ) .
( لا تكن منافقا أو شبيها به )
بحمد الله أن السرائر مطلع عليها ربنا ، ولو أطلعنا عليها لما كان هناك عيش على الأرض .... اعلم رحمك الله أنه من أخرج التعيير وأظهر السوء وأشاعه في قالب النصح وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب ، إما عاما أو خاصا ، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى ، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه ، فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلا أو قولا حسنا وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن ، وعد ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة قال تعالى : " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا ....... "وقال تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " الآية قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود والمنافقين وهي خصالهم ، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولا أو فعلا ، وهو في الصورة التي أظهره عليها أحسن ، ومقصوده بذلك توصله إلى غرض فاسد الذي هو أبطنه ، ويفرح بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وهو في الباطن سيئ ، على توصله في الباطن إلى غرضه السيئ ، فتتم له الفائدة تنفذ له الحيلة بهذا الخداع .
ومن كانت هذه صفاته فهو داخل في هذه الآية ولا بد ، فهو متوعد بالعذاب الأليم ، ومثال ذلك أن يريد الإنسان ذم رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه ، إما محبته لإيذائه لعدوا ته أو مخافته من مزاحمته على مال أو رياسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة ، فلا يتوصل إلى ذلك غلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني ، مثل أن يكون قد رد قولا ضعيفا من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظم ذلك العالم ، أن فلانا يبغض هذا العالم ويذمه ويطعن عليه فيغر بذلك كل من يعظمه ، ويوهمهم أن بغض هذا الراد وأذاه من أعمال القرب ، لأنه دب عن ذلك العالم ، ودفع الأذى عنه ، وذلك قربة إلى الله عز وجل وطاعة ، فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرمين .
أحدهما : أن يحمل رد هذا العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى وقد يكون إنما أراده به النصح للمؤمنين ، وإظهار ما لا يحل له كتمانه .
والثاني : أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع .
( احسبها صح ، فلن تمكن حتى تصبر )
فمن بلي بشيء من هذا الأذى والمكر فليتق الله ويستعين به ويصبر ، فإن العاقبة للتقوى ، وكما قال تعالى بعد أن قص قصة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة (( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض )) الآية .
والله الموفق للصواب ، وعليه قصد السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .(/2)
انصروا الله ينصركم الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخوتي في دين الله تعالى اقدم لكم موضوع في غاية الاهميه ارجوا منكم التمعن في قراءته واسال الله تعالى ان يتقبل مني
اعلموا أنكم إن قعدتم عن نصرة دينكم، وخذلتم سنة نبيكم، ولم تهتموا بأمر المسلمين فلن تضروا إلا أنفسكم، ولقد تخلفت قبلكم أمم وأفراد، فلم يضروا إلا أنفسهم، ولم يضروا الله شيئاً، تخلفت قوم نوح وعاد وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً، فالعز يزول والمجد يضيع بسبب خذلان الدين وأهله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا يجعل الله عبداًَ أسرع إليه كعبد أبطأ عنه، بل لا يزال العبد يتأخر حتى يؤخره الله.
لقد كانت الريادة والرفادة والسقاية والحجابة والسدانة في أهل مكة، فلما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله وحده بارزوه العداء، وسعوا في التخلص منه ومن أتباعه وأصحابه؛ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أَو يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) " سورة الأنفال: 30 "، فتحول عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر هو وأصحابه إلى المدينة، فشرف أهلها بنصرتهم لدين الله وصار لهم ذكر وخير، فهم الذين آووا ونصروا، حبهم إيمان وبغضهم نفاق، بهم قام الإسلام وبه قاموا، والناس شعار والأنصار دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
أواخرهم كأوائلهم، فإن الدجال عندما يخرج في آخر الزمان وينتهي إلى المدينة وهو محرم عليه أن يدخلها، فينتهي إلى بعض أسباخ المدينة، وترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج إلى الدجال منها كل كافر ومنافق، ويخرج إليه شاب هو خير الناس أومن خير الناس يقول له: أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلتفت الدجال إلى أتباعه ويقول لهم أرأيتم لو قتلته ثم أحييته أكنتم تؤمنون بي، فيقولون له: نعم، فيشقه نصفين، ثم يقول له قم، فيقوم الشاب متهلل الوجه فرحان، يقول للدجال: "والله ما ازددت فيك بصيرة، أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، رواه البخاري وغيره. فهذا الشاب يثبت في مواجهة الدجال، ثم جريان الخوارق على يدي الدجال، وما بين خلق أدم حتى قيام الساعة فتنة أعظم أو أشد من الدجال، وما تقدم من تقدم إلا بنصرته لدين الله وقيامه بشريعة الرحمن وما تأخر من تأخر إلا بخذلانه للإسلام وأهله.
إن إتباع السنة النبوية نصرة لدين الله، أي نصرة. لقد كان الأفاضل فيما مضى يعدون مخالفة السنة هلكة. اختلف ابن عباس مع البعض فقال لهم: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، فكيف إذا سمع ابن عباس من يقول: ليس لنا علاقة بعصور الظلام، ( يقصدون أيام النبوة والخلافة). أو من يقول: لم يعد الإسلام يصلح للتعامل مع الحضارة الحديثة. أومن يصادم السنة ويوقر الملاحدة أعظم من توقيره لهدى نبيه صلى الله عليه وسلم؟!
أشار أبولبابة بن عبد المنذر، يوم بنى قريظة، لهم إشارة مفهمة أنكم لو نزلتم على حكم سعد بن معاذ، فهو الذبح. يقول أبولبابة: فما قلتها حتى علمت أنى خنت الله ورسوله ونزل قوله تعالى: "( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )" سورة الأنفال: 27 ". فماذا يكون الشأن والحال لو استبدل دينه بغيره ونادى بالحرية الإباحية والديمقراطية اللواطية ؟!
ولما كان يوم بدر سمع ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا ينقلب أحد من المشركين إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال ابن مسعود – رضي الله عنه – يا رسول الله إلا ابني بيضاء وكان قد علم منهما ميلاً للدخول في الإسلام. يقول ابن مسعود: فما قلتها حتى خشيت أن يتنزل على حجارة من السماء. وكانت أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – لا تذكر خروجها يوم الجمل إلا وتبكى حتى تبل خمارها وتكثر عتق الرقاب لأجل ذلك..... والحكايات في هذا المعنى كثيرة، والسبب معلوم، والسنن لا تعرف المحاباة ولا المجاملات، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) " سورة محمد: 38 " وقال: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُو) سورة المدثر: 31.(/1)
أخبرنا سبحانه أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه وأشد منه وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ " سورة النساء: 133 " وقال: "( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيد ٍوَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيز " ( سورة فاطر: 16 – 17 " أي بممتنع ولا صعب. وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ) " سورة المائدة: 54 " (أي يرجع عن الحق إلى الباطل وقيل نزلت في الولاة من قريش أوفي أهل الردة أيام أبى بكر فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) كأبي بكر وأصحابه وأهل القادسية وأهل اليمن وأهل المدينة : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) ". لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحد وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد ولا يصدهم عنه صاد ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ) " سورة المائدة: 54 " أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له) :وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. إلى أن قال: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) " سورة المائدة: 56 ". كما قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). وقال: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءهُمْ أَو أَبْنَاءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )" سورة المجادلة: 21- 22 ". فكل من رضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة .
إن المنصور من نصره الله؛ لأنه سعى في نصرة دين الله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وكان شأنه في ذلك كشأن الأوس والخزرج الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب. وهذه هي بيعة العقبة الأولى، بايع عليها اثنا عشر رجلاً منهم عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، ثم كانت بيعة العقبة الثانية وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى وهي التي حضرها العباس؛ ليستوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا عرفهم العباس بان ابن أخيه لم يزل في منعة من قومه حيث لم يمكنوا منه أحداً ممن أظهر له العداوة والبغضاء وتحملوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم. فعند ذلك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت، فقال: أشترط لربى أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم، فقال له أبوالهيثم بن التيهان: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال ( اليهود ) عهوداً وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم أي إن طالبتم بدم طالبت به وإن أهدرتموه أهدرته. وقد بايع هذه البيعة ثلاثة وسبعون رجلاً منهم اثنان وستون من الخزرج وأحد عشر من الأوس ومعهم امرأتان. ثم تخير النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيباً لكل عشيرة منهم واحد وقال لهم: أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام، وازداد أذى المشركين للمسلمين بمكة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبه بلحمهم ودمهم حتى صاروا لا يعبأون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم وأبنائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله، ولحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر بعد أن اضطره المشركون لترك أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله لنفسه الشريفة.(/2)
وفي المدينة قامت أعظم نصرة لدين الله وأعظم أخوة عرفتها الدنيا، أخوة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج وقام نظام التآخي بين كل اثنين، هذه الأخوة أساسها المنهج الإيماني والتعظيم لشرع الله، وقد كانت من أعظم أسباب تحقيق النصر على المشركين. قال الله: (هُو الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَو أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) " سورة الأنفال: 62 – 63 " ووفي الأنصار ببيعتهم وكانوا رجالاً، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) " سورة الأحزاب: 23 " وتحقق الوعد الصادق بنصرة الله لعباده المؤمنين.
ستعود الخلافة على منهاج النبوة وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" رواه مسلم. وفي لفظ " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة " رواه مسلم.
فلا تضر نفسك ولا تؤخرها والحق بالركب فقد انطلق، وقد سمعت عتاب من تخلف عن قتال الروم في غزوة تبوك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) " سورة التوبة: 38 – 39 ". وكان ذلك في عام شديد الحر بعد أن طاب الثمر، فنزلت القوارع القرآنية تزهدهم في الدنيا وترغبهم في الآخرة وتحثهم على الجهاد في سبيل الله، وتوضح لهم أنهم إن لم ينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره عام الهجرة، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم صحبة صديقه وصاحبه أبى بكر، وفي ذلك يقول تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( " سورة التوبة 40 "(/3)
انطفأت الشمعة ولكن … ...
في زمن تغيب عنه المصلحة العامة ، يتفجر فيه العداء والبغض بين الناس ، وقد كان لقصتنا هذه الأثر على انعكاس واقع قرية انشغل أهلها بتلبية مصالحهم الخاصة بعيداً عن العمل المشترك الذي يحقق للناس الأمن والاحترام المتبادل، فبينما كان أهل القرية يتشاجرون بسبب أطماعهم وشهواتهم، وهم أصحاب قرية واحدة من بطون مختلفة، كان أبناؤهم في واد آخر،
فإن الأبناء مهما اختلف الآباء لا يبالون في اختلافاتهم فإن لهم حياة خاصة بهم، فرغم ما كان يقع فيه الأهالي من اختلافات، كان أبناؤهم يلعبون معاً ويشارك بعضهم بعضاً الحزن والسرور. وذات يوم بينما كان الأهل منشغلين في اختلافاتهم كالمعتاد، اتفق الأطفال على تنظيم رحلة مشتركة يصاحبهم فيها كل أطفال القرية، وقد أسروا ذلك لئلا يعلم أهل القرية بما يخططون له فيفسدوا عليهم أمرهم، وهكذا انطلق الأطفال دون علم أصحاب القرية واتجهوا إلى جهة مجهولة لا يعرفونها، فهمّهم الأوحد هو البعد عما فيه أهل القرية من اختلافات نابعة عن الأطماع الشخصية التي أدت إلى تفريق أهل القرية إلى شيع وجماعات شتى، وهكذا خرج الأطفال بقلوبهم الصافية، وابتساماتهم البريئة مسرعين إلى خارج القرية ولم يصحبوا معهم إلا القليل من الطعام والماء، وأخذوا يصعدون الجبال وينزلون الوديان، ويقطعون المسافات بفرح وسرور وهم يضحكون تارة ويغنون تارة ويتمازحون فهم الآن في عالم آخر عالم لا يعرف إلا الحب والتعاون، فقد شعر الأطفال أنهم أصبحوا بعيدين عن واقع أهلهم الذي سئموه، فإن أهل القرية لا يعرفون إلا الشجار والنميمة والغيبة والأطماع الخاصة بعيداً عن حياة التعاون والحب والأخوة ، فقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يشعر بها الأطفال بالسعادة الحقيقية فهم الآن طلقاء يعملون ما يشاؤون، ويلعبون مع بعضهم البعض دون أي ضابط أو مانع، وبينما هم على هذه الحال، إذ وقفوا على باب مغارة كبيرة، لا يكاد يرى ما في داخلها من شدة الظلمة التي تخيم في المكان، فوقفوا على باب المغارة وحملهم الفضول على دخولها، ولكنهم ما كادوا يخطون الخطوات الأولى حتى توقفوا، فقد حال الظلام دون متابعة مسيرهم، فعادوا إلى خارج المغارة ولكن ثمة شيء يحملهم على الدخول، فقد دب فيهم الحماس وأخذ يشجع بعضهم البعض على مراجعة الدخول ولكنهم بحاجة إلى سراج أو ما شابهه ليتمكنوا من دخول المغارة المظلمة، وبينما كانوا يفكرون في كيفية الحصول على سراج أو ما شابهه إذ خطر في بال أحدهم فكرة وهي أن يرجعوا إلى تلك الخيمة الصغيرة التي مروا عليها في طريقهم منذ وقت يسير ويأخذوا من أهلها سراجاً، فاستحسن الأطفال هذه الفكرة وأرسلوا اثنين منهم إلى تلك الخيمة ليرجعوا إليهم بسراج، بينما جلس الآخرون ينتظرون رجوع صاحبيهم، وهكذا أخذ الطفلان يركضان فرحَين مستبشِرَين الخير واثقَين من تحقيق هدفهم، وما هي إلا بضع دقائق معدودة حتى وصلا تلك الخيمة، فوقفا على بابها وأخذا يناديان على من بداخلها، هل من أحد هنا، فسمعا صوتاً ضعيفاً لا يكاد يسمع: من أنتم؟ فقالا نحن طفلان جئنا لغاية. فسمعا الصوت الضعيف من جديد:
طفلان تفضلا !
فدخل الطفلان الخيمة فوجدا عجوزاً كبيرة مستلقية على سرير قديم، فنظرا إليها وقد أمتلكهما شعور بالخوف فلم يحدثا أي صوت ووقفا خائِفَين من تلك العجوز التي أوهنها المرض، وهدها الهرم حتى أصبح مظهرها بالنسبة للطفلين مرعباً.
المرأة العجوز أدركت ما حل بالطفلين فبادرتهما بصوتها الضعيف الذي امتلئ حناناً ودفأ، يا بنّيا لا تخافا فأنا امرأة عجوز مريضة أرقد في سريري وأبقى هكذا حتى يرجع زوجي العجوز من المدينة ومعه الطعام والدواء، ولكن ما الذي جاء بكما إلى هنا؟
الطفلان بعد أن زال عنهما الخوف وشعارا بالاطمئنان: جئنا لنأخذ سراجاً.
العجوز: سراجاً !
الطفلان: نعم.
العجوز: ولمَ ؟
الطفلان: نريد أن نجتاز مكاناً مظلماً .
العجوز: مكاناً مظلماً ! وأي مكان هذا ؟
الطفلان وقد عيل صبرهما: هل تريدين أن تعطينا سراجاً أم نذهب ونبحث عن سراج في مكان آخر؟
العجوز مستدركة: لا يوجد عندي سراج ، ولكن عندي شمعة كبيرة قد تفي بالغرض.
الطفلان: حسناً هل تمنحينا إياها ؟
العجوز: بكل سرور .، فها هي على ذلك الصندوق.
الطفلان: يأخذان الشمعة ويشكران المرأة العجوز، ويهما بالخروج، لكن المرأة العجوز تستوقفهما بقولها: ولكن يا بنيا إحذرا تلك المغارة الكبيرة المظلمة وإياكم أن تدخلاها فهي خطيرة جداً وقد دخلها أقوام في قديم الزمان لم يخرجوا منها حتى الآن، الطفلان: لا عليك فسوف نتدبر أمرنا.
وهكذا أخذ الطفلان الشمعة وأسرعا بالرجوع إلى أصحابهما وقد حققا نجاحاً كبيراً.
الطفلان يصلان إلى المغارة فيجدا أصحابهما ينتظرونهما على أحر من الجمر.
الأصحاب: هل أتيتم بالسراج ؟
الطفلان: لا ولكننا أتينا بشمعة كبيرة .
الأصحاب: هذا جيد .(/1)
مجموعة الأطفال بعد أن أشعلوا الشمعة يدخلون المغارة بسرور فها هي الشمعة ضوؤها يبدد الظلام وينير الطريق أمام الأطفال، الأطفال يسيرون في المغارة الكبيرة وينظرون إلى جدرانها الممتلئة بالتصاوير والكتابات الغريبة ـ يتأمل الأطفال المغارة بدهشة واستغراب، فلم يسبق لهم أن شاهدوا مثل هذه الأمور الغريبة، وبينما يسير الأطفال في تلك المغارة العجيبة وإذا بهم يصلون إلى فتحة صغيرة في الأرض لا تكاد تتسع إلا لشخص واحد، الطفل الذي يحمل الشمعة بيده يُنزل الشمعة في تلك الحفرة فيجد أنها تمتد إلى الداخل، الأطفال ينظرون إلى هذه الحفرة ويتساءلون: ترى ما في هذه الحفرة ؟
لا أحد يعرف، فهو مكان مجهول ولم يحدث أن أحداً حدثهم عن تلك المغارة، ولكن حب الفضول لدى الأطفال حملهم على استكشاف ما في تلك الحفرة، فقال بعضهم لبعض: هيا ندخل تلك الحفرة وننظر ما في داخلها.
الطفلان يتذكران حديث العجوز فيصرخان قائلَين: كلا إنها مكان خطير قد أعلمتنا بذلك العجوز التي أخذنا منها الشمعة.
بعض الأطفال: لا عليكما فإننا قادرون على الرجوع، فانظروا هذه الشمعة معنا ونستطيع مداركة أمرنا.
البعض الآخر: ولكن ماذا علينا لو انطفأت الشمعة، أو انتهت ؟
الأطفال المتشجعون: لا عليكم فسوف نخرج سريعاً قبل أن تنطفئ الشمعة ولن يحصل لنا بإذن الله شيء ولكن هيا تشجعوا.
الأطفال يجشع بعضهم بعضاً، ثم يحزمون أمرهم ويعزمون على دخول الحفرة.
وهكذا بدأ الأطفال ينزلون الحفرة الواحد تلو الآخر حتى أصبحوا جميعاً داخل الحفرة وما أن انتهوا من الدخول وإذا بهم يفاجؤون بأن الحفرة تمتد إلى الداخل ويتفرع عنها عدة طرق، يقف الأطفال محتارين ينظر بعضهم إلى بعض، أي طريق نسلك ؟
البعض هذه الطريق. البعض الآخر: بل هذه، حتى استقر أمرهم على رأي واحد، إنها هذه الطريق.
فقد اختاروا طريقاً أوسع مدخلاً، وأعمق ملجأ، الأطفال يسيرون في تلك الطريق وإذا به يتفرع إلى طرق كثيرة، الأطفال يسلكون طريقاً من هذه الطرق غير مبالين بالأمر، فقد شدهم ما يشاهدون من مناظر غريبة عجيبة، وبناء محكم جميل، وحجارة مزخرفة رائعة المنظر، وبينما هم كذلك إذا بطفل منهم يستوقفهم ويذكرهم بالعودة ويخوفهم من انطفاء الشمعة، فلو انطفأت الشمعة لكان أمرهم صعباً بل قد يموتون جميعاً وهذا هو الراجح.
الأطفال ينظرون إلى الشمعة وهي تحترق ثم يعاودون تشجيع أنفسهم لا عليكم فإن الشمعة لا زالت كبيرة وتخدمنا وقتاً طويلاً، وهكذا تابع الأطفال سيرهم، وكلما مروا على طريق دخلوا طريقاً آخر، فإنه مكان مليء بالمفاجآت والأمور الغريبة التي تشد الكبار فكيف بالصغار !
الأطفال بعد فترة من الوقت شعروا أن عليهم الرجوع من حيث أتوا، فقد أشرفت الشمعة على الانتهاء، واصبح الوقت متأخراً، ولا زال أمامهم مسير طويل من أجل الرجوع، فهم يريدون الرجوع إلى القرية قبل غروب الشمس ودون شعور أهل القرية بهم حتى لا يوبخون من قبل أهلهم، الأطفال بعضهم لبعض هيا بنا نعود فقد أدركنا الوقت، وقد أشرفت الشمعة على الانتهاء، الأطفال حسناً هيا بنا.
وبهذا ينهي الأطفال مسيرهم ويهمون بالرجوع، ولكن ثمة مشكلة؟ يا إلهي أين الطريق ؟ من هنا، كلا من هنا، الأطفال يرتبكون ويتساءلون من أي طريق قدمنا ؟ إنها طرق كثيرة، لا نعرف من أيها دخلنا، إننا في مصيبة ماذا علينا أن نفعل ؟ الأطفال لا يعرفون ماذا يفعلون، فقد اختلفوا فيما بينهم، ولم يعودوا يفكرون، فقد أمتلكهم الخوف وأصبحوا ينظرون إلى بعضهم البعض نظر الذي تيقن الموت، لا يستطيعون الانفصال عن بعضهم البعض فالمكان مظلم ولا يوجد معهم إلا شمعة واحدة، حتى الشمعة لم يعد يستعان بها ، فهي الأخرى على وشك أن تلتقط آخر رمق فيها، الأطفال ترتفع أصواتهم بالبكاء، وتعلوا صيحات الاستنجاد من أفواههم الطاهرة، وكلما تأملوا الشمعة وهي تذوب، كلما ارتفعت أصواتهم وعلا استنجادهم، ولكن تسمع إذ ناديت حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي، وبينما هم على هذه الحال تنطفئ الشمعة، ويعم الظلام الدامس، ولم يعد يرى بعضهم بعضاً، تزداد صرخاتهم، ويشتد بكاؤهم، ويمسك بعضهم بأيدي بعض خوفاً من أن يتفرقوا، الأطفال في مكان مظلم لا يهتدون فيه سبيلاً، ولا يُسمع لهم عويل، الخوف يملئ قلوبهم، والحزن يخيم عليهم، يجلس الأطفال في هذا المكان الغريب ينتظرون الموت فقد يأسوا من الحياة، الأطفال يصرخون ويقولون متحسرين ماذا فعلتم بنا يا أهل القرية أين أنتم فقد شغلتكم مصالحكم عنا، وها نحن نموت ولا زالت مشاكلكم هي هي، إنها لحظات الموت التي يودع أصحابها بها الحياة، فإنهم مساكين لا تجد الكلمات ما تعبر به عن ما يعانيه هؤلاء الأطفال في هذا المكان السحيق المرعب المظلم.
أما أهل القرية فقد أوشكت الشمس أن تغيب ولا زالوا يتشاجرون ويلقي بعضهم التهم على بعض فإن مصالحهم فوق كل اعتبار، وبينما هم في خضم الخصام إذ سمعوا صوتاً يقول لهم، يا قوم: أين أطفالكم ؟
فيجيبون: إنهم يلعبون.(/2)
الصوت: أين ؟
هنا، بل هنا، بل بل … يا ويلنا أين الأطفال ؟ إنها لحظات حاسمة يقول بعضهم لبعض: أدركوا أطفالكم، وهكذا أخذوا يركضون في هذه الطريق وهذه الطريق، منهم من يصعد الجبال، ومنهم من يفتش في الوديان، ولكن لا سبيل، الأمهات يفقدن صوابهن وأخذن بتوبيخ الرجال، الرجال محتارون خائفون أين أبناؤنا ؟ لا جواب.
تملك أهل القرية الحزن، وانتابهم الندم، فقد شغلهم حب الدنيا عن أبنائهم فلذات أكبادهم وزينة الدنيا، يركضون في كل حي، ويفتشون هنا وهناك ولكن لا سبيل.
أما الأطفال فقد ارتفعت أصواتهم، واشتد بكاؤهم حتى خبت أصواتهم ولم يعد بمقدرتهم فعل أي شيء. وقد أيقنوا الموت واستسلموا له، وأخذت الحسرة تكبر في صدورهم والحزن يملئ قلوبهم على ما وصل إليه حالهم وما أوصلهم إلى ما وصلوا إليه، فلم يعد أمامهم سوى التطلع إلى رحمة الله، فهو الذي معهم ولا يفارقهم وبيده وحده إنقاذهم، وهكذا أخذوا يسبحون ويستغفرون ويسترجعون علهم يموتوا على ذكر الله فيفلحوا في الآخرة وقد خسروا الدنيا.
أما أهل القرية فلم يعرفوا لليأس طريقاً، ولم يهدأ لهم بال، ولم يتوقفوا عن البحث، فقد توحد صفهم ، وتعاونوا فيما بينهم، ونسوا ما كان منهم من خلافات وأحقاد، فقد أدركوا أن الدنيا بزينتها لا تسوي أطفالهم الذين هم فلذات أكبادهم، فلا زالوا يفتشون ويفتشون في كل مكان هنا وهناك وهنالك، حتى وصلوا إلى تلك الخيمة، خيمة العجوز المسكينة، يقف أحدهم ويصرخ بأعلى صوته: يا أهل هذه الخيمة هل مر عليكم اليوم أطفال ؟
العجوز بصوت ضعيف وقد تذكرت الطفلين: نعم وأخشى أن يكونوا ذهبوا إلى تلك المغارة الكبيرة .
أهل القرية: أي مغارة ؟
إنها هنالك على بعد ساعتين من هنا.
العجوز هيا أسرعوا قبل أن يموت الأطفال، ولكن عليكم أن تتزودا بالمصابيح والحبال فإنها مغارة كبيرة مظلمة خطيرة.
أهل القرية حسناً جزاك الله خيراً.
أهل القرية يسرعون نحو المغارة بأقصى سرعة يستطيعونها، أهل القرية أمام المغارة وقد غابت الشمس وازداد ظلام المغارة ظلاماً، أهل القرية يشعلون السرج، ويجعلون من ليل المغارة نهاراً، يدخل أهل القرية المغارة، يفتشون هنا وهنالك، ويصرخون أين أنتم يا أبناءنا ؟ ولكن لا جواب فقد استسلم الأطفال ولم يعودوا يسمعون شيئاً.
أهل القرية يصلون إلى الفتحة ويضيئونها ويدخل أناس منهم الفتحة ويسعون فيها هنا وهنالك، وإذا بهم يسمعون تسبيح الأطفال، يا بشرى إنهم الأطفال ، نعم إنهم الأطفال، ويا فرحة ما بعدها فرحة، فقد دبت الحياة في الأطفال من جديد بعد أن غمر قلوبهم اليأس ، وعمت الفرحة أهل القرية وأخذوا يعانقون ويقبلون أطفالهم، ودموع الفرحة ترتسم على جوههم ،يفرح الجميع بسلامة الأطفال، وقد أيقنوا أن ما يجمعهم في هذه القرية أكثر مما يفرقهم، وأنهم لا فرحة لهم إلا بتجمعهم واتفاقهم، وأن من أخطر الأسباب التي تحول دون سعادتهم وضياع أبنائهم تفرقهم واختلافهم، وتمسكهم بالدنيا، يأخذ أهل القرية أطفالهم ويعدون بهم إلى القرية بفرح وسرور ولسان حالهم يقول: لا خلاف بعد اليوم، ولا أنانية، ولا تفرق.
وهكذا أدرك أهل القرية أخطار التنازع وما يؤدي إليه، عاد أهل القرية بأبنائهم وقد تألفت قلوبهم، وتوحد صفهم، واجتمعت على الخير كلماتهم، وكأنما خرجوا إلى الحياة من جديد ………………………………….
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز
24/3/1425 هـ(/3)
انطلق للأمام
فؤاد المنشاوي
أخي إنّ لولا ولوما iiولم
وسخط الإله لمن iiقالها
أخي لا تقلها وراع iiالذمم
ويحيا الجهول iiبأوهامه
صئيُّ العقارب لا iiيرعوي
ونزغ القرين بما iiيحتوي
ومهما تعاظم كيد iiالعبيد
فموعدنا عند فجر جديد
أخي ظلمة الليل لا iiتنجلي
فلو لم يقاتل لمات iiالشهيد
أخي لو شتمت الظلام يعود
بقدح الزناد وعزم iiالأسود
فسلّم أخيَّ لتلك iiالجراح
حكيمٌ يسيّر أمر iiالحياه ... تميت القلوب وتحيي iiالألم
فلولا سبيلٌ لهم iiوغم
بلوما ولولا تزل iiالقدم
فكم قالها عند خطب iiوكم
كذا السم يؤذي بطيِّ الدسم
لتجري الدماء ويأتي iiالندم
وزاد الخؤون بلصق iiالتهم
لجيل فريد يروم iiالقمم
بدمع غزير ولولا iiولم
كذا قبل موتٍ إلهٌ iiحكم
فشتم الظلام فتور الهمم
يغيب الظلام وتحيا iiالأمم
فطيب الجنان جراحٌ iiودم
وكل الخلائق نحو iiالعدم(/1)
انظروا عمن تأخذون دينكم
01-1-2006
بقلم خباب بن مروان الحمد
"...إنَّ العجب ليأخذني كلَّ مأخذ ، حين أرى هؤلاء المتقحِّمين باب العلم حين تُعرض أي مسألة من متعلقات الشريعة ، فيتحدثون عنها ، ولم يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حكمها ودلائل حلِّها أو حرمتها، ..."
الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم . ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.
أمَّا بعد:
فإنَّ لأهل العلم منزلة عالية في دين الإسلام ، ودرجة رفيعة سامقة ، كيف لا ... وهم الذين اجتباهم الله لحفظ دينه ، ونشر كلمته ، وقرنهم بشهادته فقال:(شهد الله أنَّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط) ونفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم فقال:(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وأوضح أنَّ ألصق الصفات بأهل العلم ؛ خشيتهم لله تعالى ، فقال:(إنَّما يخشى الله من عباده العلماء) ومن خشية العلماء لربهم أنَّهم لا يتكلمون إلا بالعلم والهدى ، ويخشون ربهم من فوقهم أن يتقوَّلوا عليه بلا علم ، ويوقِّعوا عنه بجهل ، لأنَّهم وقَّافون عند حدود الله ونواهيه ، إذ قال تعالى:(ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً)الإسراء(6).
إلاَّ أنَّه ـ وللأسف ـ قد تقحَّم بوابة العلم ، وولج فيها مولجاً لا يستحقه ، أناس ليس لهم في العلم الشرعي كبير إنعام حيث امتطوا صهوة العلم والتعليم ، فتراموا على شاشات الفضائيات ، وأوقعوا بأرجلهم على مهاد المنابر ، وتكالبوا في الكتابة بالصحف والجرائد والمجلات ، إمعاناً منهم لتعليم الناس ما يهمُّهم ، في شؤون الدين والدنيا ، وقسم آخر وهم كثيرون إذا اجتمعوا في المجالس والنوادي ، وطرحت مسألة فقهية أو شرعية ، وجدت المختص وغير المختص يخوض فيها ، ويتمنطق متحدثاً عنها ، مدَّعياً أنَّ لديه علمها وحكمها ، على حدِّ ما ذكره الشيخ: محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ :(قرأت كتاباً لأحد المهندسين يفسِّر حقيقة الصلاة تفسيراً لم يعرفه المسلمون طوال أربعة عشر قرناً ، فعجبت لهذا الحمق في خرق الإجماع ، وقلت: أما يجد هذا المخترع مجالاً لذكائه في ميدان الهندسة ليتقدَّم فيه بدل أن يشغل نفسه ويشغلنا معه بهذه التوافه) [ليس من الإسلام ـللشيخ: محمد الغزالي/56].
فترى كثيراً ممَّن على شاكلة هذا الشخص زاعمين أنَّهم مثقفون ومطَّلعون يطلقون لأنفسهم باب الاجتهاد في التحدث عنها بآرائهم ، والغريب أنَّ ذلك يحصل في كثير من المجالس وخصوصاً مجالس كثير من العوام أو غير المتخصصين في العلم الشرعي ممَّن تخصصوا في العلوم التجريبيَّة أو الطبيعيَّة أو غيرها ، وكانوا بعيدين بُعد المشرقين عن البحث والاطِّلاع في أصول الشريعة ومحكماتها، فتجد كثيراً منهم يلتُّ ويعجن في المسألة التي قد تكون مشكلة ، ولو عرضت على عمر ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر ليتباحثوا فيها ، ويعطوا الحكم الشرعي المناسب لها المبني على الكتاب والسنة! وإن طرحت على أهل العلم أعطوها حقَّها من البحث والتفكير ، ورحم الله زمناً جاء فيه أنَّ الإمام مالك قال:(إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن) وقال:(ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي)[ترتيب المدارك1/178].
وإنَّ العجب ليأخذني كلَّ مأخذ ، حين أرى هؤلاء المتقحِّمين باب العلم حين تُعرض أي مسألة من متعلقات الشريعة ، فيتحدثون عنها ، ولم يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حكمها ودلائل حلِّها أو حرمتها، بل تجد المبادرة والمسارعة للإفتاء وإبداء الرأي بحجَّة أنَّها وجهة نظرهم ، ولا يعني أن تكون وجهة النظر صحيحة ، وكأنَّ علم الشريعة علم يُتناول على مائدة الحوار والكل يبدي رأيه متوقعاً ومخمِّناً أنَّ ذلك هو الحكم الشرعي! مع أنَّ هؤلاء العوام أو من يتسمَّون بالمثقفين أمثال (صاحبنا) لو أنَّ رجلاً غير متخصص في الفن الذي هو من اختصاصهم وتكلم فيه زاعماً أنَّ رأيه صواب ، وأنَّ ما يقوله لا يلزم أن يكون صحيحاً ؛ لنظروا إليه نظر شزر ، وقرَّعوه بشديد الخطاب ، لأنَّه تكلم فيما لا يحسنه ،ومن يتكلم بما لا يحسن يأتي بالعجائب! وَصَدَقُوا ...ولكن لِمَ لا تمرَّر هذه القاعدة والمنهجية عليهم كذلك ؟ أمَّ أنَّ علم الشريعة متاح لكل أحد أن يكون مجتهداً فيه ، وغيره من العلوم لا يتحدَّث فيه إلاَّ من تخصص به وثنى ركبته في نيله عند أهله؟!.(/1)
وقد لاحظ تلك المشكلة الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ واشتكى منها قائلاً:( يالله العجب ! لو ادَّعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا ، ولم يعرفه الناس بها ، ولا شاهدوا عنده آلاتها لكذَّبوه في دعواه ، ولم يأمنوه على أموالهم ، ولم يمكِّنوه أن يعمل فيها ما يدَّعيه من تلك الصناعة ، فكيف بمن يدَّعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ، ولا يجالس أهله ولا يدارسه) [الحكم الجديرة بالإذاعة].
* أقوال علماء الإسلام في النهي عن التكلم بلا علم:
وقد تواترت كتابات العلماء في التحذير من التكلم بلا علم والإفتاء بالجهل ،ومنهم الإمام الشافعي فقد قال ـ رحمه الله ـ:(فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلاَّ من حيث علموا ، وقد تكلَّم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلَّم فيه منه لكان الإمساك أوْلى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله)[الرسالة/41] وقال الإمام ابن حزم :(لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون ، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون) [مداواة النفوس/67] وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ :( ولا يحل لأحد أن يتكلَّم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلَّم في الدين بلا علم ، أو أدخل في الدين ما ليس منه) [مجموع الفتاوى/4] وقال كذلك:(فمن تكلَّم بجهل وبما يخالف الأئمة ، فإنَّه ينهى عن ذلك ويؤدَّب على الإصرار ، كما يُفعل بأمثاله من الجهال ، ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمَّة الضلالة، وإن كان مشهوراً عنه العلم ، كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك)[مجموع الفتاوى/7] وقال كذلك:( ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذباً وإن كان لايتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملاً فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(كذب أبو السنابل ، بل حللت فانكحي)[مجموع الفتاوى1/449].
* من يملك حقّ التكلُّم بالعلم:
ممَّا يهمُّ المسلم المعاصر لهذا الزمن ، أن تكون له بيِّنة لصفات من يؤخذُ عنهم العلم ، ومعرفة جليَّة لسمات أهله وأصحابه ؛ لئلاَّ يختلط عليه الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ ، وليعبد الله على بصيرة وبيِّنة، خصوصاً أنّ أحاديث صريحة أتت عن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في التحذير ممن يتقمصون مسوح العلم وينطقون به ، ومن أئمة الضلال الذين يحكمون بالجور والجهل ، ومن ذلك أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال:(سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب ، ويُكَذَّبُ فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخوَّن فيها المؤتمن ، وينطق الرويبضة . قيل: وما الرويبضة؟قال: الرجل التافه ، يتكلم في أمر العامَّة) أخرجه ابن ماجه(44) وأحمد في المسند[/91]بسند حسن ، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(1887) وثبت عند أحمد من حديث أبي الدرداء أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال:(إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون) [المسند6/441] وحدَّث عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال:(إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتَّى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا) [أخرجه البخاري1/174،175 في كتاب العلم ، ومسلم واللفظ له4/58].
لأجل هذا يتحتَّم على مبتغي طريق الحق ، ومريد طوق النجاة وسبيل الفلاح أن يعرف صفات من يأخذ عنهم العلم ، لئلا يضيع الطريق الشرعي ، ويضل السبيل ، وسأذكرها في عدَّة نقاط: *صفات من يؤخذ عنهم العلم:
1ـ خشية الله تعالى:
وهي صفة لصيقة بأهل العلم الراسخين الربَّانيين ، الذين يخشون ربهم ، ويراقبونه في ما دقَّ وكبر ، جليلاً كان أو حقيراً ، فخشية ربَّهم ملازمة لهم ، لا يحيدون عنها ولا يتحايلون عليها ، بل هم لله وبالله وعلى الله يفضون له جميع أمورهم ، ويتعلقون بحبال الرجاء والخشية منه ، ولهذا كان يقول جمع من أهل العلم كابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره: (كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار به جهلاً) وحين نادى أحدهم الإمام الشعبي قائلاً له: يا عالم؟ فقال الشعبي:(إنَّما العالم من يخشى الله) وكان طلاب العلم لا يتلقون العلم إلاَّ عمَّن عرف بالخشية والخشوع ؛ فقد قال النخعي ـ رحمه الله ـ :(كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته ، ثمَّ يأخذ عنه).
ـ تلقي العلم عن الراسخين في العلم:(/2)
وذلك لئلاَّ تكون له منهجية مبعثرة في قواعد الترجيح ، ودلائل الاستنباط ، وأن يكون تلقيه من أفواه العلماء وشفاههم ، فيكون متقناً للأحكام ، ولهذا كان السلف الصالح كالإمام الشافعي يقول:(من تفقه من بطون الكتب ضيَّع الأحكام) [تذكرة السامع والمتكلم/83]. فلا يعقل آيات الله ، ولا يفقه أحكامها ويستنبط دلائلها إلا البارعون في العلم ؛ كما قال تعالى:(وما يعقلها إلاَّ العالمون )العنكبوت(18) وكقوله تعالى:(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)النساء(83). فأهل العلم هم أوْلى الناس باستنباط أحكام الدين وشرائعه.قال محمد بن سراقة البصري:حقيقة الفقه عندي: الاستنباط . قال تعالى:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [المنثور في القواعد1/67 ـ بواسطة: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي 1/68 لمحمد أحمد الراشد].
لهذا حثَّنا الله تعالى على سؤالهم إن أشكل علينا أمر شرعي ، فقال تعالى:(فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون) الأنبياء(7) أخرج الدارمي في سننه في مقدمته عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (( خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ )) قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ:فَغَضِبَ لَا يُغْضِبُهُ إلاَّ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: (( ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟! إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ )) .
قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ :(إنَّ إنصاف الرجل لا يتمُّ حتَّى يأخذ كلَّ فنٍّ عن أهله كائناً ما كان ؛ فإنَّه لو ذهب العالم الذي تأهَّل للاجتهاد يأخذ مثلاً الحديث عن أهله ثمَّ يريد أن يأخذ ما يتعلَّق بتفسيره في اللغة عنهم ، كان مخطئاً في أخذ المدلول اللغوي عنهم ، وهكذا المعنى الإعرابي عنهم فإنَّه خطأ)ثمَّ يؤكِّد الإمام الشوكاني هذه المنهجيَّة المتَّزنة بقوله:(فالعالم إذا ظفر بالحق من أبوابه ، ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه ، وأمَّا إذا أخذ العلم عن غير أهله، ورجَّح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها ، فإنَّه يخبط ويخلط ، ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذاك)ا.هـ [أدب الطلب ومنتهى الأرب/76] .
وكم من مدَّعٍ للعلم ، متعالم مع جهل ، ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور ، فيظنُّ أنَّ جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب ، فلا حاجة ليقرأ العلم على أهله ، ولا ليثني ركبه عند أهل العلم ، تلقياً منهم ومذاكرة معهم ، ومراجعة عليهم ، ليعلو كعبه في العلم ، ويعلم أنَّه [من البليَّة تشيُّخ الصحيفة]وقد كان أهل العلم ينهون عن نيل العلم من الكتب فحسب ، بل لابد من مقارنة ذلك بالحضور عند أهل العلم ، والتلقي من الأشياخ ، ليقوى باع الطالب في العلم ، ويشتد عوده في الفهم ، ويصلب مراسه لمعالجة مشكلات الكتب وما يكتنفها من مسائل غامضة.
قال كمال الدين الشمني: من يأخذ العلم عن شيخ مشافهةً يكن من الزيف والتصحيف في حرمِ ومن يكن آخذاً للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعدم قال الأوزاعي : كان هذا العلم شيئاً شريفاً ؛ إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه ، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.
وحين يتأمل المرء في بعض الكتب الصادرة ، وما يجد فيها من فهم خاطئ لبعض نصوص الكتاب والسنَّة ، وأقوال أهل العلم ، يتيقن بأنَّ الخطأ ليس في صياغة الشيخ في كتابه بدلالاته اللغوية ، ومعانيه الكلاميَّة ، وإنَّما من الفهم القاصر لقارئ الكتاب ، ممَّا يجعله ينزلق في الفهم القاصر ، كما قال ابن القيم:(ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة) [مدارج السالكين/431].
وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ......... وآفته من الفهم السقيم
ولا عجبَ أن ترى كثيراً من المسائل التي وقعت بها أخطاء علميَّة ، أدَّت فيما بعد لأن تكون أقوالاً تنسب لبعض المنتسبين للعلم ، لتكون خلافاً يحكى أمد الدهر ، وذلك لقلَّة الفهم ، وضعف العلم ، ولو سكت هؤلاء القوم ولم ينطقوا لكان ذلك بهم أحرى وأوْلى من أن يتكالبوا على التدريس والتعليم ، وبضاعتهم في العلم مزجاة ، وممَّا يحسن إيراده في هذا المقام ما قاله كلثوم العتابي حيث قال:(لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف ) معجم الأدباء(5/19) وقال أبوحامد الغزالي:(لو سكت من لا يعرف قلَّ الاختلاف ، ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمَّة والاطِّلاع عليه فماله وللتكلُّم فيما لا يدريه ، والدخول فيما لا يعنيه ، وحق مثل هذا أن يلزم السكوت) [الحاوي للفتاوى/116].(/3)
ولهذا كان أهل العلم ـ رحمهم الله جميعاً ـ إذا سئلوا عن مسألة ولم يعرفوا لها جواباً قالوا : الله أعلم ، ولم يفذلكوا أو يكذلكوا ، بل كانوا متَّسمين بالوضوح تجاه مستفتيهم ، إن علموا حكم المسألة قالوا بها ، وإن جهلوها قالوا لا نعرفها ، بل كانوا لا يجزمون في فتاويهم ـ في بعض الأحيان ـ إن شعروا أنَّ المسألة قد تحتمل أوجهاً متعدِّدة ، كما نقل عن الإمام مالك أنَّه في بعض الأحيان إن أفتى قال:(إن نظنُّ إلاَّ ظنَّاً وما نحن بمستيقنين) [جامع بيان العلم وفضله/146] وممَّا نقل عن بعض أهل العلم حين كانوا لا يعرفون حكم المسألة أو يجهلونها ، ما نُقِلَ عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال:(وابردها على الكبد إذا سئل أحدكم عمَّا لا يعلم ، أن يقول : الله أعلم) [تعظيم الفتيا لابن الجوزي/81].
3ـ ألاَّ يكون من أصحاب تتبع الرخص ، ومن المتساهلين في فتاويهم وتعليمهم:
والحقيقة أنَّ أصحاب تتبُّع الرخص صاروا يستمرؤون هذه الخصلة وخاصَّة في هذا الزمان ، بل صاروا يأتوننا بأسماء جديدة للفقه ، فطوراً يقولون: نحن من دعاة (تطوير الفقه الإسلامي) وتارة يقولون : نحن أصحاب مدرسة(فقه التيسير والوسطيَّة) وليتهم كانوا كذلك ، فهناك فرق بين التيسير الذي هو سمة الفقهاء الراسخين ، والتفريط الذي هو سمة المتساهلين! بيد أنَّ التيسير والترخيص لا يؤخذ إلاَّ من رجل عالم ثبت ثقة، وأمَّا أن يؤخذ ذلك من كل أحد يدَّعي الاجتهاد والتعليم ، فإنَّ ذلك هو المرفوض قطعاً ، وبما أنَّ الربَّاني يرفض الغلو والتشديد ، فهو كذلك يرفض الترخيص والتساهل من غير الثقات ، لذا قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ(إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/784) فليفرَّق بين أصحاب مدرسة التيسير المتَّبعين لضوابط الشرع ، وبين أولي التساهل والتفريط والتمييع وعلى هذا فقس، من أنصار تطويع الفتوى للواقع ، وليِّ أعناقها لتواكب هذا العصر وتوازن ميوله واتجاهاته خشية أن يٌنْبَزُوا بأنَّهم متشدِّدون متنطِّعون!.
وصرنا نرى فتاوى يضحك الجهلاء منها ، كشيخ يرى جواز كشف شعر المرأة لأنَّ هناك عالماً كان يرى كشف شعر المرأة ؛ ولذا فلا بأس بأن تكشف المرأة شعرها ، وشيخ يفتي النساء المسلمات ويدعوهنَّ إلى التَّخلِّي عن الحجاب تلافياً لموجة الاعتداءات على المسلمين التي شهدتها بريطانيا عقب الهجمات على لندن ، وآخر يرى جوازَ بيعِ المسلمينَ للكفَّارِ الخمرَ ، بدعوى الضرورة والحاجة: أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها الحليم وثالث يفتي بجواز التطبيع مع اليهود مع أنَّ إباحة ذلك قضيَّة خطيرة للغاية، وشيخ ٌيرى جواز إمامة النساء للرجال ، أو يرى جواز التدخين لمن يقدر على شرائه ، أو بمن يقول بجواز لبس البنطال للنساء في الشوارع بحجَّة أنَّه يستر جسدها ، أو بجواز مصافحة المرأة الأجنبيَّة للرجل وتقبيله لها أو تقبيلها له ، أو من شيخ يرى جواز أن يتغنَّى الفسقة المغنُّون بالقرآن ويعزفوا الوتر على آياته ، وآخر ما اطَّلعت عليه ما نشر عن أحدهم بأنَّه يشكِّكُ في نزول عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الأرض في آخر الزمان ؛ ضارباً على الأحاديث الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في إثبات هذه المسلَّمة العقديَّة ! .
وقد سمعت من ذلك عجباً لا أحبُّ أن أزيد به القارئ ضحكاً مزجياً بتعجُّبٍ واستغراب.
ومن الوسائل التي يحاول أدعياء تطوير الفكر الإسلامي أن يطرحوها ؛ اتِّخاذ التلفيق الفقهي وسيلة لمعايشة ضغوط الواقع ، والمقصود بالتلفيق: أن لا يلتزم المفتي أو مستنبط الحكم مذهباً معيَّناً في فتاواه وفي حكمه ، بل يحاول أن يأخذ برخص الفقهاء ، ونوادر العلماء ، وتيسيرات المتقدِّمين ، لتكون مناسبة لفقه القرن الواحد والعشرين ، وهو قرن اندماج الثقافات مع الآخر الغربي/الكافر ، ليكون ذلك وسيلة على إظهار الإسلام بروح المعاصرة والمسايرة! .(/4)
وقد اطَّلعت مؤخراً على كتاب جديد كتبه:(مراد هوفمان) بعنوان:(في تطوُّر الشريعة الإسلامية) يقرِّر فيه إسلاماً يسميه (الإسلام المعتدل) إذ يرى أنَّ الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والمرونة ، ولذا يرى أنَّ شهادة المرأة كافية وخاصَّة في الأمور الاختصاصيَّة بل وملزمة /صـ47، ويرى أنَّ تعدد الزوجات هو استثناء لحالات خاصَّة حيث يسمح به في حالة الأمَّهات الأرامل ممَّن لديهنَّ أطفال يتامى، أو مع يتيمات ، أو لهدف العناية بالأيتام/صـ41، كما يرى أنَّه لا ينبغي إقامة حدِّ الردَّة على المرتد عن الإسلام/صـ53 ، ويرى أنَّ الإسلام ـ كنتيجة نهائية لبحث كتبه في عشرين سطراً ـ لم يقرَّ أبداً رجم الزناة/صـ55، بل يرى أنَّ الحديث عن مفاهيم دار الحرب ودار الإسلام للتعبير عن العلاقة بين الشرق والغرب بأنَّها مفاهيم تجاوزها الزمن/صـ65 ، إلى غير ذلك من الضَّلالات التي وقعَ فيها هذا الرجل ، ليجعل أحكام الإسلام تُؤخذُ بهذه الطريقة المنهزمة ، والمُمَيَّعة!(آلله أذن لكم أم على الله تفترون)يونس(59) .
ولولا أن يُظنَّ بنا غلوٌّ لزدنا في المقال من استزادا فهذا الرجل وأمثاله الذين صار لهم توسع وانتشار ؛ من الأشكال التَّي تعرض الدين الإسلامي بطريقة تجعل النصوص الإسلاميَّة ملويَّة أعناقها لتتواءم ـ كما زعموا ـ مع معطيات الحضارة ، ومتغيرات الزمن، وليؤسٍِّسوا فقهاً اجتهاديَّاً جديداً يرعى مصالح الزمان ، وضغوطه الدولية، والَّتي من أهمِّها أن ينظر الغرب إلى هذه العقول بأنَّها عقول مرنة ومنفتحة ، وصدق من قال من علمائنا المعاصرين:إنَّ الاجتهاد لم يُفتح في هذا الزمان وإنَّما كسر كسراً!.
فرحم الله من قال:
إن رُمْتَ حقَّاً لهذا الدِّين مصلحة ......... لا تظلم القوس أعط القوس باريها
ولقد كان علماؤنا الأجلاَّء يحرِّمون استفتاء المفتي المتساهل ، كما ذكر الإمام ابن مفلح قائلاً:( يحرم تساهل المفتي ، وتقليد معروف به) [التقرير3/351 بواسطة : زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء/66] وكان الإمام أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ يقول:(يخادعون الله كأنَّما يخادعون الصبيان) [أعلام الموقِّعين4/176ـ177] ولهذا شكا بعضهم إلى الفقيه ابن حجر الهيتمي أحدَ قضاة المسلمين ؛ لأنَّه يشدِّد على الناس فلا يحكم إلاَّ بالقول الصحيح ، ولا يسلك بهم مسلك التخفيف والترخيص فأجاب ـ رحمه الله ـ بقوله:(ما ذكر عن هذا القاضي إنَّما يُعَدُّ من محاسنه لا من مساوئه ، فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً ، فإنَّه عديم النظر إلى الآن ـ ثمَّ قال: ـ فقيام هذا القاضي حينئذٍ بقوانين مذهبه ، وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدلُّ على صلاحه ونجاحه وفلاحه) [الفتاوى الكبرى الفقهية 4/34 بواسطة زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري/ ، وكتاب تحذير الفضلاء للمقطري/35ـ36].
ولهذا فإن المنتسبين لأصحاب مدرسة(فقه التيسيرـ أي التساهل والتمييع لقضايا الشريعة ـ) المدَّعين أنَّهم أولو الوسطيَّة والاعتدال ، فإنَّك واجد في كتاباتهم ودروسهم وفتاويهم عجائب من الأقاويل ، التي يرون أنَّهم بها قد وافقوا بين الأصالة الفقهية ، والمعاصرة الزمانيَّة،ومن ذلك ما قاله الشيخ مصطفى المراغي لأعضاء لجنة وضع لائحة الأصول للأحوال الشخصيَّة ـ وكان رئيسها ـ :(ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافق الزمان والمكان ، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلاميَّة يطابق ما وضعتم) [تراجم الأعلام المعاصرين لأنور الجندي/ص48].
آه من دهر خؤون أهله ........لا يرون العلم للدين شعارا
طلبوا علماً بماضي غيرهم .........حالهم أحسن إذ كانوا صغارا
فإذا ما الشيب في أذقانهم ملؤوا الآفاق ظلماً وبوارا وقد كان أهل العلم يحذِّرون أشدَّ التحذير من الأخذ برخص العلماء وزلاَّتهم ، وأن تُجعل ديناً يدين العبد بها ربَّه ، فإنَّ ذلك علامة على ضعف الإيمان ، وقلَّة الديانة ، قال الأوزاعي:(من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) [السير(/15]
4ـ أن يكون له باع طويل في تلقِّي العلم والاجتهاد في تحصيله:(/5)
إنَّ ضرورة التأصيل العلمي ، وقوَّة التمكن الشرعي ، له أثره البالغ ـ ولا شكَّ ـ في أهليَّة العالم أو المعلِّم وقت تعليمه وكتابته وإفتائه ، ذلك أنَّه يعطي المتعلِّم أو المستفتي اطمئناناً لمن يسأله،والقارئ ارتياحاً لما يكتبه الداعية المعلِّم، وقد كان أهل العلم الربَّانيين السابقين منهم واللاحقين يطلبون العلم ، ويجتهدون في نيل مرامه ، من المهد إلى اللحد، كما قال الإمام أحمد ، فكانوا لا يفارقون كواغد العلم ، ولا أوراق الشريعة ، فهي معهم في حلِّهم وترحالهم ، بل لا يتركون معلِّميهم وأساتذتهم في طلب العلم عليهم بثني الركب عندهم، ولك أن تعلم أنَّ إماماً كابن الجوزي طلب علم القراءات وقد كان باقعة في العلم ، علاَّمة في الإدراك والفهم ، مشهوراً بين الأنام ، ومع ذلك يطلب هذا العلم مع ابنه الصغير وهو في سنِّ السبعين ، ولم يكن كبر عمره ، وشرف رسوخه في العلم ، حائلاً بينه وبين طلب العلم ، وملازمة أخذه وإدراكه ، والعيش معه ليل نهار ، حفظاً واطِّلاعاً وبحثاً ومذاكرة وفهماً وتعليماً وإفتاءً ، وقد قال علماؤنا بأنَّه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول.
إلاَّ أنَّ القضيَّة ـ وللأسف ـ اختلفت وخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه المستعجلون للتدريس ، والمتزبِّبون قبل أن يتحصرموا ، والمدَّعون للعلم والعلم بريء منهم (فعلى هذا لا يكتفى بمجرَّد انتسابه إلى العلم ، ولو بمنصب تدريس أو غيره ، لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل ، وقلَّ فيه طلب العلم ، وتصدَّى فيه جهلة الطَّلبة للقضاء والفتيا ، فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب ، ولا يعلم صورة المسألة ، بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتد إلى موضعها ؛ فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون: لقد هزلت حتَّى بدا من هزالها كلاها وحتَّى سامها كل مفلس) [ما بين القوسين من رسالة في الاجتهاد والتقليد ـ للشيخ: حمد بن ناصر بن معمَّر/48ـ49].
حتَّى قال الأستاذ: مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ :(والحقيقة أنَّنا قبل خمسين عاماً كنَّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه ، هو الجهل والأميَّة ، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو(التعالم). وإن شئت فقل: الحرفيَّة في التعلُّم ؛ والصعوبة كلَّ الصعوبة في مداواته . وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من أفراد في مجتمعنا:حامل المرقعات ذي الثياب البالية ، وحامل اللافتات العلميَّة) [شروط النهضة/91 ].
ولهذا فإنَّ أحد متعالمي زمننا وهو مهندس ميكانيكي أخرجَ كتاباً عنوانه:( إصلاح أكبر خطأ في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة) حيث يدَّعي أنَّ مسند الإمام أحمد ليس للإمام أحمد وإنَّما لابنه عبد الله ، بدعوى أنَّ المسند قبل كلِّ حديث أو أثر مرويٌّ بسنده ، يبدأ به بقوله حدَّثنا عبدالله ، قال حدَّثنا الإمام أحمد، فخرج هذا المسكين بالنتيجة العلميَّة التي لم يدركها جميع علماء الحديث على مرِّ الزمن ، واستخرجها هو بفطنته وعلمه وكياسته ، ولم يعلم هذا المتعالم أنَّ مسند الإمام أحمد قد رواه عنه كاملاً ابنه عبدالله ، ولهذا كُتب فيه :حدَّثنا عبدالله بن الإمام أحمد ، وصدق من قال: العلم فضَّاح لغير أهله.
كلُّ من يدَّعي بما ليس فيه ..........فضحته شواهد الامتحان
بل وصل بعضنا إلى درجة (الانحطاط الفكري) في تلقِّي العلم الشرعي ممن لم يعرف عنه نبوغه به ، فقد حدَّثني أحد العلماء المعاصرين عن أحد الكتَّاب الغربيين الذين انتسبوا لدين الإسلام ، أنَّه استضيف في أحد الفنادق، وكان حضور الناس إليه بالمئات ، وكان ممَّن حضر ذلك المؤتمر النساء المسلمات ، وبدؤوا يسألونه عن كلِّ صغيرة وكبيرة وصاحبنا الغربي لايفتأ يجيب عن كلِّ ما يسأل عنه ، حتَّى إنَّ إحدى النساء الحاضرات سألته عن مسألة من مسائل الحيض المشكلة عليها ليجيب عنها بما يراه مناسباًُ ، والعجيب أنَّ المقدِّم له يسأله عن ذلك وهو يعلم أنَّ ذلك الرجل المنتسب لدين الإسلام حديث عهد بإسلامه ! فكيف بالله يلج هذا الرجل تلك المداخل وهو قريب عهد بالإسلام؟!.
ورحم الله ابن رشد إذ قال:(كان العلم في الصدور واليوم صار في الثياب)[خلاصة الأثر للمجبي1/75ـ بواسطة التعالم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد /صـ35].
ولن أستطرد بذكر شيء من هذا القبيل ، فلا أحبُّ أن أنكأ الجراح ، ولا أذرَّ الملح على الجراح!ولله درُّ الإمام ابن تيميَّة حين نَقَلَ عن بعضهم:(وقد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ، ونصف متفقه ، ونصف متطبب ، ونصف نحوي ، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأبدان ، وهذا يفسد اللسان) [مجموع الفتاوى5/118].
5ـ أن يتلقَّى العلم ممَّن يقدِّر العلماء ويحترمهم:(/6)
المسلم الذي يهوى الحق ويطلبه ، فإنَّه لابدَّ أن تكون لديه علامة لحبِّ أهل العلم وإنزالهم منزلتهم ، واحترام علمهم ، وقد أخبرنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كما في حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه أنَّه قال ـ:(ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقَّه) [أخرجه أحمد بسند جيد]. بيد أنَّ المطَّلع على حال الكثير من الصحفيين ـ وهم الذين يأخذون العلم من الكتب دون المشايخ ـ كما قال الزمخشري في التعاريف(1/449) أو من يتسمَّون بالصحافيين وهم جمَّاعو الأخبار ، فسيجد المراقب لكتاباتهم شيئاً عجيباً من قلَّة احترام العلماء ، والاستهانة بعلمهم ، بله الاجتهاد في تحقيق كثير من القضايا في مجلاَّت لم تُعرف بروح العلم ، بل عرفت بالعلمنة والفسق ، ثمَّ يأتي أحدهم ويناقش قضيَّة حكم استماع الموسيقى والأغاني في نصف صفحة ، ويعرض قول من شذَّ رأيهم في إجازة الاستماع لتلك المعازف ، ويعرض بل يشنِّع ويشغِّب على العلماء الذين أفتوا بحرمتها ، وخاصَّة في هذا العصر ؛ لأنَّ تلك الفتوى لا تتواءم مع القرن الحادي والعشرين! بينما تجد عند السابقين من طلاَّب العلم قمَّة احترامهم لعلمائهم ، فهذا لا يطرق الباب على شيخه إلاَّ بأطراف أصابعه ، وهذا يهاب من النظر إليه إجلالاً له واحتراماً ، وآخر يخشى أن يزعج شيخه بتصفُّح الأوراق أمامه والانشغال عن درسه بها ، وهذا ينتظر شيخه من المساء إلى الصباح وقد سفَّته الرياح حتَّى يفتح الشيخ له بابه ، وآخر لا يأتي عند شيخه إلاَّ ويقبِّلُ يده ويدعو له بالخير ، وآخر لا يصلي صلاة إلاَّ ويدعو لشيخه بالخير والجنَّة ، ورحم الله ربيعة بن أبي عبدالرحمن إذ قال:(الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور أمَّهاتهم) [شرح ابن أبي العز للطحاوية1/15].
أمَّا الآن فتجد أنّ القوم المتعالمين إذا تعلم أحدهم مسألة أو عشر مسائل ، بدأ يكتب في الصحف والمجلاَّت والجرائد، وينشر علمه الغزير! فيخطِّئ الأئمة المجتهدين ، ويستدرك عليهم ما يظنُّه من زلاَّتهم ، بدعوى الحجَّة الزائفة:(هم رجال ونحن رجال).
ولا شكَّ أنَّ الاحتجاج بهذه المقولة حجَّة ساقطة لوجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ الاحتجاج بهذه الكلمة غير صحيح ؛ لأنَّ الذي قالها الإمام أبو حنيفة ، كما نقل مقولته عنه ابن حزم ـ رحمه الله ـ :( ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين ، وما جاء عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعاً وطاعة ، وما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تخيَّرنا من أقوالهم ، ولم نخرج عنهم ، وما جاء من التابعين فهم رجال ونحن رجال)[الإحكام لابن حزم4/573]فأبو حنيفة حين قال هذه الكلمة ، فقد قالها لأنَّه يصنَّف من التابعين ، حيث رأى أنس بن مالك ، واجتمع مع جمهرة من التابعين الأكابر، فيصدق عليه أنّه رجل وهم رجال لأنَّه هو وهم من التابعين ، ومن لنا بعلم أبي حنيفة في هذا العصر ، لنقول فيه: هو رجل وهم رجال!.
الوجه الثاني: أنَّ هناك فرقاً عظيماً بين هؤلاء الرجال العصريين ، ومن قبلهم من الرجال السابقين ، لأنَّ التابعين هم من القرون المفضَّلة ، التي امتدحها رسول الله ؛ وهو ما أدَّى بابن رجب إلى أن يؤلِّف كتاباً بعنوان:(فضل علم السلف على علم الخلف) ولذا فإنَّ كلام السلف قليل كثير البركة ، وكلام الخلف كثير قليل البركة.
الوجه الثالث: أنَّ من يدَّعي أنَّه رجل ينبغي عليه أن يعرف قدره وقدر الرجال الذين سبقوه ، وإذا كان أبو عمرو بن العلاء يقول:(ما نحن فيمن مضى إلاَّ كبقل في أصول نخل طوال)[سير أعلام النبلاء6/47] مع أنَّ أبي عمرو يعدُّ في عُرف أهل السير شيخَ القرَّاء والعربية.
فهؤلاء المدَّعون للعلم والشيخوخة في طلبه ، لم يعرفوا قدر علمائهم ، وإذا كانوا يعدُّون أنفسهم أنَّهم رجال ، فإنَّ الرجال يحترم بعضهم بعضاً ، وأوْلى بهؤلاء المدَّعين للرجولة أن يقال في حقِّهم ما قاله الشيخ عبدالرزاق عفيفي لأحدهم حين ادَّعى أمامه تلك الدَّعوى قائلاً له : نعم ... هم رجال ... وأنت دجَّال!! ورحم الله مجاهداً حين قال:(ذهب العلماء فلم يبق إلاَّ المتكلِّمون ، والمجتهد فيكم كاللاعب فيمن كان قبلكم)[أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم/66]فالله المستعان.
وفي الختام: فإنَّ مريد الحق ، ومبتغي سبل الهدى ، ينبغي أن يحتاط في الأخذ لدينه ، وأن يعرف من يؤخذ عنهم العلم ، وما صفاتهم ، وقد كان علماؤنا الأجلاَّء يُعْنَوْنَ بهذه القضيَّة أشدَّ الاعتناء ؛ فقد قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ:(إنَّ هذا العلم دين ؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم) [شرح مسلم للنووي1/84].(/7)
فليس كلُّ من لبس لباس العلم يؤخذ عنه ، وليس كلُّ من صدَّره الإعلام والفضائيَّات والصحف يُظَنُّ أنَّه ذلك الرجل الخِرِّيت الذي فقه دين الله ، ورضي بمقتضاه ، وألمَّ بفحواه ، وليس كلُّ من كتب مقالاً أو بحث مسألة شرعيَّة أو كتب كتاباً يعدُّ عالماً أو طالباً للعلم ، أو مؤهَّلاً لأن يؤخذ عنه العلم ، ويكفي أنَّ أئمتنا قالوا: ليس العلم بكثرة الرواية والدراية ، ولكنَّه نور يقذفه الله في قلب المؤمن الموفَّق ، مصداقاً لقوله تعالى:(واتَّقوا الله ويعلِّمكم الله) [سورة البقرة/8].
قال الإمام ابن القيِّم: والعلم يدخل قلب كلِّ موفَّق من غير بوَّاب ولا استئذان ويردُّه المحروم من خذلانه لا تشقنا اللهم بالخذلان فاعرف يا ابن الإسلام دينك ، واختر لنفسك عالماً متفقِّهاً في دين الله تنهل منه العلم ، وتأخذ عنه الفتوى ، وإيَّاك ومشايخ السوء ؛ فعنهم ابتعد ، ولهم خالف ، وعلى آرائهم فاضرب ، متأسِّياً بقول العربي الأصيل:(ليس ذا عشَّك فادرجي).
كتبت هذا المقال مذكِّراً بأهمِّيَّة هذه القضيَّة ، ومنبِّهاً لها في زمن قلَّ فيه من يعطي لأهل العلم الربَّانيين قدرهم ، ويعرف علمهم ، وما أنا ـ والله ـ إلاَّ رجل مستفيد من بضاعتهم ، متطفِّل على موائدهم ، فرحمني الله برحمته، وجعلني ممَّن يهتدي بهدي نبيِّه وصحابته.
أسير خلف ركاب النُّجب ذا عرج .........مؤمِّلاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا ......... فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً ......... فما على عَرَجٍ من ذاك في حرج
سائلاً المولى أن يعصمنا من الفتن ، وأن يحفظنا من زلل القول والعمل ، والحمد لله ربِّ العالمين.
27 تعليق حتى الآن ( اضف تعليقك على المادّة فوراً )
________________________________________
قراءة نصوصية للنص | طارق يقول...
بما أن القضية برمتها تدخل ضمن علاقة " النص والتأويل " فنستطيع أن نقرأ هذه المقالة على " مستويين "
المستوى الأول : وهو مستوى " نفعي " نستحضر من خلاله ما يريد أن يقوله " المؤلف " لنا ، وهو في هذه الحالة يدعونا أن نتعلم الدين من الراسخين في العلم منّا
المستوى الآخر : وهو مستوى " نصوصي " نستحضر من خلاله ما يقوله لنا النص المقروء من خلال كلماته وتعابيره ، بغض النظر عما يقصده الكاتب منه ، والكتابة النصوصية الحقة هي التي يتطابق بها ما يود أن يقوله " المؤلف مع ما تبينه كلمات النص المكتوب بناء على ملكة معرفية للمؤلف بدلالات كلمات النص ومشتقاتها وجذورها ، علماً بأن قراءة نص ما تعطي عدداً لا متناهياً من الدلالات ولكنها تبقى جميعها ضمن سياق واحد ولخدمة النص وليس لهدمه أو تفجيره من خلال جعله مسطحاً يخدم فكراً أحادي الأبعاد ....
ولقراءة النص المشار إليه نصوصياً علينا أن نبدأ بالعنوان وهو ( أنظروا عمن تأخذون دينكم ) .....
ولأنني لست ضليعاً بـ " النحو " فلا أعرف أيها أقرب للصواب أن يقال ( تأخذون ، أو تأخذوا ) بحيث يقال ( ...... عمن تأخذوا دينكم ) بدل " تأخذون ... " .....
وبما أن المقصود بالدين هو دين الله الإسلام ، فلا شك أن المرجع الأساس لهذا الدين هو كتاب الله العزيز ، الذي جعله الله قرآناً عربياً لعلنا نكون من العاقلين ، والذي جعله الله نوراً يهدي به من يشاء من عباده ...
وبما أن القرآن قد جعل الدين بالتعلم وليس بـ" الأخذ" فكان على العنوان أن يكون ( أنظروا عمن تتعلمون دينكم ) ، أو حتى ( ممن تأخذون دينكم ) لأن الدين بالتعلم وليس بمجرد الأخذ ولو بغير علم .....
وللحديث بقية بإذن الله
تابع قراءة نصوصية لنص | طارق يقول...
يتبع ......
ثم إذا ولجنا في صلب النص نلحظ بداية الفكرة التي كتبها السيد الكاتب والتي نصها
( الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم . ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.)
وهي كما يلاحظ القاريء فكرة نفعية صرفة ، لأنه لا يمكن دراستها " نصوصياً " ، حيث ذكر الكاتب تعابير أعتبرها شخصياً مشوشة وغير مستندة إلى أية جذور دلالية يعتمد عليها في التفكيك والتركيب ، وهي أيضاً مثيرة للجدل ، مثل قوله " بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم .........هذه الفكرة لم يوصف بها أو تعطى حتى سيد الخلق المصطفى ، فكيف تعطى " لبقايا من أهل العلم " ؟؟!!(/8)
حيث جاء في القرآن المجيد وفي سورة النمل ، الآية 81 ما نصه ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إا ولولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) ، فالذين أوردهم السيد الكاتب حتماً لا يحيون الموتى سواء من قتله إبليس أو غيره ، إلا إذا أعطفوا صفة إحياء الموتى كالسيد المسيح عليه السلام وهذا مستحيل ، كما أنهم لا يهدوا من يحبون ، لأن ذلك لم يعطى لرسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ، ولا يبصرون أهل العمى أبداً ، فكيف إن كانوا من الضالين المكذبين ؟؟
قد يقول قائل إن ما جاء في الفقرة أعلاه هو كنوع من التشبيه البلاغي وليس مقصود بحد ذاته ، ولكن على أي تشبيه بلاغي أو غير بلاغي أن لا يتعارض مع معتقداتنا كمسلمين ويخالف منطوق نصوص القرآن ، أليس كذلك؟؟
وهكذا فأنا هنا لا أعترض على السادة العلماء ، لكني أحاور كاتب هذا المقال ، فسواء كان من " الراسخين بالعلم " أو من غيرهم ، فإني أدعوه إلى إعادة تلاوة النصوص القرآنية ، ليعالج أي خطأ يقع فيه مستقبلاً
خاصة وإن كتابنا القرآن الكريم منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات .... ، لذلك فنحن نتعلم مما يبينه له لنا في كتابه إن شاء ، وأبلغنا به رسولنا ببلاغ مبين ، أما الراسخون في العلم ، فالله أعلم بإيمانهم ,,,,,
( انتهى )
أهل العلم | عبد الرحمن يقول...
الحمد الله الذي خلق الإنسان علمه البيان
والصلاة والسلام على من قال " العلماء ورثة الأنبياء" وبعد:
إن من ظواهر التخلف التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذه الأيام التعيسة
آفة التعالم أو بمصطلح النبوة الرويبضة.
الرجل التافه يتحدث في أمر العام كما قال من لا ينطق عن الهواء.
هذا مرض يصيب أصحاب النفوس المنكوس.
وأنا لا أريد أن أتكلم في هذا الموضوع كثير ولكن ............
أخي خباب هل تريد أن تضحك ؟
فإليك هذا الفتوى من أمثال هؤلاء الذين أشارة إليهم
رجل في حافلة دخل وقت الصلاة وليس معه أي شئ ليتيمم عليه يخرج الجوال أي جواله ويمسح عليه ويصلي.
عندما سأله الذي بجنب .
من أين لك هذه الفتوى ؟
قال سألت أحد طالب العلم فقال لي
إذا نويت أن الجوال حجر " أي صعيد " جاز لك التيمم عليه لأن الرسول يقول صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات"
قال حتى لو نويت أن ركبتك حجر جاز لك التيمم بها.
مارأيك يا أخي خباب .
فهل بقى بعد هذا كلام.
إمام مسجد من الجزائر المجاهدة
يتبع
وهذا داء عظيم
أهل العلم ... من هم ؟؟ | طارق يقول...
الموضوع أيها الأخوة هو لساني بحت ، وجاء ذكر أهل العلم في موضوع الكاتب لظن كاتب المقال الكريم بأنهم أي أهل العلم ، هم القادرون وحدهم على القراءة النصوصية الصحيحة لتقديم مفهوم الدين للناس كما بينه الله في الكتاب ، أما إن اكتشف القاريء العادي أن هناك أخطاء ما في ما يقدمه " أهل العلم " فله كل الحق أن يبن ذلك دون الحاجة إلى أن يتعرض لسخرية أو خلافها ......
وما ذكره الأخ عن حكاية الجوال والتيمم يؤكد أننا كأشخاص عاديين لا يمكننا الحكم على من هم أهل العلم حقاً ومن هم ليسو كذلك ، لأن من استفتاه الرجل في التيمم اعتبر نفسه من أهل العلم ؟؟!!
أما إن كان للأخ اعتراض على جملة ( ممن تتعلمون دينكم ) بدل ( عمن تأخذون دينكم ) الذي ذكرها كاتب المقال نفسه ، فأهلاً وسهلاً .....
علماً بأن كثيراً من التعابير المتداوله بين الناس تعطي مفاهيم عكسية لما يقصد بها ، والمشكلة أن المتعاملين بالروايات وحتى " الأحاديث الشريفة " ليسوا دقيقين في ما نقلوه ، وأكبر مثال على ذلك هو ما نقلوه عن لسان النبي الكريم من قول " خذوا عني مناسككم " وكان عليهم أن يقولوا ( خذوا مني مناسككم ) فهي الأسلم تعبيراً
فقولهم " خذوا عني مناسككم " يوحي بأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أراد أن يقول " أريحوني من هذه المناسك " وحاشى لله ورسوله أن يقصد ذلك فهذا لا يصح ، ألم يقل ربنا لرسوله الكريم ( ووضعنا عنك وزرك ) وقوله سبحانه( و إذ أخذنا من النبيين ومنك....... ).....
مع أن الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله ( إنك لن تهدي من أحببت ... ) فهل يقصدون أن " المناسك وحدها تكفي ؟؟
سؤال برسم " أهل العلم " الإجابة عليه ودمتم
لا تتزبب قبل أن تتحصرم | عبد الرحمن يقول...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال العلماء- لطالب العلم -:لا تتزبب قبل أن تتحصرم _أي أن الزبيب لا يكون الا بعد أن ينضج الحصرم و يصبح عنبا _
ياأخ طارق إني والله أحبك في الله كما أسأله أن يجمعنا برحمة في الفردوس آمين.
ولكن يجب أن تعرف أن أهل العلم هم العلماء
العاملون الذي قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم :" ورثة الأنبياء"
1ـ ملاحظات هام أخ طارق(/9)
أ. فيما يخص ملاحظتك للأخ خباب عن العنوان الذي قالت عنه أنه خطأ رغم أنك تشهد على نفسك أنك لست أقتبس "....ولأنني لست ضليعاً بـ " النحو " فلا أعرف أيها أقرب للصواب أن يقال ( تأخذون ، أو تأخذوا ) بحيث يقال ( ...... عمن تأخذوا دينكم ) بدل " تأخذون ... " .....
فأنا أقولك أأنت أعلم باللغة والنحو أم الإمام مالك رضى الله عنه
وروى عبد البرّ في التمهيد 1|67 عن الإمام مالك أنه قال "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ،لقد أدركت سبعين من يحدّث قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما اخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت المال لكان أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه."
وأظن أن الأخ خباب أخذ العنوان من قول الإمام مالك رضى الله عنه.هل أخطأ الإمام مالك حين قال "عمن تأخذون .." ياأخ طارق.
ب.أم عن الحديث أخ العزيز لقد أخطأت الرمية مرة أخرى حديث رواه مسلم وغيره بلفظ
قال: { لتأخذوا عني مناسككم } [مسلم].
من أخطأ أخ طارق من كانوا ينطقون لغة الضاض على السليقة ام من درسهاوتعلم قواعده بعدما إستعجم اللسان.
فائدة " مصطلح الحديث"
يقول صاحب البيقونية:
أولها الصحيح وهو مااتصل إسناده ولم يشذّ اويعلّ
يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه و نقله
والحسن المعروف طرقا وغدت رجاله لاكالصحيح اشتهرت
وكلّ ماعن رتبة الحسن قصر فهو الضعيف وهو أقسام كثر
إلى أن يقول:
والكذب المختلق المصنوع
على النبي فذلك الموضوع
قال عليه الصلاة والسلام ((إنّ كذبا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار)) مسلم قال الإمام النووي رحمه الله "لافرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ماكان في الأحكام ومالاحكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك فكلّه حرام من أكبر الكبائر واقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتدّ بهم بالإجماع"
وفي الأخير من دخل في غير فنه أتى بالعجائب والغرائب ....يتبع
ثابت وتمتحرك | طارق يقول...
إلى أخي عبد الرحمن أقول :
أنا أيضاً أبادلك التحية بأحسن منها ، والتمنيات بحياة سعيدة في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
ولكن للأسف أقول أنك ياصديقي تردد نفس المنطق ونفس الحجج والمبررات التي تخوف الناس من استعمال عقولهم وهدى الله لهم في فهمهم لنصوصنا الدينية والذي يهدي بها الله من هو أهل للهداية من البشر فقط
من أجل أن يبقى الحال على ما هو عليه مهما بلغ من الضنك
المهم كما قيل : أن تتحصرم قبل أن تتعنب وتصير زبيباً في النهاية ، أليس كذلك ؟؟
تحياتي
سؤال | عبد الرحمن يقول...
أخي طارق أريد فقط أن أسألك سؤال بسيط جدا
وهو ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم" لا تسقي ماءك زرع غيرك"
بشرط أن تستعمل عقلك الفذ وفهمك لهذا النص.
دون الرجوع إلى أهل العلم أي أقول العلماء.
فهل تستطبع ذالك؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
جواب | طارق يقول...
أخي العزيز / عبد الرحمن
دعني أشكر هذا الموقع الطيب لسماحه بفتح مثل تلك الحوارات الجادة ، كما أشكرك على سعة صدرك ، وأرجو أن يكون زوار هذا الموقع هم من الكثرة بحيث لا يبقى الحوار مجرد مراسلة بيننا بل يشهد عليه الكثير
سيدي : نحن – أنا و أنت – نتفق أن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام أوتي من البلاغة والفصاحة ما أعجز كل من حاول التصدي له .
لذااااااااا لا يمكن أن يصدر ما نقله السادة العلماء من قول من لسان رسولنا الشريف وأقصد ( لا تسق ماءك زرع غيرك ) وذلك للأسباب التالية :
1- لأنك إذا سقيت ماءك - كل مائك - زرع غيرك فماذا ستبقي لزرعك من ماء إذاً ؟؟
2- كما أنه إذا قلت لا تسقي من ماءك زرع غيرك خالفت بذلك حديثاً يتداوله الناس وهو " الناس شركاء في ثلاثة ، الماء والكلأ والنار "
4- إذا قصدت بالزرع والماء أشياء مجازية يعلمها السادة العلماء فقط ، أي ( كناية عن ) ، فرسولنا عليه الصلاة والسلام أمره الله سبحانه أن يخاطبنا ببلاغ مبين ، والتوريةوغيرها ليست من ذلك في شيء ، أليس كذلك ؟؟؟
فهل كان جوابي مقنعاً وذلك من خلال عودتي لمنطق ونصوص القرآن ولم أعد للسادة العلماء كما ترى
تحياتي
العلم نور والجهل ظلام | عبد الرحمن يقول...
أخي طارق
سؤال فقط في أي تخصص أنت من فضلك؟
مامعنى التورية أخي طارق؟
البيان والبديع والكناية وغيرهما معنى ذالك عندك.
يقول الله عزوجل " نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شأتم"
أخي إرجع الآن إلى أقول العلماء في تفسير الحديث وسوف تعرف الفرق بين أهل العلم وغيرهم
كما أسأل أخي خباب أن ينظر في تفسيرك لحديث حتى يعلم أن المصيبة أعظم؟؟؟
ملاحظة صغيرة: أرجو أن تتلقاه بصدرا رحب
وهي يوم قرأت ردك على سؤال ضحكت كثيرا
أنا و شيخي عبد الرشيد.....
إمام مسجد الشهداء وخطيبه يوم الجمعة
وفي الختام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/10)
الحق فيما تثبتان لا فيما تنفيان | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق يقول...
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك
شكراً موصولاً للأخ كاتب المقال، فقد نقل لنا نصوصاً رائعة، رغمَ أن كثيراً منها يْوظَّفُ خارج سياقه، وكثير من المفاهيم تقع تحت مظلة ما يُسمى"الإسقاط على التاريخ" أي اسقاط وعي الحاضر أو أي لحطة تاريخية متأخرة على الماضي أو أي لحظة تاريخية متقدمة.
وهذا الإسقاط هو من عيوب الفكر البشري وكلُّنا يقع فيه، فمن الإسقاطات:
أن تفهم من كلام الرسول قولوا صلى الله عليه وسلم:"الإئمة المضلين" على أنهم العلماء. لأننا أصبحنا نسميهم الأئمة ،على حين أنّ قصد النبيّ قولوا صلى الله عليه وسلم هو الحكام ولا ريب، كما قال في حديث آخر فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته.
ومن الإسقاط أن تفهم أن أهل الذكر هو العلماء كابن تيمية وباز والقيم ورجب وغيرهم، والصواب أنهم اليهود والنصارى فالآية واضحة:"وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فأهل الذكر هم أهل الكتاب ولا فرق. لكن كان من مصلحة العلماء أن يقصروا معنى الآية عليهم ليكتسبوا سلطة على الناس. لا يسعون لذلك متعمدين بل دون شعور منهم . فقد اكتشف العلم الحديث(راجع لين وايت):"اكتشفنا أن أهواءنا ورغباتنا تتقنع بقناع العقل".
ومن الإسقاط على التاريخ أن تفهم ذم العلماء في المئة الثانية للصحفي او لمن يأخذ علمه عن صحيفة على أنه ما يزال يصحّ حتى علينا أبناء العصر الرقميّ. ذلك أنهم كانوا يذمون الصحفيين لأنهم شهدوا فترة ينتقل فيها العلم من الشفاهية الى الكتابية، ويعيشون عصر تطور الخط العربي الذي كان ضعيفا جدا أضعف من أن ينقل النصّ، قبل وضع النقاط والرموز الثمانية المعروفة، ولكي تفهم كلامهم تخيل أنك تقرأ كتابا يكون فيه للنون والياء والتاء والثاء والباء رمزا واحدا،وللجيم والحاء والخاء رمزا واحدا،وللراء والزاء(ويجوز الزاي وهو الأشهر) رمزاً واحدا،و....الخ.
ومن اللإسقاط على التاريخ التي يقع فيه كما قلت جميع الناس وأكثر علماء الإسلام الكبار يقع فيه ، ومن زعم تنزّههم عن ذلك فقد رفعهم فوق بشريتهم لأن الإسقاط من خصائص الفكر والعقل البشري وهو عيب فكري لم يكتشفه العلم الا في عصور متأخرة. سأستطرد اذا ساعد الله وشاء . ولكن قبل أن أختم أنصح الأخ كاتب المقال شاكراً له بقراءة كتاب:"الشفاهية والكتابية تأليف والتر أونج،ترجمة د.حسن البنا عز الدين،عالم المعرفة-كويت،1994".وأشكرك لأنك أوردت حديث أبي السنابل لأتأكد الآن منه عبر الجامع الكبير لكتب التراث الإسلامي ، فسأركبه على الحاسوب وأستخرج أقاويل العلماء فيه، لأن مذهبي هو أبعد الأجلين كما روي عن ابن عباس ، وقد فندت مذهب ابن تيمية في رسالته(رفع الملام عن الأئمة الأعلام)لأنه أورد حديثا لا يدل زيادة دلالة على الآية واستنبط منه اعتمادا على متعصب حديثي من السلف. وسيكون مذهبي متوقفا على مدى اقتناعي بنقد علماء الحديث رحمهم الله وإيانا لحديث أبي السنابل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عدة المتوفى عنها زوجها | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق يقول...
شكرا جزيلا لك حيث حملتني على البحث في المسألة المهمة مسألة عدة المتوفى عنها زوجها. وقد أخرج لي الباحث الألكتروني 72 كتابا كبيرا وصغيرا فيه الكلام على الموضوع. ومن الصحاح صحيح مسلم الذي يروي قصة اختلاف بين ابن عباس الذي كان يرى ابعد الأجلين وابي سلمة ابن عبدالرحمن الذي كان يرى مجرد وضع الحمل. فأيد أبو هريرة ابا سلمة ثم بعثا الى ام سلمة رضي الله عنها. فروت حادثة ان النبي عليه السلام قد أذن لامرأة أن تنكح اذا وضعت حملها.
وقد خرجت بالأفكار الآتية :
أن المسألة ليس بإمكان الطريقة التقليدية أعني طريقة فقهاء المحدثين حلُّها
لأسباب :أهمها أنهم كانت تنقصهم معلومات كثيرة عن العلاقة بين النص الكتابي والنص الشفاهي، فهم يولون الحديث المدون قيمة الحديث المسموع، وهذا قد تجاوزته الطريقة العالمية الحديثة في التأويل والفهم.
بالتأكيد أن طلبة العلم التقليدييين من أمثالك وأمثالي قبل أن أقرأ الكتاب الذي دعوتك الى قراءته:كتاب الشفاهية والكتابية، نتحسس كثيرا من فكرة الجرأة على صرف نص متلقى بالقبول كصحيح مسلم عن ظاهر ألفاظ الحديث ولا سيما أن"العلماء" الذين قد جاءوا قبلنا قدرسموا لنا معالم منهج ما زلت تظن أنت وكثيرون من الأخيار والفضلاء أنه هو العلم. أما أنا العبد لله فقد توصلت الى أفكار كثيرة بصدد المنهج:
أهمها أن العلماء القدماء جزاهم الله خيرا تكمن قيمتهم العلمية فيما رووه ودونوه أما المنهج وهو فعل عقلي فلا يجوز عقلا أخذه عنهم. لأنهم كانوا مؤطرين بتاريخهم وزمنهم.(/11)
حين تقرأ كتاب الشفاهية والكتابية قراءة جيدة ستعلم لماذا ما أزال أنا أؤيد ابن عباس في أن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها هو أبعد الأجلين وليس مجرد وضع الحمل لأن (وأولات الأحما ل أجلهن أن يضعن حملهن ) قد وردت في معرض تفسير لآيات قبلها. وستعرف لماذا أصرّ على هذا المذهب حتى اذا رجع عنه ابن عباس ، لأن(الشفاهية والكتابية) قد علمني أن كثيرا من العلم قد أسقطه التاريخ وقدرة البشر المحدودة على التدوين.
وأسأل الله تعالى أن يوفق الجميع
أخي خباب | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق يقول...
اعجب لروايات الموطأ
باب عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا إذا كانت حَامِلاً
1225 حدثني يحيى عن مَالِكٍ عن عبد رَبِّهِ بن سَعِيدِ بن قَيْسٍ عن أبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن أَنَّهُ قال سُئِلَ عبد الله بن عَبَّاسٍ وأبو هُرَيْرَةَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ يُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا فقال بن عَبَّاسٍ آخِرَ الأَجَلَيْنِ وقال أبو هُرَيْرَةَ إذا وَلَدَتْ فَقَدْ حَلَّتْ فَدَخَلَ أبو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن على أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبي e فَسَأَلَهَا عن ذلك فقالت أُمُّ سَلَمَةَ وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ فَخَطَبَهَا رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا شَابٌّ والأخر كَهْلٌ فَحَطَّتْ إلى الشاب فقال الشَّيْخُ لم تَحِلِّي بَعْدُ وكان أَهْلُهَا غَيَبًا وَرَجَا إذا جاء أَهْلُهَا أَنْ يُؤْثِرُوهُ بها فَجَاءَتْ رَسُولَ الله e فقال قد حَلَلْتِ فأنكحي من شِئْتِ س 6 - 210 ت 20 - 33
1226 وَحَدَّثَنِي عن مَالِكٍ عن نَافِعٍ عن عبد الله بن عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عنها زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ فقال عبد الله بن عُمَرَ إذا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَقَدْ حَلَّتْ فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كان عِنْدَهُ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ قال لو وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا على سَرِيرِهِ لم يُدْفَنْ بَعْدُ لَحَلَّتْ س 6 - 211
وهي صريحة كل الصراحة في أن عبدالله بن عمر وعمر قبله قد فهم الآية منفردة، ولكني ما أزال على مذهبي في أبعد الأجلين. فما رأيك؟ ولو كنت مكلفا من قبل دولة بوضع قانون الأحوال الشخصية لوضعته وفقا لأبعد الأجلين وبهذا أدين الله تعالى. اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك
أخي الكريم -المسألة محتملة | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق يقول...
عن مغيرة قال قلت للشعبي ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين قال بلى فصدق به كأشد ما صدقت بشيء كان علي يقول إنما قوله ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) في المطلقة
ابن المنذر )
عدة الوفاة
وهنا قد يكون لتأويل الشعبي لمذهب علي مساق، ولكن مع ذلك من مذهبي أن الحامل عدتها أبعد الأجلين حتى اذا كانت مطلقة، ليس مخالفة لأحد ولكن اعتقادا بدلالات القرآن الكريم وقرائن النص
فإن المبدأ أن لا نردّ النص القرآني وهو كل مترابط باللجوء الى نصوص رويت في ضوئه وعدت فيما بعد من العلم بل عدت هي العلم ذاته،
ثم اها ليست اجماعا لا يجوز خلافه، ولو أجمع الفقهاء على خلاف النص لقلنا إن الإجماع المنقول مدعى. فالمسألة قابلة للاجتهاد والفهم.
وجزاك الله خيرا.
فلا يظن ظان أن في التقيد بالنصوص المدونة في القرن الثاني الهجري وحدها غنية عن ما يكتشفه العلم من خصائص الفهم البشري وبناه التكوينية،أعني من كونه شفاهيا أو كتابيا أو رقميا
مع السلامة
ليس كل تأويل معتبرة | عبد الرحمن يقول...
السلام عليكم ورحمة الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أخي د.عبد الرحمن الزبيدي سلام الله عليك وعلى أهل دار السلام من أرض الجهاد ومسكن مليون ونصف الجزائر.
أخي أولا شكرا على هاته المداخلة الطيبة إن شاء الله.
ثانيا:
أريد أن سأل فقط
ماهي المرجحات التي إعتمدت عليها في هذا الرأي " أو المذهب كما تقول أنت " مع إحترامي لرأيك.
لا اشك أنك تعي أن النصوص مرتبط ارتباط وثيق بالزمن الذي نزلت فيه وهي في نفس الوقت تتعداه إلى غيره لتشمله وتضعه تحت مظلتها، حتى لا يحدث فارغ تشرعي كما يقال، ضف أيضا النصوص القرآنية تبقى مجملة وعامة
فهي تعطي قواعد كلي لا تفصلية إلا في بعض الأحوال المخصصة.
وحينما درسنا العلوم الشرعية على يد علمائنا الأفاضل ،قالوا لنا قاعدة طيبة وهي "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وأظن أنك تعرفها.
مامعنى هذا القاعدة ولن اشرح هنا نفس القاعدة وهي مشروحة في كتب العلم وعند العلماء، ولكن أريد أن أتطرق لنصف الأخير منها " لا بخصوص السبب" هنالك نصوص مريوط باسباب وقعت في ذالك الزمان فجاءت الآية لمعالجتها هنا نقف لحظة ونتأمل معنا من أعرف بذالك الزمان نحن أو من عاش ذالك الوقت، الجواب واضح هم لهذا نقول أننا ملزمون بما يقولن لنا بمعنى أخر بسيط هم أفهم من لتلك النصوص هذه واحدة(/12)
أمر أخر وهو ما فرق بين النصوص القرآني و الحديث طبعا تكاملي، إذن هنا نركب الصورة لنرى جيدا الآية جاءت تقول "( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )" وحديث المروي جاء ليبين لنا الصورة وهو حديث أبى السنابل "فَجَاءَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال قد حَلَلْتِ فأنكحي من شِئْتِ"........لحديث بقي إن شاء الله. ملاحظة " أنت قالت اقتبس..." ولو كنت مكلفا من قبل دولة بوضع قانون الأحوال الشخصية لوضعته وفقا لأبعد الأجلين وبهذا أدين الله تعالى..." ماذا لو عارضك أخرون في هذا الرأى ما أنت فاعلا
أظن أنك سوف تقول كما قال إمام مالك لأبي جعفر المنصور " أن أصحاب رسول الله صلى الله وسلم قد تفرق في المصار ...." والقصة معروفة يتبع
العلم نورن | طارق يقول...
التورية هي الحديث عن شيء يقصد به شيئاً آخر ، وهي غير " الكناية "
كقول الشاعر : أنت كـ " الكلب في حفاظك للود .... وكالتيس في قراع الخطوب .... كناية عن الشجاعة والإخلاص الذي يتصف بهما الموصوف ......
أما أسلوب " التورية " فيعتمد على تقدير المخاطب وتأخذ دلالتها من السياق الروائي لها
ففهمنا لقول ( غير عتبة بيتك ) على أنه " طلق زوجتك " إنما جاء من خلال سياق القصة ، وليس من مصدر آخر وما كان للمتلقي أن يفهم المقصود لو لم يرد في القصة .
من أجل ذلك ناقشتك على ما أوردته من جملة " لا تسق ماءك زرع غيرك " مع أنني أعلم ما هو قصدك من خلال هذه الجملة والفضل في نشر المقصود بذلك يعود للسادة العلماء الذين أشرت إليهم ... ما شاء الله ..
ولكن إن كانت سقاية الماء لزرع الغير هي ممنوعة ، فماذا عن مد " انبوبك " إلى زرع الغير من غير أن تسقيه هل هو جائز ؟؟؟؟؟
ولماذا يستعمل " السادة العلماء " هذا الأسلوب المبطن بدلاً عن الأسلوب المباشر المبين وهو ما أرسل الله به رسولنا لنا من قول ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ) ، أليس ذلك خير .......
مع السلامة
أيضاً وهل كل علم ,, علم ؟؟ | طارق يقول...
تحدث الأخوة عن عدة المتوفى عنها زوجها وبينوا اختلاف العلماء حول ذلك ...
ولكن السؤال الذي ينسدح تلقائياً نتيجة ذلك هو : وهل للمتوفى عنها زوجها عدة تعتدها ؟؟
إن للمتوفى عنها زوجها تربص وليس عدة كما يبين القرآن ......
لأن العدة وجدت لمن يطلقها زوجها فقط لعل الله سبحانه وتعالى ( يحدث بعد ذلك أمرأ ) وقد يرجع الرجل امرأته إلى عصمته قبل انتهاء أجل العدة سواء كانت المرأة حاملاً أم غير ذلك
أما المطلقات اللائي يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فهن النساء التي نوت الطلاق من زوجها وعليها أن لا تكتم حملها إن كانت حامل
لذلك فإن إنتهاء عدة المتوفى عنها زوجها هي منذ الوفاة لأنه من المستحيل أن يعود المتوفى إلى الحياة سواء خلال 3شهو أو أربعة أشهر وعشراً ، أليس كذلك ......
بين (خباب) و (طارق) | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
قال مرّةً الأستاذ جاك بيرك في إحدى حلقات برنامج(لقاء مع مستشرق) من راديو مونتي كارلو عام 1995:"إنّ الفرق بين دعاة الأصيل ودعاة المصير في العالم الإسلامي قد اتسع بحيث أنهم لم يعودو يفهمون بعضهم".[الرواية بالمعنى أو بتصرف كما يقولون].
وليس ما يشير إليه جاك بيرك في المجال السياسي بل في العلمي والثقافي والفكري أيضا. وفي جزء منه يدخل ما بين الأخ خباب والأخ طارق.
وسأرجئ حديث التقويم(التقييم) [الكلام قيميا وأخلاقيا]عن الرجلين إلى ما بعد، لكني سأتحدث عن السبب لأنه أنفع للمتلقي أو لحدسي عن شخصية المتلقي المتخَيَّلة.(/13)
ما يُسمى بـ"العلماء" أو "أهل العلم" أو "أصحاب العلم الشرعي" أو "العلماء الربانيين" أو "..." ممن ينقسمون في أنفسهم إلى أقسام كثيرة ، لأنهم يمثلون طبقة أو حقلا علميا أو بنية فكرية متكاملة، وهم -شأن غيرهم- على طبقات في أنفسهم ، يتربع عشرة أو بحدود العشرة على قمة الطبقة ويتدرج تحتهم طبقات. والذي يصعد برجل إلى قمة الطبقة شيئان أحدهما إتقانه وحفظه وكلامه في موضوعات معينة بطريقة معينة هي طريقة ما يسمى بـ:"أهل العلم"، في أوساط معينة. لأنه منذ القرن الثالث الهجري وهو القرن الذي قال عنه الأستاذ فؤاد سزكين"فيه انفصل الشيعة -يقصد الإمامية- نهائيًا عن الأمة"، وفيه أيضا كما قال الدكتور الجابري"حصل الانقلاب السني على المعتزلة"، أقول منذ ذلك القرن أصبح مفهوم العلماء ينطبق على أولئك الذين يخاطبون الأمة كلها دون تمييز بين طبقات التلقي لأنهم فيما يزعمون يُبَلِّغون الدين ويوقعون عن ربّ العالمين، وقد وضعوا أنفسهم داخل سياج محكم وبروج مشيدة وخطوط حمراء بحيث يطردون من حظيرة "العلم" كل من لم يتقيد بمصطلحاتهم أو من استعار مفردة من خارج قاموسهم.والنقد مسموح لمن تقيد بمصطلحاتهم وبطريقتهم المتوارثة في تمجيد مفاهيم انتقلت الى حقل التقديس بذاتها. بل إن النقد اللاذع للذين يبتعدون عن هذه المفردات هو السبيل الوحيد للسيادة داخل هذه البنية، وهو الدافع اللاشعوريّ لمن تتلمذ على هؤلاء"العلماء" لكي يسود داخل حقلهم. وعليه أيضاً أن يذكر بالتبجيل من نال بينهم شبه إجماع على "إمامته".
واليوم سبحان الله يأتي على الأمة وضع تاريخي يكون من مصلحة الساسيين أن يرقوا ببعض هؤلاء إلى طبقة الإمامة ويوفروا لهم وسائل إعلام لمخاطبة الجمهور. وقد كان من حظ الأخ خباب أن يكون واحدا ممن وضعه القدر فيمن شكل له هؤلاء نموذج تفكيره فهو يدور في حلقتهم ويحفظ مصطلحاتهم ويستخدم قاموسهم ، ويُتْقِن تراتبهم وتسلسلهم فيعرف من هو الشيخ الذي يذكره بتبجيل ويضع قبل اسمه كلمات "ضرورية" من قبيل"علامة" "الشيخ" سماحة" "فضيلة".الخ وهذه الهرمية قد جاءت الى هذه البنية الثقافية من تأثير بنية أخرى مجاورة منافسة لها على التاريخ، تلك التي أشار إليها الأستاذ سزكين ، وقد رويت كلامه قبل قليل.
أما الأخ طارق فقد قُدِّر له أن يتشكل عقله متأثرا بِنُتَفٍ من حضارة عقلانية محكمة لم يسمح له الفقر أن يتتلمذ على أساتذتها في جامعاتها المحترمة، ولكن القليل من الوعي الذي لديه يجعله يحس من أعماقه بضعف في طروحات تلك البنية من"أهل العلم". ولكنه لا يملك الأدوات التي تجعله يقنع قارئه برؤاه فيحاول أن يختصر الطريق بأن يقيء الصورة الضبابية للفئة المرفوضة ، فينتدب الأخ عبدالرحمن للرد عليه.[لأسباب أخلاق-علمية أكثر منها علمية]
لم يقل له إلا حاول أن تمتلك الأدوات.
لا شك أنّ للأخ عبدالرحمن بحكم كونه في بقعة من الأرض قريبة من عالم العقل إحساس بمشروعية رد طارق، وإن كان تعليمه لم يحرره من سطوة بنية"أهل العلم" التي انتدب خباب نفسه للدفاع عنها.
ومن أحسن ما نقل لنا خباب من نصوص رائعة، ربما كانت هي السبب وراء دسي لأنفي في هذا الصراع المعرفي النص الذي نقله ابن تيمية عن بعضهم وهو مما تجده في كتب الأدب:" أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ، ونصف متفقه ، ونصف متطبب ، ونصف نحوي ، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأبدان ، وهذا يفسد اللسان) [مجموع الفتاوى5/118].
" وهو نص يتفق معه المثل الإنكليزي(المعرفة القليلة شرّ كبير) وقول للأخفش الأكبر عبدالحميد بن عبدالمجيد:"أنحى الناسِ من لم يُلَحِّنْ أحداً"وهذا يختصر لنا الكثير من الحبر المراق
فلنحاول ما دمنا قد صرنا النصف أن نكمل النصف وأن نأخذ عن أهل العلم قيمهم وتفانيهم ولا نكون كأهل العلم المعاصرين فإن العالم إنما يفسده الناس من حوله ولا جرم.
أما الأخ طارق فعليه مثلما على الجميع أن لا تأخذه العزة بالإثم فيبدأ بإتقان الأساسيات ، ولا اعتراض على تنمية قدرات العقل. فهو يمتلك اقتناعا جميلا بوحدة قوانين الفكر.
أصلح الله الجميع ونصر بنا دينه القويم، وعصمنا من الشيطان الرجيم، وأنقذنا من شر أهل الأهواء ومن غرور"أهل العلم"
والسلام
تعلم أولا فبل أن تجادل يا طارق | محمد زاهر يقول...
واضح أنك لا تدري الفرق بين التورية والاستعارة ومعلوماتك في اللغة العربية أضعف من أن تسمح لك بكتابة موضوع إنشاء أرجو أن تتغلم أولا قبل أن تجادل أو بالأحري "تقاوح"
القصور في العلواد الغرب ليستفيد عقلا قبل أن يبدأ يتعلم.م العقلية لا العلوم الشرعية | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...(/14)
كلمة لا يهتمّ لها الناس كثيراً، زيادةَ تعقيد، وبيانا واضحاً على وجود الخلل. تلكم هي أنّ الناس اليوم يظنون أن الخلل أو القصور إنما يكون في العلوم الشرعية ، والحقّ أنّ القصور الذي نُكب به المسلمون هو في العلوم العقلية. وأكثر الناس إصابةً به هم أرباب العلوم الشرعية، فأنت تجد من ينتقد العقل والعقلانيين ويخترع معركة مفتعلة بين العقل والنقل.
أيها المتعالمون يا من تكتبون في التعالم وتفوح مقالاتكم بالتكبر الأجوف والغرور الأعمى، إني ليأخذني العجب أنكم حتى لا تقرأون"موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" أو العكس ؟
إنّ ابن تيمية الذي انتقد منطق أرسطو وقال عنه انه لا ينتفع به البليد ولا يحتاج إليه الذكي لم يكن ينتقد العقل،بل انتقد نقداً عقليا آليات الوصول الى احكام عقلية وفق منطق معين. العالم اليوم أقلع عن كثير من إجراءات المنطق القديم وطور مناطق بدل المنطق. ثم إلى متى تتركون العقل لأعداء الإسلام وتجهلون حتى مبادئه وأساسياته؟
إلى متى تحاربون وتنطحون بقرون من خشب القفزات الكبرى التي صنعها الإنسان من العقل؟
متى تدركون وحدة قوانين الفكر البشري وأن لا يوجد عقل مسلم وعقل كافر؟
متى تدركون أنّ التاريخ الإسلامي وعلومه يخضع لمبادئ المنهج التاريخي وعلوم إثبات الحقائق التاريخية؟متى تدركون أن المناهج التاريخية التي تستخدمها المدرسة الفيلولوجية الألمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر أقرب الى منهج علماء الحديث الأوائل من كل شيوخكم المعاصرين ودكاترتكم المرائين المتزعمين للعوام؟
متى تدركون أن علماءكم الذين تقلدون وتقدسون أقل شأناً من علماء الإسلام في القرنين الثاني والثالث ومن كبار المستشرقين المعاصرين؟
متى تدركون أن منهج المدرسة الاستشراقية الفيلولوجية الألمانية قد استفاد منه امثال عبدالسلام هرون رحمه الله الذي فعل ما لم يفعله جميع علمائكم؟
متى تتوبون الى الله وتستغفرونه وتكفون عن التعالم الذي تظنونه فقط في استعمال مصطلحاتكم؟
لو كان لي عندكم رأي لجعلت كل من تصدر لدراسة العلم الشرعي يسافر عامين على الأقل الى بلاد الغرب ليستفيد عقلا قبل أن يتعلم كيف يخادع الناس بجمل جاهزة التقطها من كتب العلماء القدماء.
كيف يأتي شاب من بداوته ويستمع شريطا او يدرس في كلية شرقية مدرسوها مصريون او شاميون جاءوا الى النفط كي يعيشوا فيظن أنه قد اكتسب علما وأصبح أهلا للنقد والتوجيه؟
متى تدركون أن رسائلكم التي تكتبونها في جامعات الخليج ليست من العلم في شيء بل هي سرقاط وحطب بالليل؟
متى تدركون أن 90% من الدكاترة المصريين كذابون وأنا أدين الله تعالى بأن لا أنسحب من كلامي هذا ؟
متى تدركون أن الزيف نحتاج أن ننقي منه أنفسنا قبل أن ننقي منه مجتمعنا؟
متى تدركون أن التعليم في بلدانكم في الخليج لا ينهض الا بعد أن يتعلم مسؤولوه في اليابان او دولة اخرى متقدمة؟
متى تدركون
قبل أن ينقل اليكم الزائفون من مصر والشام زيف بلدانهم اليكم ان لم يكونوا قد فعلوا؟
متى تتوبون الى الله وتصبحوا اذكى وأشجع مما أنتم عليه فقد بلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع؟
شكرا لسعة صدر المشرفين على الموقع اذا لم يقتطعوا هذه الكلمات او بعضها.
وشكرا لسعة صدر من لم يغضب.
إن تجد حسناً فخذه واطَّرِح ما ليس حسنا
القصور في العلوم العقلية لا العلوم الشرعية | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
كلمة لا يهتمّ لها الناس كثيراً، زيادةَ تعقيد، وبيانا واضحاً على وجود الخلل. تلكم هي أنّ الناس اليوم يظنون أن الخلل أو القصور إنما يكون في العلوم الشرعية ، والحقّ أنّ القصور الذي نُكب به المسلمون هو في العلوم العقلية. وأكثر الناس إصابةً به هم أرباب العلوم الشرعية، فأنت تجد من ينتقد العقل والعقلانيين ويخترع معركة مفتعلة بين العقل والنقل.
أيها المتعالمون يا من تكتبون في التعالم وتفوح مقالاتكم بالتكبر الأجوف والغرور الأعمى، إني ليأخذني العجب أنكم حتى لا تقرأون"موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" أو العكس ؟
إنّ ابن تيمية الذي انتقد منطق أرسطو وقال عنه انه لا ينتفع به البليد ولا يحتاج إليه الذكي لم يكن ينتقد العقل،بل انتقد نقداً عقليا آليات الوصول الى احكام عقلية وفق منطق معين. العالم اليوم أقلع عن كثير من إجراءات المنطق القديم وطور مناطق بدل المنطق. ثم إلى متى تتركون العقل لأعداء الإسلام وتجهلون حتى مبادئه وأساسياته؟
إلى متى تحاربون وتنطحون بقرون من خشب القفزات الكبرى التي صنعها الإنسان من العقل؟
متى تدركون وحدة قوانين الفكر البشري وأن لا يوجد عقل مسلم وعقل كافر؟(/15)
متى تدركون أنّ التاريخ الإسلامي وعلومه يخضع لمبادئ المنهج التاريخي وعلوم إثبات الحقائق التاريخية؟متى تدركون أن المناهج التاريخية التي تستخدمها المدرسة الفيلولوجية الألمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر أقرب الى منهج علماء الحديث الأوائل من كل شيوخكم المعاصرين ودكاترتكم المرائين المتزعمين للعوام؟
متى تدركون أن علماءكم الذين تقلدون وتقدسون أقل شأناً من علماء الإسلام في القرنين الثاني والثالث ومن كبار المستشرقين المعاصرين؟
متى تدركون أن منهج المدرسة الاستشراقية الفيلولوجية الألمانية قد استفاد منه امثال عبدالسلام هرون رحمه الله الذي فعل ما لم يفعله جميع علمائكم؟
متى تتوبون الى الله وتستغفرونه وتكفون عن التعالم الذي تظنونه فقط في استعمال مصطلحاتكم؟
لو كان لي عندكم رأي لجعلت كل من تصدر لدراسة العلم الشرعي يسافر عامين على الأقل الى بلاد الغرب ليستفيد عقلا قبل أن يتعلم كيف يخادع الناس بجمل جاهزة التقطها من كتب العلماء القدماء.
كيف يأتي شاب من بداوته ويستمع شريطا او يدرس في كلية شرقية مدرسوها مصريون او شاميون جاءوا الى النفط كي يعيشوا فيظن أنه قد اكتسب علما وأصبح أهلا للنقد والتوجيه؟
متى تدركون أن رسائلكم التي تكتبونها في جامعات الخليج ليست من العلم في شيء بل هي سرقاط وحطب بالليل؟
متى تدركون أن 90% من الدكاترة المصريين كذابون وأنا أدين الله تعالى بأن لا أنسحب من كلامي هذا ؟
متى تدركون أن الزيف نحتاج أن ننقي منه أنفسنا قبل أن ننقي منه مجتمعنا؟
متى تدركون أن التعليم في بلدانكم في الخليج لا ينهض الا بعد أن يتعلم مسؤولوه في اليابان او دولة اخرى متقدمة؟
متى تدركون
قبل أن ينقل اليكم الزائفون من مصر والشام زيف بلدانهم اليكم ان لم يكونوا قد فعلوا؟
متى تتوبون الى الله وتصبحوا اذكى وأشجع مما أنتم عليه فقد بلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع؟
شكرا لسعة صدر المشرفين على الموقع اذا لم يقتطعوا هذه الكلمات او بعضها.
وشكرا لسعة صدر من لم يغضب.
إن تجد حسناً فخذه واطَّرِح ما ليس حسنا
القصور في العلوم العقلية لا العلوم الشرعية | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
كلمة لا يهتمّ لها الناس كثيراً، زيادةَ تعقيد، وبيانا واضحاً على وجود الخلل. تلكم هي أنّ الناس اليوم يظنون أن الخلل أو القصور إنما يكون في العلوم الشرعية ، والحقّ أنّ القصور الذي نُكب به المسلمون هو في العلوم العقلية. وأكثر الناس إصابةً به هم أرباب العلوم الشرعية، فأنت تجد من ينتقد العقل والعقلانيين ويخترع معركة مفتعلة بين العقل والنقل.
أيها المتعالمون يا من تكتبون في التعالم وتفوح مقالاتكم بالتكبر الأجوف والغرور الأعمى، إني ليأخذني العجب أنكم حتى لا تقرأون"موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول" أو العكس ؟
إنّ ابن تيمية الذي انتقد منطق أرسطو وقال عنه انه لا ينتفع به البليد ولا يحتاج إليه الذكي لم يكن ينتقد العقل،بل انتقد نقداً عقليا آليات الوصول الى احكام عقلية وفق منطق معين. العالم اليوم أقلع عن كثير من إجراءات المنطق القديم وطور مناطق بدل المنطق. ثم إلى متى تتركون العقل لأعداء الإسلام وتجهلون حتى مبادئه وأساسياته؟
إلى متى تحاربون وتنطحون بقرون من خشب القفزات الكبرى التي صنعها الإنسان من العقل؟
متى تدركون وحدة قوانين الفكر البشري وأن لا يوجد عقل مسلم وعقل كافر؟
متى تدركون أنّ التاريخ الإسلامي وعلومه يخضع لمبادئ المنهج التاريخي وعلوم إثبات الحقائق التاريخية؟متى تدركون أن المناهج التاريخية التي تستخدمها المدرسة الفيلولوجية الألمانية منذ نهاية القرن التاسع عشر أقرب الى منهج علماء الحديث الأوائل من كل شيوخكم المعاصرين ودكاترتكم المرائين المتزعمين للعوام؟
متى تدركون أن علماءكم الذين تقلدون وتقدسون أقل شأناً من علماء الإسلام في القرنين الثاني والثالث ومن كبار المستشرقين المعاصرين؟
متى تدركون أن منهج المدرسة الاستشراقية الفيلولوجية الألمانية قد استفاد منه امثال عبدالسلام هرون رحمه الله الذي فعل ما لم يفعله جميع علمائكم؟
متى تتوبون الى الله وتستغفرونه وتكفون عن التعالم الذي تظنونه فقط في استعمال مصطلحاتكم؟
لو كان لي عندكم رأي لجعلت كل من تصدر لدراسة العلم الشرعي يسافر عامين على الأقل الى بلاد الغرب ليستفيد عقلا قبل أن يتعلم كيف يخادع الناس بجمل جاهزة التقطها من كتب العلماء القدماء.
كيف يأتي شاب من بداوته ويستمع شريطا او يدرس في كلية شرقية مدرسوها مصريون او شاميون جاءوا الى النفط كي يعيشوا فيظن أنه قد اكتسب علما وأصبح أهلا للنقد والتوجيه؟
متى تدركون أن رسائلكم التي تكتبونها في جامعات الخليج ليست من العلم في شيء بل هي سرقاط وحطب بالليل؟
متى تدركون أن 90% من الدكاترة المصريين كذابون وأنا أدين الله تعالى بأن لا أنسحب من كلامي هذا ؟
متى تدركون أن الزيف نحتاج أن ننقي منه أنفسنا قبل أن ننقي منه مجتمعنا؟(/16)
متى تدركون أن التعليم في بلدانكم في الخليج لا ينهض الا بعد أن يتعلم مسؤولوه في اليابان او دولة اخرى متقدمة؟
متى تدركون
قبل أن ينقل اليكم الزائفون من مصر والشام زيف بلدانهم اليكم ان لم يكونوا قد فعلوا؟
متى تتوبون الى الله وتصبحوا اذكى وأشجع مما أنتم عليه فقد بلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع؟
شكرا لسعة صدر المشرفين على الموقع اذا لم يقتطعوا هذه الكلمات او بعضها.
وشكرا لسعة صدر من لم يغضب.
إن تجد حسناً فخذه واطَّرِح ما ليس حسنا
الأخ المشرف على الموقع | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
السلام عليكم
لي لديك طلبان أحدهما أمنية والآخر رجاء
الأمنية أن تضعوا خدمة أن يرى الكاتب مقاله الذي كتبه قبل أن يبعثه إليكم، بحيث يتمكن من تصحيح الخطأ وهي خدمة موجودة في كثير من المنتديات.
الثاني وهو الرجاءأن مقال(القصور في العلوم العقلية لا الشرعية) قد تكرر عرضه ثلاث مرات نتيجة خطأ كنت أصححه، لذلك أرجو حذف اثنين وابقاء الثالث فقط. مع جزيل الشكر والتقدير
أني أحبك فى الله أستاذي العزيز | عبد الرحمن يقول...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآل وأصحابه الغر الميامين وبعد:
يقول سبحانه :" ولا تقف ماليس لك به علم"
مما يؤسف له أن تجد كل هذا التحامل على العلماءالأفاضل، لا أدري لماذا؟؟؟؟
من من العلماء قال عليكم ان لا تستعمل العقل؟؟؟
ليس أبو حنيفة النعمان رضى الله عنه وهو من بلدك يادكتور دار السلام أحل الله عليه السلام والأمن والأمان مؤسس مدرسة الراي؟؟؟؟
هل تحب يا دكتور عبد الرحمن الزبيدي أن يأتى إنسان ليس له علم بمجالك الذي درست فيه ومتلكت أدوات هذا العلم ويناقشك في فنك
بل ويتطاول عليك فيما تعرف
أستاذي أريد إجابة واضحة؟؟؟؟
لماذا هذه الإشكالية تطرح اليوم، لماذا لا يحترم كل صاحب إختصاص إختصاصه؟؟ظ
أهل العلم الشرعي في مكانهم
المربون في جامعاتهم
الإسكافي في محله ودكانه لماذا؟؟؟؟
لماذا كل العلوم تحترم ويرجع إلى أصحاب الإختصاص فيها.
أم إذا تعلق الأمر بالدين والفتوى فكل الناس يصبحون بقدرة قادر علماء لا يشق لهم غبار.
لقد شرب الشعب الجزائري كؤوس المرارت من أمثال هؤلاء تجده لبس له أي مؤهل علمي ، بل لفظته المدرسة الإبتدائية ثم يأتي وقد قراء كتيب أو سمع فتوى من عالم ولم يفهمها لعدم معرفته باللغة القوم ،فلكل أهل فن إصطلحاتهم، فيحرفها أو يحملها على غير ما أراد، فيضل الكثير من الناس وهو لا يدري
يتبع....
أخي د.عبد الرحمن الزبيدي أحبك في الله.
من أهل العلم الشرعي..أخي الكريم؟ | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
القرآن الكريم بقراءاته الثابتة أو المتنافسة الثبوت الموجودة في كتاب (الكامل في القراءات الخمسين) للهذلي والذي وصل الينا بحمد الله تعالى لكنه لم يُطبع بعد، وصفوتها تاريخيا هي مضمون كتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري رحمه الله. هو (القرآن)النص الذي أكمل الله لنا فيه الدين ورضيه لنا فيه. وقد رويت في ضوئه نصوص وأحاديث ودونت مقولات من أقوال النبي وأقوال أخرى تصف أفعاله، وأخرى تصف لنا ما ارتضاه أو سكت عنه. وهذه الأخيرة كلها قرائن تضيف دلالات لا شك فيها الى فهم مراد الشارع.
ولكن قد بليت أمة الإسلام كما تعلم ويعلم الجميع بالحرب الأهلية الأولى والثانية والثالثة وكلها كانت في القرن الأول. وشهد القرن الثاني ثورات أقل أهمية باستثناء ثورة آل البيت بقيادة بني العباس الذين انتقموا لبني هاشم من بني أمية ، وهذه الحروب الأهلية أو الفتن قد جعلت الناس ومنهم العلماء في حيرة واضطراب ازاء الكثير من القضايا. ليس هذا موضوعنا. موضوعنا أخي الكريم النصوص التي دونها علماء الآثار وسميت سننا أو أحاديث.(/17)
تعرف أن تيارات كثيرة قد نشأت بعد الحروب الأهلية الأولى كان على رأسها التيارات التي رفضت شرعية الثورة العباسية وهم الشيعة الإمامية الذين تشكل مذهبهم وورث تراث تيارات الإمامة والتشيع جميعها.هذا التيار هو الذي قاد فكر الأمة فيما بعد لأنه استطاع أن يستفزّ العلماء ليتخندقوا ضده فنشأ المذهب السنيّ الذي قام على فرضيات ما أنزل الله بها من سلطان مثل أن الصحابي هو من رأى النبي عليه السلام وأسلم ومات على الإسلام ،وأخذ أتباعه يفهمون حتى أقوال النبي والآيات في ضوء تعاريف علمائهم. فقد روى مسلم في صحيحه:"كان بين خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف شيء فقال رسول الله لخالد:"لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" فالحديث واضح في من يعنيهم النبي بقوله أصحابي،إنهم 1500 رجل وهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا تحت الشجرة. لكنّ أهل السنة لم يأخذوا بمفهوم النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي بل أخذوا بتعريف علماء الحديث في القرن الثالث.وإذا حاججتهم بهذا الحديث الذي هو في أحد مدوناتهم التي يدافعون عن موثوقيتها قالوا لك قال ابو زُرَعة[بوزن همزة] الرازي:إذا رأيت الرجل ينتقد أصحاب رسول الله فاعلم أنه فاسق.". ونحن بهذا نقول ولكن من هم أصحاب رسول الله. أصحابه المهاجرون والأنصار الذين منع خالد بن الوليد أن يسبهم وسماهم أصحابه. وليس أصحابه من رآه ولو ساعة فهذا التعريف هو مقتل المذهب السني الذي استولى على تراث الأمة وأوهم العوام أنه مذهب الحسن وأبي حنيفة والليث ومالك وسعيد وسفيان ؟هيهات. .أخي الكريم : في هدي الساري مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري يقول ابن حجر العسقلاني(من كبار علماء السنة)،:[سأروي قول ابن حجر بعد قليل] فقد قادهم الإسقاط على التاريخ وهو من عيوب الفكر البشري إلى أن يطلقوا فرضية(الصحابة كلهم عدول)، ونحن بهذا نقول ولكن الصحابة بمفهوم النبي عليه الصلاة والسلام حين قال لخالد بن الوليد:"لا تسبوا أصحابي"، وليس بمفهوم علماء الحديث.قال ابن حجر ص694:مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان يقال له رؤية فإن ثبتت فلا يُعرَّج على من تكلم فيه،[من أين جاءابن حجر ومعه أهل السنة بهذا؟آلله أم رسوله قال من رأى محمدا فقد جلّ عن النقد أو القدح؟]،وقال عروة بن الزبير:كان مروان لا يتهم في الحديث[هذا نقد معقول فعروة يحكم على الرجل كما نحكم أنا وأنت على من نعرف من الناس]،وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتماداً على صدقه[ما يزال الكلام لابن حجر العسقلاني]وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى.فأما قتل طلحة فقد كان متأولاً فيه...وقد اعتمد مالك حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم"اهـ كلام ابن حجر.
ليس عن عدالة الرجل وصدقه أتكلم ،ولكن عن ثوابت المذهب السني الذي أضاف الى الدين ما ليس منه الكثير وعدها من العلم ومن تجرأ على مناقشتها فهو فاسق ويكال له بألف كيل.
قال مجتهد القرن الثاني عشر الشيخ صالح بن مهدي المقبلي في كتابه العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ:"وأما الإمامية فهم أبين الناس ضلالاً" وهو محق فليس عندهم عقل ولا نقل ولكنهم مع ذلك استطاعوا اضلال كثير من الناس الشرفاء والعرب الأصلاء اعتمادا على ضلالات وحماقات أهل السنة ولا سيما تعريفهم للصحابي الذي ما أنزل الله به من سلطان بحيث قام ابن حجر فجمع أكثر الأعراب وجواب الآفاق والطلقاء والذين أسلموا غصبا عنهم وجعلهم ضمن مسمى صحابة وتلك لعمري طامة كبرى وخطأ تاريخي جرعنا الغصص.
سيظل المسلمون مختلفين حتى يقوم تعليم عقلاني تارخي مؤسس على ثقافة العين (لا الأذن) ونقد النص، اما طريقة المتمذهبين من اصحابنا اهل السنة فلا تصلح للعصر ابدا.
لهذا كله أخي الكريم ابتعد السياسيون والمثقفون عن أهل السنة لأنهم بعيدون جدا عن الواقع.فقد تركوا لهم حواراتهم وعلومهم وأخذوا يدبرون شؤون الأمة بعيدا عنهم، واستعملوهم فقط موظفي أوقاف. فأكبر علمائهم إن هو إلا موظف أوقاف يمكن فصله وإحالته على التقاعد متى شاءت وزارته.
أخي الكريم روى ابن عبدالبر النمري في جامع بيان العلم وفضله أن عمر بن الخطاب همّ بجمع السنن فاستخار الله شهراً، ثم قال إني هممت بجمع السنن لكني رأيت من كان قبلكم[يعني أهل الكتاب]كتبوا كتباً فعكفوا عليها وتركوا كتاب الله، والله لا كتاب مع كتاب الله أبدا،لا كتاب مع كتاب الله أبدا.
فقد صدقت نبوءته ولا جرم. وكيف لا وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كان فيمن كان قبلكم أناس ينبأون فإن يكن في أمتي أحد فعمر.
لقد جعل علماء الحديث من مروياتهم دينا يدينون الله به وشرعوا خصوصا في هذا القرن يوهمون الناس أن للأحاديث حجية القرآن أو تدانيها. وشرعوا يردون حتى على الفقهاء المتقدمين بأحاديث دونت بعدهم.(/18)
أخي الكريم قد أطلت عليك مرغما فالموضوع يضطرني الى كلام كثير.
أنا لا أشكك في الجهود العظيمة لعلماء الحديث وحفاظه ولكن كما قال الشافعي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبران خبر كافة عن كافة لا يسع أحدا جهله كعدد فروض الصلاة والركعات وأنصباء الزكاة...وخبر واحد عن واحد يعرفه أهل العلم.
ولكن أخي الكريم المعاصرون ممن تسميهم العلماء ممن يدافعون عن السنن وحجيتها يأتون بأمثلة الشافعي للحديث المتواتر ليدافعوا بها عن الحديث الآحاد.!!! رأيتهم بأم عيني
أخي الكريم : لا يوجد الا من رحم ربك من المسلمين بسبب الإعلام الذي يقوده متأخرو الحنابلة ممن يسمون أنفسهم بالسلفيين ،لا يوجد مسلم إلا ويظن أن كل ما في البخاري فهو قد قاله النبي فعلاً.
ونحن نجل صحيح البخاري وصحيح مسلم وجميع مدونات الحديث ولكن لا ينبغي أن يظن أنها كالقرآن أو تالية له أبدا، فبعد صحة الحديث تواجه الفقيه مقولة ابن شهاب الزهري وهو من هو:"أعيا علماء الإسلام معرفة ناسخ حديث رسول الله من منسوخه"، أتدري لماذا؟ أخبرك فيما بعد.
السنن والأحاديث أخي الكريم جزء من علم التاريخ، والقرآن وهو القرآن قد حفظه الله تعالى لنا ، وكان الخط العربي أعجز من أن ينقله،حتى مصاحف عثمان كانت مساعدة للحفظ فقط.وترابط السياق القرآني مقدم في المعنى على كل فهم جزئي او نص ثانوي يروى في ضوئه وليس هذا موضوعنا ولكن:
اذا أردت أن يكون فيك خير للإسلام ولأمتك فسافر إلى المانياأو امريكا وادرس علم التاريخ ومفهوم الوثائق.نعم اخي:اغتنم عمرك قبل أن يضيعوه عليك كما ضيعوا القدس.
ثم عد لتقييم جهود علماء الحديث في ضوء مكتبات المخطوطات.
وأنا لك ناصح أمين.
لا نتحامل على أحد ولكن الأمة تعيش مرحلة جهل يقوده أرباب العلوم الشرعية الذين تسميهم العلماء. نحن لا نكرههم فهم كغيرهم من أبناء الأمة ولكن ليسوا من العلم في شيء.
العلم هو العلم لا غير.
أخي الكريم رووا عن ابن مسعود رضي الله عنه :إياكم والتبدع والتنطع وعليكم بالعتيق. فما لهم أكثروا من البدع؟
أخي الكريم مثلَك نشأت في وسط سني ولكني اكتشفت أن مذهبنا السني قد حدث في التاريخ وليس هو مذهب السلف كما كنت أظن.
السلف لا دخل لهم بخلق القرآن وحتى أحمد بن حنبل لم يقل غير مخلوق وأنا أدين الله بذلك: روي عن الكرابيسي في أحمد قال:عجبا له قلنا مخلوق قال بدعة قلنا غير مخلوق قال بدعة.كيف يتورع رجل أن يقول في المضمضة قولا ويقول في القرآن؟ هيهات كان أورع من أن يخوض. والحيدة مزور.
وليس من الدين في شيء توحيد الأسماء والصفات بل هي جزء من علم التفسير واللغة والمحكم والمتشابه، وكل قول فيها فهو اجتهاد في تفسير المتشابه.
هذه كلها من بدع أهل السنة. أهل السنة احتكروا مذهب الأمة والسلف لهم ،وجاء المعذرون من الحنابلة المتأخرين ليحتكروا مسمى اهل السنة لهم
وبدعهم كثيرة جدا
كلّ يوم تطلع فيه شمسي أكتشف من بدعهم ما أستغرب.
ولكنهم يبقون أقرب الناس الى مذهب الأمة لأن ضلالهم معرفي وليس انحرافات عقدية كبرى
والذين يوضِعُون فيهم هم من تسميهم أهل العلم لأنهم لا علم عندهم
وكيف يكونون أهل علم وبضاعتهم من علوم العقل مزجاة؟
وقد سمعت بتهم جديدة يطلقونها على من لم يتخذ موقفهم نفسه من أحاديث الآحاد بأنه قرآني. وهي تهمة لم نسمع بها من قبل.
فهلا وصمتم منكري السنن بغير النسبة الى القرآن؟ فمنكرو السنن ليسوا بشيء لأنَّ :
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
أخي الكريم وتقول لي أبو حنيفة امام مدرسة الرأي.أخي ابو حنيفة شيء والأحناف شيء آخر
الأحناف يسيرون على طريقة الشافعي ويمجدون ابا حنيفة!!؟!
العلم الحديث أخي الكريم ينتصر لمذهبي مالك وأبي حنيفة على سواهما
لأنهما أصل علم أهل السنة.
ولأنهما امتازا بشيئين لا يمكن تجاهلهما:ميزة مالك اخذ القرائن غير المدونة بالحسبان في فهم النص وردّ النصوص الشاذة عنها ،فعمل اهل المدينة يعني أن تأخذ في حسبانك سياقات السنن التي قالها النبي ، مما لم يروه العلم المدون لضعف امكانية التدوين.وهذا الأمر ينتصر له العلم الحديث فلا تستغرب أن يشهد المستقبل عودة الى مذهب اهل المدينة.
وميزة علم ابي حنيفة اخذه لمقاصد الشريعة بالحسبان عند فهم اي نصّ، وهذا ما فعله الشاطبي فيما بعد، وأصل تسمية كتابه كما قال في مقدمته (التعريف بحدود التكليف) لكنه سماه (الموافقات) بناء على رؤيا رئيت له انه يوفق بين منهج مالك وابي حنيفة.وليته أبقاه على التسمية الأولى.
فأهل العلم الذين أقسو عليهم ليسوا أولئك.
أنا تلميذ علماء الإسلام العظام علماء السلف الصالح الى القرن نهاية المئة الرابعة وليس القرن الرابع(/19)
لأن القرن ليس مئة سنة بل الطبقة من الناس(أهل عصر) كما فهم أحمد بن حنبل بحق حديث رسول الله خيركم قرني قال افضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله القرن الذين بعث فيهم. فقول النبي خيركم قرني يعني مثل الزبير ثم الذين يلونهم هم عروة بن الزبير وطبقته ثم الذين يلونهم هم هشام بن عروة وطبقته أي الى حدود150هجرية. وأما أن يفهم على انه مئة سنة ليدخل ابن حنبل في السلف فهذا إسقاط على التاريخ وتوهم في فهم معنى القرن في الحديث.
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.
أحبَّكـ الله الذي أحببتني فيه | د.عبدالرحمن الزبيدي-العراق-الموصل يقول...
أسأل الله تعالى أن يغفر لنا زلاتنا وأن يهدينا لما اختُلِف فيه من الحقّ بإذنه.
لاجرم أن قد اتسع الخرق على الراقع ، وكاد الباطل يلتبس بالحقّ
لكن يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
أتدري أن التفكير الأسطوري هو أن تمجد الكليات التجريدية ، وترفع مسميات إلى مستوى المطلق ثمّ تشرع تخضع جميع النصوص لمسمياتك.
هذا بالضبط ما حصل للعلم الشرعي مع الأسف منذ مات ابن حزم، فقد كان رحمه الله يمتاز على سواه بأمرين أساسيين: أولهما إدراكه لمبادئ العقل وثوابته وفهمه للمنطق الذي كان يسميه قواعد البرهان،على الرغم من أن المنطق كان قاصراً جداًّ ولم يكن عصر ما قبل غاليلو يسمح للإنسان بالاكتشاف العلمي لقصور المنطق. ذلكم أنه تأسس على طبيعيات ما قبل غاليلو وكانت أداة الإنسان للرصد والملاحظة حواسه الطبيعية. وثاني سمات ابن حزم وهبه لنفسه للمعرفة وتحطم ذاته أمامها فقد كان شجاعا جريئاً مخلصا مناضلا في سبيل الحقيقة. ومن ابن حزم يجب أن ننطلق لا من سواه.
وإذا شئنا أن نتكلم عن المجموع فنقول إن الخطأ الذي بثه علماء الشريعة في الأمة هو خطأ منهجي يقوم على اعتبار الدين مُشّكِّلًا للعقل، فهم يظنون أن العقل تشكله النصوص الدينية من قرآن وآثار.
والصواب الذي لا مجمجة فيه أن العقل تشكله الحواس(والآلة المكبرة للحواس)، فالذي شكّل عقل أبي بكر وعمر وعلي ليس القرآن ولا السنة بل هو العصر الجاهلي وواقع حياتهم الذي رصدوه بحواسهم. أما الدين فهو موجّه للعقل نحو الخير وليس مشكلا له.
ينبني على ذلك أن لا فرق بين عقل المسلم والكافر ،وأن العلوم العقلية مشتركة بين البشرية ، وأن مبادئ العقل البشري واحدة.
وينبني على ذلك أنّ ابن حزم حين قرب قواعد البرهان والمنطق بعامية أهل الأندلس كان عالماً فذّا لا يدرك قدره كثير من الناس.
ولولا مشيئة الله تعالى بأن جعل الغرب يصنع العدسة والآلات التي كبّرت الحواس(منافذ العقل) ثم اكتشاف علاقات جديدة كثيرة بين الأشياء ليس بمقدور الحواس المجردة اكتشافها، وقيام العلم الذي نتخاطب اليوم بثمرة من ثماره، لما أدركنا نحن قدر ابن حزم البتة ولصرنا ننشغل بمخاصمته كما فعل من بعده.
ما أردت أن أوصله إليك هو أن ابن حزم قد استفاد من مبادئ العقل التي اكتشفها الإنسان قبل عصره وكانت مجموعة في منطق ارسطوطاليس وهندسة اقليدس وطب جالينوس أما عصرنا اليوم فقد اضاف الى مبادئ العقل مبادئ كثيرة يدرسها علم(الأبيستيمولوجيا) ، وهي مبادئ لا تني تزداد. ولو اهتدينا برؤية ابن حزم الخالد لفعلنا نفس الشيء ولكن أين نحن من شجاعته وإخلاصه؟؟.
الحزميون المعاصرون لم يفهموه حق الفهم فظنوا أنه مجرد فقيه ظاهريّ، ولكن ابن حزم متميز حتى في ظاهريته.
نعم أخي الكريم العلم هو سعة اطلاع وقوة حجة وأخذ للحكمة من مظانها مهما كان مصدرُها. وتأسيس للمعرفة على مبادئ العقل الذي وهبنا إياه الله تعالى،، ومصدره الحواس وحدها.والدين مرشد وموجه له لفعل الخير أما العقل فحياديّ.
وإلى الإخوة القراء ممن يؤمنون بما ذكرت :الإصلاح يكون متدرجا وبطيئا ولكن شعلة التفاؤل والحب لله والمسلمين يجب أن لا تنطفئ في أعماقكم وقلوبكم أبدا.
يجب قراءة كتب القدماء بغزارة مستمرة ، ويجب على المتعلم على بصيرة أن يحاول أن يستخدم عبارات القدماء العقلية والتعبيرية ليس لقيمتها المعرفية بل لقيمتها الاعتبارية، فالأمة قد بُرْمِجت على إجلال عبارات ومفردات وتعابير بعينها لكي لا تصنعوا حواجز نفسية بينكم وبين "طلبة العلم"الشرعي.فقد لمستهم يتحسسون كثيرا من كلمات لا يفهمونها ويصمون مستخدميها بالتفرنج والتغرب والعقلانية(لأنها لديهم كلمة ملغومة)، والاعتزال،وغير ذلك.
الزمان تجاوزهم وإن كان أخي عبدالرحمن من الجزائر ما يزال يدافع عنهم وينافح ويناضل ظنّا منه أنهم في طبقة أبي حنيفة النعمان وعلماء السلف.
لا أتفق معك على الفصل بين العلوم الشرعية وبين العلوم العقلية، ولا يمكنني أن أتفق.
لا أستطيع أن أقتنع بغير صنيع ابن حزم وابن رشد الحفيد والشاطبي في الموافقات .(/20)
علماء الإسلام في القرن الثاني ليسوا هم أهل السنة بعد القرن الرابع. أهل السنة الذين ورثنا نحن علومهم ومذهبهم قد أضافوا إلى الدين ما ليس منه لأنهم قد اقتيدوا بردات فعل عنيفة ضد الروافض والمبتدعة. وقد بينت في غير هذا الموضع ما فعلوا.
وددت أن أتكلم في العلم دون أن أذكر مسميات كبيرة مثل(أهل سنة،أهل علم ،سلفية، ..) ولكن وجدت صعوبة أن لا أستخدم مثل هذه الكلمات وأنا أجزم بحصول انحراف عن جدد علماء القرن الثاني وعلماء الإسلام الذين أراهم على الحق مثل ابن حزم.
أخي الكريم قارن بين هذا النص الذي أورده حافظ المغرب أبو عمر ابن عبدالبر النمري في كتابه(التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)الذي قال عنه ابن حزم"كتاب التمهيد لصاحبنا ابن عبدالبر ما أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه": قال:"[وقارن أنت بين النص وبين الكتب التي سوّدها أهل السنة والمعتزلة كلاهما في خلق القرآن لتعرف أن الجميع ليس على مذهب السلف]"قال سليم بن منصور بن عمار، قال كتب بشر المريسي إلى أبي -رحمه الله- أخبِرني عن القرآن، أخالقٌ هو أم مخلوق؟ فكتب إليه أبي:بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياك من كلّ فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بدينه عن الجماعة، فإنه إن يفعلْ فأولى بها نعمة، وإلا يفعلْ فهي الهلكة، وليس لأحدٍ على الله بعد المرسلين حجة،ونحن نرى أنّ الكلام في القرآن بدعةٌ تشارك فيها السائل والمجيب، تعاطى السائل ما ليس له،وتكلَّف المجيب ما ليس عليه، ولا أعلم خالقاً إلا الله ، والقرآن كلام الله، فانته أنت والمختلفون فيه إلى ما سماه الله تعالى به،تكن من المهتدين،ولا تُسَمِّ القرآن باسمٍ من عندك فتكون من الهالكين،جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهم من الساعةِ مُشْفِقون"(التمهيد19:232). أما أهل السنة بعد انقلابهم على المعتزلة فقد قوّلوا أحمد بن حنبل ما لم يقل.[من وجد نصًّا ثابتاً لأحمد بن حنبل يقول فيه القرآن غير مخلوق فله مكافأة مجزية]،وقد رأيتهم يُقَوِّلون التاريخ مالم يقل ، فوجدت الأشعري في الإبانة عن أصول الديانة يروي بسند عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:"قرآنا عربيا غير ذي عوج" قال:"غير مخلوق"!!؟[أرأيت، من يصدق هذا؟].
أخي الكريم:أسألك بالله ألم تسمع القحطاني في نونيته يقول:
والوقف في القرآن خبثٌ باطلٌ وخداع كلِّ مضبضبٍ حيرانِ
ويقول:
من قال مخلوقٌ كلام إلهنا فقد اسْتحلَّ عبادة الأوثان
...فالعنه ثم اهجره كل زمانِ
إلى غير ذلك من مبالغاتهم وتهويلاتهم مما أضافوه الى دين محمد وإلى مذهب السلف الذي يمثله النص الذي أوردته لك خير تمثيل.
فهم لا يريدونك حتى أن تتوقف، وفي هدي الساري لابن حجر في رجال البخاري فلان:اتهم بالوقف في القرآن؟!!!
أخي الكريم: كثير من أهل العلم(أنت تسميهم أهل العلم) رأيتهم يُفّسِّقُون الناس والعلماء بناء على مثل هذه الأمور التي أضافها من احتكروا مسمّى أهل السنة إلى الإسلام الحنيف.
أخي الكريم:نقل ابن حجر في الجزء الثالث عشر(الأخير) من فتح الباري (طبعة الـ13) عن الشافعي قوله:إذا سلَّم القدريُّ العلم خصِم. وفسر ابن حجر قوله أي أنه إذا أقرَّ بعلم الله فقد وافق مذهب أهل السنة. انتبه أخي! وهذا تفسير الزمخسشري الكشاف أمامنا ، وهو يُقِرّ بالعلم من أوله الى آخره، راجعه عند أي آية تذكر العلم وره. ومع ذلك تجدهم يهجونه(اقرأ ماذا قال فيه أبو حيان مثلا، قصيدة قافية يفسق فيها علما لا يستغنى عن علمه).
أليس من حقي أن أغضب وقد أراهم يتصدرون المجالس ويريدون حمل المسلمين على فهمهم القاصر لدين الله؟!!؟
لا لا أتفق معك على أن يترك العلم الشرعي لطلبة كليات الشريعة وموظفي الأوقاف و"أهل العِلم". ولا أتفق معهم على مفهوم العلم.
العلم حقائق محققة ومنظمة تقولها وتلقيها أمام الناس ولا تخشى ردّا من أحد. العلم ليس إيماناً أعمى بوجهة نظر لعالم ولا حتى لفرقة.
أخي الكريم : أنا أومن بمذهب هو (مذهب الأمة) يشمل من احتكروا مسمى أهل السنة(من حنابلة وأشاعرة وماتريدية ..) ويشمل الشيعة الزيدية ويشمل الأباضية ويشمل المعتزلة . ولا يشمل الفرق الأخرى كالشيعة الإمامية والإسماعيلية والباطنية .فكلُّ مؤلف ينتمي إلى مذهب الأمة من الزيدية والأباضية[وقد رأيت بعض أغبياء علمائهم من يكفر سواهم وهذا لا ينطبق على عظمهم فبالإمكان عدهم من مذهب الأمة واحتواؤهم فيه] والمعتزلة وأهل السنة فأنا أناقشه وأعلمه وأتعلم منه. أما إن كان من المذاهب الأخرى التي ذكرت فليس بيني وبينه نقاش حتى يعلن توبته وعودته الى مذهب الأمة. وكل من يجرح مذاهب الأمة ويعد نفسه الحق الصراح كما تفعل السلفية المعاصرة في السعودية وأتباعها المتعصبين لها ، فأنا -العبد لله- أعتقد جازما بضلال المتعصبين وخطئهم وزيادتهم في الدين ما ليس منه.(/21)
فالخلافات بين أعضاء مذهب الأمة يجب أن تكون معرفية يحلها علم اللغة والبلاغة والأسانيد وقواعد التفسير والتأويل، وليست عقدية تقال بتعصب لما لم ينزل الله به من سلطان. فقضية خلق القرآن قد بينت لك الصواب فيها، وقضية نوحيد الأسماء والصفات هي قضية لغوية علمية القول فيها اجتهاد في تفسير المتشابه وليس اعتقادًا يفسَّقُ ويُبدع ويضلَّل مخالفُه.وتعريف الصحابي بأنه من رأى النبي وأسلم ومات على الإسلام يُقْبّل من أجل الرواية فقط ،ولا تُفْهم في ضوئه أحاديثُ النبي.
وعدالةُ الصحابةِ اذا شئنا أن نحتفظ بالمفهوم من تراث علماء الحديث علينا أن نَقْصُرَه على من عدَّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه حين قال لخالد ابن الوليد:لا تسبوا أصحابي، [وهم المهاجرون والأنصار الذين أسلموا وهاجروا ونصروا قبل خالد بن الوليد]. وغيرهم قابل للنقد التاريخي واللوم والثناء شأن بقية الأمة.
.فلا تعجب أن أغضب أحيانًا على من يسعون لتفريق الأمة بناء على فهوم قاصرة ظنوها من الدين وما هي لعمري من الدين.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك
والسلام عليكم ورحمة الله.(/22)
انعكاسات لأِزمة الفهم
غادة أحمد 17/1/1427
16/02/2006
سوء الفهم على مستوى الفرد يُشكّل أزمة له و لمن يتعامل معه، و يزداد تفاقم هذه الأزمة كلما اتسعت الدائرة، و أسوأ ما تكون عندما تتسع لتشمل المجتمع ككل في رؤيته لقضايا عدة، فينعكس ذلك على محاولات التقييم و الطرح و العلاج و الذي أحوج ما يكون للإنصاف و الموضوعية و الشمولية.
سوء الفهم للواقع الذي نحياه و عدم بذل الجهد لسبر أغواره و المتغيرات التي تحف به، و مع العجز عن المواجهة، يؤدي بنا في كثير من الأحيان لممارسة لون من ألوان الهروب الخفي فنتلفع بعباءة التاريخ – و الذي نتوهم أنه يستر الكثير من السوءات، و التي بات سترها أكبر همنا! - في محاولة للتنصل من أعباء المواجهة، و هذا بدوره يوفر لنا فرصاً كثيرة لتسويغ ما نحن عليه من سوء الحال و المآل، فلو كان عندنا صلاح الدين أو قطز أو ابن تيمية ... الخ، لكانت مشاكل البشر جميعاً فضلاً عن أزماتنا كالصدقة في زمن الغنى و فيض الأموال.
و ليتسع الرتق في سوء الفهم، فهو ليس لهذا الواقع فحسب، بل و لكثير من آيات الله تعالى، و إلا فأين نحن من قوله تعالى: (...اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...) [الأنعام: من الآية124]، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ...)[البقرة: من الآية134].
هؤلاء الذين صنعوا الحياة في زمانهم، أتراهم لو عادوا لزماننا هذا أكانوا يملكون من الأمر شيئاً، و هذا الهروب الساذج الذي نمارسه يعطل العقل عن التوقف و التدبر، فتنقلب المعايير لعدم وضوح الرؤية، ولا يقتصر الإعذار على افتقاد مثل هذه النماذج، بل لعلنا نضيف أنه لولا تقصير الأولين و سوء فعلهم ما كان إرثنا لهذه التركة من التخلف، و نقعد نندب سوء حظنا وننوح على أحوالنا، و المولى سبحانه و تعالى يخاطبنا بقوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ...)[لأعراف: من الآية173].
فنحن في الحالين بُرَآء من الذنب براءة الذئب.
و يمتد بنا سوء الفهم، و يسافر معنا عبر مراحل الزمان، فنبحث عن أمة، بل أمم في زماننا هذا تحمل عنا عبء البطالة و العنوسة و الفقر و تشويه اللغة ...الخ، فلولا العمالة الوافدة من شتى بقاع الأرض، و لولا الزواج من المسلمات الأجنبيات! و ننسى أنها أزمات تعاني منها منطقتنا العربية كلها، بل العالم بأسره، و ننسى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52]. إن أنّ مشرقها بآهٍ، ردد مغربها صداه.
و هذا بدوره يقودنا لتلمس أزمة الفهم التي نعاني منها في تعاملنا مع القرآن، ففي الأمة نهضة لحفظ كتاب اللهK و لا شك أن ذلك خيرٌ كبير، فهناك من يمتلكون موهبة الحفظ المتقن، و لكن هذا لا يسوّغ أن يصل بنا الأمر لممارسة عقوبة الضرب مثلاً و الحرمان مما يحبه الأطفال ليستظهروا الآيات، و لكم ننتقد سياسة الحفظ كآلية معتمدة في مسيرة التعليم، و لكن لا بأس من اعتمادها عند التعامل مع القرآن! و لننظر إلى ما يؤول إليه الحال، و لنتدبر! انعكاس مهارات الحفظ على أخلاقنا و تعاملاتنا و اقتصادنا و سياستنا ....و عالميتنا! في زمان العولمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
نعيش أزمة فهم لماهية التربية من حيث أنها ثقافة تؤثر في السلوك، و تقويم في الاتجاه الذي يحبه الله و يرضاه، مما يستلزم منا استمرارية ضخ الكثير من القيم و المعاني في عقول الناشئة و وجدانهم فتتراكم و تترسخ، و لا تكون يوماً عرضة للمساومة .
فليس من المفترض أن ننتظر حتى يكذب أولادنا لنبدأ في تعليمهم قيمة الصدق، أو أخذهم ما لا يحل لهم لنشرع في تبيان الحلال و الحرام، وقد نفعل ذلك من دون استصحاب أنهم مخلوقون لزمان غير زماننا، فلا نعتمد التجديد و الإضافة لقيم و مفاهيم لنتناسق و نتناغم مع سنن التغيير و التطوير في هذا الكون، فالشرع حاكم على العرف و المسلم منتج قبل أن يكون مستهلكاً، و ما هو الإنتاج؟ و ما معنى التنمية؟ و كيف يكون التدريب و الذي وصل نصيب الفرد الياباني منه في السنة ما يوازي (320) دولاراً و الأمريكي (200) دولار و العربي 1.5 دولار؟* ، و عندها فلن نعثر على طفل في العاشرة يرى أن امتلاك هاتف نقال حق أصيل له، لماذا؟ ما الهدف؟ سوى أن زملاءه على هذا الحال، فيحكمه العرف دون الشرع الذي يربيه كي يساهم في تحويل أمته من أمة مستهلكة إلى أمة منتجة، و أننا نتميز لا بما نملكه و إنما بما نكونه.
و الرجولة وفق التحديث اللازم و لكي تستعصي على المساومة، هي الاستعفاف و التزام وسطية الشرع عند استشراف الجمال فلا تخضع لعرف الفضائيات، و من ثم فلن نعثر على شاب يساهم في رفع أسهم أمته في بورصة الاستهلاك عندما تنفق المرأة في منطقة الخليج و في عام واحد فقط أربعة مليارات ريال على أدوات الزينة و التجميل**، غير ما يُنفق من الجهد و الطاقة .(/1)
نعيش في أزمة فهم متبادلة بيننا و بين الغرب، و نطالبهم بما يتوجب علينا أن نكون من أربابه، لا من أجلهم، و إنما من أجل أن العدل و الإنصاف من ثوابتنا
ما أشد تعرض الاجتهاد وفق الكتاب و السنة و من علماء أفاضل لتهمة التعمد للمساس بالثوابت!!
و ما أهون التخلي عن هذه الثوابت عند تقييم الآخر المخالف لنا في العقيدة!! (...وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا...)[المائدة: من الآية8]، و كأننا نخشى إنصافه، و الذي قد يكشف سوءات تقصيرنا في الأخذ بزمام العلم و التقدم والذي برع فيه و حاز السبق.
و لِمَ لا نفعل؟ ألم نعش أزمة فهم عقوداً طويلة كان شعارها "...و من نافسك في الدنيا فألقها في نحره "!
و ها نحن قد ألقيناها بكل ما فيها دون تحقيق لسندٍ أو متن أو فتوى تتغير زماناً و مكاناً، فما بال الأقوال المأثورة؟
لا نفرق بين إرادات الشعوب و الحكومات، فهم و بكل إصرار عندنا سواسية و على نفس القدر من الفهم و الاستيعاب، ما أرادوا بنا إلا شراً، و ما أضمروا حيالنا إلا السوء، و ما يكتب منهم و لو مفكر واحد أو عالِم ما فيه إنصاف للمسلمين، و ما يعكس رغبة الكثير منهم لمعرفة الإسلام، و الذي قد تجد صوراً لتطبيقه مما ينبئ عن رغبة هذه البشرية في العيش في أمن و أمان و سعادة و سلام، فحين تُنذر أُم مسلمة في كندا بأخذ أولادها لتشرف على رعايتهم الجهات المتخصصة؛ لأِنها أهملت بتركهم بمفردهم، و هما في الثالثة و الخامسة من أجل الذهاب لعملها، مما استلزم اتصال المدرسة الملحق بها الثاني للاستفسار عن سبب تَغيبه، و الذي كان بسبب مرض الأول، و عدم تمكن الأم من المكوث بجانبه، فتذهب إحدى المسؤولات و تحصل على مفتاح السكن، و الذي يتوجب ترك نسخة منه مع الحارس، و تقوم بإعداد طعام الإفطار، و رعاية الأولاد لحين عودة الأم، و التي اعتذرت بعدم معرفتها بقوانين البلاد، أوَ لم تكن على علم بالشرع؟
أوَ ليس هذا من النظام الجميل و الانضباط الذي يحبه الإسلام و يرضاه لصلاح البشر جميعاً؟
و حين يقر مجلس اللوردات البريطاني قانوناً برفض الأدلة التي تُؤخذ تحت التعذيب، ألا يقرب هذا المسافات بيننا و بين تلك الشعوب، و تلك العقول المنصفة؟! وكثير؛ فلا يخلو مجتمع من خير و قيم و مثل، و لا ينفرد آخر بالشر و الأذى و العدوان.
ليست دعوة للتعاطف المطلق مع الغرب و تجاهل ما ترتكبه حكوماته في بلاد المسلمين، و إنما محاولة لرؤية أكثر وضوحاً حتى - و مهما كانت الضغوط - لا تُخدش ثوابتنا .
و في سياق ذي صلة يمتد سوء الفهم فيتهيأ لبعضنا أن التحقير و التصغير لمن اعتمدوا أفكاراً تُنسب إلى الحداثة و العلمانية و العصرانية ...الخ هو الأسلوب الأمثل لمخاطبتهم، و لعل منهم الجاهل أو المتأول، و حتى لو كان متعمداً، أوَ ليس من بين جوانحه نفسٌ تتألم، و إذا كان التوجيه الإلهي بعدم المبالغة في إلحاق الأذى بالكافر المحارب (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ...)[النساء: من الآية104]، بل إن أراد سماع الحق فلا تحقير و لا تصغير، و إنما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ...)[التوبة: من الآية6]، فما بال من لا يزال ينطق بالشهادتين، و إذا لم يأت فلماذا لا نذهب نحن، و نحن الأكثر قوة و ثقة بالحق الذي نملكه (...ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ...)[المائدة: من الآية23]، و ما كان أرفق و أجمل رد أحد علمائنا الكرام في مؤتمر الحوار الوطني بأبها حين طالب أحدهم بفك الارتباط يبن النشاطات الخيرية و أعمال الإغاثة فلا تُحاصر بالإسلام، فهذه أعمال إنسانية لا وطن لها و لا دين، فتأتي الحجة الهادئة تقرع مثيلتها و تفندها، - ما صاحبها غمز و لا لمز و لا تحقير، وهكذا كل من كان له نصيب من علمٍ أو حكمة - و لماذا إذن لا تتكرر نفس الدعوة من صاحبها بفك الارتباط المزمن بين النشاطات التبشيرية و أعمال الإغاثة؟
أزمة الفهم التي نحياها تعكس سؤالاً ملحاً ... لماذا هذه العلاقة الحميمة بيننا و بين سرعة الاصطدام بالآخر؟
أم هو اصطدام مع النفس؟!
فتكون أزمة الفهم التي يعاني منها المسلمون – و ما سبق كان على سيبل المثال لا الحصر - هي فرع عن أزمة فهم مع النفس؟(/2)
بأبي أنت وأمي يا رسول الله )
الكاتب: الشيخ د.عائض بن عبدالله القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )
صلى عليك الله يا علم الهدى () واستبشرت بقدومك الأيامُ
هتفت لك الأرواح من أشواقها () وازينت بحديثك الأقلامُ
ما أحسن الاسم والمسمَّى ، وهو النبي العظيم في سورة عمّ ، إذا ذكرته هلَّت الدموع السواكب ، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .
وكنت إذا ما اشتدّ بي الشوق والجوى () وكادت عُرى الصبر الجميل تفصمُ
أُعلِّل نفسي بالتلاقي وقربه () وأوهمها لكنّها تتوهم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، والملة السمحاء ، والحنيفية البيضاء ، وصاحب الشفاعة والإسراء ، له المقام المحمود ، واللواء المعقود ، والحوض المورود ، هو المذكور في التوراة والإنجيل ، وصاحب الغرة والتحجيل ، والمؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب صفوة الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) .
السماوات شيّقات ظِماءُ () والفضا والنجوم والأضواءُ
كلها لهفة إلى العلَم الها () دي وشوق لذاته واحتفاءُ
تنظم في مدحه الأشعار ، وتدبج فيه المقامات الكبار ، وتنقل في الثناء عليه السير والأخبار ، ثم يبقى كنزاً محفوظاً لا يوفّيه حقه الكلام ، وعلماً شامخاً لا تنصفه الأقلام ، إذا تحدثنا عن غيره عصرنا الذكريات ، وبحثنا عن الكلمات ، وإذا تحدثنا عنه تدفق الخاطر، بكل حديث عاطر ، وجاش الفؤاد ، بالحب والوداد ، ونسيت النفس همومها ، وأغفلت الروح غمومها ، وسبح العقل في ملكوت الحب ، وطاف القلب بكعبة القرب ، هو الرمز لكل فضيلة ، وهو قبة الفلك للخصال الجميلة ، وهو ذروة سنام المجد لكل خلال جليلة .
مرحباً بالحبيب والأريب والنجيب الذي إذا تحدثت عنه تزاحمت الذكريات ، وتسابقت المشاهد والمقالات .
صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه ، وسلم الله ذاك الوجه ما أبهاه ، وبارك الله على ذاك الأسوة ما أكمله وأعلاه ، علَّمَ الأمة الصدق وكانت في صحراء الكذب هائمة ، وأرشدها إلى الحق وكانت في ظلمات الباطل عائمة ، وقادها إلى النور وكانت في دياجير الزور قائمة .
وشبَّ طفل الهدى المحبوب متشحاً () بالخير متزراً بالنور والنار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه () عقيدة تتحدى كل جبارِ
كانت الأمة قبله في سبات عميق ، وفي حضيض من الجهل سحيق ، فبعثه الله على فترة من المرسلين ، وانقطاع من النبيين ، فأقام الله به الميزان ، وأنزل عليه القرآن ، وفرق به الكفر والبهتان ، وحطمت به الأوثان والصلبان ، للأمم رموز يخطئون ويصيبون ، ويسدّدون ويغلطون ، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم معصوم من الزلل ، محفوظ من الخلل ، سليم من العلل ، عصم قلبه من الزيغ والهوى ، فما ضل أبداً وما غوى ، (إنْ هو إلا وحي يوحى) .
للشعوب قادات لكنهم ليسوا بمعصومين ، ولهم سادات لكنهم ليسوا بالنبوة موسومين ، أما قائدنا وسيدنا فمعصوم من الانحراف ، محفوف بالعناية والألطاف .
قصارى ما يطلبه سادات الدنيا قصور مشيدة ، وعساكر ترفع الولاء مؤيدة، وخيول مسومة في ملكهم مقيدة ، وقناطير مقنطرة في خزائنهم مخلدة ، وخدم في راحتهم معبدة.
أما محمّد عليه الصلاة والسلام فغاية مطلوبه ، ونهاية مرغوبه ، أن يُعبد الله فلا يُشرك معه أحد ، لأنه فرد صمد (لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد) .
يسكن بيتاً من الطين ، وأتباعه يجتاحون قصور كسرى وقيصر فاتحين ، يلبس القميص المرقوع ، ويربط على بطنه حجرين من الجوع ، والمدائن تُفتَح بدعوته ، والخزائن تُقسم لأمته .
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ () نظر الإله لها فبدّل حالها
بل كرَّم الإنسان حين اختار من () خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ () جبت الكنوز وكسَّرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه () لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
ماذا أقول في النبي الرسول ؟ هل أقول للبدر حييت يا قمر السماء ؟ أم أقول للشمس أهلاً يا كاشفة الظلماء ، أم أقول للسحاب سَلِمتَ يا حامل الماء ؟
اسلك معه حيثما سلك ، فإن سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك ، نزل بزُّ رسالته في غار حراء ، وبيع في المدينة ، وفصل في بدر ، فلبسه كل مؤمن فيا سعادة من لبس ، ويا خسارة من خلعه فتعس وانتكس ، إذا لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب ، وإذا لم يكن الفرس مسوَّماً على علامته فلا تركب ، بلال بن رباح صار باتِّباعه سيداً بلا نسب ، وماجداً بلا حسب ، وغنيّاً بلا فضة ولا ذهب ، أبو لهب عمه لما عصاه خسر وتبَّ ، (سيصلى ناراً ذات لهب) .
الفرس والروم واليونان إن ذكروا () فعند ذكرك أسمال على قزم
هم نمَّقوا لوحة بالرِّقِ هائمة () وأنت لوحك محفوظ من التهمِ(/1)
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ، وإنك لعلى خُلُق عظيم ، وإنك لعلى نهج قويم ، ما ضلَّ ، وما زلَّ ، وما ذلَّ ، وما غلَّ ، وما ملَّ ، وما كلَّ ، فما ضلَّ لأن الله هاديه، وجبريل يكلمه ويناديه ، وما زلّ لأن العصمة ترعاه ، والله أيده وهداه ، وما ذلّ لأن النصر حليفه ، والفوز رديفه ، وما غلّ لأنه صاحب أمانة ، وصيانة ، وديانة، وما ملّ لأنه أُعطي الصبر ، وشُرح له الصدر ، وما كلّ لأن له عزيمة ، وهمة كريمة ، ونفساً طاهرة مستقيمة .
كأنك في الكتاب وجدت لاءً () محرمة عليك فلا تحلُّ
إذا حضر الشتاء فأنت شمسٌ () وإن حل المصيف فأنت ظلُّ
صلى الله عليه وسلم ما كان أشرح صدره ، وأرفع ذكره ، وأعظم قدره ، وأنفذ أمره ، وأعلى شرفه ، وأربح صفقة من آمن به وعرفه ، مع سعة الفناء ، وعِظَم الآناء ، وكرم الآباء ، فهو محمد الممجد ، كريم المحتد ، سخي اليد ، كأن الألسنة والقلوب ريضت على حبه ، وأنست بقربه ، فما تنعقد إلا على وده ، ولا تنطق إلا بحمده ، ولا تسبح إلا في بحر مجده .
نور العرارة نوره ونسيمه () نشر الخزامى في اخضرار الآسِ
وعليه تاج محبة من ربه () ما صيغ من ذهب ولا من ماسِ
إن للفطر السليمة ، والقلوب المستقيمة ، حباً لمنهاجه ، ورغبة عارمة لسلوك فجاجه، فهو القدوة الإمام ، الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام .
صلى الله عليه وسلم، علَّم اللسان الذكر ، والقلب الشكر ، والجسد الصبر ، والنفس الطهر ، وعلَّم القادة الإنصاف ، والرعية العفاف ، وحبب للناس عيش الكفاف ، صبر على الفقر ، لأنه عاش فقيرا ، وصبر على جموع الغنى لأنه ملك ملكاً كبيرا ، بُعث بالرسالة ، وحكم بالعدالة ، وعلّم من الجهالة ، وهدى من الضلالة ، ارتقى في درجات الكمال حتى بلغ الوسيلة ، وصعد في سُلّم الفضل حتى حاز كل فضيلة .
أتاك رسول المكرمات مسلماً () يريد رسول الله أعظم متقي
فأقبل يسعى في البساط فما درى () إلى البحر يسعى أم إلى الشمس يرتقي
هذا هو النور المبارك يا من أبصر ، هذا هو الحجة القائمة يامن أدبر ، هذا الذي أنذر وأعذر ، وبشر وحذر ، وسهل ويسر ، كانت الشهادة صعبة فسهّلها من أتباعه مصعب ، فصار كل بطل بعده إلى حياضه يرغب ، ومن مورده يشرب ، وكان الكذب قبله في كل طريق ، فأباده بالصديق ، من طلابه أبو بكر الصديق ، وكان الظلم قبل أن يبعث متراكماً كالسحاب ، فزحزحه بالعدل من تلاميذه عمر بن الخطاب ، وهو الذي ربى عثمان ذا النورين ، وصاحب البيعتين ، واليمين والمتصدق بكل ماله مرتين ، وهو إمام علي حيدرة ، فكم من كافر عفرّه ، وكم من محارب نحره ، وكم من لواء للباطل كسره ، كأن المشركين أمامه حُمُرٌ مستنفرة ، فرَّت من قسوره .
إذا كان هذا الجيل أتباع نهجه () وقد حكموا السادات في البدو والحَضَرْ
فقل كيف كان المصطفى وهو رمزهم () مع نوره لا تذكر الشمس والقَمرْ
كانت الدنيا في بلابل الفتنة نائمة ، في خسارة لا تعرف الربح ، وفي اللهو هائمة، فأذّن بلال بن رباح ، بحيَّ على الفلاح ، فاهتزت القلوب ، بتوحيد علاّم الغيوب ، فطارت المهج تطلب الشهادة ، وسبَّحت الأرواح في محراب العبادة ، وشهدت المعمورة لهم بالسيادة .
كل المشارب غير النيل آسنةٌ
وكل أرض سوى الزهراء قيعانُ
لا تُنحرُ النفس إلا عند خيمته
فالموت فوق بلاط الحب رضوانُ
أرسله الله على الظلماء كشمس النهار ، وعلى الظمأ كالغيث المدرار ، فهزّ بسيوفه رؤوس المشركين هزّاً ، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعُزَّى ، عظمت بدعوته المنن ، فإرساله إلينا أعظم منّة ، وأحيا الله برسالته السنن ، فأعظم طريق للنجاة إتباع تلك السنة . تعلَّم اليهود العلم فعطَّلوه عن العمل ، ووقعوا في الزيغ والزلل ، وعمل النصارى بضلال ، فعملهم عليهم وبال ، وبعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد ، والعلم الصالح الرشيد .
أخوك عيسى دعا ميْتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
قحطان عدنان حازوا منك عزّتهم
بك التشرف للتاريخ لا بهمِ(/2)
بإيمانك اخاطبك
أختاه يا فتاة بلادي اسمحي لي أن أخاطبك بكلمات والألم يعتصر قلبي أخاطبك و استحلفك بالله الذي اوجدك من العدم إلى إنسان يحس و يشعر كيف و كيف أصبحت ؟
ألم تقرئي قوله تعالى ( يا ايها النبي قل لازواجك و بناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما )
إنك يوم تكشفين عن وجهك و يذهب ماؤه وحياؤه ستكشفين لهم عن رأسك وصدرك ثم عن ساقيك وأكثر من ذلك .
إن أعداء الإسلام لا يشكون ولا يرتابون في هذا منك أبدا لأن التجارب قد سبقت مع مثلك من الفتيات في وقت كان الإيمان أعمق جذورا في النفس و الحياء أكثر سيطرة على الروح و الوجدان
اعلمي هداك الله إنك اليوم بحجابك متوسل إليك مخطوبة و غدا يوم ترمين الحجاب كما يريد لك المغرورون بك تصبحين أنت المتوسلة للأزواج الخاطبة لهم
إنك اليوم بحجابك و طهرك تخدمين في قصرك وتوفر لك جميع حاجاتك وغدا يوم تتخلصين من الحجاب كما يحب عملاء الماسونية الأذناب تخدمين غير زوجك و أبي أولادك و توفرين له ما يحتاج إليه
إنك اليوم مرموقة يتطلع إليك و غدا يوم تتركين الحجاب تصبحين رامقة متطلعة تعرضين نفسك لعل هناك من يقبل عليك ولا أحسبك واجدة غير نذل و عربيد يعبث بك أياما ثم يرمي بك كالخرقة البالية لاترفعين
إنك اليوم بحجابك تتمتعين باحترام والديك و كل قريب إليك و غدا يوم تنسلخين من الحجاب تصبحين محتقرة مدفوعة بالأبواب
أنك اليوم بحجابك تشعرين بايمانك و كرامتك و غدا يوم تنكرين للحجاب ستفقدين حتما ما تشعرين به اليوم من رفعة الكرامة و عزة الإيمان
إنك اليوم بحجابك واجدة إسلامك و إيمانك و حيائك و غدا يوم تكفرين بالحجاب لا تجدين حياء بوجهك ولا إيمانا في قلبك سنة الله فيمن مضين قبلك .(/1)
باب بيان ما هو العلم الفرض
أخرج ابن ماجة في "سننه" بسنده عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ »(1).
ولما كان الفهم عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم مشروطاً فيه أن يكون على مرادِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على حسب الأهواء , كان لِزاماً أن يُنظر في مدلولِ اللفظِ الذي تلفَّظَ به الرسول صلى الله عليه وسلم , حتى يكون فهمُ اللفظِ على مراد الرسول صلى الله عليه وسلم , لذلك ننظر - إن شاء الله - في معنى : "الواجب", وفي معنى : "الفرض", ثم ننظر - إن شاء الله - في معنى "فرض العين", وفي معنى : "فرض الكفاية",حتى نكون على بيِّنةٍ من الأمر .
قال الشوكانيُّ رحمه اللهُ : " الواجبُ في الاصطلاح : ما يُمدح فاعلُه, ويُذَمُّ تاركُه, على بعض الوجوه, ويرادفُه الفرض عند الجمهور, وقيل : الفرض ما كان دليلُه قطعيّا, والواجب ما كان دليلُه ظنيّا, والأول أولى"(2).
فالفرض عند الجمهور هو ما طلب الشارع فعلَه على وده اللزومِ, بحيث يُذَمُّ تاركُه, ومع الذمِّ العقابُ, ويمدح فاعلُه ومع المدحِ الثوابُ(3).
والواجب - وهو الفرض عند الجمهور - ينقسم على : " واجبٍ عيني, وواجب على الكفاية , فالواجب العينيُّ هو : ما ينظر فيه الشارع إلى ذات الفاعلِ; كالصلاة والزكاة والصوم, لأنًّ كلَّ شخصٍ تلزمه بعينه طاعةُ اللهِ عزَّ وجلَّ لقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].
وأما الواجب على الكفاية فضابطه أنه ما ينظر فيه الشارعُ إلى نفس الفعلِ, بقطع النظرِ عن فاعلِهِ؛ كدفنِ الميت, وإنقاذِ الغريق ونحو ذلك, فإن الشارعَ لم ينظر إلى عينِ الشخصِ الذي يدفنُ الميتَ أو ينقذُ الغريقَ, إذ لا فرقَ عنده في ذلك بين زيدٍ وعمرٍو, وإنما ينظر إلى نفسِ الفعلِ الذي هو الدفنُ أو الإنقاذُ مثلاً "(4).
فالواجب العينيُّ: هو ما توجَّه فيه الطلبُ اللازم إلى كلِّ مكلَّفٍ, أي: هو ما طلب الشارعُ حصوله من كلِّ واحدٍ من المكلَّفين, فلا يكفي فيه قيامُ البعضِ دون البعضِ الآخرِ, ولا تبرأ ذِمَّةُ المكلَّفِ منه إلا بأدائِهِ؛ لأنَّ قصدَ الشارع في هذا الواجب, لا يتحقَّق, إلا إذا فعله كلُّ مكلَّفٍ, ومن ثَمَّ يأثم تاركُه ويلحقه العقابُ, ولا يُغني عنه قيامُ غيره به.
فالمنظورُ إليه في هذا الواجب: الفعلُ نفسُه والفاعلُ نفسُه, ومثالُه: الصلاةُ, والصيامُ, والوفاءُ بالعقودِ, وإعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
والواجبُ على الكفاية: هو ما طلب الشارعُ حصولُه من جماعةِ المكلَّفين, لا من كلِّ فردٍ منهم؛ لأنَّ مقصودَ الشارعِ حصولُه من الجماعةِ, أي: إيجادُ الفعلِ لا ابتلاءُ المكلَّفِ, فإذا فعله البعضُ سقط الفرضُ عن الباقيين؛ لأنَّ فعلَ البعضِ يقوم مقامَ فعلِ البعضِ الآخرِ, فكان التاركُ بهذا الاعتبارِ فاعلاً,وإذا لم يقم به أحدٌ أَثِمَ جميعُ القادرين. فالطلبُ في هذا الواجبِ منصبٌّ على إيجادِ الفعلِ لا على فاعلٍ معيَّنٍ, وأمَّا في الواجبِ العينيِّ فالمقصودُ تحصيلُ الفعل, ولكن من كلِّ مكلَّفٍ. وإنما يأثم الجميعُ إذا لم يحصل الواجب الكفائيُّ؛ لأنه مطلوب من مجموعِ الأمةِ, فالقادر على الفعلِ عليه أن يفعله, والعاجزُ عنه عليه أن يَحُثَّ القادرَ, ويحمله على فعله, فإذا لم يحصل الواجبُ كان ذلك تقصيرًا من الجميعِ: من القادرِ, لأنه لم يفعله, ومن العاجزِ, لأنه لم يحمل القادرَ على فعلِهِ ويحثُّه عليه(5).
وقد يؤول واجبُ الكفايةِ إلى أن يكون واجبًا عينيّا, فلو كانت البلدُ مضطرةً إلى قاضيين, وكان هناك عشرةٌ يصلحون للقضاءِ؛ فإنَّ تولِّيه واجبٌ كفائيٌّ على العشرةِ.
وأمَّا إن لم يكن هناك غيرُ اثنين, فإنه يكون واجبًا عينيّا عليهما(6).
رَجعٌ إلى حديثِ أنسٍ
عن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ».
قال ابن عبد البرِّ رحمه اللهُ في كتاب "جامع بيان العلم", بعد أن روى هذا الحديثَ من عِدَّةِ طرقٍ ذكرها: "قد أجمع العلماءُ على أنَّ من العلمِ ما هو فرضٌ متعيَّنٌ على كلِّ امرئٍ في خاصَّة نفسِه, ومنه ما هو فرضٌ على الكفايةِ إذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن أهلِ ذلك الموضعِ, واختلفوا في تلخيصِ ذلك.
والذي يلزم الجميعَ فرضُه من ذلك: ما لا يسعُ الإنسانَ جهلُه من جُملةِ الفرائضِ المفترَضةِ عليه, نحو: الشهادةُ باللسانِ والإقرارُ بالقلب بأنَّ الله وحده لا شريك له, ولا شِبْهَ له ولا مِثْلَ, لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ, خالقُ كلِّ شيءٍ, وإليه مرجعُ كلِّ شيءٍ, المحيي المميتُ, الحيُّ الذي لا يموتُ.
والذي عليه جماعةُ أهلِ السنةِ أنه لم يزل بصفاتِهِ وأسمائِهِ, ليس لأوَّليَّته ابتداءٌ, ولا لآخريتِهِ انقضاءٌ, وهو على العرشِ استوى.(/1)
والشهادةُ بأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدُهُ ورسولُهُ, وخاتمُ أنبيائِهِ, حقٌّ, وأنَّ البعثّ يغد الموتِ للمجازاةِ بالأعمالِ, والخلودَ في الآخرة لأهلِ السعادةِ بالإيمانِ والطاعةِ في الجنةِ, ولأهلِ الشقاوةِ بالكفرِ والجحودِ في السعير حقٌّ, وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ, وما فيه حقٌّ من عند اللهِ يجب الإيمانُ بجميعِهِ واستعمالِ مُحْكَمِهِ, وأنَّ الصلواتِ الخمسَ فرضٌ, ويلزمه من علمها علمُ ما لا تتمُّ إلا به من طهارتها وسائرِ أحكامها, وأنَّ صومَ رمضان فرضٌ, ويَلْزَمُهُ علمُ ما يُفسِدُ صومَه وما لا يتمُّ إلا به, وإن كان ذا مالٍ وقدرةٍ على الحجِّ لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاةُ ومتى تَجِبُ وفي كم تجبُ, ويلزمه أن يعلم بأنَّ الحجَّ عليه فرضٌ مرَّةً واحدةً في دهرِهِ إن استطاع إليه سبيلاً, إلى أشياءَ يلزمُهُ معرفةُ جُمَلِهَا ولا يُعذر بجهلها, نحو: تحريمُ الزنا والربا, وتحريمُ الخمرِ والخنزيرِ وأكلِ الميتةِ والأنجاسِ كلِّها والغَضْبِ والرِّشوةِ على الحكمِ والشهادةِ بالزُّورِ وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ وبغيرِ طِيبٍ من أنفسِهم إلا إذا كان شيئًا لا يُتَشَاحُّ فيه ولا يُرْغَبُ في مِثْلِهِ, وتحريمُ الظُّلْمِ كلِّه, وتحريمُ نكاحِ الأمهاتِ والأخواتِ ومَنْ ذُكر معهنَّ, وتحريمُ قتلِ النفسِ المؤمنةِ بغيرِ حقٍّ, وما كان مثلَ هذا كلِّه مما قد نطقَ الكتابُ به وأجمعت الأمةُ عليه.
ثم سائرُ العلمِ وطلبِه والتفقُّهِ فيه وتعليمِ الناسِ إياه, وفتواهم به في مصالحِ دينهم ودنياهم فهو فرضٌ على الكفايةِ يلزم الجميع فرضُه, فإذا قام به قائمٌ سقط فرضُه عن الباقين, لا خلافَ بين العلماءِ في ذلك, وحجَّتُهُم فيه قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122].
فألزم النفيرَ في ذلك البعضَ دون الكلِّ, ثم ينصرفون فيعلِّمون غيرهم, والطائفةُ في لسانِ العربِ: الواحدُ فما فوقه"(7).
وقد ساق ابن قدامة رحمه اللهُ حديثَ أنسٍ رضي الله عنه في فرضيةِ طلبِ العلمِ, ثم قال: "قال المصنِّفُ رحمه الله تعالى: اختلف الناسُ في ذلك:
فقال الفقهاءُ: هو علمُ الفقهِ؛ إذ به يُعرف الحلالُ والحرامُ.
وقال المفسِّرون والمحدِّثون: هو علم الكتابِ والسنَّةِ؛ إذ بهما يُتَوَصَّلُ إلى العلومِ كلِّها.
وقالت الصوفيةُ: هو علمُ الإخلاصِ وآفاتِ النفوسِ.
وقال المتكلِّمون: هو علمُ الكلامِ.
إلى غير ذلك من الأقوالِ التي ليس فيها قولٌ مَرْضِيٌّ, والصحيحُ أنَّه: علمُ معاملةِ العبدِ لربِّه.
والمعاملةُ التي كُلِّفَهَا (العبدُ) على ثلاثةِ أقسامٍ: اعتقادٌ, وفعلٌ, وتركٌ.
فإذا بَلَغَ الصبيُّ, فأولُ واجبٍ عليه تُعُلُّمُ كلمتي الشهادةِ وفهمُ معناها وإن لم يحصل ذلك بالنظرِ والدليلِ, لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتفى من أجلافِ العربِ بالتصديقِ من غيرِ تعلُّمِ دليلِ, فذلك فرضُ الوقتِ, ثم يجب عليه النظرُ والاستدلالُ(8).
فإذا جاء وقتُ الصلاةِ وَجَبَ عليه تعلُّمُ الطهارةِ والصلاةِ, فإذا عاش إلى رمضان وَجَيَ عليه تعلُّمُ الصومِ, فإن كان له مالٌ, وحال عليه الحَوْلُ وجب عليه تعلُّمُ الزكاةِ, وإن جاء وقتُ الحجِّ وهو مستطيعٌ وَجَبَ عليه تعلُّمُ المناسكِ.
وأمَّا التروكُ: فهو بحسب ما يتجدَّد من الأحوالِ, إذ لا يجب على الأعمى تعلُّمُ ما يَحْرُمُ النظرُ إليه, ولا على الأبكم تعلُّمُ ما يَحْرُم من الكلامِ, فإن كان في بلدٍ يُتعاطى فيه شُرب الخمرِ ولُبْسُ الحريرِ, وجب عليه أن يعرفَ تحريمَ ذلك.
وأمَّا الاعتقاداتُ: فيجب علمُهَا بحسبِ الخواطرِ, فإن خَطَرَ له شَكٌّ في المعاني التي تدلُّ عليها كلمتا الشهادةِ, وَجَبَ عليه تعلُّمُ ما يصل به إلى إزالةِ الشكِّ, وإن كان في بلدٍ قد كَثُرَتْ فيه البدعُ, وَجَبَ عليه أن يتلقَّن الحقَّ, كما لو كان تاجرًا في بلدٍ شاع فيه الربا, وجب عليه أن يتعلَّمَ الحذرَ منه. وينبغي أن يتعلَّم الإيمانَ بالبعثِ والجنةِ والنَّارِ...
فبان بما ذكرنا أن المرادَ بطلبِ العلمِ الذي هو فرضُ عينٍ: ما يتعيَّنُ وجوبُهُ على الشخصِ.
وأما فرضُ الكفايةِ: فهو كلُّ علمٍ لا يُستغنى عنه في قِوَامِ أمورِ الدنيا؛ كالطبِّ: إذ هو ضروريٌّ في حاجةِ بقاء الأبدانِ على الصحةِ, والحسابِ: فإنَّه ضروريٌّ في قسمةِ المواريث والوصايا وغيرها فهذه العلومُ لو خَلا البلدُ عمَّن يقوم بها حَرِجَ أهلُ البلدِ, وإذا قام بها واحدٌ كفى وسقط الفرضُ عن الباقين"(9).
تبيَّن مما سَبَقَ أنَّ من العلمِ ما هو فرضُ عينٍ, وهو ما لا يصحُّ اعتقادُ أحدٍ, ولا عبادتُه إلا به, ومنه ما هو فرضُ كفايةٍ, وهو علمُ ما ليس مفروضًا عليه في الوقتِ, وقد قام به قائمٌ فسقطت فرضيتُه في الوقت عنه(/2)
________________________________________
(1) الحديثُ صحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن ابن ماجة" رقم (183), واستوفى في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" طرقه بحثًا واستقراءً وتتبُّعًا, ثم قال: "فالحديثُ بمجموع ذلك صحيحٌ بلا ريب عندي", ثم نقل عن العراقي تصحيحَ بعضِ الأئمة لبعضِ طرقه, ونقل تحسينَ المزي والسيوطي للحديث, ثم قال: "والتحقيق أنه صحيح, والله أعلم".
ثم قال: "اشتهر الحديث في هذه الأزمنة بزيادة "مسلمة", ولا أصل لها ألبتة, وقد نبَّه على ذلك السخاوي فقال: "قد ألحق بعضُ المصنفين بآخر هذا الحديث و"مسلمة", وليس لها ذكرٌ في شيءٍ من طرقه, وإن كان معناها صحيحًا". ]انظر: تخريج أحاديث مشكلة الفقر, للألباني, ص48 – 62[.
(2) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني. تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل(1/50).
(3) عند الأحناف أن "الفرض" غير "الواجب", ويوجد في بعض كلام غير الحنفية التفريقُ بين الفرض والواجب, على قلَّةٍ, والجمهور على ترادف اللفظين. ارجع في ذلك: "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي(1/139), و "أصول الفقه" للشيخ محمد أبو النور زهير(1/53), و "الوجيز في أصول الفقه" للدكتور عبد الكريم زيدان ص31, و "الواضح في أصول الفقه" للدكتور محمد سليمان الأشقر (ص24).
(4) مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقطي (ص12).
(5) الوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان (ص36).
(6) الواضح في أصول الفقه للدكتور محمد سليمان الأشقر (ص37).
(7) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (ص5 - 7).
(8) في وجوب هذا النظر نظر.
(9) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي. تحقيق علي حسن عبد الحميد (ص24).(/3)
بابا الفاتكان يتجه نحو العقلية الصليبية
طالعتنا وسائل الاعلام مؤخرا حول مانطق به بابا الفاتكان بينيد يكت السادس عشر خلال محاضرة له في ألمانيا حيث نقل كلاما لأحد الكتاب النصارى والذي جاء فيه : محمد لم يأت الا بما هو سئ وغير انساني .
ونحن نعلم أهداف البابا لنقله هذا الكلام ولكن نطرح على البابا أسئلة ملحة طرحت في الماضي ونطرحها اليوم :
- لماذا يزكي روح الفتنة بابا الفاتكان ؟
- ماهي أهداف البابا من نقله لهذا الكلام ؟
- أين مصداقية البابا في دعوته للحوار بين الأديان ؟
- هل البابا يؤكد من جديد حنينه للعقلية الصليبية ؟
أسئلة كثيرة تحتاج الى جواب صريح وواضح لأنه لم يعد مقبولا أن يدعوا علماء ومفكري المسلمين الى حوار الأديان بينما نجد علية القوم من النصارى كل يوم يرودن علينا بالاستفزاز والنيل من عقيدتنا واستباحة أراضينا وتدميرها والاعتداء على أعراضنا ثم يذهب كبيرهم الذي علمهم السحر الى أحد مساجد المسلمين ظنا منه أن ذلك كاف لتبرير سلوكه وتصريحاته
الخطيرة .
لسنا ضد الحوار بل ندعوا له ونشجعه ولكن لايعني الحوار أن يتمادى بعض النصارى في غيهم وغطرستهم واستفزازهم لنا , وهم يعلمون أن هذا الأستفزاز ليس لمصلحتهم ولا لمصلحة المسلمين .
مطلوب اليوم من علماء الأمة وقفة واضحة وشجاعة لتوضيح الأمور وفضح السياسات الصليبية القديمة والحديثة ودونما مواربة , والا فان صمت العلماء يعتبر مريبا وغير مبرر وغير مفهوم .
ان هذه التصريحات وغيرها تؤكد أن كل مؤتمرات الحوار ذهبت أدراج الرياح , وعلى دعاة الحوار أن يعيدوا حساباتهم مرة أخرى ويمعنوا النظر في تلك التصريحات التي تصدر عن بابا الفاتكان , مطلوب من علماء الأمة البيان والتوضيح وأن يؤدوا الأمانة والرسالة المنوطة بهم فيحذروا الأمة من العقلية الصليبية الجديدة .
لايعني كلامنا هذا أننا ندعوا لقتال النصارى وشن الحرب عليهم , ولا يعني أيضا أننا نضع النصارى كلهم في سلة واحدة أبدا فنحن نفرق بين المسالم الذي يحترم عقائد الآخرين وبين الاستفزازي الذي يعمل على اذكاء نار الحرب والفتنة فهؤلاء لابد من الوقوف بوجههم ونرد عليهم بنفس الأسلوب الذي يستخدمونه فان كان استفزازهم بالقلم فنرد عليهم بالقلم , وان كان استفزازهم باللسان فنرد عليهم باللسان , واذا كان استفزازهم بالسلاح والقتل فنرد عليهم بنفس الأسلوب ايضا لأننا عندها نستخدم حقنا الطبيعي في الرد على هؤلاء .
نحن المسلمين لدينا دستور واضح للتعامل مع الآخر النصراني وهذا الدستور ذكره الله تعالى في القرآن الكريم , حيث قال الله تعالى :
* لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين . انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم أن تولوهم . ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون * سورة الممتحنة – آية 8-9.
فالأصل في التعامل معهم البر والقسط والاحسان الا اذا أعلنوا الحرب والعداء فهنا أصبح لنا الحق الكامل بالمبادرة لقتال كل من أعلن الحرب علينا .
انني في هذا الموضوع لن أتطرق الى ما أمرتنا به الشريعة الاسلامية من حسن التعامل مع أهل الكتاب , فهذا متروك لمقام آخر , ولكنني بصدد الرد على كل هذه التصريحات الاستفزازية لنبين التاريخ الأسود والمخزي للصليبية التي استباحت بلادنا وعقيدتنا لنفقأ عيون أولئك الذين يتهجمون على عقيدتنا ونقدم للبشرية كيف فعلوا بنا في الماضي وماذا يفعلون بنا في الحاضر .
وسوف أستشهد بمؤرخيهم وكتابهم ودساتيرهم التي لايستطيعون نكرانها وكي تكون شاهدا على اجرامهم وعقليتهم السوداوية عبر التاريخ .
1- منذ فترة صدرت دراسة لباحث مسيحي مصري وهو الدكتور نبيل لوقا بباوي تحت عنوان انتشار الاسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء , ومما جاء في الدراسة :
- يعتبر الاسلام دين سماوي , وخطأ بعض أفراده لاتمت الى تعاليم الاسلام بصلة.
- في المسيحية تناقض رهيب بين تعاليمها الداعية الى المحبة والتسامح والسلام وبين مافعله بعض المسيحيين من قتل وسفك للدماء والاضطهاد والتعذيب بحق مسيحيين آخرين .
- هل ينسى المسيحيين ماقام به الكاثوليك في عهد الامبراطور دقلديانوس الذي تولى الحكم عام 248 م , ففي عهده تم تعذيب الأرثوذكس في مصر حيث تم القائهم في النار وهم أحياء كما تم رمي جثثهم للغربان لتأكلها , وان عدد الذين قتلوا في عهده يقدر بحوالي مليون مسيحي , كما تم فرض الضرائب الباهظة عليهم , مما جعل الكنيسة القبطية في مصر تعتبر ذلك العهد عهد الشهداء وبه أرخوا التقويم القبطي تذكيرا بالتطرف المسيحي .
- في حين وجدنا من المسلمين التسامح وحرية العقيدة وحرية التحاكم لدستورنا المسيحي , مما يؤكد أن الاسلام لم ينتشر بالسيف كما يزعم البعض .(/1)
- ويتساءل لماذا يقوم بعض المسيحيين بتضخيم بعض الأخطاء التي أرتكبت بحق بعض المسيحيين من قبل بعض الأفراد المسلمين , بينما هؤلاء المسيحيين يغمضون أعينهم عن المذابح والجرائم والمجازر التي حدثت من جانب المسيحية .
- انني أؤكد وبناء على دراستي للتاريخ أننا لم نجد أرحم من المسلمين وهذه هي الحقيقة.
2- يقول المؤرخ المسيحي فيدهام :
- أين المسيحيين من مذبحة باريس بتاريخ 24-8-1572 م والتي قام بها الكاثوليك ضد
البروتستانت والتي ذهب ضحيتها عشرات الألوف حتى أمتلأت شواراع باريس بالدماء
- هل ينسى المسيحيين أن محكمة الكنيسة عام 1052 م بطرد المسلمين من أشبيلية اذا لم
يقبلوا بالديانة المسيحية ومن خالف ذلك يقتل .
- ان الحروب بين المسيحيين ملئت بالفظائع لأن رجال اللاهوت كانوا يصبون الزيت على
النار .
- ارتكبت خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر أفظع المجازر ضد الكثاريين والوالدنس
وهذه المجازر حصدت مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال .
- وينقل عن المؤرخ وليم جايس : ان العالم لم يعرف الاضطهاد الديني قبل ظهور الأديان
الموحدة , لقد كانت المسيحية في الواقع أول مذهب ديني في العالم يدعوا للتعصب وافناء الخصوم .
- هل ننسى محاكم التفتيش التي أنشأت عام 1481م وخلال أعوام قتلت أكثر من 340
ألف وهناك ألوف تم حرقهم وهم أحياء .
- وينقل عن بريفولت : أن المؤرخين يقدرون عدد الذين قتلهم المسيحيين في أوربا خلال
فترة قصيرة أكثر من 15 مليون انسان .
3- يذكر حنا النقيوس في كتابه تاريخ مصر :
- في عهد الامبراطور الروماني قسطنطين للفترة من 274م- 337م تم تدمير المعابد
النصرانية وأحرق المكتبات وسحل الفلاسفة وقتلهم وأحرقهم .
- قاد بطريرك الكنيسة المصرية تيو فيلوس 385م- 412م حملة اضطهاد ضد الوثنيين
فقضى على مدرسة الاسكندرية ودمر مكتبتها ومكتبات المعابد كما تم قتل وسحل وحرق الفيلسوف وعالم الفلك والرياضيات اناتية , كما تم تحطيم كل محتويات المعابد .
4- والى الذين يتبجحون بأن الاسلام أنتشر بالسيف فننقل لهم ماذكره المؤرخ النصراني
فيليب فارج والمؤرخ يوسف كرباج في كتاب المسيحيون في التاريخ الاسلامي العربي والتركي صفحة 25+46+47 : كان عدد سكان النصارى واليهود في مصر ابان خلافة معاوية حوالي 2500000 نسمة , وبعد نصف قرن أسلم نصف هذا العدد في عهد هارون الرشيد بسبب عدالة وسماحة الاسلام .
5- أقوال المؤرخين والمستشرقين ومنهم من رافق الحملات الصليبية :
- يقول المستشرق والمؤرخ السير توماس أرنولد في كتابه الدعوة الى الاسلام : انه من
الحق أن نقول ان غير المسلمين قد نعموا بوجه الاجمال في ظل الحكم الاسلامي بدرجة من التسامح لانجد لها معادلا في أوربا , وان دوام الطوائف المسيحية في سوط اسلامي يدل على أن الاضطهادات التي قاست منها أحيانا على أيدي المتزمتين والمتعصبين كانت من صنع الظروف المحلية , أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح .
- يقول العالم النصراني كيتانين : ان انتشار الاسلام بين نصارى الشرق كان نتيجة الاستياء
من السفسطة المذهبية الهيلينية , فتم تحويل تعاليم المسيح عليه السلام الى عقيدة محفوفة
بالشكوك والشبهات مما خلق حالة بالشعور باليأس وزعزع أصول العقيدة حتى أصبحت
خليطا من الغش والزيف وسادها الانقسام , فجاء الاسلام ببساطة ثقافته وعقيدته فأزال كل
الشكوك وقدم مبادئه بكل بساطة فترك قسم كبير النصرانية واعتنقوا الاسلام .
- يقول المؤرخ اللبناني الدكتور جورج قرم في كتابه تعدد الأديان ونظم الحكم :
ان فترات التوتر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الاسلامية كانت قصيرة جدا وسببها عدة عوامل , وبالدقة كان الاضطهاد في عهد المتوكل الذي كان ميالا للتعصب وعلى عهد الحاكم بأمر الله , ولكن للانصاف نقول أن الاضطهاد لم يخص النصارى بل شمل حتى المسلمين , وهناك عامل آخر وهو القسوة والظلم التي مارسها بعض النصارى الذين وصلوا الى مناصب مهمة في الدولة الاسلامية , وعامل ثالث فهو يرتبط بفترة التدخل الأجنبي في البلدان الاسلامية حيث قام الأجنبي باغراء الأقليات غير المسلمة واستدراجها للتعاون معه ضد الأغلبية المسلمة وتجلى ذلك من قبل القبط في مصر ونصارى سورية , ويؤكد على كلام الدكتور جورج ماقاله كل من جب و بولياك .
- يذكر الجبرتي في عجائب الآثار في التراجم والأخبار : لقد استقوى نصارى الشام بالقائد
التتري كتبغا وانحازوا للغزاة ضد المسلمين وتحولوا الى أداة اذلال واضطهاد للمسلمين , وأحضروا فرمانا من هولاكو ورشوا الخمر على المسلمين وصبوه في المساجد وخربوا المساجد والمآذن , ولم يتوقف الأمر أيام التتر بل تجدد أيضا أيام حملة نابليون بونابرت حيث أغوى النصارى فوقع في حبل الخيانة بعض اقباط مصر فقام المعلم يعقوب حنا بتشكيل فيلق قبطي بزي الجيش الفرنسي من أجل محاربة مسلمي مصر وحصلوا على موافقة من نابليون لابادة المسلمين في مصر .(/2)
- وجاء في القوانين المجرية والتي ذكرها لستيغا نودي فريس في كتاب القانون الدستوري
الصفحات 135+148+157 :
مادة 46 – كل من رأى مسلما يصوم أو يأكل على غير الطريقة المسيحية أو تمنع عن أكل لحم الخنزير أو يغتسل قبل الصلاة أو يؤدي شعائر دينية , وأبلغ السلطات بذلك يعطى له جزء من أملاك هذا المسلم مكافأة له .
مادة 47- على كل قرية مسلمة أن تشيد كنيسة وأن تؤدي لها الضرائب المقررة وبعد الانتهاء من تشييد الكنيسة يجب أن يرحل نصف مسلمي القرية وبذلك يعيش النصف الآخر معنا كشركاء في العقيدة , على أن يؤدوا الصلاة في كنيسة يسوع المسيح الرب بطريقة لاتترك شبهة في اعتقادهم .
مادة 48- لايسمح للمسلم أن يزوج ابنته رجلا من عشيرته وانما يتحتم أن يزوجها رجلا من الجماعة المسيحية .
مادة 49- اذا زار شخص ما مسلم أو اذا دعا مسلم شخصا لزيارته فيجب أن يأكل الضيف والمضيف معا لحم خنزير .
- يذكر كل من ستيفن رنسيمان , غوستاف لوبون , الراهب روبرت , الكاهن أبوس في كتبهم مايلي :
في أحد الأيام قام قومنا باقتحام بيت المقدس الذي لجأ اليه المسلمون فقاموا بقتلهم جميعا حتى كنا نخوض بالجثث والدماء الى الركب , وان ريتشارد قلب الأسد ذبح 2700 من أسرى المسلمين في عكا ولم يكتفي وجنوده بذلك بل قاموا بقتل زوجات وأطفال الأسرى , ان قومنا كانوا يجوبون الشوارع والبيوت ليرووا غليلهم بقتل المسلمين فكانوا يذبحون الرجال والشباب والأطفال والنساء بل انهم كانوا يبقرون البطون , اننا كنا لانرى في الشوارع سوى أكداس من جثث المسلمين , ان هذا لم يحصل في القدس فقط بل في كل بلد وصلناها , ففي معرة النعمان قتل جنودنا حوالي مائة الف مسلم .
6- نقلت الأهرام المصرية بتاريخ 6-3-1985 كلاما للبابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة
الأرثوذكسية : ان الأقباط في ظل حكم الشريعة الاسلامية يكونون أسعد حالا وأكثر أمنا , ولقد كانوا في الماضي كذلك حينما كان حكم الشريعة هو السائد , فنحن نتوق الى أن نعيش في ظل – لهم مالنا وعليهم ماعلينا – فمصر تجلب القوانين من الخارج وتطبقها علينا , فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الاسلام .
7- عندما تهيأ جيش الغزو الايطالي الصليبي لغزو ليبيا كان شعاره الصليب وكان بابا
الفاتكان بلباسه الكهنوتي يقف باجلال أمام الجيش ثم يقبل الصليب ويبدأ الجنود بالانشاد
قائلين : أماه لاتحزني .... أماه لاتقلقي .... أنا ذاهب الى طرابلس .... فرحا مسرورا .... لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ....ولأحارب الديانة الاسلامية .... سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن .
- هل ينسى بابا الفاتكان تصريح بوش في أحد مؤتمراته الصحفية عندما قال : انها حملة
صليبية .
- هل ينسى بابا الفاتكان تصريحات رئيس وزراء ايطاليا عندما قال : أن الاسلام يدعوا
للعنصرية وهو دين الارهاب .
- وكتب الصحفي ديفيد سيلبورن مقالا تحت عنوان : هذه الحرب ليست ضد الارهاب انها
ضد الاسلام .
- كتبت مجلة ناشونال ريفيو مقالا تحت عنوان : انها الحرب فلنغذهم في بلادهم , و مما جاء
في المقالة علينا غزوهم في بلادهم وقتل قادتهم واجبارهم على التحول الى المسيحية .
- وجاء في المقالة الأسبوعية لنيويورك تايمز بتاريخ 7-10-2001 : انها حرب دينية .
- ذكرت منظمات حقوق الانسان الدولية والاقليمية حرب الابادة التي تعرض لها المسلمون
في البوسنة والهرسك وكوسوفوا حيث ذكرت تلك التقارير :
اغتصاب أكثر من 50 ألف مسلمة .
تم زرع نطاف الكلاب في أرحام المسلمات .
تدمير 614 مسجد بالكامل .
تدمير 534 مسجد تدمير جزئي .
تدمير مئات المدارس الاسلامية .
ولايمكن نسيان المجازر الجماعية مثل سربنيتشا وغيرها والتي تمت تحت مرأى ومسمع هيئة الأمم المتحدة وقواتها ومنظمات حقوق الانسان .
- هل يريد بابا الفاتكان أن ينسينا حضارة أوربا وأمريكا في العراق حيث عبروا عن رقيهم
وانسانيتهم عندما أعتدوا على النساء والرجال في سجن ابو غريب .
- هل يرفع راسه بابا الفاتكان بحضارة قومه الذين قتلو الأسرى وهم مقيدون في افغانستان .
- هل يريد أن يستفزنا بابا الفاتكان وقومه قتلوا من مسلمي الشيشان منذ عام 1991 وحتى الآن حوالي 600 ألف مسلم وهذا حسب اعترافات المنظمات الدولية لحقوق الانسان .
- عرضت القناة الأولى الألمانية تقريرا في برنامجها الأسبوعي بانوراما بتاريخ 24-6-2004 والذي أعده جون جوتس وفولكر شتاينيهوف , عن دور بعض الطوائف التبشيرية في العراق وقال : سيكون العراق مركز الانطلاق للحرب المقدسة .
- جاء في نيويورك تايمز بتاريخ 14-4-2004 : ان عزم بوش للبقاء في العراق هو حماس المبشر الديني .
- نقلت وكالة الأسو شيتد برس يوم 12-4-2004 من خطبة لقسيس في الجيش الأمريكي ألقاها في يوم الفصح في مدينة الفلوجة العراقية : نحن لسنا في مهمة سهلة لقد أخبرنا الرب بأنه معنا على طول الطريق , ولسنا خائفين من الموت لأن السيد المسيح سيعطينا حياة أبدية .(/3)
- يقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه الفرصة السانحة وفي كتابه نصر بلا حدود : لقد انتصرنا على العدو الشيوعي ولم يبقى لنا عدو الا الاسلام .
- نقلت صحيفة الحياة بتاريخ 8-2-2004 قولا لنواب بريطانيين من حزب العمال : ان الحرب على العراق كانت حملة صليبية .
- نقل شهود عيان من مدينة البصرة العراقية أنه أثناء زيارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أقام قداسا مع الجنود وأنشدوا جميعا :
جند النصارى الزاحفين الى الحرب .
يتقدمكم صليب المسيح .
وبظهور آية النصر هربت كتائب الشيطان .
أخوة نمشي على خطى سار عليها القديسون .
وحدة الأمل والعقيدة .
- ألم يدعوا بيلي و فرنكلين جراهام في كتبهم الى تنصير كافة المسلمين ولو بالقوة .
- جاء في جريدة الأسبوع بتاريخ 28-6-2004 نقلا عن التلفزيون الألماني : ان أمريكا تقوم بحرب نصرانية تبشيرية وجعل العراق قاعدة لتنصير العالم الاسلامي .
- قال مارك راسيكوت رئيس الحملة الجمهورية بتاريخ 19-4-2004 : ان بوش يقود حملة صليبية عالمية ضد الاسلام .
وبعد كل ذلك يخرج علينا بابا الفاتكان ليتهجم على خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم , متجاهلا تاريخ قومه الأسود الذي تفوح منه رائحة الدم والقتل والمجازر فاذا كان وصفه لنبينا بهذه الأوصاف فليعلم أن المهج والأرواح تفتدي هذا النبي ونسترخص النفس للدفاع عن نبينا , واذا كان بيت بابا الفاتكان من زجاج فلا يرمي بيوت الآخرين بالحجر لأن الأمر سيرتد عليه وعلى قومه فهم من بدأ وعليهم تحمل النتائج .
ان الذي ينال من الأديان ورموزها هو شخص معتوه فاقد للقيم الأخلاقية .
ان حملاتكم الاستفزازية لن تزيد المسلمين الا أستمساكا بالحق والاعتصام به .
ان هؤلاء لايقدرون أمانة العقل الذي وهبهم اياه الخالق عزوجل ولم يقدروا أمانة الكلمة ولايقدرون عاقبة كلامهم , فليتعظوا من التصرفات الحمقاء التي سبقهم اليها أجدادهم ثم ماذا كانت النتيجة فلقد عادوا من حيث أتو يحملون الذل والهزيمة والخيبة(/4)
________________________________________
باحث عن النجاة
رئيسي :التراجم :الاثنين 27 شعبان 1425هـ - 11 أكتوبر 2004 م
روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: «جَيٌّ»، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ - أَيْ مُلاَزِمَ النَّارِ - كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا لاَ يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً.
قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ. فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لاَ أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ. فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ.
قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاَتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ؟
قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ. قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلاَّ وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.
قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلاَدِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلاَدِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ.
قَالَ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلاَلٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ.
قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لاَ نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ. ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ.(/1)
قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً لاَ يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلاَ أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ وَلاَ أَدْأَبُ لَيْلاً وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلاً بِالْمَوْصِلِ، وَهُوَ فُلاَنٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلاَّ بِنَصِيبِينَ، وَهُوَ فُلاَنٌ، فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنَّ فُلاَنًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلاَنٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلاَّ رَجُلاً بِعَمُّورِيَّةَ، فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ. قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ.
قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلاَنٍ، فَأَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَى فُلاَنٍ، وَأَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَى فُلاَنٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلاَنٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلاَمَاتٌ لاَ تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلاَدِ فَافْعَلْ.
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ، فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِق لِي فِي نَفْسِي.(/2)
فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا. وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لاَ أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ياَ فُلاَنُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لاَ شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ. وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ.
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ. قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي.
فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلماسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَحَوَّلْ. فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي، كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وَأُحُدٌ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ. فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ. فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ الرَّجُلُ بِثَلاَثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاَثُمِائَةِ وَدِيَّةٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ، فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ.
فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ. فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ.(/3)
فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.ورواه الطبراني في الكبير 6/222 رقم:6065].
الدروس والفوائد من القصة:
1- اهتمام الصحابة بالقصص.
2- التربية بالقصة.
3- أهمية القصة في إيصال المعلومة.
4- تعظيمهم لعبادتهم والإنفاق العظيم عليها حتى لا تخبو النار ساعة واحدة.
5- بقاء النساء في البيوت فطرة فطرت البشرية عليها.
6- إذا أراد الله بعبد خيرا هيأ له أسبابه، فهذا سلمان المجوسي كالجارية في بيتها لا يخرج أبدًا، فقدر الله انشغال أبيه بالبنيان عن الضيعة ليأمر ابنه ولأول مرة بالخروج للضيعة، وترك البيت لينقذه الله من النار.
7- أهمية التحصين من العقائد المخالفة، فلا يكفي أن تربي ولدك على معرفة الحق، وتغلق أمامه جميع أبواب الدنيا حتى يصبح لا يعرف ما ذا خلف الجدار؛ فإن من طبيعة الإنسان حب الاستطلاع.
8- أهمية التوعية بالدين الحق، ودلالة الناس عليه، وعدم التقوقع على النفس، فإن غالب الناس لا يعرفون ما عندك إذا لم تشهره، فهذا سلمان لم يسمع أبدًا بالنصرانية فضلًا أن يدعى لها.
9- أهمية الوسائل في إيصال الحق إلى الناس، فرفع الصوت بالقراءة والصلاة لفت نظر سلمان، وحمله على الدخول والاطلاع.
10- أهمية إظهار الشعائر وإعلانها وأدائها على الوجه الصحيح الأكمل، فكم ممن أسلم لمجرد رؤية المصلين.
11- مهما كانت تربية أهل الباطل وتحصينهم لأبنائهم فإن العقائد الباطلة تحمل نقضها وبطلانها في نفسها، ولكنها تحتاج إلى إزالة الستار عنها حتى يعي صاحبها.
12- قوة تأثير الحق على الخلق، فلو ترك الخلق وسماع الخير، وأبعد عنهم التشويش؛ لانقادوا إليه طائعين دون كبير جهد.
13- سرعة تأثر الشباب، وشجاعتهم في اتخاذ القرار؛ نظرًا لبعدهم عن التراكم التراثي الذي يعيق الملأ عن قبول الحق. ولهذا رغب سلمان في دين النصارى وهو لأول مرة يسمع به، بينما والده مع معرفته القديمة بالحق إلا أنه لم يلتفت إليه تمسكًا بتراث الأجداد.
14- الحرص والتركيز على دعوة الخلي من الشبه والدعايات المضللة عن الإسلام، فمهما كان دينه وعقيدته فإنه أسرع الناس استجابة، فسلمان على الرغم من تطوره وتبوئه منزلة في المجوسية سرعان ما تركها لمجرد سماع صوت الحق؛ لكونه خلياًّ من أي معلومة مشوهة عنه.
15- التهميش والإسقاط للآخرين ليست وسيلة إقناع، كما قال والد سلمان:'ليس في ذلك الدين خير'.
16- عدم التهاون بالشبه التي تعلق بأذهان الطلاب والأبناء، بل يجب إعطاؤها وقتًا وجهدًا لاقتلاعها وإزالتها.
17- القيد يتداوله جميع الظلمة على مدار العصور للصد عن هدي الله؛ إذ ليس عندهم من المناهج ما يسد حاجة الناس، وليس عندهم من الحجج ما يمكنهم من ممارسة أساليب الحوار والاقناع.
قال ابن القيم:'فأقبل [سلمان] يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد، وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم حرفوه، وبه أجاب فرعون موسى عليه السلام: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[29]}[سورة الشعراء]. وبه أجاب الجهمية الإمام أحمد لما عرضوه على السياط، وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن'.
18- متابعة المسلم الجديد كما فعل أهل الكنيسة مع سلمان.
19- السعي إلى تخليص المسلم من قيده.
20- التخطيط للفرار إلى النجاة.
21- علو همة سلمان، فها هو لأول مرة يسمع هذا الدين، فيطلبه من منبعه الأصلي خشية الكدر، على الرغم من ترتب الغربة، والبعد عن الأهل والوطن.
22- معرفة قيمة الأمر يسهل التضحية في سبيله.
ومن تكن العلياء همة نفسه
... ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
23- البحث عن أعلم الناس للأخذ عنه والارتباط به.
24- متاجرة الأحبار بأموال الناس، واستغلال الدين في جمعها، كما قال تعالى: { إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ...[34]}[سورة التوبة].
25- مهما كان ما عليه الإنسان من العلم والعبادة والتفرغ لها، إلا أنه متى تسلط على أموال الناس وخانهم سقط من أعينهم وأبغضوه، فكيف بمن لا علم له ولا منزلة؟!(/4)
26- صبر سلمان على صحبة أبغض الناس إليه مع قيامه بخدمته ليلًا ونهارًا؛ لأنه لا يعلم أحدًا أعلم منه.
27- كتمان حال الأسقف عن الناس؛ لأن سلمان يعلم أن الناس لا يقبلون قول الغريب في عالمهم، وأيضًا قد يتصدى العالم للإنكار، أو يقدم الأعذار والحجج يبرر بها صنيعه.
28- عدم الكلام إلا من عنده دليل موثق مقبول عند الآخرين عند مطالبته به.
29 عدم قبول الكلام في العالم إلا بعد التبين والتثبت التام، إذ إن الأصل فيه الصلاح والورع والنزاهة.
30- مهما تستر الإنسان على دسائسه، فإن الله سيفضحه ولو بعد حين؛ كما افتضح الأسقف بعد موته. كما قيل في قوله تعالى:{...وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ[72]}[سورة البقرة].
31- يقول الحسن البصري:'بئس الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك'، فهذا الأسقف ماذا استفاد من المال الذي جمعه ولم ينفقه؟ لقد أصبح وبالًا ومقتًا عليه، ولم يربح منه شيئاً، وراح وتركه.
32- إن سلمان يطلب أمرًا تصغر أمامه الدنيا بحذافيرها، ولو أراد مالًا ودنيا لأخذ الذهب وحازه ولم يعرف به أحد، ولكنه لو فعل ذلك لم يصل إلى الخير والإسلام الذي وصل إليه، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
33- مهما كانت مكانة الإنسان وقيمته في قلوب الناس، ومهما اشتهر به من علم، فإن الناس سرعان ما يسقطونه وينبذونه إذا عرفوا تورطه بأي خيانة.
34-المنصب والجاه والمكانة والعلم يلزم حسن الظن به، والله تعالى أعلم بسريرته، ولا نشهد له بالولاية أو النجاة عند الله، الله أعلم بما كان يعمل وما يقصده، ولهذا كان من المعتقد الصحيح عدم الشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة، أو نار، إلا من شهد له الشرع بأحدهما.
35- الملازمة والخلطة تسفر عن حقائق الناس، ولهذا عرف سلمان عن الأسقف ما غاب عن جميع أهل بلده.
36- الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، فروح سلمان ونفسه وافقت وألفت العالم الجديد؛ نظرًا لإيمانه وصلاحه وتقواه.
37- حرص سلمان على العلم، وملازمة أهله حمله على الطلب من كل عالم أن يوصي به إلى من هو مثله في العلم والصلاح.
38- مشروعية إخبار من تحبه في الله بأنك تحبه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي أن يقول لأخيه:' أَنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ '، فقال له:'أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي فِيهِ' رواه أحمد وأبوداود. فإن في هذا زرعاً للثقة والمحبة، ومداًّ لجسور الأخوة والصحبة.
39- ينبغي لأهل العلم والإيمان تحري الدقة في عباراتهم، كما قال سلمان رضي الله عنه:'فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه'.
40- فقه سلمان ومعرفته بمنازل الناس وبعده عن المبالغة.
41- مراعاة مراتب الحب والبغض.
42- تنقل سلمان بين البلدان والأوطان، ورحلته في طلب العلم.
43- منزلة الصبر والتحمل، وعدم الاستعجال والاكتفاء بالدون.
44- ندرة العلماء العاملين في الأرض دلالة على ضلال البشر، وانحراف الفطر، وتبديل الأديان، وانتشار عبادة الأوثان.
45- معرفة العلماء بواقعهم، واطلاعهم على جميع تفاصيله.
46- معرفة العلماء بنظرائهم في سائر البلدان، والتواصل والتعاون فيما بينهم.
47- ينبغي على أهل العلم والإيمان أن يدلوا تلاميذهم على أمثالهم من أهل العلم والصلاح للتلقي عنهم، ويوصوا العلماء بهم ليهتموا بهم أكثر.
48- حرص العالم على الطالب المتميز، وتعاهده ومتابعته والوصية به.
49- معرفة أهل الكتاب بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصفاته، وصفات بلده، وزمان بعثته.
50- بذل سلمان جل ماله في سبيل الوصول إلى الإسلام.
51- صبر سلمان وتحمله للرق والعبودية طلبًا للوصول إلى رضوان الله، مع ما عرف عنه من الشرف والغناء في قومه.
52- انتشار الإسلام من خلال أعدائه، فسلمان سمع بوصول الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.
53- بعد اليهود عن الهداية وعدم احتفائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، على الرغم من علمهم ومعرفتهم به وبصفاته وصدقه.
54- ظلم اليهود لمن تحت أيديهم، واحتقارهم وتسلطهم عليهم، وحجبهم عن معرفة الخير والنور.
55- إخفاء سلمان عن سيده اليهودي ما يدور في نفسه وما حمله على ترك بلده من البحث عن الحق، لمعرفته بكيد اليهود وبغضهم للحق وأهله.
56- البحث عن الحق ليس مسوغا للتقصير في حق المخلوق، فسلمان لم يترك عمله ويذهب للرسول صلى الله عليه وسلم فور علمه به، والله يعلم كم تحمل في الوصول إليه، بل لما أمسى وحضر وقت راحته ذهب إليه صلى الله عليه وسلم.
57- تلطف سلمان في الوصول إلى مراده من معرفة الحق، وعدم الاعتماد على غيره في ذلك.
58- مطابقة أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء في الإنجيل وأوصاف العلماء والرهبان.
59- إتاحة الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة لأتباعه بالتثبت والتبين.(/5)
60- هنا وصل سلمان إلى هدفه المنشود بعد طول رحلة ومشقة ورق في البحث عن النجاة، فأصابه ما أصابه من الانكباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الانتظار لحظة واحدة حتى يستقبله من تلقاء وجهه.
61- اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتثبيت وتجديد الإيمان في نفوس أصحابه، ولهذا أمر سلمان بذكر قصته لأصحابه.
62 - اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم برفع الرق عن سلمان، ولم ينشغل عنه على الرغم من كثرة الأعباء والأعمال المنوطة به صلى الله عليه وسلم.
63- التكافل الاجتماعي بين الصحابة رضي الله عنهم.
64- مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في مشروع التكافل.
65- الهداية منة ومنحة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده، ولهذا وفق سلمان لها على بعد داره، وحرم منها أبو طالب على قرابته وجواره... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
من'باحث عن النجاة' للشيخ/يحيى بن إبراهيم اليحيى(/6)
بادر قبل أن تبادر
...
...
التاريخ : 23/08/2005
الكاتب : علي القرني ... الزوار : 3450
< tr>
الحمد لله قضى ألا تعبدوا إلا إياه ، لامانع لما أعطاه ، ولاراد لما قضاه ،ولامظهر لما أخفاه ، ولاساتر لما أبداه ، ولامضل لمن هداه ، ولاهادي لمن أعماه ، والصلاة والسلام على من أرسله الله واصظفاه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)
عباد الله ..
إن الناظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً ، يجدهم غادين جادين .. جادين في بيع أنفسهم ، ففائز رابح ومغبون خاسر ، رابح دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت فنجى ، ،خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، ، أعتق نفسه وزكاها وقد أفلح من زكاها ، وخاسر نسي مصيره ، فانغمس في المحرمات على غير بصيرة ، باع دينه بعرض من الدنيا ، أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني حتى داهمته المنية ، دساها وقد من خاب دساها ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).
لانعجب من خطأه واتباعه هواه معشر المسلمين ، إذ لاعجب ولاغرابة أن يخطئ الإنسان ويصدر منه السفه والجهالة والظلم فكل بني آدم خطاء والمعصوم من عصمه الله ، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإسآته وجهله وظلمه ثم يظل متلبساً بذلك ، مصر عليه ، أمناً مكر الله عليه ، ووعيده له (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (لأعراف:99) .
يامن بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك .. عودة .. عودة إلى أفياء الطاعة ، الباب مفتوح ، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27) بادر قبل أن تبادر ، بادر بالاقلاع عن الذنب بشعور بالألم ، ألم المعصية ، مع عزم أكيد على استئناف حياة صالحة ، طيبة نقية طاهرة ، بادر .. فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى التوبة ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ )(النساء: من الآية18)
بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يحال بين إيمانه وقلبه وقد يسلب إيمانه فبادر ، أرأيت لو أن رجلاً أمر باقتلاع شجرة باسقة كبيرة غصونها وهو شاب فرآها كبيرة فهابها وقال : فلندعها إلى الغد ، فلما جاء الغد ، قال فلندعها للأسبوع القادم .. إلى الذي يليه ... إلى الذي يليه .. فإنه مع مرور الوقت تضعف قوته ... ويخور ثم بعد ذلك لايستطيع قلعها ، فما عجزت عنه قد تكون غداً أشد عجزاً فبادر .
يُفعل الذنب فيخلق الإيمان في القلب كما يخلق الثوب ، ثم يغلف بالران فيذبل ثم يقسوا ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية22) ثم يموت وعندها يحرم الانسان لذة مناجاة الله ، فعبادته بعد ذلك آلية لاروح فيها ، لاتُزكي نفساً ولاتُطهر رجساً ، تلك عقوبة وبلية أي بلية ، ثم ينس القرآن إن كان معه شيء من القرآن ، ثم يُهمل الاستغفار ، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به ، كلما حاول أن يعود أُركس في ذنبه مع هم وغم وحزن وخوف وذل لايفارقه ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه .(/1)
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه الموسوم بالبداية والنهاية في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين مايلي بتصرف / قال : وفيها توفي ابن عبد الرحيم قبحه الله هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن ماغض بصره والله يقول ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور:30) اتبع النظرة النظرة والنظرة سهم مسموم من سهام ابليس ، نظر فهويها ، ثم راسلها هل إليك من سبيل ، فقالت لاسبيل إلا أن تتنصر ، وتتبرئ من الإسلام ومن محمد – صلى الله وسلم على نبينا محمد – فأجابها وقال – ونعوذ بالله مما قال – قال هو برئ من الإسلام ومن محمد وتنصر ، وصعد إليها – لاإله إلا الله نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى ، المعاصي بريد الكفر .. المعاصي بريد الكفر .. كم من معصية جرت أختها وأختها وأختها ثم كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد وهذا مثل من الأمثلة – ماراع المسلمين إلا وهو عندها فاغتم المسلمون لذلك غماً شديداً ، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة ، صدر وعى القرآن ينتكس فيعبد الصلبان ، فلما كان بعد فترة مرو عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن عليه ذل الكفر وقترته وغبرته ، فقالوا يابن عبد الرحيم ما فعل علمك .. مافعلت صلاتك .. مافعل صيامك .. مافعل جهادك .. مافعل القرآن ، فقال في حمأة ذل الكفر .. أنسيته مامعي منه سوى آيتين .. كأنه المعني بهما (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:2-3) .
يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، نسألك اللهم حسن الخاتمة .
بادر قبل أن تبادر ، هل تنتظر إلا غنى ً مطغياً ، أو فقراً منسياً ، أو هرماً مفنّداً ، أو موتأ مُجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر ، بادر قبل أن تبادر ، واصدق في توبتك واجعلها نصوحاً خالصة ، فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ويعد بالفلاح على ذلك فيقول (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: من الآية31) .
الصادق في توبته لايزال ذنبه نصب عينيه ..خائفاً منه مشفقاً باكياً وجلاً نادماً مستحياً من ربه ، دائم التضرع إليه واللجوء إليه ، حتى يقول عدو الله إبليس ليتني تركته فلم أوقعه في ذلك الذنب ، روى الامام مسلم في صحيحه أن امرأة من جهينة وقعت في كبيرة الزنى في لحظة ضعف فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده فأنابت وتابت في شعور عظيم بمرارة المعصية وعظم الكبيرة وأرادت البراءة بطريق متيقناً لايتطرق له أدنى احتمال فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت يارسول الله طهرني فقال : ويحك ارجعي واستغفري الله وتوبي اليه – كان يكفيها ذلك – لكنها قالت يارسول الله أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ، والله إني حبلى من الزنا فطهرني يارسول الله ، قال أأنت قالت نعم ، فقال لها ارجعي حتى تضعي مافي بطنك ، وبضعة أشهر تمر وهي على خوفها واشفاقها وقلقها ، ثم تضع وتأتي بالصبي في خرقة ، وتقول هو ذا قد وضعته فطهرني يارسول الله ، قال اذهبي فارضعيه حتى تفطميه ، وحولان كاملان على خوفها واشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحد ، والحد كفارة كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فطمته وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز ، هو ذا يارسول الله فطمته فطهرني ، دفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أُمر بها فحفر بها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها فكان ممن رجمها خالد بن الوليد رضي الله عنه فتنضخ دمها على وجه خالد فسبها وشتمها فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال مهلاً ياخالد فوالذي نفس محمد بيده لقد تابت توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم .
ماضرها وكأن الذنب لم يكن ولقد بقي لها صدقها .. وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها ، وبقي لها شرف الصحبة .. بقي لها فوق ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ودفنه لها فرضي الله عنها وأرضاها .
بادر قبل أن تبادر ولاتيأس ولاتقنط وإن كبر الذنب(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: من الآية87)(/2)
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)
جاء في صحيح مسلم (ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) .
وجاء عنده أيضاً من حديث عمر بن الخطاب أنه قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغى إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا والله وهى تقدر على أن لا تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه بولدها .
قال الشيخ السعدي رحمه الله ( فقل ما شئت عن رحمته فإنها فوق ما تقول وتصور فوق ما شئت فإنها فوق ذلك فسبحان من رحم في عدله وعقوبته كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته وتعالى من وسعت رحمته كل شيء وعم كرمه كل حي ، وجل من غني عن عباده رحيم بهم وهم مفتقرون إليه على الدوام في جميع أحوالهم فلا غنى لهم عنه طرفة عين ) .
رحمة الله هل تنال بالتواني والكسل أم بالجد والعمل ، لمن كتبها الله ؟ اسمعوا معاشر المسلمين إلى قول الله ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )(لأعراف: من الآية157-156)
إنها للعاملين كتبها للعاملين لاللخاملين البطالين ، فياعبد الله اعرف عزة الله في قضائه ، وبره في ستره ، وحلمه في امهاله ، وفضله في مغفرته ، فلله عليك أفضال وأفضال ، ستره عليك حين ارتكابك للذنب ، أما والله لو شاء الله لفضحك الله على رؤوس الخلائق فما جلست مجلساً ولاحضرت مجمعاً إلا عيرت بذلك الذنب فكم من عاص نفس معصيتك فُضح وسترك الله الذي لاإله إلا هو ، وياعجباً لأقوام يسترهم الله فيصبحوا يتحدثون قد هتكوا ستر الله عليهم ، أولئك غير معافين إنهم المجاهرون ، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين ، فاشكر ربك إذ سترك .
ثانيها / حلم الله عليك ، وقد سمعت طرفاً من سعة رحمته سبحانه وتعالى .
ثالثها / وهو من أعظمها فرح الله جل وعلى بتوبتك فرح احسان وعز ولطف ، لافرحة محتاج إلى توبة عبده ، تبارك الله وجل الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الامام مسلم
( لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) .
رابعها / تبديل السيئات إلى حسنات قال الله جل الله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:70)
أخرج المنذري وغيره بنسد جيد عن أنس رضي الله عنه ( قال جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم أأسلمت قال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات فقال يا رسول الله وغدراتي وفجراتي فقال وغدراتك وفجراتك فولى الرجل يكبر ويهلل ) ، فضل الله واسع ، لايهلك إلا هالك ولايشقى إلا شقي ، فلاتيأس من رحمة الله ولاتجترئ على معصية الله ، وتب كلما أذنبت .(/3)
بادر قبل أن تبادر ، بادر ولاتنظر إلا صغر الخطيئة ولكن انظر إلا عظمة من عصيت ، إنه الله الجليل ، إنه الله العظيم ، إنه الله الكبير ، من نظر إلى عظمة الله وجلاله عظم حرماته وقدره قدره وأجلّ أمره ونهيه .
نفعني وإياكم بما في كتابه وسنة نبيه ، والحمد لله رب العالمين .
أيها المسلمون ياعبد الله .. بادر وإياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ، بادر ورد المظالم إلى أهلها ، أو تحلل منهم واطلب المسامحة ، لاتتم التوبة إلا بذاك روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) .
بادر قبل أن تبادر ولاتصحب الفاجر والمرء على دين خليله ، اهجر السوء وأهله .
بادر قبل أن تبادر ، واتبع السيئة الحسنة تمحها قال الله ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114) .
ياعبد الله .. أسألك سؤالاً وأريد منك اجابة شافية لنفسك لالي ، هل أنت الآن على استعداد لو جاءك ملك الموت في هذه اللحظة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) فتب وبادر قبل أن تبادر.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً ، اللهم اغفر الذنوب ، اللهم استر العيوب .
ثم صلوا معاشر المسلمين على نبيّ الرحمة والملحمة النبي المصطفى والرسول المجتبى، فقد أمركم بذلك المولى جلّ وعلا فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين..(/4)
باساييف مقاتل بلا هوادة
عمرو حسين*
شامل باسييف
كان العام الجاري عامًا مؤلمًا للمقاومة الشيشانية، حيث تمكنت القوات الروسية من اغتيال ثلاثة من أبرز قادة المقاومة وهم: أصلان مسخادوف، وعبد الحليم سعيدو لاييف، وأخيرًا شامل باساييف ذلك الرجل الذي أثار الكثير من الرعب داخل روسيا، ومن الجدل والاعتراض حول بعض العمليات التي نفذها ضد موسكو وسقط خلالها عدد كبير من الأطفال والمدنيين.
و"باسييف" كانت تعتبره موسكو العدو الأول لها، بل والأكثر خطورة على أمنها؛ نظرًا للجرأة الشديدة التي كان يتمتع بها في عملياته، وقدرته على الوصول إلى أعماق روسيا ناقلاً بذلك الحرب من الأراضي الشيشانية إلى داخل روسيا، وأبرزها احتجاز الرهائن في مسرح موسكو عام 2001، ومدرسة بيسلان عام 2004، كذلك كانت تنظر موسكو إليه على أنه الشيشاني الدموي الأخطر.
وفي المقابل كان باساييف يتمتع بكاريزما خاصة داخل أوساط المقاومة الشيشانية، لعوامل متعددة يرجع بعضها إلى أن البعض رأى أنه يمثل الشخصية الشيشانية المقاومة التي ظهرت بصور متكررة في التاريخ؛ ولذا لم يكن غريبًا أن يسمى باساييف بـ"شامل" الذي يرجع إلى الإمام شامل القائد التاريخي للمقاومة ضد الروس في الشيشان، كذلك إلى تبني المقاومة تحت الراية الإسلامية، إضافة إلى جرأته الشديدة التي جعلته مثالاً للشجاعة من وجهة نظر الشيشانيين.
قصة الحياة
ولد باساييف أو عبد الله شامل كما كان يسمي نفسه، أو "أبو إدريس" كما أطلق عليه المقاتلون العرب في الشيشان في عام (1965م) في قرية ديشني فيدينو الواقعة جنوب الشيشان، وفي عام (1987م) انتسب لمعهد الهندسة في موسكو، وبعد أن أتم دراسته في المعهد التحق بالجيش السوفيتي -آنذاك- لأداء الخدمة العسكرية، وشارك عام (1991م) في الدفاع عن مقر البرلمان الروسي إبان المحاولة الانقلابية.
وعاد باسييف إلى الشيشان عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، وحين أعلن الرئيس الشيشاني الراحل جوهر دوداييف استقلال بلاده عن موسكو في أوائل التسعينيات قام باساييف بتشكيل ما أسماه "وحدات المجاهدين الخاصة" والتي وجهت نشاطها بشكل أساسي للكفاح المسلح ضد القوات الروسية وأجهزتها السرية، ثم انضم في وقت لاحق إلى الوحدة العسكرية التابعة لكونفدرالية الشعوب القوقازية، وشارك في النضال ضد الوجود الروسي في إقليم كاراباخ، وسرعان ما أصبح قائدًا للوحدة العسكرية في العام 1992، وشارك في معركة استقلال أبخازيا عن جورجيا في نفس العام.
وفي عام (1994م) ولدى اندلاع حرب الشيشان الأولى تولى باساييف قيادة المقاتلين الشيشان في مسقط رأسه "فيدينو"، وبرز اسمه بقوة على ساحة الحرب الشيشانية حين قام مع رفاقه باحتجاز مجموعة من الرهائن داخل مدرسة في مدينة "بودينوفيسك" في (14 يونيو 1995م)، ونجح من خلالها في لفت أنظار العالم إلى القضية الشيشانية.
وفي عام (1996م) انتخب "باساييف" قائدًا للقوات الشيشانية المسلحة وأدار الهجمات الكبيرة التي استهدفت القوات الروسية في العاصمة عند نهاية الحرب الروسية - الشيشانية الأولى، وأجبرت الهجمات موسكو على القبول بمطالب المقاتلين، والانسحاب من الأراضي الشيشانية، وفي العام نفسه قدم استقالته من رئاسة القوات الشيشانية المسلحة، وخاض تجربة الترشح للانتخابات الرئاسية في بلاده وحصل على نسبة 32.5% من الأصوات ليحل في المرتبة الثانية، وهو ما جعل الرئيس الشيشاني "أصلان مسخادوف" يعينه في منصب رئيس الوزراء، وفي عام (1998م) انتخب رئيسًا لكونجرس (مجلس) الشعبين الشيشاني والداغستاني، وأصبح بموجب قرار من الكونجرس رئيسًا لمجلس الشورى الإسلامي.
عدو موسكو الأول
شامل باسييف
شكلت الفترة من (1999 - 2006) مرحلة تحول فارقة في حياة باساييف ومسيرته الجهادية، حيث شهدت الغزو الروسي الثاني للأراضي الشيشانية والتي تولى باساييف خلاله الدفاع عن منطقة بوتليخ، ثم عاد إلى الشيشان مرة أخرى؛ ليصبح القائد الفعلي للمقاتلين.
وقد تمكن باسييف من نقل المعركة إلى داخل الأراضي الروسية حين قام مجموعة من أتباعه باحتجاز رهائن داخل أحد المسارح في روسيا عام (2001م) والتي انتهت نهاية دموية على يد قوات الأمن الروسية وأسفرت عن مقتل الخاطفين، وعدد كبير من الرهائن وهو نفس السيناريو الذي تكرر فيما بعد في مدرسة بيسلان التي احتجز الشيشانيون فيها عددًا من الرهائن.
وقد أعلن باساييف في العام نفسه مسئوليته عن اغتيال الرئيس الشيشاني الموالي لموسكو أحمد قاديروف بقنبلة وضعت أسفل مقصورته في إستاد العاصمة جروزني في التاسع من مايو 2004، ونتيجة لهذه العمليات وغيرها أصبح باساييف عدو موسكو الأول وأحد أبرز المطلوبين من قبل القوات الروسية والتي سعت إلى اغتياله عدة مرات، خاصة بعد تمكنها من تصفية رفاقه من القادة الشيشانيين: يندر باييف وخطاب وأصلان مسخادوف وعبد الحليم سعيدولاييف.(/1)
كان باساييف أحد أكثر القادة الشيشانيين راديكالية فيما يتعلق بقضية استقلال بلاده وانفصالها عن روسيا، كما كان أكثرهم عنفًا فيما يتعلق بقتال الروس، فلم يخفِ نيته في استعمال أسلحة دمار شامل ضد روسيا إذا أتيح له الحصول عليها، كما عبّر في أكثر من مناسبة عن رؤيته -أو حلمه- بتأسيس دولة "خلافة إسلامية" تجمع بلاده وكافة الجمهوريات الإسلامية في القوقاز التي خضعت سابقًا للحكم السوفيتي وتمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين، كما أعرب في حوارات صحفية أجريت معه عن رفضه التام لنمط الديمقراطية الغربية التي تحاول روسيا فرضها في الشيشان والتي وصفها بأنها "ديمقراطية تأتي على أسنة الحراب"، وكان يرى أن الحل الوحيد للقضية الشيشانية هو "بمواصلة الجهاد".
موعد مع الشهادة
في 10-7-2006 أعلن التلفاز الروسي عن مقتل شامل باساييف فيما أسماه "عملية أمنية"، وبث مشاهد لسيارات متفحمة وصورًا لجثة باساييف الذي قال إنه قتل في انفجار شاحنة خلال تواجده في جمهورية أنجوشيا المجاورة للشيشان، وزعمت السلطات الأنجوشية أن جثة باساييف تم التعرف عليها؛ لأن وجهه لم يصب في الانفجار الذي مزق جسده كما قتل ثلاثة من رفاقه في الانفجار، وقد اعترف بيان للمقاتلين الشيشان بمقتل باساييف، وقالوا إن شاحنة تحمل عبوات ناسفة انفجرت لدى مرور سيارة كانت تقل باساييف ورفاقه على الطريق.
مسيرة الصراع الروسي - الشيشاني تؤكد أن الجهاد الشيشاني لا يتوقف بمقتل قادته فهو جهاد ممتد من القرن الثامن عشر، وظل مستمرًّا رغم مقتل أهم قياداته، وهو ما يؤكده الشيشانيون في نشيدهم الوطني الذي يرددونه يوميًّا:
"لقد ولدنا في جوف الليل والذئب يعوي
وفي الصباح وبينما الأسود تزمجر
منحنا أسماءنا
لا إله إلا الله
وفى أعشاش النسور أرضعتنا أمهاتنا
علمنا آباؤنا.. ترويض فحول الخيل
تنصهر أحجار الجرانيت وتستحيل رصاصًا
قبل أن نفقد نبلنا والكفاح
لا إله إلا الله
تتصدع الأرض وتذوب في الشمس الحارقة
قبل أن نظهر للعالم بدون شرفنا
لا إله إلا الله
لن نخضع لأحد أبدًا
الحرية أو الموت
الطريق الوحيد الذي اخترناه
لا إله إلا الله
إذا نال منا الجوع.. أكلنا جذور النباتات
وإذا عطشنا شربنا من عصير الحشائش
لقد ولدنا في الليل والذئب يعوي
الله والأمة والوطن.. لهم وهبنا أنفسنا
لا إله إلا الله
نذرنا أنفسنا لله وللشعب والوطن والأرض إذا احتاجوا إلينا
سوف نلبي النداء بشجاعة"
________________________________________
* من أسرة ثقافة وفن بموقع "إسلام أون لاين.ن(/2)
باقة ورد ونسرين مهداة لكل عروسين
دار الوطن
الحمد لله الذي خلق من كل شيء زوجين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة إلى الثقلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فما أسعدنا في هذا اليوم المبارك، وفي هذا العرس الطيب الزكي، حيث جمع الله تعالى فيه بين زوجين، وألف فيه بين قلبين، وقرب بين بعيدين، وقرن فيه مسلماً بمسلمة، بطريق شرعي حلال، على كتاب الله تعالى، وعلى سنة رسول الله .
فبارك الله للعروسين
وبارك عليهما
وجمع بينهما في خير
وإنه لمن دواعي السرور والفرح، ما نراه من إقبال الشباب المسلم على الزواج، رغم ما يلاقونه من المصاعب، وكثرة التكاليف التي تطلب منهم، وما ذاك إلا رغبتهم في طلب الحلال، وإعفاف أنفسهم، وحرصهم على تكوين بيتٍ مسلمٍ جديدٍ، يكون لبنة في بناء المجتمع بل الأمة الإسلامية كلها.
1- فالزواج من هدي الأنبياء والمرسلين، ومن كرهه ورغب عنه فقد خالف السنة وفارق هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
قال النبي : { أما والله إن لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني } [متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: { حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة } [النسائي وأحمد وصححه الألباني].
2- والزواج استجابة لنداء الخالق جل وعلا بقوله: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].
3- والزواج نداء الفطرة، فمن تركه إلى غيره فقد خالف الفطرة ومن خالف الفطرة فهو على شفا هلكة فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [الروم:30].
4- والزواج من أعظم نعم الله على عباده، فهو طريق المودة، وسبيل السعادة، وعنوان الاستقرار، ومجال الرحمة قال تعالى: ومن آياته أن خلف لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون [الروم:21].
5- والزواج هو الطريق الشرعي الحلال لقضاء الوطر وتصريف الشهوة، قال تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [المؤمنون:5-7].
فأين الشباب المسلم التقي؟
أين أحفاد خالد وعلي؟
أين الذين هم على صلاتهم دائمون؟
ذهب الأبطال وبقى كل بطال!!
6- والزواج عصمة للشاب والشابة من الفتن والانحراف، والفسق والفجور، ولذا حث النبي الشباب على الزواج بقوله: { يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء } [متفق عليه].
7- والزواج طريق سهل، وسبيل ميسرة لاكتساب الأجر والمثوبة من الله بغير تعب ولانصب، فقد أخبر النبي أن خير الإنفاق هو الإنفاق على الزوجة والعيال، قال عليه الصلاة والسلام: { دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلهم الدينار الذي أنفقته على أهلك } [رواه مسلم].
وقال النبي لسعد بن أبي وقاص: { وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيْ امرأتك } [متفق عليه].
وأعظم من ذلك أن للزوج والزوجة أجراً بالجماع والمتعة، قال النبي : { وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أ كان عليه فيها وِزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرُ } [رواه مسلم].
8- والزواج الناجح هو ما كان مبنياً على أسسٍ شرعية سليمة، ومن أعظم تلك الأسس: اشتراط الدين في الزوج والزوجة.
ففي الزوج قال النبي : { إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } [الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني].
قال رجل للحسن: ممن أزوج ابنتي؟ قال: ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
فصاحب الدين لا يظلم إذا غضب، ولا يهجر بغير سبب، ولا يسيء معاملة زوجته، ولا يكون سبباً في فتنة أهله، عن طريق إدخال المنكرات وآلات اللهو في البيت، بل يعمل بقول النبي : { خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي } [رواه ابن ماجه].
فينبغي لولي المرأة أن ينظر في دين الرجل وأخلاقه، لأن المرأة تصير بالنكاح مرقوقة، ومتى زوجها وليها من فاسق أو مبتدع، فقد جنى عليها وعلى نفسه.
وفي لقيام الزوجة قال النبي صلى عليه وسلم: { تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينا، فأظفر بذات الدين تربت يداك } [رواه مسلم].(/1)
فصاحبة الدين تطيع زوجها في غير معصية، وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب، ولا تهجر فراش الزوجية، ولا تخرج من بيتها بغير علم زوجها، ولا تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيتها لأحد لا يريده، قال النبي : { لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه } [متفق عليه].
* وهناك خصال إذا اجتمعت في المرأة كمل أمرها وكثر خطابها وهي:
• الدين. • حسن الخلق. • الجمال. • خفة المهر. • أن تكون بكراً. • أن تكون ولوداً. • أن تكون ذات نسب.
9- والزواج قوة للأمة، وتجديد لشبابها، وإرهاب لأعدائها، لأنه وسيلة لتكثير الأمة وإعمار الأرض، ولذلك رغب النبي صلى عليه وسلم في التزوج من المرأة الولود فقال عليه الصلاة والسلام: { تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة } [رواه أبو داود والنسائي وأحمد].
10- والزواج يتم التعارف والتلاقي بين الأسر والعائلات، فتنشر المحبة والألفة بين المسلمين، قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
وقد كانت كثير من القبائل متعادية متحاربة، فلما تم الزواج بينها زالت العداوة وذهبت البغضاء، وحلت مكانها المحبة والألفة والرحمة والتعاون.
نصائح إلى الزوج
* أخي الزوج:
1. اتق الله في زوجتك فإنها أمانة في عنقك سوف يسألك الله عنها يوم القيامة، قال النبي : { استوصوا بالنساء خيراً } [متفق عليه]، وقد حذر النبي من ظلم المرأة فقال عليه الصلاة والسلام: { اللهم إن أحرج حق الضعفين: اليتيم والمرأة } [رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن].
2. كن حسن الخلق كريم الطبع، فلا تشتم ولا تقبح ولا تهجر، قال النبي : { لا يقرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر } [رواه مسلم] معنى يفرك: يبغض.
3. كن صبوراً حسن العشرة، فخيركم من راعى وداد لحظة.
4. كن غيوراً على زوجتك ولا تبالغ في إساءة الظن، فقد قال النبي : { أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنها أغير منه، والله أغير مني } [رواه مسلم].
5. كن حكيماً في التعامل مع الأخطاء والزلات؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
6. أنفق على زوجتك بالمعروف ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً [الإسراء:29].
وسئل النبي : ما حق الزوجة على أحدنا؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: { أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت } [رواه أحمد وأبو داود].
7. تعلم من فقه النساء ما تعرف به كيفية معاشرة زوجتك حال الحيض والنفاس، وعلم زوجتك هذه الأحكام إن كانت تجهلها.
8. أعلم أنه لا يجوز وطء الحائض، ولا الوطء في الدبر، وللرجل الاستمتاع بزوجته حال الحيض إلا بالجماع فإنه محرم.
9. من آداب الجماع: البدء بالتسمية، وبالملاعبة والضم والتقبيل قبل الجماع فإنه أوفق للمرأة والرجل، وإذا قضى الرجل وطره فليتمهل، فإن لزوجته حقاً، ومن أراد معاودة الجماع فليغسل فرجه ويتوضأ.
10. إياك وإفشاء أسرار الزوجية، قال النبي : { إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها } [رواه مسلم].
* وقيل لبعض الصالحين وقد أراد طلاق زوجته: ما الذي يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سرا. فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري!!
نصائح إلى العروس
أختي العروس:
للزوج على زوجته أعظم الحقوق بعد الله ورسوله ، وفي ذلك يقول النبي : { لو جاز لأحدٍ أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها } [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح]، وذلك لعظم حقه عليها.
فيا أختاه:
1. عليكِ بالقناعة والرضا بالقليل، فقد كانت بعض نساء السلف إذا أراد زوجها الخروج من منزله تقول له: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار!!.
2. إياكِ ومعصية زوجك ورفع الصوت عليه وشكايته إلى أهلك دائماً، فقد قال النبي لامرأة: { أين أنت من زوجك، فإنما هو جنتك ونارك } [رواه النسائي وأحمد وحسنه الألباني].
أختي العروس:
أين من تأمر زوجها بالتقوى وتعينه؟
أين من لا تغضب زوجها ولا تهينه؟
أين العابدات القانتات؟
أين الراكعات الساجدات؟
أين حفيدات أمهات المؤمنات؟
3. لا تطلبي من زوجك خادمة شابة، فقد تكون سبباً في طلاقك!!.
4. أعلمي أن حق الزوج مقدم على جميع الأقارب، فإذا تعارضت الحقوق، فقدمي حق الزوج ولا تبالي.
5. احفظي زوجك في ماله، ولا تخرجي شيئاً من البيت دون علمه، فإن تصدقت من ماله عن رضاه، كان لك مثل أجره، وإن كان بغير رضاه، كان له الأجر وعليك الوزر.
6. إياك وجارات السوء، وصديقات السوء، اللاتي يثرنك على زوجك، ويوقعن بينك وبينه، ويقللن من شأنه أمامك.(/2)
7. أصبري على أذى زوجك، وكوني حكيمة في التعامل معه عند الغضب، يحمد لك ذلك عند الرضا، واعلمي أن المشكلات الزوجية لا تكبر إلا بالعناد والمكابرة، فلا تهدمي بيتك بسبب الكبر والعناد.
8. أجيبي زوجك إذا دعاك مهما كانت الظروف، فقد أخبر النبي أن { من دعا امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح } [متفق عليه].
9. لا تصفي أحداً من النساء لزوجك فقد نهى النبي عن ذلك بقوله: { لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها } [متفق عليه].
10. أنت راعية في بيت زوجك ومسئولة عن رعيتك، فمري بالمعروف وأنهي عن المنكر، ولا ترضي بوجود شيء من المنكرات في بيتك، واعلمي أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.
فتاوى في الأفراح والزواجات
حكم تزويج من لا يصلى
س: لقد تقدم لابنتي أحد أقاربي وله فضل عليّ ولكنه مدمن على شرب الخمر ويرافق أهل السوء وقليل الصلاة أو لا يصلي، ومدمن المشاهدة للفيديو والتلفاز آلات اللهو وأنا في حرج منه، أرجو توضيح حكم الإسلام في الأمر؟.
جـ: إذا كان الخاطب لابنتك بهذا الوصف فلا يجوز لك تزويجها إياه، لأنها أمانة لديك، فالواجب عليك أن تختار لها الأصلح في دينه وأخلاقه، والذي لا يصلي لا يجوز أن يزوج بالمسلمة التي تصلي، لأنه ليس كفؤاً لها، لأن ترك الصلاة كفر أكقر لقول النبي : { بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة } [خرجه الإمام مسلم في صحيحه]. وقوله عليه الصلاة والسلام: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر [أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح]، والأدله أخرى كثيرة من الكتاب والسنة تدل على كفر تارك الصلاة وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء. أما إن جحد وجوبها أو استهزأ بها فإنه يكفر كفراً أكبر بإجماع المسلمين.
أما من يتعاطى السكر وهو يصلي فإنه لا يكفر بذلك إذا لم يستحله ولكنه يكون قد أتى كبيرة من الكبائر ويفسق بذلك، فالمشروع لك ألا تزوجه ولو كان يصلي لفسقه، ولأنه قد يجر زوجته وأولاده إلى هذه الجريمة العظيمة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويهديهم صراطه المستقيم، ويعيدنا وإياهم من طاعة الهوى والشيطان، إنه جواد كريم [الشيخ ابن باز].
بعض منكرات الأعراس
س: فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين-حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله بركاته
فضيلة الشيخ، إنه في الآونة الأخيرة وبمناسبة بدء الإجازة الصيفية كثرت الأخطاء في مناسبات الزواج في المنازل أو قصور الأفراح وفي القصور أشد وأقبح: مثل الضرب بمكبر الصوت، والغناء من النساء، والتصوير بالفيديو، والأشد من ذلك الرجل المتزوج يقبل زوجته أمام النساء، فأين الحياء والخوف من الله؟ وعند إسداء النصح من الغيورين على محارم الله يجابهون بالقول: الشيخ الفلاني أفتى بجواز الطبل. فإذا كان هذا صحيحاً أليس لهذا الطبل ضوابط وحدود توضح للناس ليقف عندها هؤلاء المتهورون؟ نرجو من فضيلتكم إيضاح الحق للمسلمين. وجزاكم الله خيراً ونفع بعلمكم، والله يوفقكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جـ: الحق في الدف أيام العرس أنه جائز أو سنة إذا كان في ذلك إعلان النكاح، ولكن بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الضرب بالدف وهو ما يسمى عند بعض الناس بـ(الطار) وهو المختوم من وجه واحد، لأن المختوم من الوجهين يسمى (الطبل) وهو غير جائز، لأنه من آلات العزف، والمعازف كلها حرام إلا ما دل الدليل على حِله وهو الدف حال أيام العرس.
الشرط الثاني: ألا يصحبه محرم كالغناء الهابط المثير للشهوة، فإن هذا ممنوع سواء كان معه دف أم لا، وسواء في أيام العرس أم لا.
الشرط الثالث: ألا يحصل بذلك فتنة كظهور الأصوات الجميلة للرجال، فإن حصل بذلك فتنة كان ممنوعاً.
الشرط الرابع: ألا يكون في ذلك أذية على أحد، فإن كان فيه أذية كان ممنوعاً مثل أن تظهر الأصوات ولا يخلو من فتنة أيضاً، وقد نهى النبي المصلين أن يجهر بعضهم على بعض في القراءة لما في ذلك التشويش والإيذاء فكيف بأصوات الدفوف والغناء؟!
وأما تصوير المشهد بآلة التصوير فلا يشك عاقل في قبحه، ولا يرضى عاقل فضلاً عن مؤمن أن تلتقط صور محارمه من الأمهات والبنات والأخوات والزوجات وغيرهن لتكون سلعة تعرض لكل واحد، أو ألعوبة يتمتع بالنظر إليها كل فاسق.
وأقبح من ذلك تصوير المشهد بواسطة الفيديو لأنه يصور المشهد حياً بالمرأى والمسمع، وهو أمر ينكره كل ذي عقل سليم ودين مستقيم، ولا يتخيل أحد أن يستبيحه من عنده حياء وإيمان.
وأما الرقص من النساء فهو قبيح لا نفتي بجوازه لما بلغنا من الأحداث التي تقع بين النساء سببه، ولا يخفى ما فيه، وأما إن كان أقبح، وهو من تشبه الرجال بالنساء مختلطين كما يفعله بعض السفهاء فهو أعظم وأقبح لما فيه من الاختلاط والفتنة العظيمة لا سيما وأن المناسبة مناسبة نكاح ونشوة عرس.(/3)
وأما ما ذكره السائل من أن الزوج يحضر مجمع النساء ويقبل زوجته أمامهن فإن تعجب فعجب أن يحدث مثل هذا من رجل أنعم الله عليه بنعمة الزواج فقابلها بهذا الفعل المنكر شرعاً وعقلاً ومروءة!!. وكيف يبيح لنفسه أن يقوم بهذا الفعل أمام النساء وفي نشوة العرس الذي هو مثار الشهوة؟! ثم كيف يمكنه أهل الزوجة من ذلك؟! أفلا يخافون أن يشاهد هذا الرجل في مجتمع هؤلاء النساء من هي أجمل من زوجته وأبهى فتسقط زوجته من عينه ويدور في رأسه من التفكير الشيء الكثير، وتكون العاقبة بينه وبين عرسه غير حميدة؟
إنني في ختام جوابي هذا أنصح إخواني المسلمين من القيام بمثل هذه الأعمال السيئة، وأدعوهم إلى القيام بشكر الله على هذه النعمة وغيرها، وأن يتبعوا طريق السلف الصالح فيقتصرا على ما جاءت به السنة، ولا يتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإخواني المسلمين لما يحبه ويرضاه، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [الشيخ ابن عثيمين].
جلوس العروسين بين النساء منكر
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: من الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء يجلس عليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات وربما حضر معه غيره منن اقاربها من الرجال.
ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير وتمكن الرجال الاجانب من مشاهد النساء الفاتنات المتبرجات، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، فالواجب منع ذلك القضاء عليه؛ حسماً لأسباب الفتنة، وصيانة المجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المظهر. وإني أنصح جميع إخواني المسلمين بأن يتقوا الله ويلتزموا شرعه في كل شيء، وأن يحذروا كل ما حرم الله عليهم، وأن يبتعدوا عن أسباب الشر والفساد في الأعراس وغيرها؛ التماساً لرضى الله سبحانه وتعالى، وتجنباً لأسباب سخطه وعقابه [الشيخ ابن باز].
لا يجوز (زف) العريس مع العروسة
س: هل يجوز زف العريس مع العروس بين النساء في الأفراح؟
جـ: لا يجوز هذا الفعل فإنه دليل على نزع الحياء وتقليد لأهل الخنا والشر، بل الأمر واضح؛ فإن العروس تستحي أن تبرز أمام الناس فكيف تزف أمام الأشهاد؟ [الشيخ ابن جبرين].(/4)
بالدَّم القاني
غَضَبُ الأُمَّةِ شافٍ وسريعُ
اثأَري من جُنْدِ إبليسَ انهضي
أُحضُني الرشَّاشَ أو قنبلةً
أرسِلي القسَّامَ صاروخَ لظىً
أَنتِ يا أُمَّةُ حَتْفٌ للعِدى
شُهَداءُ الحقِّ ضاؤوا بالسَّنى
يا شُموعَ النَّصْرِ بل يا شُهُباً
إِيهِ يا «عَبْدَ العزيزِ» المنْتَهَى
بالدَّمِ القانِي تَباشيرُ عُلاً
لم تَمُتْ، يشْهَدُ ربّي، لم تَمُتْ،
قُلْ لِفِئرانِ يهودٍ: عَرْبِدوا
لكنِ الأُسْدُ لهمْ زَمْجَرَةٌ
وصُقورُ البأسِ في مَيْدانِهِم
فِتْيَةُ الإسْلامِ لَنْ تَثْنِيَهُم
ثمنُ الجَنَّةِ مَوْجٌ مِنْ دَمٍ
قُلْ لأَجْنادِ جُيوشٍ ضَجِرُوا
أَيْنَ أنتُمْ؟ أيْنَ دَبَّاباتُكُم؟
حَطِّمُوا أَغْلالَكمْ: هل عِزَّةٌ
مَنْ أَميرُ الجيْشِ فيكُمْ: أَفَتىً
كُلُّ مَظْلومٍ قَضى مُسْتَشْهِداً
قُلْ لِحُكَّامٍ خَنازيرَ، لَهُم
كم رَكَعتُم وسَجَدْتُم خُلَّصاً
يا عبيدَ البوشِ، أَعْداءَ الهُدى
كُلُّ مَنْ صَفَّقَ أو داهَنَكُم
فُقَهاءَ القَصْرِ توبوا قَبْل أَنْ
يا فَتى غَزَّةَ إنْ غادرتَنا
فامْضِ يا «عبد العزيزِ» اليومَ في
أُمةُ الإسْلامِ صاغَتْ ثأرَها:
سنُعيدُ المجْدَ في دوْلَتِنا
فَاهْدُرِي يا رايةً في ظِلِّها ...
- - -
- - -
- - -
- - -
- - -
... فأعِدِّي وأَعِدّي يا جُموعُ
بهتافِ النصرِ نَتْلوهُ، نُذيعُ
واضرِبي، لا حصنَ ذا اليومَ، منيعُ
يُنْذِرُ الكُفَّارَ : فِرُّوا، لا شَفيعُ
أَنْتِ دِرْعُ المجدِ إنْ قَلَّتْ دُروعُ
وأضاؤوا ما السُّهى لا تستطيعُ
فَجَّرَتْ فَجْراً لهُ البَغْيُ يَرُوعُ
جَنَّةُ الخُلْدِ ومثواكَ الرَّفيعُ
تَعْجَزُ النُّوَّحُ عنهُ والدّموعُ
يَشْهَدُ المِسْكُ الذي منكَ يَضوعُ
غَفِلَ القِطُّ ووافاهُ الخُنوعُ
أَقْسَمَ الشَّيْخُ عليها والرَّضيعُ
لَنْ يَهابُوا، كيْفَما صُبَّ النَّجيعُ
صَوْلَةُ الظُّلْمِ ولو فُتَّتْ ضُلوعُ
وارتَضى الأبْرارُ صِدْقاً أنْ يبيعُوا
من مَنامٍ كُلُّ ما فيهِ خُضوعُ
نَبَتَ الشَّوْكُ عليْها والرَّبيعُ
أنْ يَصوغَ الأَمْرَ بوشٌ فَتُطيعُوا؟
فارِسٌ أمْ حَمَلٌ "غِرٌّ" وَديعُ؟
صاحَ: خُذْ ثأريَ منهمْ يا سميعُ
خِسَّةُ القِرْدِ: لَقَدْ طالَ الرُّكوعُ
لإمامِ الغَرْبِ، يَحْدوكُمْ خُشوعُ
غَضَبي آتٍ، لهُ وَجْهٌ شنيعُ
سيُداسُ الغَدَ، والثَّأرُ بديعُ
يُغْلَقَ البابُ ولا يُجْدِي الرُّجوعُ
فَسَيَبْقى الأصلُ تَحْميهِ الفُروعُ
رِفْقَةِ اثْنَيْنِ، وللروحِ طُلوعُ
«دَفْنَ إِسرائيلَ»، بل هذا وضيعُ
دوْلَةِ القُرْآنِ، والفَجْرُ يَشيعُ
يُقْلَعُ الكُفْرُ وتُجْتَثُّ الجُذوعُ قرآن كريم
أيمن القادري(/1)
بالرأي الآخر نبدأ.. تعدد الزوجات
مفكرة الإسلام : قال أحدهم: بينما كنت أتحدث مع أختي حول موضوع التعدد إذا بها تفاجئني قائلة: 'إنني أتمنى أن يدرك الموت زوجي قبل أن يحاول الزواج عليّ من امرأة أخرى'.
وقالت إحداهن: 'عرض عليّ زوجي أنه يريد الزواج بثانية فقلتُ له: طلقني ثم تزوج الثانية وافعل ما تشاء'.
عزيزي القارئ..
حقيقة ليس من الحكمة التصادم معها أو محاولة تغييرها, وهذه الحقيقة هي: أنه ما من امرأة في الدنيا تحب أو ترغب في أن يتزوج زوجها بامرأة أخرى وهي في عصمته, بل هي في الغالب ربما تفضل أن يفارقها زوجها بالطلاق ولا يتزوج عليها, وتلك طبيعة نسائية ينبغي التسليم بها والتعامل معها بواقعية.
ولا يسعد المرأة بالطبع أن يفكر زوجها في غيرها, والمرأة عمومًا تود لو ظل زوجها في قفصها وأن تكون هي وحدها التي تملك مفتاح هذا القفص.
بالرأي الآخر نبدأ:
ولا أريد أن أبدأ بعرض رأي الشرع في هذا الموضوع, ولكنني سأبدأ بعرض وجهة النظر الأخرى من أقوال بعض مفكري الغرب وعلمائهم؛ عملاً بالحكمة القائلة: 'والرأي ما شهدت به الأعداء'.
يقول الدكتور غوستاف لوبون: 'إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب, يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به, ويزيد الأسرة ارتباطًا, ويمنح المرأة احترامًا وسعادة لا تراها في أوروبا'.
وقال المستشرق فونس إيتين ديبه في كتابه 'محمد رسول الله': 'فالواقع يشهد أن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم، وسوف يظل موجودًا ما وُجد العالم, مهما تشددت القوانين في تحريمه... وتعدد الزوجات قانون طبيعي سيبقي ما بقي العالم, ومع أن نظرية التوحيد في الزوجة - وهي النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهرًا - تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء, تلك هي: الدعارة, والعوانس من النساء, والأبناء غير الشرعيين'.
وقال مك فارلين: 'إذا نظرنا إلى تعدد الزوجات في الإسلام من الناحية الاجتماعية أو الأخلاقية أو المذهبية، فهو لا يُعد مخالفًا بحال من الأحوال لأرقى أسلوب من أساليب الحضارة والمدنية, بل هو علاج عملي لمشاكل النساء البائسات والبغاء, واتخاذ المحظيات ونمو عدد العوانس على الاستمرار في المدنية الغربية بأوروبا وأمريكا'..
ونشرت جريدة لاغويس ويكللي وكورد بتاريخ 20/4/1909م نقلاً عن جريدة 'لندن تروث' مقالاً لإحدى السيدات الإنجليزيات جاء فيه: 'لقد كثرت الشاردات من بناتنا وعم البلاء، وقل الباحثون عن أسباب ذلك، وإذا كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا... إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد, وقذف بهن إلى التماس إهمال الرجل, ولابد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة... فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون, ولسلم عرضهن وعرض أولادهن... إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين'.
وغير هؤلاء كثير خلصوا بهذه النتائج من الواقع المر الذي عاشوه بعيدًا عن شرع الله, فكانت هذه الكلمات، وقد أغنانا الله عن نظام التجربة والخطأ وشرع لنا شرعًا مبينًا.
هل الأصل في الزواج التعدد أم الإفراد؟!
سؤال يطرح نفسه أجاب عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقال:
الأصل في ذلك شرعية التعدد لمن استطاع ذلك ولم يخَفِ الجور؛ لما في ذلك من المصالح الكثيرة في عفة فرجه وعفة من يتزوجهن والإحسان إليهن وتكثير النسل الذي به تكثر الأمة ويكثر من يعبد الله وحده, ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا}.
ولأنه صلى الله عليه وسلم تزوّج أكثر من واحدة, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}, وقال صلى الله عليه وسلم لما قال بعض الصحابة: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال آخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال آخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر, وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء, فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: 'إنه بلغني كذا وكذا, ولكني أصوم وأفطر, وأصلي وأنام, وآكل اللحم وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني', وهذا اللفظ 'النساء' منه صلى الله عليه وسلم يعم الواحدة والعدد, والله ولى التوفيق.(/1)
بالله عليكَ لا تخذله
مفكرة الإسلام:
أخي الحبيب تفكر قليلا في هذا الموقف ......
الرسول صلى الله عليه وسلم ممدّد على فراش الموت, ويقف حوله زوجاته أمهات المؤمنين وبعض من صحابته وهو يصارع سكرات الموت, بأبي هو وأمي..
يفيق قليلاً ويغشى عليه أكثر..
ثم يتكلم بكلمات قليلة هي وصيته الأخيرة.. هل تعلم بماذا أوصى أصحابه وأتباعه؟!
أوصاهم بالصلاة.. فقال صلى الله عليه وسلم: 'الصلاة.. الصلاة.. وما ملكت أيمانكم'.
من حضر منكم موت أحد أقاربه ورآه وهو يوصي أبناءه, ثم رأى بعدها همتهم في تنفيذ هذه الوصية, لَعَلِم مقصدي من هذا العنوان 'لا تخذله'..
فإذا كانت هذه همتنا في تنفيذ وصية أقاربنا, فمن العار علينا أن نخذل من هو أحب إلينا من أقاربنا..
أخي الحبيب.. حين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالمحافظة على الصلاة, كان يدرك أهمية هذه الوصية في عصره وفي كل العصور.
فالصلاة -كما نعلم جميعًا- هي الركن الثاني في الإسلام؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: 'بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة...'.
وهي أيضًا أول ما تحاسب عليه يوم القيامة, قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة عن الصلاة، فإن صلحت، صلح سائر عمله، وإن فسدت، فسد سائر عمله'. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخبرنا أن أي عمل يصبح عديم القيمة لصاحبه إن لم يكن محافظًا على الصلاة.
ولذلك أخي الحبيب كان الخطاب بالمحافظة على الصلاة موجه لجميع أفراد الأمة, من أعلم علمائها إلى أكثرها بعدًا عن الله, ولكن على اختلاف لغة الخطاب.
أما الذي يشترك فيه الجميع هو معرفة الأهمية الكبرى للصلاة في حياة المسلم اليومية, وهذا الذي سوف نركّز عليه في لقائنا هذا بإذن الله تعالى, وعلى كل فرد أن يأخذ من هذا الكلام ما يناسبه, وأيًا كانت شخصيتك عالمًا أو داعية, ملتزمًا أو مفرطًا, أطلب منك طلبًا بسيطًا بعد قراءتك لهذا الكلام..
سلْ نفسك سؤالاً صريحًا: ألا تستحق الصلاة مني مزيدًا من الاهتمام؟!
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. هل يبقى من درنه شيء؟!' قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: 'فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا'.
وهذه من أعظم فوائد الصلاة, أنها تمحو الخطايا إذا تم اجتناب الكبائر, فتخيل نفسك وقد قبضك الله بعد صلاة مكتوبة تقبّلها منك ولست من أصحاب الكبائر, فتقابله وما عليك خطيئة.
* يقول الله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت 45].
فمن يُقِم صلاته فسوف تنهاه عن المعاصي؛ لأنك ستذكّر نفسك دائمًا إذا هممت بمعصية: 'اتق الله الذي كنت واقفًا بين يديه منذ قليل'.
* سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله فقال: 'الصلاة على وقتها'.
* قال ابن القيم رحمه الله:
'الصلاة: مجلبة للرزق.. حافظة للصحة.. دافعة للأذى.. طاردة للأدواء.. مقوية للقلب.. مبيّضة للوجه.. مفرحة للنفس.. مذهبة للكسل.. منشطة للجوارح.. ممدة للقوى.. شارحة للصدر.. مغذية للروح.. منورة للقلب.. حافظة للنعمة.. دافعة للنقمة.. جالبة للبركة.. مبعدة من الشيطان.. مقربة من الرحمن'.
أخي الحبيب
أعلم أن هذه ليست المرة الأولى التي تسمع فيه هذا الكلام ...
ولكن الله عز وجل يقول { وذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين }
* وأخيرًا أخي الحبيب, فإن كان قلبك ما زال ينبض بحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تعلم أن آخر وصاياه إليك هي المحافظة على الصلاة.. فبالله عليك لا تخذله!!(/1)
بحث مختصر في دليل و تعليل جواز رمي الجمار قبل الزوال
عبدالله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء 5/12/1426
05/01/2006
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه وبعد فهذه ورقة مختصرة في النظر في حكم رمي الجمار قبل الزوال والله المستعان .
من المعلوم لدى جمهور أهل العلم أن وجوب رمي الجمار مما لا خلاف فيه بين أهل العلم وأنه أحد واجبات الحج، وأنه لا يسقط عن الحاج بالعجز عن أدائه بعد قيام وجوبه عليه مهما كانت حاله سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا ذكرًا أم أنثى مريضا أم صحيحا.
وأن النيابة عن العاجز بالرمي جائزة إذا كان العجز ثابتا غير مدعي .
وأن الرمي عبادة لها وقتها المحدد للرمي فيها .
وأن وقت رمي جمرة العقبة يوم العيد يبدء من جواز الدفع من مزدلفة ليلة جمع إلى غروب الشمس.
وفي جواز رمي جمرة العقبة- ليلة اليوم الحادي عشر من أيام التشريق – خلاف بين أهل العلم والقول بجوازه قول قوي عليه العمل وبه الفتوى .
وأن العلماء مجمعون - إلا من شذ - على أن رمي الجمار أيام التشريق بعد الزوال هو ما تبرأ به الذمة وتطمئن به النفس خروجا من الخلاف في ذلك ؛ وهو أفضل وقت للرمي .
وأن رميَ الجمار ليالي أيام التشريق قول لبعض أهل العلم صدر بالأخذ به قرار مجلس هيئة كبار العلماء فصار الإفتاء به والعمل عليه وتحقق به التيسير على حجاج بيت الله الحرام، ومن مستندْ الأخذ به التيسير ورفع الحرج ودفع المشقة.
وموضوع الجلسة النظر في توسيع وقت رمي الجمار أيام التشريق ليكون وقت الرمي لكل يوم منها كاملَ النهار مع كاملِ ليله .
لا يخفى أن جمهور أهل العلم لا يرون جواز رمي الجمار أيام التشريق إلا بعد الزوال إلى الليل وأن الرمي قبل الزوال لا يجزئ ومن اكتفى به فعليه دم ودليل ذلك فعله صلى الله عليه وسلم وقوله:(خذوا عني منا سككم).
وهناك من أهل العلم من قال بجواز الرمي قبل الزوال لأن يوم العيد وأيام التشريق كلها وقت للرمي وأن الأفضل والأتم الرميُ بعد الزوال. قال بهذا القول من العلماء عطاء وطاووس وابو حنيفة وهو رواية عن أحمد في يوم النفر الأول وقال به اسحاق ومحمد الباقر وجزم به الرافعي وحققه الأسنوي وقال به ابن الجوزي وابن عقيل من الحنابلة وقولهم هذا يرد دعوى الإجماع على منع الرمي قبل الزوال.
واستُدِلَّ على قولهم بما يلي :
أولا : ليس في كتاب الله تعالى ، ولا في سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قول صريح في تحديد وقت الرمي بدءًا من الزوال ، وليس فيهما نص صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال. والاحتجاج على منع الرمي قبل الزوال بفعله صلى الله عليه وسلم وقوله : خذوا عني مناسككم غير ظاهر. فكثير من أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج هي على سبيل الاستحباب . وكلام علماء الأصول في تكييف فعله صلى الله عليه وسلم من حيث الوجوب أو الاستحباب أو الاباحة معلوم ومذكور في موضعه من كتب الأصول وأن مجرد الفعل لا يقتضي شيئا من ذلك وكثير من أفعاله صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج كانت على سبيل الاستحباب ولم يحتج أحد على وجوبها بقوله صلى الله عليه وسلم : (خذوا عني مناسككم ).
ثانيا : صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص للرِعَاء والسقاة برمي جمار اليومين من أيام التشريق متقدما أو متأخرًا ؛ ولم ينههم صلى الله عليه وسلم عن الرمي قبل الزوال . وتأخير البيان عن وقت الحاجة منزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : ذكر مجموعة من أهل العلم أن للحاج تأخير رمي جماره إلى آخر يوم من أيام التشريق فيرميها مرتبة على الأيام السابقة وذكروا من تعليل ذلك أن أيام التشريق مع يوم العيد وقت واحد للرمي ، وأن الرميَ آخرَ يوم لجميع أيام التشريق رميُ أداء لا رميَ قضاء واستدلوا على جواز ذلك بترخيصه صلى الله عليه وسلم للرِعاء والسقاة بتقديم الرمي أو تأخيره . ولا يخفى أن غالب العبادات لها أوقات تؤدي فيها ومن ذلك الصلاة . ومن أوقات الصلاة ما يكون أوله وقتَ اختيار وآخرهُ وقتَ اضطرار كوقت الفجر ووقت العصر ووقت العشاء . وأداء الصلاة في أول وقتها أو في آخره سواء أكان ذلك في وقت الاختيار أم في وقت الاضطرار يعتبر أداءً لا قضاءً . وقد قال بعض أهل العلم في تعليل القول بجواز الرمي قبل الزوال . بأن وقت الرمي بعضه وقت اختيار وذلك من زوال الشمس إلى غروبها وبعضه وقت اضطرار وهو بقية اليوم بما في ذلك ليله .
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن الصلاة في وقتها الاضطراري جائزة وتعتبر أداءً لا قضاءً مع الأثم في التأخير بلا عذر . فقياس وقت الرمي على وقت الصلاة من حيث الاختيار والاضطرار قياس وارد . وقد قال بهذا بعض أهل العلم في تعليل أن كامل الرمي آخر يوم من أيام التشريق رمي أداء لا رمي قضاء ومجموعة من أهل العلم قالوا بأن كامل يوم العيد وأيام التشريق وقت واحد للرمي .(/1)
كما قالوا بأن الرمي نسك واحد من تركه أو ترك بعضه فعليه دم واحد. وأن الرمي عبادة واحدة لا تتعدد بتعدد الجمار ولا بتعدد أيام الرمي .
ولا تُعرف عبادةٌ مؤقتة بوقت لا يجوز فعلها في بعضه.
رابعا: الترخيص للرعاء والسقاة في تقديم رميهم أو تأخيره ومبعثه رفع الحرج ودفع المشقة والأخذ بالتيسير. ولا شك أن المقارنة بين المشقة الحاصلة على الرعاء والسقاة في تكليفهم برمي جمارهم مع الحجاج أيام التشريق وبين ما يحصل عليه الحجاج في عصرنا الحاضر من المشقة البالغة والازدحام المميت المقارنة بين الصنفين مقارنة مع مضاعفة الأثر في الأخير ولئن حصل الترخيص للرعاء والسقاة بجواز تقديم رميهم أو تأخيره لدفع المشقة ورفع الحرج فإن الترخيص بتوسعة الوقت للحجاج تؤكد جوازَه الازدحاماتُ المميتة والله يقول : (وما جعل عليكم في الدين من حرج ). ومن القواعد الشرعية : المشقة تجلب التيسير . احتمال أدنى الضررين لتفويت أعلاهما، الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الفردية ، إذا ضاق الأمر اتسع .
خامسا: الخلاف في حكم الرمي في الليل أقوى من الخلاف في حكم الرمي قبل الزوال . ومع ذلك صدر قرار هيئة كبار العلماء بجواز الرمي في الليل إلى طلوع الفجر وذلك لرفع الحرج ودفع المشقة والأخذ بالتيسير مع أن القول بعدم جواز الرمي في الليل قول جمهور أهل العلم .ولكن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والظروف فصدرت الفتوى بجواز ذلك .
سادسا: لا نظن وجود منازع ينازع في أن رمي الجمار في عصرنا الحاضر فيه من المشقة وتعريض النفس للهلاك ما الله به عليم . ولا يخفى أن الاضطرار يبيح للمسلم تناول المحرم لدفع هلاك النفس غير باغٍ ولا عادٍ. فالاحتجاج على الجواز بالاضطرار متجه . بل إن الحاجة المُلِحَّة قد تكون سببا لجواز الممنوع كجمع صلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء جمع تقديم أو تأخير لمطر أو برد أو مرض أو غير ذلك من الأسباب المعتبرة وهذه الأسباب المسوغة لذلك أضعف من أسباب جواز الرمي قبل الزوال في عصورنا الحاضرة.
سابعا: جاء عن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله رواية من الشيخ عبدالله بن عقيل في كتابه :"الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة "في معرض تعليق الشيخ عبدالرحمن على رسالة الشيخ عبدالله بن محمود رحمه الله في حكم الرمي قبل الزوال . قال الشيخ عبدالرحمن ما نصه :
( ويمكن الاستدلال عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما كثرت عليه الأسئلة من سأل عن التقديم والتأخير والترتيب (إفعل ولا حرج ) .
وأحسن من هذا الاستدلال الاستدلال بحديث ابن عباس المذكور حيث قال له رجل رميت بعدما أمسيت قال : (افعل ولا حرج ).
ووجه ذلك أنه يحتمل أن قوله بعد ما أمسيت أي بعدما زال الزوال لأنه يسمى مساءً . ويحتمل أن يكون بعد ما استحكم المساء وغابت الشمس فيكون فيه دلالة على جوازه بالليل . ودليل أيضا على جوازه قبل الزوال؛ لأن السؤال عن جواز الرخصة في الرمي بعد المساء كالمتقرر عندهم جوازه في جميع اليوم بل ظاهر حال السائل تدل على أن الرمي قبل الزوال هو الذي بخاطره وإنما أشكل عليه الرمي بعد الزوال فلذلك سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
- وذكر رحمه الله دليلا آخر حيث قال - : إن أيام التشريق كلها ليلها ونهارها أيام أكل وشرب وذكر لله. وكلها أوقات ذبح ليلها ونهارها . وكلها على القول الصحيح أوقات حلق. وكلها يتعلق بها على القول المختار طواف الحج وسعيه في حق غير المعذور وإنما يتفاوت بعض هذه المسائل في الفضيلة فكذلك الرمي . - وقال - وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على تعيين الوقت بل على فضيلته فقط .- وذكر رحمه الله ما نقله صاحب الإنصاف عن ابن الجوزي وعن ابن عقيل في الواضح جواز ذلك قبل الزوال في الأيام الثلاثة .- ثم ختم تعليقه رحمه الله بقوله : فأنت إذا وازنت بين استدلال صاحب الرسالة واستدلال الجمهور رأيتها متقاربة إن لم تقل : تكاد أدلته تُرَجِّح . اهـ ص (342-344).
وغني عن البيان القول بأن للقول وبالقول بجواز الرمي قبل الزوال سلف من العلماء وتبرير معتبر لهذا القول وليس في القول به مصادمة لنص صريح من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو شذوذ في القول به.
ونظرًَا إلى أن الاضطرار يقوى ويتأكد في اليوم الأول من يومي النفر وأن قاعدة الترخيص للاضطرار مشروطة بالاقتصار على تغطية الحاجة الدافعة للاضطرار فأرى جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الأول لكون هذا القول متفقا مع قدر الضرورة والاقتصار عليه. كما أنه متفق مع قول بعض القائلين بجواز الرمي قبل الزوال وتقييدهم ذلك باليوم الأول للنفرة .
هذا ما تيسر القول به مع ذكر دليله وتعليله والله المستعان .(/2)
بحر المودة
يتناول الدرس موضوعا حيويا وهو المحبة بين الزوجين شارحا معناها ومبينا سرها وموضحا حقيقة الحب بين الزوجين وبعض الأفكار الخاطئة عن الحب ثم يتناول المودة في بيت النبوة صلى الله عليه وسلم وصورها، ثم يعرج على مظاهر غياب المودة بين الزوجين ثم بين أن الحب بين الزوجين يحتاج إلى وقت وتأسيس، ثم وصية للزوجين .
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
ما هي المودة ؟ هي الحب والمحبة، وإن كانت المودة أعم وأوسع . والحب الذي أعنيه هو:المودة بين الزوجين التي أخبر الله عنها، فقال:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[21]{ “سورة الروم” قال جمع من المفسرين:إن المودة: هي المحبة. وروي عن ابن عباس أنه قال: المودة: حب الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء .
سر السعادة الزوجية: أن يقوم البيت على محبة الله وطاعته، الذي بيده وحده أن يوفق ويبارك، ويجمع بين هذين القلبين . فطاعة الله لها أثر كبير في الألفة والمحبة بين الزوجين، والمعصية لها أثر عجيب في كثرة المشاكل والخلاف، وعدم الوفاق بين الزوجين، ويكفي في هذا قول الحق:} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30]{ “سورة القصص” قال ابن القيم رحمه الله:' وأما محبة الزوجات، فلا لوم على المحب فيها، بل هي من كماله- أي: من كمال محبة الله- وقد امتن سبحانه بها على عباده، فقال:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[21]{ “سورة الروم” فجعل المرأة سكناً للرجل؛ يسكن قلبه إليها، وجعل بينهما خالص الحب وهو المودة المقرونة بالرحمة'.
وقسم ابن القيم المحبة إلى قسمين: محبة نافعة، و محبة ضارة وقال:' فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله؛ فلا تطمع نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها فلا تطمع نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوي؛ كان هذا المقصود أتم وأكمل...' .
من أسباب طرح هذا الموضوع:
أولاً: لقد تأملت أحوال الأزواج من خلال أسئلتهم، وعرض مشاكلهم الحياتية، فلاحظت خلال الحوار أن هناك أمراً عليه مدار أكثر المشاكل الزوجية إن لم يكن كلها، ألا وهو: المودة والمحبة بين الزوجين، ولقد توصلت إلى أن غياب هذا الأمر أو فتوره؛ سبب رئيس للفتور والملل في الحياة الزوجية، ويزيد الأمر علة: أننا نعيش عصر جنون الإعلام في وسائله، وسعار الجنس، والشهوة، وأفلام العشق والحب والغرام.
ثانياً: الجفاف العاطفي بين كثير من الأزواج، وعدم التعبير عن مشاعر الحب والمودة تجاه كل منهما، حتى وإن وجد هذا الحب، وهذه المشاعر إلا أنها تبقى مكتومة يثقل على اللسان إخراجها .
ثالثاً: غياب المودة، ومن ثم الاحترام والتقدير بين الزوجين بسبب الاضطراب النفسي، والقلق، والعصبية. وهذا الأمر ينعكس على الحياة الزوجية، بل على البيت والأولاد، بل على المجتمع بأسره.
رابعاً: لعل هذا الموضوع أن يكون لبنة في المحافظة على عش الزوجية من التصدع، وجعل البيت روضة غناء جميلة، مليئة بالحب والحنان، والتعاون والتفاهم، ليشعر كل من الزوجين أن بيتهما أجمل وأهدأ بقعة على الأرض، واجتماعهما فيه غاية الأنس والسعادة، وهل هناك شيء أجمل من لقاء الحبيب بالحبيب؟! والزواج: سكن للروح والنفس.. والبيت: سكن للزوجين معًا يشعران فيه بالأمن والاستقرار:
روحها روحي وروحي روحها ولها قلب وقلبي قلبها
فلنا روح وقلب واحد حسبها حسبي وحسبي حسبها
إذاً: مفتاح السعادة لهذه المملكة الجميلة بيد الزوجين فقط.
خامساً: بيان حقيقة الحب، وجلاء أوهام الحب، وتوضيح لكثير من العبارات والأوهام التي تتردد على ألسنة المراهقين، سواء إن كانت المراهقة في السن أو الفكر، والتي شوشت على بعض البيوت المسلمة ومنها قولهم: الزواج مقبرة الحب.. الزواج بدون حب فاشل.. وغيرها مما سيأتي.
حقيقة الحب:
لنفهم حقيقة الحب، وما نريد من الحب، يقولون: الحب من أول نظرة.. والحب يصنع المعجزات.. والحب أعمى.. والحب عذاب.. ومن الحب ما قتل.. والحب يرد الكهل فتى.. وأقول قول الشاعر
إنما الحب صفاء النفس من حقد وبغض
إنه أفئدة تهوى وتأبى هتك عرض
وجفون حذرات تلمح الحسن فتغضيه
إنني أكره حبًا يجعل الفسق شعاراً
يجعل اللذة قصداً ويرى العفة عاراً
أعلن الحرب على أصحابه ليلاً ونهاراً
الحب إخلاص وصفاء ونقاء
الحب عهد ورسالة ومبدأ(/1)
الحب ماء الحياة، ولذة الروح، وبالحب تصفو الحياة وتشرق النفس، وبالحب تغفر الزلات، وتقال العثرات، وتشهر الحسنات،ويوم ينتهي الحب تضيق النفوس، ويكون البغض والمشاحنة والمشاكل، وإن كان للبحر ساحل، فإن بحر الحب لا ساحل له، فالحب الصادق بين الزوجين لا ساحل، له ليس له نهاية بدأ بأيام الزواج الأولى، وبسنته الأولى والوسطى والأخيرة من الدنيا، بل وفي الآخرة أليس الله تعالى يقول:} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ...[23]{ “سورة الرعد”
إذاً:بالمودة والمحبة والتفاهم؛ يكون التعاون بين الزوجين على الصلاح والطاعة والخير، فالحياة الزوجية كائن حي يولد ويحيى ويموت، وهذا الكائن يعيش ويتغذى من تفاهم عقلين، وتعاطف قلبين وتجاذب جسمين. إذاً: فالحب وجدان شعوري مشترك، وأمر لا بد للإنسان منه.
ومن العرف الفاسد: أنه إذا أطلق لفظ الحب؛ انصرف إلى العشق والتغزل بالنساء الأجنبيات. الحب عندهم: خيانة وعشق ومجون، وجنون باللذة والشهوة العابرة، فها هي بلاد المسلمين تتعرض كل ليلة في القصف الجنسي من بلاد الغرب الكافر والذي يعيش جنوناً جنسياً محموماً، حتى أصبح العشق والحب والغرام من الأدواء التي انتشرت في مجتمعاتنا، وأصبحت من أهم القضايا التي تروجها وسائل الإعلام، وكأنها هي قضية الأمة الأولى والأخيرة! وكأن المسلم لا هم له إلا الجنس والشهوة! نسي أو تناسى هؤلاء أن الله عز وجل جعل هذه الغريزة في النفوس لأهداف سامية، وغايات عظيمة، وجعل لها آداباً شرعية، وأحكاماً فقهية؛ لنعيش في جنة الدنيا. والحب الصادق المبني على العفة والاحتشام بعيداً عن الفحش وبذاءة الإعلام فالحب تضحية وعطاء، وليس مجرد عز وادعاء، وهل يكون الحب ذا قيمة إذا خلا من لذة الطهر؟! وإذا ذكر الحب ذكر قيس وليلى.. وجميل وبثينة.. وكثير وعزة..وعنتر وعبلة، ولكن كم بين حب وحب! فالرابط بين هؤلاء رابط عاطفي، أرضي شهواني، وحبنا الليلة بين زوجين الرابط بينهما رابط شرعي سماوي رباني ، فحب الزوج لزوجته قربة وطاعة، وحب نافع به تحصل المقاصد التي من أجلها شرع الله النكاح: من غض للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله، ولهذا يحمد هذا الحب عند الله وعند الناس . وأما المجنون، فلا يعرف إلا ليلاه يحيا لها ويموت من أجلها، أكبر همه أن تعطف عليه بنظرة، أو تجود له ببسمة، فشتان بين حب الزوج لزوجه، وبين حب المجنون لليلاه! فالحب الذي يربط بين الزوجين ليس أوراقاً ملونة ومعطرة -كما يتوهم بعض المراهقين- إنه بيت وأولاد وتبعات وهدف سام، بل نقول بثقة واطمئنان: إن الزواج بحلوه ومره؛ أجمل بكثير مما يرسمه خيال بعض الحالمين.
المودة في بيت النبوة صلى الله عليه وسلم:
يعلم الله لولا هذا الباب؛ ما تجرأت عن الحديث عن مثل هذا الموضوع، فها هو صلى الله عليه وسلم يضع لنا القواعد والأسس لبناء الحياة الزوجية من تقدير واحترام، وتودد ومحبة، ومكارم أخلاق؛ ليعلم كل الناس: أن في ديننا حباً ومودة ومشاعر وأحاسيس، ولكن العيب فينا، ومن الأمثلة على ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث أم زرع الطويل، وبعد أن استمع القصة الطويلة من عائشة بدون مقاطعة أو ملل، قال لعائشة- انظر أيها الزوج-: [ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ] رواه البخاري ومسلم . يعني في الألفة والوفاء، فقد كان أبو زرع مع أم زرع بهذه الصورة فقالت عائشة- وانتبهي أيتها الزوجة للرد الجميل من الزوجة النبيهة-: [ لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع] رواه الطبراني والنسائي في الكبرى. قال ابن حجر:' وفيه- أي من الفوائد-: مداعبة الرجل أهله وإعلانه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه وإعراضها عنه'.
وتأملوا هذا الفعل العجيب منه صلى الله عليه وسلم: فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: [ كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ] رواه مسلم والنسائي وأبوداود وابن ماجه وأحمد. و العرق: هو العظيم عليه بقية من لحم. وقولها:' أَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ ' أي: آكل عنه اللحم بأسناني، تقول: فيأخذ العظم، ويضع فاه على موضع في.. الله أكبر هكذا كان صلى الله عليه وسلم في إظهار المحبة والمودة لزوجته، وتأمل أيضًا: أن عائشة أكلت وشربت قبل الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن الأولى: أن تبدأ الزوجة زوجها في الأكل والشرب وغير ذلك لكن لا بأس أن يتنازل الزوج أحيانا إظهاراً لمحبته لزوجه، وتقديراً لها.(/2)
وتفكروا في هذه الصورة والتي تظهر مدى المودة في بيته صلى الله عليه وسلم:عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: [ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبوداود وأحمد. تخيل هذا الموقف الجميل، وهذه الجلسة الرائعة بين الزوجين!! عبادة ومحبة ومودة.
ومن منهجه صلى الله عليه وسلم في المودة: معرفته لنفسيات أزواجه متي ترضى، ومتى تغضب، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ] قُلْتُ: [ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . وهكذا ما أكثر المواقف في حياته صلى الله عليه وسلم.. تلك التي توضح حقيقة المودة والمحبة في التعامل مع الأزواج.
من مظاهر غياب المودة والركود في المشاعر والأحاسيس بين الزوجين:
أولاً: كثرة غضب وثورة الزوج لأي سبب: حتى وإن كان تافهاً، فالزوج غالباً ما يعبر عن فقد الحب، أو فتوره بأسلوب غير مباشر مثل: الغضب والفوران ولأسباب تافهة لا تستحق الغضب. أما المرأة فتصرح بحبها، أو بالسؤال، أو العتب المباشر عند فقدها المودة والمحبة.
ثانياً: مناداة الزوجة بغير اسمها: وهذا مشتهر في قول بعض الأزواج: يا هيه.. يا ولد.. ونحو ذلك مما هو مشتهر عند البعض، أو ندائها بصخب ورفع صوت. وقد بوب البخاري في 'الأدب المفرد' باب: 'كنية النساء 'عن عائشة رضي الله عنها قالت:' يا نبي الله ألا تكنيني، فقال: [ اكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ] يَعْنِي ابْنَ اخْتهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ،فكانت تكنى أم عبد الله . وإسناده صحيح .
ثالثاً: كثرة خروج الزوج وغيابه عن البيت وكذلك الزوجة: فالزوج للاستراحات والرحلات، والزوجة لأهلها، أو للمناسبات. ولو كان بينهما مودة وحب؛ لحرصا واجتهدا في تقليل ساعات الفراق. رابعاً: التبذل في الملبس والشكل من الزوجين: وخاصة المرأة، وتكون المصيبة مصيبتين عندما يكون التبذل للزوج والتزين لغيره، أو يكون التبذل داخل المنزل ويكون التزين خارج المنزل. وتجمل كل واحد منهما لصاحبه علامة المودة والمحبة .
خامساً: عدم الاحترام والتوقير: والذي قد يصل للعناد والتسرع، وربما للسباب واللعان، وكلمات التنقص والازدراء بين الزوجين، وكثرة اختلاق المشاكل، فمرة بسبب المادة والراتب، ومرة بسبب الأولاد، ومرة بسبب الأهل وهكذا.. مشاكل لا تنتهي. والمشكلة الحقيقية:هي غياب المودة وبرود المشاعر، وتقصير الزوجين أو أحدهما في الحق العاطفي والجسدي للطرف الآخر، وربما حاول الزوجان علاج تلك المشاكل دون المساس بالمشكلة الحقيقية، فيكون البحث هنا بتعبير الفقهاء في غير محل النزاع. فلابد من التمييز بين المشاكل التي تنشأ بسبب برود العاطفة وفتور المودة بين الزوجين، وبين المشاكل الأخرى التي تتعلق بالأولاد، أو بالنواحي المالية، أو بالعلاقة بالأقارب وغيرها من أنواع المشاكل الأسرية. وأنا على يقين أن علاج المشكلة الأولى أعني: تطور المودة والمحبة بين الزوجين؛ عنصر رئيس في علاج الكثير من المشاكل الأخرى إن لم يكن كلها.
سادساً:الأنانية وحب الذات والتمسك بالرأي: واتهام كل منهما الآخر أنه هو سبب المشاكل، وهو الذي صبر وضحى ولكن لم ير أثراً لصبره وتضحياته .
سابعاً: كم من زوج أو زوجة فكر في الوقوع في الحرام: كالمعاكسات والزنا وغير ذلك. لماذا؟ بسبب الحرمان العاطفي، والتزام المودة بينهما، ومما زاد الطين بلة؛ وسائل الشر اليوم والتي تيسر الغرائز، وتحكي حياة الحب والعشق، وكلمات الغزل والتبذل، فيسمعها الأزواج، بل ويشاهدون الحركات المثيرة فتثير في أنفسهم العواطف والرغبة في محاكاتها، ثم تبدأ المقارنة بين ما يسمع ويشاهد، وبين واقعه الأسري الذي يعيشه؛ فيحدث ذلك هزة عاطفية في نفسه، فإن لم يكن في الحلال، فليس إلا القلق والتشنج، وكثرة المشاكل، وربما وصل الأمر للوقوع في الحرام- والعياذ بالله- فالظمآن في حاجة ماسة لشربة ما حتى ولو كانت ملوثة أو قاتلة .
الحب وحده لا يكفي:(/3)
وهذا أمر مهم، فإن هناك مجتمعات همها من الزواج فقط المتعة، ولا ترى في الحياة الزوجية سوى العشق والغرام وإلا فلا تستحق تلك الحياة الاستمرار- بزعمهم- ولذا سرعان ما يغير الزوجان، أو أحدهما الآخر بعاشق جديد.. وهكذا . أما المجتمع المسلم فلا يهمل جانب المتعة والمحبة بين الزوجين، بل يؤكد عليه دائمًا، ولكن هناك أهدافاً أخرى للحياة الزوجية ومن أهمها: النسل، وتربية الأولاد، وإحصان الفرج، وإتمام الدين، وتعارف الأسر وتقاربها . ومن تأمل وجد أن هذا مقدم على مجرد المتعة، ولا تعارض أصلاً بينهما، لكن لو لم تجد المودة والمحبة؛ فليس هذا نهاية الحياة الزوجية، وعدم نجاح الزواج، ويتضح هذا في قول الله:}وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...[21]{ “سورة الروم”فقد بنى الله العلاقة بين الزوجين على أساسين: المودة والرحمة، فالمودة: الحب، وإذا نمت بين الزوجين؛ تمت السعادة واكتمل التوافق، فإن الحب يقضي على كل نقص، ويغطي كل عيب. وإن نقصت المودة أو ضعفت؛ فإن شيئًا آخر يحفظ الحياة الزوجية ويسيرها، ويكون السبب في بقاء العشرة وسلامتها، وهو الرحمة، فلم يقل سبحانه: مودة فقط، بل قال: ورحمة . قال ابن كثير:' }...وَرَحْمَةً...[21]{ وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها؛ بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك'. وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ إن البيوت لم تبن كلها على المودة وقد بني كثير منها على الستر] وصدق رضي الله عنه، وبعض البيوت لا يوجد فيها حب ولا كره، فهي قائمة بالمعروف وحسن المعاشرة } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...[19]{ “سورة النساء” وقد جاء في بعض الإحصائيات أن:”88%” من الزيجات التي تتم نتيجة الميل العاطفي: الحب؛ انتهت بالطلاق.
وقد يتساءل البعض:لماذا تفشل أغلب الزيجات التي يسبقها ما يسمى بالحب؟! والإجابة سهلة فإن من يحب لا يستطيع أن يقوم الآخر، فهو ينظر إليه بعين العاطفة والميل الشديد إليه، ولا ينظر إليه بعين العقل، والتروي والتثبت، وبعد الزواج، وبعد هدوء العاطفة- والأصح العاصفة- ينكشف الغطاء، وتتلاشى الأحلام. بعكس الزواج الآخر حيث التثبت، والسؤال، وجمع المعلومات، والمشاركة من قبل الأهل والإخوان في تقويم هذا الشخص أيًا كان رجلاً أم امرأة .
إذاً: فلا يكفي الحب وحده لضمان الزواج الناجح، كما أنه من الممكن أن ينجح الزواج- ولو لم يكن هناك حب- إذا كان هناك رحمة، واحترام، وتقدير، كما قال تعالى:}وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...[21]{ “سورة الروم” وهذا من رحمة الله جل في علاه .
الحب بين الزوجين يحتاج إلى وقت وتأسيس:
فإياكم والعجلة.. فالتوافق العاطفي والعقلي بين الزوجين يحتاج إلى وقت طويل، ولن يتم ذلك عادة دون أن يتنازل كل منهما عن بعض أنماط سلوكه، وعاداته القديمة، فتنبهوا . ويقع العبء الأكبر على المرأة خاصة في هذا المجال؛ لكونها تابعة للرجل، والمرأة الصالحة هي التي توافق زوجها فيما يحب ويكره، وتحرص على تحقيق رغباته ما لم تكن محظورة شرعاً . وهذه الصفة- أعني: التوافق- هي أحب وأفضل في نفس الرجل وعقله من أي صفة أخرى للمرأة، ومنها يتولد الحب، فبحسن التفاهم وطيب التعامل؛ ينمو الحب الحقيقي بين الزوجين على مر الأيام والشهور والسنين.
وأما قولهم الحب من أول نظرة:
فيكفي في رده قول الحق عز وجل:} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[109]{ “سورة التوبة” فكل ما لايقوم على أساس متين؛ انهار.. فحب الخيال لا يكون إلا في عالم الأحلام، أو القصص والأفلام، ومن عاش الواقع؛ وجد الحب النافع .(/4)
فأوصي الزوجين: بالصبر وعدم العجلة حتى يتم التعارف والتآلف، وانظروا لهذا الزوج يقول- لقد كتب ذلك بيده-:' إليك تجربتي أرسلها لكل زوج وزوجة عسى أن تبعث المودة من بعد الموات: أنا شاب متزوج كان شرطي قبل الزواج أن أتزوج من فتاة فائقة الجمال وفقط، ولم أكن أريد شيئاً آخر غير ذلك، فخطبت من أكثر من عشرين بنتاً حتى تم الزواج، ولما كانت ليلة الزواج رأيتها؛ فلم أر فيها الجمال الذي كنت أطمح إليه ولا قريباً منه، وكدت أصاب بالإحباط، بل حتى والدي لما رآها قال لي: إنها ليست جميلة، وفيها كذا وكذا من المواصفات غير المرغوبة، وكأنه يحثني على الفراق، فما كان مني إلا أن قررت الصبر قليلًا ثم يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فرأيت أثناء هذه المدة من جمال روحها، وحسن عشرتها، وطيب تعاملها، وصدق محبتها، وطاعتها وحشمتها ودينها؛ ما جعلني لا أرضى بها بديلاً ولو أجمل فتيات الدنيا. وأكثر شيء يجذبني إليها أداؤها للصلاة في وقتها، وقيامها الليل، وسرعة تنفيذ ما أطلبه منها على أكمل وجه وبطيب نفس.. لا أكتم أنني أحبها الآن أكثر مما كنت أطمح إليه قبل الزواج من تلك الجميلة المزعومة، وإنما الجمال الحقيقي هو جمال الروح لا جمال الوجه المزيف، فهل يعي ذلك الشباب ويعي ذلك الفتيات؟! أرجو ذلك' انتهي كلامه .
وذكرني هذا بمن يقول: الزوجة الذكية هي التي تستطيع أن تزرع الجمال في قلب الرجل وإن لم تكن جميلة- تقولين: لي كيف؟- أقول: ينبغي أن تكون قادرة على الإلهام، والإيحاء، والإبداع في حياتها الزوجية، فتأملي أيتها المرأة.. قام جمال كلامها وخُلُقِهَا مقام جمال خَلْقِها، فهل تعين ذلك؟
أوهام الحب:
وأتمنى أن يتنبه لهذا المراهقون من الشباب والفتيات، الاندفاع وراء أوهام الحب لتأسيس الحياة الزوجية أمر يجب التنبه له ولخطورته فهو خداع فني وزيف إعلامي، تدغدغ به العواطف، وتثار به المشاعر، فالحب الحقيقي لا يمكن اكتشافه وظهوره إلا بعد الزواج، حيث تتاح الفرصة الحقيقية لإظهار المودة، وتبادل المنافع، وترجمة الكلمات المعسولة إلى عمل، والعقد الشرعي دليل على جدية هذا الحب، ودليل على صدق النوايا والمشاعر والعواطف، فالحب الجاد رجولة وتحمل للمسئولية. أما قبل هذا كله، ففي ادعاء الحب نظر، فالتغني والتغزل سهل ميسر لكل مدع، ولو أعطي الناس بدعواهم؛ لادعى الخلي حرقة الشجي، فلا يصدق الحب، ولا يتم إلا بعد الزواج، فبه تسكن النفس من الصراع.. ويكف النظر عن التطلع للحرام.. وتطمئن العواطف، فتخرج صادقة بريئة بما أحل الله، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. وأما الحب الذي يصوره لنا الغناء، والقصص، والمسلسلات ما هو إلا نسيج أحلام تنشأ عن الأماني والتصورات، ويجعل الإنسان يري فيمن يحب صورة الرجل المثالي أو المرأة المثالية التي لا يمكن أن يحياها الإنسان في عالم الواقع والحقائق تقف في طريقه حجر عثرة، ومن أجل ذلك كان أكثر الناس فشلًا في الزواج ممن يسمون بالفنانين.
من محاضرة: بحر المودة للشيخ/ إبراهيم الدويش(/5)
بداية النهاية للنظام الصفوي العنصري واحتراق احقاده
حامد بن عبدالله العلي
لم يكن ـ فيما يبدو ـ حزب حسن نصر يتوّقع أن يكون التصعيد الصهيوني بالحجم الذي يحدث ، عندما أقدم على عملية ظنّها ستكون فائدتها الدعائية أكثر ـ كالعادة ـ من أيّ شيء آخر ، وكم هو مولع بالدعاية ! لاسيما وهو بحاجة إلى تدعيم موقفه الداخلي في ظلّ الضغوط الداعية إلى نزع سلاحه ، والخارجي أيضا بكسب مزيد من التأيّيد الإسلامي ، إذ وثاق الحديد الغربي يقترب من عنقه ، وكان يتوقّع أنّ انشغال الصهاينة بغزّة ، وتداعيات ما يحدث فيها ، سيكون الفرصة المناسبة لعمليّته الدعائية ، وأنّ ردة الفعل بعد ذلك ، لن تتجاوز مثل ما جرى عام 2004، حيث تمّ تبادل 400 أسير عربي بأسير يهودي وثلاث جثث. وأيضا لم يكن ـ فيما يبدو ـ أنّ النظام العنصري في إيران ـ وما حزب حسن نصر إلاّ أحد أذرعته ـ توقع ردّة فعل الصهاينة بهذا الحجم ، فقد بات أخشى ما يخشاه الآن أن يتمّ تدمير كلّ ترسانة الأسلحة التي حوّلت حزب حسن نصر إلى جيش إيراني داخل لبنان وعلى حدود الصهاينة ، وكان النظام العنصري في (قم) المؤامرات ، يريد أن يحتفظ بهذه الترسانة لما يمسّ أمن النظام القومي مسّا مباشرا ، فلهذا الأوان قد أعدّها ، لا لأَنْ يدمّر قبل الأوان ، وكذا الشأن مع النظام القمعي العنصري في سوريا ، أراد أن يذّكر بإستعادة نفوذه في لبنان ، بتعزيز موقع حزب حسن نصر ، فطمّ هذا الأخير الوادي على القريّ. كلّهم تفاجأوا بالورطة ، والآن ليس أمام النظام العنصري في إيران وحليفه في سوريا إلاّ أن يدخلا في مواجهة ستنتهي بسقوط النظامين ، أو يسقطان أيضا لاحقا عندما يذرا حزب حسن نصر يواجه مصيره لوحده ، ويغرق لبنان معه في دمار شامل ينفذه كيان صهيوني لايعبأ بالبشر ، فكيف يعبأ بتدمير بلد أكثريته مسلمون ، ويدعمه غرب صليبي حاقد ، لايرى الناس سوى حشرات توطأ تحت أقدام جيوش إستعمارية أباحت لنفسها أن تفعل ماشاءت . وكما أكّدنا سابقا بناءً على إستقراءٍ للواقع ، واستصحابا لدروس التاريخ ، ويقينا بسنن الله تعالى التي لاتتبدّل ، أنّ المواجهة ـ سواء كانت هذه بدايتها أو ستأتي ـ بين العدوّين اللّدودين لأمّتنا اللذيْن تآمرا معا عليها غير مرّة : الصهيوصليبي ، والعنصري الصفوي ، أنهّا حتميّة تاريخية ، فإننّا نؤكّد بإذن الله تعالى ، أنّ نهاية المشروع الصفوي مؤكّدة لا محالة ، وأنها ستكون بإذن الله تعالى نهاية إلى الأبد ، وسيأتي نظام آخر في إيران ، سيحدث بسببه إنفراج إلى حين يعلمه الله تعالى ، كما سيتغيّر النظام في سوريا ، إثر فترة من التقلبات الزلزالية التي ستحمل مزيدا من المفاجآت بما فيها من أحداث دامية غير مسبوقة ، وهي علامات من أشراط الساعة ، قُّدر لنا أن نعيش لنراها ، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا فيها الثبات ، واليقين . غيرَ أن الغريب المحيّر في الأمر أنّ النظام العنصري في قمّ ، كان أمام خيار يعززه في نظر أمّة الإسلام ، ويقدّم له فائدة لاتقدر بثمن ، حتى إنّه يكون سببا في انتشار مذهب التشيّع الذي ينتحله ، أنْ لو رفض التآمر مع المشروع الصهيوصليبي في أفغانستان ، ثمّ في العراق ، فلو أنّه استغلّ هذا الهجوم الصهيوصليبي على أمّتنا ، بالوقوف إلى جانبها ، بدل أن يعمل خناجر الغدر ـ في ركاب وتحت غطاء الصهاينة الصليبين ـ ضد أفغانستان ، ثمّ يبثّ أحقاده ـ بعد فتوى مراجعهِ بتحريم جهاد المحتل الصليبي ـ سافراً بها في مجازر تشيب لها الولدان في أهل السنة في العراق ، لم يفعل مثلها حتى الصهاينة في إخواننا الفلسطينين ، إضافة إلى تورطه القذر في السعي لتقسيم العراق ، والقضاء على عروبته ، وإلحاقه بالعنصرية الساسانية، حتى إنهم يدمّرون آثار الخلافة العباسية العظيمة ، ولئن طالت بمشروعهم الخبيث حياة في العراق ، وتمكّنوا منها بلا مقاومة ، لأرجعوا إيوان كسرى ، وطمسوا كلّ أثر للإسلام في عراقنا ، عراق أمتّنا المجيدة . لو أنّه وقف إلى جانب أمّتنا في محَنِها ، لكان ذلك أدعى إلى تسويق مشروعه العقدي! فما الذي جعله يختار الخيار الأحمق المفضي إلى نهايته ؟!! لكنّ جواب هذه الحيرة ، أنّ صدورهم المشحونة بالخباثة ، لم تُطق بقاء الحقد دفينا فيها ، فانفجرت عند أوّل فرصة تمكنوا فيها من إهراق دماء المسلمين ، فولغوا فيها ولوغ الكلاب الظامئة ، في سكرة أعمتهم عن عواقب جرائمهم ، حتى نبض فيهم عرق أبو لؤلؤة المجوسي ، فأخذوا يقتلون كلّ من اسمه عمر في العراق ، وأشداقهم تسيل دما بدل اللعاب ، ونفوسهم تملأها أحلام الشياطين ، أن يتسللوا إلى عقيدة أمتنا، فيتوغلوا فيها ، ثم يفتكون بتاريخنا ، وماضينا ، فتكا لامثيل له في التاريخ ، بوسائل من أخفى المكر وأخبثه . وظنّوا أنه يمكنكم بتزييف إعلامي رخيص أن يحرّفوا الحقيقة ، بإلقاء تبعات إبادتهم الجماعبّة لأهل السنة في العراق على المجاهدين ، حتى انكشف الغطاء عن نتن نفوسهم المريضة ، فبدت جرائمهم(/1)
لجميع الناس لائحة ، وإنبعثت منها أسوء رائحة . وذلك كلّه من لطف الله بهذا الدين وأهله ، وهاهي سنن الله تعالى في الظالمين ، كما يولّي بعضهم بعضا ، يسلِّط الظالمين على من أعانهم ، وتتقطّع بهم الأسباب ، عندما ينزل الله تعالى بهم نقمته ، وينتصر لدماء أولياءه. وكم هم بعيدون عن الهدى ، أولئك الذين ظنّوا أنّ أرض فلسطين أغلى من عقيدة الإسلام ، وأنهم يمكنهم أن يضحّوا ـ مع العقيدة ـ بدماء المسلمين في مكان آخر قربانا للنظام الصفوي في إيران ، لترجع أرض فلسطين مرفرفة عليها رايات ذلك النظام ، فياللأسى عليهم منذ الآن ، قبل أن نراهم وقد خسروا العقيدة والأرض معا ! وكم هي مثيرة للشفقة ، تلك الحيرة التي أدهشت أولئك المساكين الذين تارة يصفقون ، ويزمّرون ، لفصيل من جيش النظام العنصري الإيراني في لبنان ـ حزب حسن نصر ـ عندما يلقي الصواريخ على الصهاينة ، وتارة يبكون على دماء مسلمي العراق ومنهم الفلسطينيون ، الذين هم ضحايا فصيل آخر من جيش النظام العنصري نفسه . ولم يعلموا أنّ الذي يطلق الصواريخ هناك ، هو الذي يغطّي على مذابحه لإقامة مشروعه هنا ، وأنّه أخطبوط واحد ، قد بنى أعشاشا وضع فيه بيضه في كثيرٍ من بلاد الإسلام ، وفرّخت ، وأمدّها بسلاحه المفضّل ، سلاح الغدر والجبن ، سكاكين أبو لؤلؤة المجوسي ، لتثب أفراخه في الوقت المناسب ، وتنشر الفتن في بلاد الإسلام ولكن هيهات ( ويمكُرُونَ وَيمكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكِرِينْ ) . فخداعه لن ينطلي علينا ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وقد سمع الله تعالى نجواهم بين قم ، وطهران ، وتل أبيب ، وواشنطن ، عندما تناجوا بالإثم والعدوان على أمّة الإسلام ، وسيقلب الله تعالى عليهم مكرهم الذي أجمعوه ، مكرا عليهم فيجتووه ، وكل ما كادوا به أمّتنا هم لاقوُه ، غير خافٍ عليه ، ولاناسٍ ، ولامضيّعٍ ، ربُّنا ربُّ الإسلام ، العزيز ذو إنتقام . http://69.72.226.92/npage/mqalat_open.php?id=339(/2)
بداية الوحي وحديث البخاري(1)
18/7/1975
(نقدم اعتباراً من هذاالعدد ماتيسرلدينامن خطب العلامة الخطيب المفوه الأديب الشيخ محمود مشوّح –مفتي الميادين رحمه الله تعالى لمافيها من فكروثقافة ودعوةمستنيرة إلى الله تعالى)
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون، فهذا أوان الوفاء بما سبق أن وعدناكم بالحديث عنه بعد مقدمات قد يراها البعض طويلة ومملة، ونراها ضرورية ولازمة، لقد وعدناكم أن نتحدث عن بواكير الدعوة، وفي ذهني أنني قد أسلخ معكم في هذا الحديث أسابيع طوالاً، ولكن من الضروري قبل البدء في الحديث أن أقدم بضع ملاحظات.
إن الحديث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراً هيناً، وأعترف لكم دون تردد أنني حين وعدت بهذا ما كنت أقدر أن الأمر يتطلب كل هذا الجهد فنحن نملك في موضوع السيرة أقدم نص وأوثق نص؛ هو النص الذي جاءنا عن طريق ابن هشام والمعروف بسيرة ابن هشام، وسيرة ابن هشام هذه هي تلخيص لمغازي ابن إسحق رحمة الله عليه، وهذه المغازي ضاعت في ما ضاع أثناء النكبات التي حلت بالمسلمين على مدى تاريخهم الطويل، ثم هناك ما هو أوثق من هذا ولكنه أضيق مدى وأقل شمولاً وهو ما يتناثر من وقائع السيرة في ثنايا مجاميع الحديث النبوي الشريف، ثم بدأ الناس يكتبون في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختلفت درجات المغالاة في هذه الكتابة ويكفيك أن تنظر في كتب المتأخرين لترى كم ترك الخيال الشعبي من آثار على هذه السيرة الإنسانية العالية، وكم ألحق في السيرة النبوية من خرافات وأباطيل مع أن النبي صلوات الله عليه وآله كان يحرص باستمرار وفي كل مناسبة على تأكيد بشريته ونفي أية صفة زائدة على هذه البشرية.
وفي منهجنا الذي نأخذ به أنفسنا إن شاء الله سوف نُعْنَى عنايةً خاصة بتجريد حياة النبي صلى الله عليه وآله مما ينبغي أن لا يضاف إليها من الخرافات والأضاليل والأباطيل فحسبنا منه عليه الصلاة والسلام أنه البشر الكامل المكمل (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ).
أعرف تماماً أن كثيراً من العوام وأشباه العوام سيضيقون ذرعاً بهذا لأنهم يرون عن جهل -طبعاً- أن أي مساس بجملة الأباطيل التي يروج لها ويسمعونها شيء لا يطاق، ولكننا نحترم العلم ونحترم الحقيقة، ونحترم الحقيقة البشرية المتمثلة في محمد صلى الله عليه وسلم هذه ملاحظة، وملاحظة أخرى إن الميدان الذي نروده الآن ميدان بِكْرٌ أو شبهُ بكر قد تعجبون فالسيرة النبوية كتب فيها كثيرون وقال فيها كثيرونَ ولكن النحو الذي أريده والزاوية التي أتناول السيرة منها يشبه أن تكون زاوية بكراً لم تردها قدم سائح أنا لا أهتم بالخبر من حيث هو خبر أهتم له من حيث هو واقعة تاريخية فالتاريخ معلومات لكني أهتم بالسيرة برمتها من حيث هي حركة، من حيث هي تحرير للإرادة البشرية، من حيث هي إغناء للمسيرة الإنسانية، من حيث هي رفع لسوية الإنسان، يهمني أن أعرف وأن تعرفوا كيف كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يدعو ويتصرف، وتحت أية قوانين وقواعد كان يسير في هذه الدعوة لأن اجتهادات المجتهدين في عمل المسلمين اختلفت ضرورة اختلافهم في فهم هذه القواعد إن كانوا فهموها أصلاً، فالسيرة تهمنا من حيث هي صورة لتيار حركي استهدف تغيير الواقع البشري بالدعوة وبالقول وبالعمل، ثم هو لم يكن عملاً عشوائياً غير مبني على قواعد ولا خاضع لقوانين ولا هو غير مقيد بمناهج، وإنما هو بالفعل كان يخضع لقوانين صارمة ودقيقة للغاية، وواجب المسلمين أن يتصرفوا على هذه القوانين ليقيموا حركتهم وفقاً لها.. لماذا؟ لأن الله جل وعلا اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم الطريقة التي توصل إلى الهدف المقصود من أقرب طريق وبأقل التضحيات الممكنة على الإطلاق.(/1)
فنحن إذاً سوف ندرس السيرة في هذا الإطار وسوف نعاملها تبعاً لضعف المصادر التي بين أيدينا على ضوء القرآن لأن القرآن هو الوثيقة الوحيدة التي لا يمكن الطعن فيها، وهو الوثيقة الوحيدة التي تحوي هذه الحركة بكل زخمها، وبكل إشعاعاتها هذه ملاحظة ثانية، وملاحظة ثالثة قبل اليوم ومنذ سنوات أسمع من كثير من الإخوة تساؤلاً عن الأسلوب. هذه معضلة أيها الإخوة تتعلق بشخصي مع الأسف كثير من الإخوة يشكون ومعهم كل الحق من أن الأسلوب أعلى مما ينبغي ومن أن الأفكار أعمق مما ينبغي، وطلب إلي الكثيرون أن أخفف من هذا، أما إخواننا أهل منطقتنا فقد تعودوا على هذا (البلاء) ووطّنوا أنفسهم على تحمله منذ ما يقرب من ثلث قرن، وأما الآخرون فأحب أن يدركوا معي ملاحظة بسيطة، إن الأسلوب يا إخوة، جزء من شخصية الإنسان لا يمكن تعديله إلا بعد إدخال تعديل واضح على الشخصية، وهذا مستحيل فمن حيث الأسلوب أعتذر إليكم لا أملك حيلةً في هذا الموضوع، هكذا فطرني الله وهذه هي طريقتي في الحديث وهذه هي طريقتي في تناول الموضوعات لكني قررت وحدثت أحد إخواني أمس مساءً أنني سوف أسلك طريقة كنت لا أريدها، كنت أريد أن يسمع الواحد منكم الكلام هنا كما يقرأه في كتاب أو كما يقرأه في جريدة أو مجلة -لا فرق أبداً- مع ذلك فرعاية للظرف المحيط بنا سوف أركز في كل جمعة على فكرة واحدة أو فكرتين أوضحها وأبسطها، وأنا آسف لأن هذا سيقضي على كثير من المزايا التي كنت حريصاً عليها.
نعود إلى ما كنا فيه:
منذ أسبوعين رويت لكم الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمة الله عليه في أوائل كتابه الجامع الصحيح وفي باب (كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) واقتصرت من الحديث على ما دعت الحاجة إليه آنذاك، الآن سأروي لكم الحديث بتمامه إن شاء الله وأرجو أن نُمَرِّن أنفسنا على قراءة ما بين السطور قال الإمام البخاري رحمة الله عليه:
حدثنا محمد بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء أي العزلة وكان يخلو في غار حراء ويتحنث، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله - يعني يرجع- ويتزود لذلك يعني ينقطع أياماً يأخذ أثناءها ما يلزمه من زاد ثم يعود إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثل ذلك أي أن تحنثه كان يستمر على فترات كلما فني زاده وانتهت نفقته عاد إلى بيته فتزود ثم رجع إلى الغار يتحنث هناك. قالت:
جاءه الملك وهو في حراء فقال له: اقرأ.
فقال: ما أنا بقارئ.
قال –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأخذني فغطني أي اعتصرني حتى بلغ مني الجهد أي أتعبني جداً ثم أرسلني وقال: اقرأ.
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
)أقرأ بسم ربك الذي خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم(.
قالت: فرجع بها – يعني بهؤلاء الآيات – رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده أي دَاخَله شيءٌ كثير من الرعب، والتجربة تجربة جديدة على الإنسان تدخل الرعب إلى نفسه حقاً فجاء إلى خديجة فقال: زملوني فزملوه فلما ذهب عنه الروع أي زايله الخوف قال لخديجة وأخبرها الخبر:
"لقد خشيت على نفسي" خشي أن يكون قد تلبَّسه شيطان، أن يكون قد أصابه مس.
قالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به إلى ورقة ابن نوفل بن عبد العزى وكان ابن عم خديجة رضي الله عنها وكان أمرأً قد تنصَّر في الجاهلية أي دخل دين النصرانية وقرأ الكتاب العبراني وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب فقالت له: يا ابن عم.. اسمعْ من ابن أخيك.
قال ورقة (يعني للنبي صلى الله عليه وسلم) يا ابن أخي: ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبر ما رأى فقال: لئن صدقتني إنه الناموس الذي أنزله الله على موسى، وإنك لنبيُّ هذه الأمة، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
قال له قبل ذلك يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فدهش النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
أو مخرجيَّ هم؟
قال: نعم لم يأت رجل قومه بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بينما أنا في حراء إذ سمعت صوتاً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين الأرض والسماء فرعدت فرقاً – خوفاً – فرجعت فقلت دثروني فأنزل الله تعالى:(/2)
(يا أيها المدثر قم فأنذر)
إلى قوله تعالى
(والرجز فاهجر)
ثم حمي الوحي وتتابع. هذا نص حديث الإمام البخاري رضي الله عنه رويت لكم جانباً منه منذ أسبوعين ورويت لكم نصوصاً أخرى في الموضوع.
قال ابن هشام قال ابن إسحق في السيرة:
ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان أي أن بداية الوحي كانت في شهر رمضان قال الله تعالى:
)شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان(.
وقال الله تعالى:
)إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر(.
وقال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
)حم والكتاب المبين، إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين(.
وقال الله تعالى:
)إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان(.
وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر قال ابن اسحق وأخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون في بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فالمقطوع به أن التنزيل وأن الدعوة بدأت في شهر رمضان المبارك نحاول الآن وأرجو أن تعيروني أسماعكم.. أن نتنبه إلى الحديث.. سآخذ منه موضوعات:
أولاً: الوقت الذي وصفت به خديجةُ رضوان الله عليها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الإنذار الذي أنذر به ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنه سيعادى وسيؤذى وسيطارد وسيخرج وعلل ذلك أن رجلاً لم يأت قومه بشيء مثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إلا كان نصيبه العداء من الناس.
ثالثاً: الدهشة الغريبة، الاستغراب الذي قابل به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الإنذارَ: أو مُخْرجيَّ هم؟
سنبدأ بما تيسر لنا.
خديجة رضي الله عنها حينما جاءها رسول الله يحمل أوائل الوحي هذه الآيات القصار: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وأخبرها خبر ما رأى وخبر ما سمع، ماذا قالت له؟
قالت له: والله لا يخزيك الله أبداً. النبي صلى الله عليه وسلم أوجس في نفسه خيفة، خشي أن يكون أصابه مسٌ من الجنون، تجربة غير عادية.. كلام يسمعه الإنسان يخالط منه اللحم والعظم من مخلوق لا عهد له به ولا عهد للناس به يأمره وينهاه ويعتصره ويرسله ويكلفه بأن يحمل للناس رسالة الله، شيء يروع القلب، ويدخل الرعب إلى النفس، جاء خائفاً إلى الزوجة الوفية فقالت له بدون تلكؤ وبدون تساؤل:
"كلا والله ما يخزيك الله أبداً".
لماذا؟ هل هي ثقة الزوجة بالزوج؟ هل هي محبة الزوجة لزوجها وحسب؟
أحسب أن الأمر على خلاف ذلك. إن خديجة رضوان الله عليها عللت هذا الموقف بماذا؟ بما اشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. من خلال فضيلة وخصائل الاستقامة والشرف: "إنك لتحمل الكَلّ، وتَقْري الضيف، وتصل الرحم، وتعين على نوائب الحق، خلالٌ عالية وفضائلُ عظمى لا تجتمع إلا في نفس عظيم من العظماء، أو في نفس أعظم العظماء، هذه الشهادة التي جاءت عفو الخاطر لم تأت في معرض أمر من ورائه مطامع ولا مكاسب، جاءت في مواجهة أي شيء، في مواجهة تأكيد من قبل رجل مارس الكتب وقرأها وعلم أخبار الأولين، واطلع على سير كثير من المرسلين فأنذر هذا المتوجس، هذا المرتعش الخائف من التجربة التي شهدها ومر بها أنه سيؤذى وأنه سيعادى، وأنه سيطارد، وأنه سيخرج من بلده..
أية زوجة من الزوجات العاديات لو سمعت هذا من زوجها في مواجهة هذه النذر والمخاطر لكانت عاملاً في تثبيط همة الزوج، لكانت عاملاً يدعو زوجها إلى القعود ونفض اليد من هذه المهمة القاسية، المهمة غير مأمونة النتائج. ولكن خديجة رضي الله عنها.. بالفطرة السليمة، بالخلق الفاضل، بالطبع الكامل، رأت أن امرأ مثل محمد صلوات الله عليه وآله لا يمكن أن يتعرض من قبل رب العزة للخذلان طالما أن الله جَمَّله وكمَّله بهذه الفضائل، وزانه بهذه الأخلاق الرفيعة فلم يك ذلك قطعاً لكي يُهدر، ويُضيع هذه المعاني السامية المتمثلة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الله سيحفظ بحفظه رسوله، ولن يعرضه للخزي والخذلان ولهذا آمنت خديجة رضي الله عنها لأول ما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ابتعثه للعالمين بشيراً ونذيراً.(/3)
علام يدلنا هذا، ما هو الدرس الأول البديهي الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الشهادة، من هذه الواقعة الجزئية؟.. تعوَّدوا معنا يا إخوة على قراءة ما بين السطور.. هذا يدل على أن شخصية الداعي، وهنا موضع الأهمية، لها الأثر الحاسم والنهائي في نجاح الدعوة أو فشلها.. لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على غير ما هو عليه ماذا يكون الحال؟ إن محمداً صلى الله عليه وسلم ولد في مكة، وعاش في مكة، واختلف فيما يختلف فيه الناس واضطرب فيما يضطرب فيه الناس من شؤون الحياة، أخذ وأعطى، وتزوج وأقصى، وأكل شرب ورآه الناس لم تكن حياته الشريفة صفحة مطوية وإنما كانت شيئاً ظاهراً يعلمه الناس ويرونه بأم أعينهم ويسمعونه بآذانهم ويلمسون آثاره بأيديهم فما تعلقوا عليه بريبة قط.
عاش العمر الطويل بينهم، أربعون سنة مرت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلفت أنظار مَنْ حوله من الناس بشيء خارق للعادة. كل ما هنالك أنه كان بشراً كاملاً، وكان إنساناً رفيعاً وكانت طباعه سليمة، وكانت فطرته مستقيمة، أما أنه كان هناك شيء خارق للعادة قبل أن يفجأه الملك بما فجأه به في غار حراء فلا هذه الحياة التي مرت أربعون عاماً بلغ فيها النبي صلى الله عليه وآله أَشُدَّه واستوى وأخذ فيما يأخذ الناس فيه لم يجربوا عليه كذباً قط. ثم عالنهم بأنه مرسل إليهم من قبل الله جل وعلا فبمَ يتهمونه بالكذب؟ أبعد أن جلل الشيب فوديه يكذب على الله؟ وهو الذي لم يجز لنفسه أن يكذب على أحد، هذا شيء غير مقبول في بديهة العقل الإنساني. كان عليه الصلاة والسلام منذ الطفولة وبواكير الصبا مثالاً للإنسان المهذب المستقيم. قال عليه الصلاة والسلام: ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين، كنت أرعى غنماً لأهلي فسمعت صوت غناء فسألت صاحبي – كان معه شخص آخر يرعى الغنم – ما هذا الغناء قال عرس لابن فلان، قلت له: احفظ عليّ غنمي ريثما أذهب لأسمع فلما جئت جلست خارج الدار لأسمع الغناء فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حرّ الشمس، فلم أسمع شيئاً فلما كانت الليلة القابلة صنعت مثل الذي قبلها – طلب إلى صاحبه أن يحفظ عليه غنمه ليسمر ويلهو كما يلهو صبيان مكة – قال فجئت فجلست قريباً من الدار فضرب الله على أذني فنمت فما استيقظت إلا مع الصباح.. هاتان الحادثتان فقط هما اللتان همّ بهما – عزم مجرد إرادة رغبة لم يصنعها- من أمر الجاهلية.
وأما ما كان يتقرب به قومه إلى الله من عبادة للأوثان ففي حديث بَحِيْرى الراهب أن بحيرى أراد أن يستخبر خبر النبي صلى الله عليه وسلم فاستدعاه واستدناه وقال له:
أنشدك باللات والعزى.
قال: لا تنشدني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئاً كما أبغض اللات والعزى.
وكان قومه يتقربون إلى اللات والعزى ويرونها تشفع لهم عند الله وكان عليه الصلاة والسلام يرى أن هذا سخف.. سخفٌ لا يليق بعاقل.
وأمانته ماذا عنها؟ عمل بالتجارة فكان مثال التاجر الصدوق الأمين؛ اتجر لخديجة رضي الله عنها فلما رأت ما رأت من صدقه وأمانته ووفائه طلبت منه أن يتزوجها وهي التي رغب أشراف قريش لو ينالون شرف الزواج منها لما تتمتع به من كمال ومنزلة بين نساء قريش فرفضتهم وردتهم برغم ما بذلوا لها من الأموال وقطعوا لها من الوعود واختارت عليهم هذا اليتيم المُقلّ محمداً صلى الله عليه وسلم.
ثم ماذا؟ اشتهر بالصدق الذي لا صدق بعده أبداً! اختلفت قريش وكانت قريش تثق به ثقة مطلقة، لأمانته ولصدقه ولعفافه، اختلفت قريش حين هدمت الكعبة لتجديدها في رفع الحجر الأسود، وحمي الأمر وأنذر بالشر وتداعوا للقتال فقام رجل مسن منهم وقال لهم:
- رويدكم يا قوم اجعلوا الأمر حكماً في يد أول داخل من باب الصفا.
فرضوا فلما كان من الغد كان محمد صلى الله عليه وسلم أول داخل فلما رأوه فرحوا واطمأنوا واستبشروا وقالوا جميعاً:
- هذا محمد، هذا الأمين رضينا به وبحكمه.
فسألهم فأخبروه فقال: هلمَّ إليَّ ثوباً، فجاؤوه بالثوب فحمل الحجر بيديه الشريفتين ووضعه في الثوب ثم دعا رؤساء القبائل وأمرهم أن يحمل رئيس كل قبيلة طرفاً من أطراف الثوب حتى إذا ساوى الحجر المكان الذي يوضع فيه، حمله بيديه الشريفتين فوضعه في المكان الذي هو فيه الآن.
لو أن أي رجل من سادات قريش وزعمائها جاء ليكون في مكان محمد صلى الله عليه وسلم لأثار نزاعاً، ولأثار لغطاً شديداً لأنه ما من رجل منهم إلا وله هنات وهنات وله سقطات وسقطات ولكنْ محمدٌ ماذا يقولون فيه؟ بأي شيء يعلقون عليه؟ لهذا من غير تردد وبلا مجادلة وبلا نقاش قبلوا به وبحكمه.(/4)
أكثر من ذلك.. لما جاءت الدعوة وأنذر وبشر ودعا إلى الله واشتد الأمر بينه وبين قريش وتدابرت قريش فيما بينها فوصلت الأمور إلى حد التآمر على قتله صلى الله عليه وسلم هل فكر أحد من القرشيين أن يسترد ما كان عند محمد من أمانات؟ لا. حين أراد الهجرة في وقت المؤامرة وفي ساعة التنفيذ زعموا... خَلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه في الجنة في مكانه لكي يرد الأمانات إلى أصحابها.
يا سيدي يا رسول الله أية أمانة أية ثقة هذه التي كنت تتمتع بها من خصومك، من الذين يطلبون دمك، من الذين يسعون ليقتلوك أو يثبتوك أو يخرجوك، ما فكروا بأن أموالهم في خطر عند محمد صلى الله عليه وسلم، في أشد الأوقات وفي أحرجها كانوا يثقون بمحمد صلى الله عليه وسلم هذه الثقة المطلقة التي لا تتقبل المناقشة ولا الجدال ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم حين ووجه بالصد وأعلن تكذيبه ورفضت قريش سماع ما يقول: يقول له الله:
)فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون(.
هذا الذي تراه من قريش ليس تكذيباً لأن الكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى يعرفونك الصادق الأمين ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون حينما تكون شخصية الداعي بهذه المثابة من الطهارة والاستقامة والعفة والأمانة، تكون دعوته بمنجاة من كل الركام الذي يلحق الدعوات التي يقوم بها أناس عليهم بعض الشوائب وبعض المآخذ ولهذا نجد أن الأمور يُسِّرت لمحمد صلى الله عليه وسلم، كان طريقه إلى قلوب الناس مفتوحاً ومعبداً ومذللاً فهو الموصوف في الجاهلية وفي الإسلام بالوفاء والصدق والأمانة هو الموصوف بالوفاء الذي لا يَغْدر لمّا وضع أهل الحديبية وأثناء المفاوضات جاء أبو بصير رضي الله عنه فرفض سهيل أن يسمح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقبوله وقال: لجّت القضية بيني وبينك يا محمد أي تم العقد.
قال: صدقت، يا أبا بصير ارجع مع القوم.
قال أبو بصير: أُرَدُّ إلى قريش، إلى الكفار، يعذبوني ويفتنوني عن ديني يا معاشر المسلمين..؟
قال: يا أبا بصير إنا أعطينا القوم عهداً وإنه لا يصلح في ديننا الغدر..
الغدر ومساوئ الأخلاق ورديء الطباع قد يوفر لك مكسباً عاجلاً رخيصاً، لكن ثق أنك ستخسر الجولة الأخيرة، الاستقامة، الوفاء، الطهر، العفاف، صدق الحديث، قد يعرضك للمتاعب.. لكن ثق أنك ستكسب الجولة الأخيرة.. ما معنى هذا؟
معنى هذا أنني لا أطلب إلى كل داع إلى الإسلام أن يكون بصدق محمد، وبوفاء محمد، وبطهارة محمد.. ذلك شيء لا سبيل إليه، لكني أطلب وأشترط في كل متصد للدعوة إلى الله جل وعلا أن يكون صادقاً مع الله صادقاً مع نفسه صادقاً مع الناس لمجرد أن يتوفر هذا يكون طريقه سهلاً، لا بد من المتاعب ذلك ثمن يجب أن يدفعه كل متصد ومتقدم لتغيير الأوضاع المهترئة الفاسدة، ولكن العواقب مضمونة بإذن الله تعالى.
قد يتعرض الإنسان في موطنه للأذى.. يقال له كنت كيت وكيت، وكان منك كذا وكذا وهذا حصل ولا بد أن يحصل، لكني أريد أن أبشر أحبابنا أن مدار الأمر على الصدق مع الله تعالى، فالإنسان مهما يكن ملوث الماضي مهما تكن عليه من سقطات وشواغر يجب أن يعلم أن صدقه مع الله والتزامه بحدود الشريعة ووفاءه لهذه الدعوة والتحامه بجمهور المسلمين من أجلهم ولخدمتهم يهون عليه متاعب الطريق.
إن الله جل وعلا تكفّل، وهو الصادق الذي لا يأتي كلامه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لهؤلاء الناس الذين يصدقون معه أن يبدل الله سيئاتهم حسنات، بل أكثر من ذلك إن الله جل وعلا أخبر على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الرجل الصادق مع الله، الملتزم بأوامر الله جل وعلا يُنْسي اللهُ جلَّ وعلا الحفَظَةَ ذنوبَه ويمحو من أذهان الناس سيئاته، بل ويُنْسي الأرضَ التي عصا عليها معصيته.
إن الله جل وعلا لم يطلب منك أيها المسلم إلا أن تكون صادقاً معه فإن صدقت معه فالبقية على الله.
أيها الإخوة أيها الراغبون في سيادة كلمة الله، أيها الداعون إلى الله.
لا يكن ماضيكم.. معيقاً لكم.. إذا أحبَّ الله عبداً قال يا جبريل، إني أحببت فلاناً فأحبَّه فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أحبّ فلاناً فأحبوه ثم ينزل له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل فقال لجبريل: إني قد أبغضت فلاناً فأبغضه فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أبغض فلاناً فأبغضوه، ثم ينزل له البغضاء في الأرض.. مدارُ الأمر -كما ترون- على الصدق، وعلى الوفاء لنهج النبوة وتعهد هذا الدين، فإذا كنت صادقاً فثق أن الله جل وعلا بيده كل شيء وبيده مفتاح كل شيء.(/5)
إن الله كلّف إبراهيم عليه السلام فقال له: أذِّنْ في الناس بالحج، فقال: يا رب وماذا تبلغ دعوتي من الناس؟ أقف في مِنى وأقول إن الله كتب عليكم الحج من الذي يسمعني؟ قال الله جل وعلا: أذِّنْ في الناس وعلينا البلاغ. فأذَّنَ إبراهيم عليه السلام وسمعت الدنيا أسلافاً وأخلافاً دعوة إبراهيم عليه السلام في الحج إلى بيت الله الحرام، إذاً لماذا تعجُّبُك أيها المسلم؟!
إن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ حجّة الوداع وحجّ معه من أصحابه مئة ألف وعشرة آلاف عدا الأعراب ومن جاء مما لا يبلغه الإحصاء ولا يتناوله العد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون منتشرين في منى وخطب النبي صلى الله عليه وسلم ببلاغة العرب بوصايته الأخيرة بخطبة الوداع لم تكن هناك مكبرات للصوت، ولا كانت هنالك وسائل تبليغ الكلام إلى الناس وكان النبي عليه السلام يتكلم وكان الصوت يبلغ المسلمين وهم في خيمهم بقدرة الله جل وعلا وبإرادة الله جل وعلا فإذا كان الأمر كذلك فإياك أيها المسلم أن يردك أو أن يجعلك في تردد ما تشعر به من ماضيك، اصدق مع الله فأنت تنسى ماضيك وينسى الناس كلهم ماضيك وتنسى الحفظة ماضيك وتنسى الأرض التي عصيت عليها هذا الماضي.
شخصيه الداعي إذاً لها الأثر الحاسم في إنجاح الدعوة فليحذر كل إنسان يدعو إلى الله جل وعلا أن يسمح للحظته الحاضرة أن تكون شيئاً لا يرضي الله جل وعلا، ليعلم أنه حين يتصدى لدعوة الناس إلى الله لا يبقى الأمر متعلقاً بشخصه، الآلاف والملايين كلها تنظر إليه إن استقام استقاموا، وإن انحرف انحرفوا فليكن على حذر كل داع إلى الله جل وعلا متمثلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم آخذاً الدرس والعبرة من هذه الشهادة التي رويناها لكم والتي هي كلمات قلائل ولكنها تترجم عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الحياة الطاهرة النقية التي فتحت أمام محمد عليه السلام مغاليق القلوب والأسماع والأبصار فأبلغ دعوة الله إلى الناس قاطبة.
يا أحبابنا استعينوا بالله واعلموا أنكم في زمن يطلب من كل واحد منكم أن يجند نفسه لخدمة هذا الإسلام، هذا الإسلام أهمل طويلاً وطالت المؤامرات عليه، وهذا الإسلام تكسرت عليه النصال فوق النصال وآن لكل مسلم أن يعرف واجبه وأن يعرف أنه موقوف بين يدي رب لا تخفى عليه خافيه فمسئول عن كل كلمة وعن كل نأمة، وعن كل تصرف بلى وعن كل همٍ ونية وإرادة تحركت في خلجات الضمير، فاتصلوا بالله واعتصموا به هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
هذه يا أحبابي فكرة واحدة احفظوها وعوها وفي المستقبل سوف نحاول أن نعالج بقية الأفكار بهذا الشكل لا نخرج من المسجد إلا بشيء حقيقي قد تعلمناه..
شيء أخير أريد أن أقوله لكم:
هذا الكلام الذي أقوله لكم ليس كلاماً من قبل اجتهادي، خير ما عندي، وأنا أكره ما أكره موقف الأستاذ، موقف الموجه، موقف المعلم، أنا واحد منكم، قد أكون أجهل منكم، قد أكون أقلكم عزماً وحولاً وقوة، فأنا أطلب من كل واحد منكم أن يناقش وأن يفكر أنتم هنا لتسمعوا ولتفكروا وأنا هنا لأقول ولأسمع آراءكم والقضية قضية تعاون نحن نقول رأياً قد يكون صواباً وقد يكون خطأً وأنا لست من هؤلاء الذين يتأذون من رد الرأي ثقوا أنني أفرح من أعمق أعماق قلبي حينما أرى ولدي الصغير صحح لي خطئي نحن جميعاً إذاً باحثون عن الحقيقة، نبحث عنها، البحث عنها يقتضي الجد في النظر والتفكير والمناقشة. وخطبة الجمعة تعليم وتعاون بين المسلمين فلا تكونوا سلبيين.. من رأى رأياً لا يعجبه ولا ينطبق على ما يفكر فيه فليقل لا يستحي أنا ربما أغفل وربما أنسى ومن الراجح أنني أخطئ وأنا محتاج إلى رأي كل واحد منكم لنتعاون على التعرف على الحق..
فلا خير في حياة لا يسود فيها الحق أسأل الله جل وعلا أن يعينني وإياكم والمسلم(/6)
بداية الوحي وسبيل الداعية إلى الله (2)
25/7/1975
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما أيها الأخوة المؤمنون
فلقد كنا قد وقفنا في الأسبوع الماضي عند شهادة خديجة رضي الله عنها لمحاسن خصال النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وتبينا من خلال التتبع لكثير من الوقائع أن هذه الصفات العالية هونت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متاعب الطريق ووعدنا أن نأتي بالحديث على بقية الملاحظات التي أردنا إبرازها في الحديث الشريف.
وأولى الملاحظات التي تحدثنا عنها كانت قول خديجة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام في معرض التثبيت والتطمين.
"كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وثانية الملاحظات التي لم يَنْفَسح لنا مجال القول فيها والتي نأمل أن نأتي عليها اليوم بعون الله وتوفيقه تلك الدهشة التي أبداها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمع كلام ورقة بن نوفل، فمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أخبر خديجة رضي الله عنها بخبر ما رأى وما سمع، من بدايات الوحي، أخذه الروع، فذهبت به إلى ورقة، وورقة هذا كان رجلاً قد تنصّر في الجاهلية وأخذ علماً من علم أهل الكتاب ويبدو، والله أعلم، أن خديجة رضوان الله عليها التمست عند ورقة قطع اليقين فيما أحسته في نفسها من أن هذا الإنسان الذي هو زوجها كان له شأن عظيم، وبعد أن بشّر ورقةُ رسولَ الله صلوات الله عليه تمنى أمنية قال:
"يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك".
فدهش النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
أوَ مخرجيَّ هم؟ قال: "نعم. لم يأت أحد قومه بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً".
ربما يكون الوقوف عند مظهر الدهشة هذا أمراً غريباً على كثير من الإخوة، وسنحاول بإذن الله ونحن في معرض التقصي لخصائص النبي الخاتم محمد عليه السلام أن نستكشف أسباب هذه الدهشة وآثارها.. آثارها في النفس وآثارها في الآخرين، وما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله من احتذاء لهذا المثل الرائع المتمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحليلات طويلة، أحب أن أضرب لكم مثلاً يقرّب الأمر إلى الأذهان.. تصوّر أنك أمام عشرة أشخاص ثم تتكلم أمامهم بكلام فاحش ولاحظ تعابير الوجوه من هؤلاء.. من يتلوّن وجهه وتتأذى نفسه وتصدم أحاسيسه ويرى أن هذا القول لا يليق ليس هذا وحسب وإنما هو لا يتصور أن يخرج هذا الكلام الفاحش البذيء من إنسان يحترم معنى الإنسانية في نفسه، لاحظ الآخرين تجد بعضاً منهم لا يهتزون من كلمةٍ عوراء، ولا من قولٍ فاحش، فالأمر عندهم طبيعي للغاية. علامَ يدل هذا؟ يدل هذا على اختلاف طبائع الناس وعلى تباين فطر الناس وعلى تباين استعدادات الناس، ما كل إنسان يرى أن الحق أمر معقول بل هو واجب، وأن الأخذ به لا محيد عنه، وأن الإعراض عنه سَفَهٌ في النفس وخسّة في العقل، ما كل إنسان يتصور هذا التصور، هذا الشيء يحتاج إلى ناس على مستوىً عالٍ من الطهارة والكمال. أصحاب الطهارة ومن سلمت فطرهم واستقامت طبائعهم، يرون أن الأمر الطبيعي هو أن يكون الشيء المعقول هو السائد، وأن اللامعقول شذوذ ينبغي أن لا يحدث، وإن حدث فينبغي أن يطارد في المجتمع حتى يُجلى عن المكان الذي هو فيه.
حينما أخبر ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأن قومه سوف يخرجونه وسوف يؤذونه، استغرب أومخرجيَّ هم؟ لو كان غير محمد صلى الله عليه وسلم لكان استغرابه بغير معنى؛ لاشك أن الإنسان الذي ينادي الناس إلى غير ما عرفوا، وإلى غير ما ألفوا، سوف يطارد، وسوف يعادى، وسوف يخرج، وسوف تبذل الجهود من أجل إثباته أو قتله، لكن محمداً صلوات الله عليه سمة أخرى، الإنسان المستقيم بيننا في عرفنا يعرف هذا الشيء يعرف أن حامل الحق لابد أن يلقى البلاء ولكن أحاسيسه وتصوراته لا تعدو هذا التصور أما محمد عليه الصلاة والسلام فكان من مستوى آخر.(/1)
محمد صلوات الله عليه حين دهش لهذا الكلام الذي قاله ورقة، فتش في أطواء نفسه.. ما يدعو إليه الناس صحيح، ما جاء من عند الله ليس من عند نفسه؛ وإنما هو من فاطر الأكوان. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا.. فتش في أطواء نفسه: هل له في هذا الذي يدعو إليه طمع ومنفعة؟ غرض شخصي؟ غاية ذاتية، شفاء غل وحقد، طلب منصب ووجاهة، جمع مال وحطام. لاشك أن كل هذه النوازع البشرية والأحاسيس الذاتية غريبة عن تصور محمد صلى الله عليه وسلم، وعن فكره. وإذا كان الأمر كذلك أمر قضية موحىً بها من السماء لا شيء فيها من عند الإنسان الداعي وهي أيضاً أمر قضية لا يرجو صاحبها من ورائها جاهاً ولا مغنماً ولا أجراً، (إنْ أجريَ إلا على الله) ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم، إذا كان الأمر كذلك فلمَ يقف الناس في وجه هذا الشيء؟ الداعي في ذاته ما يدعو إلى التنفير وبالتالي إلحاق الأذى بشخصه، ولا الدعوة فيها ما يدعو إلى الرد والطعن، فلماذا يقف الناس ضدها، ولماذا يواجهونها بالعداء؟
دهشة النبي صلى الله عليه وسلم إذاً مبعثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طينة لا أقول خاصة فهي من طينة البشر (قل إنما أنا بشر مثلكم)، ولكنه عليه السلام كان يتمتع بالفطرة الصافية المشعة، فالله جل وعلا ليس معقولاً أن يختار لحمل رسالته وأدائها إلى الناس إنساناً من ذوي الطبائع الملتوية أبداً، وإنما يختار أصحاب الفطر السليمة، والطبائع المستقيمة والله جل وعلا يخبرنا عن موسى عليه السلام فيقول مخاطباً إياه: (واصطنعتك لنفسي)، ويقول: (ولتصنع على عيني).
فمن رُشِّح للنبوة فهو بعين الله جل وعلا -قبل النبوة وبعد النبوة- هو مجبول على أن لا تعلق به شوائب الدنيا، وعلى أن لا تهبط به نوازع النفس الخاصة المفعمة بالشهوات، لهذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين كان على هذا الشكل كان يستغرب أن يأتيَ قومَه بدعوة الحق من عند الله، فيقابل عليها بالأذى والصد.
هذا تقرير المسألة من حيث المبدأ من غير شروح وتحليلات زائدة عن الحد، وإن كان المجال واسعاً للقول فيها إلى غير نهاية لكني أريد أن أتتبع معكم آثار هذه الفطرة لأخلص إلى نتيجة أقررها سلفاً أنه في مجال الدعوة إلى الله لا يصلح لحمل هذه الأمانة الثقيلة والرسالة العظمى إلا إنسان حصل أمرين:
أولهما: ضغط هائل على النفس يخدعها عن شهواتها وأغراضها ويلزمها بالتمسك بمنهاج الشريعة منهاج الحق.
وثانيهما: شعور صادق يستغرق النفس ويخالط اللحم والعظم والعصب بأنه يحمل إلى الناس الدواء، ومهما لقي منهم من عنت وإرهاق، ومن صد وتكذيب فلا ينبغي أن يلفته ذلك عن الغاية التي ندب لها نفسه ولا ينبغي له هو أيضاً أن يلتفت إلى صَغَار النفوس لكي يسمح لها أن تحول بينه وبين مواصلة الطريق.
نأتي إلى الأمثلة، نأتي إلى الوقائع من واقع السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما بدأ عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله كانت المواجهة في مبدأ الأمر مواجهة الريبة والتوجس والترقب من أجل استكشاف هذا الشيء الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما واجه رسولُ الله عليه الصلاة والسلام قومَه بتسفيه أحلامهم وعيبهم وعيب آبائهم وشتمهم وشتم أصنامهم، وشجب قواعد الحياة الاجتماعية التي يعيشونها، قامت ثائرتهم ورأوا أن الأمر أعظم من أن يطاق، أو أن يمكن الصبر عليه بحال، فبادروه بالعداء فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم، لو كان رجلاً من الناس كسائر الرجال لثار لكرامته. ولثأر لنفسه ولكنه عليه الصلاة والسلام كان يتحمل ما يلقى من قومه بصدر رحب، كان شأنه كشأن الطبيب الذي يسمع من المريض قَارِصَ القول ولكنه يحمل له في أعماق قلبه كل الشفقة وكل الحب وكل الرجاء في أن يُشفى من هذا الداء العضال الذي يعاني منه.
لم تتحرك نفس النبي صلى الله عليه وسلم للانتقام لنفسه قط، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط برغم كل ما رأى وبكل ما سمع، ولكنه إذا انتهكت حرمات الله كان لا يقوم لغضبه شيء؛ بهذه النفس الطيبة والفطرة الخيّرة كان يقابل مساءات قومه كان يعفو ويصفح ويغفر، يدعوهم إلى الله فيشتمونه ويضربونه ويتربصون به حتى يسجد لله جل وعلا فيلقون على رأسه وعلى ظهره سلى الجذور والأوساخ والأقذار فإذا فرغ من صلاته قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
ذهب ذات يوم بعد أن يئس أو كاد من قومه قريش، ذهب إلى الطائف يلتمس للدعوة متنفساً بين رجالات ثقيف، فَرُدَّ أقبح الرد فرجع، رجع مُفَوِضاً إلى الله أمره يقول:
"إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي".
وحين كان في الطريق جاءه ملك الجبال فقال: يا محمد، إن ربك أرسلني إليك يقول لك: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. والأخشبان جبلا مكة.
قال: لا إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى.(/2)
لو فرضنا أن هذا الجيل لا فائدة منه، فالرجاء معقود بالأجيال القادمة ولهذا فنبي الله عليه السلام لم تنازعه نفسه بدعوة كدعوة نوح التي قال فيها:
(ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).
وإنما دائماً وأبداً:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
أيضاً أُخْرِج من بلده، بلد الصبا والطفولة والشباب، أرْضِ الذكريات الحلوة والتصورات العذبة، أرض الآباء والأجداد والاخوة والأخوات والأعمام والعمات، أخرج كرهاً وذهب وكانت له مع قريش صدامات وكانت موقعة أُحد بلاءً ابتلى الله المسلمين به وتمحيصاً محّص الله بواسطته قلوب المؤمنين وانجلت المعركة عن خسارة فادحة في صف المؤمنين.
سبعون من خيار المسلمين ضمن شهداء بواكير الدعوة ممن عاشوا أيام العذاب والبلاء والآلام مع محمد صلى الله عليه وسلم.
سبعون لو وزنوا بأهل الأرض لوزنوهم جميعاً.
سبعون لو قلنا إنهم وزنوا بمن يدرج على الأرض إلى يوم القيامة لرجحوهم.
سبعون يجندلون على الأرض قتلى في سبيل الله بينهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً به مجدوع الأذنين، مجدوع الأنف، مشقوق البطن، مستخرج الكبد، حالته لا يطاق النظر إليها، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم، أي بشر لا يهتز لهذا المنظر الشنيع الذي يدل على فساد في الفطر والطبائع تمتعت به قريش وجنت ثماره حصاداً مراً وعاقبة وخيمة وأليمة، تغيّظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
"ما وقفت موقفاً أغيظ عليّ من هذا الموقف والله لأن أمكنني الله من قريش يوماً من الدهر لأمثلنّ بهم مِثْلَة ما سمعت العرب بمثلها قط".
ذلك الموقف الرهيب موقف الخسارة الفادحة، الموقف الذي يحتاج إلى العزاء، ويحتاج إلى مداراة النفوس. أترون النبي صلى الله عليه وسلم تُرِكَ لينساق وراء هذه العاطفة الجارفة التي تجر إلى انحراف في الدعوة. لا.. في ذلك الموقف تنزل قول الله جل وعلا.
(ليس لك من الأمر شيء).
أي ما عليك إلا البلاغ، وأما ما يحدث فبعين الله وبعلم الله تبارك وتعالى ولغاية وحكمة يريدها الرب جل وعلا:
(ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون).
وأنتم يا إخوة تلاحظون جفاف اللهجة التي خُوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في بدر حينما اختلف المسلمون في الغنائم عاتبهم الله جل وعلا عتاباً رقيقاً في مواقع أخرى قال الله لنبيه:
(عفا الله عنك لمَ أذنت لهم).
في هذا الموقف لا مجال للمهادنة ولا مجال للإغضاء عن أي انحراف لأن طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا يتحمل أي انسياق وراء النازع البشري، وإنما هو ارتباط مطلق بحقائق الشريعة، وبأخلاقيات الدعوة وقوانينها الثابتة في الحركة ولهذا خاطبه الله تعالى بجفاف:
(ليس لك من الأمر شيء، أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون).
ومضت الأحداث، ليتجهز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وبدأت ثمار هذه الأخلاق العالية تؤتي أكلها في نفوس المشركين من قريش العقلاء، وأقبل في الطريق عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة المنورة، ماذا يكون الموقف؟ تصوروا لو أن إنساناً فعل الأفاعيل وارتكب المآسي ثم جاء مقبلاً واضعاً يده بين يدي دولة من الدول في هذه الأيام ماذا يكون الصنيع؛ ألقوا به في السجن؛ دعوه سنة وسنتين حتى نرى وحتى ننظر، لكن مسلك النبوة غير مسلك الناس استقبلهما النبي صلى الله عليه وسلم باسماً ضاحكاً مرحباً ماذا قال لخالد بطل مأساة أحد الرجل الذي قتل الرماة في أُحد وكسر المسلمين شر كسرة وجندلهم قتلى على الأرض ماذا قال لخالد؟
هل فكر في الانتقام منه؟ لا وإنما التفت إليه وقال يا خالد:
"لقد ظننت أن لك عقلاً سيجيء بك إلى الإسلام".
قال خالد رضي الله عنه: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الناس منذ أسلمت. في أمرٍ حَزَبَه قط؛ لمجرد أن جاء مسلماً مذعناً منحه النبي عليه السلام كل ثقته ولمجرد أن جاء ولاه جانباً من الجيش الذي قاده لفتح مكة، بالأمس أسلم من يثق بإنسان جاءه فقط بالأمس وهو -قبل ذلك- خَصمٌ لدودٌ وعدوٌ شديد العداوة مستحكم العداوة من يثق بإنسان من هذا النوع إلا النبي الذي يعامل الناس بمقتضى قوانين الإله لا بمقتضى نوازع النفوس، وكذلك فعل مع عمرو بن العاص سفير قريش الذي ذهب إلى الحبشة لكي يعيد المسلمين من هناك حتى يضعهم فرائس هينة بين يدي الطغاة من قريش أيضاً.(/3)
يا إخوة أيضاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى مكة لفتحها.. مكة التي أخرجته، مكة التي طاردته، مكة التي لفظته كما يلفظ الضعيف الهين عليها. ذهب فدخلها فاتحاً منتصراً، كيف دخلها؟ بالطبل والزمر؟ بالمهرجانات؟ بإطلاق المدفعية؟ لا.. دخلها راكباً على ناقته، خاضعاً خاشعاً لله مطأطئاً رأسه حتى إن لحيته الشريفة لتمس عنق راحلته من شدة تواضعه لله تبارك وتعالى. دخل كما يدخل العبد الطائع لله الذليل بين يديه العالم بأن النصر من عنده لا بحوله ولا بقوته، وجاء فوقف إلى الكعبة آخذاً بعضادتي الباب والتفت إلى قريش.. ظني بتلك النظرة كانت تحمل الذكريات الأليمة، ذكريات عشرين سنة من العذاب والإرهاق، من المطاردة التي لا تعرف كللاً ولا مللاً وقريش على منازلها تنظر إلى هذا الذي أخرجته بالأمس ويجيل الفكر.
بماذا يفكر محمد، ما الذي سينزلُ بهم محمدٌ من العقاب، تالله لو صلبهم على جذوع النخل لكان ذلك عقاباً حقاً لا يلومه عليه أي مؤرخ منصف من المؤرخين؛ التفت إلى الناس وقال:
يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: أقول كما قال يوسف عليه السلام:
"لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".
أين الانتقام ألم يكن في مكنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتقم من خصومه وأعدائه؟ بلى كان ذلك ممكناً ولكن صاحب الدعوة لا يفهم هذا المنطق تعالوا إلى القرآن نستنطق القرآن حقائق الطريق في هذه الزاوية التي نتحدث عنها، نحن نقرأ في سورة غافر أو سورة المؤمن موقفين متقابلين يَشِّفان عن تبادل الفطر لدى المعسكرين المتقابلين:
(وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب).
لاحظوا اللهجة الرقيقة الطاهرة السامية العالية:
(ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردّنا إلى الله وأن المشركين هم أصحاب النار، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).
بهذه الروح الطيبة بهذه الطبيعة الخيرة يتجه الداعون إلى الله إلى الناس فماذا يكون جواب المشركين والمعاندين عن أمر الله في نفس السورة نقرأ قول الله جل اسمه:
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال. وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
لاحظتم؛ الفرق بين الموقفين فريق يدعو إلى الله على هدى وبصيرة وبيّنة في منتهى الحب بمنتهى الشفقة لا يريد أجراً ولا شكوراً ولا مغنماً من الناس (إنْ أجري إلا على الله)، وفريق آخر؛ بمَ يقابل الدعوة؟ بالتي هي أحسن؟ بمَ يقابل الفطر السليمة؟ بمَ يقابل الحق الذي لا يتزعزع؟ بهذه اللهجة الرعناء بهذا التعالي بالقهر والسلطان اقتلوهم اصلبوهم اسحلوهم اشنقوهم ذلك هو منطق الفاسدين ذلك هو منطق العاجزين عن التصدي لدعوة الله تبارك وتعالى.
أين -يا أخوة- رأيتم في تاريخ الإسلام لحظة لم تكن مفعمة بالحب كانت توجه إلى الناس دعوة الله تبارك وتعالى بلا مَن وبلا استعلاء، بمنتهى الحب، بمنتهى الشفقة بمنتهى نكران الذات، وكانت تُقابل دائماً من أعداء الله ومن الذين يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط. كانت تقابل بهذه اللهجة العنيفة القاسية: اقتل، اصلب، اشنق، اسحل وما شاكل ذلك طبيعتان متغايرتان، طبيعة المؤمنين التي لا تعرف الثأر ولا تعرف الانتقام، وإنما هي حب مطلق ورغبة في الخير مطلقة وطبيعة الفاجرين والمعاندين والظالمين تلك التي لا تعرف إلا البغي والعدوان لا جرم أن هاتين الطبيعتين تُنْتِجان آثاراً متباينة وقد كان وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يلقى الأذى من قومه حتى أذعنت له نفوسهم، ودخل معارك نعم دخل معارك، وكان فيها قتلى، نعم كان فيها قتلى ولكن نحن بين يدينا إحصاءات كاملة عن عدد الذين قتلوا في معارك الإسلام طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الفريقين من المؤمنين ومن المشركين ثقوا يا أحبائي أن عدد الذين قتلوا في كل معارك الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز عدد قتلى يحصدهم رشاش واحد في مظاهرة يقوم بها بعض الناس، في معارك اليوم.(/4)
من أين تَنْتُج، تنتج من الطبائع الملتوية والفطر الوسخة، ولذلك فهي تدمير كلها وهي عبث وفساد في الأرض، ومعارك الإسلام على غير هذا الطراز، ماذا أريد من ذلك باختصار ولكي لا أطيل عليكم أريد أن أقول كلمتين لكل إنسان تحدثه نفسه بخدمة هذا الإسلام:
-يا إخوة- حينما نَصفُ أقدامنا على الطريق إلى الله ينبغي أن نميت نوازع الذات في نفوسنا، لا ينبغي لأحد أن يفكر في مطمع ولا في مغنم ولا في جاه ومنصب ولا محمدة بين الناس، عليه أن يتجه إلى الله فالله عنده خزائن كل شيء وبيده إثابة الطائعين العاملين. يترفع عن سفاسف الأخلاق؛ التي يقاتلك بها الناس واعلم أن هذا المظهر الذي تراه مظهر لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل فطاقة الإنسان على العناد والمكابرة طاقة محدودة ولابد أن يأتي اليوم وتأتي اللحظة التي يذعن فيها أشد المعاندين لله ولرسوله وللداعين إلى شريعة الإسلام لكن بشرط لمجرد أن يتحرك في قلبك النازع الذاتي لمجرد أن تنساق بعامل بشريتك! اعلم أنك قد أفسدت كل شيء، عليك أن تكون رابط الجأش في وجه الزعامة، عليك أن تكون ثابت الجنان في وجه التهديدات. عليك أن تكون واثقاً من أنك بعين الله تبارك وتعالى، عليك أن تكون واثقاً بأنك تحمل رسالة على كفيك لم تصنعها أنت وبالتالي فلست أنت المسؤول عنها وإنما أنت مسؤول عن نفسك أن تأطرها على الحق الذي أراده الله جل وعلا، أما متى يأذن الله بالنصر متى يأذن..؟ فليس من شأنك.. إنه من شأن الله، ينصر من يشاء حين يشاء..(/5)
بداية تقدّم
عبد الكريم بكار 1/10/1426
03/11/2005
انتهى رمضان (كل عام وأنتم بخير)، وصار جزءًا من الماضي، ونحن نشعر جميعًا أن هذا الشهر المبارك كان يشكل احتفالية روحية ضخمة شارك فيها المسلمون: صغارهم وكبارهم في سائر أنحاء المعمورة. إننا لا نعرف عبادة من العبادات تستحوذ على اهتمام المسلمين على النحو الذي نجده في عبادة الصيام. لقد تعود المسلمون التعامل مع شهر رمضان على أنه شهر استثنائي، وهذا يعود في الأساس إلى ما لمسه الصحابة –رضوان الله عليهم- من إقبال نبيهم –عليه الصلاة والسلام- على العبادة في كل رمضان، ولاسيما العشر الأواخر منه، فقد كان يعتكف في المسجد، ويعتزل نساءه، ويشد مئزره إيذانًا بالانصراف الكلي إلى مناجاة الله –تعالى- والتقرب إليه. ولدى كثير من المسلمين اليوم شعور بأن رمضان مناسبة مهمة لتخصص حركة المساعي الدنيوية في سبيل توفير المزيد من الوقت للإقبال على الله –سبحانه-؛ ومن ثم فإن كثيرًا من الأعمال يُؤخر إلى ما بعد رمضان، ولهذا دلائله الإيجابية الكثيرة!
إن المتتبع لحملة الآداب والسنن والمشروعات في شهر رمضان المبارك –يجد أنها مجتمعة توجد بيئة روحية فريدة، ففي هذا الشهر المبارك يرتاد المسلمون المساجد بكثرة، وتشهد صلاة الفجر حضوراً لافتاً مع أنها في غير رمضان شبه مهملة من معظم المسلمين. ونجد إقبال المسلمين على قراءة القرآن حتى إن بعضهم ليختم في هذا الشهر خمس ختمات أو ستًا. وتنبسط الأكف بالصدقة والعطاء، وتكثر الموائد التي يجتمع عليها الفقراء.. وهذا كله يجعل الوضعية الوجدانية والروحية لدى معظم المسلمين في حالة ممتازة.
لا أريد أن أسترسل في الحديث عن فضائل رمضان وبركاته، ولكن أود أن أقول: لماذا يعود السواد الأعظم من المسلمين بعد رمضان إلى ما كانوا عليه قبله من تقصير في أداء الفرائض وهجر للمساجد وغوص في الشأن الدنيوي..؟!
هل يحدث هذا لأن المسلمين ينظرون إلى رمضان على أنه (موسم)، ودائمًا تكون المواسم طارئة وغير عادية، ويكون ما بعدها مثل ما قبلها؟
أو أن هذا يحدث لأن تأثير رمضان في نفوس المسلمين لم يكن جذريًا إلى درجة إغرائهم بالتمسك بالمسرات الروحية التي خبروها في رمضان والعمل على استمرارها؟
هل يكون السبب هو كثرة المشاغل الدنيوية التي تجذب الناس بعيدًا عن الاهتمام بالمعنى والمشاعر والرفاه الروحي؟
أعتقد أن سبب ذلك هو خليط من كل هذا، وهناك أسباب أخرى ربما تعود إلى طبيعة النفس البشرية وميلها إلى الملل، والتنصل من المسؤوليات.
إننا ونحن مهمومون بشجون الإصلاح، وغارقون في شؤون التنظير العقلي، نسينا شيئًا جوهريًا هو أن المكمن الحقيقي لذات الإنسان هو روحه وليس عقله. ونسينا كذلك أن علاقتنا الشفيفة بالله –جل وعلا- هي مصدر السعادة الحقيقية في هذه الدنيا، وهي مصدر الوقود الحيوي الذي نحتاجه من أجل الاستمرار في العطاء ومن أجل مقاومة الضغوط الهائلة التي تتوارد علينا من كل اتجاه. إن حب الله –تعالى- ورجاءه وخوفه واستحضار عظمته وفضله علينا ولطفه بنا.. هي المحصلة النهائية لكل قربة من القرب، وكل عبادة من العبادات. وإن المطلوب أن تشكّل هذه المعاني الصبغة العامة لكل هواجسنا، وأن تصوغ سلوكاتنا وقبل ذلك أمانينا وتطلعاتنا. إن علينا أن نقوم بحركة توعويّة كبرى تستهدف تعليم الناس الطريقة التي تمكّنهم من جعل رمضان نقطة لبداية تغيير على الصعيد الشخصي. لعل مما يرمز إلى هذا ما سنّه النبي –صلى الله عليه وسلم- من إتْباع صيام رمضان بصيام ستة أيام من شوال؛ إذ المحاولة الواضحة للتشبث بالصيام ونقل بعض قرب رمضان إلى شوال.
في رمضان تعوّد الناس الاستيقاظ قبل الفجر من أجل السحور، ومن المهم أن يحاولوا الاستيقاظ مدى الحياة في وقت السحر، ولو مرة واحدة في الأسبوع. وفي رمضان ذاق الناس معنى التلاوة اليومية لكتاب لله –تعالى- ومن المهم أن يرتّب كل واحد منهم على نفسه وردًا أو حزباً يوميًا من التلاوة حتى يظل على صلة بكلام الله. وفي رمضان تعوّد الناس البذل، وسيكون من الحيويّ أن يوطّنوا أنفسهم على مساعدة غيرهم على نحو يومي ولو بشيء زهيد.
سنعرف قدر رمضان، وسنقوم بحق عبادة الصيام حين نحاول استصحاب ظلال الصيام وإيحاءاته وإشراقاته لتكون جزءًا من السلوك العام والأجواء العامة لأمة الإسلام. بالتثقيف والحوار والقدوة وزيادة الوعي قد نستطيع الوصول إلى كثير مما نريد في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق.(/1)
بداية سورة العلق (3)
الجمعة 24 رجب 1395هـ 1 آب 1975 بداية سورة العلق
(3)
العلامة محمود مشّوح
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد تحدثنا إليكم في الجمعة الفائتة عن النموذج الأمثل: النبي صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم. وتبينا من خلال الحديث الآثار التي نجمت عن هذه الفطرة والطبيعة الصافية. وعرفنا له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مواقف يصعب على أبناء اليوم تصورها لأنها لو صدرت عنهم في ظل الظروف التي تحكم الإنسانية اليوم لعُدَّت هذه الآثار، وهذه التصرفات سفهاً بعيداً عن الصواب، لكننا متمسكون بأن الإنسانية لا رجاء لها بالخروج من هذه الفوضى التي تعم العالم شرقاً وغرباً ولا أمل لها مطلقاً في أن تتخلص من هذا الاضطراب وما يرافقه من كبت وإرهاب إلا حين تتسلم قياد الإنسانية طبائعُ على النحو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الدعوة إلى الله ليست أمراً هيناً كما قد يتبادر إلى البعض، إنها صراع مع الذات بالدرجة الأولى وصراع مع ما هو خارج الذات، وإنها نمط في معاملة الأحياء لا يطيقه ولا يقدر عليه إلا الذين وطّؤوا أنفسهم على احتمال المكاره والمشقات، ومرنوا أنفسهم على العطف والإشفاق على صَغَار الإنسان وعلى سفه الإنسان، إن سياسة المجتمعات البشرية لا تكون بالعنف ولا بالقسوة لأن المجتمعات الإنسانية حصيلة أفراد، وهؤلاء الأفراد جهاز إنساني عجيب لا يطيق أن يسار به نحو الغايات المرسومة فوق الألغام وإنما هو يأخذ سبيله إليها بعد الاقتناع بها وبعد الإقرار بصحتها وبصوابها وهذه القضية البدهية تفترض حقاً القاعدة التي أشرنا إليها في الجمعة الفائتة فالحب والحب وحده وبالتعالي عن الصغائر والتغاضي عن السيئات، وبإسقاط حظوظ النفس وعدم التأثر الذي يقع داخل حدود الذات، بهذا فقط يمكن أن تقاد المجتمعات.
فالعنف سلاح يرهب ويحطم صاحبه قبل أن يحطم الآخرين، العنف سياسة فاشلة لأنها دليل على إفلاس الحجة وسقوط في العقل لأن الإنسان لو ملك الحجة ما كان محتاجاً أبداً إلى العنف، ولهذا فنحن في منطق الإسلام نرفض ما يسمى بالعنف الثوري. ونرى أن هذا الأسلوب يدمر الحياة الإنسانية ولا يبنيها، ونرى إن شاء الله تعالى أن الحب الغامر والإشفاق العظيم والرغبة الأكيدة في إيصال الخير إلى الناس وإدخال القناعات إلى نفوسهم هو، وهو وحده، الذي يكفل السير السليم والعاقبة السليمة بإذن الله.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم بسهولة وبوضوح ذلك السلوك العجيب الذي كان يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الذين يدعوهم إلى النجاة ويرفضون إلا تعلقاً بالوثنية وأوهامها وخرافاتها، ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التربية العالية التي اكتسبها الأصحاب رضوان الله عليهم من قائدهم ومعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا نماذج تحتذي هذا المعلم وتنهج على منواله.
يا إخوة خلاصة ما انتهينا إليه في الجمعة الفائتة أن الله تعالى فطر نبيه صلى الله عليه وسلم على طبيعة خيرة مستقيمة وأنه بأثر من هذه الطبيعة النادرة، واجه قومه بأسلوب حطم مقاومتهم وأنه حين ظهر عليهم وألقوا أزمة أمورهم بين يديه لم يعاملهم معاملة بشرية وإنما عاملهم معاملة ربانية لم يثربهم ولم يلمهم ولم يعنفهم، ولم يوقع بهم العقاب، ولو فعل لكان له في ذلك واسع العذر، ولكنه كان يتصرف بمقتضى قانون القدوة التي ضربها الله للناس إلى أن تقوم الساعة حتى يجد فيها العاملون متعلقاً سليماً يفيئون إليه عند اختلاط الآراء والنظريات. هذا الأسلوب كما قلنا نتيجة طبيعية معينة وأريد من غير تعقيدات أن أشرح لكم جوانب بسيطة من نظرة الإسلام إلى هذه الواقعة.
الإسلام يرى أن الأصل في الإنسان أنه خيِّر، وأنه طيب ليس شريراً بالطبع ولا فاسداً بالطبع، وإنما الشر والفساد جاءا من معاملته مع المحيط الفاسد، لكن إذا كنا نطلق هذه النظرية إطلاقاً فثمة مخاطر. إذا قلنا أننا نعطي للمحيط كل هذه القدرة على الإفساد والتشويه والتخريب فنحن نسقط مبرر الدعوات جميعاً، لأنه إذا كان المحيط يملك القدرة على كل هذا التخريب فمعنى ذلك أنه لا فائدة من العمل ما دمنا نعيش في محيطات فاسدة، لكن الأمر على خلاف ذلك، على خلاف ما يظهر للنظرة المتعجلة قلت إن الأصل أن الإنسان خير، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى "إني خلقت عبادي كلهم حنفاء" أي على فطرة الإسلام مائلين عن الشر والفساد ثم اجتالتهم الشياطين، والشياطين اسم يمكن أن يجمع كل عوامل الشر والانحراف التي توجد في المجتمعات الإنسانية، مع ذلك فنحن نلخص أن طبائع الناس هنالك طبائع قوية وهنالك طبائع ضعيفة، الطبائع القوية تستطيع أن تحافظ على نقائها وعلى طهرها وعلى استقامتها وعلى شرفها في ظل أسوأ الظروف. سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الناس فقال:
(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).(/1)
الطبيعة الخيرة، الفطرة القوية لمجرد أن ترى شعاع الحق تحنُّ إليه وتلتف من حوله وتأخذ بأسبابه، الفطرة المنهارة الضعيفة الهابطة الملوثة لا تستطيع أن تنفك من أغلال هذه القيود التي يفرضها المجتمع. في كل مجتمع إنساني يكون للمجتمع سلطان ولكن على من؟ على أصحاب الفطرة التي لا تكاد تتماسك، على الضعفاء على الذين يلوون إرادتهم ويعطلون عقولهم.
لكن باستمرار هنالك دائماً فئة من الناس تتمتع بهذه القدرة الغريبة على خرق ستار هذا الوهم الكبير الذي يسمونه المجتمع. على عاتق هؤلاء الناس تقع مهمة التغيير، على أكتاف هؤلاء الناس تقع مسؤولية الإصلاح، عليهم أن يحدوا الركب أحراراً لكي يفيئوا إلى الحقيقة وذلك لن يكون باستعمال العنف لن يكون إلا بضرب القدوة والمثل على الصبر والتحمل ورفض استعمال العنف وإبداء المحبة والشفقة على خلق الله.
ولن يأتي زمان كبير حتى تجد أرباب العنف وأصحاب الأنوف التي شمخت بالأمس استفاقوا وألقوا أسلحتهم ووضعوا مقادتهم في أيدي دعاة الحق، الشيء الذي يربك بكل صراحة أيها الإخوة، الشيء الذي يضلل ويربك أن الذين دعوا إلى الله ولم تنجج دعواتهم، لأنهم لم يسلكوا الطريق الصحيح مئة بالمئة، ما ينفكون حتى يخسروا وحتى يملوا وحتى ينساقوا مع النازع الإنساني وهنا بداية الفشل.
ما دام الداعي إلى الله متمسكاً برغبته العارمة في إيصال الخير إلى الناس محمولة على وعاء من الحب الصافي رافضة أن تحتكم إلى نوازع النفس واندفاعاتها، فالعاقبة لها دون ريب والمسألة ليست سوى مسألة زمن، وبعد ذلك كل شيء سينتهي إلى قراره الصحيح. وهكذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تبدو بين أصحابه رضوان الله عليهم ظواهر الألم والمرارة، تبدو عليهم ظواهر فقدان؛ الضبط. إلى متى نحن نُعذَّب في الله؟ إلى متى ونحن نتلقى اللطمات ولا نرد هذه اللطمات، إلى متى لا نستعمل قوة الساعد والعصى والسيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكفكف من غلوائهم، ويرد هذه النفوس التي تكاد أن تتردَّى في مزالق خطرة يردها إلى القاعدة الإيمانية الصحيحة.
جاءوه يوماً وهو مسند ظهره الشريف إلى جدار الكعبة فقالوا:
يا رسول الله (ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا)؟ونظر النبي الكريم إلى هذه الوجوه الطافحة بالألم التي تفيض مرارة لما لقيت من أعداء الله، نظر إليها نظرة العاطف المشفق الودود وقال:
"إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيربط إلى شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيشق نصفين. وكان يمشط ما دون عظمه ولحمه بأمشاط من حديد ما يرده ذلك عن دين الله، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراعي من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون).
كان يستعمل الحكمة الإلهية في ردِّ هذه النفوس عن الاندفاع مع النزوات، الأمر ليس أمراً شخصياً لكي أسمح للنازع الشخصي أن يتصرف فالأمر أمر دعوة لم أضعها وإنما جاءت من قبل الحكيم الخبير، وهو يضع قوانينها، وهو يخط قواعدها وهو يبين شرائعها ليس لي أن أتصرف في هذه القواعد والأمر بعدُ ليس أمرَ مجتمع محصور وإنما هو أمر إنسانية طويلة عريضة، والأمر من بعدُ ومن قبلُ ليس أمر لحظة زمنية محدودة وإنما هو أمر الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها وهو خير الوارثين، فالمسؤولية حين تصور أمام الداعية على هذا النحو ليست مسؤولية هينة لا يجوز له قط أن يسمح لنفسه بالاندفاع أكثر مما ينبغي هنالك حدود حينما تبلغ دعوة الدعاة إلى الله بالجهد، بالمصابرة، بالتضحية عبر الآلام والدماء مرحلة النضج والاكتمال. فسوف يكون بمقدورهم أن يتحكموا بمصائر الأخيار، قبل ذلك لا. قبل ذلك لا. قبل ذلك لا.
ما يروج له في هذه الأيام في معسكرات الشيوعية والمتأثرين بها من استعمال مناهج العنف الثوري وسيلة إلى التغيير خطأ ولا ريب، ودمار محقق لا يوصل إلا إلى البغضاء والشحناء وتدمير الإنسانية رأساً على عقب، منهجنا غير ذلك لكن حينما نصل بالأمور إلى هذا الحد وللذين سألوا خلال الأسبوع الفائت فيجب أن نفرق بين أمرين يجب أن نفرق بين وضعية الداعي ضمن مجتمع جاهلي، وبين وضعية الداعي المجتمع الكامل السائر على منهاج الله.. الداعي في مجتمع جاهلي لا يسوغ له بتاتاً أن يتورط بالعنف وإنما سبيله الحب والمودة وعدم هز المجتمع أكثر مما ينبغي، والداعي ضمن مجتمع قائم على قاعدة الإيمان وضعه يختلف، أنت في مركز المسؤولية عليك وجائب غير الوجائب التي عليك وأنت لا مسؤولية أمامك.(/2)
حينما تكون في مركز المسؤولية يتوجب عليك أن تحمل مَنْ وراءك.. كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ما رفع يداً بأذى على مخلوق طيلة الفترة المكية، ثلاثة عشر عاماً مرت بالحرمان، بالجوع، بالعطش، بالمعاركة، بالآلام التي لا حدود لها آلام فوق التصور؛ ومع ذلك لم يسمح لنفسه عليه السلام أن يرفع يداً بأذى إلى مخلوق حتى إذا هاجر إلى المدينة، ووجد المجتمع المسلم كانت له أيضاً مهمة واضحة ومحددة هنالك الأمانة العظمى التي يجب أن تبقى أبداً أمام نظر الدعاة وأمام نظر المجتمع المسلم؛ نحن لا غرض لنا بموت الناس وليس حبيباً إلينا أن نريق دماء الناس، وليس هيناً علينا أن نمس بالسياط ظهور الناس، كل ذلك لا نريده لكن حينما يرادُ الكيان كله بالأذى وحينما تعترض الأمة كلها بالعدوان فلا سبيل إلا أن يرد العدوان بمثله.
حينما تكون هنالك مجتمعات مسلمة كاملة الإسلام فإن لها مطلق الحق في أن تدفع الأذى عن نفسها، إلا أن الأمر حينما يكون أمر أفراد ضمن مجتمع جاهلي فالأمر مختلف دون أدنى ريب هذه الطبائع القوية التي حدثتكم عنها في الجمعة الفائتة هي الكفيلة فقط بإيصال الإنسانية إلى بر السلام، هي الأمينة على سياسة الشعوب لأنها هي الأيدي النظيفة فقط. هذه الطبائع القوية لم يكن منها ما نشهده اليوم في الساحة الدولية من تخريب ودمار وإنما كانت تعامل الناس بالحسنى وكانت تفهم ضعف البشرية ومن ثم تعقب على هذا الضعف ولا تريد أن تدمر الإنسان.
شخص الداعي محمد صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة وفي حياته العامة كان مثالاً على هذا الذي نقول: أغضبته ذات يوم جارية في بيته عليه السلام فأعتقها، هل ضربها، هل انتهرها هل شتمها لا وإنما قال لها وهو يستاك بالسواك "لولا أنني أخاف الله لأوجعتك بهذا السواك".
شخصه الكريم جاءه رجل يطلب منه ديناً فاستمهله واعتذر بعدم وجود شيء فجذبه من ردائه وكان يلبس رداء من الصوف حتى احمر موضع الرقبة من الرداء فقال له: أعطني حقي يا محمد فإنكم قومٌ مُطْلٌ يا آل عبد المطلب، وتكاثر الأصحاب يريدون أن يفتكوا بهذا المتطاول على مقام النبوة، ولكنه ردهم وقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً.
في الحياة العامة ماذا كان يفعل، كان دائماً يردّد على آذان أصحابه:
لا يُبَلّغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن ألقاهم وأنا سليم الصدر.
كان يكره التشكي، وتتبع عورات الناس ونقل الكلام الفاسد ويريد للمجتمع أن يكون مبناه على الصدق، أي مجتمع إنساني خلا من الفساد؟ أي مجتمع إنساني خلا من التخريب في بعض الجوانب؟ أليس أمامنا إلا أن نرفع العقاب، وأن نكمم الألسن، أليس من الممكن أن هذا الإنسان التبست عليه الأمور وفهم الأمور على نحو غريب، أليس من حقه علينا أيها الإخوة أن نلفته إلى جادة الصواب، بلى ذلك كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان من توجيهاته الحاسمة أن الحاكم إذا ارتضى الغيبة في الناس أفسدهم.
إن الحاكم إذا تجسس على المواطنين أدخل الفساد إلى المجتمع، لأن القانون الذي ستعامل به الناس بعد ذلك قانون الشك والارتياب وسوء الظن لا غير وهذا يجر إلى فساد عريض.. من هنا قلت لكم إن الطباع القوية هي فقط موطن الإنسانية، هي التي تستطيع أن تقود الإنسانية إلى بر السلامة لأنها تملك أولاً الطبيعة الخيرة التي لا تعمل من أجلها وإنما من أجل خير البشرية. وتملك أيضاً النظام المتكامل المتوازن توازناً دقيقاً يعني تملك المجتمع الذي يملك قوة ضاغطة نحو الخير لا نحو الشر والفساد.
إن الإسلام حينما وضع موضع التطبيق كان دعامة لهذه الطباع أن تأخذ سبيلها نحو الخير والبر والمعروف ولم تكن تلك الشرائع تسمح بأي حال من الأحوال بأي نازع إنساني أن يتسرب إلى جسم المجتمع بالفساد وبالفوضى، شيئان يجب أن لا يغيبا عن البال متكاملان متعاونان على أداء الرسالة: طباع مستقيمة، وفطر سليمة، وتشريع وقانون اجتماعي يهيئ الجو الملائم لتفتح عوامل الخير في النفس الإنسانية، هذا الشيء الذي عرفناه حتى الآن، هل هو أمر هين؟ لا صور لنفسك أيها الأخ أبسط الأشياء، في عبادتك والعبادة جانب من جوانب هذه الدعوة لو أنك حاولت أن تعبد الله حق العبادة أية آلام أية متاعب سوف تقاوم؟ أنت حينما تريد إرضاء الله مطالب بأن تؤدي الصلوات لأول أوقاتها وأن تؤديها في المسجد مع الجماعة أية مشقة تلك التي تتعرض لها من أجل التردد خمس مرات في اليوم والليلة على المسجد، أنت مطالب مع الفريضة بسنن ومطالب بأذكار أية مشقات هذه التي يتقاضاك إياها قيامك بهذا العمل أنت في تعاملك مطالب بالصدق مطالب بالاستقامة، كم من الجهود يجب أن تبذل من أجل أن تستقيم من أجل أن تتغلب على نوازع الطمع والشره في نفسك أنت كداعٍ إلى الله مطالب بأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم كم يكلفك ذلك من مشقات ومجهودات، ضع أمام ناظريك قائمة بوجائب الإسلام في الحياة الخاصة فقط، وتصور كم فيها من مشقات هذه الدعوة.(/3)
هذا الإسلام ليس سلوى، ليس تسلية وإنما هو عملية ممارسة تغيير في ذات الإنسان وفي واقع المجتمع، تتطلب اليقظة الكاملة من الإنسان، والنظر المحيط الشامل الذي يضم تحته كل العوامل المؤثرة في سير الإنسانية، كم يكلفك هذا وأنت تدعو إلى الله تبارك وتعالى هل تتصور كما قلت لكم في الأسبوع الفائت أن مجرد تغيير الشرط الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى تغيير المجتمع، وإلا أيها الإخوة فإنّ التجربة السوفيتية فقط، أكلت عشرين مليوناً من الناس ذهبوا، قطعاً للرقاب أو قتلاً في ثلوج سيبيريا فقط، وما أشبه ذلك من وسائل الإفناء، والتدمير، عشرون مليوناً قامت الحرب الكونية الثانية لم تأكل مثل هذا الرقم..!
إن تغييراً وإصلاحاً يكلف إجهاض مثل هذا العدد المخيف، وهو تغيير وإصلاح لا خير فيه. إن تغيير الشرط الاقتصادي لا يفعل شيئاً مع إغفال بقية الشروط، نحن أمام إنسان وإن قال الشيوعيون إن الإنسانية تزحف على معدتها يعني أنها تفكر بوحي الحاجة المادية، وتعمل بوحي الحاجة المادية هذا كذب وهذا تضخيم للأمور لا يجوز أن يستمر لأن في استمراره دمار البشرية كلها، الإنسان له عقل، وله غرائز وله حاجات وله علائق لا يمكن أن تقع تحت حصر، والنظام الناجح هو النظام الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه الأمور ويبني سياسته على أساس من هذه الحسابات.
بظني أنه لا سبيل لمجهود بشري -مهما كانت العقول القائمة على تنفيذه وتقريره كبيرة- أن تحيط بكل هذه الأشياء، باعتقادي أنه لا ينجح إلا النظام الرباني ومن هنا نضيف إلى مبررات أخذ الإنسان بالإسلام التي سبق أن قلناها في الماضي هذا المبرر الواضح، وهو الشعور بأن الإنسانية كلها محتاجة إلى هذا الإسلام، فإذا شعرنا بهذا الشعور واجهنا مسؤولياتنا ومن مواجهة المسؤوليات ننفذ إلى حكمتين نريد أن نقولهما عن سالفة الملاحظات إلى ذكرناها من قبل حينما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم:
"يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك".
قال: أو مخرجي هم.
قال: نعم لم يأت أحد قومه بمثل ما جئتهم به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
هذا الكلام يكشف عن هذه الحقيقة التي قلناها لا بد من ثمن يدفع من أجل نجاح الدعوة، لا بد من متاعب لا بد من آلام لا أريد أن أشرح هذا الأمر لأن حديثي عن المرحلة المكية كلها سيكون إلقاء الأضواء على هذه الحقيقة الكبيرة، ولكني أكتفي بأن أقول إن بداهة العرب حين ووجهوا بالدعوة فأخذوا بها هدتهم إلى هذه الحقيقة، هدتهم إلى أن الأخذ بمنهاج الله يعني تضحيات، يعني آلاماً يعني متاعب قال ابن اسحق في السيرة وهو يتحدث عن بدايات الوحي وما كان من موقف النبي صلوات الله عليه، تجاه هذا الوحي:
ثم تكامل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء من عنده قد قبله بقبوله وتحمّل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم قال والنبوة – ونضيف نحن وكذلك الدعوة إلى الله – والنبوة أثقال ولا يقدر عليها ولا يستطيع النهود لها إلا أصحاب القوة والعزيمة من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه.
قال ابن إسحق: ثم قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الأذى وخلافه هذه الحقيقة إذاً مدركة في أقدم وثائق الدعوة عندنا على الإطلاق، حقيقة مدركة يحاول بعض الذين يدّعون خدمة الإسلام أن يفروا من مواجهتها لأن في مواجهتها تكاليف ومتاعب لا يطيقونها أو لا يريدون أن يدربوا أنفسهم على إطاقتها وتحمَّلها.
العرب الأولون قلت لكم اهتدوا إلى هذا.. اسمعوا. يقول ابن إسحق: إن القوم – الأنصار- حين اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قام العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سهل بن عوف فقال:
يا معشر الخزرج هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم.
قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون له إذا ذهبت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعمتموه إليه على نهكة الأموال ومصيبة الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا بل نأخذه على مصيبة الأموال وعلى قتل الأشراف.
ثم التفتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قائلين:
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا البيعة بهذه؟
قال الجنة.
قالوا: أبسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.(/4)
الأصحاب الذين جاؤوا مبايعين دخل الإسلام إليهم حديثاً وجاءوا يبايعون رسول الله ويستخرجونه من بين أظهر المشركين هل تصوروا أن هذا الإسلام تمر يأكلونه أو شربة ماء عذبة يجرعونها؟ أبداً.. تصوروا أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام أهدروا نحورهم للناس جميعاً وأعلنوا الحرب على كل الفاسدين والمفسدين في كل مكان على وجه الأرض ومع ذلك أخذوه صلى الله عليه وسلم. أخذوه من أجل ماذا؟ هل سألوه ماذا لنا من الغنائم؟ هل سألوه هل ستحقق لنا الرخاء الاقتصادي؟ هل سألوه: هل سوف تُعِبَدنا أهل مكة أو ما شابه ذلك؟ لا. إنما سألوه ماذا لنا؟ قال: الجنة.. لا ثواب على الأرض لأن أحداً لا يستطيع أن يعد بثوابٍ على هذه الأرض.. الثواب على الأرض عند الله متى أراده الله كان وإن شاء أن يمنعه عن عبد من عباده لم يكن وإنما يستطيع الداعي أن يعد بشيء واحد: الجنة – رضوان الله إشباعُ هذه النفس الخيرة ربطُها بأسمى ما في النفس الإنسانية من نوازع الخدمة العامة بلا منٍّ وبلا استعلاء وبلا طلب أجر وبلا طلب المثوبة من الناس.. طلب الجنة والأجر من الله تبارك وتعالى.
وإذاً بهذا نستطيع أن نعلم علماً واضحاً أن الإسلام هو: هذا متاعب وآلام ومشقات وتعريض الرقبة للقطع والتعليق على المشانق وجلدٌ وضرب بالسياط وركض وراء الإنسان، وعبث به، وتشويه لسمعته.. كل هذه النوازع السافلة التي تحرك الإنسانية اليوم ستهيج مثل الزنابير على الذين يدعون إلى الله تبارك وتعالى هذا خير هذا هو بغير مداورة، وبغير مجاملة وبغير وعود مكذوبة ليس عندنا ما نقدمه للناس إلا الآلام، ليس عندنا ما نعد به النفس إلا الدم، ليس عندنا ما نعطيه للناس إلا التضحية بغير حدود بهذا فقط يمكن للداعي إلى الله أن يتعرض للدعوة وأن يتفوق في هذه المهمة الكبيرة، لا يمكن إلا من طريق الآلام أن تنجح الدعوة إن الله جل وعلا بَيَّن ذلك في محكم الكتاب بياناً شافياً لم يترك لإنسان أن يتصور غير هذا لا شيء إلا الألم، ولا شيء إلا المتاعب لكن النتائج دائماً وأبداً مضمونة بإذن الله تبارك وتعالى.
أيها الإخوة هذه -كما قلت- من قبل مقدمات وضعتنا في الصورة الصحيحة لخصائص الداعين إلى الله جل وعلا على ضوء سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذه مقدمات وضعت بين أيدينا أيضاً خصائص الدعوة بالذات وسوف نحاول بدءاً من الأسبوع القادم بإذن الله تبارك وتعالى، أن ندخل إلى صميم الموضوع فنرى بكل تدقيق وبكل أمانة علمية ورصانة فكرية، سنرى حين جهر محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى أي شيء دعت الناس، أوليات الوحي هذه السور التي نزلت أول ما نزل من القرآن سورة العلق، سورة القلم سورة المدثر سورة المزمل سور أربعة سوف أحاول في الأسبوع القادم والذي يليه أن نتعرف إلى المهمات الرئيسة التي وضعت على كاهل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وإلى المطالب الأساسية التي طلب إلى المجتمع الجاهلي المشرك أن يعتقد بها وأن يعتنقها ثم نشاء من بعد أن نقيس حجم رد الفعل كيف كانت استجابة المشركين تحت أية قوانين، تحت أية عوامل كانت المواقف الجاهلية ترجح وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه هذه المواقف.
من هذه المقايسات والموازنات ومن محاولة التعرف إلى الوقائع بحجمها الصحيح سوف نصل إلى استخلاص القوانين الأساسية التي توصل المجتمع المسلم إلى بر الأمن والسلامة راجياً من الله تبارك وتعالى أن يعيننا جميعاً على هذه المهمة الصعبة الثقيلة آملاً منكم جميعاً وقبل الجمعة القادمة أن يحاول كل منكم أن يفتح المصحف وأن يقرأ هذه السور الأربعة بعناية بتركيز وأن يحاول أن يفهم لماذا لأنني أريد منكم أن تشتركوا معي في هذه المهمة الصعبة.. أعترف بكل صراحة أنني لو كنت أقدَّر أن البحث هذا يصل إلى هذه النقاط، لأضربت عنه من أول الحديث لكن تورطت وما دمت قد تورطت، فتحملوا المسؤولية معي، فكروا أعينونا بآرائكم بتفكيركم ما أقوله كما قلت من قبلُ ليس هدفاً من غير خير ما نقدر عليه اجتهاد شخصي محاولة سبر غور قضية بطريقة عقلية بحتة ليس في أيدينا وحي ولا في أشخاصنا عصمة ونحن وإياكم نقف على أرض مشتركة إن قرأتم هذه السور وفكرتم بها وسمعتم ما أقول وفكرتم بما نسمع فسوف تنتج عندكم آراء أرجو أن أنتفع بها وتنتفعوا بها أنتم أيضاً والله جل وعلا ينفعنا جميعاً بما نقول وبما نسمع وألا يجعل ما نقول وما نسمع حجة علينا يوم تسقط جميع الحجج وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(/5)
بدع في شهر رجب
س : يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة ( 27 ) منه فهل ذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيرا
أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز
ج : تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة ( 27 ) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز ، وليس له أصل في الشرع ، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم ، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة ، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب ، وهكذا الاحتفال بليلة ( 27 ) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج ، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع ، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها ، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها ، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم ، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها .
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز ول : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق على صحته ، وقال عليه الصلاة والسلام : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أخرجه مسلم في صحيحه ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أخرجه مسلم أيضا .
فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملا بقول الله عز وجل : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وقوله سبحانه : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أخرجه مسلم في صحيحه .
أما العمرة فلا بأس بها في رجب لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وكان السلف يعتمرون في رجب ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه : ( اللطائف ) عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم ونقل عن ابن سيرين أن السلف كانوا يفعلون ذلك . والله ولي التوفيق .
المصدر موقع الشيخ ابن باز
نشرت في ( مجلة الدعوة ) العدد رقم ( 1566 ) في جمادى الآخرة 1417 هـ .(/1)
بدعة ليلة النصف من شعبان
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الآية من سورة المائدة، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الآية من سورة الشورى وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي صحيح مسلم عن جابر ، أن النبي كان يقول في خطبة الجمعة:
( أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته، ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعدما بلغ البلاغ المبين، وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال، وأوضح أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحاب رسول الله الأمر، وهكذا علماء الإسلام بعدهم، فأنكروا البدع وحذروا منها، كما ذكر ذلك
كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح ، والطرطوشي، وأبي شامة وغيرهم.
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله وورد فيها أيضا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب، في كتابه: (لطائف المعارف) وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان، فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام: أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية . وأنا أنقل لك: أيها القارئ، ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة، حتى تكون على بينة في ذلك، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب: رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله- عز وجل، وإلى سنة رسول الله ، فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطراحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله، فضلا عن الدعوة إليه وتحبيذه، كما قال سبحانه في سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ الآية من سورة الشورى، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة، ووجوب الرضى بحكمهما، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان، وخير للعباد في العاجل والآجل، وأحسن تأويلا: أي عاقبة. قال الحافظ ابن رجب - - في كتابه: (لطائف المعارف) في هذه المسألة- بعد كلام سبق- ما نصه: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم، ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد. كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويتكحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله حرب الكرماني في مسائله.(/1)
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى، إلى أن قال: ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان: من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه (في رواية) لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي وأصحابه، واستحبها (في رواية)، لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف، لم يثبت فيها شيء عن النبي ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام"انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب .
وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي ولا عن أصحابه شيء في ليلة النصف من شعبان، وأما ما اختاره الأوزاعي من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول، فهو غريب وضعيف . لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعا، لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفردا أو في جماعة، وسواء أسره أو أعلنه. لعموم قول النبي : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها، وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه: (الحوادث والبدع) ما نصه: (وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم، قال: ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلا على ما سواها).
وقيل لابن أبي مليكة : إن زيادا النميري يقول: (إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر)، فقال: (لو سمعته وبيدي عصا لضربته) وكان زياد قاصا، انتهى المقصود
وقال العلامة:الشوكاني في: (الفوائد المجموعة) ما نصه: "حديث: (يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات قضى الله له كل حاجة ) إلخ وهو موضوع، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في: (المختصر): حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي : (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها)، ضعيف وقال في: (اللآلئ): (مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات ) مع طول فضله، للديلمي وغيره موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال: واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع. وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب (الإحياء) وغيره وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة- أعني: ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلي سماء الدنيا، وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم بني كلب، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة، على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه" انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي : (حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله وكذب عليه، وقال الإمام النووي في كتاب: (المجموع): (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب: (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين)، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك) .
وقد صنف الشيخ الإمام: أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابا نفيسا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد، وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جدا، ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلام في هذه المسألة، لطال بنا الكلام، ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعا لطالب الحق.(/2)
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة ، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجعل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) فلو كان تخصيص شيء من الليالي، بشيء من العبادة جائزا، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها. لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، فلما حذر النبي من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.
ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه النبي على ذلك، وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه، كما في الصحيحين عن النبي علي أنه قال: ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة، لأرشد النبي الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة إلى الأمة، ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن أصحاب رسول الله وأرضاهم، وقد عرفت آنفا من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله ، ولا عن أصحابه شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة، بدعة منكرة، وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب، التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها، للأدلة السابقة، هذا لو علمت، فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف، وقول من قال: أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة، ولقد أحسن من قال:
وخير الأمور السالفات على الهدى ...................وشر الأمور المحدثات البدائع
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها، والحذر مما خالفها، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبد الله بن باز(/3)
بديع الزمان النورسي *
بقلم: عبد الله الطنطاوي
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه، وبعد:
فهذه بضاعة مزجاة، يقدّمها عبد فقير قليل، عن عظيم من عظماء أمتنا الإسلامية في عصورها الحديثة، تتناول محوراً من محاور شخصيته العملاقة، هو عبارة عن ملامح في خطة عظيمنا: بديع الزمان النورسي - خطّته الإصلاحية، ومنهجه في التغيير لمجتمع كان مسلماً، نقياً، مجاهداً، ثم غزاه الغزاة من الخارج، واصطنعوا لهم صنائع يغزونه من الداخل، ليحطّموه، ويلغوا شخصيته، ويبدّلوا هويته، ويمسخوه مسخاً، ليغدو قزماً يتمسّح بعتبات عملاق شاكي السلاح، سلاحٍ مادّي يقتل به ويدّمر، وسلاح فكري ظهير لذلك السلاح، بل كان الممهّد له في العقول والنفوس التي تربّت على أعين حاسدة حاقدة، طالما خططت ودبّرت للإجهاز على (الرجل المريض) فكانت المؤتمرات المؤامرات، ...
بديع الزمان النورسي
جاز على المسؤولين، فحسبوا أصحاب الطلاء مسلمين، ولم يعوا حقيقة الأقنعة وما تخفي تحتها من سخائم وضغائن، وكيد وتآمر، وأحقاد تاريخية، وتطلعات توراتية تلمودية، واستراتيجيات وتكتيكات يرسمها دهاقنة المحافل الماسونية التي انتشرت هنا وهناك وهنالك، وتحت أسماء صريحة حيناً، خفيّة حيناً آخر.
وكان الغزو من البرّ والبحر، وكانت الخيانات سلوكاً لناسٍ غُدُرٍ، ائتمنتهم الأمة في غفلة منها ومن أولياء أمورها الحاكمين، فلم تنتبه ليهودية مطلية بطلاء زائف
بديع الزمان النورسي
فيما يلي تعريف موجز بالإمام بديع الزمان سعيد النُّورسيّ - رحمه الله رحمة واسعة - ليكون بمثابة المدخل إلى شخصيته.
المولد:
ولد سعيد النورسي في قرية (نُوْرس) الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام (1294 هـ - 1877م) من أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح، ونشأ في بيئة كردية يخيم عليها الجهل والفقر، كأكثر بلاد المسلمين في أواخر القرن الماضي، وبدايات هذا القرن. وإلى قريته (نُوْرس) يُنْسَب.
علمه:
وقد بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ طفولته، ولمّا دخل (الكُتّاب) وتتلمذ على أيدي المشايخ والعلماء بهرهم بقوة ذاكرته، وبداهته، وذكائه، ودقّة ملاحظته، وقدرته على الاستيعاب والحفظ، الأمر الذي جعله ينال الإجازة العلمية وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي، فقد حفظ عن ظهر غيب، ثمانين كتاباً من أمّات الكتب في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والحديث والفقه والتفسير وأصول الفقه، كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.
كما عكف على دراسة العلوم العصرية، أو العلوم الكونية الطبيعية، من رياضيات، وفلك، وكيمياء، وفيزياء، وجيولوجيا وجغرافيا وتاريخ وفلسفة حديثة وسواها من العلوم، حتى غدا عالماً فيها، ومناظراً فذّاً للمختصين بها، وصار له رصيد ضخم من المعلومات، مكّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.
كان طالب العلم سعيد النورسي شديد الاحتفال والاشتغال والتعلّق بالفلسفة والعلوم العقلية، وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها، كأكثر أهل الطرق الصُّوفية، بل كان يجهد لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثتها إياه مداومة النظر في كتب الفلاسفة.
مع القرآن الكريم:
في عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) وقف في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف الشريف بيده، ويهزّه في وجوه النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته:
"مادام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".
فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من أعماقه:
"لأبرهننّ للعالم أجمع، بأن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها."
ورأى النّورسيُّ رسولّ الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وسأله أن يدعو الله له: أن يفهّمه القرآن، ويرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك، قائلاً له:
" سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألا تسأل أحداً شيئاً"
وأفاق النورسيُّ من نومه، وكأنما حيزت له الدنيا .. بل.. أين هو من الدنيا، وأين الدنيا منه.. أفاق وكأنما حيز له علم القرآن وفهمه، فقد آلى على نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، استجابة لشرط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبه الله ما تمنَّى، وصار القرآن أستاذه ومرشده وهاديه في الدياجير التي اكتنفت تركيا الكمالية.
بديع الزمان في مهبّ الأعاصير:
نستطيع تمييز مرحلتين في حياة الإمام سعيد النورسيّ:
الأولى: مرحلة سعيد القديم، وتبدأ من مولده حتى نفيه إلى (بارلا) عام 1926 وهذه المرحلة هي مرحلة الإعداد الذاتي لنفسه، ومرحلة العمل الفردي، وخوض المعارك السياسية، مدافعاً عن الخلافة، وعن القرآن والإسلام، مهاجماً أعداء الإسلام والخلافة والقرآن.
وفي هذه المرحلة:(/1)
- وفي هذه المرحلة سافر إلى إستانبول عام 1896 ليقدم مشروعاً لإنشاء - جامعة إسلامية حديثة في شرقي الأناضول - بلاد الأكراد - وأطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء) لتكون على منوال (الأزهر) في مصر، غير أنها تختلف عن الأزهر بتدريس العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية والعربية، وذلك من أجل النهوض بالأكراد المسلمين المهملين الذين يفتك بهم الجهل والفقر والتخلف. ولكنّ النورسي لم يلق قبولاً من السلطان عبد الحميد ومن وزير داخليته.
- وفي عام 1907 سافر مرة أخرى إلى إستانبول، للغرض ذاته، وقابل السلطان عبد الحميد، وانتقد الاستبداد ونظام الأمن واستخبارات القصر (يلدز) فأثار عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية.
وكان النوسيّ في منتهى الشجاعة في التعبير عن رأيه أمام القضاة العسكريين، الأمر الذي جعل رئيس المحكمة يحيله إلى الأطباء النفسانيين، للتأكد من سلامة قواه العقلية، وكانت لجنة الأطباء المؤلفة من طبيب تركي، وآخر أرمني، وثالث رومي ومن طبيبين يهوديين (!!!) قررت وضعه في مستشفى (طوب طاش) للمجانين) (!!!).
وعندما حضر طبيب نفساني إلى المستشفى، لفحص قواه العقلية، بادره النورسيّ بحديث رائع عميق يأخذ بالألباب، فما كان من الطبيب إلا أن يكتب في تقريره:
" لو كانت هناك ذرّة واحدة من الجنون عند بديع الزمان، لما وُجد عاقل واحد على وجه الأرض."
ثم أحيل النّورسيّ إلى وزارة الداخلية، وكان الحوار التالي بينه وبين وزير الداخلية:
الوزير: إن السلطان يخصك بالسلام مع مرتب بمبلغ ألف قرش وعندما تعود إلى بلدك سيجعل مرتبك ثلاثين ليرة كما أرسل لك ثمانين ليرة هدية سلطانية لك.
بديع الزمان: لم أكن أبداً متسول مرتب، ولن أقبله ولو كان ألف ليرة لأنني لم آت لغرض شخصي، وإنما لمصلحة البلد، فما تعرضونه عليّ ليس سوى رشوة السكوت.
الوزير: إنك بهذا تردّ الإرادة السلطانية، والإرادة السلطانية لا تردّ.
بديع الزمان: إنني أردّها، لكي يستاء السلطان ويستدعيني عند ذلك أستطع أن أقول له قولة الحق.
الوزير: إن العاقبة ستكون غير سارة.
بديع الزمان: تعددت الأسباب والموت واحد، فإن أعدم فسوف أرقد في قلب الأمة، علماً بأنني عندما جئت إلى إستانبول كنت واضعاً روحي على كفي.. اعملوا ما شئتم، فإني أعني ما أقول: إنني أريد أن أوقظ أبناء الأمة، ولا أقوم بهذا العمل إلا لأنني فرد من هذا البلد، لا لأقتطف من ورائه مرتباً، لأن خدمة رجل مثلي للدولة لا تكون إلا بإسداء النصائح، وهذه لا تتم إلا بحسن تأثيرها، وهذا لا يتم إلا بترك المصالح الشخصية فإنني معذور إذن عندما أرفض المرتب.
الوزير: إن ما ترمي إليه من نشر المعارف في بلدك هو موضع دراسة في مجلس الوزراء حالياً.
بديع الزمان: إذن فلم يتأخر نشر المعارف، ويُستعجل في أمر المرتّب؟ لماذا تؤثرون منفعتي الشخصية على المنفعة العامة؟.
- ثم ذهب إلى (سلانيك) مقرّ يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و(الماسونية) وسواهما، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسيّ العبقري إلى صفهم، وكان ممن التقاهم: (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني، وكان قره صو يطمع في النورسيّ، ولكنّ المقابلة بينهما لم تطل، لأن قره صو فرّ هارباً من اللقاء، وهو يقول:
"كاد هذا الرجل العجيب - النّورسيّ- يدخلني في الإسلام، بحديثه.".
و(قره صو) هذا هو أول صهيوني ما سوني عمل على خلع السلطان عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
- وفي هذه المرحلة اتّهم فيمن اتّهم بحادثة 31 مارت (13/ 4/ 1909) وسيق إلى المحاكمة، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلّقين على أعواد المشانق، ظّناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه.. قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا:
- وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين)..
فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على سمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي:
"لو أن لي ألف روح لما تردّدت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام، فقد قلت: إنني طالب علم، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة، إنني لا أعترف إلاّ بملة الإسلام.. إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله؛ ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف، وتبدو من أعماق القلب، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.(/2)
إنني متهىّء بشوق لقدومي للآخرة.. وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذين عُلّقوا في المشانق. تصوّروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها، فاشتاق إليها.. إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها. إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة. إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية. لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد والآن فإنها تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا؛ فليعش الجنون، وليعش الموت، وللظالمين فلتعش جهنم..".
وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.
- أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية، والوطنية الضيقة، كجمعية الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة.
- انضمّ إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرّيّة، شُكّلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية، ومحاربة أعدائها. وكان قد انضمّ إلى هذه المؤسسة كثير من المفكّرين والكتّاب، وكان النورسيّ من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبّوا للدفاع عن الخلافة.
- وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقي دروسه ومحاضراته، متجوّلاً بين القبائل والعشائر الكردية، يعلّمهم أمور دينهم، ويرشدهم إلى الحق.
- وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية، ووسائل علاجها.
- وفي سنة 1912 عُيّن بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول، من الأكراد خاصة.
- وفي سنة 1916 تمكّنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدَّى النورسيّ وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية، وخاضوا عدة معارك ضدّها، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته، الأمر الذي اضطرّ أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك، فاقتادوه أسيراً، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين وأربعة أشهر، ثم تمكّن من الهرب من معسكرات الاعتقال، إثر الثورة البلشفية في روسيا.
عزة المؤمن:
وذات يوم قدم هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي.
أما قصة ذلك فهي كما يأتي:
كان خال القيصر والقائد العام للجبهة الروسية "نيكولا نيكولافيج" يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ما عدا (سعيد النورسي). لاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه.. فلم يقم له كذلك، وفي المرة الثاثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بواسطة مترجم للقائد:
- الظاهر أنك لم تعرفني؟
- بلى.. لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج، خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.
- إذن فلم تستهين بي؟
- كلا، إنني لم أستهن بأحد، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمرك عقيدتك؟
- إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له. ولو أنني قمت لك لكنتُ إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.
- إذن فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.
تشكلت المحكمة العسكرية، وقُدّم إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.
ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحّين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ أنه رفض ذلك بإصرار، قائلاً لهم:
"إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".
وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام، وفي يوم التنفيذ تحضر ثُلّة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسيّ:
- أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير.
ثمّ يقوم ويتوضأ ويصلّي ركعتين.
وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة:
- أرجو منك المعذرة، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.
- في 13/8/1918 عُيّن عُضواً في (دار الحكمة الإسلامية) التي كانت تضم كبار العلماء والشعراء والشخصيات. وقرّرت الحكومة له مرتباً، ولكنه ما كان يأخذ منه إلا ما يقيم أوده، والباقي ينفقه على طباعة رسائله العلمية التي كان يوزعها مجاناً.(/3)
- وبعد أن احتلّ الحلفاء (الإنكليز والفرنسيون) العاصمة إستانبول، ألّف النورسي كتابه (الخطوات الست) وحكم عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب، وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة، وأراد محبّوه إنقاذه، فدعوه إلى (أنقرة) فأجابهم:
"أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة، وليس من وراء الخنادق. وأنا أرى أنّ مكاني هذا أخطر من الأناضول".
- دُعي إلى أنقرة سنة ،1922 واستُقبل في المحطة استقبالاً حافلاً، ولكنه لاحظ أنّ أكثر النوّاب لا يصلّون، كما أنّ مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام، فقرّر أن يطبع بياناً في 19/1/1923 تضمّن عشر مواد، وجّهه إلى النواب، واستهله بقوله:
"يا أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم"
وكان من أثر هذا البيان الذي أُلقي على النواب، أنّ ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة، والتلزموا بالدّين، الأمر الذي أغضب مصطفى كمال الذي استدعى النورسي وقال له:
"لاشكّ أننا في حاجة ماسّة إلى أستاذ قدير مثلك، ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة، ولكنّ أوّل عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة.. لقد كان أول جهودك هنا هو بثُّ الفرقة بين أهل المجلس."
فأجابه بديع الزمان، مشيراً إليه بإصبعه في حدّة:
"باشا.. باشا.. إنّ أعظم حقيقة تتجلَّى بعد الإيمان هي الصلاة، وإنّ الذي لا يصلّي خائن، وحكم الخائن مردود."
عندها فكّر مصطفى كمال بإبعاده عن العاصمة، فعيّنه واعظاً عاماً للولايات الشرقية، وبمرتّب مغرٍ، ولكن النورسيّ رفض الوظيفة والراتب.
- كتب النورسي ونشر في هذه المرحلة عدّة كتب ورسائل منها: إشارات الإعجاز - والسنوحات - والطلوعات - ولمعات - وشعاعات من معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وسواها باللغة العربية.
المرحلة الثانية من حياته:
في عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة "وان" حيث انقطع للعبادة في إحدى الخرائب المهجورة على جبل "أرك" ولم يدرِ شيئاً عن الأعاصير التي تنتظره.
وجاء من يدعوه إلى تأييد ثورة الشيخ سعيد بيران ضد الحكومة الكمالية العلمانية المعادية للإسلام، فأبى تأييدها، ولكنّ هذا الموقف، وذلك الانقطاع للعبادة، لم ينجياه من غضب حكومة أنقرة التي أمرت بالقبض عليه، ونقله إلى استانبول، ومن ثم إلى مدينة "بوردور" ثم إلى "بارلا" في جو بارد من شتاء عام 1926 القارس، فقد كان الجو بارداً، ومياه البحيرة متجمدة وأحد جذافي القارب الذي يحمله إلى منفاه في المقدمة يكسّر الثلوج بعصاً طويلة في يده، ليفتح بذلك طريقاً للقارب الشراعي.
وفي "بارلا" بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان، وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي، مما لم يمرّ في حياة إنسان وهو صابر محتسب، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، شعاره في ذلك:
"أعوذ بالله من الشيطان والسياسة".
وفي هذه البلدة صنع له أحد النجارين غرفة خشبية صغيرة غير مسقوفة، وضعت بين أغصان شجرة الدلب العالية حيث كان النورسي يقضي فيها أغلب أوقاته في فصلي الربيع والصيف، متعبداً لله، متأملاً متفكّراً، وعاكفاً على تأليف رسائل النّور طوال الليل، والناس يسمعون همهمات العالم العابد المتهجد.
أمضى النورسي في "بارلا" ثماني سنوات ونصف السنة، ألّف فيها أكثر رسائل النّور، وهو يعاني من عدّة أمراض، ولا يشتهي الطعام، بل كان يكتفي من الطعام بكُسيرات من الخبز مع قليل من الحساء "الشوربة" ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاةً من أحد.. كان -كما قال عن نفسه- يعيش على البركة والاقتصاد.
وفي هذه المرحلة كان يؤلّف ويكتب باللغة التركية، والحروف العربية، ويأمر تلاميذه بالكتابة بالحروف العربية، حفاظاً عليها من النسيان.
وقد أسهمت النساء بنسخ الرسائل -الكتب- التي كان يمليها بديع الزمان على تلاميذه، ثم يقوم هؤلاء بتهريبها إلى النساء، ليسهرن في استنساخها، ويقضين الليالي في ذلك، حتى إذا أنجزنها، سارت بها ركبان طلبة النور في طول البلاد التركية وعرضها.
ورسائل النور هذه تدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة.
وتصدّى بها للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية. السياسة التي نحّت الدين جانباً، وولَّى أصحابها وجهوهم نحو أوربا، والسير في ركابها. ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف - بكل قوة- في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرّض له من نفي وسجن واعتقال.
وهذا يعني، أن شعاره في هذه المرحلة: "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" لا يعني أنه تخلّى عن السياسة فعلاً، بل أراد به حماية تلاميذه من شرور الأشرار من السياسيين، ومع ذلك، لم ينجح هو ولا تلاميذه من الملاحقة والمحاكمات والسجون التي أطلق عليها النورسي وتلاميذه اسم: المدرسة اليوسفية.(/4)
وقد جاء في قرار اللجنة المدقّقة لرسائل النور في مدينة (دنيزلي):
"ليس لبديع الزمان فعالية سياسية، كما لا يوجد أيّ دليل على أنه يؤسس طريقة صوفية، أو قائم بإنشاء أي جمعية، وإن موضوعات كتبه تدور كلّها حول المسائل العلمية والإيمانية وهي تفسير القرآن الكريم."
- عندما أطلق سراحه في الخمسينيات، كان في السابعة والسبعين من العمر، وكان يقول لزائريه أو الذين يرغبون في زيارته:
"كلّ رسالة - من رسائل النور- تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف."
وكان قد طلب أكثر من مرّة من تلاميذه طلبة النور، ألا يربطوا الرسائل بشخصه الضعيف، فيحطّوا من قيمتها، لأنّ للإنسان أخطاء وعيوباً قد سترها الله عليه.
كما كان يدعو تلاميذه إلى عدم التعلّق به، لا في حياته، ولا بعد مماته، فذلك له أضرار جسيمة على الدعوة.
- وكان النورسيّ يحبّ أعالي الجبال، كما يحبّ أعالي الأشجار الباسقة الشاهقة، وكان يفضل الصلاة على الصخور المرتفعة، وكان يقول لتلاميذه:
" لو كان فيَّ قوة شبابكم هذا، لما نزلت من هذه الجبال."
لقد كان النورسيّ أمة في رجل، وربَّى تلاميذه بالقدوة، وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك -كما قال عن نفسه- وهو عصرنا، وقد هيّأ الأدوية الناجعة للجروح الإنسانية الأبدية، وقدّمها إليها خلال رسائله وكتبه التي هي من نور القرآن العظيم.
وفاته:
توفّي الإمام النورسيّ في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379 هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960 م تاركاً موسوعة إيمانية ضخمة تسدّ حاجة هذا العصر، وتخاطب مدارك أبنائه، وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين، وتزيل شبهاتهم من أسسها، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة، وبراهين ناصعة، جمعت في ثمانية مجلدات ضخام، هي : الكلمات - المكتوبات- اللمعات- الشعاعات- إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز- المثنوي العربي النوري- الملاحق- صيقل الإسلام. وقد ترجمت إلى اللغات العربية والإنكليزية، والألمانية، والأردية، والفارسية، والكردية والفرنسية، والروسية وغيرها، ودُفن في مدينة (أورفه).
وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27 /5/ 1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسيّ إلى جهة غير معلومة.
وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسيّ نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته، بعد خمسة أشهر من وفاته، فقد قالوا له:
"سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه"
وقاموا بهدم قبر بديع الزمان، وقلت في نفسي: "لا بدّ أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً، ولكنّ ما إن لمست الكفن، حتى خيّل إليَّ أنه قد توفّي بالأمس. كان الكفن سليماً، ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس وكانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.
وعندما كشف الطبيب الكفن عن وجهه، نظرت إليه كان هناك شبه ابتسامة على وجهه.
احتضنا ذلك الأستاذ العظيم المظلوم، ووضعناه في التابوت الآخر الكبير الذي كان الجنود قد جلبوه، وقد ملأنا الفراغ حوله بالأعشاب.
وعندما تم كل شيء، ذهبنا إلى المطار. كانت الشوارع خالية من الأهلين، ومليئة بالجنود المدججين بالسلاح، حيث أعلن منع التجول في المدينة.
لم تسع الطائرة الأولى التابوت الكبير فجلبوا طائرة ثانية، وضعنا التابوت فيها، وجلست بجانبه.
كان الحزن والأسى يملآن قلبي، وكانت عيوني مليئة بالدموع..
وقد اتجهت الطائرة إلى (أفيون)، ومنها نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى مدينة (إسبارطة) حيث دفن في مكان ما، لا يزال مجهولاً.
ولعل هذا كان استجابة القدر لما تمناه في وصيته لتلاميذه بعدم معرفة مكان قبره، إلا بعدد الأصابع من تلاميذه المخلصين.
ملخص حياة النورسيّ بقلمه:
وأخيراً نقدّم فقرات من الرسالة التي وجّهها النورسي إلى كل من رئيس الوزراء، ووزير العدل، ووزير الداخلية، بيّن فيها ملخّص حياته:
"إن جميع رجال الدولة يعرفونني عن كثب، ولا سيما أولئك الذين عاصروا الظروف الجسام التي مرت على البلاد، منذ إعلان الحرية (الدستور)، وأثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال غزو الحلفاء للبلاد ودخولهم إستانبول، وما أعقبته من أحداث لحين تشكل الحكومة الوطنية، وفترة إعلان الجمهورية؛ فالذين يحيطون علماً بتلك الظروف ممن يتولون الآن مناصب في الدولة يعرفونني معرفة جيدة ومع هذا فاسمحوا لي أن أعرض مشاهد من حياتي أمامكم عرضاً سريعاً.(/5)
"ولدت في قرية " نورس" التابعة لولاية "بتليس" وطوال فترة حياة التلمذة وتحصيل العلوم، دخلت في مناقشات علمية حادة مع كل من قابلته من العلماء، كنت أتغلب عليهم بفضل العناية الربانية. حتى بلغت إستانبول. وهناك في جوها المشوب بآفة الشهرة والصيت، لم أنقطع عن مناظراتي العلمية. إلا أن وشاية الحاسدين والخصماء أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد - رحمه الله رحمة واسعة- ثم استقطبت نظر حكومة الاتحاد والترقي، بناءً على خدماتي أثناء إعلان الدستور وحادثة 31/مارت. طرحت عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة "وان"، باسم "مدرسة الزهراء" على غرار الأزهر الشريف. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكّلت من طلابي والمتطوعين "فرق الأنصار" وتوليت قيادتهم فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في "بتليس" حيث وقعت أسيراً بيدهم، إلا أن العناية الربانية أنجتني من الأسر. وأتيت إستانبول وعُينت فيها عضواً في دار الحكمة الإسلامية، وبادرت إلى مجاهدة الغزاة المحتلين لإستانبول في تلك الظروف الحرجة، وبكل ما وهبني الله من طاقة، إلى أن انتهت حروب الاستقلال وتشكلت الحكومة الوطنية في أنقره، فنظرتْ من جديد -تثميناً لخدماتي تلك- إلى مشروع تأسيس الجامعة في "وان".
إلى هنا كانت حياتي طافحة بخدمة البلاد، وفق ما كنت أحمله من فكرة خدمة الدين عن طريق السياسة، ولكن بعد هذه الفترة وليت وجهي كلية عن الدنيا وقبرت "سعيداً القديم" -حسب اصطلاحي- وأصبحت سعيداً جديداً يعيش كلّياً للآخرة فانسللت من حياة المجتمع، ونفضت يدي عن كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس تماماً، واعتكفت في "تل يوشع" في استانبول، ومن ثم في مغارات في جبال "وان وبتليس". بت في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني. وانفردت إلى عالمي الروحي رافعاً شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" صرفت كل همّي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة" سعيد الجديد"، أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى، وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معان جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم، أمليتها على من حولي من الأشخاص، تلك الرسائل، التي أطلقت عليها "رسائل النور" لقد انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وإنما هي إلهام إلهي أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين أن لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل فلا تمنع تلك الفيوضات عن المحتاجين إليها.
وهكذا تلقفتها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت أن هذا تسخير رباني وسوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين فلا يستطيع أحد أن يمنع ذلك التسخير والسّوق الإلاهي، فاستشعرت بضرورة تشجيع كل من يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني. فهذه الرسائل التي تربو على المئة والثلاثين رسالة لا تبحث بحثاً مقصوداً عن أمور الدنيا والسياسة، وإنما تخص كلياً أمور الآخرة والإيمان، وعلى الرغم من كل هذا فقد أصبحت الشغل الشاغل للانتهازيين والمتصيدين في الماء العكر حتى أوقفتني السلطات في كل من "أسكي شهر" و"قسطموني" و"دينزلي"، وأجرت المحاكم تدقيقات علمية على الرسائل قام بها خبراء متخصصون، إلا أن الحقيقة - بفضل الله سبحانه - كانت تتجلَّى بنصاعتها دوماً، وتتبوأ العدالة مكانتها اللائقة بها".
* * *
عصر النورسي
لن نستطيع معرفة مدى الظلام الذي خيّم على تركيا بعدما يسمى بالانقلاب العثماني، وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطرة (الاتحاد والترقي). والقوميين الطورانيين الذين وصلوا بدولة الخلافة إلى حضيض التمزق، والتشرذم، والتخلف السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والفكري، والخواء الروحي إلا إذا كنا على اطلاع دقيق على حالة الفوضى التي عمّت البلاد التركية، بعد الاحتلال، وبعد التحرير، وما تبعها من مجازر قامت بها السلطة العلمانية ضدّ كلّ من تشتمّ فيه رائحة الإسلام، والتصدّي للعلمانية.. وعمليات قتل علماء الدين كانت نهجاً لحكومة مصطفى كمال، ولم ينج من العلماء إلا من هرب بدينه ودمه وأهله إلى البلدان المجاورة، أو من ناور، أو سار في ركاب العلمانيين، من ذوي النفوس الهزيلة التي لاتهمّها إلا مصالحها الشخصية، وتسعى وراء المنصب والمال.
وقد سمعنا من بعض الذين لقيناهم من المهاجرين أبناء العلماء الفارين بدينهم، ما تقشعر له الأبدان، وتدمى القلوب والنفوس.(/6)
عايش بديع الزمان النورسي أحداثاً جساماً، كان أشدّها على نفسه، ذلك الغزو الثقافي والفكري، تقوم به الدوائر الاستعمارية، وربائبها في الداخل، من خلال مؤسسات لها امتدادات خارج البلاد، في أوروبا الحلفاء المنتصرين.. وتغذّيها المحافل الماسونية، ودعاة العلمانية والقومية والماركسية.. حتى صار المسلمون في تركيا الحديثة، كالقطعان الهائمة في الليالي المطيرة. كانوا كمن فقد وزنه.. مسلوبي الإرادة مستذلين مهانين، مستكينين للظالمين الذين أوقعوا بهم.. فساد إداري محموم، وعجز اقتصادي مريع، وديون مرهقة، وتخلّف وجهل، وفقر ومرض، وانحلال وفساد خلقي منظّم، ممنهج.. وحُماتهم لصوصهم، وأجهزة الأمن أجهزة قمع وفساد وإفساد..
الحاجة إلى إمام مجدّد
ما كان الله ليذر المسلمين على ما هم عليه، وعلى ما أرادهم لهم أعداؤهم في الخارج والداخل، فقد تكفّل الله سبحانه أن يبعث لهذه الأمة من يجدّد لها أمر دينها على فترات، وفي أماكن شتّى، وكان مدد الله لهذا الشعب المسلم المظلوم، واضحاً في هذا الرجل الذي أطلق عليه بعض الدارسين اسم (رجل القدر)(1). كما أطلق عليه أساتذته وعارفوه لقب (بديع الزمان)(2) هذا الرجل العالم الرباني الذي كان يملك بين حناياه قلباً ذكياً، وعقلاً حصيفاً نقياً، ونفساً أبيّة، وروحاً عملاقة، وإيماناً شامخاً وعلوماً يحار المرء وهو ينظر إليه، كيف حواها في صباه وشبابه المبكّر، وكيف حملها في هذا الرأس العجيب المستنير بأنوار القرآن، مع أنه "قد طوى في جوانحه كل آلام تركيا وعذاباتها في تلك السنوات الحالكات.. في وطن خربت معظم مرافقه ومدنه وقراه، بعد سنوات الحرب العالمية الأولى، وسنوات من حروب الاستقلال.. وقُتل معظم شبابه..)(3).
ونسينا أن نقول: إن النورسي كان يملك سلّة فيها كل ما يملكه في دنياه: إبريق شاي، وبضعة أقداح، وقليل من السكر والشاي وقليل من الزبيب، وسجّادة الصلاة..)(4).
ولكنه كان يحمل في عينيه ولسانه وقلبه وعقله مصحفاً، هو أستاذه وشيخه ومرشده في دنياه وأخراه، ومن أراد أن يرى الإيمان والقرآن والإسلام متمثلة في رجل يمشي على قدمين، فيما تسبح روحه في ملكوت السماوات والأرض، فلينظر إلى النورسي، أو فليقرأ سيرته وكلماته، وليتأمل كل كلمة خطتها يراعة روحه، بمداد الوعي والزهد والعلم والإيمان والصبر..
هذا الرجل الذي كان آية من آيات الله في الصبر والمصابرة، والمثابرة، وفي الشجاعة والإقدام، وفي الوعي والإخلاص والحركة، وفي التفاؤل والأمل الذي لم يفارقه لحظة من لحظات حياته، برغم ما يحيط به من ظلم ّوظّلام وظلام .. الرجل الذي أخذ نفسه بالعزائم في سائر أحواله، فكان الطود الصامد في وجه الأعاصير.. الرجل الذي أدركته وشملته دعوة الرسول القائد - عليه الصلاة والسلام - "رحم الله امرءاً عرف زمانه، واستقامت طريقته". هذا الرجل ، كان المجدّد في بلاد الأناضول، كما كان حسن البنا في بلاد العرب، والمودودي في شبه القارة الهندية..
المؤثرات في تكوينه الفكري
من دراسة حياة الإمام النورسي، نستطيع أن نتبين نوعين من المؤثرات التي كوّنت شخصيته الفكرية:
1 - المؤثرات الاجتماعية: وتشمل:
أ - أسرته الصغيرة المكوّنة من أب تقي ورع، بلغ به ورعه شأواً صار فيه مضرب الأمثال، فالوالد الصوفي (ميرزا) لم يذق حراماً قط، ولم يطعم أولاده من غير الحلال، حتى إنه كان إذا رجع ببقراته من المرعى، شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين(5).
وكانت أمّه الصالحة التقيّة (نورية) لا ترضع أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء(6). وقد قال النورسي عنها يوماً:
"أقسم بالله، إن أرسخ درس أخذته، وكأنه يتجدّد عليّ، إنما هو تلقينات أمي -رحمها الله- ودروسها المعنوية، حتى استقرتْ في أعماق فطرتي، وأصبحتْ كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين، رغم أني قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص. بل أرى يقيناً أن سائر الدروس إنما تُبنى على تلك البذور"(7).
وكذلك أخوه الكبير الملا عبد الله الذي عُرف بعلمه ودينه وتقواه .
ب - قريته الصغيرة المحافظة، والقرى والبلدات القريبة منها، وكتاتيبها ومشايخها، وأهلها البسطاء الطيبون المحافظون على دينهم، وقيمهم المتمثلة بعادات وتقاليد منسجمة مع الدين الحنيف: بساطة وصدق، وعفوية، وكرم وشهامة ونبل، برغم ضيق ذات اليد، وبرغم الجهل والفقر والبؤس والتعاسة.
2 - المؤثرات الثقافية:
أ - يعدّ النورسي الشيخ عبد القادر الكيلاني -رحمه الله- أستاذه الأول في كتابه: (فتوح الغيب). يقول النورسي عنه:
"وبدأت أقرأ ذلك الكتاب، كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة، وقد حطم غروري، وأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. استفدت منه فوائد جليلة وأمضيت معه ساعات طويلة، أصغي إلى أوامره الطيبة، ومناجاته الرقيقة"(8).(/7)
ب - الشيخ العالم الرباني أحمد الفاروقي السرهندي- مجدّد الألف الثاني - في كتابه: (مكتوبات) الذي "ورد في رسالتين منه لفظة (ميرزا بديع الزمان) فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبي (ميرزا).. والإمام الرباني يوصي -مؤكداً- في هاتين الرسالتين، وفي رسائل أخرى أنْ: (وحّد القبلة) أي اتبع إماماً ومرشداً واحداً، ولا تنشغل بغيره"(9).
جـ - علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة ولغة وسواها، تلك التي تلقاها على أيدي علماء قريته والقرى والمدن الأخرى، وقد حفظ - في شبابه المبكر- الكثير من متون أماتها بل من أمات الكتب الكبيرة، حتى القاموس المحيط -للفيروز أبادي- حفظ منه حتى حرف السين(10).
د - العلوم الإسلامية، من: حديث شريف، وفقه، وأصول فقه، وتفسير، وعلم كلام وسيرة وأخلاق، وسواها من العلوم التي تدور في فلكها(11).
هـ - العلوم الكونية الطبيعية من: فلك، وفيزياء وكيمياء، وعلم طبقات الأرض، وجغرافيا ، وفلسفة حديثة، وتاريخ، ورياضيات، وسواها(12).
و - الغرب، وفكره المادي، وفلسفته القديمة أيام اليونان القدماء أو الإغريق، وفلسفاته الحديثة وكلها مادية المنطلقات والغايات. درسها، واستوعبها، واتخذ منها الموقف المناسب.
ز - أسفاره: فقد كان يتنقل في المدن والقرى، ويلتقي العلماء والوجهاء وعامة الناس، ورجال الحكم والإدارة، كرحلته إلى الأستانة (استنبول) والتقائه السلطان عبد الحميد الثاني، والسلطان رشاد والوزراء ومصطفى كمال، وكرحلته إلى طرابلس الغرب وبنغازي، حيث اتصل بالشيخ السنوسي، واطلع على تنظيمات الحركة السنوسية وزواياها، وتأثر بها، الأمر الذي جعله -بعد أن عاد إلى مدينة وان- يعمد إلى تشكيل فرق جهادية من طلابه وبعض المتطوعين، وقاتل بهم الجيش الروسي الذي اجتاح مدينة تبليس، فأُسر إثر جرح بليغ أصابه(13).
وكرحلته إلى بلاد الشام، والتقائه علماءها، وإلقائه خطبته الشامية البليغة في المسجد الأموي عام 1911م وفيها شخّص أمراض الأمة الإسلامية، وعلاجاتها(14).
ح - ولكنّ المؤثر الأكبر في تكوينه الفكري والروحي والنفسي، إنما هو القرآن العظيم، فهو الأستاذ، وهو المرشد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وفيه يكون توحيد القبلة، لا في سواه.. يقول الأستاذ النورسي:
"إن بداية هذه الطرق جميعها، ومنبع هذه الجداول كلّها، وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو القرآن الكريم، فتوحيد القبلة الحقيقي لا يكون إلا في القرآن الكريم.. فالقرآن أسمى مرشد، وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن، واعتصمت به واستمددت منه (فالكلمات) والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) ليست مسائل علمية فحسب، بل هي مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية، فهي بمثابة علوم إلهية نفسية، ومصارف ربانية سامية"(15).
هذه هي المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي عملت على تكوينه الفكري، فجعلت منه عالم عصره، وأهّلته لاقتحام ميادين الحياة الفكرية والعقدية والسياسية.
ولا نستطيع إغفال جهده الشخصي في هذا التكوين البديع، الذي جعله ينال الإجازة العلمية من الشيخ محمد جلالي وهو ابن أربع عشرة سنة، بعد أن تبحّر في العلوم العقلية والنقلية، وحفظ ثمانين كتاباً من أمّات العلوم العربية والإسلامية.. هذا التكوين هو الذي أهّله لخوض سائر جوانب الحياة الفكرية والعقدية، وتبيين رأي الشرع في العديد من المسائل الدقيقة، كالقضاء والقدر، وحكمة خلق الإنسان، والعالم، والروح، ودمار العالم ومسائل المسيح الدجال، ونزول سيدنا عيسى عليه السلام، وظهور المهدي، وشخصية الخضر، ومسائل أخرى حول الملائكة، والجن، وأشراط الساعة، وثواب الأعمال، وغيرها كثير من المسائل الغيبية، تقرؤها في مجموعة (الطلاسم)(16) وسواها من كتاباته التي تؤكد أنه عالم لا يشق له غبار، بل بحر من العلم لا ساحل له.
يتبع إن شاء الله ...
الهوامش:
* نص المحاضرة في المركز الثقافي بعمان في 12/06/1997
(1) أورخان محمد علي -سعيد النورسي- رجل القدر في حياة أمة: عنوان الكتاب.
(2) ترجمة حياة سعيد النورسي: 36
(3) أورخان محمد علي: 6
(4) نفسه: 5 - 6
(5) إحسان قاسم الصالحي -بديع الزمان سعيد النورسي: 19
(6) نفسه: 19
(7) سعيد النورسي - اللمعات: 308 - 309
(8) و (9) سعيد النورسي - المكتوبات: 459
(10) و (11) و (12) د. محسن عبد الحميد - النورسي الرائد الإسلامي الكبير: 13
(13) ترجمة حياة: 102
(14) الصالحي: 36
(15) المكتوبات: 459
(16) الصالحي: 191
بديع الزمان النورسي (2) *
منهجه في التعامل مع الخلافات الفكرية
بقلم: عبد الله الطنطاوي
يقول الله تعالى:
ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم(17).(/8)
فالاختلاف ظاهرة طبيعية لتباين العقول والمدارك والتصورات والأفكار، "وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام وتختلف باختلاف قائليها"(18) وقد تباينت آراء العلماء في الاختلاف؛ فمنهم من عدّه شرّاً كلّه كابن مسعود رضي الله عنه، ومنهم من قال: "إن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف" كالسبكي الذي تسامح في الاختلاف في الفروع، وإن كان الاتفاق فيه خيراً من الاختلاف، أما ابن حزم رحمه الله فقد ذمّ الاختلاف، ولم يجعل شيئاً منه رحمة، بل عدّه كلّه عذاباً ومع ذلك ظهر الاختلاف منذ عصر الصحابة -رضي الله عنهم- واستمر إلى يومنا هذا، ولكن العلماء وضعوا له ضوابط، استنبطوها من القرآن الكريم، ...
بديع الزمان النورسي
والسنة النبوية الشريفة، كالعدل، والإنصاف، والاجتهاد في الوصول إلى الحق والمجادلة بالحسنى، والموضوعية، والبعد عن الإفحاش في القول، أو السخرية من الطرف الآخر، والتجرد عن الهوى ، وما إلى ذلك من الضوابط التي تحافظ على روح الأخوّة، وتلتزم التقوى، وتقلل من حجم الخسائر. والله سبحانه يعلمنا كيف نتعامل مع الذين نختلف فكرياً معهم من الناس، فيقول:
وجادلهم بالتي هي أحسن(19).
وقولوا للناس حسناً(20).
بل ويقول سبحانه:
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله(21).
والنورسي رجل قرآني ،ومنهجه - في سائر أحواله- هو المنهج الذي نصّ عليه القرآن، ولذلك نراه يتعامل مع مخالفيه في الرأي بموضوعية، لا يتعصب لرأي ولا ينحاز لفريق دون آخر فيما اختلف فيه الناس، كالموقف من الأولياء، وأصحاب الكرامات، والشخصيات التي تُكلّم فيها، كالشيخ محي الدين بن عربي وسواه، وكأصحاب الجذب من الصوفية.. يجادل هؤلاء باللين، وبالتي هي أحسن -غالباً- إلا إذا وجد شططاً أو خروجاً عن دين الله، فإنه يثور، ويحتدّ، ويشتدّ .
يقول الأستاذ النورسي حول الخلافات في القضايا الاجتهادية، فيما ليس فيه نصّ صريح:
"إن تسعين في المئة من أحكام الشريعة مسلَّمات وضروريات دينية، شبيهة بأعمدة من الألماس.
أما المسائل الاجتهادية الخلافية الفرعية، فلا تبلغ إلا عشرة في المئة. فلا ينبغي أن يكون تسعون عموداً من الألماس، تحت حماية عشرة منها من ذهب، ولا تابعة لها.
إن معدن أعمدة الألماس وكنزها: الكتاب والسنة، فهي ملكهما، ولا تُطلب إلا منهما.
أما الكتب الأخرى، والاجتهادات، فينبغي أن تكون مرايا عاكسة للقرآن، أو مناظير إليه ليس إلا، إذ إن تلك الشمس المنيرة المعجزة، لا ترضى لها ظلاً ولا وكيلاً"(22) فعوامل الاتفاق تسعة أضعاف عوامل الاختلاف، وهي جديرة بأن تجمع المسلمين ولا تفرقهم، ولا ينبغي لها إلا أن تكون كذلك.
ونستطيع تلخيص منهجه الذي التزمه طوال حياته، تجاه مخالفيه في الرأي، بالنقاط التالية:
1 - لا يذكر أسماء الأشخاص والهيئات التي ينتقدها، أو يردّ عليها وعلى ما أثارته من شبهات حول الإسلام.
2 - لا يشرح الشبهة، ولا يبسط المسألة التي سيردّ عليها، حتى لا يشوّش العقول، ويعكّر القلوب، بل يكتفي بالردّ عليها، ودحضها بالأدلة والبراهين.
3 - يستخدم أسلوب الاستثناء في الردّ. مثلاً عندما يهاجم الأستاذ أوربا وحضارتها، لا يهاجمها ككل، بل يستثني منها الطيب النافع، ويشدّد هجومه على القسم الفاسد منها، وكذلك الأمر في موقفه من القومية، عندما هاجم النوع السلبيّ منها، واستثنى الجانب الإيجابي.
4 - الحذر فيما يكتب ويردّ، حتى لا يقع هو ورسائله وتلاميذه فرائس سهلة في أيدي المتربصين به وبدعوته.
5 - اللين مع العلماء ومشايخ الصوفية، والشدّة والحدّة مع الملاحدة من علمانيين وقوميين وبلاشفة ودعاة التغريب.
6 - وضع أسساً وقواعد للبحث العلمي، والتزمها في مباحثه وردوده، ودعا الآخرين إلى الالتزام بها، ليقلل من تشعب الخلافات، وهي:
أ - أن يسبر الباحث غور الموضوع.
ب - أن يتجرد من المؤثرات الزمانية.
جـ - أن يغوص إلى أعماق الماضي، للحصول على تجارب الآخرين.
د - أن يزن الأمور بموازين منطقية بحتة، دون تدخل العواطف.
هـ - أن يفتش عن منبع ومصدر كل شيء في بحثه.
وفيما يلي بعض القضايا التي تتضارب حولها الآراء، واختلف فيها النورسي مع الآخرين:
1 - التصوف:
كان الإمام النورسي من أزهد الناس في عصره بل إن الذين كانوا في مثل زهده قلائل "ولكنه لم يكن صوفياً، ولا صاحب طريقة صوفية مطلقاً. لذا فليست رسائل النور رسائل صوفية، ولا طلابها من الصوفيين . إذ كان الأستاذ يقول دائماً: ليس هذا العصر بعصر تصوف وطريقة، إنما هو عصر إنقاذ الإيمان.."(23) . ويقول:
"إني أخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني، والنقشبندي والإمام الرباني، وأمثالهم من أقطاب الإيمان- رضوان الله عليهم أجمعين- أجل.. لو كان هؤلاء في عصرنا هذا، لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الإيمانية، والعقائد الإسلامية، لأن منشأ السعادة الأبوية فيهما، وإن أي تقصير-مهما كان- فيهما، يعني الشقاء الأبدي"(24).(/9)
لماذا؟ لأن "قبول أقوال الأشخاص العظام لا يفيد اليقين ولا القطعية- في علم المنطق- بغير دليل، بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها الإنسان بالظن الغالب. أما البرهان الحقيقي -كما هو في المنطق- فلا ينظر إلى مكانة الشخص القائل، وإنما إلى الدليل الذي لا يُجرح.
فجميع رسائل النور من هذا القسم، أي من البرهان اليقيني. وإن ما يراه أهل الولاية الصوفية من الحقائق في العمل والعبادة والسلوك والرياضة الروحية، وما يشاهدونه من الحقائق الإيمانية وراء الحجب، فرسائل النور أيضاً مثلهم، غير أنها في موضع العلم شقّت طريقاً إلى الحقيقة من خلال العلم، وفي موضع السلوك والأوراد فتحت سبيلاً إلى حقيقة الحقائق، ضمن براهين منطقية، وحجج عقلية.. لذا فقد انتصرت على الضلالات الفلسفية المعاصرة، وتغلّبت عليها، في حين أن تيار (الحقيقة) و (الطريقة) قد تراجع أمامها"(25).
إنه يردّ ويقارن ويبيّن الفرق بين نهج مدرسة النور، ونهج المتصوفة، في هدوء، وعقلانية، ومنطق، ولكننا نراه في موقف آخر، يثور بأصحاب البدع ويعدّهم من جملة العاملين على هدم صروح هذا الدين. اسمعه يصرخ بهم:
"يا علماء السوء البائسين الذين يصدق عليهم اسم (الصادق الأحمق)
ويا أيها الصوفيون الجهلاء المجذوبون الفاقدون للعقل:
إن شجرة طوبى الإسلام قد ترسّخت عروقها في صلب الكون وحقيقته، وبثّت جذورها في ثنايا حقائق الكون كلّه، فهذه الشّجرة العظيمة لا يمكن غرسها في تراب العنصرية الموهومة المؤقّتة الجزئيّة الخصوصيّة السلبيّة، بل التي لا أساس لها أصلاً، وهي المشحونة بالأغراض الظالمة المظلمة، وإن السعي لغرسها هناك، محاولة بدعية هدّامة رعناء"(26).
وحُقَّ للنورسي أن يخاطبهم بهذه اللهجة العالية، حتى يعودوا إلى رشدهم الذي فقدوه بسيرهم في ركاب القوميين المنحرفين، بحجة أنهم يغرسون الدين في مزرعة القومية، وهم كاذبون في هذا، سادرون في غيّ القوميين العلمانيين أعداء هذا الدين. والملاحظ أنه لم يذكر اسماً بعينه من أولئك العلماء الضالين، والمشايخ الغاوين.
2 - قضية الاجتهاد:
هذه القضيّة الاجتهادية أثارت -وما تزال تثير- جدلاً شديداً حولها، من مُغْلق لباب الاجتهاد، رافض تحت أي ذريعة أن يفتحه، وبين داع إلى فتح مغاليق تلك الأبواب، فالذين اجتهدوا رجال، و (نحن) رجال، الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، وابن عيينة، وسواهم من الأئمة المجتهدين (رجال)، ودعاة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه (رجال) وإن كان كثير منهم لا يقيم عبارة.. وقد أدلى الأستاذ النورسي بدلوه في هذه القضية المهمّة، وناقشها بعقلانية ووعي للواقع المعيش فقال، دون أن يذكر آراء الآخرين، أو يشرح وجهات نظرهم:
"إن باب الاجتهاد مفتوح، إلا أن هناك ستة موانع في هذا الزمان تحول دون الدخول فيه:
1 - حتى لا نمهّد للمتسلّلين والمخرّبين باسم الاجتهاد، ولاسيّما في زمن المنكرات، ووقت هجوم العادات الأجنبية، واستيلائها، وأثناء كثرة البدع، وتزاحم الضلالات، ودمارها.
2 - إن الجوانب النظرية للإسلام قد استغنت بأفكار السلف الصالح، وتوسّعت باجتهاداتهم الخالصة، حتى لم تعد تضيق بالعصور جميعاً، فالانصراف عنها إلى اجتهادات جديدة اتباعاً للهوى، هو خيانة مبتدعة.
3 - العالم الذكيّ في العصر الحاضر: قد غرق فكره في مستنقع الفلسفة المادية، وسرح عقله في أحداث السياسة، وصار قلبه أمام متطلّبات الحياة المعيشية، وابتعدت استعداداته عن الاجتهاد. وبهذا ابتعد عن القدرة على الاجتهادات الشرعية، بمقدار تفننه في العلوم الأرضية الحاضرة، وقصّر عن نيل درجة الاجتهاد، بمقدار تبحّره في العلوم الأرضية.
4 - تطلُّعُ الذين استحبّوا الحياة الدنيا إلى الاجتهاد، وتلوّثوا بالفلسفة المادية: وسيلةٌ إلى تخريب الوجود الإسلامي.
5 - هناك ثلاث نقاط تدعو إلى التأمل والنظر، تجعل اجتهادات هذا العصر أرضية، وتسلب منها روحها السماوي، بينما الشريعة سماوية، والاجتهادات بدورها سماوية، لإظهارها خفايا أحكامها:
أولاً: إنّ (علّة) كل حكم تختلف عن (حكمته) فالحكمة والمصلحة سبب الترجيح، وليست مناط الوجود، ولا مدار الإيجاد، بينما (العلة) هي مدار وجود الحكم.
(وضرب مثلاً بقصر الصلاة في السفر).
"تُقصر الصلاة في السفر، فتُصلى ركعتان، فعلّة هذه الرخصة الشرعية: السفر. أما حكمتها: فهي المشقّة، فإذا وُجد السفر ولم تكن هناك مشقة، فالصلاة تُقصر، لأن العلة قائمة، وهي السفر. في حين إن لم يكن هناك سفر، وكانت هناك أضعاف المشقة، فلن تكون تلك المشقات علّة القصر.
وخلافاً لهذه الحقيقة، يتوجّه نظر الاجتهاد في هذا العصر إلى إقامة المصلحة، والحكمة، بدل العلة، وفي ضوئها يصدر حكمه. فلا شك أن اجتهاداً كهذا أرضيّ وليس بسماويّ.(/10)
ثانياً: إن نظر هذا العصر متوجه أولاً وبالذات إلى تأمين سعادة الدنيا، وتوجّه الأحكام نحوها، والحال أن قصد الشريعة متوجّه أولاً وبالذات إلى سعادة الآخرة، وينظر إلى سعادة الدنيا بالدرجة الثانية.
ثالثاً: إن القاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) ليست كليّة، لأنّ الضرورة إن كانت ناشئة عن طريق الحرام، لا تكون سبباً لإباحة الحرام.
وحيث إن أهل اجتهاد هذا الزمان قد جعلوا تلك الضرورات مداراً للأحكام الشرعية، لذا أصبحت اجتهاداتهم أرضية، وتابعة للهوى، ومشوبة بالفلسفة المادية، فهي إذن ليست سماوية، ولا تصح تسميتها اجتهادات شرعية قطعاً.
6 - قرب عهد المجتهدين الأوائل من عصر الحقيقة والنور، يسّر لهم أن يأخذوا النور الصافي من أقرب مصادره، فتمكنوا من القيام باجتهاداتهم الخالصة، في حين أن مجتهدي العصر الحديث ينظرون إلى كتاب الحقيقة من مسافة بعيدة جداً، حتى ليصعب عليهم أن يروا أوضح حرف فيه.
والخلاصة: "أما جزئيات الأحكام غير المنصوص عليها، التي تقتضي التبديل تبعاً للظروف، فإن اجتهادات فقهاء المذاهب كفيلة بمعالجة التبديل."
"تعددت المذاهب لعجز البشرية عن الوصول إلى مستوى واحد في حياتها الاجتماعية"(27).
ثم يقول أخيراً:
"كل من لديه استعداد وقابلية على الاجتهاد، وحائز على شروطه، له أن يجتهد لنفسه، في غير ما ورد فيه النص، من دون أن يلزم الآخرين به، إذ لا يستطيع أن يشرّع ويدعو الأمة إلى مفهومه، إذ فهمُه يُعدُّ من فقه الشريعة، ولكنه ليس الشريعة نفسها.
لذا.. ربما يكون الإنسان مجتهداً، ولكن لا يمكن أن يكون مشرّعاً. فالدعوة إلى أي فكر كان، مشروط بقبول جمهور العلماء له، وإلا، فهو بدعة مردودة، تنحصر بصاحبها ولا تتعدّاه، لأن الإجماع، وجمهور الفقهاء، هم الذين يميزون ختم الشريعة عليه"(28).
إنه يناقش القضية مناقشة علمية هادئة، منطلقة من واقع حال علماء المسلمين في عصره، لا يحجر على أحد، ولا يغلق ما حقّه الفتح، ولا يفتح ما حقُّه الغلق.. درس المسألة من جميع جوانبها، وسبر أغوارها، حسب قواعد البحث العلمي الذي ارتآه، دون أن يبسط آراء الآخرين القائلين بفتح باب الاجتهاد دون قيود وشروط. إنه عالم رباني، عرف زمانه، واستقامت طريقته.
3 - العلماء والوعّاظ.
لم يغفل الأستاذ النورسي عن واقع العلماء والوعّاظ الذين يتصدّون لتعليم الناس وإرشادهم، ووعظهم، بل شرح واقعهم، وشخّص أمراضهم، ووصف لهم العلاج الناجع، ليؤدّوا مهمّتهم على خير وجه، من غير تسمية واحد منهم، أو تجريح هيئة علمية معيّنة، فقال:
"لقد استمعت إلى الوعاظ، فلم تؤثّر فيّ نصائحهم ووعظهم، فتأملت في السبب، فوجدت أن هناك ثلاثة أسباب، علاوة على قسوة قلبي:
الأول: أنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي، فيبالغون كثيراً في تصوير دعاواهم، محاولين تزويقها، دون إيراد الأدلة الكافية التي لابدّ منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة. فالزمن الحاضر أحوجُ إلى إيراد الأدلة.
الثاني: أنّهم عند ترغيبهم في أمر ما، وترهيبهم منه، يُسقطون قيمة ما هو أهمّ منه، فيفقدون -بذلك- المحافظة على الموازنة الدقيقة التي هي في الشريعة، (أي بين المهمّ والأهم).
الثالث: إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال، هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بدّ أن يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر. إلا أنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص العلة لهذا العصر، وكأنهم يجرّون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدّثونهم بلسان ذلك الزمن."
ثم يأتي توجيهه لهم، وإرشاده إياهم إلى الأسلوب الأمثل فيقول:
"فعلى الوعّاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محقّقين، كي يتمكّنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضاً حكماء مدقّقين، كي لا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين، كي يوافق كلامهم حاجات العصر، وعليهم أن يزنوا الأمور بموازين الشريعة"(29).
كلام مقنع، يرضاه حتى العلماء الموجَّه إليهم هذا النقد، بأن كلاً منهم يستطيع أن يزعم أنه موجَّه لغيره، ثمّ لأنه نقد موضوعي قائم على وعي ودراسة ودراية لواقع الحال.
وتعيد رسائل النور وتكرر الدعوة إلى الوفاق والتصالح بين المدارس المختلفة:
يقول الأستاذ النورسي:
ولقد قلت مئة مرة، وأعيدها أيضاً: إنه لا بدّ من الوفاق والتصالح بين أهل المدارس الفقهية، والمدارس الحديثة، والزوايا الصوفية، لأجل وحدة الهدف، وذلك بتبادل الأفكار، وميل بعضها إلى بعض، ذلك أننا نرى -مع الأسف- أن تباين أفكارهم، كما أنها تفرّق الصفّ، فإنها توقف الرقيّ والتقدم كذلك(30).
وهكذا تبيّن لنا منهجه العلمي المنطقي القائم على دراسة واقع الحال للمخالفين له في الفكر، من المحسوبين على الإسلام، ومن بعض القضايا الإسلامية، وهو لا يعوّل فيه على بسط آرائهم ونظرياتهم، إلا من خلال مناقشتها، ودحض المخطئ منها، في لين حيناً، وفي حدّة حيناً آخر، حسب مقتضى الحال.
4 - موقفه من الأطروحات العلمانية:(/11)
العلمانية بضاعة غربية، وربما يهوديّة، صدّرها من صدّرها إلينا، واستوردها المستغربون الذين كانوا يحجّون بعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم نحو أوربا، استوردوها -على علاّتها- من هناك، وحاولوا تطبيقها على المجتمع المسلم في تركيا، كما شاء لهم أساتذتهم وشاء لهم الهوى، فباسمها اضطهدوا المسلمين، وقهروهم وأرغموهم على تنفيذ ما ترشّح عنها من قرارات جائرة كافرة، ومن سلوكيات فاسقة، ومن ظلم وسجن وقتل وتشريد.
وكانت جمعية (تركيا الفتاة) ورصيفتها جمعية (الاتحاد والترقي) من أوائل من تبنّى العلمانية في بلاد المسلمين عامة، وفي تركيا خاصة، وحاول أعضاؤها الذين كانوا يتلقون التعليمات والأوامر من المحافل الماسونية في سلانيك، ومن خارج الحدود -حاولوا ثم عملوا على عزل الدين عن الحياة.. عن الدولة ودوائرها، وعن التعليم في مراحله المختلفة. وقد تصدّى لهم النورسي الذي ما كان يأوي إلا إلى ركن الله الشديد، وبيّن لهم خطأهم هذا في كثير من كلماته ومرافعاته وخطبه، وكلما أتيحت له فرصة الحديث، للتشنيع عليهم. ومنها قوله:
"إن خطأ (تركيا الفتاة) نابع من عدم معرفتهم أن الدين أساس الحياة، فظنّوا أن الأمة شيء، والإسلام شيء آخر، وهما متمايزان، ذلك لأنّ المدنيّة الحاضرة أوحت بذلك، واستولت على الأفكار بقولها: إن السعادة في الحياة نفسها، إلا أن الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضرّ. (أي المدنية الظالمة الملحدة التي تعاني السكرات)، وأن التجارب القاطعة أظهرت أن الدين حياة للحياة، ونورها وأساسها.. إحياء الدين إحياء لهذه الأمة، والإسلام هو الذي أدرك هذا..
إن رقيّ أمتنا هو بمقدار تمسّكها بالدين، وتدنّيها وسقوطها بمقدار إهمالها له، بخلاف الدين الآخر.. هذه حقيقة تاريخية قد تنوسيت"(31).
ونلاحظ هنا أن الأستاذ ذكر جمعية تركيا الفتاة بالاسم، مع أنه -في أكثر رسائله- يتجنّب ذكر الهيآت والشخصيات بالاسم، ولكن الذي يقرأ ما يكتبه أو يلقيه، يستطيع معرفة المراد من كلامه.. وهو بهذا الأسلوب الحصيف الذي ألزم به نفسه وطلاب النور، استطاع النجاة -بفضل الله- من أولئك الحكام الذين حرّموا على الناس نقد العلمانية..
في شهر تشرين الأول عام 1926 وافق البرلمان التركي على مجموعة من القوانين المنافية للإسلام ، المناوئة لتعاليمه وأحكامه، هي:
1 - تحريم تعدد الزوجات.
2 - إلغاء المهر، وعدم فرضه على الزوج.
3 - إلغاء حقّ الزوج في الطلاق.
4 - حرية زواج المسلمة التركية من نصراني أو يهودي، دون التقيد بشرط الإسلام.
5 - التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث.
6 - إلغاء نظام الإرث بالتعصيب، والإرث بالقرابة البعيدة.
7 - وضع حدّ لسنّ الزواج.
8 - إلغاء نظام فصل النساء عن الرجال في الحافلات والقطارات والسفن والمراكب ودور السينما(32).
وبناء على هذه القرارات التي تبيّن توجّهات رجال الحكم الجمهوري العلماني، وبعد إلغاء المحاكم الشرعية، وقانون الشريعة الإسلامية، وإقرار العمل بالقانون المدني السويسري - دبّت الفوضى في المجتمع التركي الذي أصبح ساحة مفتوحة أمام الغزو الفكري الأوربي، فانتشرت العادات الأوربية في ذلك المجتمع المهزوم، وصارت بديلاً للعادات والأخلاق الإسلامية، نذكر منها:
- انتشار الفسق والفجور على نطاق واسع، وكان للصحافة السياسية والأدبية دورها الكبير في الترويج لها.
- الاحتفال بالأعياد الغربية، كعيد رأس السنة الميلادية وسواه.
- دخول العادات الغربية بمناسبات الفرح والعزاء، كالموسيقى، والرقص، والخمور، والاختلاط، والتبرّج، والسّفور.
- انتشار أماكن بيع الخمور، والدعاية لها.
- انتشار أندية القمار، والدعاية لها.
- انتشار البنوك الربوية بشكل عجيب، في كلّ المدن والبلدات وكثير من القرى.
وصدرت قرارات بلبس القبعة، بدلاً من العمامة، وبإيفاد البنات إلى أوربا بدون محارم، باسم العلم، وصدر قرار بنفي البنات الأبكار إلى خارج الحدود التركية، لإرغامهن على العهر، وقرار بتفكيك الأسرة، واعتبار الأولاد مسؤولين عن أنفسهم في سنّ معينة، الأمر الذي تسبّب في تسيّب أخلاقي فظيع، كما عمل على عقوق الوالدين، إلى جانب القرار الذي يلزم النساء بالسفور والاختلاط، وبقصر الوظائف على المعادين للدين، وإلغاء الحروف العربية، وتتريك الأذان والقرآن الكريم، إلى آخر ما هنالك من موبقات الحكومة الكمالية.. كل هذه الأوضاع المحزنة في تركيا، عاصرها بديع الزمان، فاعتصر لها قلبه ألماً وحزناً، وكانت محرّكاً قوياً له في دعوته"(33). وسوف نطالع مواقفه الشجاعة والعلمية على الأطروحات العلمانية التي كانت تعجّ بها الصحافة والأندية والمحافل والشوارع والأماكن العامة، وكان يتولى كِبْرها الحاكمون بأمر سادتهم من يهود ونصارى ومستغربين وقوميين وعلمانيين وبلاشفة.
5 - التغريب(/12)
بدأت حركة التغريب منذ عهد التنظيمات (1255هـ/1839م) ووصلت إلى أبعد أمدائها في عهد الكماليين، ونستطيع أن نحصي بعض أسباب نشوئها وتطورها بالتالي:
أ - المبتعثون إلى أوربا من أجل الدراسة وسواها.
ب - المؤسسة العلمية لوضع الخطط والمناهج التي أسست عام 1851.
جـ - مكتب الترجمة (1832م) الذي اعتمد على أبناء الأقليات، ثم تحوّل إلى مدرسة فكرية ترمي إلى نشر الفكر الغربي.
د - الغربيون المستقدمون للعمل في المدارس والكليات العسكرية.
هـ - موظفو السفارات المبتعثون إلى أوربا.
و - الجمعيات الفرنسية في كل من فرنسا واستانبول.
ز - المؤسسات التعليمية الأجنبية في استانبول(34).
وكان من مظاهر التغريب -إضافة إلى ما تقدم- في عهد الكماليين:
أ - الطعن بالإسلام ونبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ب - النيل من علماء الدين.
جـ - الدعوة إلى تغريب ما بقي من العبادات والأوامر الإلهية، كالدعوة إلى أن تصاحب الموسيقى ما في الصلوات من قراءة وأدعية، لإضفاء أجواء (روحانية) على تلك الطقوس (زعموا) وكوضع الكراسي والمنصات في المساجد.
د - تطويع الأدب ليكون أداة لنشر الأفكار الإلحادية، والجنس والعهر، فيما يسمّى الأدب المكشوف .
هـ - تغريب التعليم، وإلغاء التعليم الديني.
و - استبدال النعرة القومية بالدين.
ز - زيادة نشاط الاستشراق(35).
هذا النشاط المحموم لحركة التغريب أذهلت كثيرين، وأحبطت كثيرين، وساقت في ركابها عدداً من المهزومين من الداخل، من علماء الدين وأشباههم، ولكنه كان محرّضاً للإمام النورسي، ودافعاً إياه من أجل التصدّي لهؤلاء، والردّ عليهم بمنطقية وعقلانية وعلم الدارس للحضارة الغربية، وفلسفتها القديمة والحديثة، ولدينها النصراني، ولتوجّهاتها الاستعمارية، ومنطلقاتها وتطلعاتها المادية.. وقد فنّد كلّ ذلك بعشرات المقالات والمباحث الباهرة التي كان يقارن فيها بين المدنيّة الغربية المادية، والمدنيّة الإسلامية التي تسدّ حاجات الإنسان المادية، وترضي أشواقه الروحية.
يقول الأستاذ في (المَثْنَويّ العربيّ النّوريّ) لأولئك الأتراك المسلمين المستغربين:
"إن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق، وأكثر الفلاسفة في الغرب، رمز للقدر الإلهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة"(36).
ويهاجم ذلك التيّار البدعي المترشّح من الجانب الخبيث للحضارة الأوربيّة، ويبشّر باضمحلال ذلك التيّار الذي سوف تسفيه الرياح، وينبّههم إلى أنّه "ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بناء، مع التهاون في الدين" ويلفت انتباههم إلى أن العالم الإسلامي بُعدٌ استراتيجي مهم، وأن المسلمين الصادقين هم الذين يحبون الأتراك المسلمين، ويفرحون لانتصاراتهم على اليونان، وإذا عرف العالم الإسلامي بُعدكم عن الدين، فسوف ينصرفون عنكم، وعدم تمسككم بالدين يؤدي إلى العصيان والانشقاق، وإن الأعداء يحاولون تدمير شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياءها، والمحافظة عليها، وإلا، فسوف تعينون -بغير شعور منكم- العدوّ المتحفّز للانقضاض عليكم.
وأوضح لهم أن التهاون في تطبيق الشعائر الدينية، يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يغري العدوّ ويشجعه عليهم(37).
ويعرّي المدنية الغربية، وهو يقارن بينها وبين المدنية الإسلامية فيقول:
"إن أسس المدنية الحاضرة سلبية، وهي أسس خمسة، تدور عليها رحاها:
* فنقطة استنادها: القوة بدل الحقّ. وشأن القوة الاعتداء والتجاوز والتعرض. ومن هذا تنشأ الخيانة.
* هدفها وقصدها: منفعة خسيسة بدل الفضيلة. وشأن المنفعة: التزاحم والتخاصم. ومن هذا تنشأ الجناية.
* دستورها في الحياة: الجدال والخصام بدل التعاون. وشأن الخصام: التنازع والتدافع. ومن هذا تنشأ السفالة.
* رابطتها الأساس بين الناس: العنصرية التي تنمو على حساب غيرها، وتتقوّى بابتلاع الآخرين. وشأن القومية السلبية والعنصرية: التصادم المريع، وهو المشاهد. ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك.
* وخامستها: هي أن خدمتها الجذابة، تشجيع الأهواء والنوازع، وتذليل العقبات أمامها، واتباع الشهوات والرغبات. وشأن الأهواء والنوازع دائماً: مسخ الإنسان وتغيير سيرته، فتتغير بدورها الإنسانية، وتمسخ مسخاً معنوياً.
إن معظم هؤلاء المدنيين، لو قلبتَ باطنهم على ظاهرهم، لرأيت في صورتهم سيرة القرد والثعلب والثعبان والدب والخنزير.
نعم.. إن خيالك ليمس فراء تلك الحيوانات وجلودها.. وآثارهم تدل عليهم"(38).
أما أسس المدنية الإسلامية، فيقول عنها:
"إنه لا ميزان في الأرض غير ميزان الشريعة..
إنها رحمة مهداة، نزلت من سماء القرآن العظيم.
أما أسس مدنية القرآن الكريم، فهي إيجابية، تدور سعادتها على خمس أسس إيجابية:
* نقطة استنادها: الحقّ بدل القوة. ومن شأن الحقّ دائماً: العدالة والتوازن. ومن هذا ينشأ السلام، ويزول الشقاء.
* وهدفها: الفضيلة بدل المنفعة. وشأن الفضيلة: المحبة والتقارب. ومن هذا تنشأ السعادة، وتزول العداوة.(/13)
* دستورها في الحياة: التعاون بدل الخصام والقتال. وشأن هذا الدستور: الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات.
* وخدمتها للمجتمع: بالهدى بدل الأهواء والنوازع. وشأن الهدى: الارتقاء بالإنسان ورفاهه إلى ما يليق به، مع تنوير الروح، ومدّها بما يلزم.
* رابطتها بين المجموعات البشرية: رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة وأخوة الإيمان. وشأن هذه الرابطة: أخوّة خالصة، وطرد العنصرية والقوميّة السلبيّة.
وبهذه المدنية يعم السلام الشامل، إذ هو في موقف الدفاع ضدّ أي عدوان خارجي"(39).
ثم يتساءل: لماذا أعرض المسلمون عن المدنية الغربية؟
ويجيب:
"لأنها لا تنفعهم، بل تضرّهم.
لأنّها كبّلتهم بالأغلال. بل صارت سُمّاً زُعافاً للإنسانيّة، بدلاً من أن تكون لها ترياقاً شافياً، إذ ألقت ثمانين بالمئة من البشرية في شقاء، لتعيش عشرة في المئة منها في سعادة زائفة. أما العشرة الباقية، فهم حيارى بين هؤلاء وهؤلاء.
وتتجمع الأرباح التجارية في أيدي أقليّة ظالمة، بينما السعادة الحقّة، هي في إسعاد الجميع، أو في الأقل، أن تصبح مبعث نجاة الأكثرية.
والقرآن الكريم النازل رحمة للعالمين، ليقبل إلا طرازاً من المدنية التي تمنح السعادة للجميع أو للأكثريّة، بينما المدنيّة الحاضرة، قد أطلقت الأهواء والنوازع من عقالها، فالهوى حرٌّ طليق طلاقة البهائم، بل أصبح يستبدّ، والشّهوة تتحكّم، حتى جعلتا الحاجات غير الضروريّة في حكم الضروريّة. وهكذا مُحيت راحة البشريّة، إذ كان الإنسان في البداوة محتاجاً إلى أشياء أربعة، بينما أفقرته المدنية الحاضرة الآن، وجعلته في حاجة إلى مئة حاجة وحاجة، حتى لم يعد السعي الحلال كافياً لسدّ النفقات، فدفعت المدنيّة البشرية إلى ممارسة الخداع، والانغماس في الحرام. ومن هنا فسدت أسس الأخلاق، إذ أحاطت المجتمع والبشريّة بهالة من الهيبة، ووضعت في يدها ثروة النّاس فأصبح الفرد فقيراً وفاقداً للأخلاق.
والشاهد على هذا كثير، حتى إن مجموع ما ارتكبته البشرية من مظالم وجرائم وخيانات في القرون الأولى، قاءتها واستفرغتها هذه المدنيّة الخبيثة مرّة واحدة، وسوف تصاب بالمزيد من الغثيان في قابل أيامها"(40).
لقد قاءت في حربين عالميتين حتى لطخت بالدّم البرّ والبحر والهواء.
وإذا كان في المدنيّة الغربيّة محاسن، فهي "ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم، وملك الجميع، إذ نشأت بتلاحق الأفكار وتلاقحها، وحثّ الشرائع -ولا سيّما الشريعة المحمديّة- وحاجة الفطرة البشريّة.
فهي بضاعة نشأت من الانقلاب الذي أحدثه الإسلام، لذا، لا يتملّكها أحد من النّاس"(41).
ثم يبيّن أن الإسلام يستعصي على الحضارة الغربية:
"إن النور الإلهي في الشريعة الغرّاء، يمنحها خاصة مميزة، وهي الاستقلال الذي يؤدي إلى الاستغناء.
"هذه الخاصية لا تسمح أن يتحكم في ذلك النور دهاء روما الممثل لروح هذه المدنية، ولا يطعّم بها، ولا يمتزج معها. ولن تكون الشريعة تابعة لذلك الدهاء"(42).
فالنورسي "يرفض الأسس الثقافية في الحضارة الغربية، بدءاً من عصر اليونان إلى اليوم. ويحاول في رسائله كلها قطع جذور الثقافة الغربية وتأثيرها في الثقافة الإسلامية المعاصرة لأنها انطلقت من مبادئ الفلسفات الجاحدة التي أوجدت حالة من القلق والفوضى الفكرية، والتشكيك والإلحاد في العالم الإسلامي، مستغلة تأخر المسلمين، وجهلهم بدينهم"(43).
ولكن موقفه هذا ليس موقف الرافض لكل ما يأتي من الغرب، فهو - مثلاً - يميّز بين نوعين من الفلسفة الغربية.. الفلسفة الجاحدة التي ترفض الوحي الإلهي، وتنادي بالإلحاد، وهي فلسفة مادية كافرة مرفوضة. وبين الفلسفة المؤمنة الخادمة للدين التي تخدم الحياة الاجتماعية، وتعمق الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمّهد للرقي الصناعي، فهي في وفاق ومصالحة مع القرآن، بل هي خادمة لحكمة القرآن، فلا تعارضها، ولا يمكنها ذلك.
وكذلك موقفه من الجوانب العلمية من الحضارة الغربية، هو موقف المسلم الذي فرض عليه الإسلام أن يتحرك لاكتشاف قوانين الحياة، والاستفادة منها، لإقامة الحضارة، وبناء التقدم. ولذلك دعا المسلمين إلى الأخذ بأسباب الحضارة الصناعية، وإلى تبنّي التكنولوجيا الحديثة(44) وتبنّي العلوم الكونية الحديثة. قال الأستاذ رحمه الله:
"ضياء القلب هو العلوم الدينية.
ونور العقل هو الفنون المدنية - أي العلوم الكونيّة الحديثة -
وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشهبات في هذا ، والتعصب الذميم في ذاك"(45).
فإذا كان دعاة الاستغراب يريدون القضاء على العلوم الدينية، بزعم أنها رجعية متخلّفة..
وإذا كان بعض علماء الشريعة، وعامة الناس، يرون في العلوم الحديثة كفراً بواحاً يجب أن يبعدوا أبناءهم عنها في المدارس الحديثة،.(/14)
فإنه كان وسطاً بين هؤلاء وأولئك، يريد إقامة الجسور، لا هدم ما هو قائم منها. إنه من المدرسة الوسطية المعتدلة التي عرفت زمانها، واستقامت طريقتها، وراحت تفتش عن ضالّتها، فنادى بالمزج بين هاتين، وطالب عامة الناس بأن يرسلوا أولادهم إلى المدارس الحديثة، فالعلوم الكونية ليست كافرة، بل هي تهدي إلى الله، وقد يكون مدرّسوها هم الكافرين والزنادقة.
وأخيراً نختم حديثنا عن موقفه من التغريب والحضارة الغربية والغرب بهذه المقولة الرائعة التي جاءت في خطبته الشامية سنة 1911:
"إن أمريكا وأوربا حاملتان بالإسلام، فكما أن الإمبراطورية العثمانية كانت حاملة بأوربا فولدتْ، فلا بدّ أن يولد من أوربا دولة للإسلام"(46) وليس بمستغرب أن يغزو الغربُ الشرق بالإسلام، في قابل الأيام.
6 - القومية:
والقومية بأنواعها، الطورانية، والعربية، والسورية، والفرعونية، وسواها من القوميات الضيّقة، من نتاج الفكر الغربي التي استوردها دعاة التغريب والعلمانيون إلى بلاد المسلمين، مع أنها بضاعة كاسدة فات أوانها، وتخلّت عنها أوربا منذ حين، ثمّ صدّرتها إلينا.
ودعاة القومية هم هم في طروحاتهم، بل العجب أن ترى رائد الدعوة إلى القومية العربية (ساطع الحصري) كان من أوائل من نادى بالقومية الطورانية في الأستانة، وحاول التنظير لها، وتأسيس مبادئها ومقوماتها وعناصرها، ثم جيء به إلى العراق وسورية ومصر، ليؤلّف العديد من الكتب التي تشرح نظرية القومية العربية.
وقد تنبّه بعض العلماء والمفكرين والسياسيين إلى خطورة هذه الدعوة التي سوف تمزّق الأمة الإسلامية شرّ ممزق، بل سوف تمزّق الشعب الواحد في القطر الواحد. فدولة كتركيا فيها الأتراك وفيها الأكراد وفيها العرب، وفيها غيرهم، ومثل هذه الدعوة العنصرية كفيلة بخلق المشكلات، وزرع العداوات بين أبناء الشعب الواحد، إذ سوف ينهض من كل عرق من ينادي بقوميته، فهذا قومي كردي، وذاك قومي عربي و.. و..
وكانت حساسية الأستاذ النورسي مفرطة في هذا، لأنه كردي ويعرف ما سيفكّر به قومه والأقوام الأخرى، ولذلك تصدّى لهذه الدعوة الغريبة، وردّ على دعاتها في العديد من المقالات والكتابات والرسائل، وفنّد مزاعم العرقية، والدماء الصافية، والأصل الواحد، فالشعوب اختلط بعضها ببعضها الآخر، بسبب الهجرات، ولم يعد في إمكان أحد إثبات صفاء العرق الواحد في أي شعب من شعوب العالم، ناهيك عن تركيا التي كانت إلى عهد قريب مركز الخلافة الإسلامية، وحامية حمى الإسلام والمسلمين، وموئل أبناء الأمة الإسلامية وملجأهم، وهم ينتمون إلى شعوب شتى. يقول الأستاذ:
"نقول لأولئك الذين يغالون في العنصرية، وفي القومية السلبية:
أولاً: لقد حدثت هجرات كثيرة جداً في بقاع الأرض كلها، ولا سيما في بلادنا هذه، منذ سالف العصور، وتعرّضت أقوام كثيرة إلى تغيّرات وتبدّلات كثيرة، ازدادت تلك الهجرات إلى بلادنا، بعد أن أصبحت مركزاً للحكومة الإسلامية، حتى حامت سائر الأقوام كالفراش حولها، وألقت بنفسها فيها، واستوطنتها فلا يمكن والحال هذه تمييز العناصر الحقيقية بعضها عن بعض، إلا بانفتاح اللوح المحفوظ.
لذا.. فبناء المرء أعماله وحميته على العنصرية لا معنى له ألبتة، فضلاً عن أضرارها."
ثم يبيّن لدعاة القومية الطورانية، فائدتين من مئات الفوائد التي تكسبها الحمية الإسلامية:
الأولى: أن الذي حافظ على حياة الدولة الإسلامية وكيانها -رغم قلة عدد أفرادها- تجاه جميع دول أوربا العظيمة، هو هذا المفهوم النابع من القرآن الذي يحمله جيشها:
"إذا متُّ فأنا شهيد، وإذا قَتَلْتُ فأنا مجاهد" هذا المفهوم دفع أبناء هذا الوطن إلى استقبال الموت باسمين، ممّا هزّ قلوب الأوربيين وأرهبهم.
تُرى. أيّ شيء يمكن أن يبرز في الميدان، ويبعث في روح الجنود مثل هذه التضحية والفداء، وهم ذوو أفكار بسيطة، وقلوب صافية؟
أيّ عنصرية يمكن أن تحلّ محلّ هذا المفهوم العلوي؟
وأيُّ فكر غيره، يمكن أن يجعل المرء يضحّي بحياته وبدنياه كلّها طوعاً في سبيله؟ الثانية: الأمة الإسلامية كالجسد الواحد، وقد بكى 350 مليون مسلم لسقوط هذه الدولة الإسلامية، وهذا ما حمل المحتلين الأوربيين على الانسحاب من المناطق التي احتلوها منها، حتى لا يثيروا عليهم مشاعر مئات الملايين من المسلمين.
فهل تُستصغر هذه القوة الظهيرة المعنوية والدائمة لهذه الدولة؟
وهل يمكن إنكارها؟
تُرى.. أيّ قوة أخرى يمكن أن تحلّ محلّها؟
هذا هو ميدان التحّدي، فليظهروا تلك القوة.
لذا لا يجوز أن نجعل تلك القوة الظهيرة العظمى تعرض عنا، لأجل التمسك بقومية سلبية، وحمية مستغنية عن الدين.
"ونقول للذين يبدون حماسة شديدة للقومية السلبية:(/15)
إن كنتم -حقاً- تحبّون هذه الأمة.. فعليكم أن تحملوا في قلوبكم غيرة تسع الإشفاق على غالبية هذه الأمة، لا على قلّة قليلة منها.. إذ الحمية بمفهوم العنصرية يمكن أن تجلب النفع والفائدة لاثنين من كل ثمانية أشخاص، فائدة مؤقتة، فينالون مالايستحقون من الحمية، أما الستة الباقون، فهم محرومون"(47).
وأحياناً لا يملك إلا أن يصرخ بملء فيه، في وجوه أولئك القوميين أهل البدع:
"يا أدعياء القومية السّكارى!
إن العصر السابق، ربمّا كان يُعدُّ عصر القومية، أمّا هذا العصر، فليس بعصر القومية، إذ إن مسائل البلشفية والاشتراكية تستحوذ على الأفكار، وتحطم مفهوم العنصرية، فقد ولى عصر العنصرية.
واعلموا أن ملّيّة الإسلام الدائمة الأبدية، لا ترتبط مع العنصرية المؤقتة المضطربة، ولا تلقح بلقاحاتها. وحتى لو حدث هذا التطعيم بلقاحات العنصرية، فإنها تفسد أمة الإسلام"(48).
7 - وهكذا ديدن الأستاذ النورسي في مواجهة التيارات المعادية للإسلام، كالاشتراكية والشيوعية والصهيونية والمذاهب الوضعية، والفلسفات المادية الطبيعية وما إليها من تيارات ضجّ بها هذا القرن، وضجّت منها بلاد المسلمين، يقول بديع الزمان:
"إن الخطط المرسومة ضدّ الإسلام من قبل الشيوعية والصهيونية قد أخفقتها رسائل النور".
ثم يقول:
"إن مجابهة أولئك، والتصدي لهم، أو حتى النقاش معهم، لا يكون إلا بقراءة رسائل النور، فالرسالة الواحدة تقابل آلاف الخطط الخفية ضدّ الإسلام، لأنها تخاطب جميع الطبقات. ابتداء من الأمي، وانتهاء بالفيلسوف"(49).
ويخاطب المفكرين الظلاميين من عبّاد الفكر الغربي والعلماني المعادي للإسلام:
"على المفكرين الذين غشيهم ظلام، أن يدركوا الكلام الآتي:
لا يتنّور الفكر من دون ضياء القلب، فإن لم يمتزج ذلك النور وهذا الضياء، فالفكر ظلام دامس، يتفجّر منه الظلم والجهل، فهو ظلام قد لبس لبوس النور (نور الفكر) زوراً وبهتاناً.
ففي عينك نهار، لكنه بياض مظلم، وفيها سواد، لكنّه منوّر. فإن لم يكن فيها ذلك السواد المنوّر، فلا تكون تلك الشحمة عيناً، ولا تقدر على الرؤية.
وهكذا.. لا قيمة لبصر دون بصيرة، فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة، فحصيلة الدماغ لا تكون علماً ولا بصيرة.. فلا عقل دون قلب"(50).
وكان أولئك المفكرون الظلاميون، سماسرة الظلم الإنساني، يروّجون للربا وللبنوك الربوية، ويسخرون من الزكاة والصدقات، فانبرى لهم، وبيّن فساد القائلين بمدنيّة الربا، ورجعية الدين الآمر بالزكاة، وفساد ما يدعون إليه، وظلمه، فقال:
"الربا يسبّب العطل، ويطفئ جذوة الشوق إلى العمل.
إن أبواب الربا ووسائطه (هذه البنوك) إنما تعود بالنفع إلى أفسد البشر وأسوئهم، وهم الكفار، وإلى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، وإلى أسوأ هؤلاء وهم أسفههم.
إن ضرر الربا على العالم الإسلامي ضررٌ محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين، إذ الكافر الحربيّ لا حرمة له، ولا عصمة لدمه"(51).
"فإن أرادت البشرية دوام الحياة، فعليها أن تستمسك بالزكاة، وتطرد الربا، إذ إن عدالة القرآن واقفة بباب العالم، وتقول للربا:
(ممنوع. لا يحق لك الدخول. ارجع)
ولكنّ البشرية لم تصغ إلى هذا الأمر، فتلقّتْ صفعة قوية (الحرب العالمية الثانية) وعليها أن تصغي إليه، قبل أن تتلقّى صفعة أخرى أقوى وأمرّ"(52).
وأخيراً اسمعه وهو يتحدث عن الطريق غير المشروع، وكيف أنه يؤدي إلى خلاف المقصود، فيقول لعشّاق أوربا وحضارتها المادية العارية من الأخلاق:
"القاتل لا يرث" دستور عظيم.
إن الذي يسلك طريقاً غير مشروع لبلوغ مقصده، غالباً ما يجازى بخلاف مقصوده، فمحبّة أوربا غير المشروعة، وتقليدها، والألفة بها، كان جزاؤها العداء الغادر من المحبوب، وارتكاب الجرائم.
نعم.. فالفاسق محروم لا يجد لذة ولا نجاة"(53).
كان أسلوب الأستاذ يتصف مع هؤلاء بالهجوم العنيف، وذلك بدحض أباطيلهم، بإيراد الأدلة القوية الكافية، وتفنيد اتهاماتهم الظالمة، مع التذكير المستمر بأن هناك عذاباً ينتظرهم في الدنيا، كما أن هناك عذاباً أليماً في الآخرة.
ورسائل الأستاذ "لا تكتفي بالهجوم أو الكشف عن السيئات الظاهرة لأهل الضلالة فحسب، وإنما تغزو أفكارهم وحججهم الواهية، ونقاط استنادهم الفكري، فتغزوها في جحورها، وتشنّ هجوماً شديداً عليها، محطّمة جميع الأسس التي يقوم عليها بناؤهم الفكري، وأباطيلهم لتشويه حقائق الإسلام، وجماله المقدّس، كاشفة عن دسائسهم في التفريق بين المسلمين، وصدّهم عن التلذذ بنعمة الإيمان"(54).
* نص المحاضرة في المركز الثقافي بعمان في 12/06/1997
(17) سورة هود: 118 - 119
(18) د. طه العلواني - أدب الاختلاف في الإسلام: 30 - 31
(19) سورة النحل: 125
(20) سورة البقرة: 83
(21) سورة الجاثية: 14
(22) الكلمات: 846
(23) الصالحي: 202
(24) المكتوبات: 20
(25) الصالحي: 204 نقلاً عن ملحق أمير داغ: 1/90
(26) المكتوبات: 565 - 566(/16)
(27) الكلمات: 562 - 569 باختصار
(28) نفسه: 848
(29) المحكمة العسكرية العرفية: 69
(30) المناظرات: 82
(31) الكلمات: 861
(32) د. فرج محمد الوصيف -بديع الزمان سعيد النورسي: 36 نقلاً عن جهان أقطاش- اللبس والحكومة منذ التنظيمات إلى اليوم: 178
(33) نفسه: 39 - 41
(34) نفسه باختصار: 42 - 44
(35) نفسه باختصار: 47 - 53
(36) المثنوي: 197
(37) نفسه: 198 - 199 - 200
(38) الكلمات: 855
(39) نفسه: 856
(40) نفسه: 856 - 857
(41) نفسه: 859
(42) نفسه: 857
(43) د. محسن عبد الحميد - النورسي: 71 - 72
(44) نفسه: 72
(45) المثنوي: 14
(46) عبد الفتاح أبو غدة - العلماء العزّاب: 244
(47) المكتوبات: 419 - 420
(48) نفسه: 566
(49) أسيد إحسان قاسم - ذكريات عن سعيد النورسي: 115
(50) الكلمات: 848
(51) نفسه: 877 - 878
(52) نفسه: 851 - 852
(53) نفسه: 852
(54) الصالحي: 161-162
بديع الزمان النورسي(4)
بقلم: عبد الله الطنطاوي
أهدافه
كان الهدف الرئيس للأستاذ -رحمه الله تعالى- إنقاذ الإيمان، ليعود الناس إلى دينهم، ويقيموا بيوتهم ومجتمعهم ودولتهم على الإسلام، يقول الأستاذ:
"إن غايتي إصلاح الأسس التي يُبنى عليها الإيمان، فإذا أصبح الأساس صلباً قوياً، فلا يؤثر فيه مؤثر بعد، حتى الزلازال.."(108).
فليس له من غاية في هذه الحياة، سوى إنقاذ الإيمان، وإعادته إلى القلوب التي خوت، وإلى الحياة، بعدما ران عليه ما ران من الضلالات والإلحاد الذي يسعى إلى القضاء عليه، وفي القضاء على الإيمان قضاء على الأمة في الدنيا والآخرة. لذلك ركّز جلّ مساعيه على بيان (حقيقة الإيمان) التي تبعث الطمأنينة في الفرد، والسعادة في المجتمع، بدلاً من تقديم وصفات اجتماعية غير قابلة للتطبيق.
وهذا الهدف النبيل ضروري جداً لأي جماعة تحترم نفسها، وتسعى لتحقيق طموحاتها السامية، يقول الأستاذ: ...
بديع الزمان النورسي
"إن لم يكن لفكر الجماعة غاية وهدف مثالي، أو نُسيت تلك الغاية، أو تنوسيت، تحوّلت الأذهان إلى أنانيات الأفراد، وحامت حولها، أي يتقوى (أنا) كل فرد، وقد يتحدد ويتصلّب، حتى لا يمكن خرقه، ليصبح (نحن ) فالذين يحبون (أنا) أنفسهم، لا يحبون الآخرين حباً حقيقياً"(109).
أما الأهداف الأخرى التي سوف تنبثق بشكل طبيعي من هذا الهدف الكبير، فكثيرة نذكر منها:
- القضاء على الجهل بنشر العلم، وتعميم المدارس والجامعات في أنحاء الدولة، ولم يأل جهداً في ذلك، فقد اتصل بالسلطان عبد الحميد وحاور وزير داخليته، من أجل إنشاء جامعة في شرقي الأناضول، تكون على غرار الجامع الأزهر، ثم اتصل من بعده بالسلطان محمد رشاد، من أجل هذه الغاية، ولكنه لم يفلح، مع أنه قدّم بين يدي السلطانين دفوعاً مقنعة، وبيّن مصلحة الدولة والأمة في ذلك، ثم عاود المطالبة أيام الكماليين، وبقيت جامعة الزهراء حلماً يداعب خياله طوال عمره المديد، وكان ذا نظر ثاقب في إنشاء (الزهراء) التي لو أنشئت، وتعلم الشعب الكردي في شرقي الأناضول، وعرف ربه ودينه، لما حصل الذي حصل ويحصل الآن في تركيا الطورانية العلمانية.
كما دعا إلى الأخذ بالعلوم الحديثة، وتدريسها إلى جانب العلوم الدينية، ولم يرفضها لأنها جاءت من أوربا، لأن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحقّ بها فيلتقطها. وعدّ الجهل من ألدّ أعداء الأمة، إلى جانب الفقر والاختلاف والاستبداد، وكان يرى أن العلم كفيل بالقضاء على هذه الأعداء الثلاثة.
ولهذا رأيناه يتبحر في مختلف العلوم الدينية والكونية، ويؤلف ويكتب ويحاضر، ضارباً بنفسه وبإخوانه العلماء والمتعلمين أروع الأمثال في التعلق بالعلم، وبالدعوة إليه.
- القضاء على الفقر، عن طريق العمل والكسب الحلال، وعن طريق العلم.
- القضاء على الاستبداد، بالدعوة إلى الشورى، وتحكيم شرع الله والقرآن الذي ينص على الشورى (وأمرهم شورى بينهم) ويأمر نبيّه الكريم بمشاورة أصحابه: (وشاورهم في الأمر). والعلم والإيمان كفيلان بالاستبداد والمستبدين.
ظهر هذا في مقالاته في الصحف، وفي مقابلاته مع رجال الإدارة والحكم، وفي تجواله بين الناس، وأحاديثه معهم.
- الدعوة إلى وحدة المسلمين أو اتحادهم، ونبذ الخلافات فيما بينهم، تمهيداً لتحقيق هدف عظيم، هو عودة الخلافة الإسلامية التي قضى عليها الكماليون العلمانيون. يقول النورسي، موجهاً كلامه إلى طوائف الأمة:
"إن لم تزيلوا هذا النزاع، فإن الزندقة الحاكمة الآن حكماً قوياً، تستغل أحدكما ضد الآخر، وتستعمله أداة لإفناء الآخر(110).
إذن .. كان يدعو إلى الاتحاد والوحدة دائماً، ويتجنب كلياً الأمور التي تعوق الاتحاد وتعرقله كتلك الاختلافات التي ينشبها الأعداء بين المسلمين أفراداً ودولاً وشعوباً مستغلاً غرقها في بحار التخلف والجهل والغفلة، ولهذا كان يقول لتلاميذه داعياً إياهم إلى التآخي والتوادّ والتحابّ:(/17)
"إخوتي. إن الإسلام لا حاجة له بخدمتكم وعملكم، بقدر ما هو في حاجة ماسة إلى تساندكم وترابطكم. فعليكم أن تقرؤوا بين حين وآخر، كلاً من رسائل: (الإخلاص) و (الأخوة) و(الهجومات الستة) فيما بينكم، ذلك لأن تساندكم وإخلاصكم وثباتكم وصلابتكم السائدة فيما بينكم منذ البداية، ستكون مفخرة لهذه البلاد"(111).
لماذا؟ لأنها مظهر حقيقي من مظاهر الوحدة الصغرى التي ستكون نواة لوحدة فصائل الأمة الإسلامية وشعوبها.
وكان دائم الهتاف:
"أيها العالم الإسلامي. إن حياتك في الاتحاد" وإن موتك في الفرقة والاختلاف.
لأنه كان يرى أن من أهم أسباب ضعف المسلمين وتأخرهم، هذه الفرقة وهذا التمزق الذي طالما سعى إليه الأعداء حتى حقّقوه. ولا يمكن للمسلمين أن ينهضوا إلا بوحدتهم أو اتحادهم على أقل تقدير.
في نظريات التغيير
هناك عدة نظريات للتغيير، وقد أحصاها الأستاذ منير شفيق بالتالي:
1 - نظرية العمل المسلح: كفعل الأمير عبد القادر الجزائري، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي.
2 - نظرية العمل السياسي: وهي نظرية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
3 - نظرية الثورة المتحالفة: وهي التي انتهجها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تحالفه مع الأمير محمد بن سعود.
4 -النظرية التربوية: وهي التي تحضّر لمرحلة أخرى أو أكثر، وينتقل فيها العمل إلى الجهاد، وهي نظرية الإمام الشهيد حسن البنا.
5 - نظرية الثورة على الحاكم الجائر. كما حدث في اليمن.
6 - نظرية استخدام مختلف أشكال المقاومة ضد الاستعمار المباشر، كما حدث في ثورة الجزائر.
7 - نظرية التحريض اليومي، كثورة الإمام الخميني في إيران"(112).
نظرية التغيير عند النورسي
الغريب أن الأستاذ منير شفيق لم يذكر الإمام النورسي بين هؤلاء، ولعل السبب يعود إلى عدم اطلاعه على التراث الفكري الهائل لبديع الزمان، أو لأن أحداً لم يبلور نظرية النورسي في التغيير.
ومن خلال اطلاعي على بعض تراث النورسي، أرى مشابه كثيرة في عملية التغيير بينه وبين ما جاء به الأستاذ البنا، أي النظرية التربوية التي تتطور إلى عمل سياسي لم تنفكّ عنه يوماً، برغم لعن النورسي للشيطان والسياسة معاً، وقد تتطور إلى عمل جهادي -لو أتيح لها ذلك في قابل الأيام- كما فعل الأستاذ البنا عندما خاض مع إخوانه في مصر وسورية والأردن وفلسطين حرباً مع يهود، وكما جاهد النورسي وإخوانه في القفقاس..
على أي حال، لم يكن في مشروع بديع الزمان أيّ توجه نحو العمل المسلح داخل تركيا، ضد الحكام الملاحدة من الكماليين، برغم إعلانهم الحرب الضروس على الإسلام وعلمائه والدعاة إليه، ولذلك لم يؤيد ثورة الشيخ سعيد بيران على النظام الكمالي القومي العلماني، لأسباب نعرف بعضها، ولا نعرف بعضها الآخر.
يقول الدكتور محسن عبد الحميد:
"ولإيمان الأستاذ بالتغير في إطار انتشار الوعي الاجتماعي، والدعوة السلمية، فإنه لا يبيح الجهاد المسلح الداخلي الموجه إلى حكام المسلمين، لأن ذلك لا يخدم -من وجهة نظره- إلا العدوّ الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي من حيث هو كلّ.
فهو يقول: "إن الجهاد المسلّح لا يحشد كلياً إلا ضدّ العدو الخارجي، والصراع المسلح داخل البلاد الإسلامية، هو ما يصبو إليه العدو الخارجي، إذ إن سفك دماء المسلمين فيما بينهم، أمر يهمهم" ويضيف: "إن الجهاد في أي مجتمع إسلامي، إنما هو جهاد معنوي، يتوصل إليه عن طريق تنوير الأفكار، وإصلاح القلوب والأرواح.
ويكون جهاداً إيجابياً بنّاء لصدّ التخريبات المعنوية، ويُتصرف فيه وفق سرّ الإخلاص. فهناك بون شاسع بين الجهاد في الخارج والجهاد في الداخل. فنحن نبذل قصارى جهودنا للحفاظ على استقرار البلاد، وأمنها، وفق العمل الإيجابي البناء..
في هذا الوقت، الفرق عظيم جداً بين الجهاد الداخلي والجهاد الخارجي"(113).
وقارئ تراث الإمام النورسي لابد له من أن يلاحظ اتسام نظريته الإصلاحية التغييرية بالسمات التالية:
1 - التدرج في الإصلاح والدعوة إلى التغيير.
يقول الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه عن النورسي:
كان النورسي "يؤمن (بالنظام)، ويبعد (الفوضى) ويؤمن (بالتدرج) ولا يعتقد (بالطفرة). فالنظام والتدرج هما أساس الوجود كله، وأي خروج عليهما، يعني إدخال الفساد عليه، وهو خروج واضح على تعاليم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والقرآن هو الكون المقروء، والسنّة هي الكون المطبق في الحياة العملية".
"وفي ضوء ذلك، فإن النورسي يدعو إلى تغيير اجتماعي منظم، يتمسك بقانون التطور الفطري التدريجي، ويجب أن يبدأ من القاعدة، ويصعد إلى القمة، لا العكس، لأن العكس سيؤدي إلى زعزعة الحياة الاجتماعية، ويحصل منه شر مستطير، وتخريب كبير".
فهو يقول:
"إن من يشق طريقاً في الحياة الاجتماعية، ويؤسس حركة. لا يستثمر مساعيه، ولن يكون النجاح حليفه، ما لم تكن الحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميع أعماله لأجل التخريب والشر"(411).(/18)
"إذن فلا بدّ أن يكون قانون التغير في حياته هو التغير التدريجي، حتى لا يختلّ توازن الحياة، فيؤدي إلى نتائج عكسية"(115).
ولهذا بدأ بالأهم ثم المهم في سلم الأولويات الذي هو منهج الأنبياء. ومن هنا كان تركيزه على إعادة الإيمان إلى النفوس والقلوب والحياة، وكل الأهداف الأخرى كانت تابعة للإيمان، ونابعة منه يقول:
"إنه لابد لهذا العصر من مجدد له شأنه، ليقوم بتجديد الدين والإيمان، وتجديد الحياة الاجتماعية والشريعة، وتجديد الحقوق العامة، والسياسة الشرعية، ولكن أهم تلك الوظائف هو التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية فهو أجل وأعظم تلك الوظائف الثلاث. لذا، تبقى دوائر "الشريعة" و"الحياة الاجتماعية والسياسية في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، بالنسبة إلى دائرة الإيمان"(116).
أي أنه كان قد وضع سلم أولوياته على النحو التالي: الإيمان، ثم التربية، ثم الشريعة. ولهذا تدرج في دعوته الإصلاحية من الفرد؛ عاملاً، وفلاحاً، وطالباً، وعالماً، ورجل إدارة وسياسة، يغرس في نفوسهم العقيدة والإيمان والأخلاق ومبادئ الإسلام وفضائله، ثم ينتقل إلى البيت؛ زوجاً وزوجة وأولاداً وأسرة، ثم إلى المجتمع بكل ما فيه من شرائح وطبقات وفئات، ثم إلى الأمة الإسلامية.
واستمر النورسي في تطبيق نظريته التغييرية عن طريق:
نشر حقائق الإسلام بالأدلة والبراهين.
وتكوين الجيل المؤمن الصالح.
وبثّ الوعي الإسلامي بخطورة الحملة الشرسة على الإسلام والمسلمين.
وتهيئة صفوف الأمة للوقوف أمام الموجة اللادينية الطاغية.
ونقل التربية الإسلامية إلى داخل البيوت".
"وقد نجح أسلوبه هذا إلى حد بعيد"(117).
2 - وكان منهجه في الإصلاح والتغيير يقوم على الوسطية، وعدم التعصب أو المغالاة في التحيز. يقول الأستاذ النورسي:
"أيها العالم الإسلامي، إن حياتك في الاتحاد.
إن كنت طالباً للاتحاد، فاتخذ هذا دستورك.
لابد أن يكون "هو حق" بدلاً من (هو الحق)
إذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه:
"إن هذا حق" ولا أتعرض لما عداه، فإن يكن جميلاً فمذهبي أجمل.
بينما لا يحق له أن يقول في مذهبه:
(إن هذا هو الحق، وما عداه باطل، وما عندي هو الحسن فحسب، وغيره قبيح وخطأ).
إن ضيق الذهن وانحصاره على شيء، ينشأ من حب النفس، ثم يكون داء، ومنه ينجم النزاع"(118).
وبهذا السلوك يكون التعاون والاتحاد، وبغيره يكون التنازع والتخاصم والتنابذ، وهو ما يسعى إليه أعداء هذه الأمة. وعلى هذه الوسطية ربّى تلاميذه، ليصلح بهم الناس، وبهذه الوسطية نفسر موقفه من حضارة الغرب وفلسفته وعلومه، وموقفه من المدارس الدينية والمدارس الحديثة، ومن العلماء المبتدعين، ومن الصوفية المنعزلين.
3 - وكانت دعوته شمولية، تحاول أن تكون مكافئة للقوى الثقافية المعادية، لأن المدّ الإلحادي في تركيا كان يشمل جميع جوانب الحياة، وكان يركّز على الأصول والكليات في الإسلام، قبل الفروع والجزئيات، ولذلك جاءت دعوة النورسي متّسمة بسمة الشمول والكلية(119). اسمعه يقول:
"إن رسائل النور لاتعمر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتاً صغيراً مهدماً، بل تعمر أيضاً تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة عظيمة، صخورها كالجبال، تحتضن الإسلام وتحيط به.. وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين، بل تسعى أيضاً -وبيديها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هيئت لها، وركمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجه نحو الفساد نتيجة تحطم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع، ولاسيما عوام المؤمنين. نعم إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدوية إعجاز القرآن والإيمان.
فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشكوك الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة، وأعتدة مجهزة بدرجة حق اليقين، وبقوة الجبال ورسوخها، ووجود أدوية مجربة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق، ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حد لها"(120).
ولأجل هذا كان يخاطب سائر فئات المجتمع حكاماً ومحكومين، علماء وعامة:
"وانطلاقاً من هذا الشمول فقد سار في الخطوط العامة المتوازية في دعواته، حيث إصلاح الفرد، وإصلاح البيت، وإصلاح المجتمع، وإظهار الحقائق بإزالة اللبس لدى طلاب النور، وتفنيد شبه العلمانيين الملحدين، وشبه غير المسلمين، وكشف الحقيقة حول دعوته لدى المسؤولين، وفي دفاعاته في المحاكم، وإظهار الحقائق حول الأفكار السائدة في تركيا على زمانه، وبذل مساعيه المضنية لأجل عودة الخلافة الإسلامية.
ولم يقصر الدعوة على جانب معرفي معين، بل كانت شاملة لجميع العلوم والمعارف التي شملها الإسلام. يقول عن الرسائل التي هي مرآة دعوته:
"إن رسائل النور تسد الحاجة التي تخص الحقائق الإسلامية، فلا تدع حاجة إلى مراجعة مؤلفات أخرى"(121).(/19)
4 - وكانت دعوة عالمية، وليست إقليمية.. كان يحث على ترجمة رسائله إلى اللغة العربية، وإلى اللغات الأخرى التي تنطق بها سائر الشعوب الإسلامية، بل وغير الإسلامية، من أجل التبشير بأفكاره وتعاليمه المنبثقة من القرآن والسنة، وكان يأمل أن يقوم علماء من الأزهر أو من بلاد الشام بترجمتها إلى اللغة العربية، كما أوفد أحد طلبته إلى العراق ومصر من أجل هذا الغرض.
ولذلك كان يضع أمله في العرب، وليس في قومه الأكراد، ولا في الأتراك، شأنه شأن أي عالم، أو مجدّد، أو مصلح إسلامي، يعمل على النهوض بأمة الإسلام، وليس أحقّ من العرب المسلمين بالنهوض، واستلام زمام القيادة. قال في خطبته الشامية:
"إنني أنتظر من العرب أن يوحّدوا صفوف المسلمين، ويعيدوا إلى الإسلام سالف عهده، وأملي كبير بأن الأجيال القادمة سوف تعيش اليوم الذي يمتدّ فيه الإسلام إلى شتى أنحاء العالم."(122).
ويعرّض بالقوميين العرب العلمانيين المنادين بالقومية العنصرية البعيدة عن الإسلام، كدعاة القومية التركية الطورانية فيقول:
"وكذا العرب قد سرى الإسلام فيهم، فلا يمكنهم الانفصال عنه والانفصام، فلا معنى للعرب ولا مكانة إلا إذا اقترنت عروبتهم بإسلامهم. فالقومية خطر عظيم"(123).
ولذلك كان يؤكد على اللغة العربية، والحروف العربية، يعلّمها تلاميذه، ويدعو إلى أن تكون خطبة الجمعة باللغة العربية، ولا يرى إلقاءها بغير العربية تحت أي ذريعة.
ونظرته إلى الأتراك كنظرته إلى العرب في تمسكهم بالإسلام، وأنهم جزء لا يتجزأ منه. يقول:
"إن الأتراك قوم لا يمكنهم الانفصال عن الإسلام، وهم جزء غير قابل للانفصال عن الأمة الإسلامية، حتى إن غير المسلم فيهم لا يكون تركياً، فكل تركي مسلم"(124). وليذهب أدعياء القومية ودعاتها إلى الجحيم.
ولكن أبرز صفة يمكن وصف دعوته بها، هي أنها إسلامية تُعنى بقضايا العقيدة، لاسيما وجود الله ووحدانيته، واليوم الآخر (الحشر) وما يتعلق به من الأمور الغيبية. وكلّ خصائص دعوته التي أشرنا إليها، وهي: (التدرج، والوسطية والشمول والعالمية) هي من خصائص هذا الدين.
وسائله في تحقيق تلك الملامح الإصلاحية
كان هامش الحرية الذي أتيح للأستاذ النورسي ضيقاً وضيقاً جداً، وقد تقدم أنه قضى زهرة عمره في المنافي والسجون والمعتقلات.. ثمانية وعشرين عاماً لا غير قضاها سجيناً ومنفياً بعيداً عن الناس وعن تلاميذه، ولهذا لم يتح له من الوسائل إلا النزر اليسير للتبشير بدعوته الإصلاحية، في السجون، حيث اهتدى على يديه عدد من المجرمين المحبوسين معه، وفي المنافي، حيث كان يشدّ أنظار الفلاحين البسطاء إليه بمنظره ودينه وأوراده واستقامته وصبره، كما شدّ عدداً من أفراد الشرطة القائمين على مراقبته، وكذلك بعض القضاة الذين كانوا يستمعون إلى مرافعاته ودفوعه الرائعة المقنعة ببراهينها وأدلتها المصحوبة بحماسة وجرأة وفاعلية..
وقد استثمر الأستاذ النورسي كل الوسائل المتاحة، من اتصالات شخصية، إلى الخطب والمواعظ والمحاضرات في المناسبات المختلفة، إلى الكتابة في الصحف، إلى تأليف رسائل النور التي كانت -وما تزال- دروساً قرآنية توافق أفهام هذا العصر، وكانت كل رسالة منها هي سعيد النورسي نفسه، كما قال في (كلماته)(125).
وكان يكتب (المكاتيب) أي الرسائل الشخصية إلى تلاميذه وإلى الهيئات الإسلاميّة وغير الإسلامية، ويجيب بها سائليه، كما كان يكتب الرسائل إلى الحكام والعلماء والوجهاء، ينصحهم حيناً ويأمرهم وينهاهم حيناً آخر.
وقد ظهرت مواهبه المتعدّدة، ومؤهلاته العقلية والمنطقية والعلمية، في محاوراته ومناظراته.. ظهر فيها عقله المرتّب، ومنطقه العلمي السليم، فكان يلزم الخصوم حدودهم، ويكسب ذوي الضمائر الحيّة والمخلصين المغرَّر بهم. نذكر من حواراته ومناظراته، ما كان مع وزير داخلية السلطان عبد الحميد، ومع مفتي مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي، ومع القائد العام للجيش الروسي خال القيصر نقولا، ومع مصطفى كمال، ومع حسين باشا رئيس إحدى العشائر الكردية الذي جاء يدعوه إلى الاشتراك في ثورة الشيخ سعيد بيران ضدّ النظام الكمالي العلماني، وحواره مع رؤساء العشائر الكردية والتركية، لتحطيم اليأس، وبعث الأمل في النفوس. ولعلّ أروع تلك المحاورات والمناظرات ما كان مع المحققين والقضاة الذين كانوا يحققون معه، لإدانته والإيقاع به، وقد كانت دفوعه ومرافعاته، في المحاكم العلنية، وسيلة فعّالة في نشر أفكاره وآرائه بل كانت خير وسيلة لشرح غاية دعوته، وفضح مرامي الذين يقفون ضدّه، ومقاصدهم المعادية للإسلام والداعين إليه.
وكل نظرية تغييرية تحتاج إلى الموارد البشرية بأعدادها ونوعيتها وإلى الخبرات اللازمة، والتقنية المكافئة، وإلى الوقت الكافي لعملية التغيير، وإلى المكان الجاهز والصالح لتلك العملية(126).
وهذه كلها لم تكن متوافرة لدى بديع الزمان، لطبيعة الظروف القاسية التي كان يعيشها، والتي فرضها عليه أعداء الإسلام.(/20)
صحيح أنه كان مقتنعاً بضرورة الإصلاح والتغيير، وقد استطاع إقناع أتباعه بهما، بما كتب وشرح لهم، وبالوضع الشائن الذي عرّاه أمامهم، حتى جعلهم ينفصلون عن هذا الواقع نفسياً، بفقد انبهارهم به، وبأن المستقبل يجب أن يكون لهذا الدين.
وصحيح أنه استطاع تحويل أحاسيس اليأس والإحباط إلى مشاعر إيجابية بناءة، واستطاع تعبئتهم تعبئة نفسية سليمة، وولّد لديهم طاقة جديدة يحدوها الأمل بمستقبل أفضل.
هذا كله صحيح، ولكن التحديات كانت أكبر من الوسائل المتاحة له.. كانت الرياح الهوج تعترض سفينة حياته التي تتقاذفها وتلاطمها أمواج القوى السياسية والثقافية المعادية.. كان الناس أكثر الناس يسبحون مع تيار الإلحاد والانفلات، وكان هو وتلاميذه يسبحون ضدّ ذلك التيار الهائل الهادر الذي حشد له الحاشدون الحشود التي أرادوا بها القضاء المبرم على الإسلام، في نفوس أبناء الإسلام وحُماته، والإجهاز على علمائه والدعاة إليه على علم وبصيرة. فالقوى لم تكن متكافئة، ولم يكن الخصوم أخلاقيين في خصومتهم، لأنهم كانوا يسيرون في ركاب أفكار وحضارة بلا أخلاق.
ولذلك .. قضى الأستاذ نحبه، ولمّا يقض وطره في إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة والمجتمع من جديد.
الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسياسية لدعوته
كانت الدولة العثمانية، ثم الدولة الكمالية، غارقتين في الجهل والفقر والتخلف.. أميّة ضاربه أطنابها في المجتمع التركي عامة وفي الأرياف الفقيرة خاصة.. أمّية في القراءة والكتابة، وأمّية فكرية قاتلة.. وبشكل أخصّ، في كل ما له صلة بهذا الإسلام، حتى غدا الإسلام بمبادئه العظيمة، مشوَّهاً، تتناوشه سهام الغدر من كل جانب، جهل مطبق في العبادات التي كانت صورية شكلية لا روح فيها.. وجهل أشدّ بتعاليم الإسلام ومبادئه القويمة، التي تعرّضت لأشرس حملة يهودية صليبية علمانية حاقدة عليها.. على الإسلام، وعلى تاريخه، وعلى رجاله، حتى رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم لم يسلم من طعنات الطاعنين به، والمسلمون عاجزون جهلة، وعلماء الإسلام بين منكفئ على نفسه، وفار بدينه، وبين منحرف مبتدع سائر في ركاب الحاكمين.
عاصر بديع الزمان هاتين المرحلتين الحالكتين، ووعى الداء، وعرف الدواء، فتسلّح بالعلم والإيمان والإخلاص، ثم انطلق يجوب المدن والقرى والأقاليم التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وقابل السلاطين والوزراء ورجال الحكم والإدارة، وطالبهم بالإصلاح، وبتحمل مسؤولياتهم تجاه الأمة والوطن، كما دعا أبناء الشعب إلى اليقظة والنهوض من الهوّة السحيقة التي تردّوا فيها منذ زمن، فتعرض لما تعرّض له من بلاء السجن والتعذيب والنفي، والملاحقة والمطاردة والتضييق عليه وعلى تلاميذه طلاب مدرسة النور دون أن تلين له قناة، أو تضعف له عزيمة، أو تخور له إرادة، وكان لرسائله وخطبه ومواعظه ومرافعاته ومقالاته الصحفية، آثارها في نفوس الناس، فقد عرّى الدعاوى العلمانية، وفضح أهداف القوميين والبلاشفة والماسون، وصحح الفكرة المشوّهة عن الإسلام ونبيّ الإسلام، عن طريق رسائل النور التي انتشرت في أنحاء تركيا، فانبثقت عنها صحوة فكرية، تمثلت في سيل المطبوعات والكتب في العديد من المدن التركية، واستطاعت أن تضغط على رجال السياسة، وجلهم من العلمانيين، فاستجابوا لبعض مطالب المسلمين، وتزلفوا للشعب المسلم، فأعاد رئيس الوزراء عدنان مندريس -رحمه الله- الأذان إلى لغته العربية، وسمح بفتح العديد من مدارس الأئمة والخطباء، وبفتح الجامعات والكليات الشرعية الإسلامية.
بل إننا نستطيع أن نزعم، أنّ المدّ الإسلامي المعاصر في تركيا، ما هو إلا نتيجة طبيعية، لتلك الصحوة الاجتماعية الإسلامية التي حمل عبأها طلاب مدرسة النور، مستهدين بالرسائل النورانية التي تركها لهم شيخهم الإمام بديع الزمان النورسي، صاحب هذه المدرسة وما حوت من تراث فكري ضخم، كان الشموع وكان المنارات، في ليل تركيا البهيم...
إن المدّ الإسلامي المعاصر في تركيا، فكرياً وسياسياً، وعلمياً، واقتصادياً وتربوياً، هو من ثمرات بديع الزمان الذي غرس غراسها منذ بداية هذا القرن وشرع يتعهدها بالتربة الصالحة، والسقاية والرعاية، حتى آتت أكلها، وصارت قاب قوسين أو أدنى من الهدف الذي سعى الإمام النورسي إلى تحقيقه قرابة ثلاثة أرباع القرن.
* * *
سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
وصلى الله على سيّدنا وقائدنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
7 من صفر الخير 1418 هـ
12 من حزيران 1997 م
الهوامش:
(17) سورة هود: 118 - 119
(18) د. طه العلواني - أدب الاختلاف في الإسلام: 30 - 31
(19) سورة النحل: 125
(20) سورة البقرة: 83
(21) سورة الجاثية: 14
(22) الكلمات: 846
(23) الصالحي: 202
(24) المكتوبات: 20
(25) الصالحي: 204 نقلاً عن ملحق أمير داغ: 1/90
(26) المكتوبات: 565 - 566
(27) الكلمات: 562 - 569 باختصار(/21)
(28) نفسه: 848
(29) المحكمة العسكرية العرفية: 69
(30) المناظرات: 82
(31) الكلمات: 861
(32) د. فرج محمد الوصيف -بديع الزمان سعيد النورسي: 36 نقلاً عن جهان أقطاش- اللبس والحكومة منذ التنظيمات إلى اليوم: 178
(33) نفسه: 39 - 41
(34) نفسه باختصار: 42 - 44
(35) نفسه باختصار: 47 - 53
(36) المثنوي: 197
(37) نفسه: 198 - 199 - 200
(38) الكلمات: 855
(39) نفسه: 856
(40) نفسه: 856 - 857
(41) نفسه: 859
(42) نفسه: 857
(43) د. محسن عبد الحميد - النورسي: 71 - 72
(44) نفسه: 72
(45) المثنوي: 14
(46) عبد الفتاح أبو غدة - العلماء العزّاب: 244
(47) المكتوبات: 419 - 420
(48) نفسه: 566
(49) أسيد إحسان قاسم - ذكريات عن سعيد النورسي: 115
(50) الكلمات: 848
(51) نفسه: 877 - 878
(52) نفسه: 851 - 852
(53) نفسه: 852
(54) الصالحي: 161-162
(55) بشير شكيب الجابري - القيادة والتغيير: 38 - 39
(56) نفسه: 70 - 71
(57) المثنوي العربي النوري: 15
(58) نفسه: 16
(59) الكلمات - اللوامع: 837
(60) نفسه: 852
(61) أسيد الصالحي: 23
(62) المكتوبات: 16 و 17
(63) نفسه: 82 وانظر الصفحات: 84 - 369 - 472 - 541
(64) سورة الرعد: 38
(65) سورة يونس: 49
(66) د. محسن عبد الحميد: 20 نقلاً عن (سعيد النورسي وجوانب مجهولة من حياته): 148
(67) المثنوي العربي: 15
(68) بديع الزمان - صيقل الإسلام: 546 - 547
(69) د. الوصيف: 142
(70) سيرة إمام مجدد: 57 والشعاعات: 18 والدكتور محسن عبد الحميد: 31
(71) الشعاعات: 294
(72) أسيد إحسان قاسم: 110
(73) الكلمات: 854
(74) نبيه زكريا عبد ربه - الحركات الإسلامية ضد الصهيونية والصليبية والشيوعية: 303
(75) الكلمات: 854
(76) نفسه: 859
(77) نفسه: 850
(78) سورة الرعد: 11
(79) نفسه: 862
(80) نفسه: 297
(81) من مقدمة المثنوي للصالحي: 5 - 6
(82) أسيد إحسان قاسم: 88
(83) الكلمات: 873
(84) نفسه: 870
(85) ذكريات عن سعيد النورسي: 91
(86) نفسه: 91
(87) الملاحق: 372
(88) د. الوصيف: 119
(89) نفسه: 165
(90) نفسه: 174
(91) د. الوصيف: 117
(92) نفسه: 119
(93) الكلمات: 853
(94) نفسه: 862
(95) نفسه: 860
(96) سلوة المرضى: 7 - 8
(97) نفسه: 14
(98) نفسه: 16
(99) نفسه: 23-24
(100) سورة العلق: 6 - 7
(101) سلوة المرضى: 32
(102) الكلمات: 869
(103) نفسه: 887
(104) نفسه: 877
(105) عبد الفتاح أبو غدة: 243
(106) الكلمات: 864
(107) عبد الفتاح أبو غدة: 243
(108) أسيد إحسان قاسم: 21
(109) الكلمات: 863
(110) الكلمات: 863
(111) أسيد إحسان قاسم: 89
(112) منير شفيق: في نظريات التغيير: 57 و58 بتصرف
(113) د. محسن عبد الحميد: 62 و63 عن ملحق أمير داغ: 2/214
(114) اللمعات: 160
(115) د. محسن عبد الحميد: 62
(116) الملاحق: 196
(117) د. محسن عبد الحميد: 65
(118) الكلمات: 896
(119) د. الوصيف: 105
(120) الملاحق: 118
(121) د. الوصيف: 277-278
(122) عبد الفتاح أبو غدة: 244
(123 و124) نفسه: 249
(125) الكلمات: 896
(126) بشير الجابري: 71(/22)
بديع الزمان الهمذاني
هو أحمد بن الحسين، ولد ونشأ في "همذان" شمالي فارس، وهناك تأدب وتعلم العربية والفارسية.
تنقل في عدة أقاليم، بين الريّ، وجرجان، ونيسابور حيث تألق نجمه، وأملى مقاماته الأربعين، وناظر أبا بكر الخوارزمي، ثم استقر في "هراة" إحدى مدن الأفغان حتى مات سنة 398هـ.
له شعر ورسائل، ولكن شهرته تقوم على مقاماته، لأنه أول من أذاع هذا الفن.
والمقامة حكاية قصيرة يتنوع موضوعها، وتقوم على التفنن في الإنشاء، وإيراد الحكم والأمثال وتصوير شخصية بطلها، في أسلوب بارع متأنق، وروح خفيفة، وصنعته البديعية لا يمجُّها الذوق الأدبي، لما فيها من الطبع وحسن التأليف، وجمال الفن: كالمقامة البغدادية والمضيرية والقريضية.
وهذه قطعة من (المقامة البشرية):
حدثنا عيسى بن هشام قال:
- كان بشر بن عوانة العبدي – صعلوكاً(1). فأغار على ركب فيهم امرأةٌ جميلة، فتزوج بها، وقال:
- ما رأيتُ كاليوم.
فقالت:
أعجب بشراً حورٌ في iiعيني
ودونه، مسرح طرف iiالعين
أحسن من يمشي على iiرجلين ... ... وساعدٌ أبيضُ iiكاللجين
خَمْصانةٌ ترفل في حِجْلينِ(2)
لو ضَمَّ بشرٌ بينها iiوبيني
أدام هجري وأطال بيني
قال بشر: ويحك، من عنيت؟
فقالت: بنت عمك فاطمة.
فقال: أهي من الحسن بحيث وصفت؟ قالت:
وأزيد وأكثر.
ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته فآلى ألا يُرعي على أحدٍ منهم(3)، إن لم يزوجه ابنته. ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته(4) إليهم. فاجتمع رجال الحي إلى عمه وقالوا: كف عنا مجنونك.
فقال: لا تلبسوني عاراً، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل.
فقالوا أنت وذاك.
ثم قال له عمه:
- إني آليت ألا أزوج ابنتي هذه إلا من يسوق إليها ألف ناقةٍ مهراً، ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة(5).
وغرض العم كان أن يسلك بشرٌ الطريق بينه وبين خزاعة، فيفترسه الأسد، لأن العرب قد تحامت من ذلك الطريق، وكان فيه أسدٌ يسمى داذاً وحيةٌ تُدعى شجاعاً.
ثم إن بشراً سلك ذلك الطريق، فما نَصَفَهُ حتى لقي الأسد، وقَمَصَ(6) مُهْرُه، فنزل وعقره(7) ثم اخترط سيفه إلى الأسد (8) واعترضه وقطَّه(9)، ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه:
أفاطمُ لو شهدتِ ببطن iiخبتٍ
إذن، لرأيت لَيْثاً أمَّ iiليثاً
يكفكف غيِلةً إحدى iiيديه
يدل بمخلب وبحدّ iiنابٍ
نصحتك فالتمس يا ليثُ iiغيري
هززت له الحُسامَ، فَخلتُ iiأني
وأطلقت المهند من iiيميني
فخرَّ مضرَّجاً بدمٍ iiكأني
وقلت لهـ: يعزُّ عليَّ iiأني
فلا تجزع فقد لاقيت iiحُرّاً ... ... وقد لاقى الهزبرُ أخاكِ بِشْرا(10)
هزبراً أغلباً لاقى iiهزبرا
ويبسط للوثوب عليَّ iiأخرى(11)
وبا للحظات تحسبهن iiجمرا(12)
طعاماً، إن لحمي كان iiمرا
سللتُ به لدى الظلماء فجرا
فقَدَّ له من الأضلاع iiعشرا
هدمتُ به بناء iiمُشْمَخِرَّا
قتلتُُ مُناسبي جَلَداً وفخرا
يحاذر أن يُعاب، فمتَّ iiحُرّا
فلمّا بلغت الأبيات عمه ندم على ما منعه من تزويجها وخشي أن تغتاله الحية فقام في أثره، وبلغه وقد ملطته سَوْرة الحية(13). فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية، فجعل يده في فم الحية، وحكَّم سيفه فيها.
فما قتل الحية قال عمه:
- إني عرضتُك طمعاً في أمرٍ قد ثنى الله عناني عنه، فارجع لأزوجك ابنتي.
فلمّا رجع جعل بِشر يملاً فمه فخراً، حتى طلع أمردُ كشق القمر، على فرسه، مدججاً في سلاحه. فقال بِشر:
- يا عم، إني أسمع حسَّ صيدٍ. وخرج فإذا بغلامٍ على قِيْدٍ(14).
فقال:
- ثكلتك أمك يا بِشر، أن قتلت دودة تملأ ما ضغيك فخراً(15)؟
أنت في أمانٍ إن سلمت عمَّك.
فقال بشر: من أنت؟ لا أم لك!
قال: اليومُ الأسود والموتُ الأحمر.
فقال بشر: ثكلتك مَنْ سَلَحَتْك(16).
وكر كل واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكن بِشرٌ منه وأمكنَ الغلامَ عشرون طعنةً في كلية بشرٍ، كلما مسَّه شبا السِنان(17) حماه عن بدنه، إبقاء عليه. ثم قال:
- يا بشر، كيف ترى؟ أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرمح؟
ثم ألقى رمحه واستل سيفه، فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف، ولم يتمكن بشرُ من واحدة.
ثم قال:
يا بشرُ، سلِّمْ عمَّك واذهب في أمان.
قال: نعمْ ولكن بشريطة أن تقول لي:
من أنت؟
فقال: أنا ابنك.
فقال: سبحان الله! ما قارنتُ عقيلة قط (18)، فأنَّى هذه المنحة؟
فقال: أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك.
فقال بشر:
- تلك العصا من هذه العُصَيّة(19) هل تلد الحية إلا الحية؟
وحلف: لا رَكبً حِصاناً، ولا تزوج حَصاناً(20)
ثم زوَّجَ ابنة عمِّه لابنه.
الهوامش:
(1) الصعلوك، في الأصل: الفقير. والمراد هنا: اللص الفاتك.
(2) مسرح طرف العين: أي قريباً منه – الخمصانة: الضامرة الخصر – الحِجل: الخلخال.
(3) أقسم ألا يبقي على أحد.
(4) مفردها: المعرة، وهي الشر والأذى.
(5) خزاعة: من كبريات قبائل العرب.
(6) رفع يديه معاً وطرحهما معاً.
(7) قطع قوائمه بالسيف.
(8) استل سيفه ومشى إلى الأسد.
(9) قطعه
(10) بطن خبث: اسم مكان – الهزبر: من أسماء الأسد.(/1)
(11) يكفكف: يقبض – غيلة: خدعة.
(12) يُدلُّ: يتيه ويظهر تكبره.
(13) سطوتها.
(14) أي على مسافة قصيرة كطول الرمح.
(15) يريد: تملأ فمك. وقوله: أن قتلت، معناه: لأنك قتلت (بتقدير حرف جر محذوف).
(16) أي رمت بك من بطنها، وولدتك.
(17) طرف الرمح.
(18) أي ما تزوجت امرأة كريمة.
(19) أي أن الشيء الجليل يكون في بدء أمره صغيراً. وهو مثل من أمثال العرب.
(20) بفتح الحاء: المرأة العفيفة.(/2)
بديع الزمان سعيد النورسي
انني سعيد جداً لإتاحة الفرصة لي لكتابة كلمة تعريف لـ ”المثنوي العربي النوري” لبديع الزمان سعيد النورسي. فمن الواجب دراسة هذه الشخصية السامقة دراسة جدية وواسعة وتعريفها وتقديمها الى الانسانية جمعاء. ذلك لان “بديع الزمان سعيد النورسي” يقف في مقدمة صفوف مفكري هذا القرن من الذين قدموا وبشكل مؤثر ونقي ودون شوائب، العقيدة التي يعتنقها العالم الاسلامي وحياته الروحية العريضة، ومعاييره المعنوية الواسعة. ونحن لا نعتقد باننا نستطيع فهمه او فهم أفكاره ان اقتربنا منه ومن افكاره بشكل عاطفي، فمثل هذا الاسلوب لن يكون اسلوباً جدياً في فهم المسائل التي طرحها والتي دافع عنها طوال حياته دفاع الابطال، فقد كان طوال حياته انساناً يعيش تحت ظل الكتاب والسنة ويحلق باجنحة المنطق والتجربة، ومع عمق عالمه العاطفي، وقلبه المشبوب بالعشق الالهي فقد ظل على الدوام رجل عقل ومنطق.
لقد قيل وكتب الشئ الكثير حتى الآن عن سمو افكاره وعن فهمه لطبيعة عصره، وبساطته وروحه الانسانية الواسعة، وعن وفائه وارتباطه باصدقائه وعن عفته وتواضعه وزهده واستغنائه عن الجميع. ويمكننا ان نقول بان كل وصف من هذه الاوصاف المذكورة اعلاه يمكن ان يكون موضوع كتاب مستقل، وهي اوصاف طالما اهتم بها في كتبه وأكد عليها. ثم ان هناك العديد من الشهود الاحياء وهم طلابه الذين سعدوا بالعيش بقربه وتعرفوا على عمق عالمه الروحي وسعته.
ومع ان مظهره الخارجي كان متواضعاً جداً في غاية البساطة الا انه كان صاحب تفكير عميق وصاحب حركة نشطة وقوية قل نظيره. فقد قام باحتضان الانسانية كلها متناولاً مشاكلها الحيوية، ومتحدياً الكفر والضلال ومعلناً الحرب على الاستبداد وعلى الدكتاتورية، مسترخصاً روحه في سبيل وفائه وخلقه الشجاع، وكان استقباله الموت ببشاشة وبابتسام سلوكاً اعتيادياً عنده.
وبجانب مشاعره الانسانية الغنية فقد بقي في دعوته مرتبطاً بالكتاب والسنة مع الأخذ برقبة العقل والمنطق. لذا فقد تجلى في مظهره وسلوكه جانبان:
جانب العاطفةالمشبوبة الى درجة الوجد والعشق وصفة الرجولة والشجاعة.. ثم جانب رجل الفكر صاحب العقلية الفذة الذي يسبق معاصريه بنظراته الثاقبة وبخططه ومشاريعه الكبيرة.
ان فهم سعيد النورسي وفهم دعوته من هذه الزاوية يفيدنا في فهم معنى العصر الذي نعيش فيه.
وعلى الرغم من قيام البعض بتناسي هذا فان الحقيقة هي: ان سعيد النورسي عُد من افضل مفكري وكتاب جيله وعصره، واستطاع ان يكون قائداً للجماهير ومتحدثاً باسمها، ولكنه لم يُعجب بنفسه، ولم يهتم بالمظاهر. وبذل كل جهوده للابتعاد عن الشهرة والصيت لذا فالقول المأثور عنه “الشهرة عين الرياء وموت للقلب” ليس الا حكمة ذهبية واحدة من بين حكمه العديدة في هذا الموضوع.
لقد استطاع سعيد النورسي ان يكون - مع بضعة آخرين - في رأس قائمة الكُتاب والمفكرين في طول العالم الاسلامي وعرضه في القرن العشرين، وان تكون كتبه مقروءة بشوق وبحب من قبل مختلف المستويات وان يكون من الشخصيات التاريخية التي لا تبلى مع الزمن ولا تُنسى مع الايام.
ان جميع كتب بديع الزمان ومؤلفاته محصول لجهد فكري كبير في تفسير وتناول بعض الامور - المفتوحة للتفسير - من زاوية العصر الذي ولد فيه. وتستطيع ان تقرأ وتسمع في كتبه صرخات ألم الاناضول والعالم الاسلامي وأنينهما وكذلك اصوات البشائر وزغاريد امل الاناضول والعالم الاسلامي... صحيح انه ولد في قرية نائية من قرى احدى الولايات الشرقية في تركيا الا انه احس دائماً انه ابن الاناضول، واحس بنبض مشاعرنا كابن مرموق من ابناء اسطنبول، ولكنه في جميع الاحوال كان يضم البلاد كلها الى صدره بكل حنان وعطف ومحبة.
عاش بديع الزمان في فترة عاصفة سادت فيها الفلسفة المادية وانتشرت فيها الشيوعية انتشار النار في الهشيم... فترة ادلهمت فيها الخطوب وحَلُكَ فيها الظلام... في هذه الفترة العصيبة قام بديع الزمان بكتبه ومؤلفاته بنفخ روح الامل والايمان في انسان عصرنا المضطرب، وبارشاده الى طرق الايمان والامل. ونفخ في الجماهير في كل مكان زاره روح البعث بعد الموت والحركة بعد الجمود.
لقد راى بثاقب بصره ان اهم مشكلة يجب تناولها وحلها هي مشكلة الفوضى النابعة من الكفر والالحاد، لذا قضى حياته كلها وهو يؤكد لانسان عصرنا ضرورة معالجة هذا الداء، وصرف جهداً يفوق طاقة البشر في هذا الخصوص، فقد كان على وعي كامل بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في هذا العالم الذي وجده يتلوى امامه من آلام الأزمات الخانقة والمشاكل المزمنة... وعندما تصدى لحمل هذا العبء الذي تشفق الجبال من حمله، تصدى لذلك بكل تواضع وحياء، ولكن بكل ثقة وبكل اطمئنان ايضاً بقدرة الله المطلقة وغناه اللامحدود.(/1)
أجل!... لقد عاش في الوقت الذي اصبح فيه العلم والفلسفة أداة لدفع الناس نحو الالحاد، وفي الوقت الذي تم فيه غسل الادمغة بالشيوعية، والذي كان يُنفى” فيه ويُهجّر من يرفع صوته ضد هذه السلبيات، من مدينة لمدينة ومن بلدة الى اخرى، إذ عاش الوطن فترة تهجير مخجلة. والاغرب من هذا ان كل هذه العمليات كانت تحدث باسم المدنية والمعاصرة... في اثناء تلك الايام السوداء التي انقلبت فيها المفاهيم حتى اصبحت الحركة الفوضوية حركة واسعة منتشرة تحمل سحراً وجاذبية... في تلك الايام انتصب بديع الزمان أمامنا يسلط الضوء على دخائل انفسنا وكأنه طبيب حاذق... يُرينا سجون أنفسنا... واغلال ارواحنا... جرائمنا وجناياتنا... قيامنا بأسر انفسنا بانفسنا... يسلط الضوء على الجوانب الانسانية الهامدة في اعماق ارواحنا وفي عوالم ضمائرنا... فأثار في قلوبنا الشوق الى السمو وبعث فيها نبض الحياة ودفق الامل... واوضح امام جميع الانظار ان في اعماقنا علاقة وصلة مع العوالم الاخرى وارتباطاً بها، ووهب لنا كل ثمرات المدارس والتكايا والزوايا وحلقات العلم والدراسة.
اجل! ففي عهد كانت الامة فيه تتقلب ألماً من السقوط ومن الضحالة الفكرية، والتي اصبحت فيه الآلام الاجتماعية عقدة مستعصية وظهرت كل يوم مئات من الحوادث المفزعة في كل ناحية من انحاء البلاد، وتهدمت كل المعايير والمفاهيم الاسلامية والملية واصبحت انقاضاً فوق انقاض... في مثل هذا العهد المظلم العاصف كان بديع الزمان يفكر ويبحث عن الحلول ويشخص الامراض ثم يكتب الوصفات لها كاي طبيب حاذق. لقد راى الاجيال البائسة وهي تئن تحت ثقل البلايا الهائلة التي افرزتها الاعوام الطويلة المظلمة، وكيف انها تاهت وظلت سبيلها في اودية الضلالة ودروب الالحاد. وكيف انها كلما ارادت الخلاص والنجاة انغرست في ازمات اسوأ وغرقت في مشاكل افظع... راى هذا واحس بآلام هذه الاجيال في أعماق روحه، فعاش حياته وهو في انفعال وفوران روحي يفكر ويبحث على الدوام ليقدم حلولاً بديلة للدولة وللمجتمع، وينبه هذه الامة البائسة ويذكّرها، انها وان كانت الآن تعيسة الحظ الا انها امة عريقة في المجد وغنية بالبطولات.
قام بديع الزمان منذ عهد الدولة العثمانية بالتجوال في معظم ارجاء البلاد... من مدنها الكبيرة الى قراها الصغيرة... ومن المناطق المزدحمة بالسكان الى المناطق النائية... راى الجهل ضارباً اطنابه في كل مكان، وراى الناس يتجرعون آلام الفقر... رآهم شيعاً واحزاباً يأكل بعضهم بعضاً... ارتعش فزعاً مما رآه، ولانه كان رجل فكر ونظر ثاقب ادرك طبيعة عصره وفهمها بعمق، لذا حاول ان يبث في الجماهير آنذاك روح العلم، واهتم باسباب المشاكل الاقتصادية وعوامل الفقر والحاجة، وبحث عن حلول لاسباب فرقة امتنا وعن علاج لخلافاتها، واكد دائماً على ضرورة الوحدة والاتفاق، وكان مع هذه الامة على الدوام، ولم يدعها وحيدة في تلك الايام العصيبة لحظة واحدة. وفي كل مكان وطئته قدماه كان يهتف بملء فيه: “ان لم تُعالج الآن هذه المشاكل المتداخلة بعضها في البعض الآخر، وان لم تُضمد هذه الجروح بايدٍ متخصصة ماهرة، فان امراضنا ستزمن وتستعصي على العلاج، لذا لابد من تشخيص كل مشاكلنا العلمية والاجتماعية والادارية، وتحليل كل عللنا المادية والمعنوية لوصف العلاج الشافي لها، اذ لابد من ايقاف هذه المشاكل وانهاء هذه العلل التي تقوض بنيتنا وتهدد بقاءنا وتهز قواعد واسس وجودنا”.
كان بديع الزمان يرى ان منبع جميع الشرور والسيئات آنذاك - كما هي الآن - هو الجهل والفقر والتشتت والاختلاف. أجل! لقد كان الجهل هو العامل الاول في الضائقات الاجتماعية والدافع الاول لبؤس الامة. ونعني بالجهل هنا الجهل بالله وعدم معرفة النبي “ص” وعدم المبالاة بالدين وعدم مشاهدة قوانا المادية والمعنوية والتاريخية... مثل هذا الجهل كان من اكبر المصائب والبلايا المسلطة على رؤوسنا، لذا صرف بديع الزمان عمره في محاربة هذه الجرثومة القاتلة، اذ راى انه مالم تجهز الجماهير بالعلم والمعرفة، وما لم يتعود المجتمع على التفكير المنظم، وما لم تُجابه تيارات الافكار المنحرفة فمن العبث الامل في خلاص هذه الامة.(/2)
... أجل! أليس الجهل هو السبب في انفصام الكون عن القرآن وانفصام القرآن عن الكون؟... انفصما فاصبح احدهما يتيماً في سجون الارواح المتعصبة التي لا تفهم اسرار الوجود ولا تدرك سر الاشياء والحوادث. وتحول الآخر الى حالة فوضى في يد اجهل الجهال الذين يبحثون عن كل شئ في المادة ولا يرون غيرها، وانطمست أعينهم وعميت عن رؤية المعاني.. ثم ألم يكن الجهل هو السبب في انسحاق هذه الامة تحت وطأة الفقر والحاجة على الرغم من اراضيها الخصبة وانهارها الفياضة وسهولها ومراعيها؟ أليس الجهل هو الذي جعلنا فقراء معدمين ومديونين بديون قاصمة للظهر مع وجود كل هذه المعادن النفيسة غير المستغلة تحت الارض في كل ارجاء بلادنا، ومع وجود كل اسباب الغنى والثروة سواءً منها المدفونة تحت الارض او الموجودة منها فوق سطحها؟
اجل! فمنذ اعوام طويلة كانت هذه المصيبة التي اذلت امتنا هي السبب في ان عمالنا وفلاحينا على الرغم من بذلهم كل طاقاتهم لا يحصلون على المقابل الحقيقي لجهودهم ولا على بركة هذ الشئ القليل في ايديهم وتمضي حياتهم في ضنك وفي ضيق ولا يعرفون طعماً للسعادة.
وكان من نتيجة هذا الجهل، وكذلك من نتيجة الفرقة - النابعة ايضاً من الجهل - اننا ابتلينا في اطراف عديدة من هذه الدنيا بصنوف من الظلم والذل والهوان والعلل، فسالت الدماء واغتصبت الاعراض، ومع ذلك فقد فشلنا - في هذه الدنيا التي تتقلب فيها اوضاع التوازن الدولي - ان نخلص انفسنا من قبضة الخلاف والانقسام والتشتت لكي نوقف هذه المآسي والفواجع، ولا نستطيع مدّ يد العون الى العالم الاسلامي ولا نستطيع الارتفاع الى مستوى العصر في حل مشاكله المستمرة في التفاقم والتي تجره الى مهاوٍ خطرة ومزالق رهيبة. وبينما تتلوى الامة جميعها في شباك هذه الامراض والعلل المهلكة، نرى ان قسماً من الذين سكرت وثملت ارواحهم وانبهرت ابصارهم بتقدم الغرب المادي الظاهري بدلاً من ملء ادمغتهم بالعلوم وقلوبهم بالحقائق الدينية للوصول الى الغنى المادي والمعنوي فانهم فضلوا التعامي عن كل قيمنا الدينية والملية الحيوية التي هي مصادر قوتنا وعوامل منعتنا وتناسوها، وفضلوا السير في طريق التقليد الاعمى الذي يسلب الشعب وجماهير الامة كل سجية دينية او ملية، ومن كل وعي بالتاريخ ومن كل فضيلة وميزة اخلاقية. وفي نظري ان هذا الطريق الذي سُلك بهدف انقاذ الامة كان طريقاً خاطئاً وضاراً وفتح في صدر الامة وروحها جروحاً لا تلتئم.
ففي الحالة الاولى عاش انساننا لسنوات طويلة في كابوس مرعب، وفي الحالة الثانية خسرنا كل فضائلنا الملية واصالتنا الروحية ومصادر قوتنا الدافعة.
تصدى بديع الزمان منذ بداية حياته وحتى انتقاله في مدينة “اورفة” الى الرفيق الاعلى لكلا هذين الفريقين ولطرق سلوكهم ومعالجتهم للامور، ولكل النتائج الوخيمة التي افرزتها طرق المعالجة الخاطئة هذه، وفتح بمبضع الطبيب الجراح قيح وصديد قرن كامل، وشخص المصائب والبلايا التي انتجها هذا القيح وهذا الصديد، ثم اشار الى الدواء الناجع والعلاج الشافي لينقذ انسان هذه الامة من السقوط والضياع. لقد ظل بديع الزمان اميناً طوال حياته لمبادئه هذه التي كرر بكل اخلاص وتفانٍ ووفاء ذكرها وتقديمها على الدوام.
ان ادخال افكار جديدة وترسيخها في ذاكرة المجتمع وفي فكرها امر شاق ومهمة صعبة كصعوبة قلع الافكار والمبادئ والقيم المتوارثة - صحيحة كانت ام خاطئة - من الماضي التي ترسخت في داخل المجتمع حتى اصبحت تجرى في عروقه مجرى الدم. ولاشك ان الجماهير بقيت تحت تأثير مثل هذه الافكار المنتقلة اليها من الماضي - سواءً أكانت هذه الافكار صالحة ام طالحة - حيث ادّت هذه الافكار والاراء دوراً مهماً في تشكيل حياتها الاجتماعية والفردية وتوجيهها، واصبحت هذه الجماهير تشعر بالنفور من كل فكر لا يتماشى” مع هذه الافكار المعتادة ولا يتلائم مع المشاعر والعواطف العامة، وتحاول الابتعاد عنها. ان مثل هذا الشعور ومثل هذا التصرف يكون خاطئاً في بعض الاحيان. ذلك لانه في حالة تبني الجماهير لافكار خاطئة وعادات سيئة وتقاليد ضارة وتجذّر هذه الافكار والعادات والتقاليد في بنيتها وتسللها الى مختلف جوانب حياتها فان من الضروري التصدي لهذه الافكار المنحرفة والقناعات الخاطئة ومحاربتها وتصفيتها من الاذهان وتخليتها من القلوب وتحليتها بالخصال الحميدة لكي تستطيع الامة السير بأمان وثقة نحو المستقبل.
لقد حمل بديع الزمان هذه الافكار منذ شبابه المبكر. وعدّ اخفاء اي حقيقة في هذا الموضوع - مهما كانت صغيرة او جزئية - خيانة لامته ولابناء امته. لذا وقف امام كل الافكار وكل القرارات الخاطئة رافعاً يديه الى اعلى مشيراً بهما اشارة التحذير وهاتفاً بكل قوته: “احذروا!... هذا طريق مسدود”.(/3)
كانت فطرته حساسة جداً ضد ما يناقض القيم الدينية، مع نظرة بعيدة المدى وهمة عالية لا توجد الا عند اولي العزم من الرجال. فصاحب قلب شجاع مثله، ما كان ليستطيع ألاّ يحرك ساكناً وهو يشاهد اضمحلال امة عريقة مجيدة وذوبانها، لذا لم يدخر وسعاً في توجيه الانظار الى عيوبنا كأمة والى اعمق اسباب الهلاك والاضمحلال وأدقها، لتقوم الامة بمحاسبة نفسها ومحاكمة ذاتها. لقد ذكّرها مراراً وتكراراً بعوامل الانقراض والفناء وقدم اليها وصفات النجاة والخلاص دون ان يخفي عنها امرّ الحقائق واكثرها ايلاماً للنفس، ودون ان يتردد في هذا اي تردد، لذا فقد واجه القناعات الخاطئة والافكار المتعفنة وناضل طوال حياته ضد كل الموانع التي تمنع انتشار انوار الحقيقة.
في تلك الايام الحالكة السواد التي لم يكن هناك من يتجرأ على التفوه باي شي حول الحقائق الدينية، قام هو بايقاظ الجماهير التي اريد تخديرها وتنويمها فأعلن الحرب على الجهل والفقر والفرقة، وهز اركان الاوهام الكثيرة المختلفة التي احاطت بالمجتمع، فكما أعلن حرباً ضروسة ضد الالحاد وانكار الخالق، فقد اغرق الاباطيل والخرافات في تناقضاتها وسد الابواب امامها. وبشجاعة منقطعة النظير قام بتشريح مشاكلنا وعللنا المزمنة منذ عدة عصور وقدم طرق علاجها والشفاء منها.
ولقد قام بعملية كيّ للرياء وللمظاهر الكاذبة المستشرية عندنا منذ ما يقارب مئتي سنة ذلك لان “آخر الدواء الكيّ”. وذكر اموراً جديدة وجدت صداها في النفوس بدءً من رجال قصر السلطان وانتهاءً الى رؤساء العشائر في الولايات الشرقية، ومن منتسبي المشيخة الاسلامية الى رئاسة اركان حرب القوات المسلحة، فجمع انظار جميع طبقات الشعب اليه، ومع انه كان يتجنب الظهور والشهرة بطبيعته، الا ان طبيعة الامور كانت تؤدي الى هذه النتيجة.
نبه بديع الزمان جميع مستويات الشعب وطبقاته بان عليها اولاً كسر اغلال روحها قبل ان تجرد السيف من الغمد للجهاد، وبشر الشباب ببعث جديد للحياة فدلهم على الطرق المؤدية للفكر الاسلامي. ومما لاشك فيه انه كان يخشى من تمزق الوطن من الناحية الجغرافية وانقسامه وتقلصه خشية شديدة ولكنه كان يخشى اكثر من العوامل التي تودي الى هذه النتيجة المفجعة بضمور الافكار وسفالة الروح والتقليد الاعمى للغرب.
دعا بديع الزمان الى القراءة والمطالعة والتفكر والى السعي والحركة لينقذ افراد الامة من ضنك العزلة وليشكل مجتمعاً سليماً معافىً وامة متينة البنية، وأكد على التعليم الذي رآه ضرورة قصوى لرفع الوطن وانسان هذا الوطن الى الذروة التي اشار اليها... فدعا الى طبع الكتب ونشرها، والى نشر المعارف بكل اشكالها في كل مكان والى نشر التعليم والتربية، اذ كان يرى اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون وكافة مرافق المجتمع في تعبئة عامة للتعليم، فبالمعارف وحدها يمكن تحقيق الوحدة العقلية والفكرية، إذ كان يرى ان العقول ان لم تتآلف مع بعضها اولاً فلا يمكنها ان تقطع معاً شوطاً كبيراً في الطريق. ويجب ان تتحد الضمائر والمشاعر اولاً لكي تتحد القلوب والايدي فيما بعد. والطريق الى مثل هذه الوحدة يكون بتناول الحياة حسب مبادئ الدين وقيمه، وحسب الكتاب والسنة وطريق السلف الصالح واجتهادهم، على ان تفسر الامور الجديدة والمستحدثة حسب ادراك العصر وضرورته.
اجل!... لابد ان يتعرف الانسان على ما جلبه العصر من المعاني والتفسيرات وان يؤسس السلام معها. فان انزوينا وتقوقعنا على انفسنا في الوقت الذي تنطلق فيه الدنيا في طريقها وفي سبيلها فان هذا يعني الموت بالنسبة الينا. فمن اراد عيش الحياة الحالية فان عليه ان يجد الطريقة التي يستطيع بها تأسيس التناغم والملائمة بين شلالات الحياة المنطلقة وبين ارادته وسعيه. والا فان مقاومة تيار الكون العام لا يؤدي الا الى تلف المقاوم وفنائه.(/4)
لو ان بديع الزمان حظي بدعم بضع مئات من المثقفين وهو ينشر رسائله في ارجاء البلاد ووجد منهم سنداً لأفكاره فلربما كنا من اغنى الامم واكثرها مدنية، ومن اقدرها على حل المشاكل التي تعرض لها، ولكنا دخلنا المرحلة الحالية منذ ذلك الوقت، اي منذ بداية القرن العشرين، ولما جابهتنا المشاكل الحالية العديدة. ومع كل هذا فنحن نحمل املاً كبيراً، لاننا نرى ان الذين ينظرون الى امتنا وكأنها فقدت كل جذورها المعنوية هم على خطأ كبير... صحيح اننا تأخرنا مثل غيرنا من الامم الاخرى وضعفنا إذ ليس في وسع احد إنكار هذا، ولكن ليس في وسع احد ايضاً ان ينفي قدرتنا على النهوض ومتابعة التقدم مرة ثانية، فلقد بدت انوار اليقظة والانتباه تلتمع في ارواحنا كأمة بدلاً من روح الكسل والخمود، إذ بدأ دفء الحياة ونبض النشاط والحيوية يتسلل الى ارواحنا التي كانت قد ضعفت نتيجة الميل الى الكسل والاخلاد الى الارض، اذن فلا شك ان ايام الربيع المشرقة الخضراء على الابواب. غير اننا في انتظار ابطال من امثال “الخضر” ليفرش سجادة الصلاة على سفوحنا وامثال “الياس” لينشر شراعه نحو الافاق البعيدة دون خوف أو وجل... كان بديع الزمان معْلَما في هذا الامر.
يقال “لا خيار للعبقرية” اي ان العبقري لا يقول: “ساعمل هذا ولا اعمل ذاك” ولا يصدر حكما ان “نعمل كذا لانه مفيد ولا نعمل ذاك لانه ضار” ذلك لان الشخص العبقري يملك موهبة الهية وقوة دافعة ذاتية “لدنية” وشوقاً يستطيع بها معرفة كل الحاجات الظاهرة او الباطنة، الروحية منها والاجتماعية وان يحتضنها، ويتصدى بقوة وطاقة متعددة الأوجه التي خزنها في روحه لحمل عبء وظائف عديدة. فهو بهذه الاوصاف شخص خارق بطبيعته وفطرته. والذين دققوا شخصية بديع الزمان والكتب التي تركها وراءه يرون اجتماع جميع عناصر العبقرية وصفاتها فيه، فهو اعتباراً من سنوات شبابه التي قدم فيها للناس حوله كتبه الاولى التي تعد من اولى علامات عبقريته ووصولاً الى كتب مرحلة النضوج والتكامل والتي قضاها في المحاكم والسجون والمنفى... في كل هذه الكتب نرى انه حافظ على مستوى القمة والذروة وتحدث دائماً حديث شخص عبقري ذي قابليات غير اعتيادية.
كان كتاب “المثنوي” من اوائل كتبه: لذا نجد وجود جذور افكاره هنا، فكل فكرة في هذا الكتاب - التي كانت مثل جنين او برعم او وريقة او نبتة صغيرة او كقطرة من قطرات فكره النير - اصبحت فيما بعد نهراً متدفقاً وشلالاً هادراً او بستاناً عبق الارجاء بالورود او كغابة سامقة الاشجار ملتفة الاغصان والاوراق، حركت الجوانب الايمانية والفكرية والمشاعر الرقيقة لاصدقائه وأثارتها، وقذفت في قلوب اعدائه الرعب والفزع.
من اوائل انفاسه التي نفخها في ارواحنا فاثارتها والى قلوبنا فرسمت فيها معاني جديدة ملونة وبراقة وحفرت فيها خطوطاً مضيئة، نقدم بعض الامثلة بمثابة قطرة من بحر او لمعة من شمس او مسحة من عالم الوجود انعكست في مشاعرنا ووجدت هناك صداها:
ان اكبر حقيقة في الدنيا، في راى بديع الزمان - وفي رأى كل المفكرين المسلمين - هي حقيقة الايمان وحقيقة التوحيد. فالوجود كله - في منظومة تفكير بديع الزمان - ليس الا مثل آلة نسيج تنسج حقيقة التوحيد. وتنقش المعاني الالهية نقشة نقشة وزخرفة زخرفه، وتنسج لوحات بديعة. ان الاحساس بكون هذه الحقيقة ذات ماهية شاملة تستوعب الغاية الالهية وتتداخل ضمن ادق الفروع واصغرها، وتفسيرها حسب المعرفة الالهية، ليس الا ظهور لحقيقة التوحيد، وهو مفهوم التوحيد لدى العامة قبل الدخول في التفاصيل المؤدية الى اليقين.
اجل! “انّ التوحيد توحيدان:
الاول: توحيد عامي يقول: “لاشريك له، ليست هذه الكائنات لغيره” فيمكن تداخل الغفلات بل الضلالات في افكار صاحبه.
والثاني: توحيد حقيقي يقول: “هو الله وحدَه له الملك، وله الكون، له كل شئ””.
واصحاب مثل هذا الايمان يملكون عقيدة راسخة لا تهتز، إذ يرون سكة الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ، ويقرأون ختمه على جبين كل شئ.
وقد تناول بديع الزمان هذا الموضوع فيما بعد بشكل مفصل في المقام الثاني من الكلمة العشرين، وقدمه في قالب وفي شكل درس توحيد كامل يشبع حاجة كل انسان مهما كان مستواه الثقافي والعقلي.
ومن اهم المواضيع التي اهتم بها بديع الزمان هو شرحه كيف ان الايمان يُعد منشوراً يحلل الابعاد الحقيقية لماهية الوجود والانسان، فهو يرى ان الكون اصبح بفضل الايمان كتاباً يمكن قراءته ومعرضاً يمكن مشاهدته، اما الانسان فهو لب هذا العالم وجوهره حيث “تحولت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمهملية وملعبة التصادف الى صيرورتها مكتوبات ربانية وصحائف آيات تكوينية ومرايا اسماءٍ إلهية، حتى ترقى العالمُ وصار كتاب الحكمة الصمدانية.(/5)
وانظر الى الانسان كيف ترقى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة الى اوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه وحشمة ايمان عقله. ثم انظر كيف صارت اسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل اسبابَ صعوده”.
كما تم شرح هذا الموضوع وتفصيله في النقطة الاولى والثانية في الكلمة الثالثة والعشرين من رسائل النور ليناسب فهم واستيعاب كل إنسان في مختلف المستويات.
ويرى بديع الزمان ايضاً بان المسائل المتعلقة بحقيقة الايمان وان بدت مختلفة الواحدة عن الاخرى - ان نظرنا اليها من زوايا مختلفة - الا انها مرتبطة الواحدة بالاخرى ارتباطاً وثيقاً وهى بمثابة اوجه متعددة لحقيقة واحدة “اعلم! ان بين الايمان بالله والايمان بالنبيّ والايمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازماً قطعياً وارتباطاً للتلازم في نفس الامر بين وجوب الالوهية وثبوت الرسالة ووجود الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة” وفي فترة رسائل النور الخصبة نرى في المسألة التاسعة للشعاع الحادي عشر بحثاً اصيلاً ومهماً جداً حول ترابط أركان الايمان وتلازمها فيما بينها.
من اهم الملاحظات التي قدمها بديع الزمان هي ان من يعمل في ساحة الفلسفة والعلوم العقلية دون ان يفتح نوافذ نفسه على عالم الروح والقلب لن يكون الا فيروساً ينقل الامراض، ولن يكون هو نفسه الا علامة من علامات المرض والسقم.
“قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في أزديادِ المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالامراض المعنوية توصِلُ الى علوم عقلية، كما ان العلوم العقلية تولّد امراضاً قلبية”.
واليكم تشخيصاً وملاحظة أصيلة وقيّمة اخرى لبديع الزمان. اذ يقول بان مراعاة الاسباب مع كونها من ضمن مسؤوليات الانسان الا ان من الضلالة الواضحة والانحراف البين اعطاء تأثير حقيقي لها، فبعد مراعاة الاسباب يجب العلم ان النتائج تأتي من قبل الله تعالى.
“ان التعلق بالاسباب سببُ الذلّة والاهانة. ألا ترى ان الكلب قد اشتهر بعَشرِ صفاتٍ حسنة، حتى صارت صداقتهُ ووفاؤه تُضربُ بهما الامثال؟!.. فمن شأنه ان يكون بين الناس مباركاً. ففضلاً من المباركية ينزل على رأس المسكين من طرف الانسان ضربةُ الاهانة بالتنجيس؛ مع ان الدجاجة والبقر حتى السنّور، الذين ليس فيهم حسّ شكرانٍ وصداقةٍ في مقابلة احسانِ البشر، يُشرَّفون بين الناس بالمباركية. اقول - بشرط ان لاينكسر قلب الكلب ولايصير غيبةً - إن سببه: أن الكلب بسبب مرض الحرص اهتم بالسبب الظاهري، بدرجةٍ أغفَلته بجهةٍ عن المُنعمِ الحقيقي، فتوهَّم الواسطة مؤثرةً. فذاق جزاءَ غفلته بالتنجيس، فَتَطهّر.. وأكل ضربَ الاهانة كفارةً للغفلة، فانتَبه!. اما سائر الحيوانات المباركة فلا يعرفون الوسائط ولا يقيمون لها وزناً، او يقيمون لها وزناً خفيفاً. مثلاً: ان السنّور يتضرع حتى يأخذ الاحسان، فاذا اخذ فكأنه لايعرفك ولاتعرفه. ولايحس في نفسه شكراناً لك. بل انما يشكر المنعم الحقيقي بـ: يارحيم.. يارحيم.. يارحيم.. فقط؛ اذ الفطرة تعرف صانعَها وتعبدهُ شعورياً وغير شعوري..”
ثم نراه يتناول هذا الموضوع من زاوية مختلفة في الغصن الاول من الكلمة الرابعة والعشرين، وهو تناول لطيف يقدم لافكارنا وعواطفنا ملاحظات مهمة.
من المواضيع التي وقف عندها الاستاذ باصرار وباهتمام موضوع اتباع السنة النبوية السنية في جميع مسالك الحياة ومظاهرها، فهو - مثله في ذلك مثل جميع علماء اهل السنة والجماعة - يرى في الرسول “ص” مرشداً لا يضل ولا يُضِل، ويرى في السنة النبوية الطريق الوحيد الى سعادة الدنيا والآخرة، لذا فهو يدعونا على الدوام للتمسك بها والعض عليها بالنواجذ.
أجل! ان كل رحلة حياة لم تسترشد بالسنة النبوية تشبه الوقوع في دوامة نهر، فمع ان الشخص الواقع فيها يبدو وكأنه يسبح ويقطع مسافة الا انه في الحقيقة واقع في دوامة مهلكة “اعلم! اني شاهدت في سيري في الظلمات، السنن السنية نجوماًَ ومصابيح، كل سنة، وكل حدّ شرعي يتلمع بين مالا يحصر من الطرق المظلمة المضلة، وبالانحراف عن السنة يصير المرء لعبة الشياطين، ومركب الاوهام، ومعرض الاهوال، ومطية الاثقال - امثال الجبال - التي تحملها السنةُ عنه لو اتبعها.
وشاهدت السنن كالحبال المتدلية من السماء، من استمسك ولو بجزئي استصعد واستسعد، ورأيت من خالفها واعتمد على العقل الدائر بين الناس، كمن يريد أن يبلغ اسباب السماوات بالوسائل الارضية فيتحمق كما تحمّق فرعون بـ”يا هامان ابن لي صرحاً””
ومن ارائه الأصيلة فيما يتعلق بعلاقاتنا مع الدنيا وزاوية نظرتنا اليها هي عدم وجود ما يدعو الى كرهها، بل يقول ان من الواجب حبها حيث يورد الاسس التي يقيم عليها هذا الحب وهي: “ان الدنيا لها وجوه ثلاثة: وجه: ينظر الى اسماء الله.
ووجه: هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسنان.(/6)
والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الانسانية ومطالب الحياة الفانية”.
وبعد صفحات يتناول هذا الموضوع من زاوية اخرى ويعبر عنه بهذه الكلمات “يرجع الى الحي من ثمرات الحياة وغاياتها بمقدار درجة مالكية الحي للحياة وتصرفه الحقيقي فيها. ثم سائر الثمرات والغايات راجعة الى المحيي جل جلاله بالمظهرية لتجليات اسمائه، وباظهار الوان وانواع جلوات رحمته في جنته في الحياة الاخروية التي هي ثمرات بذور هذه الحياة الدنيوية وهكذا..
اذ كما ان الشخص الموظف لأن يجس ويضع اصبعه عند اللزوم على الجهازات التي تتحرك بها السفينة العظيمة للسلطان، لايرجع اليه من فوائد السفينة الا بمقدار علاقته وخدمته، اي من الالوف واحداً.. كذلك درجة تصرّف كل حي في سفينة وجوده. بل هناك يمكن ان يستحق من الالوف واحداً، لكن لايستحق بالذات هنا من ملايين ملايين واحداً ايضاً..”
وقناعة اخرى له... فهو يقول انه يجب عدم النظر الى الاشخاص من وراء منظار مكبر اي عدم اعطاء صورة لاي انسان اكبر من حقيقته، فهذا ظلم اولاً وخطوة اولى نحو الوثنية ثانياً، والمرء الذي يخطو هذه الخطوة الاولى قد لا يستطيع فيما بعد التراجع عنها “ان من اشد ظلم البشر اعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ اذ توهّم صدور محصّل كسب الجماعة، وأثَر جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لايمكن الاّ بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت الى درجة الايجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، الاّ تولدت من امثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية..”
وتشخيص آخر له، إذ يقول ان عداء الكفار للمسلمين هو من موجبات الكفر، وهذا العداء يرجع الى عهود ما قبل التاريخ. لذا فليس في الامكان إرضاء الكفار. اما الاستفادة منهم فمن رابع المستحيلات “ان الكفار لاسيما الاوربائيون ولاسيما شياطين في انكلترة واباليس الفرنك، اعداءٌ الدّاء، وخصماء معاندون ابداً للمسلمين واهل القرآن.. بسر: ان القرآن حَكَم على مُنكر القرآن والاسلام وعلى آبائهم واجدادهم بالاعدام الابدي، فهم محكومون بالاعدام ابداً، والحبس في جهنم سرمداً بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا اهل القرآن كيف توالون مَن لايمكن ان يوالوكم او يحبوكم ابداً؟..”
ثم نراه يبدي لنا هذه الاراء في مواضيع متفرقة: ان الايمان منبع سري للطاقة وللقوة، والذي يملك في يده هذا المنبع يستطيع حجز العوالم ويستطيع ان يسحر كل شئ ويربطه به.... أجل! “مَن كان لله تعالى كان له كل شئ، ومَن لم يكن له كان عليه كل شئ، والكون له بترك الكل له والاذعان بأن الكلّ مالُه.. وهو الذي فطرك بصورة احاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في اصغرها التي نصف قطرها مدّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وُسعت بعضها كما بين الازل والابد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنزيل قُل مَا يَعبؤا بِكُم ربي لَولاَ دُعاؤكم فالصبي ينادي ابويه فيما لاتصل يدهُ اليه؛ فالعبد يدعو ربَّه فيما عجز عنه”.
ان فخر الكائنات وخاتم الرسل “ص” هو اساس الوجود وخلاصته وخميرته، فليس هناك موضع في الكون يخلو من حقيقة نوره. فمثله كمثل نواة بذرة شجرة باسقة تضم كل خصائص تلك الشجرة. فنوره اساس للوجود ومرآة تجليات الاول والآخر. أجل! “انه بينما ترى العالم كتاباً كبيراً ترى نور محمد “عليه الصلاة والسلام” مداد قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه “عليه الصلاة والسلام” نواتها أولاً، وثمرتها ثانياً.. وبينما ترى العالم يلبس جسم الحيوان ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” روحه.. وبينما ترى العالم تحوّل انساناً كبيراً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عقله.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” عندليبه.. وبينما ترى العالم قصراً مزيناً عالياً ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعة سلطنة سلطان الازل وخوارق حشمته، ومحاسن تجليات جماله، ونقوش خوارق صنعته، اذاً ترى نوره “عليه الصلاة والسلام” نظّاراً يرى لنفسه أولاً، ثم ينادي بيا ايها الناس تعالوا الى هذه المناظر النزيهة، وحَيهلوا على مالَكُم فيه شئ من المحبة والحيرة والتنزه والتقدير، والتنور والتفكر ومالايحد من المطالب العالية. ويريها الناس، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكه اليهم.. يستضيئ ويُضئ لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..”
ويتناول الاساس الثالث للكلمة الحادية والثلاثين وكذلك الذيل الثاني للكلمة العاشرة هذا الموضوع القيم بعمق وبشكل غني وثري ويبسطه أمام اعين وبصائر قلوبنا.(/7)
والاستاذ بديع الزمان يرى ان ماهية طبيعة الانسان لها وجهان: وجه صنم خادع من جهة، ومنشور حافل بالاسرار يعكس الحقيقة اللانهائية وأثر صانعه وخالقه. أجل فالذي له استعداد معنوي وقابلية روحية، والذي استطاع ان يمسك بزاوية النظر الصحيحة يدرك ان الانسان صنعة مزخرفة ومنشور بلوري وهو كتاب لا يضل قارؤه، وخطيب بليغ ومنبع نور يضئ ما وراء استار الاشياء ويكشفها. وهو يسوق ملاحظاته هذه بالكلمات التالية التي تبدو وكأنها أنشودة رائعة:
“ان هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: “انا” في الانسان، و”الطبيعة” في العالم..
اما هذا، فرأيته مرآةً ظلياً حرفياً. لكن نظر الانسانُ اليه نظراً اسمياً قصدياً بالاصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ.
واما هذه، فرأيتها صنعة الهيّة وصبغة رحمانية.. لكن نظرَ البشرُ اليها بنظر الغفلة فتحولت لهم “طبيعة” فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفران النِعَم المنجرّ الى الكفر.
فللّه الشكر والحمد وبتوفيق الاحد الصمد وبفيض القرآن المجيد انتجت المجادلة قتل الطاغوتين وكسر الصنمين”.
وفي عهد تكامل رسائل النور نجد هذا الموضوع الحافل بالاسرار مشروحاً بشكل مفصل وواسع وغني في المقصد الاول من الكلمة الثلاثين، وكذلك في اللمعة الثالثة والعشرين، حيث يهدم اركان فكرة عبادة الطبيعة ويقوضها من اساسها ويقتلعها من جذورها.
في منظومة فكر بديع الزمان نجد ان الذنوب والمعاصي عنده بمثابة المرشدين والدالين على طريق الكفر، ففي المواضع التي يكثر فيها هؤلاء يتجه شراع الفكر نحو الفسق وتحيط الأخطار بالايمان. أجل! “ان في ماهية المعصية - لاسيما اذا استمرت وكثرت - بذر الكفر.. اذ المعصية تولد الُفةً معها وابتلاء بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمى نفسها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر الى انكار العذاب وردّ دار العقاب”.
وفي عهد توسع وتطور مؤلفاته نجد هذا الموضوع في النكتة الاولى من اللمعة الثانية حيث يقول بان المعاصي تشكل مصائد وشباك طريق الكفر... وهذه ملاحظة أصيلة في الحقيقة.
لقد كان الاشتغال بالقرآن الكريم والتعمق في فهمه الشغل الشاغل لهذه العقلية النيرة، فاعتباراً من “اشارات الاعجاز” الى “المثنوي” الى الكلمات المختلفة في كتابه “الكلمات” ولا سيما الكلمة الخامسة والعشرون نراه يتنفس القرآن في كل كلمة ويأتي بتفاسير جديدة وأصيلة وعميقة، ثم يعرض هذه المعاني الالهية المستنزلة الى مستوى المدارك الانسانية امام العيون الباحثة والقلوب الظمأى” للحقائق فيثير وجداننا بافكاره الذهبية التي تعكس ارتفاع هذه المعاني الى ذروة المدارك الانسانية “انه جمع السلاسة الرائقة، والسلامة الفائقة، والتساند المتين، والتناسب الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني مع انه نزل في عشرين سنة منجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقاطعاً بتلائمٍ كأنه نزل دفعةً.. ولاسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن السبب واحدٌ.. وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بياناً لحادثات احكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين، لاسيما، المنزَل عليه “عليه السلام” بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالاصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الاقطاب الاربعة: وهي “التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة”. فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.
ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنزيل عيناً ترى كل الكون، كصحيفة مبصرة واضحة.. وقد جاء مكرراً ليقرّر.. ومردّداً ليحقق قصصاً واحكاماً. مع انه لايُملُّ تكرارهُ، ولايُزيل عَوْدهُ ذَوْقَه ولايُسئمُ تردادهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوحُ انفاسُ الرحمن منه “ان المسك ماكررته يتضوّع”. وكلما استعدتَه استَلذْتَه؛ ان كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسر فيه: انه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للارواح. والقوت لايُملُّ تكرارهُ.. فمألوفه آأنس وألذ، خلاف التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتهُ في تكرره”.
ويصل تحليل هذا الموضوع في الكلمة الخامسة والعشرين الى مرتبة جذابة وساحرة، فما كان هنا قطرة يصبح هناك بحراً واسعاً، وما كان هنا نبتة صغيرة يصبح هناك غابة كثيفة.(/8)
وبعد هذا التذكير القصير في “ المثنوي”... بعد صفحات قليلة فقط نراه يعرض علينا موضوعاً قرآنياً غاية في الروعة عرضاً موجزاً.
“انك اذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الارشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام الى من تسمع منه، مايناسبها.
فلك ان تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك الى الاستماع من النبيِّ “ص” الذي يقرأُه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الارض على ابنائها من بني آدم وغيرهم.
ولك ايضاً ان تستمع من جبرائيل وهو يخاطب النبيَّ في الافق الاعلى “عليهما الصلاة والسلام”.
ولك ان تستمع من خلف سبعين الف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهو يتكلم مع النبي في قاب قوسين او ادنى. فألبسْ ان استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!..”
وكتاب “المثنوي” يعد في الحقيقة معرضاً لمواضيع واسعة جليلة، وفهرساً لها... يمكن ان يؤلف حول كل واحد منها كتاباً خاصاً... هذه المواضيع التي تناولها بالشرح والتفصيل فيما بعد في رسائل النور في مختلف اجزائها.
فما اهم وما اعظم تلك الحقائق التي تناولها تحت عنوان “زهرة” باختصار وضمها فيما بعد الى رسائل النور!.
ورسالة “ذرة” تعد مثل نبتة صغيرة للتقوى والعمل الصالح. فهناك يتم استجواب رغباتنا ومشاعرنا الدنيوية، وتُنفخ فكرة التوحيد لاذهاننا ويُعرض الايمان الشامل المترامي الاطراف امام الانظار.
اما رسالة “شمة” فتمس القلوب مثل طيف رقيق، حيث تعرض امام الانظار ان غنى الايات وعمق معانيها لا يمكن مقارنتها بالشعر، وتقف امام غايات خلق اعضاء الانسان فيكشف بعض الاستار عن العيون ويزيل الألفة التي تكدر البصائر وتضعفها.
وفي الرسالة العاشرة يأخذ بيدنا الى سفوح معاني القضاء والقدر والعطاء الالهي ليمس قلوبنا بمعاني الايات القرآنية واسرارها، ومن ثم يجد مقدمة لكي يعرض على الباحث عن الحقيقة اليوم طريقاً مختلفاً لكي يوصله الى الحق... يعرض هذا بينما هو يحول انظارنا الى افق عجزنا وفقرنا. وبعد خطوتين فقط وتحت عنوان آخر يسترعي انتباهنا الى ان الانسان يختلف في خلقه عن جميع الاحياء الاخرى حيث يؤكد ويذكّر أنه فهرس للوجود باجمعه، ومن ثم نراه يعود الى الادعية التي تناولها بالتحليل فيما بعد في كليات رسائل النور مرات عديدة، فيفرج بين الابواب السرية لقبول الادعية والاستجابة لها فيثير في قلوبنا الرغبة والشوق للمناجاة. وفي موضع آخر نراه يقيم التوازن بين “التحدث بالنعمة” و “الغرور”.
وبعنوان “شعلة” نسيح معه في المعاني الواسعة للفظ الجلالة “الله” الذي هو اسم ذات له، فيهز قلوبنا بانفعال معرفة ذات طعم آخر لم نتذوقها من قبل.
ثم سرعان ما يفتح فقرة حول الادعية فينبه قُرّاءه بان ايفاء الوظائف الدينية بهمة عاليه يُعَدّ دعاءً فعلياً.
ثم يعود فيوجه الانظار الى أهمية التربة وكيف ان الدنيا تعد كقلب للعالم وينهي ملاحظاته بعد ذلك بشرح حديث “اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”.
وتحت عنوان “نقطة” يضيف الاستاذ بديع الزمان دليل الضمير الانساني - الذي يعده نقطة تماس بين عالم الغيب وعالم الشهادة - الى الأدلة الرئيسية الثلاثة حول الذات الالهية التي كثيراً ما وقف عندها في رسائل النور، ففرج بذلك فرجة في باب وقف عنده الكثير من المفكرين وارباب القلوب من المتصوفة وهم على درب السير في مدارج السلوك.
وهو يؤكد على استحالة التطور اذ ذكر منذ البداية ان الطفرات لا يمكن ان تفسر شيئاً ولا ان تكون كافية لاي تطور وذلك في وقت مبكر وقبل ان ينتبه الكثيرون الى هذه الحقيقة، وذكر ان من المستحيل الانتقال من نوع الى نوع آخر في عالم الاحياء. لذا فقد قال بشكل مجمل وبشكل مطلق “لا” لنظرية التطور مستنداً في ذلك الى اساس فكري سليم.
ان جهود الاستاذ المدقق احسان قاسم الصالحي المشكورة في تهيئة الطبعة العربية للمثنوي - مثلما هيأ من قبل ترجمة كليات رسائل النور - فوق كل تقدير، وهي بلاشك افضل بكثير من مثل هذه المقدمات التي حررناها والتي لا تخلو من العيوب والقصور.
والحقيقة ان الجهود المباركة للاستاذ احسان قاسم لم تقتصر - كما فعلنا نحن - على جزء من كليات رسائل النور وبشكل مجمل، بل شملت كل رسائل النور.
وكان من المفروض ان تكون كل مسألة من المسائل التي عرضتها هذه الرسائل موضوعاً لرسالة دكتوراه تراعي كل الاسس العلمية الموجودة في المستويات الاكاديمية الغربية. وهذا الامر مهم من ناحية ظهور القيمة الحقيقية لرسائل النور على المستوى الاكاديمي. وكذلك من ناحية كونها جهوداً في مستوى الجهود التي بذلها الاستاذ احسان قاسم.
صحيح ان العديد من اصدقائنا الشباب قدموا دراسات واطروحات ماجستير ودكتوراه حول رسائل النور ولكن لم تكن أيّا منها كافية لاعطاء القيمة الحقيقية لذلك العملاق بابراز مستوى فكره الرفيع.
وكل ما نتمناه هو تأسيس معهد يأخذ على عاتقه القيام بهذه المهمة في اقرب فرصة.(/9)
صورة قلمية لرجل القلب
المقال الافتتاحي لمجلة "سيزنتي" التركية، أغسطس 2000
المقال السّابق المقال التّالي أرسل إلى صديق نسخة للطباعة أرسل الملاحظات
رجل القلب بأفقه وعقيدته وتصرفاته يمثل بطولة الروح والمعنى، وإن عمقه وسعته ليس من ناحية المعلومات التي اكتسبها، بل بغني قلبه وصفاء روحه وقربه من الحق تعالى. فقيمة المعارف المطروحة أمامه كعلوم هي بمقدار ما تكون سببا في إرشاد الإنسان إلى الحقيقة، أي أن المعلومات التي لا تساعدنا على فهم حقيقة الوجود والأشياء والإنسان، والمعارف النظرية التي لا تملك فوائد عملية لا تملك قيمة عنده.
صاحب القلب الحي يكون مبرجاً للحياة القلبية والروحية، وعازماً على البقاء بعيداً عن كل التلوثات المادية منها والمعنوية، وحذراً على الدوام من كل الرغبات الجسدية، ويقظاً ومستعداً للكفاح ضد مشاعر الحسد والنفور والكراهية والأنانية والشهوات... كل ذلك ضمن خلق من التواضع والبساطة. يبذل قصارى جهده في كل وقت لمد يد العون لتجلية الحق وإظهاره... هو عنوان الإيثار الذي يشتعل شوقاً لكي ينقل إلى الآخرين ما أحس به وشعر به في عالم الملك والملكوت... صابر ووقور، وبدلاً من الكلام كثير، أو الضجيج الكبير تراه يعيش حسب عقيدته وإيمانه... هو رجل حركة ودعوة وإيمان وقدوة حسنة لغيره بطراز معيشته وأسلوب حياته... هو في حركة دائبة لا تعرف الفتور... يعلّم غيره آداب التوجه إلى الله والفرار إليه... لو سبرت أغواره رأيت ناراً تتأجج فيها... وهو عندما يحترق لا يشكو ولا يظهر أي غم، أو حزن، ولا يفكر في إظهار أي لاعج من لواعج الألم لغيره... يحترق بهدوء ويدفئ أرواح كل من يلجأ إليه، وينفث فيها الحرارة.
هناك على الدوام أفق بعيد في هدف رجل القلب... هو رجل الإيمان المرتبط برضا الحق تعالى، الدائم السير، يقطع المسافات تلو المسافات مثل جواد أصيل لا يعرف الفتور حتى يبلغ هدفه ومبتغاه، دون أن يفكر في شيء من حطام الدنيا.
هو رجل الحقيقة الذي لا يفكر في قعوده وقيامه وفي حركته وسكونه إلا في الحق وكيف يقيمه في الدنيا وينشره. وهو مستعد بكل رحابة صدر للخلي عن كل رغباته ومطالبه في هذا السبيل... يفتح صدره للجميع... يحتضن الجميع بشفقة، ويظهر في المجتمع على الدوام بصورة الملك الذي يفتح جناح الحماية والصيانة، ومع هذا فلا ينتظر من غير الله تعالى شيئاً... يحاول في جميع تصرفاته وسلوكه أن يكون منسجماً مع الجميع. لا يشاكس أحداً ولا يضمر عداوة لأحد. ومع وجود وجهات نظر خاصة به في بعض الأحيان حسب مهنته ومشربه، إلا أنه لا يدخل في أي منافسة أو احتكاك مع أحد، بل على العكس يحب كل من يقدم خدمة لدينه ووطنه وأمته. ويؤيد ويصفق لكل صاحب عمل إيجابي، ويبذل عناية خاصة في هذا التأييد لكي يبقى موقراً لمنزلتهم ولوجهات نظرهم.
رجل القلب يبذل في جميع ما يقوم به من فعاليات وما يبذل من جهود اهتماماً خاصاً بتوفيق الله تعالى وعنايته ورعاية... ويبحث على الدوام عن السبل التي توصله ليكون أهلا لمثل هذه الرعاية والعناية. لذا فهو يبذل عناية خاصة للوحدة وللجماعة التي ذكر القرآن الكريم أنها وسيلة لجلب عناية الله. وهو يسارع لعمل مشترك مع كل من يمشي في صراط مستقيم، بل والأكثر من هذا نراه يسلك طريقاً ما على الرغم منه في ضمن هذا الإطار من سياسة الوفاق التي ينتهجها، وهو يعلم أن الرحمة في الاتحاد، وأنه لا يمكن تحقيق أي شيء بالخلاف والفرقة، لذا يحاول أن يجمع جهود كل من حوله ليكون قريباً من شآبيب رحمة الله وعنايته.
رجل القلب هو عاشق الحق تعالى والمتلهف لنيل رضاه، لذا نراه يربط جميع حركاته وسكناته في كل امر وفي كل ظرف وحين برضاه تعالى ويبدي حرصاً في هذا الصدد ولو أدى به إلى الموت، وهو مستعد لأن يضحى بكل شئ للوصول إلى هذا الهدف... مستعد للتخلي عن أي أمر دنيوي وأخروي.
لا يوجد في عالم رجل القلب ادعاءات أمثال: "أنا عملت" أو "أنا الذي أنجزت" أو "أنا الذي نجحت"، فهو يفرح بكل إنجاز عمله آخرون وكأنه هو الذي أنجزه ويعد نجاحات الآخرين نجاحاً له ويتبعهم تاركاً لهم شرف الريادة ومرتبتها. بل يقوم بأكثر من هذا، فهو يرى أن الآخرين سيكونون أكثر لياقة ونجاحاً، لذا يهيء لهم جواً أكثر أماناً وراحة في أداء خدماتهم وجهودهم، ثم يتأخر خطوة إلى الوراء لكي يكون فرداً عادياً ضمن الأفراد الآخرين.
ونظراً لكون رجل القلب مشغولاً بعيوبه ومجاهداً لنفسه، لذا لا ينشغل بعيوب الآخرين ونقائصهم، بل ولا يجد فرصة للانشغال. ولا يكتفي بعدم تعقب أخطاء الآخرين وعيوبهم، بل يعطي مثالاً جيداً للإنسان الفاضل فيحاول توجيههم إلى آفاق أرحب بالابتسامة، ويدرأ بالحسنة السيئة، ولا يفكر بإيذاء أي شخص وإن تعرض خمسين مرة للأذى.(/10)
يرى رجل القلب أن قضاء عمره في محور الإيمان وإطاره الكامل وتزيينه بالإخلاص القضية الأولى عنده. وهو رجل حقيقة تراه قد نذر جميع أفكاره ومشاعره وسلوكه في سبيل رضا الله تعالى، بحيث لو أُعطيت له الدنيا وما وراءها لما استطعت زحزحته عن هدفه، بل حتى لو أُعطيت الجنات لما انحرف عن وجهته وعن طريقه.
لا يدخل رجل القلب في أي منافسة مع الذين يشاطرونه فكره وطريقه، ولا يشعر نحوهم بأي حسد... على العكس يحاول ازالة عيوبهم وتكملة نواقصهم، ويتصرف تجاههم تصرف عضو الجسد نحو سائر الأعضاء... أي يتصرف بروح الإيثار تجاه رفقائه في الدرب، في جميع الأمور المادية والمعنوية من مقام أو منصب أو منزلة أو شهرة أو نفوذ، ويدفع بهم إلى الصفوف الأمامية بينما يتراجع هو إلى الوراء، ليكون دلاّلاً على نجاحهم ومصفقاً لقابلياتهم وتوفيقهم وفرحاً بهم فرح من يحتفل بالعيد.
ومع أن رجل القلب يبقى مرتبطاً بمنهجه في العمل وحسب اجتهاده ومزاجه ومذاقه إلا أنه يبقى على الدوام محترماً أفكار ومناهج الآخرين وموقراً لهم، ويكون مستعداً للعيش المشترك معهم، ولا يفتر عن البحث عن طرق التعاون المشترك مع من يقاسمهم الفكر نفسه... يبحث عن طرق التعاون والمشاركة هذه ويطور معهم مشاريع العمل المشترك واضعاً كلمة "نحن" بدلاً عن "أنا". بل يكون مستعداً للتضحية بسعادته برحابة صدر في سبيل إسعاد الآخرين دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، بل يعد مثل هذا الانتطار دناءة وسقوطاً يترفع عنه، لذا نراه يبتعد عنه، ويهرب منه مثلما يهرب من العقارب والثعابين، ويهرب من الرغبة في الصيت والشهرة، ويحاول أن يكون منسياً.
لا يعتدي رجل القلب على أحد، ولا يقابل الاعتداء بالاعتداء، ولا يفقد اعتداله حتى في أحرج الظروف، ولا يتوانى أبداً من القيام بكل تبعات رجل القلب، فهو يقابل الإساءة بالإحسان دوماً لأنه يعد القيام بالإساءة من عمل الأشرار، لذا يتصرف كمثال لرجل الإحسان.
يعيش رجل القلب خط القرب من الله (أي الولاية) في ظل القرآن والسنة، وفي إطار من شعور التقوى والعزم والإحسان. وهو حذر على الدوام من المشاعر التي تميت القلب كالأنانية والغرور وحب الشهرة. وهو يعزو إلى الله تعالى كل ما ينسبونه إليه وكل ما يقوم به من أعمال الخير ويقول: "كل شيء منه" فيرجع كل شئ إلى صاحبه، وتراه يتحرج من كلمة "أنا" ويفضل عليها كلمة "نحن" في كل ما يتعلق بالإرادة الإنسانية.
لا يخاف رجل القلب من أي أحد، ولا يضطرب ولا يرتبك أمام أي حدث، بل يستند إلى الله ويتوكل عليه، ويتشبث بالسعي فيصل إلى التوفيق، ولا يتراجع أبداً عما يعتقد أنه حق.
لا يحمل رجل القلب ضغينة نحو أحد، ولا سيما ممن ارتبطوا بالله تعالى وساروا في طريقه. وعندما يرى أصدقاء دربه ضمن عمل سيء فلا يبتعد عنهم، ولا يشهر بهم، ولا يخجلهم، بل ربما يحاسب نفسه ويرى أن معرفته بأي سقطة من سقطات أصدقائه ربما كانت عيباً له.
يحذر رجل القلب من أي سوء ظن بالمؤمنين في التصرفات القابلة للتفسير المعقول بل يحسن الظن بهم في كل ما يرى ويسمع، ولا ينزحلق إلى ظنون سلبية.
يعلم رجل القلب وهو يقوم بكل فعالياته وحركاته بأن هذه الدنيا ليست بدار جزاء، بل دار خدمة. لذا يؤدي ما عليه من مسؤوليات وخدمات ضمن نظام دقيق جداً، ويعد الانشغال بالنتيجة شيئاً ينافي التوقير لله تعالى. وهو يعدّ خدمته للدين وللإيمان وللإنسانية أكبر وظيفة له في طريق الحصول على رضا الله تعالى. ومهما أنجز من أعمال كبيرة فلا يجعل لنفسه أي نصيب مادي أو معنوي ولا يفكر في هذا أصلاً.
لا يقع رجل القلب في اليأس أبداً وإن انفرط نظامه الذي بناه، ولا يهتز أبداً حتى وإن وقف الناس أجمعون ضده. بل يقوم أمام جميع المصاعب وهو يصر على أسنانه متحملاً "هذه الدنيا ليست بدار زعل بل دار تحمل" يصبر ويبحث عن طرق بديلة لحل المشاكل التي تعترض طريقه ولا يفتر عزمه ولا إقدامه حتى في أحلك الظروف، بل يقوم بإنتاج إستراتيجيات مختلفة.
وختاماً نقول ونذكِّر بأنه في أيامنا هذه التي تستهان فيها القيم الإنسانية، وتتراجع فيها الأفكار الدينية، ويطغى فيها في جميع الأرجاء ضجيج الفارغين واللاهين فإننا في حاجة إلى أمثال هؤلاء من رجال القلب كحاجتنا إلى الهواء والماء.(/11)
رسالة
بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود
تأليف
شيخ الإسلام بركة الأنام عمدة العلماء الأعلام
محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي الحنفي
المتوفى سنة 1004 هـ
قدَّم لها وحققها وعلَّق عليها
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
الطبعة الأولى
1422هـ - 2001 م
القدس - فلسطين
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
صف وتنسيق
حذيفة بن حسام الدين عفانه
بسم الله الرحمن الرحيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المحقق
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد …
فهذه رسالة لطيفة من تراث فقهاء الإسلام تخرج إلى النور بعد أن كانت حبيسة الرفوف لقرون .
وهذه الرسالة تعالج قضية فقهية مهمة من قضايا النقود ، والتي كانت محل اهتمام الفقهاء ومجالاً لبحثهم ، ومؤلف هذه الرسالة هو الشيخ محمد بن عبد الله الغزيّ التمرتاشي ، من فقهاء الحنفية المتأخرين في فلسطين ، وصاحب المتن المشهور المسمى تنوير الأبصار ، والذي شرحه الحصكفي في الدر المختار ، ووضع عليه العلامة ابن عابدين حاشيته المعروفة برد المحتار .
وقد رغبت في نشر هذه الرسالة بعد أن اطلعت عليها في مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في بيت المقدس ، هذه المؤسسة الرائدة في جمع المخطوطات في فلسطين ، والتي ما فتئت تقدم كل مساعدة للباحثين لخدمة ونشر تراثنا الإسلامي .
وإنني أدعو الباحثين وطلبة الدراسات العليا إلى توجيه مزيد من الاهتمام لتحقيق المخطوطات ونشرها ، فلا يصح أن تبقى هذه الكنوز مطمورة وغير مستفاد منها . ومن المعروف أن ما حقق من مخطوطات قليل جداً ، يقول بعض المحققين إن الكتب المخطوطة في مختلف العلوم الإسلامية باللغة العربية تزيد على ثلاثة ملايين كتاب ، فلا بد من بذل مزيد من الجهود لإحياء هذه الذخائر العظيمة وإخراجها إلى عالم النور بالطباعة والتحقيق العلمي الرصين .
وقياماً ببعض الواجب وجهت همتي إلى تحقيق هذه الرسالة اللطيفة مساهمة مني في إحياء الكنوز العلمية لعلمائنا ومحافظة عليها من الضياع ورغبة في تسهيل اطلاع طلبة العلم على تراث أسلافهم وخدمة للعلم وأهله .
وقد جعلت عملي في خدمة هذه الرسالة على قسمين :
القسم الأول : الدراسة
وتشمل ما يلي :
- تمهيد حول الدراسات الفقهية لمسائل النقود قديماً وحديثاً
- المبحث الأول : دراسة حول المصنف التمرتاشي وفيه مطالب :
المطلب الأول : اسمه ونسبه
... المطلب الثاني : مولده ونشأته
... المطلب الثالث : رحلاته
... المطلب الرابع : شيوخه
... المطلب الخامس : ثناء العلماء عليه
... المطلب السادس : تلاميذه
... المطلب السابع : العائلة التمرتاشية
... المطلب الثامن : مؤلفاته
... المطلب التاسع : وفاته
- المبحث الثاني : دراسة حول رسالة " بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود " وفيه مطالب :
المطلب الأول : عنوان الرسالة ونسبتها للمصنف
المطلب الثاني : أهمية الرسالة وموضوعاتها
المطلب الثالث : وصف النسخة المخطوطة
القسم الثاني : نص رسالة بذل المجهود محققاً ومعلقاً عليه .
ثم أتبعت ذلك بالفهارس التالية :
أ. فهرس الأعلام الذين ورد ذكرهم في نص الرسالة .
ب. فهرس الكتب التي وردت في نص الرسالة.
ج. فهرس النقود التي وردت في نص الرسالة .
د. فهرس مصادر ومراجع الدراسة والتحقيق .
هـ . فهرس المحتويات .
وختاماً أتقدم بالشكر والتقدير إلى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في بيت المقدس التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ممثلة بعميدها وجميع موظفيها لما قدموه لي من عون ومساعدة حتى خرجت هذه الرسالة إلى عالم النور مطبوعة محققة .
وأشكر أيضاً ولدي حذيفة الذي قام بصف الرسالة وتنسيقها على جهاز الحاسوب .
وأشكر كل من مد لي يد العون والمساعدة فجزى الله الجميع خير الجزاء .(/1)
وأخيراً فهذا جهدي وعملي المتواضع الذي لا يخلو من النقص والتقصير لأنه جهد بشري وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفع به إخوتي طلبة العلم وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أبوديس / القدس في صباح يوم الإثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى 1422 هـ ، وفق الثالث عشر من آب 2001 م .
كتبه : الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس
القسم الأول
الدراسة
وتشمل ما يلي :
- تمهيد حول الدراسات الفقهية لمسائل النقود قديماً وحديثاً
- المبحث الأول : دراسة حول المصنف التمرتاشي وفيه مطالب :
... المطلب الأول : اسمه ونسبه
... المطلب الثاني : مولده ونشأته
... المطلب الثالث : رحلاته
... المطلب الرابع : شيوخه
... المطلب الخامس : ثناء العلماء عليه
... المطلب السادس : تلاميذه
... المطلب السابع : العائلة التمرتاشية
... المطلب الثامن : مؤلفاته
... المطلب التاسع : وفاته
المبحث الثاني : دراسة حول رسالة " بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود " وفيه مطالب :
المطلب الأول : عنوان الرسالة ونسبتها للمصنف
المطلب الثاني : أهمية الرسالة وموضوعاتها
المطلب الثالث : وصف النسخة المخطوطة
المطلب الرابع : منهج التحقيق
تمهيد
نبذة موجزة عن دراسات الفقهاء لمسائل النقود قديماً وحديثاً
اعتنى الفقهاء بمسائل النقود عناية خاصة ، وقد ظهرت الأقوال والآراء في هذه المسائل قديماً ، وتعرض الفقهاء لمسائل النقود في أبواب الربا والصرف والبيع والإجارة ، وغير ذلك من أبواب الفقه ، وهذا أمر واضح جلي لمن يراجع كتب الفقه الإسلامي ، وفي فترة لاحقة ظهرت دراسات لمسائل النقود على شكل فتاوى أو رسائل عندما كانت تقع واقعة متعلقة بهذه المسائل .
ففي القرن الخامس الهجري كما ذكر الونشريسي أنه قد حدث ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال ، فالتزم الحافظ ابن عبد البر السكة الأخيرة وأفتى أبو الوليد الباجي بأنه لا يلزم إلا السكة الجارية حين العقد (1).
وقال الونشريسي أيضاً :[ سئل ابن الحاج ( المتوفى 529هـ ) عمن عليه دراهم فقطعت السكة فأجاب : أخبرني بعض أصحابنا أن ابن جابر فقيه إشبيلية قال : نزلت هذه المسألة في قرطبة أيام نظري في الأحكام ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكة ابن جهور
( المتوفى 462هـ ) بدخول ابن عباد ( المتوفى 488هـ ) سكة أخرى فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة ، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب . قال وأرسل إليَّ ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة وقال لي : الصواب فيها فتواي فاحكم بها ولا تخالفها أو نحو هذا من الكلام (2).
وفي القرن السابع الهجري قال الذهبي في تاريخه : في سنة إثنتين وثلاثين وستمئة أمر الخليفة المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلاً عن قراضة الذهب فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة وفرشت الأنطاع وأفرغ عليها الدراهم وقال الوزير : قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضاً عن قراضة الذهب رفقاً بكم وإنقاذاً لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي . فأعلنوا بالدعاء ثم أديرت بالعراق وسعرت كل عشرة بدينار .(3)
وكذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش في أواخر القرن السابع والثلث الأول من القرن الثامن ، قد أفتى في عدة قضايا متعلقة بالنقود ، كما في مجموع الفتاوى : 29/251 ، 29/466 ، 29/469 .
__________
(1) تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي ، د. عجيل النشمي ، بحث منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 الجزء 3 ص 1620 ، وانظر المعيار المعرب 6/164 .
(2) المصدر السابق 1621 ، وانظر المعيار المعرب 6/163-164 .
(3) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ص 103-104 ضمن المجلد الأول من الحاوي للفتاوي .(/2)
وذكر جلال الدين السيوطي أنه :[ قد وقع في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عكس ما نحن فيه وهو عزة الفلوس وغلوها بعد كثرتها ورخصها ، وتكلم في ذلك قاضي القضاة جلال الدين البلقيني كلاماً مختصراً فنسوقه ثم نتكلم بما وعدنا به ، نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله ، قال في فوائد الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره ما قال اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عزة الفلوس بمصر وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس ثم صار بتسعة وكان الدينار الأفلوري بمائتين وستين درهماً من الفلوس ، والهرجة بمائتين وثمانين والناصري بمائتين وعشرة وكان القنطار المصري ستمائة درهم فعزت الفلوس ونودي على الدرهم بسبعة دراهم وعلى الدينار بناقص خمسين فوقع السؤال عمن لم يجد فلوساً وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس فلم يجدها فقال أعطني عوضاً عنها
ذهباً أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه ؟ ] (1)، ثم ذكر السيوطي كلام جلال الدين البلقيني في المسألة .(2)
الرسائل المؤلفة في مسائل النقود :
ألف جماعة من أهل العلم رسائل خاصة في مسائل النقود منها :
1. رسالة أحمد بن محمد بن عماد بن علي الشهير بابن الهائم المتوفى سنة 815 هـ وعنوان رسالته " نزهة النفوس في ببيان حكم التعامل بالفلوس " وهي مطبوعة ، وهي أقدم ما اطلعت عليه من الرسائل المتخصصة في المسألة ، وقد ذكر ابن الهائم في مقدمة رسالته سبب تأليفه لها فقال :
[ فإن لله جلّ ثناؤه عليَّ نعماً مترادفة ومنناً متضاعفة لا يحيط بالفرد منها حدّ ، ولا يحصي جملتها عدّ ، فمنها أن الله يسر لي الإقامة بالقدس الشريف ، ووفقني لمجاورة مسجده المنيف ، وكان ابتداؤها في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، وكان التعامل إذ ذاك بالقدس الشريف بالفلوس العددية واقعاً ، وكانت نوعاً واحداً ، كل ثمانين فلساً منها بدرهم ، وكل حبة خمسة أفلس ، لأن الحبة عبارة عن نصف ثمن الدرهم في هذه البلاد ، بخلاف ما في بلدنا حينئذ في مصر حماها الله تعالى ، فإنها عبارة فيه عن ثلث قيراط ، وما كانت الفلوس رائجةً رواج النقود لعدم التعامل بها في شراء عقار ونحوه ، ثم غيرَّها بعض نواب القدس الشريف ، فجعل الحبة ستة أفلس ، والدرهم ستة وتسعين فلساً فرخصت قيمتها ، ونقص عدد الدرهم خمسة ، ثم دخلت الفلوس المصرية العددية القدس الشريف المعبر عنها بالجدد ، وكانت إذ ذاك كل أربعة وعشرين فلساً بدرهم وما زال التعامل بها بمصر حين ضربت إلى الآن على هذا الحساب ، كل فلس بقيراط من الدرهم ، وصار التعامل في القدس بالنوعين ، ثم راجت الجدد على العتق رواجاً كبيراً ، ثم إن بعض النواب غيَّر العتق فجعل الحبة ثمانية أفلس ، والدرهم مائة وثمانية وعشرين فلساً ، فنقص عدد الدرهم ربعه ، ثم راجت الجدد رواجاً عظيماً وزادت في الرواج حتى كاد الناس لا يتعاملون بغيره ، ولم يتعامل الناس بالدراهم ولا بالفلوس العتق إلا نادراً ، وصار الشهود يثبتون في الوثائق من الدراهم بالفلوس الجدد الرائجة يومئذٍ ، كذا واستمر الحال على ذلك إلى أواخر ذي القعدة سنة ثلاث وثمانمئة ، وهي السنة التي حلَّ فيها بحلب ودمشق وضواحيها في حينها ما حلَّ ، التي وافق عددها أعداد أحرف خراب ، فغيَّر بعض النواب عدد الجدد ، وجعل الحبة فلسين ، والثمن أربعة ، والدرهم اثنين وثلاثين فلساً على نسبة الربع من عدد العتق فنقص الدرهم أيضاً ربعه ، ومن هناك اضطرب الناس في معاملاتهم اضطراباً شديداً ، وكثر الاستفتاء والسؤال في البيوع والإجارات والقروض وغيرها ، في أن البائع مثلاً إذا باع بعدد منها ولم يقبضه فهل يلزم المشتري دفع الثمن بحساب ما كانت حال العقد أو بحساب ما صارت إليه الآن بعد مناداة نائب السلطان عليها فإن كل أربعة ثمن ، وكذلك القرض وغيره ؟
__________
(1) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ص 95-96 ، ضمن المجلد الأول من الحاوي للفتاوي .
(2) المصدر السابق ص 96 .(/3)
فتوقفت في الجواب كثيراً وتطلبته طمعاً في أن يكون مسطوراً فلم أظفر فيها بنقل لأحد من الأصحاب ، لكني ظفرت بما يدل على أن المعتبر ما كان التعامل به حين العقد ، وهو ما سأذكره إن شاء الله تعالى ، وهو الذي يقتضيه النظر فلم يثلج صدري لذلك طمعاً في العثور على نقل في المسألة بعينها ، فراجعت في ذلك صاحبنا شيخ الشافعية بالبلاد النظامية الشيخ الإمام العلامة أبا عبد الله شمس الدين محمد القرقشندي ، فسح الله في مدته ، فأخبرني أنه تتبع النقل في المسألة فلم يظفر به فيها بعينها ، وأن الذي ظهر له ، هو أن المعتبر ما كان التعامل به حين العقد ، كما ظهر لي ، وأن مستنده في ذلك ما ظهر لي أنه المستند ، وأخبرني أيضاً أنه أفتى بذلك فقوي الظن بتوافق النظرين ، ثم ازداد قوة بأنه هو الذي نص عليه الإمام مالك في المسألة بعينها ، وأنه مذهب الحنفية والحنابلة ، ولما رأيت هذه الحادثة مما عمَّ به البلوى وكثر عنها السؤال ، ولم أظفر لأحد من أصحابنا فيها بمقال ، سنح لي أن أصنع فيها تصنيفاً ، أذكر فيه المستند وأبين أن ما أفتينا به هو المعتمد ، وأزيد مقاماته تحريراً ، وأوضح منتجاته تقريراً ، بحيث إذا تأمله ذو الإنصاف يكاد يقطع بأنه لا يتجه فيه خلاف ، فشرعت فيه بعد الاستشارة وبعد تأكيده بالاستخارة ].(1)
2. رسالة " قطع المجادلة عند تغيير المعاملة " لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ وهي مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي له ، وذكر في أولها سبب تأليفها فقال :[ فقد كثر السؤال عما وقع كثيراً في هذه الأزمان ، وهو اختلاف الخصوم في المطالبة بعد المناداة على الفلوس ، كل رطل بثلاثين درهماً ، بعد أن كانت ستة وثلاثين ، وهل يطالب من عليه الدين بقيمته يوم اللزوم أو يوم المطالبة ؟ وهل يأخذ من الفلوس الجدد المتعامل بها عدداً بالوزن أو بالعدد ؟ فرأيت أن أنظر في ذلك وفي جميع فروعه تخريجاً على القواعد الفقهية ، وكذا لو نودي على الذهب أو الفضة ].(2)
3. رسالة " بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود " لمحمد بن عبد الله التمرتاشي المتوفى سنة 1004 هـ ، وهي الرسالة محل التحقيق والتعليق وسيأتي الكلام عليها مفصلاً .
4. رسالة " في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني " لعبد القادر الحسيني ألفها سنة 1216 هـ وهي مطبوعة بتحقيق د. نزيه حماد وقد رجح أنها أُلفت قبل رسالة ابن عابدين حيث إن الحسيني متقدم في العمر والطبقة على ابن عابدين .(3)
5. رسالة " تنبيه الرقود على مسائل النقود " لمحمد أمين المشهور بابن عابدين المتوفى سنة 1252 هـ ، ذكر أنه ألفها سنة 1230 هـ .(4)
قال ابن عابدين في أولها :[ هذه رسالة سميتها " تنبيه الرقود على مسائل النقود " من رخص وغلاء وكساد وانقطاع ، جمعت فيها ما وقفت عليه من كلام أئمتنا ذوي الارتقاء والارتفاع ضاماً إلى ذلك ما يستحسنه ذوو الإصغاء والاستماع … ].(5)
وقد ضمَّن ابن عابدين رسالته معظم كلام التمرتاشي في " بذل المجهود في تحرير أسئلة تغيير النقود " واعترض عليه في بعض المسائل ، وحرر مذهب الحنفية تحريراً جيداً ، وبيّن ما عليه الفتوى في مسائل النقود ، والرسالة مطبوعة ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين في المجلد الثاني .
6. رسالة " إمتاع الأحداق والنفوس بمطالعة أحكام الفلوس " للشيخ ألفا هاشم الفوتي .
ذكرها د. محمد الأشقر في بحثه " النقود وتقلب قيمة العمله " (6)، ولم أقف بعد البحث على أي شيء يتعلق بها أو بمؤلفها .
الدراسات المعاصرة لمسائل النقود :
... بحث كثير من العلماء والباحثين المعاصرين المسائل المتعلقة بالنقود بشكل عام ومسألة تغير قيمة العملة وأثر ذلك على الالتزامات بشكل خاص ، ومن هذه الدراسات ما يلي :
7. " تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي " د. نزيه حماد .
8. " أحكام أوراق النقود والعملات " القاضي محمد تقي العثماني .
9. " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة " الشيخ محمد علي عبد الله .
10. رسالة " فواتح الإشراق في أحكام نقود الأوراق وتغير قيمة العملة بإطلاق " د. محمد عبد اللطيف الفرفور .
11. " أحكام النقود الورقية " د. أبو بكر دكوري .
12. " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية " الشيخ محمد عبده عمر .
13. " تغير قيمة العملة " د. علي أحمد السالوس .
__________
(1) نزهة النفوس في بيان حكم التعامل بالفلوس ص 140-141 .
(2) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ص 95.
(3) انظر " تغير قيمة العملة عند الفقهاء " د. عجيل النشمي بحث منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 الجزء 3 ص 1623 .
(4) تنبيه الرقود على مسائل الرقود ص 65 .
(5) المصدر السابق ص 56 .
(6) مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 الجزء 3 ص 1681 .(/4)
14. " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العمله " الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيَّه .(1)
15. " تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي " د. عجيل جاسم النشمي .
16. " النقود وتقلب قيمة العملة " د. محمد سليمان الأشقر .
17. " تغير قيمة العملة " د. يوسف محمود قاسم .
18. " أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات "
د. علي أحمد السالوس .
19. " تغير العملة الورقية " د. محمد عبد اللطيف الفرفور .
20. " تذبذب قيمة النقود الورقية وأثره على الحقوق والالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي " د. علي محي الدين القره داغي .
21. " تغير قيمة العملة " الشيخ محمد علي التسخيري .
22. " موقف الشريعة الإسلامية من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة بمستوى الأسعار " الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع .
23. " مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الاسعار " د. محمد تقي العثماني .
24. " المعاملات الإسلامية وتغير قيمة العملة قيمةً وعيناً " الشيخ محمد الحاج الناصر .
25. " تغير قيمة العملة " الشيخ محمد علي عبد الله .
26. " تغير قيمة العملة والأحكام المتعلقة بها في فقه الشريعة الإسلامية " الشيخ محمد عبده عمر .(2)
كتب حديثة بحثت مسائل النقود خاصة :
... 27. " أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي " د. عباس أحمد الباز ، رسالة ماجستير .
28. " الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي قيمتها وأحكامها "
د. أحمد حسن ، رسالة دكتوراة .
29. " آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي " موسى آدم عيسى ، رسالة ماجستير .
30. " النقود وظائفها الأساسية وأحكامها الشرعية " علاء الدين الزعتري ، رسالة ماجستير .
31. " النقود الإئتمانية دورها وآثارها في اقتصاد إسلامي " إبراهيم بن صالح العمر ، رسالة ماجستير .
32. " أثر انهيار قيمة الأوراق النقدية على المهور " الشيخ فيصل المولوي .
33. " أحكام تغير قيمة العملة النقدية وأثرها في تسديد القرض " مضر نزار العاني ، رسالة ماجستير .
34. " الورق النقدي " الشيخ عبد الله بن سليمان بن المنيع ، رسالة ماجستير .
35. " أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي " ستر بن ثواب الجعيد ، رسالة ماجستير .
36. " تطور النقود في الشريعة الإسلامية " د. أحمد حسين أحمد الحسيني ، رسالة دكتوارة .
37. " أحكام النقود في الشريعة الإسلامية " جبر محمد سلامه .
38 . " النقود واستبدال العملات " د. علي أحمد السالوس .
39. " الإسلام والنقود " د. رفيق المصري .
كتب حديثة أخرى تعرضت لمسألة تغير قيمة العملة :
... 40. " نحو نظام نقدي عادل " د. محمد عمر شابرا .
... 42. " توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل معاملات الأموال " الشيخ عبد الله بن بيَّه .
43. " قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي " د. علي محي الدين القره داغي .
44. " السياسة النقدية والمصرفية في الإسلام " د. عدنان التركماني
وغير ذلك من الكتب والأبحاث .
المبحث الأول
دراسة حول المصنف التمرتاشي وفيه مطالب :
... المطلب الأول : اسمه ونسبه
... المطلب الثاني : مولده ونشأته
... المطلب الثالث : رحلاته
... المطلب الرابع : شيوخه
... المطلب الخامس : ثناء العلماء عليه
... المطلب السادس : تلاميذه
... المطلب السابع : العائلة التمرتاشية
... المطلب الثامن : مؤلفاته
... المطلب التاسع : وفاته
المبحث الأول
الدراسة حول المصنف التمرتاشي
المطلب الأول : اسمه ونسبه :
هو محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب بن محمد الخطيب بن إبراهيم الخطيب بن محمد الخطيب التمرتاشي الغزي .(3)
قال ابن عابدين :[ ورأيت في رسالة لحفيد المصنف وهو الشيخ محمد بن الشيخ صالح ابن المصنف زاد بعد إبراهيم المذكور ابن خليل بن تمرتاشي ].(4)
وقال ابن عابدين أيضاً:[ التمرتاشي نسبة إلى تمرتاش نقل صاحب مراصد الإطلاع في أسماء الأماكن والبقاع أن تُمُرتاش بضمتين وسكون الراء وتاء وألف وشين معجمة ، قرية من قرى خوارزم . قلت والأقرب أنه نسبة إلى جده تمرتاش كما قدمناه ](5) .
المطلب الثاني : مولده ونشأته :
... ولد في غزة سنة 939 هـ وفق سنة 1532م ونشأ فيها (6).
المطلب الثالث : رحلاته :
__________
(1) البحوث من 7-14 منشورة في مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 الجزء 3 .
(2) البحوث من 15-26 منشورة في مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 الجزء 3 .
(3) له ترجمة في المصادر التالية :
خلاصة الأثر 4/18 -20 * كشف الظنون 1/401 * إيضاح المكنون 1/26 * هدية العارفين 2/262 * معجم المؤلفين 3/427 * الأعلام 6/239 * ديوان الإسلام 2/24 * بلادنا فلسطين 1/2/82-83 * أعلام من أرض السلام ص 371-372 .
(4) حاشية ابن عابدين 1/18-19 .
(5) المصدر السابق 1/19 ، وانظر مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع 1/274.
(6) انظر المصادر المذكورة في الهامش رقم (1) من الصفحة السابقة .(/5)
... ذكر المحبي أن المصنف قد رحل إلى القاهرة أربع مرات آخرها في سنة ثمان وتسعين وتسعمائة .(1)
... وذكر المحبي أيضاً أنه رحل إلى حماة فقال :[ وذكره جدي القاضي محب الدين في رحلته إلى مصر ، ووصفه بأوصاف جليلة ، وذكر ما وقع بينهما من المحاضرة ، قال : ثم اتسعت معه دائرة المخاطبة واستطرد القول بطريق المناسبة ، إلى ذكر رحلته إلى بلدتنا حماة المحروسة ، وتغزل لنا بوصف ما فيها من تلك الأماكن المأنوسة ، ثم سألني عمن يعهده فيها من أفاضل الأصحاب ، فكان سائل دمع مقلتي الجواب ، ثم حدثنا بكثير من حسن المحاضرات ، ولطيف المحاورات التي كانت تصدر بينه وبين فاضلها المرحوم سيدي الشيخ محمد بن الشيخ علوان وكان يتعجب من فصاحته وبلاغته التي حارت فيها العقول والأذهان ، ويمدح فضائله وفواضله الغزار ويذكر صفاء العيش الذي قضاه في صحبته في تلك الديار .(2)
المطلب الرابع : شيوخه :
... طلب العلم أولاً على مشايخ بلده غزة ، فأخذ أنواع الفنون عن الشمس محمد بن المشرقي مفتي الشافعية ، ثم رحل إلى القاهرة أربع مرات آخرها في سنة 998 هـ ، وتفقه فيها على الشيخ الإمام زين الدين بن نجيم الحنفي ، وأخذ عن الإمام الكبير أمين الدين بن عبد العال ، وأخذ عن المولى علي بن الحنائي قاضي القضاة بمصر .
... ثم عاد إلى بلده غزة وقد رأس في العلم وقصده الناس للفتوى .(3)
وهذه تراجم شيوخه التي وقفت عليها :
1. الشمس محمد المشرقي : هو محمد بن محمد بن علي الشيخ العلامة المعمر المسند الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الغزي الأزهري الشافعي المعروف بابن المشرقي ميلاده بغزة في أوائل صفر سنة 900 هـ .
أخذ عن القاضي زكريا والشيخ عبد الحق السنباطي وقاضي القضاة الكمال الطويل والجمال الصالحي والشمس الدلجي والشيخ شمس الدين الطحان والشهاب أحمد بن شعبان الأنصاري والسيد كمال الدين بن حمزة وغيرهم وأخذ عنه جماعة منهم الشيخ ابن كسبائي وغيره . توفي سنة 980 هـ .(4)
2. ابن نجيم الحنفي : وهو زين الدين بن ابراهيم بن محمد بن محمد المصري الفقيه الحنفي الأصولي ، أخذ العلوم عن جماعة منهم الشيخ شرف الدين البلقيني والشيخ شهاب الدين بن الشلبي والشيخ أمين الدين بن عبد العال له مؤلفات كثيرة منها " البحر الرائق شرح كنز الدقائق في فروع الفقه الحنفي " ، " شرح المنار في أصول الفقه " ، " الأشباه والنظائر " ، " الرسائل الزينة " وغير ذلك . توفي سنة 970 هـ .(5)
3. أمين الدين بن عبد العال : هو محمد بن عبد العال الحنفي المصري أمين الدين فقيه ، من آثاره فتاوى جمعها تلميذه إبراهيم بن سليمان العادلي وسماها " العقد النفيس لما يُحتاج إليه للفتوى والتدريس " توفي سنة 971 هـ .(6)
وذكر في الكواكب السائرة ترجمة لوالده عبد العال وأشار نقلاً عن العلائي إلى أنه أعقب ولداً فاضلاً يسمى أمين الدين من أمة حبشية نشأ على علم وخير ، وقال إن ترجمة أمين الدين ستأتي في الطبقة الثانية ولم أعثر عليها .(7)
4. المولى علي بن الحنائي : قاضي القضاة بمصر ، عدَّه المحبي (8) من شيوخ التمرتاشي ، ولم أعثر له على ترجمة فيما رجعت إليه من المصادر .(9)
المطلب الخامس : ثناء العلماء عليه :
قال المحبي عنه :[ رأس الفقهاء في عصره كان إماماً فاضلاً كبيراً حسن السمت ، جميل الطريقة ، قوي الحافظة ، كثير الاطلاع ، وبالجملة فلم يبق في آخر أمره من يساويه في الدرجة ].(10)
وقال أيضاً :[ وقد رأس في العلوم وقصده الناس في الفتوى وألف التآليف العجيبة المتقنة ].(11)
وقال أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن بن الغزي المتوفى سنة 1167 هـ عن المصنف :[… الإمام العالم الحبر الفقيه شيخ الحنفية ].(12)
وقال عمر رضا كحاله :[ فقيه أصولي متكلم ].(13)
وقال خير الدين الزركلي :[ شيخ الحنفية في عصره ].(14)
وقال مصطفى الدباغ :[ كان رأس فقهاء الحنفية في عصره ].(15)
المطلب السادس : تلاميذه :
قال المحبي :[ وانتفع به جماعة منهم ولداه صالح ومحفوظ والشيخان الإمامان أحمد ومحمد ابنا عمار ، ومن أهالي القدس البرهان الفتياني المؤلف والشيخ عبد الغفار العجمي وغيرهم ].(16)
وهذه ترجمة لتلاميذه الذين وقفت على تراجمهم :
__________
(1) خلاصة الأثر 4/19 .
(2) المصدر السابق 4/20 .
(3) انظر خلاصة الأثر 4/19 .
(4) انظر ترجمته في الكواكب السائرة 3/26-27 .
(5) انظر ترجمته في الكواكب السائرة 3/154 ، التعليقات السنية على الفوائد البهية ص 221 ، معجم المؤلفين 1/740 .
(6) انظر ترجمته في معجم المؤلفين 3/413 ، كشف الظنون 2/160،213 .
(7) الكواكب السائرة 1/237 .
(8) خلاصة الأثر 4/19 .
(9) ولعله المذكور في معجم المؤلفين 2/396 .
(10) خلاصة الأثر 4/19 .
(11) المصدر السابق .
(12) ديوان الإسلام 2/24 .
(13) معجم المؤلفين 3/427 .
(14) الأعلام 6/239 .
(15) بلادنا فلسطين ج 1 ق2/82 .
(16) خلاصة الأثر 4/20 .(/6)
1. صالح ابن المؤلف : هو صالح بن محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب ابن محمد الخطيب بن إبراهيم الخطيب التمرتاشي الغزي الحنفي ، الإمام ابن الإمام كان فاضلاً متبحراً بحاثاً وله إحاطة بفروع المذهب أخذ عن والده ورحل إلى مصر وأخذ عن علمائها وتصدر في ذلك القطر بعد وفاة أبيه ونفع الناس في الفتاوى وألف التآليف النافعة في الفقه وغيره منها حاشية على الأشباه والنظائر التي سماها " زواهر الجواهر وله " منظومة في الفقه " " وشرح تحفة الملوك " " وشرح ألفية ولده محمد في النحو " التي أولها :
قال محمد هو ابن صالح ... أحمدُ ربي الله خير فاتح
وله شرح النُّقاية سماه " العناية " ، " وشرح تاريخ شيخ الإسلام سعدي المحشي " ، وله رسائل كثيرة منها رسالة في سيدنا محمد ( كذا ولعل الصواب موسى ) وأخيه هارون عليهما السلام ، ورسالة في علم الوضع ، وترسلاته وأشعاره وافرة مطبوعة ، وقفت له على هذه الأبيات كتب بها إلى الخير الرملي في صدر رسالة وقد استحسنتها فأثبتها له وهي قوله :
إن جزتَ عن رملةٍ لي ثَمَّ إنسانٌ
في العلم نعمانه في الجود حاتمه
والخير أوله والخير شيمته
قالوا هو البحر قلت البحر ذو غرق
قالوا هو الليث قلت الليث ذو حمق
قالوا هو السيف قلت السيف ذو كلل
قالوا فما هو قل لي قلت قد جمعت
أخوه شمس به ضائت منازله
ليثان حبران في آجام معرفة
قد جاء للرملة البيضا وقد درست
فجدد العلم فيها واستنار به ... حبرٌ همامٌ له علمٌ وإحسان
وماله فيهما ضد وأقران
والدين قيدٌ له في العلم إمكان
قالوا هو البدر لا يعروه نقصان
قالوا هو الشمس قلت الشمس ميزان
وربما جاء منه صاحِ عدوان
فيه الخصال وزادت فيه عرفان
وصدره بعلوم الله ريان
يروى بأنداهما للعلم ظمآن
فيها العلوم وفيها لاح طغيان
عرشُ العلوم وفيها زاد إيمان
وبالجملة فقد كان من أجلاء العلماء وكانت ولادته في سنة ثمانين وتسعمائة وتوفي في سنة خمسة وخمسين بعد الألف ، قاله المحبي .(1)
وذكره في معجم المؤلفين فقال :[ … فقيه أديب مشارك في بعض العلوم من تصانيفه " العناية في شرح النقاية " ، " زواهر الجواهر النضائر على الأشباه والنظائر " ، " أبكار الأفكار وفاكهة الأخيار " ، " شرح الألفية في النحو " وله شعر ].(2)
2. محفوظ ابن المؤلف : هو محفوظ بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن إبراهيم التمرتاشي الغزي الفقيه الحنفي بن الشيخ الإمام صاحب التنوير العالم ، كان في الفضل سامي الهضبة ، بعيد الغور ، وتفقه بوالده ، ثم رحل إلى القاهرة فأخذ بها عن شيخ الحنفية النور علي بن غانم المقدسي ، وعن الشيخ محمد بن محب الدين الشهير بابن الذئب ، وبابن المحب الحنفي ، وأخذ النحو عن العلامة أبي بكر الشنواني ، ورجع إلى بلده وأفاد وانتفع به جماعة ، منهم أخوه الشيخ صالح المقدم ذكره ، وكان ينظم الشعر فمن شعره ما كتبه إلى الشيخ محمد بن عبد النبي النويري معاتباً لأمر حصل من أخيه الشيخ صالح المذكور فقال :
أخي إن هذا العتب منك طويل
وودك في وسط الفؤاد غرسته
ولسنا نقيس الغير يوماً بذاتكم
فإنك ممن حاز فضلاً وعفة
وأصبحت في فن الفصاحة مفرداً
فيا شاعر الدنيا ويا خير فاضل
لئن كان منا صار ما يوجب القلى
وكن واثقاً بي إنني بك واثق
ووالله سعيي في الصفاء محبة
فلا زلت في عز منيع ورفعة
وإن دمت في صد وهجر وجفوة
خليليَّ ما في دهرنا من معاشر
ومحفوظ أبدى ذا النظام وعلمه ... وشمس وجودي بالبعاد أفول
وحاشاي يوماً أن يقال ملول
فليس سواء عالم وجهول
وقدركم بين الأنام جليل
وليس لكم بين الأنام مثيل
ويا من له فضل عليَّ جزيل
فأنت كريم والكريم يقيل
وقول اللواحي والعذول فضول
إليك وإني للعتاب حمول
مدى الدهر من يشنيك فهو ذليل
تمثلت بيتاً أنشدته فحول
صديق وإخوان الصفاء قليل
بمنظومكم ما إن إليه سبيل
فأجابه النويري بقوله :
أتاني نظامٌ فاق دراً به بدا
وتضمنه عتباً حلا لي بيانه
وحقك يا مولاي ما كنت بالذي
وقلبي بقيد الود منك مقيد
سقيت كؤوس الموت إن ملت في الهوا
فأنتم منى عيني وبهجة ناظري
وبعدي عنكم ليس للصدِّ والقلى
فوالله ذاك الأمر أسهر مقلتي
رميت من الدهر المغر بنكبة
فصبراً على ما نالني من أحبتي
بحقك يا مولاي كن عاذري فقد
فلا زلت في عز عظيم ورفعة ... بديع معان هذبته عقول
تمنيت أن العتب فيه يطول
له فكرة فيها القلاء يجول
ولم يبد للسلوان عنه سبيل
وإن كنت عن عهدي القديم أحول
على فضلكم دون الأنام أعول
ولكن لأمر صار فهو دليل
وأزعجني والجسم منه نحيل
خصصت بها والدهر صاح يميل
عساهم يجودوا بالرضا ويقيلوا
وهى الجسم مني والفؤاد كليل
مدى الدهر ما أبدى العتاب خليل
وكانت وفاة صاحب الترجمة في سنة خمسين وثلاثين ألف ، قاله المحبي .(3)
__________
(1) خلاصة الأثر 2/239-240 .
(2) معجم المؤلفين 1/833 ، وانظر الأعلام 3/195 .
(3) خلاصة الأثر 4/315-316 .(/7)
... 3. عبد الغفار بن يوسف : عبد الغفار بن يوسف بن جمال الدين بن محمد شمس الدين بن محمد ظهير الدين القدسي الحنفي المعروف بالعجمي ، من أعيان علماء عصره ، وكان عالماً وجيهاً متواضعاً متلطفاً ، قرأ ببلده على أبيه والشمس الخريشي الحنبلي ، وأخذ الحديث عن السراج عمر اللطفي والشيخ محمود البيلوني الحلبي قدم عليهم القدس وأخذ طريق النقشبندية عن المولى محمد صادق النقشبندي لمَّا قدم لزيارة البيت المقدس ، وطريق العلوانية عن الشيخ محمد الدجاني ، وله رحلتان إلى القاهرة أولاهما في سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة ، أخذ بها الحديث عن الأستاذ محمد البكري ، والفقه عن النور علي بن غانم المقدسي والشمس النحريري ، والسراج الحانوتي ، والشيخ عمر بن نجيم ، والشيخ عبد الرحمن الذئب ، والفرائض عن الشيخ عبد الله الشنشوري ، والأصول عن الشيخ حسن الطناني ، والقراآت عن الشهاب أحمد بن عبد الحق ، والثانية في سنة اثنتين وعشرين ألف راجعاً بحراً من الروم ، وأخذ عن الشهاب عبد الرؤوف المناوي ، وأخذ بدمشق عن الشهاب العيثاوي ، وبحلب عن الشيخ عمر العرضي وسافر إلى الروم مرتين ، وولي إفتاء الحنفية بالقدس وتدريس المدرسة العثمانية ، وتصدر وأخذ عنه جماعة منهم ولده هبة الله مفتي القدس ، والشمس محمد بن علي المكتبي الدمشقي وغيرهما ، وكانت ولادته في سنة ثلاث أو أربع وسبعين وتسعمائة ، وتوفي نهار الخميس غرة ذي القعدة سنة سبع وخمسين بعد الألف رحمه الله تعالى ، قاله المحبي .(1)
المطلب السابع
العائلة التمرتاشية
ينتسب المصنف إلى العائلة التمرتاشية وقد برز من هذه العائلة نفر من أهل العلم والرياسة والفضل وهم :
1. محمد بن عبد الله التمرتاشي - المصنف -
2. ولده الأول صالح بن محمد بن عبد الله التمرتاشي ، سبقت ترجمته .
3. وولده الثاني محفوظ بن محمد بن عبد الله التمرتاشي ، سبقت ترجمته .
4. حفيده محمد بن صالح بن محمد بن عبد الله بن أحمد الغزي التمرتاشي ، كان محمد هذا من فضلاء الفقهاء الحنفية برع في شبابه ، وقد أخذ ببلده عن والده وعن ابن المحب ، ثم رحل إلى القاهرة وتفقه بها على الشهاب أحمد الشوبري ، والحسن الشرنبلالي ، والشيخ محي الدين الغزي الفاروقي ، والشيخ أبي بكر الجبرتي ، وأخذ الحديث عن الشيخ عامر الشبراوي ، والشيخ عبد الجواد الجنبلاطي ، والشيخ أبي الحسن بن عبد الرحمن بن محمد الخطيب الشربيني الشافعي ، والشيخ محمد بن عبد الرحمن الحموي ، والشمس محمد بن الجلال البكري ، وأبي العباس أحمد المقري المغربي ، والشيخ عبد الرحمن بن يوسف البهوتي الحنبلي ، ورجع إلى بلده وقد بلغ الغاية من الفضل ، وألف في حياة والده تآليف منها شرح الرحبية ونظم ألفية في النحو شرحها أبوه في حياته وأولها :
قال محمد هو ابن صالح ... أحمد ربي الله خير فاتح
وله منظومة في المناسخات ، ورسالة في تفضيل الإنسان ، وله شعر كثير وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين وألف ، ووالده موجود في الأحياء رحمه الله تعالى ، قاله المحبي .(2)
وقال عمر رضا كحالة : [ فرضي نحوي أديب شاعر : من آثاره " الرحبية في الفرائض " ، " نظم ألفية في النحو " ، " رسالة في تفضيل الإنسان " ، " منظومة في المناسخات " ، وله شعر كثير ].(3)
وله " فيض المستفيض في مسائل التفويض " فقه حنفي (4)، وذكر العلامة ابن عابدين رسالة فيض المستفيض في حاشيته رد المحتار 5/361
5. صالح بن أحمد بن محمد بن صالح بن محمد التمرتاشي الغزي العمري ، ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي وقال : إنه كان مفتي الحنفية في غزة عندما زار الشيخ النابلسي غزة سنة 1105 هـ .(5)
وذكر الزركلي أن له ميلاً إلى التاريخ ومن تصنيفه رسالة صغيرة في بلاد الشام وأشار إلى أنها مخطوطة (6)، وقد حققها الدكتور حمد أحمد يوسف وهي بعنوان " الخير التام في ذكر الأرض المقدسة وحدودها وذكر أرض فلسطين وحدودها وأراضي الشام " وهي من منشورات مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في القدس ، لسنة 1418 هـ - 1997 م .
وذكر مصنفها أنه انتهى من تأليفها في مصر سنة 1106 هـ .
6. نجم الدين بن صالح التمرتاشي العمري مؤرخ من آثاره " فتح المنان في مفاخر آل عثمان " ألفه سنة 1156 هـ .
وقال عمر رضا كحالة : كان حياً سنة 1156 هـ/1743 م .(7)
7. نجم الدين بن صالح بن أحمد بن محمد بن صالح بن محمد بن عبد الله التمرتاشي الغزي الحنفي المتوفى سنة 1200 هـ ، قدم مصر سنة 1160 هـ ، تفقه وقرأ المعقولات وتضلع ببعض العلوم ، وقد دخل في سلك القضاء وتولى نيابة القضاء في مصر سنة 1186 هـ .(8)
المطلب الثامن
مؤلفاته
__________
(1) خلاصة الأثر 2/433 .
(2) خلاصة الأثر 3/475 .
(3) معجم المؤلفين 3/356 .
(4) الأعلام 6/163 .
(5) الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز ص 166 ، وانظر بلادنا فلسطين الجزء 1 القسم 2/83 .
(6) الأعلام 3/188-189 .
(7) معجم المؤلفين 4/13 .
(8) تاريخ الجبرتي 1/653-654 .(/8)
قال المحبي :[ وألَّف التآليف العجيبة المتقنة ] (1)، وقد وقفت له على المؤلفات الآتية :
أولاً : في الفقه :
1. " تنوير الأبصار وجامع البحار " ، قال المحبي :[ وهو متن في الفقه جليل المقدار جم الفائدة دقق في مسائله كل التدقيق ورزق فيه السعد فاشتهر في الآفاق ].(2)
ثم إن التمرتاشي شرح متن تنوير الأبصار في مجلدين وسماه " منح الغفار " قال حاجي خليفة : [ وجمع فيه مسائل المتون المعتمدة عوناً لمن ابتلى بالقضاء والفتوى وفرغ من تأليفه في محرم الحرام سنة 995 هـ ، ثم شرحه في مجلدين ضخمين وسماه منح الغفار ](3) .
وممن شرحه أيضاً محمد علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ وسماه " الدر المختار شرح تنوير الأبصار " وقد ذكر في مقدمته أنه بدأ شرح " تنوير الأبصار " في كتاب " خزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار وجامع البحار " وأنه لما انتهى من تبييض الجزء الأول قدَّره في عشر مجلدات كبار فصرف النظر عن إكماله وكتب شرحاً مختصراً وهو " الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ".(4)
وذكر المحبي أنه وصل فيه إلى الوتر وذكر ابن عابدين أنه لم يكمله في المسودة واكتفى بالجزء الذي بيَّضه .(5)
وقد وضع ابن عابدين حاشية على الدر المختار سماها رد المحتار على الدر المختار وهي المشهورة بحاشية ابن عابدين .
قال ابن عابدين :[ إن كتاب الدرّ المختار شرح تنوير الأبصار ، قد طار في الأقطار ، وسار في الأمصار ، وفاق في الاشتهار ، على الشمس في رابعة النهار ، حتى أكبَّ الناس عليه ، وصار مفزعهم إليه ، وهو الحريّ بأن يُطلب ، ويكون إليه المذهب ، فإنه الطراز الُمذهب في المذهب ، فلقد حوى من الفروع المنقحة ، والمسائل المصححة ، ما لم يحوه غيره من كبار الأسفار ، ولم تنسج على منواله يد الأفكار ، بيد أنه لصغر حجمه ، ووفور علمه ، قد بلغ في الإيجاز ، إلى حد الإلغاز ، وتمنع بإعجاز المجتاز ، في ذلك المجاز ، عن إنجاز الإفراز ، بين الحقيقة والمجاز .
وقد كنت صرفت في معاناته برهة من الدهر ، … فطفقت أوشي حواشي صفائح صحائفه اللطيفة ، بما هو في الحقيقة بياض للصحيفة ، ثم أردت جمع تلك الفوائد ، وبسط سمط هاتيك الموائد ، من متفرقات الحواشي والرقاع ، خوفاً عليها من الضياع ، ضاماً إلى ذلك ما حرره العلامة الحلبي والعلامة الطحطاوي وغيرهما من محشي هذا الكتاب … وبذلت الجهد في بيان ما هو الأقوى وما عليه الفتوى وبيان الراجح من المرجوح ، مما أطلق في الفتاوى أو الشروح ، معتمداً في ذلك على ما حرره الأئمة الأعلام ، من المتأخرين العظام ، كالإمام ابن الهمام وتلميذيه العلامة قاسم وابن أمير حاج والمصنف والرملي وابني نجيم وابن الشلبي والشيخ إسماعيل الحائك والحانوتي السراج وغيرهم ممن لازم علم الفتوى من أهل التقوى ].(6) والكتاب مطبوع مع شرحه الدر المختار وحاشية رد المحتار لابن عابدين .
2. " منح الغفار شرح تنوير الأبصار " ، ذكره حاجي خليفة وقد سبقت عبارته وذكره أيضاً المحبي والبغدادي وذكر الزركلي أنه مخطوط (7)، قال المحبي :[ وهو من أنفع كتب المذهب ] (8)، وعليه حواشي مفيدة كتبها شيخ الإسلام خير الدين الرملي .(9)
3. " شرح الكنز " - أي كنز الدقائق لحافظ الدين النسفي - وصل فيه إلى كتاب الأيمان .(10)
4. " قطعة من شرح الوقاية " .(11) وهو وقاية الرواية في مسائل الهداية لمحمود بن صدر الشريعة المحبوبي .
5. " حاشية على الدرر والغرر " وصل فيها إلى نهاية كتاب الحج .(12)
والدرر والغرر في فروع الحنفية لمنلا خسرو المتوفى سنة 885 هـ .
6. " إعانة الحقير لزاد الفقير في فروع الفقه الحنفي " وزاد الفقير مختصر في فروع الفقه الحنفي لكمال الدين بن الهمام ، وذكر الزركلي أنه مخطوط (13).
__________
(1) خلاصة الأثر 4/19 .
(2) خلاصة الأثر 4/19 ، وانظر هدية العارفين 2/262 ، كشف الظنون 1/404 ، معجم المؤلفين 3/428 ، الأعلام 6/239 .
(3) كشف الظنون 1/404 .
(4) الدر المختار 1/16-17 .
(5) حاشية ابن عابدين 1/17 .
(6) حاشية ابن عابدين 1/3-4 ، وانظر المذهب عند الحنفية ص 97-98 .
(7) كشف الظنون 1/404 ، خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، الأعلام 6/239.
(8) خلاصة الأثر 4/19 .
(9) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، معجم المؤلفين 3/428 ، الأعلام 6/239 .
(10) هدية العارفين 2/262 ،خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(11) المصادر السابقة .
(12) خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19.
(13) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، كشف الظنون 2/3 ، معجم المؤلفين 3/428 ، الأعلام 6/240 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .(/9)
7. " معين المفتي على جواب المستفتي " قال المحبي : في مجلد كبير . وذكره عمر رضا كحالة باسم " معين المفتي على جواب المستفتي في الفروع الفقهية على مذهب أبي حنيفة " ، وذكر الزركلي أنه مخطوط .(1)
8. " مسعفة الحكام على الأحكام " وذكره كحالة باسم مسعف الحكام على الأحكام المتعلقة بالقضاة والحكام .(2)
9. " تحفة الأقران " أرجوزة في الفقه .(3)
10. " مواهب المنان شرح تحفة الأقران ".(4)
11. فتاويه وتقع في مجلدين (5)، وذكر البغدادي أن الحصكفي قد جمع بين فتاوي ابن نجيم والتمرتاشي ، وذكر الزركلي أنه مخطوط .(6)
12. " رسالة في المسح على الخفين ".(7)
13. " رسالة في النقود ".(8) وهي الرسالة التي أحققها .
14. " رسالة في التجويز " وذكرها عمر رضا كحالة باسم مسألة التجويز الواقعة بين العوام بدل التزويج .(9)
15. " رسالة في النكاح ".(10)
16. " رسالة في الوقوف "وذكرها ابن عابدين باسم رسالة في الوقوف بعرفة .(11)
17. " رسالة في النفائس في أحكام الكنائس ".(12)
18. " رسالة في بيان جواز الاستنابة في الخطبة ".(13)
19. " رسالة في بيان أحكام القراءة خلف الإمام ".(14)
20. " رسالة في دخول الحمام ".(15)
21. " رسالة في القضاء ".(16)
22. " رسالة في المزارعة ".(17)
23. " كتاب شرح مشكلات وردت عليه من الفروع والأصول ".(18)
24. " فرائض التمرتاشي ". نسبها له البغدادي .(19) وذكرها حاجي خليفة منسوبة إلى ظهير الدين أحمد بن اسماعيل التمرتاشي الخوارزمي الحنفي المتوفى في حدود 600 هـ .(20)
ثانياً : مؤلفاته في أصول الفقه :
25. " الوصول إلى قواعد الأصول " ، وأشار الزركلي إلى أنه مخطوط وذكر صورة آخر صفحة منه وأنه بخط المؤلف ومحفوظ بدار الكتب المصرية (21).
26. " شرح المنار للنسفي " وصل فيه إلى باب السنة (22).
27. " شرح مختصر المنار " في مجلد .(23)
ثالثاً : مؤلفاته في العقيدة :
28. " شرح اللامية في الكلام وهي المعروفة بقصيدة يقول
العبد ".(24)
وذكرها عمر كحالة باسم " الفوائد المرضية في شرح القصيدة اللامية في العقائد ".(25)
والقصيدة اللامية للشيخ الإمام سراج الدين علي بن عثمان الأوشي الفرغاني الحنفي المتوفى سنة 575 هـ وهي ستة وستون بيتاً أولها :
يقول العبد في بدء الأمالي ... لتوحيد بنظم كاللآلي(26)
29. " منظومة في التوحيد وشرحها ".(27)
30. " رسالة في أحكام الدروز والأرفاض ".(28)
31. " رسالة في التصوف ".(29)
32. " رسالة في عصمة الأنبياء ".(30)
33. " عقد الجواهر النيرات في بيان خصائص الكرام العشرة
الثقات " ، العشرة المبشرون بالجنة ، وذكر الزركلي أنه مخطوط .(31)
34. " منظومة في التصوف ".
35. " شرح المنظومة ".(32)
رابعاً : مؤلفاته في النحو والصرف :
__________
(1) خلاصة الأثر 4/19 معجم المؤلفين 3/428 ، هدية العارفين 2/262 ، كشف الظنون 2/603-604 ، ، الأعلام 6/240 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(2) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 5/262 ، كشف الظنون 2/553 ، معجم المؤلفين 4/428 ، الأعلام 6/239 .
(3) هدية العارفين 2/262 ، إيضاح المكنون 1/155 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(4) هدية العارفين 2/262 ، الأعلام 6/240 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(5) كما في خلاصة الأثر 4/19 ، الأعلام 6/240 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(6) هدية العارفين 2/232 ، الأعلام 6/240.
(7) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية 2/262 .
(8) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، الأعلام 6/240 .
(9) معجم المؤلفين 3/428 ، خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 ، 3/19 .
(10) هدية العارفين 2/262 .
(11) حاشية ابن عابدين 1/19 ، هدية العارفين 2/262 .
(12) حاشية ابن عابدين 1/19 ، إيضاح المكنون 1/360 ، خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262.
(13) خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(14) المصدرين السابقين .
(15) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(16) هدية العارفين 2/262 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(17) حاشية ابن عابدين 1/19 .
(18) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(19) هدية العارفين 2/262.
(20) كشف الظنون 2/232.
(21) الأعلام 6/240 ، وانظر خلاصة الأثر 4/11 ، هدية العارفين 2/262 ، معجم المؤلفين 3/428 .
(22) خلاصة الأثر 4/19 ، هدية العارفين 2/262 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(23) المصادر السابقة .
(24) خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(25) معجم المؤلفين 3/428 .
(26) كشف الظنون 2/311 ،453 .
(27) خلاصة الأثر 4/19 .
(28) خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 .
(29) المصدران السابقان .
(30) المصدران السابقان .
(31) خلاصة الأثر 4/19 ، الأعلام 6/240 ، إيضاح المكنون 2/76 ، هدية العارفين 2/262 ، معجم المؤلفين 3/428 .
(32) هدية العارفين 2/262 .(/10)
36. " كتاب في شرح العوامل للجرجاني في النحو " وكتاب العوامل المئة للشيخ عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ وهو كتاب مشهور متداول .(1)
37. " قطعة من شرح القطر " وصل فيه إلى إعمال اسم الفاعل ، وكتاب قطر الندى وبل الصدى لابن هشام النحوي المعروف المتوفى سنة 762 هـ .(2)
خامساً : رسائل في موضوعات متفرقة :
قال المحبي :[ وله رسائل كثيرة ].(3)
38. رسالة " في التنصيص على العدد ".(4)
39. " شرح الوهبانية ".(5)
40. " رسالة في الكراهية ".(6)
المطلب التاسع
وفاته
... توفي أواخر رجب سنة 1004 هـ وفق سنة 1596م عن خمس وستين سنة عليه رحمة الله .(7)
المبحث الثاني
دراسة حول رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود
وفيه مطالب :
المطلب الأول : عنوان الرسالة ونسبتها للمصنف
المطلب الثاني : أهمية الرسالة وموضوعاتها
المطلب الثالث : وصف النسخة المخطوطة
المطلب الرابع : منهج التحقيق
المطلب الأول
عنوان الرسالة ونسبتها إلى مؤلفها التمرتاشي
1. ورد عنوان الرسالة على صفحة العنوان للنسخة المخطوطة هكذا:
هذه رسالة بذل المجهود في
تحرير أسئلة تغير النقود تأليف
شيخ الإسلام بركة الأنام
عمدة العلماء الأعلام
محمد بن عبد الله
الغزي التمرتاشي
الحنفي رحمه الله
تعالى آمين (8)
2. ونسبها إليه العلامة ابن عابدين فقال :[ وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها بذل المجهود في مسألة تغير النقود ].(9)
3. وقال العلامة ابن عابدين أيضاً بعد أن نقل معظم رسالته التمرتاشي في حاشيته :[ هذا خلاصة ما ذكره المصنف رحمه الله في رسالته بذل المجهود في مسألة تغير النقود ].(10) ويقصد بالمصنف التمرتاشي مصنف متن تنوير الأبصار .
4. وقد نسبها إلى المصنف المحبي في خلاصة الأثر 4/19 .
5. ونسبها إليه البغدادي في هدية العارفين 2/262 .
6. ونسبها إليه خير الدين الزركلي في الأعلام 6/240 .
7. ونسبها إليه صاحب أعلام من أرض السلام ص 371 .
8. ونسبها إليه محقق ديوان الإسلام 2/25 .
وكل ذلك يؤكد لنا صحة نسبة هذه الرسالة إلى المصنف والله أعلم .
المطلب الثاني
أهمية الرسالة وموضوعاتها
تعتبر رسالة التمرتاشي من أهم الرسائل المؤلفة في مسائل النقود ، وخاصة أن مؤلفها من كبار محققي الحنفية المتأخرين .
حيث إنه قد حقق مذهب الحنفية في المسألة تحقيقاً دقيقاً ، ومما يدل على أهميتها ودقتها أن المؤلف قد رجع إلى أمهات الكتب المعتمدة عند الحنفية ، فقد رجع إلى أكثر من عشرين كتاباً مع أن الرسالة صغير الحجم لا تتعدى ورقتين حسب النسخة المخطوطة ،وقد فهرست هذه الكتب في آخر الرسالة .
وقد حقق المصنف المسألة الأساسية التي ألف الرسالة لأجلها وهي مسألة تغير النقود .
والنقود عند الفقهاء تطلق بشكل أساسي على الدنانير الذهبية والدراهم الفضية ، ثم توسع استعمال اصطلاح النقود ليشمل الدراهم الفضية الغالبة الغش والفلوس ، وخاصة في الأوقات التي كان يقلّ فيها ضرب النقود الذهبية والفضية الخالصة .
وقد قسم الفقهاء النقود إلى قسمين :
القسم الأول : النقود الخَلْقِيَة : وهي المتخذة من الذهب والفضة ولا يضرّ اختلاطها بقليل من النحاس لأنه ضروري من أجل تماسكها فكان في حكم العدم .(11)
فهذه النقود استمدت قيمتها بحكم الخلقة ، لأنها مصنوعة من أنفس المعادن الذهب والفضة ، قال الكاساني :[ الذهب والفضة لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة لأنها معدة للتجارة بأصل الخلقة ].(12)
وقال جعفر بن علي الدمشقي :[ ووقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة ، لسرعة المواتاة في السبك والطرق ، والجمع والتفرقة ، والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وعدم الرائحة والطعوم الرديئة ، وبقاءهما على الدفن وقبولهما العلامات التي تصونهما ، وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس ، فطبعوهما وثمنوا بهما الأشياء كلها ، ورأوا أن الذهب أجل قدراً في حسن الرونق ، وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن وتكرار السبك في النار فجعلوا كل جزء منه بعدة أجزاء من الفضة ، وجعلوهما ثمناً لسائر الأشياء .
__________
(1) خلاصة الأثر 4/19 ، كشف الظنون 2/180.
(2) خلاصة الأثر 4/19 ، حاشية ابن عابدين 1/19 ، كشف الظنون 2/313.
(3) خلاصة الأثر 4/19 .
(4) هدية العارفين 2/262 .
(5) حاشية ابن عابدين 1/19 .
(6) المصدر السابق .
(7) انظر * خلاصة الأثر 4/18 -20 * كشف الظنون 1/401 * إيضاح المكنون 1/26 * هدية العارفين 2/262 * معجم المؤلفين 3/427 * الأعلام 6/239 * ديوان الإسلام 2/24 * بلادنا فلسطين 1/2/82-83 * أعلام من أرض السلام ص 371-372 .
(8) الوجه "ب" من الورقة 188 من النسخة المخطوطة من المجموع رقم 191/3/م8 .
(9) تنبيه الرقود 2/57 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين .
(10) حاشية ابن عابدين 4/534 .
(11) الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي ص 340 .
(12) بدائع الصنائع 2/92 بتصرف .(/11)
ويقول الدهلوي : واندفعوا إلى الاصطلاح على جواهر معدنية ، تبقى زمناً طويلاً أن تكون المعاملة بها أمراً مسلماً عندهم ، وكان الأليق من بينها الذهب والفضة ، لصغر حجمهما ، وتماثل أفرادهما ، وعظم نفعهما في بدن الإنسان ، ولتأتي التجمل بهما فكانا نقدين بالطبع ، وكان غيرهما نقداً بالاصطلاح ].(1)
القسم الثاني : النقود الاصطلاحية : وهي المتخذة من المعادن الخسيسة كالنحاس وغيره ، وهذه أصبحت نقوداً باصطلاح الناس عليها لتكون أثماناً ، ويدخل في ذلك الدراهم الفضية الغالبة الغش والفلوس .
قال الإمام السرخسي :[ إن صفة الثمنية في الفلوس عارضة باصطلاح الناس ، فأما الذهب والفضة فثمن بأصل الخلقة ألا ترى أن الفلوس تروج تارة وتكسد أخرى ، وتروج في ثمن الخسيس من الأشياء دون النفيس بخلاف النقود ].(2)
وقد بحث المصنف التمرتاشي في رسالته " بذل المجهود " الأحكام المتعلقة بالقسم الثاني من النقود فذكر في أول رسالته :[ إنه لمّا كثر الاستفتاء عن مسألة كثيرة الوقوع في زماننا ، وهي أن التجار بالديار الشامية وقع منهم معاملات شرعية ومعاوضات مرضية بالشواهي والشرفيات ، حيث كانت رائجة بشيء معين ثم كسد بعضها ، وتغير سعر بعضها بالنقص ، بموجب أمر الإمام الأعظم والخاقان الأفخم ].
والشواهي والشرفيات هي أنواع من الفلوس ، ثم ذكر الأحكام المتعلقة بذلك واختلاف فقهاء المذهب الحنفي فيها .
وقد أكَّد ابن عابدين في رسالته " تنبيه الرقود " في أكثر من موضع على أن المقصود بهذه الأحكام هي النقود الاصطلاحية وليست النقود الخلقية ، فقال :[ ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مرَّ في الفلوس والدراهم التي غلب غشها كما يظهر بالتأمل ، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس وفي بعضها ذكر العدالى معها فإن العدالى … الدراهم المنسوبة إلى العدل وكأنه اسم ملك ينسب إليه درهم فيه غش وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غاية البيان … ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكساد ، لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمناً بالاصطلاح ، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمناً فبقي البيع بلا ثمنٍ فبطل ويدل عليه أيضاً تعبيرهم بالغلاء والرخص فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تقوَّم بغيرها ، وكذا اختلافهم في أن الواجب ردُّ المثل أو القيمة فإنه حيث كانت لا غشَّ فيها لم يظهر للاختلاف معنى بل كان الواجب ردُّ المثل بلا نزاع أصلاً وهذا كالصريح فيما قلنا ].(3)
ثم نقل ابن عابدين عن أبي السعود نقلاً عن شيخه قوله :[ وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض كان الحكم معلوماً بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا انقضت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع ، فلا يكون له سواه ، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع .
قال : وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ حتى في الذهب والفضة كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال ، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع ، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود . وعقب ابن عابدين على ذلك بقوله : وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه ].(4)
وقد بحث المصنف الأحكام المتعلقة بالنقود الاصطلاحية وفصلَّ أقوال فقهاء المذهب الحنفي في حالاتها الأربع الآتية :
1. الكساد العام للنقود .
2. الانقطاع .
3. الكساد الجزئي .
4. الغلاء والرخص .
فبين أقوال علماء المذهب في الحالة الأولى وهي الكساد العام للنقود، فذكر أن قول أبي حنيفة أن البيع يبطل ويجب على المشتري ردُّ المبيع إن كان قائماً وردُّ مثله إن كان هالكاً وكان مثلياً وإلا تجب قيمته .
وعند أبي يوسف ومحمد لا يبطل البيع ولكن تجب القيمة ، واختلف الصاحبان في وقت وجوب القيمة ، فأوجب أبو يوسف القيمة يوم البيع ، وأوجبها محمد يوم الكساد .
وبين المصنف أن الفتوى في المذهب على قول أبي يوسف .
وأما في حالة الانقطاع فيرى المصنف أنها كحالة الكساد العام فقال :[ والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد ] ففي حالة الانقطاع أقوال فقهاء المذهب هي ذاتها في حالة الكساد .
وأما في حالة الكساد الجزئي وهي أن يروج النقد في بعض البلاد دون بعض ، فقال المصنف :[ فإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل لكنه تعيب إذا لم يرج في بلدهم ، فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته ].
__________
(1) الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي ص 109-110 ، وانظر حجة الله البالغة 1/84.
(2) المبسوط 12/137 .
(3) تنبيه الرقود 2/59-60 .
(4) المصدر السابق 2/61-62 .(/12)
وما قرره المصنف هنا باتفاق فقهاء المذهب ، قال ابن عابدين :[ وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى المبيع بلا ثمن ، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع ، لأنه لا يهلك ولكنه تعيب ، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع ، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير ، انتهى وتمامه فيها ، وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية ].(1)
وأما في الحالة الرابعة وهي حالة الرخص والغلاء ، فبين المصنف أن قول أبي حنيفة هو وجوب المثل لا القيمة ، وكان أبو يوسف يقول بمثل قول أبي حنيفة أولاً ثم رجع عنه إلى القول بالقيمة .
وبين المصنف أن الفتوى على قول أبي يوسف الثاني في هذه المسألة فقال :[ أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت ، فالبيع على حاله ، ولا يتخير المشتري ، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع ، كذا في فتح القدير .
وفي البزازية معزياً إلى المنتقى : غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها .
وقال الثاني ثانياً : عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض ، وعليه الفتوى .
وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى ، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره ، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات ، فيجب أن يعوَّل عليه إفتاءً وقضاءً ، لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما ].
وذكر المصنف عدة نقول من كتب الحنفية المعتمدة تؤكد على أن الفتوى في المذهب على قول أبي يوسف الثاني .
ثم انتقل المصنف إلى الحديث عن مسألة لها ارتباط باختلاف أئمة المذهب الحنفي في مسائل النقود التي فصلها وهي ما الذي ينبغي اتباعه من أقوال أئمة المذهب عند اختلافهم في المسألة الواحدة وذكر أقوالاً لعلماء المذهب حول هذه القضية فقال :[ قال في التتارخانية : اعلم أن اختلاف أئمة الهدى توسعة على الناس ، فإذا كان الإمام في جانب وهما في جانب خُيِّر المفتي .
وإن كان أحدهما مع الإمام أخذ بقولهما ، إلا إذا اصطلح المشايخ على قول الآخر ، فيتبعهم كما اختار الفقيه أبو الليث قول زفر في مسائل .
وإن اختلف المتأخرون أخذ بقول واحد ، فلو لم يوجد من المتأخرين يجتهد برأيه ، إذا كان يعرف وجوه الفقه ويشاور أهله .
ولا يجوز له الإفتاء بالقول المهجور لجرّ منفعة ولا خرّجوا عليه ديناً انتهى.
وفي الحاوي القدسي : إن الإمام إذا كان في جانب وهما في جانب ، فالأصح أن الاعتبار لقوة المدرك انتهى . ولا شك أن قول أبي يوسف قوي المدرك في واقعة الفتوى كما لا يخفى .
وفي التتارخانية أيضاً : ثم الفتوى على الإطلاق على قول أبي حنيفة ، ثم بقول أبي يوسف ، ثم بقول محمد بن الحسن ، ثم بقول زفر ابن هذيل ، والحسن بن زياد .
وقيل إذا كان أبو حنيفة في جانب وصاحباه في جانب فالمفتي بالخيار ].
وبعد ذلك تحدث المصنف عن وجوب العمل بالقول الراجح وترك المرجوح ، وذكر كلاماً للإمام القرافي وللإمام الباجي وللإمام أبي عمرو ابن الصلاح في ذلك .
وخلاصة ما وصل إليه المصنف أنه ينبغي العمل بقول أبي يوسف في هذه المسألة لأنه القول الراجح .
ثم تعرض المصنف أخيراً لألفاظ الترجيح المستعملة عند الحنفية وبها ختم رسالته .
المطلب الثالث
وصف النسخة المخطوطة
تقع رسالة " بذل المجهود " ضمن مجموع يحتوي على عدة رسائل مخطوطة ، وتقع في ورقتين من القطع الكبير بالإضافة إلى صفحة الغلاف . وتشغل الأوراق ذوات الأرقام 188-190 .
وقياس الورقة 29.5×21 ، وقياس الكتابة 25×14.5 .
وعدد الأسطر 35 سطراً ، ونوع الخط نسخ بالحبر الأسود والأحمر .
والناسخ هو عمر بن عثمان بن عمر بن علي .
وتاريخ النسخ سنة 1151 هـ .
ويوجد على صفحة العنوان العبارة التالية ( إذا تعارضت بيِّنةُ الوقف وبيِّنةُ الملك فبيِّنةُ الوقف أولى ) وليس لها علاقة بموضوع المخطوطة .
كما وأن صفحات المخطوطة مرتبطة بطريقة التعقيبة .
وأصل المخطوط محفوظ في مكتبة الشيخ بدر الخطيب برقم 25 في مدينة القدس ، وصورة المخطوط محفوظة لدى مؤسسة إحياء التراث الإسلامي التابعة لوزارة الأوقاف الفلسطينية تحت رقم 191/3/م8 .
ويظهر أن هذه النسخة قد قوبلت على غيرها فقد ورد في حاشية الورقة 190/أ :[ نسخة أصحابنا ] أي أنه ورد في نسخة أخرى لفظ
" أصحابنا " بدلاً من " مشايخنا " المثبتة في النسخة .
المطلب الرابع
منهج التحقيق
اتبعت المنهج التالي في تحقيق هذه الرسالة :
1. نسخت الرسالة حسب الرسم والإملاء المتعارف عليه الآن .
2. قابلت الرسالة بعد نسخها على ما نقله ابن عابدين منها في رسالته " تنبيه الرقود " وكذا ما نقله في حاشيته حيث إنني لم أعثر على نسخة أخرى للرسالة بعد البحث والتقصي .
3. قابلت النصوص التي نقلها المصنف من المصادر التي أخذ منها والتي وقفت عليها .
__________
(1) تنبيه الرقود 2/57 .(/13)
4. أثبت في النص ما غلب على ظني أنه الصواب اعتماداً على النسخة المخطوطة وعلى ما نقله ابن عابدين في رسالته " تنبيه الرقود " وفي حاشيته على الدرّ المختار ، واعتماداً على النصوص التي نقلها المصنف حيث إنني قد رجعت إليها في مصادرها التي وقفت عليها.
وما لم يكن في النسخة أثبته بين قوسين معكوفين هكذا [ ].
5. وضعت عناوين لموضوعات الرسالة وقد جعلتها بين قوسين معكوفين وبخط مغاير لخط الرسالة .
6. أشرت في الهامش إلى نهاية كل ورقة من النسخة المخطوطة وأثبت ذلك في المتن بوضع نجمة هكذا * .
7. علَّقت على المسائل التي ذكرها المصنف بما يقتضيه المقام وذكرت مجموعة من المصادر للمسائل التي ذكرها المصنف .
8. شرحت الكلمات الغامضة .
9. ترجمت للأعلام الذين ذكرهم المصنف ترجمة موجزة وذكرت مصادر الترجمة وذلك في الهامش .
10. عرفت بالكتب التي ذكرها المصنف .
11. وضعت صورة للنسخة المخطوطة .
12. وضعت فهارس للرسالة وهي :
أ. فهرس الأعلام الذين ورد ذكرهم في نص الرسالة .
ب. فهرس الكتب التي وردت في نص الرسالة.
ج. فهرس النقود التي وردت في نص الرسالة .
د. فهرس مصادر ومراجع الدراسة والتحقيق .
هـ . فهرس المحتويات .
كتبه المحقق : د. حسام الدين بن موسى عفانه
القسم الثاني
نص الرسالة محققاً ومعلقاً عليه
رسالة
بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود
تأليف
شيخ الإسلام بركة الأنام عمدة العلماء الأعلام
محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي الحنفي
المتوفى سنة 1004 هـ
قدَّم لها وحققها وعلَّق عليها
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
يا فتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
الحمد الله الذي أتم لنا نعماناً (1)، وجعل مقلدنا الأعظم نعماناً (2)، وجعل أصله ثابتاً ، وفضله مقرراً ، سراً وإعلاناً ، وجعل من مقلديه علماء نبلاء أعلاماً ، ورقّاهم المنازل السنية وصيرهم أعلاماً .
والصلاة والسلام على المبعوث بالرسالة ، المنعوت بالبسالة (3)، وعلى آله السادة القادة الأعلام ، وسائر علماء الإسلام على الدوام .
وبعد …
[ ذكر سبب تأليف الرسالة ]
فيقول الفقير إلى مولاه ، محمد بن عبد الله ، إنه لمّا كثر الاستفتاء عن مسألة كثيرة الوقوع في زماننا ، وهي أن التجار بالديار الشامية وقع منهم معاملات شرعية ومعاوضات مرضية بالشواهي (4) والشرفيات (5)
__________
(1) نعمانا : مأخوذة من النعيم والنعمة ، وقد جعل المصنف بين قوله :[ أتم لنا نعماناً ] وقوله :[ وجعل مقلدنا الأعظم نعماناً ] جناساً تاماً وهو من المحسنات البديعية ، انظر لسان العرب 14/207 ، تاج العروس 17/690 .
(2) هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام الأئمة وسراج الأمة صاحب المذهب الحنفي ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150 هـ وله ذكر حافل في المراجع التاريخية تصعب الإحاطة به ، انظر ترجمته في الجواهر المضية 1/49 فما بعدها ، الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ص 183 فما بعدها ، تهذيب الأسماء واللغات 2/216-223 ، أبو حنيفة لمحمد أبي زهرة .
(3) البسالة : الشجاعة ، وقد ثبت في الحديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالبسالة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة = = عري في عنقه السيف وهو يقول : لم تراعوا لم تراعوا ) رواه مسلم ، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5/463-464 ، وانظر المصباح المنير ص 49 .
(4) الشواهي جمع شاهي وهو عملة تركية مماثلة للشاهي الإيراني وتبلغ قيمة الشاهي الواحد عشر أقجات ، انظر ميزانيات الشام في القرن السادس عشر ، د. خليل ساحلي ، ص 505 ، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام المنعقد في الجامعة الأردنية سنة 1974م ، الدار المتحدة للنشر والتوزيع ، النقود العربية ص 117، الموسوعة العربية الميسرة 2/1071 ، دائرة المعارف الإسلامية 13/ 142.
(5) لم أعثر علي أية معلومات تتعلق بالشرفيات فيما رجعت إليه من المصادر وسؤال أهل الاختصاص ، وتحدثت المصادر التي رجعت إليها عن الدينار الأشرفي والدينار الشريفي وهو أول دينار ضرب في القدس وهما منسوبان للأشرف برسباي أو للأشرف خليل بن قلاوون وهما من سلاطين المماليك ، انظر القدس في العصر المملوكي ص 228 ،دائرة المعارف الإسلامية 2/ 216 ، النقود العربية الفلسطينية ص208 ، 212 .(/14)
، حيث كانت رائجة بشيء معين ثم كسد بعضها ، وتغير سعر بعضها بالنقص (1) …
بموجب أمر الإمام الأعظم والخاقان الأفخم (2)، واختلف فتوى علماء العصر في ذلك فمنهم من أخذ بقول الإمام (3) وأفتى بوجوب مثل المقبوض .
ومنهم من أفتى بقول أبي يوسف (4)، وأفتى برد قيمته يوم القبض من الذهب ، لما فيه من الرفق والنفع ، إذ سيما في الأموال الموقوفة ببيت المقدس وغيرها ، وتصريحهم بوجوب الإفتاء بما فيه النفع لجهة الوقف .
أردت تحرير المذهب (5) في هذه الرسالة ليكون عوناً للقضاة والحكام ، على الوقوف على حكم شرعي مبين الأحكام ، وها أنا أشرع في المقصود ، مستمداً من الملك المعبود فأقول :
[ الكساد العام للنقود ]
إعلم أنه إذا اشترى بالدراهم (6) التي غلب غشها ، أو بالفلوس (7) وكان كل منهما نافقاً حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية ، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن ، ولم يسلمها المشتري للبائع ، ثم كسدت بطل البيع (8) .
والانقطاع (9) عن أيدي الناس [ كالكساد ](10) ، وحكم الدراهم كذلك ، فإن اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع ، ويجب على المشتري ردّ المبيع إن كان قائماً (11).
ومثله إن كان هالكاً وكان مثلياً ، وإلا فقيمته (12).
وإن لم يكن مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً ، وهذا عند الإمام الأعظم (13).
وقالا (14) لا يبطل (15) البيع …
__________
(1) حدث في عصر السلطان العثماني مراد الثالث الذي حكم في الفترة ما بين السنوات 982-1003 هـ أزمات اقتصادية أدت إلى تخفيض قيمة الأقجة إلى النصف وكذلك البارة أمام قيمة الذهب الأجنبي مما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة ، انظر النقود العربية الفلسطينية ص 227 .
(2) الإمام الأعظم والخاقان الأفخم لقب يطلق على سلاطين آل عثمان والمقصود هنا كما يغلب على ظني هو السلطان مراد خان بن سليم خان الذي ولي الخلافة سنة 982 هـ واستمر فيها إلى وفاته سنة 1003 هـ ، انظر تاريخ سلاطين آل عثمان ص 83 ، تاريخ الدولة العلية العثمانية ص 113 .
(3) المراد به إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان .
(4) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري ، صاحب أبي حنيفة الأول المتوفى سنة 182 هـ كان صاحب حديث وفقه لزم أبا حنيفة وولي قضاء بغداد وله عدة كتب منها الخراج والأمالي والنوادر والآثار ، انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/611 ، الفوائد البهية ص 372 ،سير أعلام النبلاء 8/470 ، شذرات الذهب 1/298 ، الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ص 329.
(5) المقصود هو المذهب الحنفي .
(6) الدراهم جمع درهم وهو اسم للمضروب من الفضة وهو معرّب وكانت الدراهم مستعملة منذ عهد بعيد كأحد نوعي العملة والنوع الآخر هو الدنانير الذهبية ، والدراهم الإسلامية على أنواع منها الدرهم البغلي والدرهم الخوارزمي والدرهم الطبري وأوزانها بينها بعض الاختلاف ، ومن الدراهم ما يكون مغشوشاً وغشه غالب ومنها غشه غير غالب والأول هو المقصود في هذه الرسالة كما بينت في الدراسة ، انظر تفصيل ذلك في الأموال ص 629-631 ، الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان ص 60-62 ، المصباح المنير ص 193 ، قاعدة المثلي والقيمي ص 152-153 ، النقود الإئتمانية ص 62.
(7) الفلوس جمع فلس وهي لفظة يونانية لاتينية الأصل يقال أفلس الرجل أي اصبح ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم والفلوس نقود تصنع من المعادن الخسيسة كالنحاس وتستعمل في شراء الأشياء البسيطة وقد عرفت من قديم الزمان ، انظر تاج العروس 8/402 ، أثر انهيار قيمة الأوراق النقدية على المهور ص 33 ، قاعدة المثلي والقيمي ص 154-157 ، الموسوعة الفقهية الكويتية 32/204 ، النقود الإئتمانية ص 59.
(8) ليس المراد هنا بطلان البيع على حقيقته بل المراد بالبطلان الفساد ، انظر الفتاوى الهندية 3/225 ، تنبيه الرقود 2/56 ، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4/142 .
(9) الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان موجوداً في يد الصيارفة والبيوت ، انظر تبيين الحقائق 4/143 ، البحر الرائق 6/201 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
(10) في النسخة ( كالكاسد ) وما أثبته من تنبيه الرقود . والكساد أن تترك المعاملة بالنقد في جميع البلاد ، تبيين الحقائق 4/143 ، البحر الرائق 6/201 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
(11) بشرط أن لا يتغير المبيع .
(12) فرَّق أبو حنيفة في هذه المسألة بين البيع والإجارة من جهة وبين القرض من جهة أخرى ، ففي البيع والإجارة قال كما ذكر المصنف ، وأما في القرض فقول أبي حنيفة بردّ المثل ولا عبرة للكساد ، انظر شرح فتح القدير 6/276 ، البحر الرائق 6/201 ، تنبيه الرقود 2/56 .
(13) انظر المبسوط 14/28-29 ، الهداية مع شرح فتح القدير 6/276 ، تبيين الحقائق 4/142 ، حاشية ابن عابدين 4/533 ، الاختيار 2/41 ، ملتقى الأبحر 2/54 .
(14) أي الصاحبان أبو يوسف ومحمد وانظر قولهما في المصادر المذكورة في الهامش السابق .
(15) نهاية الورقة 189/أ .(/15)
لأن المتعذر [ إنما ] (1) هو التسليم بعد الكساد ، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج ، كما لو اشترى شيئاً بالرطب (2) ثم انقطع .
وإذا لم يبطل [ وتعذر ] (3) تسليمه وجبت قيمته ، لكن عند أبي يوسف يوم البيع (4)
وعند محمد (5) يوم الكساد (6)، وهو آخر ما يتعامل الناس بها .
وفي الذخيرة (7): والفتوى على قول أبي يوسف (8).
وفي المحيط (9) والتتمة (10)
والحقائق (11): بقول محمد يفتى رفقاً بالناس (12).
ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح (13)، فتبطل لزوال الموجب ، فيبقى البيع بلا ثمن ، والعقد إنما تناول عينها بصفة الثمنية ، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب ، فإنه يعود غالباً في العام القابل بخلاف النحاس ، فإنه بالكساد رجع إلى أصله وكان الغالب عدم العود (14).
__________
(1) ما بين المعكوفين ليس في النسخة وما أثبته من البحر الرائق حيث نقل المصنف كلام شيخه وهي في تنبيه الرقود حيث نقلها ابن عابدين عن المصنف .
(2) الرطب ثمر النخيل قبل أن يصير تمراً وهو نضيج البسر قبل أن يتمر ، وأول التمر طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر ،انظر لسان العرب 1/478،5/237 ، تاج العروس 2/24.
(3) ما بين المعقوفين ليس في النسخة وما أثبته من البحر الرائق حيث نقل المصنف كلام شيخه وهي في تنبيه الرقود حيث نقلها ابن عابدين عن المصنف .
(4) أي في اليوم الذي فيه تعلق الحق بالذمة ، وهو قول الحنابلة على الراجح عندهم وقول للمالكية ، انظر كشاف القناع 3/301 ، شرح منتهى الإرادات 2/26 ، حاشية الرهوني 5/120.
(5) هو محمد بن الحسن الشيباني الصاحب الثاني للإمام أبي حنيفة ، أصولي فقيه محدث ، له فضل كبير في نشر مذهب أبي حنيفة ، صاحب المؤلفات المعتبرة كالمبسوط والجامع الكبير والجامع الصغير والسير الكبير والسير الصغير والزيادات ، وهذه الكتب الستة معروفة بكتب ظاهر الرواية وله كتب غيرها ، توفي سنة 187هـ ، انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/122 ، الفوائد البهية ص 268 ، الانتقاء ص 337 .
(6) أي في آخر يوم تعامل الناس فيه بالنقد ثم كسد بعده وبه قال بعض الحنابلة ، انظر الشرح الكبير 4/358 . وفي المسألة قول رابع وهو للشافعية والمالكية على المشهور عندهم وبه قال =
= الليث ابن سعد وهو أنه إذا كسد النقد بعد ثبوته في الذمة فعلى المدين أن يؤدي ما قبض ، انظر المجموع 9/282 ، شرح الخرشي 5/55 ، المعيار المعرب 6/461 ، بلغة السالك 2/23 .
(7) الذخيرة وتعرف بذخيرة الفتاوى والذخيرة البرهانية للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازة البخاري المتوفى 616 هـ ، اختصرها من كتابه المشهور المحيط البرهاني ، انظر كشف الظنون 1/621 ، الجواهر المضية 1/130-131 ، الفوائد البهية ص 336
(8) انظر البحر الرائق 6/219 ، تنبيه الرقود 2/56-57 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
(9) المحيط يطلق على كتابين عند الحنفية : أولهما المحيط البرهاني للإمام برهان الدين محمود بن أحمد صاحب كتاب الذخيرة المذكور سابقاً ، وقد جمع فيه مسائل المبسوط والجامعين والسير والزيادات وألحق به مسائل النوادر والفتاوى والواقعات وهو كتاب معتبر عند الحنفية وإذا أطلق المحيط في كتب الحنفية فالأرجح أنه ينصرف إليه .
وثانيهما محيط السرخسي وهو شمس الأئمة محمد بن أحمد بن سهل المتوفى سنة 483 هـ ، انظر كشف الظنون 2/511 ، الفوائد البهية ص 336 .
(10) التتمة : تتمة الفتاوى لبرهان الدين المذكور في الهامش السابق وقد ذكر حاجي خليفة عنه
أنه قال :[ هذا كتاب جمع فيه الصدر الشهيد حسام الدين ما وقع إليه من الحوادث والواقعات وضم إليه ما في الكتب من المشكلات واختار في كل مسألة فيها روايات مختلفة وأقاويل متباينة ما هو أشبه بالأصول غير أنه لم يرتب المسائل … ثم إن العبد الراجي محمود بن أحمد ابن عبد العزيز زاد على كل جنس ما يجانسه وذيل على كل نوع ما يضاهيه ] كشف الظنون 1/298 ، وانظر الفوائد البهية ص 337 .
(11) الحقائق لمحمود بن محمد بن داود اللؤلؤي الإفشنجي البخاري المتوفى 671 هـ وهو شرح على منظومة النسفي في الخلاف سماه حقائق المنظومة وهو شرح مرغوب بديع الأسلوب تداولته العلماء ، انظر كشف الظنون 2/695 ، الفوائد البيهة ص 345 .
(12) البحر الرائق 6/219 ، تنبيه الرقود 2/56-57 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
(13) أي أن ثمنية الفلوس والدراهم المغشوشة ثابتة باصطلاح الناس عليها لا بأصل الخلقة كما هو الحال في الذهب والفضة فإذا بطل الاصطلاح بطلت الثمنية ، انظر شرح فتح القدير 6/277 ، تبيين الحقائق 4/142 .
(14) انظر المصدرين المذكورين في الهامش السابق .(/16)
والكساد لغة كما في المصباح (1) من كسد الشيء يكسد من باب قتل ، لم ينفق لقلة الرغبات فهو كاسد وكسيد …
[ يتعدى ](2) بالهمزة فيقال أكسده الله [ وكسدت السوق فهي كاسد بغير هاء في الصحاح (3) ](4) وبالهاء في التهذيب (5)، ويقال : أصل الكساد الفساد انتهى (6).
[ الكساد الجزئي للنقود ]
وعند الفقهاء أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد (7)، فإن كانت
تروج في بعض البلاد (8)، لا يبطل [ لكنه ](9) [ تعيب ](10) إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته (11) .
[ انقطاع النقود ]
وحدُّ الانقطاع أن لا يوجد في السوق ، وإن كان [ يوجد ](12) في يد الصيارفة وفي البيوت (13)، هكذا في الهداية (14).
والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب (15).
__________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي تأليف الإمام أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفى سنة 770 هـ ذكر في مقدمته أنه جمع كتاباً في غريب شرح الوجيز للإمام الرافعي ثم اختصره ليسهل تناوله وسماه المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، والشرح الكبير للإمام
الرافعي شرح به الوجيز في الفقه الشافعي لحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ، انظر مقدمة المصباح المنير للمؤلف ، كشف الظنون 2/579 .
(2) في النسخة ( يتعدى ) وما أثبته من المصباح المنير.
(3) الصحاح في اللغة لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى 393 هـ ، أودع فيه ما صح عنده من اللغة العربية وهو من أهم المعاجم العربية ولقي عناية كبيرة من العلماء ، انظر مقدمة الصحاح 1/33 ، كشف الظنون 1/95 .
(4) ما بين المعكوفين ليس في النسخة وإنما هو في المصباح المنير وفي تنبيه الرقود . وانظر مادة كسد في الصحاح 2/531 .
(5) تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي المتوفى 370 هـ وهو كتاب كبير من الكتب المختارة في اللغة ، انظر كشف الظنون 1/414 .
(6) من قول المصنف أنه :[ إذا اشترى إلى قوله الفساد ] منقول بحروفه من البحر الرائق 6/201 وانظر المصباح المنير ص 533 .
(7) سبق تعريف الكساد ص 75.
(8) إذا كانت النقود تروج في بعض البلاد دون بعض فهو الكساد الجزئي ، انظر البحر الرائق 6/201 ، تنبيه الرقود 2/57 .
(9) في النسخة [ لكن ] وما أثبته من البحر الرائق وتنبيه الرقود .
(10) في النسخة [ يتعين ] وما أثبته من البحر الرائق ، وفي تنبيه الرقود [ يتعيب ] ، وفي حاشية ابن عابدين [ تتعيب ].
(11) نص ابن عابدين على حالة الكساد الجزئي فقال :[ وفي عيون المسائل عد الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى المبيع بلا ثمن فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع ، لأنه لا يهلك ولكنه تعيب ، وكان للبائع الخيار إن شاء قال أعطني مثل الذي وقع عليه البيع ، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير ، انتهى وتمامه فيها ، وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية ] تنبيه الرقود 1/57 .
(12) في النسخة [ وجد ] وما أثبته من البحر الرائق وتنبيه الرقود .
(13) انظر تبيين الحقائق 4/143 ، تنبيه الرقود 2/58 ، شرح الخرشي 5/55 .
(14) من قول المصنف :[ وعند الفقهاء … الهداية ] منقول من البحر الرائق 6/201 ، وكتاب الهداية لأبي الحسن علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى سنة 593 هـ ، وهو شرح على كتابه بداية المبتدي ، وهو من الكتب المعتمدة عند الحنفية وقد لقي عناية فائقة منهم ، فمنهم =
= من شرحه ومنهم من خرج أحاديثه ومنهم من اختصره ومنهم من نظمه شعراً وقد بلغت الأعمال العلمية عليه أكثر من ستين عملاً ومن أشهر شروحه شرح فتح القدير لابن الهمام ، انظر كشف الظنون 2/816 فما بعدها ، الجواهر المضية 2/627 ، الفوائد البهية ص 230 ، فما بعدها
(15) أي أن في المسألة ثلاثة أقوال للحنفية :
قول أبي حنيفة أن البيع يفسد .
وقول أبي يوسف أن البيع لا يفسد وتجب القيمة يوم العقد .
وقول محمد أن البيع لا يفسد وتجب القيمة يوم الانقطاع وهو قول الحنابلة .
وفي المسألة قول رابع للشافعية والمالكية أن البيع صحيح ويجب مثل النقد الذي انعقد البيع عليه إن أمكن وإن تعذر فتجب القيمة ، انظر تبيين الحقائق 2/142، تنبيه الرقود 2/58-60 ، الفتاوى الهندية 3/225 ، المغني 4/244 ، بلغة السالك 2/23 ، شرح الخرشي 5/55 ، الشرح الكبير 4/358 .(/17)
لكن قال في المضمرات (1): فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته [ في ](2) آخر يوم انقطع ، هو المختار (3).
ثم قال في الذخيرة :[ الانقطاع أن لا يوجد في السوق ، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت ، وقيل إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصحّ ] انتهى (4). هذا إذا كسدت أو انقطعت .
[ غلاء النقود ورخصها ]
أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت ، فالبيع على حاله ، ولا يتخير المشتري ، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع ، كذا في فتح القدير (5).
وفي البزازية (6) معزياً إلى المنتقى (7) :[ غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً (8) ليس عليه غيرها .
وقال الثاني ثانياً (9) : عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض ، وعليه الفتوى ] (10).
__________
(1) ويسمى جامع المضمرات والمشكلات ليوسف بن عمر بن يوسف الصوفي الكادروي المعروف بنبيرة عمر بزار المتوفى سنة 832 هـ وهو شرح على مختصر القدوري في فروع الحنفية وهو جامع للتفاريع الكثيرة حاوٍ على المسائل الغزيرة ، انظر كشف الظنون 2/522 ، الفوائد البهية ص 380 .
(2) في النسخة [ إلى ] وما أثبته من تنبيه الرقود وحاشية ابن عابدين على البحر الرائق .
(3) وهو قول محمد بن الحسن وهو المعتمد عند الحنفية ، انظر شرح فتح القدير 6/277 ، تنبيه الرقود 2/58 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
(4) عبارة صاحب الذخيرة وردت في النسخة كما يلي :[ الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصحّ ] وما أثبته من تنبيه الرقود حيث نقله ابن عابدين ثم قال : هذه عبارة الغزّي في رسالته ] تنبيه الرقود 2/58 .
(5) انظر فتح القدير 6/277 ، أي أن الواجب النقد الثابت في الذمة ولا ينظر إلى الغلاء أو الرخص ، وهذا قول أبي حنيفة وبه كان يقول أبو يوسف أولاً ثم رجع عنه إلى القول بالقيمة كما ذكر المصنف ، وهذا قول جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة والمالكية في المشهور عندهم ، انظر المبسوط 14/ 29 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/45 ، المعيار المعرب 6/462 ، الحاوي الكبير 1/97 ، تنبيه الرقود 2/58 ، الإنصاف 5/128 ، حاشية ابن عابدين 4/533 .
وفتح القدير لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام المتوفى 861 هـ وسماه فتح القدير للعاجز الفقير وهو شرح على الهداية لأبي بكر المرغيناني انتهى فيه إلى كتاب الوكالة وأتمه شمس الدين أحمد بن قودر المعروف بقاضي زاده المتوفى سنة 988 هـ وسمى تكملته نتائج الأفكار ، انظر كشف الظنون 2/818 ، الفوائد البهية ص 296-297 .
(6) البزازية هي الفتاوى البزازية لمحمد بن محمد الكردري المتوفى سنة 780 هـ وقد اشتملت فتاواه على مسائل يحتاج إليها مما يعتمد عليها وقيل لأبي السعود المفتي : لمَ لا تجمع الفتاوي المهمة ولمَ تؤلف فيها كتاباً ؟ قال : أستحي من صاحب البزازية مع وجود كتابه . كشف الظنون 2/217 ، وانظر الفوائد البهية ص 309 ، الأعلام 7/45 ، معجم المؤلفين 3/640 .
(7) المنتقى في فروع الحنفية للحاكم الشهيد أبي الفضل محمد بن محمد بن أحمد المقتول شهيداً سنة 334 هـ وقد جمع في المنتقى خلاصة ما جمعه من ثلاثمئة جزء مثل الأمالي والنوادر ويعدّ المنتقى أصلاً من أصول المذهب الحنفي ، انظر كشف الظنون 2/683 ، الجواهر المضية 4/590 ، الفوائد البهية ص 305 .
(8) أي عند أبي حنيفة وهو الإمام الأول وعند أبي يوسف وهو الإمام الثاني في قوله الأول في هذه المسألة .
(9) أي عند أبي يوسف في قوله الثاني . قال ابن عابدين :[ وفي المنتقى إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت ، قال أبو يوسف قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض ] تنبيه الرقود 2/58 .
وفي المسألة قول ثالث وهو إن كان التغير فاحشاً فالواجب ردُّ القيمة ، وإن كان التغير قليلاً فالواجب ردُّ المثل وهو لبعض المالكية على خلاف المشهور عندهم ، حاشية الرهوني والمدني على شرح الزرقاني 5/118 .
(10) الفتاوى البزازية 4/510 مطبوع بهامش الفتاوى الهندية .(/18)
وهكذا في الذخيرة والخلاصة (1) بالعزو إلى المنتقى وقد نقله شيخنا (2) في بحره (3) وأقره .
[ الفتوى على قول أبي يوسف في لزوم القيمة ]
فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات (4)، فيجب أن يعوّل عليه إفتاءً وقضاءً ، لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح (5) من مذهب إمامهما ومقلدهما .
ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله ، لأنه مرجوح بالنسبة إليه (6).
وفي فتاوى قاضي خان (7): يلزمه المثل (8).
وهكذا ذكر الإسبيجابي (9) قال : ولا ينظر إلى القيمة (10).
وفي البزازية : والإجارة كالبيع والدين على هذا . وفي النكاح يلزمه قيمة تلك الدراهم (11).
وفي مجمع الفتاوى (12) معزياً إلى المحيط رخص العَدالِى (13)، قال الشيخ الإمام الأجلُّ الأستاذ (14) : لا يعتبر هذا ويطالبه بما وقع العقد عليه ، والدَين على هذا ، فلو كان يروج لكن انتقص قيمتها (15) لا يفسد ، وليس له إلا ذلك وبه يفتي الإمام .
__________
(1) الخلاصة هو خلاصة الفتاوى لطاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري المتوفى سنة 542 هـ ولخصه من الواقعات والخزانة وهو كتاب معتبر عند العلماء ومعتمد عند الفقهاء ، انظر الفوائد البهية ص 146 ، كشف الظنون 1/551 ، الجواهر المضية 2/276 .
(2) شيخ المصنف هو العلامة المدقق زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي المتوفى 970 هـ وقد تقدمت ترجمته عند ذكر شيوخ المصنف في الدراسة .
(3) هو البحر الرائق شرح كنز الدقائق لشيخ المصنف ابن نجيم وهو من الكتب المعتمدة في مذهب الحنفية ويعتبر من أحسن شروح كنز الدقائق للنسفي ، انظر كشف الظنون 2/434 ، التعليقات السنية على الفوائد البهية ص 221 .
(4) ممن ذكر أن الفتوى على قول أبي يوسف في هذه المسألة ابن عابدين في تنبيه الرقود 2/58 وفي الحاشية 4/533-534 بالإضافة للمصادر التي ذكرها المصنف .
(5) الراجح مأخوذ من الرجحان وهو الترجيح والمقصود به اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر ، وهذا التعريف للشافعية .
وقال الحنفية : الترجيح هو إظهار قوة لأحد الدليلين المتعارضين لو انفردت عنه لا تكون حجة مستقلة . فالراجح هو ما ظهر فيه فضل على معادله وهو المرجوح .انظر تفصيل الكلام على =
= ذلك في المحصول ق2ج2/529 ، فواتح الرحموت 2/204 ، شرح الكوكب المنير 4/618 ، فتح الغفار 3/52 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/361 ، التعارض والترجيح 1/76 فما بعدها .
(6) انظر حاشية ابن عابدين 5/361،408 ، الدر المختار 5/361 ، رسم المفتي 1/52 .
(7) قاضي خان : هو حسن بن منصور بن محمود فخر الدين قاضي خان الأوزجندي الفرغاني كان إماماً كبيراً وبحراً عميقاً غواصاً في المعاني الدقيقة مجتهداً ، توفي سنة 592 هـ ، له الفتاوى المعروفة بفتاوى قاضي خان أو الفتاوى الخانية وهي مشهورة مقبولة معمول بها متداولة بين أيدي العلماء والفقهاء وله شرح أدب القاضي للخصاف ، وشرح الزيادات والجامع الصغير لمحمد بن الحسن ، انظر كشف الظنون 2/218 ، الجواهر المضية 2/93 ، الفوائد البهية ص 111 .
(8) الفتاوى الخانية 2/253 .
(9) الإسبيجابي : هو أحمد بن منصور القاضي أبو نصر الإسبيجابي ، المتوفى سنة 480 هـ ، كان إماماً في الفقه له شرح مختصر الطحاوي وشرح على كتاب الصدر بن مازة ، وشرح الكافي وله فتاوى ، انظر الجواهر المضية 1/335 ، الفوائد البهية ص 75 ، معجم المؤلفين 1/311 .
(10) قول المصنف :[ وفي فتاوى قاضي خان … القيمة ] منقول عن البحر الرائق 6/202 .
(11) الفتاوى البزازية 4/510 .
(12) مجمع الفتاوى لأحمد بن محمد بن أبي بكر الحنفي ، ثم اختصره وسماه خزانة الفتاوى ، وذكر حاجي خليفة أنه جمع فيه عدداً من كتب الفتاوى عند الحنفية ، انظر كشف الظنون 2/499 .
(13) العَدالِى بفتح العين وتخفيف الدال وكسر اللام : الدراهم المنسوبة إلى العدال وكأنه اسم ملك ينسب إليه درهم فيه غشّ ،البحر الرائق 6/200 ، تنبيه الرقود 2/59 ، النقود العربية ص 179
(14) قال اللكنوي في ترجمة علي بن عبد العزيز ظهير الدين الكبير المرغيناني ما نصه :[ وقد رأيت في الفتاوى الظهيرية أن صاحبها كثيراً ما ينقل المسائل والفوائد عن ظهير الدين المرغيناني ويصفه بالشيخ الإمام الأستاذ الأجلّ ، ومن المعلوم أن الظهير المرغيناني لقب لصاحب الترجمة
عليّ ، ولابنه الحسن ، ويفرق بينهما بتوصيف الأول بالظهير الكبير ] الفوائد البهية ص 206 وبناءً على كلام اللكنوي فإن المقصود بما ذكره المصنف نقلاً عن المحيط :[ قال الشيخ الإمام الأجلّ الأستاذ ] يقصد به أحد الإثنين علي بن عبد العزيز المرغيناني أو ابنه الحسن بن علي المرغيناني ، انظر ترجمة الأولّ في الفوائد البهية ص 204 ، الجواهر المضية 2/576 ، وترجمة الثاني في الفوائد البهية ص 107 ، الجواهر المضية 2/74 .
(15) في تنبيه الرقود [ قيمته ].(/19)
وفتوى الإمام قاضي ظهير [ الدين ](1) على أنه يطالب (2) بالدراهم التي يوم البيع ، يعني بذلك العيار ولا يرجع عليه بالتفاوت ، والدَين على هذا ، والانقطاع والكساد سواء انتهى .
فإن قلت يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله : ولو غلت أو رخصت فعليه ردّ المثل بالاتفاق انتهى .
قلت : لا يشكل لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام ، ثم رجع عنه ، وقال ثانياً الواجب عليه قيمتها ، كما نقلناه فيما سبق عن
[ البزازية ](3) وصاحب الخلاصة (4) والذخيرة ، فحكاية الاتفاق بناءً على موافقته للإمام أولاً كما لا يخفى والله أعلم .
وقد تتبعت كثيراً من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة ، فلم أرَ من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، بل قالوا به كان
يفتي الإمام القاضي(5).
وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات ، فليكن المعوّل عليه .
[ العمل عند اختلاف أقوال أئمة المذهب الحنفي ]
قال في التتارخانية (6): اعلم أن اختلاف أئمة الهدى توسعة على الناس ، فإذا كان الإمام في جانب وهما في جانب خُيِّر المفتي (7).
وإن كان أحدهما مع الإمام أخذ بقولهما ، إلا إذا اصطلح المشايخ على قول الآخر ، فيتبعهم (8) كما [ اختار ](9) الفقيه
أبو الليث (10) قول زفر (11) في مسائل (12).
وإن اختلف المتأخرون أخذ بقول واحد ، فلو لم يوجد من المتأخرين يجتهد برأيه ، إذا كان يعرف وجوه الفقه ويشاور أهله (13).
ولا يجوز له الإفتاء بالقول المهجور لجرّ منفعة ولا خرّجوا عليه ديناً انتهى.
وفي الحاوي القدسي (14): إن الإمام إذا كان في جانب وهما في جانب ، فالأصح أن الاعتبار لقوة المدرك (15) انتهى .
__________
(1) ليست في النسخة وأثبتها من تنبيه الرقود ، والإمام قاضي ظهير الدين هو أحد المذكورين في الهامش رقم 3 من الصفحة السلبقة .
(2) نهاية الورقة 189/ب .
(3) في النسخة [ البزازي ] وما أثبته من تنبيه الرقود .
(4) صاحب الخلاصة : هو طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري المتوفى سنة 542 هـ فقيه حنفي مجتهد له خلاصة الفتاوى ، خزانة الواقعات ، ونصاب الفقه انظر كشف الظنون 1/551 ، الجواهر المضية 2/276 ، الفوائد البهية ص 146 معجم المؤلفين 2/9 .
(5) في تنبيه الرقود [ القاضي الإمام ] والمراد به أبو يوسف .
(6) التتارخانية : هو كتاب الفتاوى التتارخانية ، وهو من كتب الفتاوى المعتمدة عند الحنفية واسم الكتاب زاد المسافر في الفروع لعالم بن علاء الحنفي ، المتوفى سنة 800 هـ ، وقد جمع فيه مسائل المحيط البرهاني ، والذخيرة والخانية والظهيرية ، انظر كشف الظنون 1/253،2/4 ، هدية العارفين 1/357 ، معجم المؤلفين 2/26 ، المذهب عند الحنفية ص 99 .
(7) ومعنى قوله [ خيّر المفتي ] أن المفتي ينظر في الدليل فيفتي بما يظهر له ولا يتعين عليه الأخذ بقول الإمام كذا قال ابن عابدين في رسم المفتي 1/26 ، وانظر فتاوى قاضي خان 1/3 ، الفتاوى البزازية 5/134 ، الدرّ المختار 1/71 ، 5/360 ، حاشية ابن عابدين 1/71 ، 5/360 .
(8) انظر المصادر المذكورة في الهامش السابق .
(9) في النسخة ( قال ) وهو خطأ وما أثبته من رسم المفتي .
(10) أبو الليث : هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه أبو الليث المعروف بإمام الهدى ، له تفسير القرآن والنوازل والفتاوى ، وخزانة الفقه وبستان العارفين ، توفي سنة 393 هـ وقيل غير ذلك ، انظر سير أعلام النبلاء 16/322-323 ، الجواهر المضية 3/544 .
(11) هو زفر بن الهذيل بن قيس المصري صاحب أبي حنيفة وكان أقيس أصحابه ، وقد جمع بين العلم والعبادة وكان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي ، توفي سنة 158 هـ ، انظر سير أعلام النبلاء 8/35 ، الانتقاء ص 335 ، الجواهر المضية 2/207 ، الفوائد البهية ص 132 .
(12) ورد كلام صاحب التتارخانية في رسم المفتي 1/27 ، وانظر الفتاوى الهندية 3/312.
(13) ورد كلام صاحب التتارخانية :[ وإن اختلف … أهله ] في رسم المفتي 1/33 .
(14) الحاوي القدسي في الفروع لجمال الدين أحمد بن محمد بن نوح الغزنوي الحنفي ، المتوفى في حدود سنة 600 هـ ، وإنما قيل فيه القدسي لأنه صنفه في القدس ، وقد جعله على ثلاثة أقسام قسم في أصول الدين ، وقسم في أصول في الفقه ، وقسم في الفروع ، وأكثر فيه من ذكر الفروع المهمة ، انظر كشف الظنون 1/490 ، معجم المؤلفين 1/301 .
(15) قول صاحب الحاوي القدسي :[ والأصح أن الاعتبار لقوة المدرك ] هذا في حق المجتهد لأن اعتبار قوة الدليل شأن المفتي المجتهد فصار فيما إذا خالف الصاحبان الإمام ثلاثة أقوال : الأول اتباع قول الإمام بلا تخيير ، الثاني التخيير مطلقاً ، الثالث وهو الأصح التفصيل بين المجتهد وغيره وبه جزم قاضي خان ، انظر الفتاوى الهندية 3/310 ، رسم المفتي 1/26-27 ، =
= الدرّ المختار 1/70-71 ، حاشية ابن عابدين 1/70-71،5/360-361 ، المذهب عند الحنفية ص87.(/20)
ولا شك أن قول أبي يوسف قوي المدرك في واقعة الفتوى كما لا يخفى .
وفي التتارخانية أيضاً : ثم الفتوى على الإطلاق على قول أبي حنيفة ، ثم بقول أبي يوسف ، ثم بقول محمد بن الحسن ، ثم بقول زفر بن هذيل ، والحسن ابن زياد (1).
وقيل إذا كان أبو حنيفة في جانب وصاحباه في جانب فالمفتي بالخيار (2).
والأول أصح ، إذا لم يكن المفتي مجتهداً ، لأنه كان أعلم العلماء في زمانه ، حتى قال الشافعي (3) رضي الله عنه : الناس كلهم عيال أبي
حنيفة في الفقه (4) انتهى .
قلت : يعني إذا لم يصطلح المشايخ على تصحيح قول أبي يوسف أو قول محمد أو قول زفر ، يدل عليه أنهم جعلوا الفتوى على قول أبي يوسف ومحمد ، وعلى قول أحدهما في مواضع كثيرة ، وكذلك على قول زفر ، كما يعلم ذلك من طالع المطولات من كتب مشايخنا (5).
وفي بعض المعتبرات من تصانيف مشايخنا (6) أن الفتوى على قول أبي يوسف في المعاملات ، لأنه تولى القضاء ، وخبر أحوال الناس ومعاملاتهم (7)، لا سيما وقد جعلوا الفتوى على قوله في مسألتنا فيكون هو الراجح .
[ العمل بالراجح وترك المرجوح ]
والأخذ بالراجح واجب ، كيف لا والإمام الأعظم (8) قد شرط في مناشير الحكام ،
الحكم بالراجح وترك المرجوح (9)، فعليه لو حكم بالمرجوح لا ينفذ قضاؤه لأنه يصير معزولاً بالنسبة إلى القول الممنوع ، والحادثة الممنوع عنها فقد صرحوا بأن القضاء يتقيد ويتأقت مكاناً وزماناً وحادثة (10) .
قال فخر المتأخرين شيخ الإسلام عمدة الأنام الشيخ قاسم بن قطلوبغا (11) تلميذ المحقق الكمال (12)
__________
(1) هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي صاحب أبي حنيفة ، كان يقظاً فطناً فقيهاً نبيهاً ، له كتاب المجرد والأمالي وأدب القاضي والفرائض والنفقات ، توفي سنة 204 هـ ، انظر الجواهر المضية 2/56 ، الفوائد البهية ص 104 ، معجم المؤلفين 1/552 .
(2) انظر الفتاوى الهندية 3/310 ، رسم المفتي 1/26 ، الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين 1/71،5/360 ، المذهب عند الحنفية ص 87.
(3) هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي ثالث الأئمة الأربعة ، الأصولي الفقيه المجتهد المحدّث الأديب الشاعر ، فضائله أكثر من أن تحصى ، له الرسالة في أصول الفقه والأم في الفقه وأحكام القرآن واختلاف الحديث وغيرها ، توفي سنة 204 هـ ، انظر تهذيب الأسماء واللغات 1/44 ، سير أعلام النبلاء 10/5 ، طبقات الشافعية الكبرى ج1 ، الشافعي لأبي زهرة .
(4) انظر مناقب الشافعي 1/171 .
(5) انظر الفتاوى الهندية 3/310 ، الدر المختار 1/70-71 ، حاشية ابن عابدين 1/70-71 ، 5/361 .
(6) ورد في هامش النسخة :[ نسخة / أصحابنا ] وهذا يدل على أن هذه النسخة قد قوبلت على غيرها .
(7) انظر الفتاوى البزازية 5/ 134 ، رسم المفتي 1/35 ، حاشية ابن عابدين 1/71 ، 5/360 ، المذهب عند الحنفية ص 88.
(8) يقصد به الخليفة أو السلطان العثماني في زمانه .
(9) قال الحصكفي في الدر المختار :[ وحاصل ما ذكره الشيخ قاسم في تصحيحه … وأن الحكم والفتيا بالقول المرجوح جهل وخرق للإجماع … قلت - أي الحصكفي -: ولا سيما في زماننا فإن السلطان ينص في منشوره على نهيه عن القضاء بالأقوال الضعيفة ] الدرّ المختار 1/74-76 .
وقال ابن عابدين :[ المنشور ما كان غير مختوم من كتب السلطان ] حاشية ابن عابدين 1/76 .
(10) قال الكمال ابن الهمام [ الولاية تقبل التقييد والتعليق بالشرط كما إذا قال له إذا وصلت إلى بلدة كذا فأنت قاضيها ] شرح فتح القدير 5/358 ، وقال الحصكفي:[ القضاء مظهر لا مثبت ويتخصص بزمان ومكان وخصومة ] الدرّ المختار 5/419 ، وقال ابن عابدين :[ مطلب القضاء يقبل التقييد والتعليق ] حاشية ابن عابدين 5/419 .
(11) هو قاسم بن قطلوبغا بن عبد الله المعروف بقاسم المصري وقاسم الحنفي ، محدّث فقيه أصولي مؤرخ له مؤلفات كثيرة منها شرح قصيدة ابن فرح الإشبيلي في أصول الحديث ، شرح درر البحار في الفقه الحنفي ، شرح مصابيح السنة للبغوي ، تاج التراجم في طبقات فقهاء الحنفية وغيرها ، توفي سنة 879 هـ ، انظر الفوائد البهية ص 167 ، شذرات الذهب 7/326 ، الضوء اللامع 6/184 ، معجم المؤلفين 2/648 .
(12) نهاية 190/أ .(/21)
ابن الهمام (1)، قال أبو العباس أحمد بن إدريس (2) هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده ؟ كما يجب على المفتي أن لا يفتي إلا بالراجح عنده . أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحاً عنده .
جوابه : أن الحاكم إن كان مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم [ أو ](3) يفتي إلا بالراجح عنده .
وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه ، وأن يحكم به ، وإن لم يكن راجحاً عنده ، مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده في الفتوى .
وأما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعاً (4).
وأما الحكم والفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (5).
قال في كتاب أصول الأقضية (6) لليعمري (7) رحمه الله : من لم يقف على المشهور من الروايتين أو القولين ، فليس له التشهي والحكم بما يشاء منهما ، من غير نظر في الترجيح (8).
وقال الإمام أبو عمرو (9) …
في كتاب [ أدب ] (10) المفتي : إعلم أن من يكتفي بأن يكون [ في ] (11) فتياه أو عمله موافقاً لقولٍ أو وجه في المسألة ويعمل بما يشاء من الأقوال أو الوجوه ، من غير نظرٍ في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع .
وحكى الباجي (12) أنه وقعت له واقعة ، فأفتي فيها بما يضرّه فلما سألهم قالوا : ما علمنا أنها لك ، وأفتوه بالرواية التي توافق قصده .
قال الباجي : وهذا لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز (13).
قال في أصول الأقضية : ولا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر بالحكم والقاضي يلزم به (14).
[ العمل عند وجود قولين مصححين في المذهب ]
__________
(1) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد كمال الدين المعروف بابن الهمام السكندري السيواسي الحنفي الفقيه الأصولي ، له مؤلفات منها التحرير في أصول الفقه وشرح فتح القدير على الهداية وزاد الفقير والمسايرة ، توفي سنة 861 هـ ، انظر الفوائد البهية ص 296 ، شذرات الذهب 7/298 ، الضوء اللامع 8/127 ، معجم المؤلفين 3/469 .
(2) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي الفقيه المالكي الأصولي المفسّر له مؤلفات منها نفائس الأصول شرح المحصول والفروق والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام والذخيرة في الفقه وغيرها ، توفي سنة 684 هـ ، انظر شجرة النور الزكية ص 188 ، معجم المؤلفين 1/100 ، الأعلام 1/94.
(3) في النسخة [ وَ ] وما أثبته من الإحكام للقرافي .
(4) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي ص 92 .
(5) المصدر السابق ص 93 ، وقد نقل ابن عابدين كلام قاسم ابن قطلوبغا المتضمن لكلام القرافي في رسم المفتي 1/51 ، وانظر فتح العلي المالك 1/68 - 69.
(6) أصول الأقضية هو الكتاب المعروف بتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لبرهان الدين إبراهيم المعروف بابن فرحون اليعمري المالكي المترجم له في الهامش التالي ، انظر كشف الظنون 1/295 .
(7) هو برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المالكي فقيه قاضٍ ولي قضاء المدينة النبوية ، له مؤلفات منها شرح مختصر ابن الحاجب الفقهي ، تبصرة الحكام ، الديباج المذهب في أعيان المذهب ، توفي سنة 799 هـ ،انظر شجرة النور الزكية ص 222 ، الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة 1/48 ، معجم المؤلفين 1/48 .
(8) تبصرة الحكام 1/57 ، وقد نقل ابن عابدين كلام ابن فرحون في رسم المفتي 1/11 ، وانظر فتح العلي المالك 1/ 65.
(9) هو أبو عمرو بن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح ، محدّث فقيه أصولي مفسّر نحوي له مؤلفات كثيرة منها علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح أدب المفتي والمستفتي ، طبقات الشافعية ، معرفة المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال وغير ذلك توفي سنة 643 هـ ، انظر سير أعلام النبلاء 23/140 ، شذرات الذهب 5/221 ، كشف الظنون 1/101 ، معجم المؤلفين 2/361 .
(10) ما أثبته من تبصرة الحكام وفي النسخة [ آداب ] وهو الكتاب المعروف بأدب المفتي والمستفتي وهو مختصر نافع ، انظر كشف الظنون 1/101 .
(11) ليست في النسخة وما أثبته من أدب المفتي .
(12) هو سليمان بن خلف بن سعد أبو الوليد الباجي المالكي فقيه أصولي محدّث مفسّر شاعر أديب له مؤلفات كثيرة منها إحكام الفصول في أحكام الأصول ، الحدود في الأصول ، المنتقى شرح الموطأ الناسخ والمنسوخ وغيرها ، توفي سنة 474 هـ وقيل غير ذلك ، انظر شجرة النور الزكية ص 120 سير أعلام النبلاء 18/535 ، معجم المؤلفين 1/ 788 .
(13) انظر كلام أبي عمرو بن الصلاح وكلام الباجي في أدب المفتي ص 152 - 153 ضمن الموسوعة في آداب الفتوى وانظر تبصرة الحكام 1/57 ، فتح العلي المالك 1/65 ، الموافقات 4/ 139 - 140.
(14) تبصرة الحكام 1/58 ، وانظر الفروق 4/54 ،الإحكام للقرافي ص 31 ، إعلام الموقعين 1/36 ، رسم المفتي 1/11 ، الدرّ المختار مع حاشية ابن عابدين 1/74(/22)
فإن قلت : إذا كان في المسألة تصحيحان ، كيف يفعل المفتي والقاضي ؟
قلت : قد صرحوا في مثل هذا بأن المفتي مخيّر في الأخذ بأحدهما ، وممن صرّح بذلك صاحب البحر (1).
وقد صرّحوا به في مسألة وقف المشاع (2)، بأن فيه قولين ، قول محمد بعدم الصحة وصحح .
وقول أبي يوسف بالصحة وصحح ، فقالوا لو قضى القاضي بصحته جاز ونفذ ، لوقوعه موافقاً لما صحح من قول أبي يوسف (3).
ثم قال في الكنز (4):
ومشاع قضي بجوازه (5)، لأن القاضي إذا قضى
بقول مصحح نفذ قضاؤه وارتفع الخلاف (6).
وقضية هذا حيث وجدنا لقول أبي حنيفة من صححه أن المفتي مخيّر بين الإفتاء بقول أبي يوسف المصحح وبقوله (7).
لكن في مسألتنا لم نقف على من قال إن الفتوى على قوله ، وإنما قالوا كان يفتي به فلان .
[ ألفاظ الترجيح عند الحنفية ]
وقولهم الفتوى على قول أبي يوسف في كثير من المعتبرات ، أقوى وأصرح منه ، فقد صرح بعض المحققين (8) في بعض مصنفاته بأن لفظ الفتوى آكد من لفظ
هو الصحيح ونحوه (9) .
فإن ألفاظ الترجيح (10) على ما قالوا :
عليه الفتوى
به يفتى
عليه الاعتماد
وهو الصحيح
هو الأصح
هو الأشبه
هو المختار
يعوّل عليه
عليه المعوّل
به نأخذ
وهو المعتمد
هو الراجح
ونحو ذلك (11)
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تمت الرسالة بعون الله تعالى
الفهارس
فهرس الأعلام الواردة أسماؤهم في متن المخطوطة
فهرس الكتب الواردة في متن المخطوطة
فهرس النقود الواردة في متن المخطوطة
فهرس المصادر والمراجع
فهرس المحتويات
فهرس الأعلام الواردة أسماؤهم في متن المخطوطة
العلم ... الصفحة
أبو الليث ... 90
أبو عمرو بن الصلاح ... 95
أبو يوسف ... 73
ابن الهمام ... 94
الإسبيجاني ... 86
الإمام أبو حنيفة ... 71
الإمام الأعظم والخاقان الأفخم ... 73
الباجي ... 96
الحسن بن زياد ... 91
الشافعي ... 91
الشيخ الإمام الأجل الأستاذ ... 87
القرافي ... 94
اليعمري ... 95
زفر بن الهذيل ... 90
شيخنا في بحره ابن نجيم ... 85
صاحب الخلاصة ... 88
قاسم بن قطلوبغا ... 93
قاضي خان ... 86
قاضي ظهير الدين ... 88
محمد بن الحسن ... 77
فهرس الكتب الواردة في متن المخطوطة
الكتاب ... الصفحة
__________
(1) البحر الرائق 5/218 ، وانظر الدرّ المختار 1/71 ، حاشية ابن عابدين 1/71-72،4/363 .
(2) وقف المشاع هو وقف ما لم يقسم ، انظر شرح فتح القدير 5/425 ، حاشية ابن عابدين 4/362 .
(3) أجاز أبو يوسف وقف المشاع ، لأن القسمة من تمام القبض . وقال محمد لا يصحّ وقف المشاع لأن أصل القبض عنده شرط ، انظر تفصيل ذلك في شرح فتح القدير 5/425 ، تبيين الحقائق 3/327 ، البحر الرائق 5/212-213،218 ، حاشية ابن عابدين 4/ 348 ، 362 .
(4) يقصد كنز الدقائق في فروع الحنفية لأبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي المتوفى سنة 710 هـ ، لخص فيه كتاب الوافي له ، والكنز من أشهر المتون المعتبرة عند الحنفية واعتنى به العلماء ، وعليه شروح كثيرة منها تبيين الحقائق للزيلعي والبحر الرائق لابن نجيم ، انظر كشف الظنون 2/434 ، الجواهر المضية 2/294 ، الفوائد البهية ص 172 .
(5) كنز الدقائق مع شرحه تبيين الحقائق 3/327 .
(6) انظر حاشية ابن عابدين 4/ 362 ، رسم المفتي 1/ 38-39 .
(7) رسم المفتي 1/27-28 ، حاشية ابن عابدين 1/71-72 .
(8) لم أقف على المقصود جزماً وقد ذكر الحصكفي أن شيخه خير الدين الرملي قال في فتاويه :[ وبعض الألفاظ آكد من بعض فلفظ الفتوى آكد من لفظ الصحيح والأصح والأشبه وغيرها . ولفظ وبه يفتى آكد من الفتوى عليه ، والأصح آكد من الصحيح والأحوط آكد من الاحتياط ] الدر المختار 1/72-73 . وذكر ابن عابدين كلام الرملي السابق وأشار إلى أن ذلك مذكور في أول المضمرات ، انظر رسم المفتي 1/38 .والمقصود بالمضمرات كتاب جامع المضمرات والمشكلات ليوسف بن عمر بن يوسف الصوفي الكادوري المعروف بنبيرة عمر بزار ، المتوفى سنة =
= 832 هـ كما في كشف الظنون ، وذكر فيه [ وقد م فيه بيان العلامات المعلمة على الإفتاء ] كشف الظنون 2/522 ، وانظر أيضاً نفس المصدر 1/453،2/580 ، فلعل المقصود بقول المصنف
[ فصرح بعض المحققين ] هو الكادوري حيث إنه متقدم على المصنف كما أن المصنف قد استعمل كتاب المضمرات ونقل منه ، انظر ص 81 حيث عرفت بكتاب المضمرات .
(9) انظر ملتقى الأبحر 1/10 ، الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين 1/72-74 ، رسم المفتي 1/38 المذهب عند الحنفية ص 88-89 .
(10) وهي العلامات الاصطلاحية التي اصطلح عليها الحنفية في كتبهم يميزون بها القول المعتمد من غيره والقول الراجح من المرجوح ، انظر المذهب عند الحنفية ص 88 .
(11) فصَّل ابن عابدين الكلام على الفاظ الترجيح في رسالته رسم المفتي 1/38-39 ، وانظر الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/72-74 ، المذهب عند الحنفية ص 88-89 .(/23)
أدب المفتي ... 96
أصول الأقضية ... 95
البحر الرائق ... 85
التتمة ... 78
التهذيب ... 80
الحاوي القدسي ... 90
الحقائق ... 79
الخلاصة ... 85
الذخيرة ... 78
شرح فتح القدير ... 83
الصحاح ... 80
الفتاوى البزازية ... 84
الفتاوى التتارخانية ... 89
كنز الدقائق ... 97
مجمع الفتاوى ... 87
المحيط ... 78
المصباح المنير ... 79
المضمرات ... 82
المنتقى ... 84
الهداية ... 81
فهرس النقود الواردة في متن المخطوطة
العملة ... الصفحة
الدراهم ... 75
الشرفيات ... 72
الشواهي ... 72
العدالى ... 87
الفلوس ... 75
المصادر والمراجع
أبو حنيفة / محمد أبو زهرة / ط2 / دار الفكر العربي / القاهرة .
أثر انهيار قيمة الأوراق النقدية على المهور / الشيخ فيصل المولوي / ط1 المكتب الإسلامي / بيروت .
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام / شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي / تحقيق عبد الفتاح أبو غدة / ط2 / مكتب المطبوعات الإسلامية / حلب .
الاختيار لتعليل المختار / عبد الله بن محمود الموصلي / دار المعرفة / بيروت .
أدب المفتي والمستفتي / أبو عمرو بن الصلاح / ضمن الموسوعة في آداب الفتوى / د. أحمد حسون / ط1 .
الأعلام / خير الدين الزركلي / ط12 / دار العلم للملايين / بيروت .
إعلام الموقعين عن رب العالمين / ابن القيم / دار الجيل / بيروت .
أعلام من أرض السلام / عرفان أبو حمد / حيفا .
الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام / دار الفكر / بيروت .
الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء / الحافظ ابن عبد البر / حققه عبد الفتاح أبو غدة / ط1 / مكتب المطبوعات الإسلامية / حلب .
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف / علاء الدين المرداوي / دار إحياء التراث العربي / بيروت .
الأوراق النقدية في الاقتصاد الإسلامي / أحمد حسن / دار الفكر / بيروت .
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون / إسماعيل باشا البغدادي / دار الفكر .
الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان / نجم الدين بن الرفعة / تحقيق د. محمد الخاروف / دار الفكر .
البحر الرائق شرح كنز الدقائق / ابن نجيم الحنفي / دار الكتب العربية
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / علاء الدين الكاساني / مؤسسة التاريخ العربي .
بلادنا فلسطين / مصطفى مراد الدباغ / دار الشفق للنشر والتوزيع .
بلغة السالك لأقرب المسالك / أحمد الصاوي / دار الفكر .
تاج العروس من جواهر القاموس / مرتضى الزبيدي / دار الفكر .
تاريخ الجبرتي ( تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار )/ عبد الرحمن الجبرتي / دار الجيل / بيروت .
تاريخ الدولة العلية العثمانية / محمد فريد وجدي / دار الجيل .
تاريخ سلاطين آل عثمان / يوسف آصف / تحقيق بسام الجابي / دار البصائر .
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام / برهان الدين بن فرحون / دار الكتب العلمية .
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق / فخر الدين عثمان الزيلعي / دار المعرفة .
التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية / عبد اللطيف البرزنجي / دار الكتب العلمية .
التعليقات السنية على الفوائد البهية / محمد عبد الحيّ اللكنوي / دار الأرقم .
تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي / د. عجيل النشمي / ضمن مجلة المجمع الفقهي الإسلامي .
تنبيه الرقود على مسائل النقود / محمد أمين الشهير بابن عابدين / ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين / دار إحياء التراث العربي .
تهذيب الأسماء واللغات / محيي الدين النووي / دار الكتب العلمية .
الجواهر المضية في طبقات الحنفية / عبد القادر القرشي / تحقيق د. عبد الفتاح الحلو / مؤسةة الرسالة .
حاشية ابن عابدين ( رد المحتار على الدر المختار )/ محمد أمين الشهير بابن عابدين / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / شمس الدين محمد عرفه الدسوقي / دار إحياء الكتب العربية .
حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل وبهامشه حاشية المدني / دار الفكر .
حاشية الشلبي على تبيين الحقائق / شهاب الدين أحمد الشلبي / دار المعرفة .
الحاوي الكبير / أبو الحسن بن علي الماوردي / دار الكتب العلمية .
حجة الله البالغة / شاه ولي الله الدهلوي / دار الكتب العلمية .
الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز / الشيخ عبد الغني النابلسي .
خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر / المحبي .
دائرة المعارف الإسلامية / مترجم إلى العربية / طبعة طهران .
الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة / الحافظ ابن حجر العسقلاني / دار الجيل .
الدر المختار شرح تنوير الأبصار / علاء الدين الحصكفي / مطبعة الحلبي .
ديوان الإسلام / شمس الدين أبو المعالي ابن الغزي / حققه السيد كسروي حسن / دار الكتب العلمية .
رسم المفتي / محمد أمين الشهير بابن عابدين / ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين / دار إحياء التراث العربي.(/24)
سير أعلام النبلاء / محمد بن أحمد الذهبي / تحقيق شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة .
الشافعي / محمد أبو زهرة / دار الفكر العربي .
شجرة النور الزكية / محمد بن محمد مخلوف / دار الفكر .
شذرات الذهب في أخبار من ذهب / عبد الحي بن العماد الحنبلي / دار الآفاق الجديدة .
شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل / محمد الخرشي المالكي / دار صادر .
الشرح الكبير على سيدي خليل / أحمد الدردير / دار إحياء الكتب العربية .
شرح الكوكب المنير / محمد بن أحمد الفتوحي / المعروف بابن النجار / تحقيق د. محمد الزحيلي و د. نزيه حماد / دار الفكر .
شرح المحلي على جمع الجوامع / جلال الدين محمد بن أحمد المحلي / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
شرح فتح القدير على الهداية / كمال الدين بن الهمام / دار إحياء التراث العربي .
شرح منتهى الإرادات / البهوتي الحنبلي / دار الفكر .
الصحاح / إسماعيل بن حماد الجوهري / دار العلم للملايين .
صحيح مسلم / مسلم بن الحجاج القشيري / دار الخير .
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع / شمس الدين محمد السخاوي / دار مكتبة الحياة .
طبقات الشافيعة الكبرى / تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي / تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو .
الفتاوى البزازية / ابن البزاز الكردري / دار الفكر .
الفتاوى الخانية / قاضي خان / دار الفكر .
الفتاوى الهندية / جماعة من علماء الهند / دار الفكر .
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك / محمد أحمد عليش / مطبعة مصطفى الحلبي .
فتح الغفار شرح المنار / زين الدين بن نجيم الحنفي / مطبعة مصطفى الحلبي .
الفروق / شهاب الدين أحمد القرافي / دار المعرفة .
الفوائد البهية في تراجم الحنفية / عبد الحيّ اللكنوي / دار الأرقم .
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت / محب الله بن عبد الشكور / دار الكتب العلمية .
قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي / د . علي محي الدين القرة داغي / دار الاعتصام .
القدس في العصر المملوكي / علي السيد علي / دار الفكر .
قطع المجادلة عند تغيير المعاملة / جلال الدين السيوطي ضمن الحاوي للفتاوي / دار الكتب العلمية .
كشاف القناع عن متن الإقناع / منصور البهوتي الحنبلي / دار الفكر .
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة / دار الفكر .
كنز الدقائق / حافظ الدين النسفي / دار المعرفة .
الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة / نجم الدين الغزي / تحقيق جبرائل جبور / دار الآفاق الجديدة .
لسان العرب / ابن منظور / تعليق علي شيري / دار إحياء التراث العربي .
المبسوط / شمس الأئمة السرخسي / دار الكتب العلمية .
المجموع شرح المهذب / محي الدين يحيى النووي / دار الفكر .
المحصول في علم أصول الفقه / فخر الدين الرازي / تحقيق طه العلواني / مطابع الفرزدق .
المذهب عند الحنفية / د. محمد إبراهيم علي / مطابع الصفا .
مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع / صفي الدين عبد المؤمن البغدادي / تحقيق علي محمد البجاوي / دار المعرفة .
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير / أحمد بن محمد الفيومي / المكتبة العلمية .
معجم المؤلفين / عمر رضا كحالة / مؤسسة الرسالة .
المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقا والأندلس والمغرب / أحمد بن يحيى الونشريسي / دار الغرب الإسلامي .
المغني على مختصر الخرقي / عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي / مطبعة الفجالة الجديدة .
ملتقى الأبحر / إبراهيم بن محمد الحلبي / مؤسسة الرسالة .
الموافقات في أصول الشريعة / أبو إسحاق الشاطبي / دار المعرفة .
الموسوعة العربية الميسرة / إشراف محمد شفيق غربال / دار إحياء التراث العربي .
الموسوعة الفقهية الكويتية / وزارة الأوقاف الكويتية / مطبعة ذات السلاسل .
ميزانيات الشام في القرن السادس عشر / د. خليل ساحلي / بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام / الدار المتحدة للنشر .
نزهة النفوس في حكم التعامل بالفلوس / أبو العباس شهاب الدين أحمد الشهير بابن الهائم / دار الكتب العلمية .
النقود الإئتمانية / إبراهيم بن صالح العمر / دار العاصمة .
النقود العربية / أنستاس الكرملي / الناشر محمد أمين دمج / بيروت .
النقود العربية الفلسطينية / سليم عرفات المبيض / الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الهداية شرح البداية / برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني / دار إحياء التراث العربي .
هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين / إسماعيل باشا البغدادي / دار الفكر .
فهرس المحتويات
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة المحقق ... 5
القسم الأول الدراسة ... 11
تمهيد نبذة موجزة عن دراسات الفقهاء لمسائل النقود قديماً وحديثاًً ... 13
الرسائل المؤلفة في مسائل النقود ... 16
الدراسات المعاصرة لمسائل النقود ... 21
كتب حديثة بحثت مسائل النقود خاصة ... 23(/25)
كتب حديثة أخرى تعرضت لمسألة تغير قيمة العملة ... 24
المبحث الأول الدراسة حول المصنف التمرتاشي ... 26
المطلب الأول : اسمه ونسبه ... 26
المطلب الثاني : مولده ونشأته ... 27
المطلب الثالث : رحلاته ... 27
المطلب الرابع : شيوخه ... 28
المطلب الخامس : ثناء العلماء عليه ... 30
المطلب السادس : تلاميذه ... 31
المطلب السابع : العائلة التمرتاشية ... 37
المطلب الثامن : مؤلفاته ... 40
أولاً : في الفقه ... 40
ثانياً : مؤلفاته في أصول الفقه ... 46
ثالثاً : مؤلفاته في العقيدة ... 46
رابعاً : مؤلفاته في النحو والصرف ... 48
خامساً : رسائل في موضوعات متفرقة ... 48
المطلب التاسع : وفاته ... 49
المبحث الثاني دراسة حول رسالة بذل المجهود ... 51
المطلب الأول عنوان الرسالة ونسبتها إلى مؤلفها التمرتاشي ... 51
المطلب الثاني أهمية الرسالة وموضوعاتها ... 53
المطلب الثالث وصف النسخة المخطوطة ... 62
المطلب الرابع منهج التحقيق ... 63
صور المخطوطة ... 66
القسم الثاني : نص الرسالة محققاً ومعلقاً عليه ... 69
ذكر سبب تأليف الرسالة ... 72
الكساد العام للنقود ... 75
الكساد الجزئي للنقود ... 80
انقطاع النقود ... 81
غلاء النقود ورخصها ... 83
الفتوى على قول أبي يوسف في لزوم القيمة ... 85
العمل عند اختلاف أقوال أئمة المذهب الحنفي ... 89
العمل بالراجح وترك المرجوح ... 92
العمل عند وجود قولين مصححين في المذهب ... 97
ألفاظ الترجيح عند الحنفية ... 98
الفهارس ... 101
فهرس الأعلام الواردة أسماؤهم في متن المخطوطة ... 102
فهرس الكتب الواردة في متن المخطوطة ... 104
فهرس النقود ... 106
المصادر ... 107
فهرس المحتويات ... 116
تمت(/26)
براءة الحنفية من الفرق البدعية ( 1 - 2 )
أبو إبراهيم الرئيسي الحنفي
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد؛
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وبعد؛
التمهيد:
فإن أعظم نعم الله - عز وجل - على هذه الأمة أن أنزل إليها خير كتبه، وأرسل إليها أفضل خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، وجعلها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ثم جعل الصحابة والتابعين وأتباعهم بالحق على بصيرة بفهم نصوص الكتاب والسنة والتمسك بهما والاعتصام بهديهما، ثم جعل من العلماء في كل عصر من دعا إلى كتاب الله والسنة، ليبددوا بهما أرجاس الشركيات والوثنيات، ويبددوا بهما ظلمات البدع والخرافات ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فكلهم متفقون على وجوب التمسك بالكتاب والسنة والرجوع إليهما وترك كل قول يخالفهما؛ فهذا الإمام أبو حنيفة يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي. " ويقول: "لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت. " [1]
وهذا يقول الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه..." [2]
وهذا الشافعي يقول: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد... " [3]
وهذا الإمام أحمد يقول: " من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة... " [4] ويقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا... " [5]
تعصب الناس لأبي حنيفة:
تلك أقوال الأئمة - رضي الله عنهم - في الأمر التمسك بالسنة والنهي عن مخالفتها، ومع ذلك فقد تعصب بعض الناس للأئمة وخاصة للإمام أبي حنيفة، وخصوصاً الكوثري الذي لقب بـ"مجنون أبي حنيفة"، ومنهم حتى قاربوا به منازل النبيين والمرسلين، فزعموا أن التوراة بشرت به، فقد روى المكي عن عبد الكريم بن مسفر أنه قال: "سمعت جماعة من أهل العلم يقولون: مكتوب في التوراة صفة كعب الأحبار والنعمان بن ثابت ومقاتل بن سليمان" [6] ومن ذلك زعم بعضهم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذكره باسمه وبين أنه سراج أمته، ومن زعم ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكون في أمتي رجل أسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي هو سراج أمتي" [7] واستدل بعض الحنفية به على فضل أبي حنيفة، قال الخطيب: "هو حديث موضوع تفرد بروايته البَوْرقي وقد شرحنا فيما تقدم. " يشير إلى ما ذكره في ترجمة محمد بن سعيد البَوْرقي [8]، ثم قال: هذا البَوْرقي قد وضع المناكير على الثقات ما لا يحصى وأفحشها روايته عن بعض مشايخه، عن الفضل بن موسى السناني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ثم ذكر الحديث وقال على أثره هكذا حدث به في بلاد خراسان، ثم حدث به بالعراق وزاد فيه أنه قال: "سيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من فتنة إبليس"، قال الخطيب بعده: "ما كان أجرأ هذا الرجل على الكذب كأنه لم يسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" نعوذ بالله من غلبة الهوى ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى. " [9](/1)
كما أن بعضهم نعتوه بالصفات والمناقب ما عدوا به رتبته وتجاوزوا معه درجته، ومن ذلك قول الحصكفي: "أن أبا حنيفة النعمان من أعظم معجزات المصطفى بعد القرآن وحسبك من مناقبه اشتهار مذهبه، ما قال قولاً إلا أخذ به إمام من الأئمة الأعلام، قد جعل اللهُ الحكم لأصحابه وأتباعه من زمنه إلى هذه الأيام إلى أن يحكم بمذهبه عيسى - عليه السلام - " [10] وهذا القول تَقَوُّلٌ وغلو ظاهر وتنقص لنبي الله عيسى - عليه السلام - إذ كيف يظن بنبي أن يتبع عالماً مجتهداً؟! وقد رد ذلك قول ابن عابدين في حاشيته ونقل قول السيوطي في رد ذلك وفيه: "... ما يقال إنه يحكم أي عيسى - عليه السلام - بمذهب من المذاهب الأربعة باطل لا أصل له. وكيف يظن بنبي أنه يقلد مجتهداً مع أن المجتهد من آحاد هذه الأمة لا يجوز له التقليد، إنما يحكم بالاجتهاد... " [11] كما زعم الحصكفي أن سهل بن عبد الله التستري قال: "لو كان في أمتي موسى وعيسى مثل أبي حنيفة لما تهودوا ولما تنصروا. " [12] ولهذا القول رد، فقد كانت في الحنفية أبو حنيفة نفسه، ومع ذلك فإن من الحنفية من أعتزل وتشيع وتجهم وانحرفوا عن الإسلام، فلو تهودوا أو تنصروا لكان خيراً لهم من أن يتجهموا أو يعتزلوا أو يتشيّعوا. والأحرى أن هذا كذب على سهل، وهو قول باطل في نفسه فقد عبد بنو إسرائيل عجلاً وهارون نبي الله بينهم، وكذلك كفر من كفر منهم وعيسى - عليه السلام - بين أظهرهم كما قال - تعالى -: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} [آل عمران: 52] ومن ذلك قول الحصكفي: "وعنه - عليه السلام -: إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني" [13] وهذا لا شك كذب محض لا يجوز ذكره فضلاً عن اعتقاده.
مكانة أبو حنيفة العلمية:
فإنه ليس بالغريب أن يفترى على الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - الكذب وذلك لمكانة علمية رفيعة، فقد أخذ من العلوم الشرعية نصيباً وافراً فنبغ في العلوم الشرعية، ولقد كانت له قدرة على الإفتاء والتدريس وحل المشكلات الدقيقة التي تعرض عليه. وكان له مع ذلك معرفة في علم الكلام والجدل؛ إذ كانت معرفته تلك مرتبطة بنشأته بالكوفة؛ حيث كانت موطناً لأهل الأهواء والملل والنِّحل المختلفة، والفرق المتباينة، وإذا كان المجتمع على هذه الشاكلة كثر فيه الجدل والمناظرات حول العقائد. لذلك أنشغل إمام السلفية أبو حنيفة - رحمه الله - في بداية طلبه للعلم بعلم الكلام حتى برع فيه ونبغ، وبلغ فيه مبلغاً يشار إليه بالبيان، وكان به يجادل وعنه يناضل، وكان يرتحل إلى البصرة لمناقشة أصحاب الخصومات، وهذا ما يدله قوله: "كنت رجلاً أعطيت جدلاً في الكلام، فمضى دهر فيه أتردد، وبه أخاصم وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرهم بالبصرة، فدخلت البصرة نيفاً وعشرين مرة... " [14] وقال قبيصة بن عقبة: "كان الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - في أول أمره يجادل أهل الأهواء، حتى صار رأساً في ذلك منظوراً إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنَّة وصار إماماً" [15] وهناك ممن ينتسب إلى الحنفية كالماتريدية يقول بأن إمام السلفية أبو حنيفة لم يترك الكلام تركاً كلياً بعد أن فضح المتكلمين وأظهر عوراتهم، وهذا الكلام فيه تخليط لأن الإمام أبا حنيفة ترك علم الكلام تركاً كلياً وصرح بذلك مبيناً سبب الترك، حيث قال: "رأيت المشتغلين بالكلام قاسية قلوبهم، غليظة أفئدتهم، لا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح، ولو كان خيراً لاشتغل به السلف الصالحون. " [16] وهذا القول يرد زعم من زعِم إن الماتريدية ليست إلا استمراراً لمدرسة الإمام الأعظم، من غير أن يكون بينهما إلا فرق بسيط، ولا يعتد به. [17] فكيف يقال إن الماتريدية ليس إلا استمراراً لمدرسة الإمام أبي حنيفة والماتريدية خالفت أبا حنيفة في نفي كثير من الصفات الإلهية، والقول بكلام النفسي، وفي مسمى الإيمان، وفي مصادر الاستدلال في الاعتقاد؟!(/2)
لم ينبغ الإمام في الكلام والجدال فحسب، فحين أراد الله بالإمام خيراً ترك علم الكلام والجدال، حتى أصبح إمام الفقه في عصره، ساعده على ذلك ما فطره الله عليه من الذكاء والفطنة والسجايا الحسنة كالصبر والحلم، وهذه الأمور كلها ساعدت على نبوغه؛ ففاق أقرانه والكثير من أهل عصره في هذا العلم، فكان الناس عيالاً عليه، كما قال الإمام الشافعي: "من أراد أن يعرف الفقه؛ فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه. " [18] وقال عبد الله بن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس" [19] وقال حفص بن غياث: "كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشَّعر" [20] وقد صدق حفص بن غياث، فمن المسائل الفقهية الدقيقة التي عرضت على أبي حنيفة، ما ذكره الصالحي عن وكيع قال: "كنا عند أبي حنيفة فأتته امرأة فقالت: مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني منها ديناراً واحداً، قال: ومن قسم فريضتكم؟ قالت: داود الطائي. قال: هو حقك أليس خلَّف أخوك بنتين؟ قالت: بلى، قال: وأُمَّاً؟ قالت: بلى، قال: وزوجة؟ قالت: بلى، قال: واثني عشر أخاً وأختاً واحدة؟ قالت: بلى، قال: فإن للبنات الثلثين أربعمائة، وللأم السدس مائة، وللمرأة الثمن خمسة وسبعين، ويبقى خمسة وعشرون؛ للإخوة أربعة وعشرون لكل أخٍ ديناران، ولكِ دينار. " [21] لذلك قال الذهبي في فقه أبي حنيفة: "الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه ثم أستشهد بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهار إلى دليل [22]
سلفية أبو حنيفة:
أن من أهل البدع من انتسبوا إلى الإمام أبي حنيفة النعمان - رضي الله عنه - كالماتريدية وغيرهم، ونسبوا إليهم عقيدة التعطيل بالتأويل الباطل، وهذا فرية بلا مرية، ومن شك في ذلك، فليطالع "الفقه الأكبر" و"الفقه الأبسط " و" العقيدة الطحاوية" و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" يظهر له أن زعمه موقع له في خسران، وإن ليس كل من انتسب إلى الإمام أبي حنيفة وبقية أئمة أهل السنة والجماعة - رضوان الله عليهم - يعدُّ موافقاً له في أصول الدين وفروعه، بل هناك من كبار المبتدعة من انتسب إلى الإمام أبي حنيفة، وأبو حنيفة بريء منهم كبراءة الذئب من دم يوسف، فبالمقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي والماتريدية يظهر إنَّهما مختلفان في المنهج متباعدان في التطبيق في كثير من مسائل الاعتقاد. فلم يكن الماتريدي والماتريدية على منهج الإمام أبي حنيفة في الاعتقاد وإن انتسبوا إليه في الفروع، وإنه ليس من منهج الإمام أبي حنيفة نوع من التشبيه أو التعطيل، وكذلك لا يوجد في كلام الإمام تفويض مطلق، بل الذي في كلام أبي حنيفة تفويضٌ مقيَّدٌ بنفي العلم بالكيفيَّة فقط لا المعنى، فقد أثبت الإمام جميع الصفات: ذاتيَّة كانت أو فعليَّةً بدون تأويلٍ، أو تحريفٍ، وظلَّ ملتزماً بمنهجه هذا أثناء التطبيق؛ فأبى أن يُؤوِّل اليد بالقدرة أو النعمة، والرضا بالثواب، والغضب بالعقاب. فهم يُأولون صفات الله - تعالى -بلا ضابط شرعي فيُأولون الاستواء بالاستيلاء كالمعتزلة والجهمية، والحق أن يثبت صفات الله بلا كيف ولا تعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم في باب صفات الله إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل. فعقيدة الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رضوان الله عليهم - اعتقاد واحدٌ في أصول الدين. وقد جمعت نصوص الأئمة الأربعة الواضحة في بيان عقيدتهم ليعرف القارئ الكريم أنهم متفقون في باب الاعتقاد. إن عقيدة الإمام أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه - في توحيد الأسماء والصفات، واضحة جلية غير قابلة للتأويل، وبيان ذلك:
1) قال الإمام أبو حنيفة: لا يوصف الله - تعالى -بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه. ونصفه كما وصف نفسه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولك يكن له كفواً أحد، حي قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم، ليست كأيدي خلقه، ووجهه ليس كوجوه خلقه. [23]
2) قال الإمام أبو حنيفة: وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله - تعالى -في القرآن، فما ذكره الله - تعالى -في القرآن، من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطالَ الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال… [24]
3) قال البزدوي: العلم نوعان علم التوحيد والصفات، وعلم الشرائع والأحكام. والأصل في النوع الأول هو التمسُّك بالكتاب والسُّنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنُّة والجماعة، وهو الذي عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعامة أصحابهم. وقد صنف أبو حنيفة - رضي الله عنه - في ذلك كتاب الفقه الأكبر، وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله. [25](/3)
4) قال الإمام أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً تبارك الله - تعالى -ربّ العالمين. [26]
5) سئل الإمام أبو حنيفة عن النزول الإلهي، فقال: ينزل بلا كيف. [27]
6) قال الملاَّ علىُّ القاري بعد ذكره قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول…": اختاره إمامنا الأعظم أي أبو حنيفة وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات من ذكر اليد والعين والوجه ونحوها من الصفات. فمعاني الصفات كلها معلومة وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذْ تَعقُّل الكيف فرع العلم لكيفية الذات وكنهها. فإذا كان ذلك غير معلوم؛ فكيف يعقل لهم كيفية الصفات. والعصمة النَّافعة من هذا الباب أن يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزهاً عن التشبيه، ونفيك منزَّهاً عن التعطيل. فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبَّهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبِّه، ومن قال استواء ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزه. [28]
7) قال الإمام أبو حنيفة: ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأنَّ فيه إبطال صفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال. [29]
8) قال الإمام أبو حنيفة: وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه. [30]
9) قال الألوسي الحنفيُّ: أنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقاً مع نفي التَّشبيه والتجسيم. منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام الشافعيَّ، ومحمد بن الحسن، وسعد بن معاذ المروزيُّ، وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهُويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني.. [31]
10) قال الإمام أبو حنيفة: ولا يشبه شيئاً من الأشياء من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته... [32]
11) قال الإمام أبو حنيفة: وصفاته بخلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويتكلَّم لا ككلامنا... [33]
12) قال الإمام أبو حنيفة: لا يوصف الله - تعالى -بصفات المخلوقين. [34]
13) قال الإمام أبو حنيفة: وصفاته الذاتية والفعلية: أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته. [35]
14) قال الإمام أبو حنيفة: ولم يزل فاعلاً بفعله، والفعل صفة في الأزل، والفاعل هو الله - تعالى -، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق وفعل الله - تعالى -غير مخلوق. [36]
15) قال الإمام أبو حنيفة: من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض. [37]
16) قال الإمام أبو حنيفة للمرأة التي سألته أين إلهك الذي تعبده؟ قال: إن الله - سبحانه وتعالى - في السماء دون الأرض، فقال رجل: أرأيت قول الله - تعالى -: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] قال: هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه. [38]
17) قال الإمام أبو حنيفة: والقرآن غير مخلوق. [39]
18) قال الإمام أبو حنيفة: ونقر بأن القرآن كلام الله - تعالى -غير مخلوق. [40]
19) قال الإمام أبو حنيفة: ونقر بأن الله - تعالى -على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة. [41]
انتشار مذهب أبو حنيفة وانحراف بعض المنتسبين إليه:
فكلام هؤلاء الأئمة في تقدير فقه الإمام أبي حنيفة ليس فيه مبالغة؛ فأثر فقه الإمام واضح على تلاميذه، وعلى من جاء بعدهم، فالمنتسبون إلى مذهبه في زماننا هذا جمع غفير من أمة الإسلام. وممَّا ساعد على انتشار مذهبه أن قيض اللهُ لأبي حنيفة تلامذة نشروا المذهب، تأليفاً وتدريساً وإفتاءً. ثم إن منهم من تولى القضاء، فصار سبباً في شيوع مذهب أبي حنيفة في القرون الأولى. ولقد انتسب إلى مذهب أبي حنيفة في القديم والحديث أناس كثيرون، منهم من وافقه في الأصول والفروع، ومنهم من وافقه في الفروع فحسب، وهم في الأصول على طريقة المتكلمين وهذا أمر اعترف به أحد علماء الحنفية فقد قال اللكنوي الحنفي ما نصَّه: "وتوضيحه أن الحنفية عبارة عن فرقة تقلِّد الإمام أبا حنيفة في المسائل الفرعية... سواء وافقته في أصول العقائد أم خالفته، فإن وافقته يقال لها (الحنفية الكاملة) وإن لم توافقه يقال لها (الحنفية) مع قيدٍ، يوضِّح مسلكه في العقائد الكلاميَّة، فكم من حنفي حنفيٌّ فرعاً مرجئٌ أو زيديٌ أصلاً وبالجملة فالحنفية لها فروع باعتبار اختلاف العقيدة فمنهم الشيعة ومنهم المعتزلة ومنهم المرجئة... " [42](/4)
ثم بيَّن النسبة بين الحنفية وبين أهل السنَّة فيذكر: أن النسبة بين الحنفية بمعنى المتابعين له أصلاً وفرعاً وبين أهل السنَّة عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل حنفي بهذا المعنى من أهل السنة ولا عكس لأنَّه قد يكون من أهل السنَّة ولم يكن حنفياً كأهل السنة من المالكية والشافعيَّة وغيرهم. فأهل السنَّة وبين الحنفية التابعة للإمام أبي حنيفة في الفروع بدون اشتراط موافقة العقيدة عموم وخصوص من وجهٍ، فمادة الافتراق من يكون حنفياً ولا يكون من أهل السنَّة وليس حنفياً أصلاً كأهل السنة من الشافعيَّة ونحوهم فهاتان المادَّتان مادَّتا الافتراق، أما مادَّة الاجتماع فمن يكون حنفياً فرعاً وأصلاً فهو من أهل السنة أيضاً.
والنسبة بين أهل السنة وبين الحنفية الناقصة التابعة للإمام أبي حنيفة في الفروع فقط مع اختلاف في العقيدة نسبة تباين كلِّي كالحنفية المرجئة والحنفية المعتزلة ونحوهم ليسوا من أهل السنَّة. [43] ولقد ذكر العلامة عبد الحي اللكنوي في كلامه هذا خمس فرق تنتسب للحنفيَّة وهي:
أولاً: الحنفية الكاملة (السلفية).
ثانياً: الحنفية من الشيعة (الرافضة).
ثالثاً: الحنفية من الزيديَّة.
رابعاً: الحنفية من المعتزلة.
خامساً: الحنفية من المرجئة.
وقد أضاف الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس [44]:
سادساً: الحنفية من الجهمية.
سابعاً: الحنفية من الاتحادية.
وبيان ذلك:
أولاً: الحنفية الكاملة [السلفية]:
ويعني بها اللكنوي من وافق الإمام أبا حنيفة في الفروع وأصول العقيدة وهذه أسماء طائفة ممَّن انتسب إلى أبي حنيفة ممن وافقه في الاعتقاد سواء من تلامذته أو ممَّن جاء بعده وانتسب إلى مذهبه في الفروع. ونكتفي بذكر الموافقين لأبي حنيفة في الاعتقاد إلى القرن الرابع الهجري إذ في هذا القرن وبعده ظهر التقليد لأبي منصور الماتريدي وأبي حسن الأشعري في الأصول ثم استحكمت أطنابه فيما بعد ذلك إذ مشى غالب الحنفية على عقيدة أبي منصور الماتريدي وذلك لانتشار على الكلام في نواحي بلاد المسلمين في تلك الحقبة الزمنية وتغلب المتكلمين وتصدرهم في أماكن حسَّاسة كالمدارس والقضاء والإفتاء والخطابة فزاحمت العقيدة الكلاميَّة الماتريدية العقيدة السلفية التي عليها الإمام أبو حنيفة حتى أزالتها فلا يعرف حنفي إلا وهو ماتريدي في الاعتقاد. هذا في الجملة وإلا فإنه يوجد فئات من الحنفية سلكت ما قرَّره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة كابن أبي العز الحنفي شارح عقيدة الإمام الطحاوي. ومن هؤلاء الحنفية الكاملة (السلفية):
1) زفر بن الهديل المتوفى سنة 158هـ:
هو زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي، من تميم وأصله من أصبهان. أبو الهذيل. فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة، وأحد الذين دونوا الكتب. أقام بالبصرة وتولى قضائها وتوفي فيها. كان في أول أمره من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي (القياس) فكان أقيس أصحاب أبي حنيفة. كانوا يقولون: إن أبا يوسف أتبعهم للحديث، ومحمد بن الحسن الشيباني أكثرهم تفريعا، وزفر بن الهذيل أقيسهم. وكان زفر يقول: "نحن نأخذ بالرأي ما دام لا يوجد أثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي. " [45] وقد امتحن بالقضاء فأبى فعوقب بهدم داره أكثر من مرة. [46]
2) إبراهيم بن طهمان المتوفى سنة 163هـ [47]:
كان شديداً على الجهمية [48] حتى إنه أخَّر رحلته إلى الحجِّ للرَّد على الجهمية [49] وألَّف في الرَّد عليهم كتاباً بعنوان "سنن ابن طهمان" المطبوع باسم مشيخة ابن طهمان وهو أول كتاب وصل إلينا في الرد على الجهمية [50]، وذكره اللالكائي فيما أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن [51]، ورُمِيَ بالإرجاء وذكر ابن حجر أنَّه رجع عنه. [52]
3) القاسم بن معن المسعودي المتوفى سنة 175هـ [53]:
روى له أصحاب السنن، وثَّقه أحمد وأبو حاتم وقال عنه أبو داود: "كان ثقةً يذهب إلى شيءٍ من الإرجاء" [54] وقال عنه ياقوت: "كان فقيهاً على رأي أبي حنيفة ولقيه... وكان عالماً بالحديث والفقه والشِّعر والنسب وأيَّام الناس" [55]
4) يعقوب بن إبراهيم القاضي (أبو يوسف) المتوفى سنة 182هـ:(/5)
هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي البغدادي. أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وتلميذه، وأول من صنف الكتب على مذهبه وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض. اشتغل برواية الحديث، وروى عن أئمة المحدثين وتفقه أولا بابن أبي ليلى ثم انتقل إلى أبي حنيفة. رحل إلى المدينة وأخذ عن مالك بن أنس، وناظره في مسائل كان يقول فيها بمذهب أهل العراق فرجع عنها لقول مالك، ثم رجع إلى العراق بأفكار أهل الحجاز فمزجها بمذهب العراقيين، ورجع في كثير من المسائل إلى رأي مالك، فهو أول من قرب بين المذهبين. تولى القضاء سنة 166 هـ في عهد الخليفة المهدي واستمر في القضاء أيام الهادي والرشيد، وجعله الرشيد قاضيا للقضاة في جميع مملكته، وأصبحت تسمية القضاة راجعة إليه من خراسان إلى أفريقية وهو أول من كان له هذا المنصب الخطير، وقيل في سبب ذلك أن الرشيد قال لزوجته زبيدة: أنت طالق ثلاثا إن بت الليلة في مملكتي، ثم ندم الرشيد وأراد مخرجا، فاستفتى أبا يوسف، فقال: تبيت في بعض المساجد فإن المساجد لله، فولاه قضاء القضاة. هو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان يحضر مجلس قضائه العلماء على طبقاتهم. كان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب. مكث في القضاء من بعده ابنه يوسف وكان نائبه على الجانب الشرقي من بغداد. مات وهو في منصب القضاء، وله من العمر 69 عاماً. من آثاره كتاب الخراج وقد ألفه للرشيد، وكتاب النوادر، وأدب القاضي، والأمالي في الفقه، والرد على مالك بن أنس، وغير ذلك، وقد اندثر جل كتبه. [56] وقد قرَّر الطحاوي عقيدة أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، أبي جعفر في الرِّسالة التي كتبها في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة وصاحبيه، ومن جملة ما قرَّره اعتقادهم في الإيمان أنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان [57] غير أن ابن حبان ذكر أنه يباين صاحبيه في الإيمان. [58] وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن وروى اللالكائي عن أبي يوسف: "من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته" [59] وذكره اللالكائي فيمن منع الصلاة خلف القدرية. [60] وقال: "لا أصلي خلف جهمي ولا رافضي ولا قدري". [61]
5) يحيى بن زكريا بن أبي زائدة المتوفى سنة 183هـ [62]:
روى له الجماعة، وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن [63]، وأقرَّ قول مالك فيمن قال القرآن مخلوق بأنَّه كافرٌ زنديقٌ [64].
6) محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ:(/6)
هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء. أبو عبد الله وأبو الحسن. أصله من قرية حرستا من غوطة دمشق. قدم أبوه من تلك القرية إلى واسط فولد فيها ابنه محمد ونشأ بالكوفة فسمع من أبي حنيفة وأخذ عنه طريقته ولم يجالسه كثيرا لوفاة أبي حنيفة وهو حدث، فأتم الطريقة على أبي يوسف، وغلب عليه مذهب عرف به، وكان هو المرجع لأهل الرأي في حياة أبي يوسف فنشأت بينهما وحشة استمرت زمنا حتى توفي أبو يوسف رحل إلى المدينة وأخذ عن مالك بن أنس، وأخذه عن مالك كبح جماحه عن التغالي في الرأي، فأدخل بسبب ذلك تعديلا كبيرا على أهل الرأي. اتصل بالشافعي لما كان بالعراق وناظره في مسائل كثيرة، ذكرها الشافعي في كتابه "الأم" وغيرها من كتب الشافعي. انتقل إلى بغداد فولاه الرشيد قضاء الرقة ثم اعتزل القضاء ووقف نفسه على تعليم الفقه، وقد قيل إن علاقته ساءت مع الرشيد بسبب فتواه في مسألة أمان الطالبي، فتعرض لغضب الرشيد وفتشت كتبه خوفا من أن يكون فيها شيء مما يحض الطالبيين على الخروج، وما هي إلا فترة حتى صلح الحال بينه وبين الرشيد وخرج معه إلى الري ومعه الكسائي أيضا، فماتا في يوم واحد ودفنا هناك، وقال الرشيد في موتهما: لقد دفنت اللغة والفقه جميعا. عن محمد بن الحسن أخذ العلماء مذهب أبي حنيفة، فإن الحنفية ليس في أيديهم إلا كتبه وهي مستندهم في مذهب أبي حنيفة، وهي على قسمين: كتب رويت عنه واشتهرت حتى اطمأنت إليها نفوسهم تعرف بكتب "ظاهر الرواية" وهي كتاب: الجامع الصغير وهو كتاب في الفروع مجرد عن الأدلة والجدل، وكتاب "الجامع الكبير" وهو أطول من الصغير، وله كتاب ثالث هو كتاب "المبسوط" ويعرف عند الحنفية بالأصل وهو أطول كتاب أملاه شمس الأئمة السرخسي. وهو أهم كتاب عند الحنفية القدماء، وله كتاب "السير الكبير" وكتاب "السير الصغير" وتشتمل على أحكام الجهاد وشريعة الحرب وكتاب "الرد على أهل المدينة" وله كتاب "الآثار" الذي يحتج به الحنفية، والقسم الثالث من كتبه لم تشتهر عنه وهي الكتب التي تعرف عند الحنفية بالنوادر، وهي في درجة ثانية من الاعتماد عندهم، والقسم الأول من كتب محمد بن الحسن الشيباني هي أساس مذهب الحنفية وهي التي اشتغل بها علماؤهم وعليها عولوا شرحاً وتعليقاً. [65] قرَّر عقيدة محمد بن الحسن وأبي حنيفة وأبي يوسف، أبو جعفر الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة، وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن [66] وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق [67]، ويأمر من صلَّى خلف من يقول: القرآن مخلوق، بالإِعادة. [68] وروى اللالكائي عن محمد بن الحسن أنه ذكر اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب - عز وجل -.
7) حفص بن غياث القاضي المتوفى سنة 194هـ [69]:
روى له جماعة، وذكره البخاري في علماء الأمصار الذين يقولون: إن القرآن كلام الله [70]، وكذا اللالكائي ذكره فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن [71]، فمن قال: القرآن مخلوق فهم عنده جهميَّة لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم [72]، روى عنه البخاري حديث الصوت في صحيحه. [73]
8) أبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني المتوفى بعد سنة 200هـ [74]:
روى اللالكائي عن القاسم بن أبي رجاء قال: "كنت عند أبي سليمان الجوزجاني وجاءه رجل فقال: مسألة بلوى فإنَّ رجلين البارحة حلف أحدهما فقال: امرأتي طالق ثلاثاً البتَّة إن كان القرآن مخلوقاً، وقال الآخر: امرأتي طالق ثلاثاً إن لم يكن القرآن مخلوقاً. فقال: إن الذي حلف إنَّ امرأته طالق إن لم يكن القرآن مخلوقاً قد بانت منه امرأته. " [75] وروى اللالكائي عن محمد بن عبد الله الظاهراني قال: "سمعت الجوزجاني يعني موسى بن سليمان وسأله رجل عن مسألةٍ فأفتى ثم قال له: إنَّ المريسي يقول بخلاف هذا. فقال الجوزجاني لمن حضره: سبحان الله، أعجب من هذا سألني عن مسألةٍ فأجبته، ثم حكى لي عن كافرٍ" [76].
9) معلَّى بن منصور الرازي المتوفى سنة 211هـ [77]:
روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه ووثَّقه ابن معين قال الذهبي في الكاشف: "قال العجلي: هو ثقةٌ نبيلٌ صاحب سنَّة طلبوه غير مرَّةٍ للقضاء فأبى وكان من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد" [78] وذكره اللالكائي فيمن كفَّر القائل بخلق القرآن. [79]
10) شدَّاد بن حكيم القاضي البلخي المتوفى سنة 212هـ [80]:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن. [81]
11) عبد الله بن داود الخريبي المتوفى سنة 213هـ [82]:
روى له جماعة غير مسلم، وكان شديداً على الجهميَّة، فقد نقل عنه البخاري قوله: "لو كان لي على المثنَّى الأنماطي سبيلٌ لنزعت لسانه من قفاه وكان جهمياً. " [83]
12) هاشم بن عبيد الله الرازي المتوفى سنة 221هـ [84]:(/7)
من تلاميذ محمد بن الحسن وكان ليِّناً في الرواية قال عبد الرحمن بن حاتم: "وجدت في كتابٍ عند أبي ممَّا وضعه هاشم في الردِّ على الجهميَّة قال هاشم: وكان فيما سألتم في كتابكم عن أهل الجنَّة أنَّهم يرون ربَّهم. قال هاشم: ورد علينا في تفسير القرآن ومحكم الحديث أن الله جلَّ ثناؤه يُرى في الآخرة ثم ذكر الروايات في تفسير القرآن والأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " [85] ونقل اللالكائي عن هاشم قوله: "الجهميَّة من زعم أن القرآن مخلوق" [86] وحبس بتهمة التجهم حتى تاب [87]. وقال عن بشر المريسي: "المريسي عندنا خليفة جهم بن صفوان الضَّال وهو وليٌّ عهده ومثله عندنا مثل بلعم بن باعورا الذي قال الله فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] " [88]
13) الليث بن مساور البلخي المتوفى سنة 226هـ [89]:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائلين بخلق القرآن [90] وكان قاضياً ببلخٍ ولمَّا ورد كتاب الخلافة بوجوب القول بخلق القرآن قال: الله أكبر ظهر الكفر... كل من يقول بخلق القرآن فهو كافر ثمَّ رمى عمامته على الأرض وخلع نفسه من القضاء" [91].
14) إبراهيم بن يوسف الباهلي البلخي الماكياني المتوفى سنة 239هـ [92]:
قال عنه ابن حبان: "كان ظاهر مذهبه الإرجاء واعتقاده في الباطن السنَّة سمعت أحمد بن محمد بن الفضل يقول سمعت محمد بن داود الفوعي يقول: حلفت ألاَّ أكتب إلاَّ ممَّن يقول الإيمان قولٌ وعملٌ فأتيت إبراهيم بن يوسف يعني الباهلي فأخبرته فقال: اكتب عني فإني أقول الإيمان قول وعمل" [93] وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت محمد بن الصديق يقول: "سمعته يعني إبراهيم بن يوسف يقول القرآن كلام الله ومن قال: مخلوق فهو كافر بانت منه امرأته ولا يصلَّى خلفه ولا يصلَّى عليه إذا مات ومن وقف فهو جهمي" [94].
15) يحيى بن أكثم التميمي القاضي المتوفى سنة 243هـ [95]:
روى عن محمد بن الحسن وسمع منه وروى عنه البخاري في غير الجامع والترمذي وذكره اللالكائي فيمن كفَّر القائلين بخلق القرآن [96] وكان يقول: القرآن كلام الله فمن قال مخلوق يستتاب فإن تاب وإلاَّ ضُربت عنقه" [97]. وقال عنه الإمام أحمد: "ما عرفناه ببدعة" [98]. وقال عنه الخطيب: "كان يحيى سليماً من البدعة ينتحل مذهب أهل السنَّة" [99].
16) محمد بن أحمد بن حفص الزرقان المتوفى سنة 264هـ [100]:
له كتاب "الأهواء والرد على اللفظية" وكان مرافقاً للبخاري في الطلب [101].
17) الحكم بن معبد الخزاعي المتوفى سنة 295هـ [102]:
مؤلف كتاب السنة [103]. قال عنه أبو نعيم: "على مذهب الكوفيين صاحب أدبٍ وغريبٍ" [104].
18) مقاتل بن فضل البلخي [105]:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن [106].
19) أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى سنة 321هـ [107]:
هو أحمد بن محمد بن سلمة أو (سلامة) بن مسلمة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي. أبو جعفر. فقيه إليه انتهت رياسة الحنفية في مصر. ولد في قرية طحا من صعيد مصر وإليها نسبته. تتلمذ على خاله إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة 264هـ وكان إمام الشافعية في عصره، فتلقى عنه ابن أخته المذهب الشافعي، ثم انتقل إلى المذهب الحنفي وصار حنفياً وكان مجتهداً في الفروع. من تصانيفه: شرح معاني الآثار، أحكام القرآن، المختصر في الفقه. الاختلاف بين الفقهاء. مناقب أبي حنيفة، [108] وغير ذلك من الكتب. وأيضاً هو صاحب كتاب بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، وما يعتقدون من أصول الدين. توفي عن 82 عاماً.
ولا شكَّ أنه أثبت من غيره في تقرير عقيدة الإمام أبي حنيفة وذلك للآتي:
1- الطحاوي عند أهل العلم ثقة ثبت قال عنه الذهبي: "الإمام العلاَّمة الحافظ الكبير محدِّث الديار المصرية وفقيهها" [109]. وقال عنه أبو سعيد بن يونس: "كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً لم يخلف مثله" [110].
2- إن جمهور العلماء تلقوا عقيدة الطحاوي بالقبول. قال السبكي الشافعي: "جمهور المذاهب الأربعة على الحق، يقرون عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول" [111]. وقال الناصري الحنفي: "إن كتاب العقائد الذي رواه أبو جعفر الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد هو الذي اعتمد عليه أهل السنَّة والجماعة سلفهم وخلفهم" [112]. وقال أبو المعين النسفي: "إن أبا جعفر الطحاوي ممن احتوى على علوم سلف الأئمة على العموم، وعلى علوم أبي حنيفة وأصحابه على الخصوص. قال في كتابه الذي افتتحه في العقائد: صح عندي مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين" [113](/8)
3- إن ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة يوافق في الجملة ما قرره أبو حنيفة في الكتب المنسوبة إليه، ثم إنه كذلك موافق لعقيدة سائر أئمة السنَّة باستثناء مسألة الإيمان. بخلاف ما قرره الماتريدي، فقد دخلت عليه الفلسفة والكلام، ومن ثم دخلت عليه عقائد بدعية فلسفية، فالإمام الطحاوي محدِّث ثقة ثبت فيما يقرر وينقل احتوى على علوم أبي حنيفة وأصحابه، ولم تدخل عليه المذاهب الكلامية.
ثانياً: الحنفية من الشيعة [الرافضة]:
قد ذكر أبو مظفر الإسفراييني أن من أهل الرأي من تلبس بشيءٍ من مقالات الروافض والقدرية، وإذا خاف سيوف السنة نسب ما هو فيه إلى أبي حنيفة تستُّراً به وكذا العلاَّمة اللكنوي، وقد ذكر أن من فرق الحنفية الشيعة، ومن الحنفية الذين تلبسوا بعقيدة الشيعة الباطنية ابن سينا، أبو عليّ الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي، والمعروف بالرئيس المتوفى سنة 428هـ فقد قال عنه ابن صلاح: "كان شيطاناً من شياطين الإِنس" [114]. ومع هذا هو عند بعض كتّاب التراجم من الحنفية ولي من أولياء الله - تعالى -، صاحب كرامات مشهورة [115]. ويقول السيد حسن الصدر الرافضي: " أبو علي ابن سينا، شيخ الحكمة في المشائين، حاله في الفضل أشهر من أن يذكر، وقد أطال القاضي المرعشي في طبقاته الفارسية في الاستدلال على أمامية الشيخ الرئيس، ولم أتحقق ذلك، نعم هو ولد على فطرة التشيع، كان أبوه شيعياً إسماعيلياً... " [116].
فالشيعة والخوارج فرقتان متقابلتان [117] في آرائهما في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فالخوارج تكفره وتتبرأ منه، والشيعة تنصره وتؤيده وتفضله على عثمان - رضي الله عنه - بل أن منهم من يفضله على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - أجمعين فردوا الشيعة على بدعة الخوارج ببدعةٍ أخرى لا تقل فساداً عنها ألا وهي عصمة عليّ بن أبي طالب، وأفضليته على أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، وأنه الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قولهم بفسوق أبي بكر وعمر وعثمان وبكفرهم.
فمن يقول بهذه البدعة فهو كاذب مفتر، قد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وعقابه الجلد حداً على فريته وكذبه. وكما قال خليفة المسلمين وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حد المفتري" [118] وكان يقول: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" [119] وسأل محمد بن الحنيفة أباه علياً فقال: "أيُّ الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجل من المسلمين. " [120] ولا ريب أنَّ خير الصحابة هم أهل بدر، وخيرُ أهل بدر هم العشرة، وخير العشرة الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ - رضي الله عنهم - أجمعين -. وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنَّة، قال ابن عمر: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم - " [121] وفي رواية أخرى قال: "كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم. " [122]
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - حيث قال: "وأفضل الناس بعد النبيين - عليهم السلام - الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب الفاروق ثم عثمان بن عفان ذو النورين ثم عليّ بن أبي طالب المرتضى رضوان الله - تعالى -عليهم أجمعين -. عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعاً" [123] وقرَّر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ثم لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون. " [124](/9)
وكان بالكوفة من رؤساء الشيعة محمد بن عليّ بن نعمان بن أبي طريفة البلجي الكوفي، والذي لقبه أبو حنيفة بشيطان طاق نسب لسوق طاق المحامل بالكوفة [125]. وإليه تنسب الشيطانيَّة من فرق الشيعة، جمع بين بدعة التشيع في الإمامة والقول إنَّ الله لا يعلم الشر قبل أن يكون. وكان يروي حديث رد الشمس لعلي فهو حديث منكر مضطرب، فلفظه هو: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ - رضي الله عنه - فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فرد عليه الشمس قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت" [126] فلذلك كان بين شيطان طاق وأبي حنيفة مناظرات عديدة في فضائل عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أحدها في أمر حديث رد الشمس، وقد أورد تلك المناظرة ابن تيمية في مناهج السنَّة [127] وفيها: "أن أبا حنيفة لقي محمد بن نعمان فقال أبو حنيفة: عمن رُوِّيت حديث رد الشمس؟ فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل" قال ابن تيمية على إثرها: "هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث، فإنه لم يروه إمام من أئمة المسلمين. وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير، وهو لا يتهم علياً فإنَّه من أهل الكوفة دار الشيعة، وقد لقي من الشِّيعة وسمع من فضائل عليّ ما شاء الله، وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث على محمد بن النعمان، وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه النعمان بجواب صحيح إلى أن قال: فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعليٍّ وغيرهما كرامات، بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل" [128].
وتناظر كذلك بمن هو أحق بالخلافة والأرشد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجاب الإمام أبو حنيفة بما حيره فأسكته حيث قال له: "نحن نقول كان الحق للصديق، فسلم عليّ - رضي الله عنهما - الحق له فكان من أشد الناس، وأنتم قلتم: كان الحق لعليّ فأخذه الصديق بقوة فكان الصديق أشد الناس حيث أخذ منه حقه بقوته بلا تسليم" [129]، فلأجل كذب وتمويه طائفةٍ من الشيعة رد الإمام أبو حنيفة شهاداتهم فلا يجيزها.
جاء في كتاب الكفاية عن عمر بن إبراهيم قال: "سمعت ابن مبارك يقول: سأل أبو عصمة الإمام أبا حنيفة بمن تأمرني أن أسمع الأثر؟ قال: من كلِّ عدل في هواه إلاَّ الشيعة فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -... " [130]
وفي هذا المعنى يذكر ابن تيمية [131] أنَّ أبا حنيفة ردَّ شهادة من عرف بالكذب كالخطابية، هذا هو موقف الإمام من الشِّيعة وبدعتهم.
----------------------------------------
المصادر والمراجع:
[1] إيقاظ الهمم ص62.
[2] الانتقاء لابن عبد البر ص145.
[3] إيقاظ الهمم ص72.
[4] مناقب الشافعي ج1 ص472؛ والرواية الأخرى لأبي نعيم في الحلية ج9 ص107.
[5] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج3 ص430.
[6] إيقاظ الهمم ص113.
[7] مناقب أبي حنيفة للمكي ص20.
[8] تاريخ بغداد ج5 ص309.
[9] تاريخ بغداد ج5 ص310.
[10] الدر المختار ص1 ص55-56.
[11] رد المحتار ج1 ص57.
[12] الدر المختار ج1 ص53.
[13] الدر المختار ج1 ص52.
[14] مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
[15] عقود الجمان ص161.
[16] مناقب أبي حنيفة للمكي ص53.
[17] الإمام الأعظم أبو حنيفة المتكلم، لعناية الله إبلاغ الأفغاني ص96.
[18] تاريخ بغداد ج13 ص346.
[19] سير أعلام النبلاء ج6 ص403.
[20] سير أعلام النبلاء ج6 ص403.
[21] عقود الجمان ص261.
[22] سير أعلام النبلاء ج6 ص403.
[23] الفقه الأبسط ص56.
[24] الفقه الأكبر ص302.
[25] أصول البزدوي ص3، كشف الأسرار هن أصول البزدوي ج1 ص7، 8.
[26] شرح العقيدة الطحاوية ج2 ص427 تحقيق د. التركي وجلاء العينين ص368.
[27] عقيدة السلف أصحاب الحديث ص42، الأسماء والصفات للبيهقي ص456، وسكت عليه الكوثري، شرح الطحاوية ص245، شرح الفقه الأكبر للقاري ص60.
[28] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج8 ص251.
[29] الفقه الأكبر ص302.
[30] الفقه الأبسط ص56، وسكت عليه محقق الكتاب الكوثري.
[31] روح المعاني ج6 ص156.
[32] الفقه الأكبر ص301.
[33] الفقه الأكبر ص302.
[34] الفقه الأبسط ص56.
[35] الفقه الأكبر ص301.
[36] الفقه الأكبر ص301.
[37] الفقه الأبسط ص49، مجموع الفتاوى لابن تيمية ج5 ص48، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص139، العلو للذهبي ص101، 102، العلو لابن قدامة ص116، شرح الطحاوية لابن أبي العز ص301.
[38] الأسماء والصفات ص429.
[39] الفقه الأكبر ص301.
[40] الجواهر المنفية في شرح وصية الإمام ص10.
[41] شرح الوصية ص10.
[42] الرفع والتكميل ص385 بتصرف، وأقره محقق الكتاب ص387.
[43] الرفع والتكميل ص387 بتصرف.
[44] أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص611-635 بتصرف.
[45] الفوائد البهية ص76.(/10)
[46] الأعلام ج3 ص78. شذرات الذهب ج1 ص243. العبر ج1 ص229. وفيات الأعيان ج2 ص317. الدكتور مصطفى الشكعة، الإمام الأعظم أبو حنيفة ص232. بتصرف.
[47] تاريخ بغداد ج6 ص107.
[48] الطبقات السنية ج1 ص198.
[49] تاريخ بغداد ج6 ص107.
[50] انظر مقدمة محقق كتاب مشيخة ابن طهمان ص4606.
[51] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص306.
[52] تهذيب التهذيب ج1 ص131.
[53] الفوائد البهية ص145.
[54] الفوائد البهية ص145.
[55] معجم الأدباء ج17 ص6.
[56] تاريخ بغداد ج4 ص242. ابن خلكان ج6 ص378. شذرات الذهب ج1 ص298. البداية والنهاية ج10 ص180. تذكرة الحفاظ ج1 ص292. بتصرف.
[57] العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص42.
[58] الثقات ج7 ص645.
[59] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص277.
[60] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص270.
[61] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج3 ص730.
[62] الفوائد البهية ص224.
[63] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص277.
[64] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص249، 250.
[65] الأعلام ج6 ص309. وفيات الأعيان ج4 ص184. تاريخ بغداد ج2 ص172. العبر ج1 ص2 30. شذرات الذهب ج1 ص321. بتصرف.
[66] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص277.
[67] مختصر العلو ص113.
[68] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص271.
[69] الفوائد البهية ص68.
[70] خلق أفعال العباد ص68-69.
[71] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص270.
[72] خلق أفعال العباد ص28.
[73] فتح الباري ج13 ص453؛ ولفظه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريَّتك بعثاً إلى النار".
[74] الفوائد البهية ص216.
[75] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص271.
[76] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج3 ص384.
[77] الفوائد البهية ص215.
[78] الفوائد البهية ص215.
[79] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص288.
[80] الجرح والتعديل ج4 ص331.
[81] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص308.
[82] فقه أهل العراق ص63.
[83] خلق أفعال العباد ص23.
[84] الفوائد البهية ص31.
[85] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص506.
[86] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص271.
[87] درء تعارض العقل والنقل ج6 ص265.
[88] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص384.
[89] مشايخ بلخ من الحنفية ج1 ص164.
[90] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص308.
[91] مشايخ بلخ من الحنفية ج1 ص125، 164.
[92] الفوائد البهية ص11-12.
[93] الثقات ج8 ص76.
[94] الطبقات السنية ج1 ص255.
[95] تاريخ بغداد ج14 ص191.
[96] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص291.
[97] تاريخ بغداد ج14 ص198.
[98] تاريخ بغداد ج14 ص198.
[99] تاريخ بغداد ج14 ص198.
[100] الفوائد البهية ص19.
[101] الفوائد البهية ص19.
[102] الطبقات السنية ج3 ص180.
[103] الطبقات السنية ج3 ص180.
[104] تاريخ أصبهان ج1 ص298.
[105] مشايخ بلخ من الحنفية ج1 ص131.
[106] شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة ج2 ص308.
[107] سير أعلام النبلاء ج15 ص27.
[108] وفيات الأعيان ج1 ص71. البداية والنهاية ج11 ص174. لسان الميزان ج1 ص274. شذرات الذهب ج2 ص288. الأعلام ج1 ص197.
[109] سير أعلام النبلاء ج15 ص27.
[110] سير أعلام النبلاء ج15 ص29.
[111] كتاب معيد النعم ومبيد النقم ص62.
[112] النور اللامع ص69/أ.
[113] النور اللامع ص2/ب.
[114] فتاوى ابن صلاح ج1 ص209.
[115] تبديد الظلام ص137.
[116] الشيعة وفنون الإسلام ص74.
[117] مناهج السنة ج6 ص231.
[118] النبوات ص132.
[119] كتاب النبوات ص132، قال ابن تيمية: "قد تواتر هذا عن عليّ بن أبي طالب".
[120] أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً خليلاً" ج7 ص20 ح4629؛ من طريق أبي يعلى عن محمد بن الحنيفة.
[121] أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر الصديق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ج7 ص16 ح3655؛ من طريق نافع عن ابن عمر.
[122] أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان ج7 ص53 ح3697؛ من طريق نافع ع
23 من ربيع الثاني 1423هـ
http://arabic.islamicweb.com المصدر:
براءة الحنفية من الفرق البدعية ( 2 - 2 )
أبو إبراهيم الرئيسي الحنفي
ثالثاُ:الحنفية من الزيدية:(/11)
هم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة - رضي الله عنها - ولا يرونها في غيرهم، إلاَّ أنهم جوَّزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، لذا صححوا إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وكان زيد بن عليّ لا يتبرأ من الشيخين، فلما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة رفضوه فسميت رافضة [132]. وقد تتلمذ زيد بن عليّ هذا على واصل بن عطاء الغزَّال إمام المعتزلة، وحكى المقبلي [133] عن بعض الأشعرية أن الزيدية مقلدون للمعتزلة في الأصول، والحنفية في الفروع. ولكن علق على ذلك بقوله: "فليس موافقتهم للحنفية غالبة، بل ذلك في بعض أئمتهم" [134]. لكن ذكر الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الحنفي: "أن الزيدية في الفروع على مذهب أبي حنيفة وفي الأصول على مذهب المعتزلة" [135]. أما الكوثري فقد ذكر أن مذهب زيد بن عليّ متفق في معظمه مع مذهب أبي حنيفة لاتحاد مصدر المذهبين [136].
فتأثر الزيدية بالإمام أبو حنيفة، ذلك لأن الإمام كان يرى في أول أمره جواز الخروج مع زيد بن عليّ أي الخروج بالسيف على السلطان الجائر، فقد قال الجصاص: "وكان مذهبه - رحمه الله - مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، لذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتَّى جاءنا بالسيف بعني قتال الظلمة فلم نحتمل، ثم قال: وقضيته في أمر يزيد بن عليّ مشهورة في حمله المال إليه، وفتيا الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن..." [137] فقد خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخوه بالبصرة فأيَّدهم بعض العلماء والقُراء، ومنهم أبو حنيفة.قال ابن العماد: "خرج مع إبراهيم كثير من العلماء منهم هشيم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعياد بن العوام ويزيد بن هارون وأبو حنيفة كان يجاهر بأمره ويحث الناس على الخروج معه كما كان مالك يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد" [138] ويؤيد ما حكاه الجصاص وابن العماد ما أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة بسندٍ صحيحٍ عن أبي يوسف قال: "كان أبو حنيفة يرى السيف" [139]. وروي كذلك بسند صحيح عن إبراهيم بن شماس قال: "قال رجلٌ لابن المبارك ونحن عنده إن أبا حنيفة كان مرجئاً يرى السيف فلم ينكر عليه ذلك ابن المبارك" [140].
ولكن، قد أستقر آخر الأمر عند الإمام أبو حنيفة على عدم الخروج. دلَّ على هذا ما قرره واختاره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضةً، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم يالصَّلاح والمعافاة" [141]. وما ذكره الطحاوي هو ما حكاه ابن الهمام عن أبي حنيفة في المسايرة وأقرَّه الشارحان، ابن أبي الشريف وابن قطلوبغا وكذا ذكره البزدوي. قال ابن همام: "وإذا قلَّد عدلاً، ثم جار وفسق لم ينعزل، ويستحق العزل إن لم يستلزم فتنة، ويجب أن يدعى له ولا يجب الخروج عليه كذا عن أبي حنيفة وكلمتهم قاطبة" [142]. وقال البزدوي: "الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرتضيُّ" [143]. وقد اقر الإمام أبو حنيفة نفسه بهذا، فقد سأله أبو مطيع البلخي قائلاً له: " ما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتَّبعه على ذلك ناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولم؟ وقد أمر الله - تعالى -ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا فريضة واجبة. فقال: وهو كذلك، لكن ما يفسدون من ذلك يكون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال المحارم وانتهاب الأموال، وقد قال الله - تعالى -: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] قال أبو مطيع: فنقاتل الفئة الباغية بالسيف؟ قال: نعم تأمر وتنهى فإن قبل وإلاَّ قاتلته فتكون مع الفئة العادلة وإن كان الإمام جائراً، ثم قال له بعد ذلك: وكن مع الفئة العادلة والسلطان الجائرِ ولا تكن مع أهل البغي" [144] وهذا يدل على إن الأمر استقر عند الإمام على عدم الخروج.
رابعاً: الحنفية من المعتزلة:(/12)
إن إمام المعتزلة هو واصل بن عطاء بن حذيفة الغزال من موالي بني ضبة أو بني مخزوم. لقب بالغزال ولم يكن غزالا لتردده على سوق الغزالين. سمي أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري مع صاحبه عمرو بن عبيد. إن الاعتزال كمذهب عقائدي نشأ حين افترق الناس إلى الخوارج وشيعة، وتساءل الناس عن مصير الذين خاضوا في الفتن، وفيها قتلت نفوس بغير حق، مما يعتبر من الذنوب الكبائر. وهنا طرحت مسألة مرتكب الكبيرة، فقال لخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله وهو مخلد في النار، وسئل الحسن البصري عن ذلك، فقال: إنه مؤمن ولكنه فاسق، فخالفه تلميذه واصل بن عطاء ومعه عمرو بن عبيد فقالا: إن مرتكب الكبيرة فاسق، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فهو غير مؤمن إيماناً مطلقاً، ولا هو كافر مطلقاً، ويكون كافراً ومخلداً في النار إذا مات ولم يتب توبة نصوحاً. وهنا أعتزل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مجلس أستاذهما الحسن البصري وسمي أتباعهما المعتزلة. كان هذا بداية اتجاه فكري، وسمو بالعقلانيين، أحرار الفكر الذين يقولون بأن للعقل الولاية الأولى في الحكم على الأشياء. وبذلك يكون لمفكري الإسلام قصب السبق إلى هذا الاتجاه الفكري. أقام المعتزلة مذهبهم على خمس أصول هي: أولاً؛ التوحيد: وهو لب مذهبهم، فهم يرون أن الله واحد أحد ليس كمثله شيء، وأنه ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا شخص، ولا هو جوهر ولا عرض، وهو عندهم منزه عن المشابهة والمماثلة مع المخلوقات والمحدثات. وقالوا: لو كان لله صفة كالعلم والإرادة والسمع والبصر، مستقلة عن ذاته، لاقتضى أن تكون تلك الصفة قديمة، والإقرار بقدمها يقتضي الإقرار بوجود قديمين، وبذلك يكون لله شريك في القدم، وهذا شرك ينافي التوحيد. وعلى ذلك بنوا قولهم بنفي الصفات عن الله وبخلق القرآن - تعالى -الله عما يقول الظالمون -. ثانياً؛ حرية الاختيار: وعندهم أن الأصل في الإنسان أنه حر في اختيار أفعاله، وهو الذي يفعلها ويحاسب عليها، فيثاب إن كانت خيرا ويعاقب إن كانت شرا. فهو مسئول عن أفعاله. وعندهم أن الإنسان قادر على خلق أفعاله بقدرة أودعها الله فيه، وجعله يميز بها الخير عن الشر. ومن أجل ذلك سمي مذهبهم بمذهب القدرية نسبة إلى قدرة الإنسان على صنع أعماله، وفي ذلك خالفوا الجبرية الذين قالوا إن الله هو الذي يخلق أفعال الإنسان، وإن الإنسان مجبر عليها ولا خيرة له فيها. وحجة المعتزلة في مذهبهم أن الله - تعالى -لو كان هو الذي يخلق أفعال الشر، فيكون ظالماً إذا حاسب الإنسان عليها والله - تعالى -منزه عن الجور. وقد تلقوا هذا الأساس عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي القدريين. ثالثاً؛ الوعد والوعيد: وهو يعني أن من أطاع الله - تعالى -دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وهذا وعد الله للمطيعين ووعيده للعاصين. من هذا الأصل قالوا: لا يغني عن المرء إيمانه إذا لم يفعل الخير ويصدق العمل الصالح هذا الإيمان. رابعاً؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ومن هذا الأصل انطلقوا في الدفاع عن الإسلام والذود عنه أمام سيل الزندقة الذي اندفع في أول العصر العباسي. خامساً؛ المنزلة بين المنزلتين: ويعني الحكم على مرتكبي الذنوب الكبيرة بالخلود في النار إذا ماتوا دون توبة نصوح، وتسميتهم فسقة وجعلهم في مرتبة أدنى من المؤمنين وأعلى من الكفار، وهذا ما عنوه بقولهم إنهم في منزلة بين المنزلتين. [145] والمعتزلة كانوا في بدايتهم أصحاب فكر جدلي منطقي متحمس وثقافة واسعة ناقدة استخدموها في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وفي مواجهة خصوم الإسلام خصوصاً من أصحاب الأديان المنسوخة وبعض أصحاب الثقافات الدينية الوثنية الذين دخلوا بتراثهم إلى الإسلام وأردوا نشره بين المسلمين، فكان للمعتزلة في البداية، جهد مشكور ودور محمود ونجاح مشهود في هذا المضمار. ولأن الخصم في الطرف المقابل يرفض القبول بالنقل عن نصوص الإسلام كحجة عليه والمعتزلة يرفضون نصوص عقيدته أو ثقافته كحجة عليهم أو على الإسلام، كان لابد من لجوء الطرفين إلى الأدلة العقلية المحضة في المجادلة والحجاج وكان النصر في الغالب حليف المعتزلة على خصومهم من أصحاب الأديان المنسوخة والنحل الوثنية. لكن طول الجدل والحجاج بالأدلة العقلية أدى بالمعتزلة كما قلنا آنفاً إلى حالة من العدوى المزمنة وإلى نوع من الشطط والإفراط والإغراق في استخدام تلك الفرضيات والنظريات والبراهين العقلية، وأتجه بهم إلى الركون المطلق على العقل فقط ورفض - أو على الأقل - استبعاد النقل من نصوص القرآن والسنة في مسائل العقيدة، وإلى تطرف وتعصب ممقوت وإلى تقديس للعقل وإعجاب بالنفس واستعلاء على الغير فاعتسفوا وتنطعوا كثيرا وبشكل أدى بهم إلى انحرافات خطرة كان من أبرزها رفض الأدلة النقلية من نصوص المصادر الإسلامية في مسائل العقيدة بل ومخالفتها في كثير من الأحيان من النقيض إلى النقيض وإلى(/13)
الاستقواء بالحكام الذين ذهبوا مذهبهم لفرض معتقداتهم كما حصل في قضية خلق القرآن في عهد المأمون العباسي وغيرها من أصولهم الخمسة، حين فرضوها على العلماء والعامة بسوط السلطان وقهر القوة وإرهاب الدولة.
وفد تسرب الاعتزال إلى الحنفية شيئاً فشيئاً حتى دخل الاعتزال إلى أسرة الإمام أبي حنيفة فقد كان حفيد الإمام من دعاة الفتنة بخلق القرآن [146]. ومن هؤلاء الحنفية المعتزلة [147]:
1) إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
2) بشر المريسي، جهمي معطل خالف المعتزلة في أفعال العباد ووافق السلف لذا هجرته المعتزلة. [148]
3) محمد بن شجاع البلخي، تلميذ المريسي. [149]
4) أحمد بن ابن أبي داود بن جرير الحنفي المعتزلي، قاضي المأمون. [150]
5) محمد بن أبي الليث الأصم الحنفي المعتزلي، قاضي مصر وأحد رؤوس الفتنة في تعذيب أهل السنَّة. [151]
6) أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي المعتزلي إمام الهاشمية من فرق المعتزلة. [152]
7) أحمد بن عمر الخَصَّاف، قال عنه اللكنوي: " كان فرضياً عارفاً بمذهب أبي حنيفة" [153].
8) عبد الله بن احمد البلخي أبو قاسم الكعبي الحنفي إمام الكعيبة من المعتزلة بغداد. [154]
9) محمد بن عليّ البصري أبو الحسين الحنفي المعتزلي صاحب كتاب "المعتمد في الأصول". [155]
10) أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي، إمام المعتزلة في وقته وشيخ أبي الحسن الأشعري. [156]
11) أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي القاضي الحنفي، رأس المعتزلة وشيخ أبي الحسن عبيد الله الكرخي. [157]
12) الحسين بن عليّ البصري المعتزلي الحنفي، قال عنه الصيمري: "لم يبلغ أحد مبلغه في العلمين أعني الفقه والكلام". [158]
13) أبو الفتح عثمان بن جني الحنفي المعتزلي. [159]
14) إسماعيل بن عليّ بن الحسين الحنفي المعتزلي أبو سعيد السمان. [160]
15) عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني المعتزلي الحنفي. [161]
16) محمود بن عمر الزمخشري، قال عنه اللكنوي: "كان إمام عصره بلا مدافع نحوياً ذكياً فقيهاً مناظراً متكلماً أديباً شاعراً مفسراً من أكابر الحنفية، حنفي المذهب معتزلي المعتقد. " [162]
17) مختار بن محمد أبو رجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني، قال عنه اللكنوي: "كان من كبار الأئمة وأعيان الفقهاء عالماً... له اليد الباسطة في الخلاف والمذهب والباع الطويل في الكلام والمناظرة... صرح ابن وهبان وغيره أنه معتزلي الاعتقاد حنفي الفروع. " [163]
وغيرهم من أئمة الإعتزال. قال المعلمي: "وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلاَّ على يدي أصحابكم يعني الحنفية المعتزلة ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم يعني أبا حنيفة إلى أن قال: كانت المحنة على يدي أصحابكم، واستمرت خلافةَ المأمون، وخلافةَ المعتصم، وخلافةَ الواثق، وكانت قوة الدولة كلها تحت إشارتهم، فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع الأقطار، وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه بأنواع الأذى ولذلك تعمدوا أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي والإمام أحمد بن حنبل حامل راية فقه الحديث وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي وابن الحكم وغيره. " [164]
وكان من أشد الناس تعذيباً للمخالفين وتحمساً للقول بخلق القرآن، أحمد بن أبي داود قاضي القضاة ومحمد بن أبي الليث قاضي مصر في أيام المعتصم والواثق. قال ابن قديد: "ورد كتاب المعتصم على هارون بن عبد الله قاضي مصر بحمل الفقهاء في المحنة فاستغنى هارون من ذلك فكتب ابن أبي داود إلى محمد بن أبي الليث يأمره بالقيام في المحنة وذلك قبل ولايته القضاء وكان رأساً في القيام بذلك فحمل نعيم بن حماد والبويطي وخشنام المحدث في جمعٍ كثيرٍ سواهم. " [165] وقال عليّ بن عمرو بن خالد: "لما استخلف الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمع، فلم يبقَ أحد من فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أُخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث بالاكتتاب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق" فكتب بذلك على المساجد فسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد، وأمرهم ألاَّ يقربوه. " [166](/14)
واستمرت المحنة حتى تولى الخلافة المتوكل؛ فأظهر الله السنَّة وفرج عن الناس [167]. قال الذهبي: "وفي سنة 234هـ أظهر المتوكل السنَّة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار واستقدم المحدثين إلى سمراء وأجزل صلاتهم ورووا أحاديث الرؤية والصفات. " [168] وقال ابن الجوزي: "وفي سنة 407هـ استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتَّعظ بن أمثالهم. " [169]
الإمام أبو حنيفة ثاقب البصيرة، وقد علم بشر المعتزلة ولعنهم، فقد لعن الإمام أبو حنيفة عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء إمام الإعتزال؛ فقد روى الهروي عن محمد بن الحسن قال: "قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام. " [170] وقال الإمام أبو حنيفة عن المعتزلة: "لم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد أجدل من المعتزلة؛ لأن ظاهر كلامهم مموه تقلبه القلوب. " [171] وأنكر عليهم إبطالهم للصفات حيث قال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه أبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف. " [172] ورد عليهم قولهم: إن القرآن مخلوق؛ حيث قال: "وكلام الله - تعالى -غير مخلوق. " [173] وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "وأيقنوا أنه كلام الله - تعالى -بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. " [174]
أما الصاحبان فأبو يوسف كان يرمي المعتزلة بالزندقة [175]، وأما محمد بن الحسن فيوصي من صلَّى خلف المعتزلي بإعادة صلاته [176] ويرى أن المعتزلي لا تجوز الصلاة عليه [177]. وبالجملة فكتاب الإمام أبو حنيفة "الفقه الأكبر" رد على الجهمية والمعتزلة فيما أنكروا من أسماء الله - تعالى -وصفاته، فقد ضمنه جملة من الصفات الإلهية التي وردت في الكتاب والسنَّة الصحيحة.
خامساً: الحنفية من المرجئة:
المرجئة والخوارج فرقتان متقابلتان في الإيمان، فالخوارج تعد كل كبيراً كفراً سواء كفر نعمة أو كفر شرك، فجاءت المرجئة فأعلنت أن الإيمان هو المعرفة [178] فقط. وهؤلاء معروفون بمرجئة الجهمية، وبعضهم قالوا: "إن الإيمان هو إقرار باللسان [179]، وهم مرجئة الكرامية، وبعضهم زعموا أن الإيمان: هو تصديق فقط [180]. وذهب جمهورهم [181] إلى أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وهؤلاء معروفون بمرجئة الماتريدية. وقال بعضهم: إن الإيمان هو التصديق والإقرار [182]. وهؤلاء معروفون بمرجئة الفقهاء. وسموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان. "
ولم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة إلا مرجئة الكرامية ومرجئة الفقهاء، فكان الإمام أبو حنيفة يرد على من يقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن أهل القبلة لا يدخلون النار مهما اقترفوا من المعاصي، وزعموا أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة [183]: "ونقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، لا نقول: إنه لا يدخل النار... ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة. " [184]
مع هذا فأبو حنيفة عنده شيء من الإرجاء الخفيف، وهو من مرجئة الفقهاء، غير أنه بريء من بقية أنواع الإرجاء. ولقد تبرأ الإمام أبو حنيفة ممن نسب إليه الإرجاء؛ فقال في رسالته إلى البتي: "وأما ما ذكرت من اسم المرجئة فما ذنب قوم تكلموا بعدل، وسماهم أهل البدع بهذا الاسم، ولكنهم أهل عدل وأهل السنَّة وإنما هذا اسم سماهم به أهل الشنآن. " [185] وإنما قال ذلك بناء على مفهوم الإرجاء عنده، وهو مذهب غلاة المرجئة الذين يجعلون الإيمان: هو المعرفة؛ فلا يضر معه ذنب. والمسائل الخلافية بين مرجئة الفقهاء وبين بقية أهل السنَّة يرجع إلى خلاف لفظي في بعض المسائل المتنازع فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه لم يكفر أحد، من السلف من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنَّة هو الصواب. " [186] ويقول: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنَّة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلاَّ فالقائلون بأن الإيمان قول من فقهاء كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنَّة أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كما كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضاً: إن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة. " [187](/15)
فإن بين مرجئة الفقهاء، ومنهم الإمام أبو حنيفة، وبين بقية أئمة السنَّة قدراً مشتركاً وقدراً مفترقاً. فأما القدر المشترك فهو:
1) أن الإيمان مركب وليس بسيطاً، كما عليه غلاة المرجئة من الكرَّامية والماتريدية.
2) أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يُنْفى عنه مسمى الإيمان ولا يخلد في النار بل هو مؤمن فاسق.
3) أن الإقرار يزول وقت الإكراه، دون التصديق. [188]
4) أن الاستثناء في الإيمان لا يجوز لأجل الشك.
وأما القدر المفترق فيه:
1) الإيمان عند أبي حنيفة التصديق بالجنان والإقرار باللسان فقط، وأما بقية الأئمة فهو هذان الأمران والعمل بالأركان.
2) أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان عند أبي حنيفة داخلة فيه عند بقية الأئمة.
3) أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أبي حنيفة ويزيد وينقص عند بقية أئمة السنَّة.
4) لا يجوز الاستثناء في الإيمان عند أبي حنيفة مطلقاً، ويجوز في حال دون حال عند أئمة السنَّة.
لذلك ذهب الغزالي [189] والذهبي [190] وابن أبي العز، إلى القول بأن الخلاف هو خلاف صوري. وفي ذلك يقول ابن أبي العز: "الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنَّة صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. " [191] فليس المقصود النزاع اللفظي الذي لا يترتب عليه خلاف في المعنى، فيكون من قبيل اختلاف التنوع، بل مقصوده أنه نزاع يتعلق بالأسماء وهي من الألفاظ، يدل عليه قول ابن تيمية: " بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنَّة هو الصواب". [192]
ومن الحنفية الذين تلبسوا بعقيدة المرجئة:
1) بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة 228هـ وإليه تنسب المريسية وقد عدَّها بعض كتاب المقالات [193] من فرق المرجئة. قال عنه الإسفراييني: "منهم المريسية أصحاب بشر المريسي ومرجئة بغداد من أتباعه، وكان يتكلم بالفقه على مذهب أبي يوسف القاضي ولكنه خالفه بقوله إن القرآن مخلوق وكان مهجوراً من الفريقين وهو الذي ناظر الشافعي - رضي الله عنه - في أيامه فلما عرف الشافعي أنه يوافق أهل السنَّة في مسألةٍ والقدرية في مسألةٍ قال له: نصفك مؤمن ونصفك الآخر كافر. وكان يقول: الإيمان هو تصديق بالقلب واللسان كما قاله ابن الراوندي. هذه المرجئة المحضة الذين يتبرأون عن القول بالجبر والقدر. " [194]
2) محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255هـ وإليه تنسب فرق الكرامية وقد عدها بعض كتاب المقالات من المرجئة [195]، فمحمد بن كرام جمع مع بدعة الإرجاء بدعة التجسيم وقد زعم أن الله - تعالى -له جسم له حد ونهاية [196]. قال عنه الذهبي: "المبتدع شيخ الكرامية، كان زاهداً عابداً ربانياً بعيد الصيت كثير الأصحاب... كان يقول: الإيمان هو نطق باللسان بالتوحيد مجرداً عن عقد قلب وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: إن الباري جسم لا كالأجسام... وكان الكرامية كثيرين بخرسان ولمهم تصانيف ثم قلوا وتلاشوا نعوذ بالله من الأهواء" [197].
3) محمد بن محمد بن محمود أبو منصور، والمعروف بالماتريدي، نسبة إلى ماتريد محلة بسمرقند فيما وراء النهر. والمتوفى سنة 333هـ، فهو من أئمة علم الكلام، أقام نظرياته في العقائد على المأثور عن أبي حنيفة النعمان، فهو يثبت أدلة الشرع بالأدلة العقلية والمنطقية والبراهين التي لا مجال للشك فيها، وهو يجعل للعقل سلطاناً ولكن تحت ظل النقل، فهم يفسرون النصوص على مقتضى حكم العقل، والماتريديون أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الأشاعرة. فمباحث الإيمان من الأمور التي اعتركت الآراء حولها قديماً وحديثاً، والماتريدية لم موقف من الإيمان وافقوا في بعض نواحيه الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - وخالفوه في بعضها. اتَّفقت الماتريدية مع أبي حنيفة في أربعة أمور، وهي: إخراج العمل عن مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق [198]، عدم زيادة الإيمان ونقصانه [199]، تحريم الاستثناء [200]، عدم تكفير صاحب كبيرة [201]. أما ما خالفت الماتريدية الإمام أبو حنيفة في مفهوم الإيمان، إن مفهوم الإيمان عند الإمام أبي حنيفة مركب من أمرين التصديق بالقلب، والإقرار باللِّسان. فالإقرار باللسان شطر من الإيمان وداخلٌ فيه. أما الماتريديُّ وجمهور أتباعه لأن بعض الماتريدية ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار - [202] فقد جعلوا الإقرار باللسان خارجاً عن حقيقة الإيمان، فالإيمان عندهم هو التصديق [203]، غير أنَّهم جعلوا الإقرار شرطاً لإجراء الأحكام الدنيوية فقط [204]. وهذا النَّوع من الإرجاء الغالي.
سادساً: الحنفية من الجهمية:(/16)
إن مذهب الجهمية يقوم على أساسين: الأول؛ نفي الصفات عن الله - تعالى -، والثاني؛ القول بخلق القرآن، فالله - تعالى -عندهم ليس له صفة غير ذاته، لأن قيام صفات الله - تعالى -تجعله شبيهاً بمخلوقاته. ولما كان الكلام من صفات الإنسان المخلوق فلا يمكن أن يكون الله متكلماً، لأن من اتصف بصفة الكلام وجب أن تكون له آلة الكلام فيكون مشابها للحوادث، ومحال على الله - تعالى -مشابهة الحوادث، لأنه قديم أزلي، وهو وحده الخالق ولا يمكن أن يشبه مخلوقاته، وعلى هذا الأساس قالوا بأن القرآن مخلوق، ولو كان قديما لكان شريكا لله في القدم، والله وحده هو الأزلي المختص بالقدم، وأن ما سواه، مهما كانت قدسيته، لا يعلو إلى مرتبة القدم، وكل شيء ما عداه محدث. ونفي الصفات عن الله - تعالى -تعطيل لها، لذلك يدعى مذهبهم باسم "التعطيل" ويدعون باسم "المعطلة". ويترتب على رأيهم أن الله وحده هو القادر والخالق، ولا يصح للمخلوقات أن تتصف بهاتين الصفتين، وإذا انتفت هاتان الصفتان عن المخلوقات، فلا يمكن أن يكونوا مختارين ولا قادرين على خلق أفعالهم، بل يكونون مجبورين عليها. وهذا هو أساس القول بالجبر الذي اعتمده المعتزلة. ولما كان الله - تعالى -هو الأزلي الدائم، فإن كل ما عداه فان زائل، وعلى ذلك فإن الجنة والنار في رأيهم تفنيان، لأن ثبات البقاء الدائم لنعيم الآخرة وعذابها فيه مشاركة لله في اتصافه وحده بصفة البقاء والأزلية ويريد الجهم بقوله بالجبر إثبات التوحيد المطلق لله، وأنه هو الواحد لا يشترك معه في خلقه أحد. فقد أجمع أئمة أهل السنَّة والجماعة على تكفير الجهمية، ومع ذلك ثبت أن من الحنفية من تلبس بمقالات الجهمية، منهم:
1) بشر بن غياث المريسي المعتزلي الجهمي المرجئئ. [205]
2) محمد بن شجاع البلخي المعتزلي الجهمي، المتوفى سنة 266هـ، تلميذ المريسي، قال عنه المزي: "كان أحد الجهمية". وقال عنه ابن كثير: "كان أحد عباد الجهمية. " وقال عنه الذهبي: "كان يقول: عند أحمد بن حنبل كتب زنادقة. " وجاء من غير وجهٍ أنه كان ينال من أحمد وأصحابه ويقول إيش قام به أحمد؟ وكان يقول: أصحاب أحمد يحتاجون أن يذبحوا. وكان يقول إنما أقول كلام الله كما أقول سماء الله وأرض الله. وأوصى وصية كان فيها: "لا يعطى من ثلثي إلاَّ من قال القرآن مخلوق. " وكان ينال من الإمام الشافعي ويقول: "من الشافعي؟ إنما كان يصحب بربر المغني. " ورجع عن مقالاته هذه لما احتضر. [206] ولقد ادعى هذا الجهمي أن الزنادقة قد وضعوا اثني عشر ألفاً من الحديث وروَّجوها على رواة الحديث. فتحدَّاه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي بوضع عشرة أحاديث فضلاً عن اثني عشر ألف حديث. [207]
3) أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي المتوفى سنة 199هـ، فقد قال عنه الإمام أحمد: "لا ينبغي أن يروى عنه حكوا عنه أنه يقول الجنة والنار خلقتا فستفنيان وهذا كلام الجهم" [208].
4) محمد زاهد بن حسن بن علي بن خضوع بن باي بن قانيت بن قنصو الجركسي الكوثري،وقد هاجم الكوثري في مصر علماء عصره بدافع التعصب لمذهبه الحنفي ولآراء أبي حنيفة، واشتهر عنه ذلك التعصب حتى لقب بـ"مجنون أبي حنيفة" [209]. وذكر المعلمي أن الكوثري- بتعصبه هذا - أساء جداً حتى إلى الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ورضي عنه -. ومع تعصب الكوثري لمذهبه ومغالاته فقد كان فيه انحراف في المعتقد وعدول عن منهج السلف، وانحياز إلى مذهب الجعد والجهم، وميول إلى الاعتزال [210].
سابعاً: الحنفية من الحلولية الاتحادية:
هم من يقولوا أن البارئ يحلّ في الأشخاص، وأنه جائزٌ أن يحلَّ في إنسان وسبع، وغير ذلك من الأشخاص، وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئاً يستحسنونه، قالوا: لا ندري لعل الله حالٌّ فيه، ومالوا إلى اطّراح الشرائع، وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض، ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبودة. [211] فمن الحنفية من اعتنق هذا المهب، وهم:
1) علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، والمتوفى سنة 816هـ. [212]
2) الفناوي بدر الدين ملا حسن الشبلي (جلي) ابن محمد شاه الرومي، والمتوفى سنة 886هـ. [212]
3) نور الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي، والمتوفى سنة 898هـ. [213]
4) لطف الله بن حسن التوقاني الرومي، المقتول 900هـ، فقد ألف كتاباً سماه "سبع الشداد". وأوله: "حمداً لك يا من هو الموجود في كل مكان". [214] وهذا حلول صريح.
5) إسماعيل صفي بن مصطفى الجلوتي الإسلامبولي مؤلف روح البيان، على الطريقة الجلوتية الصوفية على غلوه في وحدة الوجود. [215](/17)
6) بدر الدين محمد بن محمد بن خليل القاهري، أبو اليسر، والغرس لقب جده خليل. من فقهاء الحنفية. حج وجاور وألقى دوسا بمكة. كان غاية في الذكاء، يجيد اللعب بالشطرنج. كان يقول بوحدة الوجود التي يقول بها الحلاج وابن عربي وابن الفارض وحزبهم. [216] كان مع جلالته وإمامته في العلوم من الاتحادية قال البقاعي: "... فصار من رؤوس الاتحادية التابعين للحلاج وابن العربي وابن الفارض. " [217]
7) محمد بن يوسف بن علي بن محمد الحسيني. أبو الفتح صدر الدين الدهلوي، والمتوفى سنة 825هـ. زاهد من العلماء، اتحادي خرافي باطني. [218]
8) محمد شجاع بن معز الدين اليحيوي الهندي الاتحادي ومن أعيان القرن الثالث عشر. [219]
الخاتمة:
والرَزِيَّةُ كل الرزية أن من تلبس بشيء من هذه البدع فإنه ينسب ذلك إلى أبي حنيفة وهو بريء منها. فقد أنتسب إليه الحنفية من المعتزلية بعضاً من عقائدها [220]، وكذا المرجئة إرجاءً مطلقاً؛ ومن ذلك قول الشهرستاني: "ومن العجب أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة - رحمه الله - مثل مذهبه في الإيمان ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه" [221]. وهذا والله لمسبة. وقد حقق أهل العلم أن انتسابهم إلى الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - منكر من القول وزور.
قال ابن أبي العز - رحمه الله -: "ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك يعني علو الله - تعالى -على خلقه واستواءه على عرشه ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاده. وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد - رضي الله عنهم - من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله - عز وجل - فوق العرض، مشهورة. " [222]
وقال شيخ الإسلام: "وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ولاسيما وقد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئاً من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد. وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئاً من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة. " [223]
وقال أبو مظفر الإسفراييني: "قد نبغ من أحداث أهل الرأي من تلبس بشيء من مقالات القدرية والروافض مقلداً فيها، وإذا خاف سيوف أهل السنَّة نسب ما هو فيه من عقائده الخبيثة إلى أبي حنيفة تستراً به فلا يغرنك ما ادعوا من نسبتها إليه فإن أبا حنيفة بريءٌ منهم ومما نسبوه إليه. " [224]
وقال شيخ الإسلام: "فما من إمامٍ إلاَّ وقد انتسب إليه أقوام وهو منهم بريء. فقد انتسب إلى مالك أناسٌ، مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أُناس، هو منهم بريٌ، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريْ منهم. " [225]
وبعد هذا نصل إلى نتيجة واقعية وهي أن الحنفية تلبس كثير منهم بعقائد فرق شتىـ وجعلت كل فرقة تنسب عقيدتها إلى الإمام أبي حنيفة بخاصة وأهل السنَّة عامة، وكان بين هذه الفرق قدر مشترك من البدع كالتعطيل للصفات، والتحريف لنصوصها تحت ستار التنزيه، والتأويل، والقول بالإرجاء. وكان بين هذه الفرق احتكاك لرابطة عقائدية فيما بينها في الجملة، ولاعتناقها المذهب الحنفي، فصار هذا كله سبباً مهماً في اضمحلال العقيدة الحنفية التي قررها الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة وصارت العقيدة الماتريدية تمثل عقيدة جمهور الحنفية منذ عهد بعيد إلى العصر الحاضر، وأبو حنيفة بريء من الماتريدية براءة الذئب من دم يوسف.
والله أسأل أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن يوفقنا جميعاً لهدي كتابه والسير على سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، نسأل الله - سبحانه وتعالى - بأسمائه الحسنى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه ومن طاعته ما يبلغنا به جنته وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يغنينا بجلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه وأن يتقبل توبتنا ويغسل حوبتنا إنه سميع مجيب وصلى وسلم على النبي الأمي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
23 من ربيع الثاني 1423هـ
http://arabic.islamicweb.com المصدر:(/18)
براهين إيمانية
الحلقة الخامسة
رقم الشريط ( 2)
الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله، وبعد:
فهذه الأرض التي تسكن عليها ، وتسكن عليها الأمم والشعوب، وتتعاقب فيها الأجيال، إذا رأيناها من القمر فسنراها كوكباً معلقاً، يعلق فيه الأمم والملوك والرؤساء والجيوش والخبراء والله يحرك الكون كيف يشاء.
هذه الأرض قال الله عنها ?وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ?[الذاريات:20-21] فهي آيات لمن يريد اليقين فتعال لنرى، سنرى موقع الأرض أولاً: إنها تحتل موقعاً خاصاً في المجرة التي نعيش فيها، فالمجرة كلها تقع تحت حقول مغناطيسية خطيرة وضارة للكائنات الحية على الأرض وبما فيها موقعات صغيرة نسبتها إلى المجرة كما نراها لو قسمناها (150قسماً) فإن قسماً واحداً منها هو المناسب لوجود هذه الأرض، ثم إن الأرض مثلاً مكان الزهرة أو بدلاً منها هو المناسب لوجود هذه الأرض، ثم إن الأرض مثلاً مكان الزهرة أو بدلاً عن عطارد، أو في مكان المريخ لتغير نظام الليل والنهار، ولتغيرت الحرارة ولتغير نتيجة لذلك كثير من شئون الحياة والكائنات الحية، فمن جعل هذه الأرض في موقعها الصحيح، وفي مكانها الصحيح واختار لها ذلك الموقع بين المجرة وبين المجموعة الشمسية، إنه العليم بحال الكائنات التي عليها الخبير بأحوالها والظروف المحيطة بها سبحانه وتعالى، وهذه الأرض لها حركات، تحثنا في الحلقة الماضية عن حركة الأرض حول الشمس، والآن نتكلم عن حركتها حول نفسها، وما ينشأ عنه من ليل ونهار، فالقمر مثلاً يدور حول نفسه مرة كل نصف شهر، معنى ذلك أن الليل والنهار في المقر مدته تصل إلى نصف شهر، فلو كانت الأرض مثلاً تدور حول نفسها مرة كل نصف شهر كالقمر، كنا سننام ليلة وننتظر طوال الفجر سائر الليالي وكان يكفي ذلك لتدمير الحياة على سطح الأرض، إن هذا الموقع هو الموقع المناسب فلو كنا في موقع آخر لوصلت درجة الحرارة إلى 93م، وعندئذ تدمر الحياة ، ولو طال النهار عشر مرات لاحترقت كل الكائنات الحية، فتأمل إلى بديع صنع الله يقلب الليل والنهار، ويختار الموقع المحدد للأرض وهو القائل ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ?[القصص:72] لقد وجد الأطباء أنه لابد من الظلام لسكون الحركة داخل الجسم ، هناك من الكواكب ما لها ليل دائم أو نهار دائم، وكان بالإمكان أن تكون الأرض مثل هذه الكواكب فمن يقلب الليل والنهار، إنه الله سبحانه وتعالى، وتأمل إلى هذه الأرض كيف جعلها الله مائلة ليست عمودية على طول مدارها، فينشأ عن هذا الميل الفصول الأربعة والتغير في المناخ الذي تتجدد فيه الحياة على وجه الأرض، ثم تأمل إلى هذا الغلاف الذي يحيط بالأرض.
هذا الغلاف الهوائي جعل الله فيه سرعة فكما أن فيه نسمات الحياة، فهو أيضاً حماية وحفظ للكائنات الحية، فإن هذا الدرع وإن كان شفافاً فإنه يسمح بمرور الأشعة النافعة لنا أما الأشعة الضارة فإنه يعكسها كما نرى في هذه الصورة س. هذه الأشعة التي تنزل من الشمس موجات مختلفة فلا يسمح بنفاذ إلا الذي ينفع ساكني الأرض، والأرض والغلاف الهوائي هو الذي يمتص الأشعة الضارة، كما يتبين لنا من الشكل القادم، ما هي الأشعة التي تنعكس وتتبدل وتمتص في غلاف الهواء الذي جعله الله لنا درعاً واقياً من هذه الأشعة، كيف لا يصل إلى هذه الأرض الشعاع المناسب لحياتنا.(/1)
أما الأشعة الضارة كأشعة × فإنها تنعكس وتمتص، والغلاف الهوائي أيضاً جعل الله له كثافة ، وجعل له وزناً ، وقد وزن الهواء المحيط بالأرض فوجدوا أنه يصل إلى 5 مليون طن ، ولذلك يحمل الطائرات، وترفع الطائرات بسبب الضغط الذي يكون لهذا الهواء، وهذا الغلاف الهوائي جعل الله له كثافة بحيث إنه عندما تأتي النيازك وهي كثيرة بكميات هائلة فتنزل إلى الأرض، قبل أن تصل إلى الأرض تحترق إلا أعلا، ولذلك نرى نحن هذه النيازك تحترق فوق، في الغلاف الهوائي قبل أن تصل إلى الأرض، ولو وصلت إلى الأرض لدمرت كل الكائنات الحية وأ؛رقت المدن والمحاصيل والغابات ولكن الله جعل لنا ففي هذا الهواء، فكما أنه يصدر لتنفسنا فهو درع يقينا من هذه الأخطار من هذه النيازك، وجعل الله تناسباً بين وزن هذا الهواء وبين ضغط الدم في أجسامنا، ولذلك نحن لا نشعر بهذا الهواء لماذا؟ لأنه في داخل أجسامنا ضغط للسوائل من الداخل فلا نشعر بهذا الضغط، مثلاً هذه الورقة لو أننا ثبتناها في أماكن مختلفة ثم ضغطنا من جهة تحترق، فلو كان الضغط من هذه الجهة وجه هذه الجهة فإن الضغط لا يؤثر ولا يمزق هذه الورقة، فكذلك أجسامنا هناك ضغط من الداخل للدماء والسوائل، وضغط للهواء وجعل الله تناسباً بين الضغطين، فهذا الهواء البديع التي يتكون من النتروجين والأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، أما النيتروجين فإنه مع البرق يتحد مع ثاني أكسيد الكربون ويكون سبباً لتسمد الأرض وتكوين الغذاء، وأما الأوكسجين فنحن نتنفس يساعد على احتراق الأشياء المختلفة التي تحتاج إليها بوجود النار، وثاني أكسيد الكربون يدخل في جسم النباتات فيصنع فيه النبات ذلك الطعام فانظروا إلى هذا التركيب لهذا الهواء من نوع معين من الغازات تناسب حياتنا وتنفعنا فكيف جعل الله هذا التركيب لهذا الهواء من نوع معين من الغازات تناسب حياتنا وتنفعنا فكيف جعل الله هذا التركيب الدقيق الذي له أثر يدلنا على رحمة الخالق وعلى حكمته وعلى السحب فتنزل الأشعة من الشمس وترفع بخار الماء حتى إذا ارتفع فوق الجبال تكثف وتكونت السحب أعلا، لا تتكون السحب أسفل لأن درجة الحرارة تنخفض مع الصعود إلى أعلا، مع أننا نقترب من الشمس وكان المفروض أن تزيد درجة الحرارة لكن لا ، الأمر المعكوس، جعله الله هكذا لتخطيط دقيق وتدبير حكيم كلما ارتفعنا إلى أعلا تنخفض درجة الحرارة، ولذلك درجة حرارة من يسكنون على الجبال أبرد، المناطق التي في الجبال أبرد من الوديان من أجل تتكثف السحاب فتبقى محفوظة على الأرض حتى لا تغادر، لأنه لو كانت الحرارة تزداد فإن بخار الماء سيطر وتصب السحاب في السماء وفي النجوم وفي الكواكب، فعكس الله هذه السنة على سطح الأرض لكي تتكون السحب وتحمل على هذا الغلاف الهوائي، ثم يتحرك السحب بنظام الغلاف الهوائي الذي فيه فيسوق لنا السحب حتى تصل فوق رؤوسنا ثم ينزل ولكن لا ينزل دفعة واحدة ويصب صباً إنما ينزل قطرات خلال فترات متقاربة لا تضر زرعاً ولا تقلع زرعاً ولا تدمر حياة ولا كائناً من الكائنات الحية، وهذا الصنع البديع المحكم في هذا الغلاف الهوائي مما يقوم به من خدمات يدل على أنه من صنع العليم الحكيم الخبير الحافظ الذي أراد أن يحفظنا بهذا الدرع من الأخطاء ، وحاطنا الله بحزامين مغناطيسيين كما نرى في هذه الصورة فإن الأخطاء ليست من الأشعة التي تأتي من الشمس فقط، بل هي من الأشعة التي تأتي من الشمس، ومن الأشعة التي تأتي من سائر النجوم، انظروا إلى هذه الأرض وقد أحيطت بحزامين مغناطيسيين يصرفان الجسيمات الخطيرة القاتلة للحياة، ويحرفان هذه الجسيمات بعيداً عن الأرض فسبحان الحافظ الذي أتقن الصنع وأبدعه .
وهذا الماء الذي نشربه يخبرنا الله عنه في كتابه حيث يقول?أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا?[الأنبياء: 30] وعلماء الكون والجيولوجيات يعلمون أن الأرض كانت جزءاً من السماء فانفصلت عنها كما قرر ذلك ابن عباس قبل ألف وأربعمائة عام من هذه الآية، ولكن الآية تقول: ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء:30] أي ونزل معهم إلى الأرض القدر الكافي من الماء المناسب لهذه الأرض، فلو زادت كمية هذا الماء لغمر الماء كل شيء، ولو قل لما وجد ذلك القدر الذي يتكون منه المطر، ولكنهن أنزله بتقدير وبإحكام، ثم حفظه الله تعالى في البحار ولو جعله عذباً لتعفنت البحار، ولكن الله جعل مياه البحار ملحة حتى لا يغيره لنا ماء عذباً بالتبخير فينزل علينا ماء عذباً فشربه كما قال تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ?[الواقعة: 68-70] .(/2)
يسير الله هذا المطر بعد أن يتحول إلى بخار بسبب حرارة الشمس لرفعه فوق مستوى الجبال وعندئذ تتكون السحب لأن البرودة أكثر من فوق مستوى الجبال مع أننا نقترب من الشمس لكن هكذا جعل الله النظام في الأرض، على سطح الأرض درجة حرارة عالية كما نرى في السواحل والوديان، وفي قسم الجبال باردة على عكس السنة – سبحانه وتعالى – وما جعلها تزداد مع القرب من الشمس وإلا كانت مياه البحار تغادر وتسافر وتصب مياهها في الفضاء، ثم إذا أنزلها أنزلها قطرات رقيقة لا تدمر زرعاً ولا تهلك إنساناً ولا حيواناً ولا تحطم زرعاً فبفضل الله تنزل قطرات قليلة، والله يقول: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ?[المؤمنون:18] أي نستطيع أن نذهب بهذا الماء لو تغير شيء من نظام الحرارة، الماء لا يغلي إلا عند درجة مائة مع أنه أكبر مذيب من المواد على وجه الأرض، هناك مداد تذيب مثل البنزين والكحول ولكن درجة الغليان عنده منخفضة، لو كانت درجة حرارة الماء منخفضة ليست مائة درجة لتبخرت مياه البحار وأصبحت معلقة في السماء كالمياه الموجودة في الزهرة، ولكن بفضل الله يحدث هذا التبخر ويتكون السحاب ثم نرى بعد ذلك الرياح، تأتي الرياح بعد ذلك فتسوقه لينزل بعد ذلك مطراً.
وهذا الماء له كثافة عندما يتجمد، المواد السوائل لها درجة انصهار، فأنت ترى سائل يمكن أن يتحول إلى مواد صلبة والأشياء الصلبة تنصهر وتتحول إلى أشياء سائلة، فحالة الصلابة أقوى ما تكون المادة كثافة فيها، فلو أن الكثافة تكون عند أخفض درجة حرارة يعني عند الصفر لما تجمد بالبرودة، إذا وصلنا في جو الأرض إلى درجة الصفر تكون الثلج ولكن الثلج ثقيل فعندئذ سينزل إلى أعماق البحار ويتراكم، وتتحول البحار بأكملها إلى كتلتة واحدة من الثلج، فأين تذهب الأسماك غير الله النظام في الماء فجعل أعلا درجة كثافة عند درجة 4م مئوية أي والماء لا يزال سائلاً، وجعل الثلج أخف من الماء عند درجة 4م.
لذلك فنرى الثلج يطفو إلى أعلا، وتبقى المياه من تحته حتى تستطيع الأسماك أن تعيش، وأن تحيا وأن تجد شيئاً من الدفء فسبحان الخالق العليم بأحوال تلك الأسماك، والعليم بالمياه وبنظامها المناسب لتلك الكائنات، والماء جعله الله مذيباً فهو أقوى مركب فإذا نزل عليه الصخول أذابها فتخرج المعادن اللازمة منها للنباتات وجرت مع السيول مع الغرية ليسمد الأرض وليخصبها على الدوام ثم يذيب الماء والأوكسجين فالأكسجين يذيب الماء فلماذا يذوب الأكسجين في الماء؟ من أجل تلك الكائنات الحية – الأسماك التي تعيش عليه التي لا بد لها من هواء تتنفسه فاعطاها الله الخياشيم التي تمكنها من استخلاص الأوكسجين الزائد في الماء والمطر إذا نزل وقطرات المطر إذا نزلت تنزل وهي مشبعة بالأكسجين الذي ينفع تلك الأسماك في باطن البحر وهو أيضاً كذلك يذيب ثاني أكسيد الكربون فإن نسبة ثاني أكسيد الكربون الزائدة إذا زادت في الجو فإنها توفر مصدراً لارتفاع درجة الحرارة في الأرض إلى درجة شديدة جداً لا تطاق ولكن جعل الله البحار تمتص ذلك القدر الزائد من ثاني أكسيد الكربون لتلقيه بنسبة مناسبة للحيوانات والنباتات فتأمل إلى هذا الصنع البديع وإلى الإحكام، ولقد أنشد الشاعر شعراً (الشاعر عبدالرحمن قاضي حول هذا الماء ونظامه وتركيبه، فقال:
كن يا أخي إلى السحاب ناظراً
أرسله لنا الإله رحمة
فسلط الشمس على البحار
ورفع مائه إلى السماء
وحاطه ببارد الهواء
وهو أراد أوجد الحرارة
وساق نحوه الرياح نشراً
فلا الجبال تستطيع ردها
... ... كيف غداً سيلاً يسيل طائراً
فهل شكرت للإله النعمة
لرفع ما فيه من البخار
فوق الجبال هذه الشماء
لوقف رفعه إلى السماء
فلا ننال عندها قطاره
كثيرة بعد سحاب معصرا
إن شاء من وراءها أن ينفذا
يعني إذا أراد السحاب يمشي الجبال ما تستطيع أن تروه لأنه فوق مستواها:
وساق أخرى نحوه الخلاق
ولو جرى من السماء سائلاً
هذا إذا أنزل سيلاً في البلد
فيا ترى أذلك التدبير
من وثن أصم أو طبيعة
أم أن ذاك حقاً شاهد
... ... بقدر منه له تستاق
لأمطر الناس الفناء العاجلا
فكيف لو صب جبالاً من برد
تدبير من ليس له تفكير
جامدة لربها مطيعة
بأن مولاه الإله الواحد
وهذا الماء إذا نزل إلى الماء فإن الأرض تمتص لكن لا إلى الأعماق كما نرى في هذه الصورة، لا تمتصه إلى الأعماق، بل ينزل من السطح فيجري ثم يحفظ على الصحن القريب فنأتي نحن ونجد الماء في مخزن قريب فتنبع العيون منه أو نحفر الآبار حتى نصل إلى مصدر ذلك الماء.
إنه يقول: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ?[الملك:30].(/3)
فكذلك نرى في الصحراء حيث توجد الواحدة في أرض الصحراء، وهذا الواحة بسبب كما نرى في هذه الصورة لأن المياه القريبة موجودة ومحفوظة فيها كما هي محفظة في الآبار القريبة كما نرى في هذا الشكل.
تأمل أخي إلى صنع ربك العظيم لهذا الماء وبديع خصائصه هذا الماء له درجة من الحرارة النوعية فحرارته النوعية خمسة أضعاف الحرارة ولذلك إذا أردنا أن نرفع درجة حرارة الماء يعني سم3 من الماء يعني درجة واحدة فتحتاج إلى (5) أضاف لرفع درجة حرارة نفس المقدار من الصخر ولذلك ماذا ينشأ عن ذلك؟ ينشأ عن ذلك أن يصبح الماء مكيفاً عاماً، نحن نحتاج إلى مكيفات في بيوتنا، الله جعل لهذه الأرض مكيفاً عاماً في هذه البحار، ففي النهار تأتي حرارة الشمس وتنزل إلى البحار، والبحار تزيد كمية هائلة لأن حرارتها النوعية عالية، فتمتص قدراً كبيراً ولا ترتفع درجة حرارتها بسهولة وإنما تمشي على الرمال فلا تستطيع أن تمشي على الرمال على رمال الشواطئ لأن الحرارة أثرت فيها وامتصت قدراً هائلاً من الحرارة، لكن برودة البحار في النهار يجعل الرياح تنتقل فيها باردة فتكون الأرض والقارات في الليل ماذا يحدث إذا سرت على الشاطئ سترى الرمال أصبحت باردة في منتصف الليل لكن الماء تجده دافئاً فعندئذ تأتي الرياح من البحار التي تحيط بالقارات فتدفئ الجو ولولا ذلك لارتفعت درجة حرارة الأرض درجة عالية جداً لا تطاق معها الحياة، وتنخفض في الليل انخفاضاً شديداً لا تطاق معه الحياة.
فتأمل إلى هذا الصنع البديع في تركيب الأرض وما جعل الله فيها من مائها وترابها، وأرضها، ثم هذه القشرة الأرضية، نحن نعيش على قشرة، قشرة الأرض كقشرة التفاحة، بالنسبة للتفاحة، نرى في هذه موجات لقياس باطن الأرض، بينما نرى سطح الأرض هو ذلك الجزء الرقيق الذي أعلا هذه الصورة.
ماذا يوجد تحتنا؟
-تحتنا باركين، تحتنا أخطار، تحت أقدامنا ميزان هائلة ولكن الله جعل هذا السمك من الصخور الذي يصل من سمك 33كم إلى 74كم فراشاً يفرش هذه الأرض لنتقي بهذا الفراش حرارة النيران التي تحت أقدامنا، فتأمل كيف حفظنا الله ثم هل نظن أن هذا الباطن واقف، إنه متحرك، إنه يموت موراً كما جاء في ذكر ذلك في كتاب الله، ?أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ?[الملك:16].
يعني لو خسف بكم جزء من الأرض فستجدون أنفسكم أمام أرض متحركة تدور دوراناً كما نرى في هذا الشكل الذي قدمه العلماء، فالجزء أعلاه هو الأرض وهذه الدوائر البيضاء هي اتجاهات تمثل حركة باطن الأرض الناري من الصهير البركاني، فكان ونحن نستقر على القارة، وتحتنا يمور موراً عندئذ كان يفترض أن تتحرك بناء القارات وأن تتصادم مع بعضها، الذي تحتنا يتحرك وهي من أعلا، لكن لا: جعل الله الجبال وأرسى الأرض بهذه الجبال وجعل لهذه الجبال أوتاداً تغوص في تلك الطبقة اللزجة من الصغير البركاني فتثبت هذه القارات فتأمل في هذه الأرض وتأمل كيف جعل الله لها الموقع حركاتها حركات الأرض حول نفسها حركتها مع الشمس ومع المجرة ومع غيرها في هذا الكون، مما يشهد أنه من صنع الحكيم الخبير.
-وتأمل إلى ذلك الميل في الأرض الميل المناسب، وتأمل إلى الدرع الهوائي والدرع المغناطيسي ليحميها ويقيها الأخطار التي تأتينا من السماء يدلك على أن ذلك من صنع العليم الحافظ الرحيم سبحانه وتعالى .(/4)
-وتأمل إلى سوق المطر وإثبات الثمار ليدل كذلك على أنه من رحمة الرحيم جل وعلا وتأمل إلى خصائص الماء والغليان والكثافة النوعية وكونه المذيب العام على هذه الأرض، تأمل إلى دورة الماء تأمل إلى سطح الأرض الذي فرشه الله وهيأه لنا، ووفر لنا على هذا السطح طعامنا وماءنا وهوائنا ورزقنا واستقرارنا وكيف أن الله جعل هذه الأرض مهاراً لنا، تأمل كيف استقرت وسل نفسك من صاحب هذه الصفات التي تشهد الأرض بصفاته إذا كنا قد رأينا في ذلك المصباح عندما تكلمنا في حلقة سابقة وقلنا أن صنعه يدل على أن صاحبه لديه زجاجاً قادر على تشكيل الزجاج بشكل اسطواني، وأن عنده معدناً وأن عنده قدرة على تشكيل المعدن بشكل غطاء وأن عنده إحكاماً، وأن عنده علم بالكهرباء فها نحن نرى الأرض يشهد لنا أن هذا العلم من صنع العليم وأثره من أثر العليم سبحانه وتعالى والرحمة من الرحيم والحكمة من الحكيم والخبرة من الخبير والرزق من الرزاق والحفظ من الحافظ والقوة من القوي والقدرة من القادر، ثم تأمل كيف كان التنسيق بين كل هذه الأنظمة نظام الماء ونظام الهواء والجبال ونظام التربة ونظام البحار ونظام التبخير، ونظام السحب، وحركات الأرض وتقلب الليل والنهار، وبعدها وموقعها، من جميع كل هذا ونسقه؟ وهيأه لنعيش على هذه الأرض ونستقر عليها وتعيش عليها هذه الأمم والشعوب، إنه الخالق الواحد سبحانه، ونحن نشهد كما تشهد الأرض بأن لهذه الأرض رباً حكيماً عليماً خبيراً رحيماً حافظاً رزاقاً قوياً قادراً وأنه الذي يستحق أن يعبد وأنه الذي يستحق أن يطاع، ولذلك نشهد كما يشهد الكون فنقول : نشهد أن لا إله إلا الله.
وكما رأينا أخبار القرآن عن بعض أسرار الأرض مما يدلنا على أن الذين أخبر محمداً في هذا الكتاب الكريم بأسرار الأرض وأسرار السماء هو الله سبحانه، فكشف بهذه الحقائق التي اكتشفت في عصرنا مرة ثانية على أن محمداً رسول الله، وهكذا نرى في بناء هذا الكون وتصميمه أدلة الإيمان وبراهين من براهين الإيمان ومعجزات من معجزات القرآن والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الشريط الثاني ، الحلقة السادسة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله ، وأصلي وأسلم على رسول الله ، وبعد :
فإننا نستطيع أن نعرف بعض صفات ربنا من التفكر في مصنوعاته ومخلوقاته – سبحانه وتعالى – وسنتفكر في هذه الحلقة في الكائنات الحية والله يقول ?وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[الجاثية:4] (وفي خلقكم وما بث من دابة آيات لقوم يوقنون) فاليقين طريقة التفكير في هذه الآيات والآثار المشاهدة ، هذه الكائنات الحية تختلف عن الأشياء الميتة الجامدة ، فهي تختلف عنها في فروق ذكرها الدارسون فقالوا : الكائن الحي يتغذى والمادة الجامدة لا تتغذى، والكائن الحي يتنفس ويتراوح ويتكاثر ويتناسل وهذه ليست من صفات المواد الميتة الجامدة ونحن قد كنا أمواتاً فأحيانا الله ثم نموت، ويحيينا الله جل وعلا ، يقول الله جل وعلا : ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[البقرة:28] تعالوا لنتأمل في ظاهرة الحياة التي نراها في هذه الكائنات الحية ابتداء من الخلايا النباتي وانتهاء بالإنسان .(/5)
علم الملاحدة أن الحياة تعجزهم وتخسرهم لأن الحياة وراءها تركيب وتدبير وعلم إحياء وإتقان وإبداع ومقاصد معروفة تدل على الإرادة والحكمة والعلم، لذلك رأينا الشيوعيين الذين تبنوا راية الإلحاد في موسكو لفترة من الفترات عام 1942م يطلبون من أكبر خبرائهم في الكيمياء – أو برين – ويقولون له : أخلق لنا كائناً حياً من مواد ميتة فقال : أعطوني فرصة ، فأعطوه فرصة ، وقال: أعطوني من يعاونني ، فاختاروا له من يريد ، وبعد عشرين سنة 1962 أعلن أوبرين نتيجة محاولاته فقال : لقد تأكدنا أنه يستحيل أن تتكون الحياة من مواد ميتة، هذه المدرسة الشرقية ، أما المدرسة الغربية فقد اتجهت في البحث عن سر الحياة في أصغر جزء توجد فيه الحياة ، وجدوا أن الحياة توجد وأن أصغر يوجد في الحياة هو حامض سموه (D.N.A) وقالوا : إذا أردنا أن نحصل على حامض (D.N.A) فلا نستطيع أن نحصل عليه إلا من كائن حي ووجدوا أن ذبابة (دروسفيلا) ذبابة الفاكهة هي التي تعطيهم أكبر حجم لحامض (D.N.A) يمكنهم أن يدرسوه فأقاموا دراساتهم على هذه الذبابة ، و(D.N.A) هو المستخلص من ذبابة الفاكهة ، ثم قالوا : اكتشفنا استطعنا أن نركب حامض (D.N.A) ونستطيع أن نركب الحياة، وصنعوا حامض (D.N.A) كحامض (D.N.A) الذي أخذ من تلك الذبابة لكن حامض (D.N.A) الذي أخذ من الذبابة إذا سلب منهن الماء تحول إلى مادة ميتة فإذا أعطي الماء دبت في الحياة، وحامض (D.N.A) الذي صنعوه مهما سكبت له من الماء فلا حياة ولا كرامة ، فقالوا: كذلك ووصلوا إلى نفس النتيجة والعجيب أن القرآن يتحدى هؤلاء يتحداهم أن يخلقوا ذبابة قال تعالى : ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ?[الحج:73] والعجيب أنهم عقدوا مؤتمراً بعد اكتشاف سر (D.N.A) وسمي ذلك المؤتمر بمؤتمر حامض (D.N.A) فقد اجتمعوا له والله يقول ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?[الحج:73-74] : شيء عجيب أيضاً يتحداهم أن يستعيدوا ما أخذه الذباب لماذا؟
لأن الذباب إذا سقط على طعام أو أي شيء لا يأخذ إلا بعد أن يسكب عليه من لعابه ليحوله إلى مادة أخرى يستطيع أن يمتصها فالذباب إذا أخذ منا شيئاً لا نستطيع أن نستعيده لأنه يكون قد حوله إلى شيء آخر (ضعف الطالب والمطلوب).
ثم إن الخصائص التي يمتاز بها الكائن الحي القدرة على الغذاء تأمل هذا الغذاء، الغذاء هو المخازن التي تمد جسم الكائن بالطاقة وتمده بالمادة التي يبنى منها جسمه لكي يتحرك هو بحاجة إلى مادة يبني منها ذلك الجسم، هذه المادة أو تلك الطاقة كلها توجد عن طريق الغذاء، فتعالوا لنرى: كيف يسر الله لكل كائن حي غذاءه، هذا الجنين في بطن أمه يسر الله له الغذاء وهو في بطن أمه تسعة أشهر.
ـ إذا كسرت صخرا من الصخور فإنك ستجد في بعض الصخور دوداً، دود في داخل الصخرة وتد ذلك الدود حياً فمن يرزقه؟
وتأمل إلى جنين النباتات التي يعلق في الكهوف غذاؤه معه حتى إذا ما أنبتت تلك البذةر فإن غذاءها معها حتى يخرج البنات، ضم الله الغذاء لهذه الكائنات الحية .
الحوت في أعماق البحر غذاؤه عنده، الفرخ في جوف البيضة غذاؤه عند، حفظه الله وكون له فيه ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا?[هود:6] .
ثم تأمل : خلق الغذاء وخلق له جهازاً ينتفع به من الغذاء الذي خلقه الله له.
ثم تأمل إلى الجهاز الهضمي المناسب لكل كائن حي، الصراصير عندها جهاز هضمي يتناسب مع غذائها ، الأسود عندها جهاز هضمي يتناسب مع غذائها، الأسماء لها جهاز هضمي يتناسب مع غذائها، وهكذا كل كائن حي خلق له رزقه وخلق له الجهاز الهضمي الذي يمكنه من الانتفاع من ذلك الجهاز. علام يدلنا؟(/6)
يدلنا على أن هذه التركيبات لكل هذه الكائنات الحية في أرزاقنا أنها من نصع الرزاق الذي يرزقها، فهي إرادة علمية حكيمة رزاقة تدبر وتعقل وتعي ما تفعله أم أن هذه الآيات البديعة التي نراها من تدبير الرزاق سبحانه وتعالى، ثم نرى بتعد ذلك النمو آية أخرى من آيات الكائنات الحية ينمو الجسم ويتضخم، هناك تقدير هناك برنامج، يبدأ النمو من خلية واحدة، كل الكائنات تبدأ من خلية واحدة، ثم تتضاعف تلك الخلية لكن هذه الخلية الواحدة تكون قد جاءت من أب وأم فإذا اجتمعت تكونت النواة للكائن الجديد سواء كان جملاً أو فيلاً أو كان بعوضة أو كان ذبابة أو كان ثعباناً أو كان سمكة واحدة من خلية واحدة وفي تلك الخلية برنامج يعرفه العلماء يعرفونه معرفة دقيقة برنامج مخطط مرسوم تلك الخلية إلى أن تصبح كائناً كاملاً تنقسم وتتكاثر تلك الخلية تصبح ملايين ومليارات الخلايا لبعض الحيوانات لكنها تشير في طريق مرسوم يرسمه ذلك البرنامج جزء سيذهب ليكون اليد وآخر يكون الرجل وثالث يكون العين ورابع الجزء الآخر يكون الفم ويكون المعدة ويكون الجناح ويكون الزعانف في السمك، برنامج مرسوم فمن صاحب هذا البرنامج، من أوجد التقدير لكل كائن لكل خلية تتكون منها هذه الكائنات، برنامج هذا سيكون منه جمل ، هذا سيكون منه بعوض فالتقدير يحتاج إلى إرادة وقدرة وخبرة وعلم فمن صاحب هذا التقدير؟ الطبيعة الصماء البكماء العمياء – سبحانه الله – قال تعالى : ?وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ?[النور:45] فالماء هو المكون الأول للخلية الأولى المنوية التي يتكون منها هذا الكائن، فمن يهدي هذه الخلايا إلى إمكانها، ويقول هذه الخلية لتكون الرئة، وأنت ستكوني المعدة، وأنت ستكوني الجناح، وأنت ستكون مخلب القط وأنت ستكوني ناب أسد، من يهديها؟ من يرشدها؟ إلى مواضعها إلى أماكنها ويكونها من المواد المناسبة لوظيفتها وتركيبها؟ ذلك صنع الله الخالق الذي يتصرف في هذه الكائنات كيف يشاء، وهو الذي يريبها وينشؤها من نطفة واحدة فتكون مخلوقاً سوياً كاملاً ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ?[الملك:1-2] فمن صاحب هذه الكائنات البديعة، من الذي هدى أجزاءها إلى مواضعها؟ وهدى تلك الأجزاء إلى وظائفها وركبها؟ بما يتناسب مع تلك الوظائف؟ من الذي صور تلك الكائنات؟ من الذي أعطى للأسد صورته؟ وأعطي للإنسان صورته؟ وأعطي للثور صورته؟ وأعطي للثعبان صورته؟ وأعطى لهذه الكائنات صورها؟ من ؟ أنه المصور البديع الهادي الرزاق الذي يحيى ويميت جلا وعلا؟ ثم تعالوا لنرى هذه السرعة؟ من الحيوانات من حركة واسعة، تسير وتجري، فجعل الله لها بصراً، يريها مدى واسعاً من الرؤية، وجعل لها سمعاً تسمع إلى أماكن بعيدة، وهناك من الكائنات ما حركته محدودة، كبعض الحشرات ويعطى الأسماك التي تعيش في أعماق البحر، جعل الله وسائل تتناسب مع تلك البيئة المحدودة التي تعيش فيها.
فلننظر الآن إلى الصقر؟ هذا.. وهو يرى بنظر حاد عند فريسته من مكان بعيد ينقض عليها ويراها أين هي وكذلك السمع يسمع ما حوله من الكائنات الحية كالكلاب وغيرها، هذا البصر الذي به يرى المخلوق المجال من حوله كالكائنات وما يدور من حوله، من أوجده؟ من أنشأ هذا البصر من ركبه وكونه؟ من لا بصر له: الطبيعة الصماء البكماء العمياء؟ ثم هذا السمع من كونه ومن خلق أجهزته في هذه الكائنات؟ ومن ركبه؟ إن هذا لا يكون إلا ممن عنده اختصاص بالسمع والبصر فإن هذا علامة وعلامات قدرته سبحانه وتعالى، فإذا كانت المخلوقات لديها سمع ، ولديها بصر وهو أكمل منها وله المثل الأعلى فوجود السمع وجود البصر عند هذه الكائنات ينبؤنا بأن الخالق سبحانه وتعالى له كمال هذه الصفات ولا يمكن أن يكون ذلك من طبيعة صماء بكماء عمياء لا تسمع ولا تبصر، ثم تعالوا لنرى آية أخرى من آيات الله وهي التنفس، نحن بحاجة إلى الهواء، الكائنات الحية كلها محتاجة إلى الهواء، لماذا؟
لأن الطعام الذي وصل إلى تلك الخلايا لابد من احترافه حتى تتكون الطاقة اللازمة لتحرك الكائن الحي فالمطلوب إذا أن يصل هذا الأوكسجين إلى كل خلية في الجسم.(/7)
ـ الكائنات الحية أنواع : منها ما يتكون من خلية واحدة ، ومنها ما يتكون من عدة خلايا ومنها ما يتكون من مليارات الخلايا كالحيوان والإنسان، الكائنات الضخم؛ فكيف يصل هذا الهواء إلى كل خلية حتى يتم الاحتراق لتتولد تلك الطاقة؟ لنرى: الكائنات الحية التي تتكون من خلية واحدة على الله لها غشاء وجعل الهواء يلامس ذلك الغشاء وجعل القدرة في انتقال الهواء إلى داخل الخلية المكونة من خلية واحدة ، وإخراج ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء بعد ذلك الناتج من عملية الاحتراق في داخل الخلية فالغشاء هو المعبر الذي يدخل منه الأوكسجين ويخرج منه ثاني أوكسيد الكربون.
وإذا كان الحيوان من عدة خلايا، فكذلك الخلايا ما دامت تلامس الهواء يتم هذا، فإذا كانت آلاف وملايين الخلايا وهي في أعماق الحيوان مثل الحشرات كالجراد وغيره من الكائنات الحية ، جعل الله لهذه الحشرات ولهذه المخلوقات من جوانبها (من يطئها وصدرها فتحات وجعل لها أنابيب ـ يدخل منها الهواء ثم يتفرغ تلك الأنابيب، تتفرغ تتفرغ تتفرغ إلى أن تصل إلى كل خلية ، لأن المقصود أن يصل الهواء إلى كل خلية حتى يتم الاحتراق في الطعام وتتكون الطاقة وتوجد الحركة وتوجد خصائص الكائن الحي، ولكن هذه الفتحات تكون سبباً لخروج الماء من جسم هذا الكائن فجعل الله لها تركيبات من شعيرات وصمامات تمنع خروج بخاء الماء تسمح بخروج الهواء بدرجة محكمة .
هناك خلايا في الجل أو خلايا في اليد وخلايا في المخ ولابد أن يصل الهواء إلى كل خلية من هذه الخلايا فجعل الله جهازاً تنفسياً لهذه الكائنات الحية مستقلاً يبدأ بالأنف ثم القصبة الهوائي ثم الرئتين ثم تحريك آلي دائم حتى والحيوان نائم، يعمل الجهاز التنفسي باستمرار يدخل والأوكسجين ويطرح ثاني أكسيد الكربون، فإذا دخل الأوكسجين إلى الرئتين هناك يلتقي بالدماء التي تحمل ثاني أكسيد الكربون، فترمي ثاني أكسيد الكربون في الرئتين وتأخذ الأكسجين، ويدور الأوكسجين مع الدم إلى كل خلية في جسم الكائن، فسبحان الخالق الحكيم البديع الخبير العليم، الذي يعلم حاجة كل خلية ويوجد لها ما تحتاج إليه، ويسلك الطريق المناسب لإيصال ذلك المطلوب لذلك المحتاج فسبحان الوهاب وسبحان الكريم وسبحان الخلاق البديع .
ولكن هناك كائنات تعيش في الماء، بعيدة عن الهواء في الأسماك والكائنات البحرية، جعل الله لها قدرة على استخلاص الأوكسجين من الماء، فجعل لها أوكسجين يذوب في الماء وجعلها قادرة على استخلاص ذلك الأوكسجين، كان يمر على خياشيمها ويستخلص ذلك الأوكسجين، ويمر بعد ذلك الأوكسجين إلى كل خلية فيها ويتم الاحتراق، تقدير من هذا؟ تدبير من؟ تدبير مريد، وتقدير عليم خبير رحيم هذه صفاته، فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، ثم ماذا نرى في الكائنات الحية؟ نرى أنها تتكون من زوجين ذكر وأنثى.(/8)
فالكائنات الحية تتكون من أزواج، ونرى أعداد الذكور تتكافأ مع أعداد الإناث، ونقول تكافؤ لا تساوي لأن في بعض الأحيان يوجد ديك واحد يكفي عشراً من الدجاج، لكن عنده القدرة والكفاءة، وكذلك في كثير من الحيوانات هناك تكافؤ، أي أنه يوجد من الذكور ما يتناسب مع الإناث، نرى مثلاً: الملكة في النحل، ملكة واحدة ولكن تحتاج إلى تلقيح من عدد كبير من الذكور فنرى تكافؤ بين هذه الملكة وبين الأعداد الكثيرة من الذكور فجعل الله تكافؤ بين الذكور والإناث، هذا الخلق للذكر والأنثى ما يحتاجه الذكر أوجده الله عند الإناث وما تحتاجه الأنثى أوجده الله في فطرة الذكر، الذي صنع وخلق الذكر والأنثى عليم أنه خلق هذا ذكراً يحتاج إلى أنثى ، وعليم أنه خلق هذه أنثى تحتاج إلى ذكر، وهو عليم بأعداد هذه الذكور وأعداد هذه الإناث ولذلك أحصاها فأوجد ما يكافؤها وفي البشر في بعض الأحيان نرى في حالات الحرب أن عدد الذكور يموتون بأعداد هائلة نتيجة للحرب وجد الدارسون أن أعداد المواليد بعد الحرب يزاد فيها الذكور للتعويض، فمن الذي أجرى هذه الأحصاء ومن الذي رتبه؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، ثم تأمل تأمل إلى آية أخرى كيف يعد الله الأجنة لهذه الكائنات لبيئات معينة لتعيش في بيئة أخرى، فالبذرة معلقة في الشجر لكن فيها جنيناً فيه جذر سوف يضرب التربة ويتجه إلى أسفل، فمن خلق ذلك الجذر في تلك الحبة المعلقة في الهواء، وتأمل إلى ذلك الجنين يخلق له جهاز للتنفس للهواء الذي يتنفسه ويخلق له يدان ولا توجد مساحة كافية، ويخلق له جهاز هضمي ولا يوجد مواد يأخذها له يدان ولا توجد مساحة كافية، ويخلق له جهاز هضمي ولا يوجد مواد يأخذها عن طريق ذاك الجهاز الهضمي ، أن الذي خلق قد أعد كل جنين بما يناسبه فهذه الجنين أعده لبيضة أعده بأجنحة ضخمة كبيرة يطير بها في أجواء الفضاء وبيضات أخرى فيها ثعبان يعده الله بحلقات يسير بها على الأرض وبيضة ثالثة فيها سمك يعده الله بزعانف لأنه يعلم أنها ستعود في بيئة أخرى هي بيئة ذلك الماء وتأمل إلى الرحمة والعاطفة التي تتعاطف – تعطف بها الأمهات على صغارها فمن أوجد تلك الرحمة؟ الطبيعة وهل للطبيعة مشاعر وهل للطبيعة عواطف، أم أن ذلك كله بتقدير الحكيم العليم تأمل إلى الكائنات التي تعيش في المجتمعات كالنحل والنمل ولغة التخاطب فيما بينها من علمها لغة التخاطب؟ من علمها كيف تفهم بعضها؟ من أوجد فيها ما تحتاج ثم تأمل إلى هذه الكائنات كيف تحفظ نفسها، فمرة تحفظ نفسها بالقرار، أو بالاختفاء أو بتغيير لونها، أو بالطيران أو الانسداد في الجحور أو بإيجاد درع قوي فيها كالذي في السلحفاة أو بأغلفة تحيط بجذوع الأشجار، إنه الله سبحانه الحافظ الهادي الحكيم الرزاق العليم الذي خلق الحياة في هذه الكائنات الحية، تشهد بقدرته وعلمه وتدبيره وقدرته ومقتله وكرمه سبحانه وتعالى.
ونحن نشهد كما تشهد هذه الكائنات أن لنا رباً حكيماً عليماً خبيراً مصوراً رزاقاً بديعاً واحداً لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، هو الذي يستحق أن يعبد وهو الذي يستحق أن يطاع، والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
براهين الإيمان
الحلقة (28)
قد تكلمنا فيما مضى عن أدلة الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعن أدلة الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عن أدلة الأيمان باليوم الآخر هذا اليوم الذي تسير إليه الأجيال وتسير إليه ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ? [ الأنعام :61 ] ويبدأ التكريم أو الإهانة للذين يتجهون لليوم الآخر من لحظة الموت ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ? [الأنعام :93] فليتقى الله الذين يوجهون الناس ويفتون ويعلمون الناس الدين، ليتقي الله أرباب العلم الذين يقفون وراء الكلمة, روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقها ملكان يصعدان بها, قال حماد فذكر من طيب ريحها وذكر المسك قال ويقول أهل السماء ريح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسدك وعلى جسد كنتم تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز وجل فيقول المولى انطلقوا به إلى أخر الأجل ".
الصلاة من الملائكة الدعاء وأما الكافر إذا خرجت روحه ، قال مما وذكر من …. وذكر مقته ويقول "أهل السماء روح خبيثه جاءت من قبل الأرض فيقال انطلقوا به إلى أخر الأجل" قال أبو هريرة رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ربطه كانت على أنفه كي يبين نتنه وخبث تلك الروح ,(/9)
ويبدأ عذاب القبر كما جاء عن عائشة رضي الله عنها "إن يهودية دخلت عليها [على عائشة] فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر ، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم عذاب القبر حق" .
ويبدأ العذاب من بعد الموت قال تعالى مشيراً إلى هذا العذاب ? النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ?[ غافر:46 ] فآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً وإذا قامت الساعة يكون حساب آخر.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: فإن أرواحهم تعرض على النار إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار .
بعض المتشككين يتسأل ويقول: كيف يكون هناك عذاب القبر وبعض الأجزاء تكون قد تمزقت أو احترقت أو قد تكون أكلتها سباع وتوزعت تلك الأجزاء الظاهر من كلام ابن كثير أن العذاب يكون على الروح وهذا باطل والذي يمنع أن يكون عذاب يتصل الروح بالجسد فالله قادر على كل شيء ألست ترى الآن الكلمة التي تسمعها الآن عن طريق التلفزيون كلمة تنتقل إلى ألالاف بل الملايين من الأجهزة كلها تتكلم بحركة واحدة وتقدم صورة واحدة كيف ذلك مع أنها موزعة على أجزاء الأرض أفلا يستطيع المولى عز وجل أن يوصل العذاب إلى كل جزء من أجزاء ذلك البدن مهما كان قد توزع فالله قادر على كل شيء .
وإذا جاء اليوم الموعود وبدأ النفخ في الصور المرة الأولى والمرة الثانية وقام الناس من أجسامهم كما مر بنا في الحلقة الماضية بعثت الأجسام وسكنتها الأرواح فإذا هم قيام ينظرون أين يذهبون بعد ذلك ؟! إلى أرض المحشر قال تعالى : ?فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ*خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ* مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ? [القمر:6-8]
سبحان الله لقد جاءت هذه الآيات وهذا التهديد تعقيباً على الذين قالوا لما وقع انشقاق القمر قالوا هذا سحر فهددهم القرآن بهذه الآيات أي فتولى يا محمد عن الذين قالوا إن انشقاق القمر سحر وانتظرهم يوم يدعوا الداعي لأنهم يكذبون بكل آية تأتيهم بين أيديهم فتكون أبصارهم ذليلة ويخرجون من القبور مسرعين كما أشارت الآية ثم يكون الحشر قال تعالى: ? يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ? [مريم :85-86] فالوفد يكون مركوم والوفد مراكب على خلائق ليس مثلها على خلق مما يخلق الله ليس له مثيل وآخرون يحشرون على وجوههم وآخرون من المتكبرين يحشرون بحجم الذر فتطأهم الأقدام جزاء تكبرها في الدنيا.(/10)
وعن هؤلاء الذين يحشرون على وجوههم يقول الله جل وعلا ? الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ?[ الفرقان:34 ] وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون على ثلاثة أصناف فقال عليه الصلاة والسلام: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنف مشاه وصنف ركبان وصنف على وجوههم؛ قيل ، يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم" إلى أين هذا المساق ؟ إلى الموقف العظيم الذي يستمر خمسين ألف سنة ? سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ* تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ?[المعارج:1-4] فيوم الموقف عند الله, الناس يحشرون جميعاً ينتظرون فصل الحساب خمسين ألف سنة وتدنوا الشمس وتقترب من الناس وهي في خلق يتناسب مع ذلك الموقف إن السنن كلها تتغير معظمها من لذلك ونور الشمس حتى تكون قدر ميل أو ميلين مع ما يتناسب مع تلك الظروف وذلك الحال ويحرق الناس من شدة حرها ومنهم من يكون العرق إلى عقبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يصل إلى صدره ومنهم من يلجمه العرق ومنهم من يظله الله وهؤلاء الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ذكر الحديث منهم سبعه أخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, الإمام العادل, أي الحاكم الذي يحكم أمته على كتاب الله وسنة رسوله, وشاب نشئ في عباده ربه, شباب قوة وطاقة صرف هذه الطاقة في عبادة الله , ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, يجتمعان لأمر يرضى الله ولإعلاء كلمته وافترقا ليقوم واحد منهم بأمر أوجبه الله عليه فالاجتماع والافتراق من أجل الله جل وعلا , ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله, المرأة الجميلة مطمعة فكيف إذا كانت صاحبة منصب وهي تدعوه فيمسك إيمانه , ورجل تصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, فهو لا يتظاهر بالنفقة إنما يكتمها ويتستر , ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" من خوف الله تعالى .
وفي هذا الموقف الشديد يذهب الناس يريدون أن يفصل الله تعالى من شده هذا الموقف وأن يحاسبهم وأن يقضى بينهم فيذهبون إلى رسل الله يذهبون إلى آدم عليه السلام بعد ذلك إلى سيدنا نوح وهكذا إلى سيدنا إبراهيم ثم إلى سيدنا موسى ثم إلى سيدنا عيسى وكل واحد يدفع عن نفسه فيعتذر ويقول إن الله لم يغضب غضباً على لا أستطيع حتى يأتونا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيتقدم لها وهذه هي الشفاعة شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أعطيتها فيشفع بفصل القضاء فيلهمه الله جل وعلا الدعاء والتحميد فيذهب ويسجد تحت العرش ويدعو الله عز وجل فيستجيب الله له كما نرى هذا الموقف مسجلاً من كتاب الله ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ? [البقرة:210] يأتي الله جل وعلا يوم القيامة بفصل القضاء كما بينة هذه الآية ويعرض الناس جميعاً على رب العالمين صفاً واحداً قال تعالى ? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ? [الكهف:49 ]وقال تعالى: ? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً ? [الكهف:48 ] هذا هو الموعد وهذا هو يوم العرض وهذا هو يوم الحساب الآية تشير إلى أن هناك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، فيأتي بالأعمال نفسها وليس بصورها فأنتم الآن تشاهدونها صورة وتسمعونها كلاماً، استطاع الإنسان أن يسجل لنفسه ولغيره صوته وكلاه فما بالكم بالله رب العالمين إن الله يأخذ نسخة من العمل نفسه ? هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? [الجاثية:29](/11)
بل قد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفسر ما جاء بقوله تعالى ? إذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا*وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ? [الزلزلة :1-4], سئل الرسول صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال عليه الصلاة والسلام:" فإن أخبارها أن تشهد على عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا " , وبقيت الآية تفسر ذلك ? بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا* يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ* ? [الزلزلة :5-8] علماء عصرنا بحثوا هل الأعمال تبقى فقالوا لو أن أحداً وضع يده ثم ضغطها جاءوا بآلة تصور بالأشعة الحرارية فاستطاعوا أن يصوروا أي شخصاً كان في أي مكان بعد أن قام من مكانه لمدة ساعة ثم طوروها إلى أن استطاعت أن تصور بعد يوم وبعد يومين حتى أنهم استطاعوا أن يصوروا السيارة ومن ألوان السيارة التي مرت منذ يوم أو يومين يستطيعون معرفة كم كانت سرعتها. هذا يعني أن العلم له أثر باقي ومن هذا الأثر تمكنت هذه الكاميرات أن تصور القرآن يخبرنا أن الأرض تشهد عليهم وأننا سنرى أعمالنا وتلك من شهدتها علينا ?يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ* ?[الزلزلة :6-8] ويبدأ الحساب ثم في أثناء هذا الحساب عن عبدا لله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنبك ذا", مناقشة خاصة ومحاورة خاصة بين الخالق وعبده .
وقد ستره من الناس ويعرفه به ويقرره به حتى إذا قرره بذنوب ورأى في نفسه أنه هالك يقول الله سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ويكون الحساب من الناس من يكافأهم الله ويكون أجرهم على الله وهؤلاء هم الصابرون وهم في مقدمة الذين لا يكون عليهم لا حساب ولا سؤال قال تعالى: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر :10] هؤلاء لا حساب عليهم لأنهم صبروا على البلاء الذي ينزل بالناس قال تعالى?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ? [البقرة::155 ]صبروا رغم الشدائد ورغم المحن وكان بالإمكان أن يتخلصوا منها ولكن بمعصية لله فأبو ذلك. وصبروا على الطاعة كالصلاة في وقتها ، والصيام ، والزكاة ، والحج، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أن تخضع نفسك ضد شهواتها وضد هوائها أن تكفها عما حرم الله وتصبر على ذلك والصبر عن المعاصي فأهواء النفس تحركك وشهواتك فعند إذ يتحقق الصبر بهذه الثلاثة العناصر هؤلاء لا حساب عليهم وهناك سبعون ألفاً من أمة محمد يدخلون الجنة وليس عليهم أي حساب وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم فقال : "معهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون", وفي رواية : "أن الرسول طلب من الله تعالى أن يزيدهم فأعطاه مع كل واحد من السبعين ألف سبعين ألف", عكاشة بن محصن سأل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبرهم هذا الخبر فقال : أنا منهم يا رسول الله فقال ، نعم فقام أخر وسئل نفس السؤال فقال صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة".
وهناك من يحاسب حساباً يسيراً ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً* وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً* وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً* وَيَصْلَى سَعِيراً? [الانشقاق :6-16] يده الشمال ملوية إلى وراء ظهره ، أخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصححه أن عائشة رضي الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : قلت ما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر له في كتابه فيتجاوز عنه, إنه من نوقش في حسابه هلك"
أول من يحاسب:(/12)
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أول من يحاسب يوم القيامة هم هؤلاء" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأوتي به فعرفه نعمة فعرفها قال بما علمت فيها قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت لكنك قاتلت لكي يقال جريء فقد قيل ذلك ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت بها قال ، تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن قال كذبت بل تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها قال : ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها لك إلا أنفقت. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" , شأنهم أنهم كانوا يريدون بذلك وجه الله كانوا يريدون شيء آخر أما من كان قصده من هؤلاء وجه الله ثم جاءه بعد ذلك ثناء فليس ذلك الثناء هو المقصود إنما المقصود ما عند الله سبحانه وتعالى فإن جاء بعد ذلك فهذا إن شاء الله من عاجل بشرى المؤمن بالخير .
أما أول ما يحاسب عليه فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء" .
فأول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن صلحت صلح باقي العمل وإن فسدت فسد باقي العمل وأول ما يقضى بين معاملات الناس الدماء .
يعرض الناس على ربهم ثلاث عرضات كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله " , قال تعالى: ? وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ* وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ* يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ? [الحاقة :16 -18 ] ويسأل الناس يوم القيامة عما كانوا يعبدون من دون الله ويسألون عما كانوا يعملون كما قال تعالى: ? فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ ? [الحجر:92 ] ويسألون عن الرسل ويسأل الرسل يوم الحساب .
قال تعالى: ? فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ? [الأعراف:6 ] وما كان الله غائب بل شاهد على كل شيء سبحانه وتوضع موازين القسط ويسأل الناس عما كانوا يعملون كما جاء في الحديث: "لن تزل قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه" .
يسأل كل منا عن النعيم ?ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ? [التكاثر:8] , ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [النحل:18 ].
ويسأل كل واحد منا عن المعلومات التي يقولها ويتحدث بها ? وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ?[الإسراء:36 ] .
ويشهد علينا سمعنا وأبصرنا وجلودنا ? حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [فصلت:20 ].
فالشهود أجسامنا جوارحنا أن الله كان يعمل كل شيء وتشهد علينا الرسل والملائكة والأرض ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن بعد هذا كله توزن الأعمال ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ? [ الأنبياء:47 ] موازين تتناسب مع الأعمال ألست ترى أن نزن التيار الكهرباء فليس كله أثقال والأعمال لها موازين توزن بها ? فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ? [الأنبياء :47 ] ? فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ? [القارعة :6-11].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،
الجنة(/13)
حديثنا في هذه الحلقة عن الجنة التي أعدها الله لعباده المؤمنين الله جل وعلا خلق لنا أدوات للعلم وبث لنا آيات في الكون وأرسل لنا رسلاً أيدهم بالمعجزات فعرفونا بربنا وبمصيرنا الذي نتجه إليه بعد هذه الحياة الدنيا وأخبرنا الله جل وعلا عن الجنة التي أعدها لعباده المؤمنين وهو الذي خلقها وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الجنة وهو الذي زارها هذه الجنة هي خالدة بأهلها الذين يدخلونها ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ?[الكهف :107-108].
وهذه الجنة التي أعدها الله لعباده وفيها الخلود والأبدي بعض الناس يسألون ما هو الخلود ما معنى إنه حياه بغير زمن يا أخي إذا دخلت في النوم فإنك لا تشعر بالزمن والآخرة كذلك سننها ونظمها تختلف عن سنن هذه الحياة .
إن هذه الجنة لا مثيل لها كما قال تعالى: ? وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً? [الإنسان:20 ] ? فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [السجدة:17 ] هذه الجنة إذ وصل إليها وفدها المؤمنين الذين يستحقون الجنة فتحت أبوابها ? حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ? [الزمر:73 ] هذا التكريم الأول من خزنة الجنة على أبواب الجنة يجدون هذا الترحيب وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن بناء الجنة فقال : "هي لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك" أي الأسمنت الذي يربط بين هذه وتكل كما جاء في الحديث ، والجنة درجات كما قال تعالى: ? انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ? [الإسراء:21 ] انظروا إلى التفاضل في الدنيا والآخرة أعظم وقد جعل الله درجات عالية للمجاهدين كما قال تعالى: ? وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ? [النساء:95 ] وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما بين الدرجة والدرجة كما بين الأرض والسماء وفي الجنة مائة درجة وإذا دخل الداخلون وجدوا قصوراً وصفها الله سبحانه وتعالى فقال : ? وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ? [التوبة:72 ] وكما قال تعالى: ? لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ? [الزمر:20 ].
وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام".
وفي الجنة خيام ?حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ? [الرحمن:72] , وعن عبد الله بن قيس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلوه واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن".
وفي الجنة أنهار تجري من تحت عباد الله ?مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ? [محمد:15 ] فهذه الأنهار تجري في الجنة قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس رضي الله عنه: " بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حفتاه قباب الدر المجوف قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك".
وفي الجنة عيون ? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ? [الذاريات:15 ] .
وفي الجنة أشجار قال الله تعالى: ? إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ? [النبأ :32-31 ], وقال تعالى: ? فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ? [الرحمن :68 ] .
وفواكه الجنة كثيرة متنوعة قال تعالى: ? وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ? [الواقعة :21 -22] ? وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ? [الواقعة :32-33 ].
منهم أهل هذه الجنة ؟؟؟(/14)
إنهم المؤمنون, ولكن يجب أن يتهيأوا لما كان منهم أحقاد وظغائن في الدنيا فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أخبرنا أن المؤمنين يحبسون في قنطرة ما بين الجنة وما بين النار فيقتص لبعضهم من بعض" قال صلى الله عليه وسلم "فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض …" لم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان بالدنيا لكن بعد أن ينقوا، قال تعالى: ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ? [الأعراف :43 ] .
وأول من يدخل الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقرع باب الجنة ثم تدخل بعد ذلك أمته وأول زمرة تدخل الجنة جاء وصفها في الحديث الذي رواه البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب أمشاطهم من الذهب والفضة ومجارمرهم الألوه "وهذه هي طيب" ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن" .
فانظر النساء المؤمنات في الجنة مع أزواجهن وكيف يتزين وكيف يخلقهن الله سبحانه وتعالى ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لاختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا" .
والمساكين هم عامة أهل الجنة ويسبق الفقراء والأغنياء ثم يدخل الأغنياء بعد ذلك ثم يأتي الدور على الذين دخلوا النار وعذبوا فيها على قدر أعمالهم وكانوا من أهل الإيمان ولكن كانت لهم معاصي ثقلت في الميزان فاستحقوا أن يدخلوا النار هؤلاء يخرجهم الله من النار عندما يأذن بالشفاعة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم في النار" .
والشفاعة التي تكون ليست كالشفاعة التي نعهدها في الدنيا فإن الشفاعة التي نعهدها في الدنيا تكون بدون إذن الذي سنشفع عنده وتكون لمن لا يرضى عنه من الشافعين, أما الشفاعة التي تكون عند الله فلها شروط قال تعالى: ? مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه?[البقرة:255]:
1- إذن الله تعالى .
2- أن يرضى عن من يشفع له قال تعالى: ? َعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ? [الأنبياء :28 ]
3- الإذن للشافع أن يكون أهل يستحق ذلك : ? وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ? [النجم :26 ]
وبغير ذلك الشفاعة التي نظنها نحن في الدنيا فهذه لا تنفع كما قال تعالى: ? فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ? [المدثر :48 ]ويشفع الرسول صلى الله عليه وسلم ويشفع الشهداء ويشفع الصالحون ثم يخرج الله برحمته من شاء .
آخر أهل الجنة دخولا إليها:
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم عن أخر شخص يخرج من النار ويدخل الجنة وله هذه القصة "قال إني لأعلم أخر أهل النار خروجاً منها وأخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له أذهب فأدخل الجنة فيأتيها فيتخيل إليه أنها ملئ فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملئ فيقول الله عز وجل أذهب فأدخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضح حتى بدت نواجذه" فكان يقال هذا أقل أهل الجنة .
أما الشهداء فإنهم يدخلونها لمجرد موتهم ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ? [آل عمران :169]
وللجنة ريح طيبة عبقة تشم من مسيرة أربعين عاماً .
والذين يرثون الفردوس والذين يستحقون دخول الجنة هم الذين أمنوا وعملوا الصالحات ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ?[ الكهف:107] ?وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ? [البقرة: 25]هم أهل الإيمان – أهل الإخلاص .(/15)
وقال الله تعالى:? إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ? [الصافات:40-43] وتخبرنا سورة المؤمنون ببعض صفات الذين استحقوا الفردوس الأعلى قال الله تعالى: ? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [المؤمنون:1-11]
وأطفال المؤمنين يدخلون الجنة وكذلك أطفال المشركين ففيه خلاف بين العلماء والراجح أنهم يدخلون لأن الله تعالى يقول ?وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الإسراء:15] .
وأما نعيم الجنة فأهل الجنة منعمون شباب لا يهرمون في سنة 33 يدخل أهل الجنة جرداً مرداً قال صلى الله عليه وسلم "يدخل أهل الجنة جرداً مرداً كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين" ولأهل الجنة طعاماً شهي ، ما يتمناه الإنسان ولهم شراب لذيذ قال تعالى: ? وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ? [الواقعة:20-21] وقال الله تعالى: ? يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [الزخرف:71].
وشراب أهل الجنة كما قال تعالى: ? إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ? [الإنسان:5-6].
وكما قال تعالى : ? إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ? [المطففين:20-26], والرحيق المختوم هو الخمر خمر أهل الجنة وهو خمر لا يخالط العقول ولا يسبب الأمراض للأبدان وإنما هو لذة كلما شرب منه الإنسان ازداد له لذة وتمتعاً .
وماذا عن بقايا الطعام والشراب ؟
جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة يأكلون ويشربون لا يتفلون ولا يتبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ، قالوا : فما بال الطعام يا رسول الله ؟ قال : "جشاء كجشا المسك" .
وأما آنيتهم فمن الذهب والفضة, وأما لباسهم فقد قال تعالى: ? وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ? [الإنسان:20-21], والسندس: هو الحرير الرقيق, والإستبرق هو الحرير الغليظ ? يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:31] لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم شباب على الدوام كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وللجنة فرش وهذه الفرش كما قال تعالى: ? فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ? [الغاشية :10-13 ]
والنمارق هي الوسائد ، والزرابي هي البسط التي تنتشر في الجنة هنا وهناك ليتكئ عليها أهل الجنة. أما السرر مرفوعة إذا أراد أن يصعد عليه المؤمن ويرفعه بعد ذلك وسرر مزينة بالذهب والديباج وهناك خدام يخدمون أهل الجنة إنهم الولدان المخلدون قال تعالى: ?وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ? [الإنسان:19].
وهناك نساء في الجنة وهن الزوجات الصالحات كما قال تعالى: ? جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد:23-24]
فهم وأزواجهم ولهم أيضاً زوجات من الحوريات ويعطى الله سبحانه وتعالى الرجل من القوة والباءة القوية ويعطيه قوة مائة رجل كما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(/16)
وأما أحوال الجنة فأهلها لا يريدون التحول عنها قال تعالى: ? لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ? [الكهف:108] وتجدد لهم النعم قال تعالى ? كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ? [البقرة:25] يفاجئون أن هذا رزق جديد وليس له من الأول إلا الاسم أو الشكل فهو نعيم متجدد ، ونساء الجنة مطهرات فليس هناك حيض ولا نفاس ولا بصاق ولا مخاط ولا غائط ، ولأهل الجنة أسواق يذهبون إليها كما جاء في الحديث "إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح المشال فتحث في ثيابهم ووجوههم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً فيقول لهم أهليهم والله لقد أزدتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون وأنتم والله لقد أزدتم بعدنا حسناً وجمالاً" .
نعيم فوق نعيم ومتعاً عظيمة ولهم بعد ذلك ما يشاءون وما يتمنون ? ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ *لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ? [قّ:34-35]
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم "أن الرجل من أهل الجنة تمنى على الله جل وعلا بعض الأمنيات "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من الأعراب "من البادية" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له ألست فيما شئت فقال : بلى ولكن أحب الزرع "يقول لربه أنه يحب الزرع" فبذر فبادر الطرق نباته واستوائه واستحصاده" أي بسرعة فنبت النبات وحصد وجمع فكان كأمثال الجبال فيقول الله تعالى "دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء ، فقال الأعرابي الذي كان حاضراً قال والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب الزرع أما نحن فلسنا بأصحاب زرع .
وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كلما اشتهيت لك ما تتمنى, لك ما تريد, ثم يحن أهل الجنة لبعضهم ويتزاورون ويتناقشون فيما بينهم عن هذه الدنيا التي مرت بهم وعن أهل النار وعن إخوانهم وعن ما جرى ، فيخبرنا القرآن بشيء من هذا اللقاء الذي يقع بين أهل الجنة قال تعالى: ? فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يقول أءنك لمن َقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلا إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ? [الصافات:50-66], يتحدث أحد أهل الجنة فيقول: إني كان لي صديق يقول لي أبعد أن نكون تراب وعظام سوف نحاسب فلا يدري أن الذي خلقه أول مرة من لا شيء قادر على إعادته مرة أخرى. ثم يقال لهم هل تريدون الإطلاع عليه فرآه في وسط جهنم" .
وفي الحلقة القادمة نتكلم عن أهل النار وعن أحوالهم وعن صفاتهم وعن صفات النار التي أعدها الله للعصاة الكافرين المشركين والمنافقين ونحن الآن مع أصحاب الجنة ويقع محادثة فيما بين أهل الجنة وأهل النار كما قال تعالى: ? وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ? [الأعراف:44], فيقول أهل الجنة إنا وجدنا ما وعدنا ربنا فقد رأينا الجنة ورأينا القصور ورأينا الخيام ورأينا الطعام واللباس وكل ما أخبر به تعالى كان حقاً فهل وجدتم أنتم مقامع الحديد وطعام غسلين والحميم وعذاب النار وفرش نارية .
وأهل الجنة لهم دعاء عندما يدخلون الجنة ويرون هذه الجنة ? وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? [الزمر:74](/17)
ويسبحون الله بكرة وعشيا وروى مسلم أنهم يتلذذون بذلك التسبيح روى الأمام مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس " لأنه لا شفعة فيه ولا تكليف فيه ولكنه لذة وسعادة أن يحمدوا الله جل وعلا على ما هم فيه من النعم هذا وعد الله الذي ننتظر, وعد الله الذي سيراه المؤمن, ما بينك وبينه إلا أن تموت فترى مقعدك من الجنة والعياذ بالله أن يرى الكافر مقعده من النار.
ونسأل الله أن يجعلنا من الفائزين, وهذا ما أعده الله لعباده المؤمنين ألا يستحق أن نشمر، ألا يستحق أن نجتهد كما فعل آباؤنا وأجدادنا وأسلافنا الذين صدقوا الله فسخر الله لهم الدنيا فكانوا سادتها عاجلاً في الدنيا جاءهم الخير وأجلاً أعد الله لهم هذا الخير في الآخرة .
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين والحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،،
النار
الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد ..
هذه الدنيا هي دار العمل ننتقل بالموت مع كل ساكني الأرض بل وجميع الأجيال إلى دار الجزاء، والله سبحانه وتعالى قد أعد يوماً كاملاً للجزاء ولكنه غيب عنا ولا سبيل لمعرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين أطلعهم الله على الغيب، فهم نافذتنا لمعرفة هذا الغيب ولكن عندما نسمع ما أعد الله للكافرين من عذاب سيسأل البعض لماذا هذا العذاب لهؤلاء ؟ فنقول إن الله جل وعلا هو الملك فالمالك يجب أن يطاع والله يقول ? أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ? [الأعراف: 54] هو الذي خلق وهو الذي يطاع لكن هؤلاء لم يطيعوه قال تعالى: ? وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ? [الفتح:17] ماذا سيفعل أحدنا لو أن أحداً هجم على داره أو بستانه أو مصنعه فكسره وحطمه وأنت تنذره وتحذره أتتركه هكذا فأنت صنع الله بدنك هذا صنع الله والسموات والأرض وكل شيء ، وهذا الكافر يتعدى ويدمر ويفسد ويستعمل ما أعطاه الله من النعم في غير مرضاته يستحق ذلك العذاب وإذا تأملت إلى النعم العظيمة إنها تستحق منك الشكر لكن الكافر لا يشكر الله على ذلك قال تعالى: ? يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ? [النحل:83]
وقد أعطانا الله أدوات لنعرفه فأبى هؤلاء الكفار أن يستعملوها في معرفة الله من سمع وبصر وفؤاد قال تعالى: ? وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? [الأحقاف: 26 ]لم يتعلموا بل كانوا يستهزئون بما جاءهم من عند الله سبحانه وتعالى فالله قد أقام الحجة وما ترك لأحد عذراً فقال ?رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ? [النساء:165].
أيد رسله بالبينات والمعجزات ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ? [الحديد: 25 ]أي ليتضح الأمر فالله عزيز قوي ذي انتقام هو ينتقم من المجرمين ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ? [السجدة:22]
ماذا ستعمل الدولة لمن يعرض عن قوانينها ويستخف بكلماته ماذا تفعل، الله أعلى وأعز وهو العلي الذي يأبى أن يسوي بين الظالم والمظلوم ? فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [يّس:54]
ولكن لا ظن أحد أن عذاب الله كعذاب الناس ? فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ? [الفجر:25-26]
فهو عذاب يتناسب مع قوته وعظمته سبحانه وتعالى، وقبل أن ندخل في وصف هذا العذاب نرد على بعض الناس الذين يقولون أن الخلود شيء كبير، فمهما فعل الإنسان من جرائم فإن الخلود أمر يزيد عن ما يستحقه هؤلاء المجرمون ونقول لهؤلاء إن هؤلاء الذين استحقوا الخلود في النار والعذاب في نار جهنم استحقوه بسبب إعراضهم وكفرهم ثم إنهما ماتوا وهم على نية أنهم لو عاشوا أبداً لكفروا بالله أبداً ، ولخالفوا أوامره أبداً ، جزاء وفاقا موافق لهذا الذي كان في قلوبهم من كفر وعناد وهذه التي أعدها الله للكافرين إنها تترصد وهي في انتظار للضحايا وفي انتظار للمجرمين لتفتك بهم والله قد أخبرنا أن هذه النار مترصدة قال تعالى ? وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ? [آل عمران:131] وقال تعالى: ?إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً *لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ? [النبأ: 21-23].(/18)
والنار والجنة يراها الناس عند موتهم وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر قال "إن أحدكم إذا مات فتح الله عليه مقعده في الغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
أين هي النار ؟
ليس هناك نص صريح يبين أين موقع النار ولكننا نعرف أن الشمس والقمر مكوران في النار أي أن هذه الشمس سيلف بها ويرمى بها في نار جهنم فهي جزء من النار ستضاف إلى هذه النار ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "سجين الأرض السابعة وهي جزء من النار" وقيل هي الأرض السابعة وروى ذلك ابن مردويه عن عائشة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سجين أسفل الأرضين ، وسجين هو المكان الذي تغمس فيه روح الكافر ،ونسمة المؤمن في الجنة تسرح حيث تشاء ، هذه النار واسعة عظيمة .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة أي سمع صوتاً عظيماً قال : أتدرون ما هذا ؟! قلنا الله ورسوله أعلم قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار وإلى الآن".
ومما يدل على سعة هذه النار وضخامتها وأنه قال صلى الله عليه وسلم في وصف الذين يسوقون النار يوم القيامة كما قال تعالى: ? وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ? [الفجر:23 ]قال : "يؤتى يؤمئذ بجهنم له سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك" .
وهذه النار لها أبواب فالكفار وهم يتوجهون إلى النار وتكون هذه الأبواب مغلقة فجأة تفتح أمامهم قال تعالى: ? وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ? [الزمر:71]
ولهذه النار خزنة فالله تعالى قد حذرنا من بطش هؤلاء الملائكة الغلاظ الشداد فقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ? [التحريم:6] غلاظ في طباعهم فلا رحمة في قلوبهم شداد أقوياء ، وهذه النار دركات كما أن الجنة درجات قال تعالى ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ? [النساء:145]
المنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وقود النار:- النار تأكل الناس وتأكل الحجارة قال تعالى : ? فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ? [البقرة:24] وهذه النار شديدة ? وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ?[ القارعة:8-11].
وأخرج البخاري ومسلم حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" .
وأما الماء هناك في نار جهنم فهو الحميم وأما الهواء فهو السموم وأما الظل فهو الدخان وهو من يحموم قال تعالى: ? وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ِفي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ? [الواقعة:41-43] .
كيف يكون هناك ظل في النار ؟! قدر رأينا مصداقاً لذلك رأينا الشمس فيها بقعة سوداء يمكن مشاهدتها من الأرض بمناظر بسيطة فلما درست هذه البقع وجد أنها مناطق الدرجة الحرارة فيها أقل من درجة الحرارة الأخرى، درجة حرارة الشمس تصل إلى 6ألف درجة ودرجة حرارة هذه البقع تصل إلى أربعة ألف درجة ،هذا الاختلاف في هذه الدرجات يبدوا بالنسبة لغيرها إنها مناطق فيها ظل ? انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ? [المرسلات:30-31] لأنه لا يغني لأنه من النار .
والنار تسعر عندما تستقبل أهلها ? وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ? [ التكوير:12 ], وقال تعالى: ? كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ? [الإسراء:97].
وهذه النار تتغير أيضاً حنقاً على هؤلاء الكافرين تبطش بهم ومن شدة غيظها تكاد تتمزق إلى أجزاء كما قال تعالى: ? تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ? [الملك:8-11],(/19)
والنار مخلدة، ولكن بعض اليهود قالوا إن النار لا تخلد أي أنهم لن يخلدوا في النار ولكن الله بين أن هؤلاء سيخلدون في نار جهنم : ? وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة :80-82], وقال تعالى: ? يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ? [المائدة:37], مقيم دائم مستمر لا يفتر ولا يغيب وأما أهل النار فهم نوعان :
1) المخلدون : هم الكفار الذين قال الله عنهم هم الكفار الذين قال الله عنهم ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة:39].
2) وهم المشركون ? مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ? [ التوبة:17]
3) وهم المنافقون ? وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ? [التوبة:68] .
جرائمهم :
1) الكفر بالله: ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ? [غافر:10] .
2) الشرك :?إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? [المائدة :72 ].
3) الإعراض عن القرآن : ? وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ?[طه 99-101] .
4) التكبر على الدين وعلى أهله ?ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ? [غافر:76 ] ?وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [الأعراف:36 ]
5) الردة : ? وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة :217 ] والذين يجادلون ويعارضون الدين ويعارضون أحكامه ويحتجون لماذا أنزل الله هذا الحكم كأولئك الذين احتجوا في تقسيم الميراث ولم يعجبهم حكم الله وكأنهم هم أعدل من الله ، هؤلاء الذين يعترضون على حكم الله وعلى شرعه ويعصون الله في أحكامه ? وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ? [النساء :14 ].
أما غير المخلدين فهم العصاة من المؤمنين الذين عندهم إيمان ولكنهم يرتكبون المعاصي فهؤلاء يقول الله فيهم :? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? [النساء :48 ], وقال تعالى: ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ? [الزمر :53 ] ولكنهم يدخلون إذا ثقلت سيئاتهم ويكونون من أهل النار بقدر جرائمهم ومن جرائمهم أنهم يعصون الله ورسوله ? قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? [الأنعام :15 ] أقل الناس عذاباً يوم القيامة كما جاء في الحديث "إن أهون الناس عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمره يغلى منها دماغه" .
ويعطى الله الكفار أجساماً ضخمة تتناسب مع العذاب فإنه يكون كبير وواسع حتى أن ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع كما جاء في صحيح مسلم .(/20)
وأكثر من يدخل النار هم النساء وهن في الحقيقة اغلب بني آدم ولكن أيضاً يأتي هنا سؤال لماذا النساء ؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم السبب ولكني أقول أيضاً ذكر في الأحاديث أن أكثر أهل الجنة النساء أيضاً ، قال بعض العلماء أن ذلك بعد أن يستحق من يستحق العذاب في النار ثم يخرجن إلى الجنة. ولا ننسى أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال فهن أكثر من في الجنة وأكثر من في النار وإن كان لهن سبب يدخلن به النار وهو أنهن يكفرن العشير، يحسن إليها زوجها فترة طويلة فإذا أساء إليها مرة قالت : ما رأيت منك خيراً قط" وأما عذاب أهل النار فإنه عذاب من فوقهم ومن تحتهم :? إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ? [الدخان34-46]
ووصفها الله تعالى : ? إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ? [الصافات:64-68 ] وقد كان هذا فتنة لكفار قريش فقالوا شجرة في النار كيف تكون شجرة في النار, وقد أراني الأخ صخر بن عبد الله صورة لنجم فيه شجرة, داخل نار النجم شجرة لقد رأيت ذلك بعيني رأسي .
شرابهم في الحميم : ? هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ? [ص:57 ], الغساق : هو ما يسيل من فروج النساء وما يسيل من نتن لحوم الكفرة وجلودهم يوم القيامة والحميم نار يغلي ومن شرابهم الصديد وهو قيح أهل النار ? وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ? [إبراهيم :17 ] هذا ما بين الله من أحوال أهل النار ثم إنهم يعذبون في جلودهم ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ? [النساء:56], وقد مر بنا ونحن ندرس الإعجاز العلمي أن الأطباء اكتشفوا أن الأعصاب الحساسة بالحروق إنما هي بالجلد ولذلك إذا نضج الجلد يتوقف الألم ، أما الأمعاء فهي مبطنة بغشاء ألام الحراسة لكن قال الله في عذاب الأمعاء ? وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ? [محمد :15 ] لماذا يقطع أمعاءهم ليخرج من الأمعاء المصاته والمحمية من الحرارة والنار إلى الأحشاء المملوءة بالأعصاب الحساسة ليذوق العذاب يصهر صهراً في النار كما قال تعالى:? قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ? [الحج 19-20 ] ومن ملابسهم قال تعالى ? وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ?[ إبراهيم49 -50] .
وهناك عذاب آخر بلفح النار: ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ? [الأنبياء :39 ], وقال تعالى: ? تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ? [المؤمنون :104 ], ويسحبون سحباً في نار جهنم المجرمين: ? إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ? [القمر :48 ], وتحيط بهم النار من كل مكان: ? وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? [العنكبوت :55 ], ثم يكون الخزي? فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ?[هود :39 ]
فالأمر جد والحجة قائمة ، وهذه النار تأكل الأجسام وتطلع إلى الأفئدة إلى أن تصل إلى داخل الأجسام ?كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ?[ الهمزة :4-7 ].
وفي النار أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك من تندلق أمعاؤه ويدور عليها كما يدور الحمار على الرحى كما في الحديث المتفق عليه "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك. ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال : كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" .(/21)
وأما الوثاق والحبس شديد وهي السلاسل والأغلال ? فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ? [الفجر:25-26 ], وقال تعالى: ? الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ?[غافر: 70-72], بعد أن يرى المجرمون هذا العذاب يقولون ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10-11] .
ألم يرسل إلينا الرسل؟ ألم يأتونا بالكتب من الله جل وعلا؟ ألم ينذرونا لقاء يومنا هذا؟ فيندمون ولا ينفعهم الندم في ذلك اليوم ثم يطلبون العودة لتصحيح مواقفهم وليطيعوا الله عز وجل ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ?[السجدة :12 ] فيرد عليهم ربنا جل وعلا ?فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ?[السجدة :14] عند إذ يتمنون الهلاك أن يهلكوا وأن يموتوا حتى لا يبقوا في العذاب الدائم المستمر ?وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ?[الفرقان 13-14 ] يتمنون أن يخفف عنهم يوم واحد من العذاب ويتوسطون بالملائكة ويستشفعون بهم يوماً واحد فقط ?وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ?[غافر:49-50 ], وقال تعالى: ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ* قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ?[الشعراء :90-98], وقال لله تعالى: ?وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ?[الأحزاب67-68] فلا ينفع التلاعن فيما بينهم ولا ينفع الندم قد جاءت الحجة وقد قامت البينة وهذا كتاب الله بيننا وهذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا وهذه الحجة قائمة فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من لناجين من هذه النار التي أعدها الله للكافرين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،
تفريغ: حسان شريان
مراجعة: عادل مكرم, علي عمر بلعجم.
- رواه مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه 2/2202 برقم :2872.
الشريط السادس من براهين الإيمان
الحلقة الثالثة عشر
إعداد/ مجيب الرحمن الضبيبي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فمن أعماق البحر ومن قاعه وسطحه ورياحه إلى أسرار السحب في السماء فكما وصف القرآن سطح البحر ووسطه وقاعه فإن القرآن الكريم قد وصف لنا السحب التي تتكون منها الأمطار ، والسحب أنواع كثيرة ، والممطر منها ثلاثة أنواع فقط.
جاء هذا الوصف القرآني للسحب الممطرة ،وجعل لكل سحاب وصفاً خاصاً لنفس المعالم التي يختلف بها عن غيره ، فكل سحاب يتكون بطريق معينة وتصاحبه ظواهر خاصة به، وينتج عنه نتائج معينة ونرى الوصف القرآني ينطبق تمام الإنطباق على كل حالة من هذه الحالات .
ونتذكر أنَّ القرآن الكريم نزل قبل ألف وأربعمائة عام ، وأنَّه في ذلك الوقت كان الناس يتخيلون خيالات أُسطورية .
فالصينيون مثلاً : كانوا يصفون البرق فيعللون حدوثه بأنَّ الآلهة بيدها مرايا تحركها مع الشمس فيكون ذلك البرق وأَما الرعد فكانوا يعللون حدوثه بأنَّ الآلهة تقرع الطبول.(/22)
أمَّا اليونان فقد كانوا يتصورون آلهةً لكل مظهر من مظاهر الطبيعة فهناك آلهة تنفخ الرياح، وآلهة تكون السحب ، وهكذا أما العرب فما كان لهم انشغال بهذا فبلادهم صحراوية قليلة الأمطار وتقدم العلم وأخذ العلماء يدرسون الظواهر الطبيعية من حولهم ، ويكتشفون أسرار تلك الظواهر الكونية وأَسبابها وسننها، ويفتح عليها في هذا الأمر شيئا فشيئاً ، وبدأ الأمر بدارسة العلاقة بين الرياح والسحب ، ما الذي يكون السُّحب ؟ اعلموا أن البحر يتبخر ويصعد منه بخار الماء ، ولكنه غير مقطور فتأتي الرياح وتسوقه ، رياح رأسية ترفعه وتنقله ورياح أفقية تسوقه فهذه الرياح تحمل بخار الماء فإذا انتقل بخار الماء من منطقة ساخنة كان فيها في صورة بخار إلى منطقة باردة فإنه يتكشف عند دخولها فتتكون نوايا القطرات ، فيصبح ذلك البخار الذي ما كان يرى مرئياً ومشاهداً ، فإن الرياح هي السبب في إظهار ذلك السحاب بسبب أنها تنقله من مكان ساخن إلى مكان بارد، وقد تكون الحركة برياح ساخنة لكنها تصطدم بكتلة باردة فعندما تدخل الرياح الساخنة المحملة ببخار الماء غير المنظور إلى منطقة باردة تبدأ السحاب بالظهور ، ونحن نرى في الأفق ذلك .
نرى أن السحاب يدخل منطقة أمامنا ثم يبدأ في الظهور ، واستمرار الدفع لكميات بخار الماء إلى جسم السحابة يجعلها تنمو كما نرى في السحب دائماً في شكل قباب بسبب ذلك النمو فتهيج ، تهيج بنموِّها ذلك بما يدفع فيها من بخار مائي لا يُرى ، إذن الرياح تُظهر السحب وتهيِّجها وهناك لفظ في اللغة العربية يؤدي هذين المعنيين (الإظهار والتهييج) ولازلنا نستعمله إلى يومنا هذا ، أنت تقول للشخص أو عن شخص ما فلان أَثار مشكلةً ، بمعنى أظهر مشكلة لم تكن موجودة ولا ظاهرة, فأوجدها أي: أَظهرها .
أو تقول لشخصٍ : لا تثرني بمعنى لا تهيجني .
فأَثار جاءت لمعنيين : لمعنى إِظهار الشيء ولمعنى تهييج الشيء .
فالعلاقة بين الرياح وبين السحب هو علاقة إِثارة بمعنى :
إِظهار وتهييج ، وهذا هو اللفظ العربي الوحيد الجامع لهذين المعنيين والدال عليهما في آنٍ واحد، وهو اللفظ الذي استعمله القرآن لبيان العلاقة بين الرياح وبين السحب قال تعالى : ?اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ? [الروم: 48] فتثير أي تُظهر وتُهيج .
قلنا إنَّ السحبَ التي تتكون أَنواع ثلاثة أي السحب الممطرة ثلاثة أَنواع ، مع السحب أنواع كثيرة ، لكن الممطر منها ثلاثة أنواع ، ولكل نوع منها طريقة في تكوينه، وظواهر تصاحبه ، ونتائج تنشأ عنه (صورة). وتعليق على الصورة .
كيف تحركت السحاب من أسفل وارتفعت ثم امتدت فكونت طبقات من السحاب وهذا هو السحاب الطبقي وهو لا يكون ممطراً في بدايته ولكن عندما يكون طبقات وقِطع وطريقة تكونه تبدأ بسبب هبوب الرياح الساخنة فتحمل بخار الماء وترتفع إلى أَعلى فوق الكتلة الباردة، ثم تمتد وتنبسط ، فترى السماء كلها وكأنَها طبقة واحدة أو سبعة أثمانها قد غطيت بهذا السحاب ، وهذا السحاب يسميه العلماء السحاب الطبقي.
كيف ينزل منه المطر ؟
ومتى ينزل منه المطر ؟
ينزل المطر عندما يكتمل تكوين القطع من السحب المتجاورات بعضها بجوار بعض ، وبعضها فوق بعض عند ذلك ينزل المطر والوصف القرآن هو الآتي: ? اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ ?[الروم:48 ] أي قطعاً متجاورة وقطع بعضها فوق بعض? وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?[الروم:48 ] ترى الودق أي قطرات المطر تخرج من خلال هذا السقف .
إذن لا ينزل المطر إلا بعد تكون القطع المتراكبة حتى تكون البيئة من حول هذا السحاب مشبعة بالماء تسمح بتكوين القطر في الثقيلة فينزل المطر .
وهذا النوع من المطر لا يصاحبه رعد ولا برق ، ولا صاعقة ولا برد ، ولا شيء من الأَشياء المؤذِية ، وإنما ينهمر باستمرار ، ولذلك عندما ينزل هذا المطر على منطقة فإن النَّاس يفرحون به ويشعرون أنَّ الله ساق لهم أمطاراً لم تزعجهم ولم تخفهم ، فيفرحون بما نزل عليهم من ذلك ، فالأثر هو الفرح والسرور والله سبحانه يصف المطر فيقول: ? اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?[الروم:48] بينما يصف النوع الآخر من السحاب وهو السحاب الرُّكامي الذي يركم بعضه فوق بعض (صورة) وتعليق.
يبدأ هذا السحاب أول ما يبدأ في صورة قزع، وهذا القزع الصغير يتجمع في خط يسمونه خط تجمع السحاب .(/23)
فإذن لدينا عمليات تتم بعد عملية التجمع هذه، فتأتي عملية الركم للسحاب فيركم بعضه فوق بعض إلى أن يصبح كالجبل. ويصفه الله جل وعلا: ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ?[النور:43]" ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ? يزجي بمعنى يسوق برفق ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ? يجمع بينه في خط تجمع السحاب، فهاتان عمليتان:
أ= سوق برفق .
ب= تأليف بينه وتجميع .
? ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ? وهذه مرحلة ثالثة الركم ، وهو رفع بخار الماء والسحاب الذي تكون من البخار إلى أن يصبح ركاماً ، وهناك تيارات داخلية وقوي تنشأ في جسم السحابة ترفعها وتحملها إلى أَعلى ، فإذا عجزت قوة الحمل ، وتكونت القطرات الثقيلة التي تعجز تلك القوى عن حملها نزل المطر .
ونلاحظ في الآية استعمال حرفي عطف متغايرين (ثم‘ وفاء) ، ثم الذي يدل على الترتيب مع التراخي‘ والفاء الذي يدل على الترتيب مع التعقيب ، أنت تقول مثلاً: دخلت المكان ثم خرجت أي كان الخروج بعد وقت من الدخول ، بينما تقول: دخلت المكان فجلست أي كان الجلوس عقب الدخول مباشرة. فانظروا إلى استعمال حروف العطف في الآية الكريمة: ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ?[النور:43 ] "بين كل عملية وأخرى فترة زمنية ولذلك يعقبها بحرف العطف "ثمَّ" ولكن بعد أن يتم الركم وتعجز القوى عن الحمل قال : ? فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ? غيَّر حرف العطف إلى "الفاء"? فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ ? فلا بد أن يكون السحاب في شكل جبل ? فِيهَا مِن بَرَدٍ ? أي يكون في ذلك الشكل الجبلي شيء من البرد " ? وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ?[النور:43 ] دَرس العلماء هذه الظاهرة كيف يتكون البرد فوجدوا أنَّ السحاب الرُّكامي تختلف درجة الحرارة في قمته عن قاعدته فالقمة تكون باردة والقاعدة تكون أقل برودة فيتكون شيء من البرد في قمة السَّحاب ثم ينزل هذا البرد إلى وسط السحابة حيث الماء …..ص4 تحت درجة الصفر ، ولكنه سائل ، وكان من المفترض أن يتجمد لكنه بقي سائلاً صورة سائل، ولكن بمجرد نزول تلك النواة من البرد الذي في قمة السحابة إلى المنطقة الوسطى تتحول المنطقة إلى كمية هائلة من حبات البرد.
المتوقع ماذا ؟
التوقع أن ينزل_ البرد شيء ثقيل ولابد أن تعجز السحابة عن حمله .
ماذا وجد علماء الأرصاد ؟
بعد تكون حبة البرد تنزل وقد تصيب النَّاس ولكن في كثير من الأحيان تنزل حبة البرد ثم تعود مرة ثانية وتحدث دورة في جسم السحابة وتنزل بعد أن تصبح ثقيلة وقد أضيف إليها كتلة جديدة من البرد فتنزل ، ويقول علماء الأرصاد : الآن ستنفجر السحابة بالبرد وينزل هذا الكم الهائل من حبات البرد وقبل أن يصل إلى قاعدة السحابة وينزل يجد تياراً آخر صاعداً يرفعه ويعيده إلى وسط السحابة وهكذا تبقى حبة البرد تدور في جسم السحابة حتى يأذن الله لها فتنزل ، فقد صرفت وحين أذن لها نزلت وهذا هو الوصف القرآني : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ? [النور:43 ].
لقد قامت ثلاث دول هي أمريكا واليابان وأظن الثالثة هي استراليا بدراسة لمدة عشر سنوات لمعرفة ما هو سبب تكون البرق، ويعد الدراسة قرروا ما هو سبب تكوين البرق، فوجدوا أنَّ سبب تكوين البرق هو تكوين مواد صلبة يعني برَد في جسم السحابة في درجة حرارة معينة .(/24)
وفي عام 1985م قُرر بصفةٍ أكيدة أنَّ البرد هو سبب تكوين البرق، لماذا؟ لأنه عندما يتحول الماء إلى مادة صلبة تتكون معه شحنات كهربائية تبقى في ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ?[ النور:43] جسم السحابة وبحركة البرد تتكون أقطاب كهربائية موجبة في أَعلى وسالبة في أَسفل ومع كثرة واستمرار شحن هذه الأقطاب بالكهرباء يصبح البرَد نفسه في حركته موصل بين تلك الأقطاب فيكون البرق .
تعالوا لنرى الوصف القرآني: ? وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ ? – أي البرد – ? يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ?[النور:43].
فهذه طريقة أخرى في تكوين السحاب ووصف يختلف عن طريقة تكوين السحاب الطبقي .
فهناك لم يذكر البرق ولا البرَد ولا الرعد ولا شيء من ذلك بل عقَّب عليه وقال : ? فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?[الروم :48 ]
لكن هنا وصفه وصفاً آخر مطابقاً لحقيقة السحاب الرُّكامي .
فمن علَّم محمداً – صلى الله عليه وسلم – هذه الفروق الدقيقة ، من علَّمه أنَّ البرَد هو سبب تكون البرق من علَّمه أن البرَد ينزل في جسم السَّحابة ثم يصرف؛ من علَّمه أنَّ طريقة تكوين السحاب الرَّكامي تختلف عن طريقة تكوين السحاب الطَّبقي ، لاشك أنه الله سبحانه وتعالى
وهناك نوع ثالث يتكون بين جبهتين من السَّحاب بسبب لقاء تيارات هوائية متعاكسة تمثِّل دوامةً أو إعصاراً فتعصر، وبحركتها ترفع هذه إلى أعلى وتحمل بخار الماء من أسفل وترفعه وكلما ارتفعت كانت الفرصة لتكوين قطرات ثقيلة أكبر وهذه القطرات تنمو وتتسع مساحتها وحين تثقل تلك القطرات تنزل ، ثم ترفع كمية أخرى هذا النوع من السحاب لا ينزل دفعه واحدة وإنما ينزل متدفقاً ثجاجاً ? وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ?[النبأ:14-16 ] (ثجاجاً) أي متدفقاً ينزل قطرة بعد قطرة? لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً ?[ النبأ:15 ]
" وهذه هي نتيجة هذا النوع من الأمطار ? لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً ? [النبأ:15 ]
" هنا يذكر هذه الجنات الناتجة عن هذا المطر ويصفها بوصف ? وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ? [النبأ:16 ] ومعناه بساتين وغابات أشجارها ملتفة بعضها على بعض من شدة الرطوبة الناشئة عن هذا النوع من الأمطار فهي مختلفة في نتيجتها وكذلك في طريقة تكوينها " ? وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً ? [النبأ:14 ] فطريقة تكوينها العصر، وليس ماءً مستمراً بل ثجاجاً فهو يختلف عن الطبقي والرُّكامي ووصفه مختلف فتأمل كيف يصف القرآن هذا الوصف الدقيق، من يستطيع معرفة كل هذه الأسرار زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ ما كان الإنسان يستطيع الطيران في السماء، إنما تمكن الإنسان من ذلك في وقت قريب، وكم من الآلات الحديثة والأجهزة والتقنيات المتقدمة استعملها الإنسان اليوم حتى وصل إلى كل هذه الأسرار .
فمن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم الذي جعل العلم الحديث يجري وراءه ويلاحقه ليأتي في نهاية المطاف ويقرر ما سبقه إليه القرآن والسنة قبل 1400عام .
لاشك أنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وهذا الإعجاز العلمي هو الذي ذكره سبحانه بقوله: ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? [فصلت:53 ] أي أنَّ هذا القرآن هو الحق جاء بالحق لأنه نزل بعلم الله كما قال تعالى: ? لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ?[النساء:166 ] .
والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الحلقة الرابعة عشر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله وبعد ..
فإن القرآنَ الكريم في وصفه للكون يصفه منذ البداية ويصفه على حالته الراهنة اليوم ثم يصفه بما سيؤول إليه أمره ، وكل هذه مجالات للفكر الإنساني والفكر البشري لكي ينظر إليها، بل قد أمرنا الله عز وجل فقال: ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ? [ العنكبوت:20] .(/25)
لقد كان الناس يظنون أنَّ الأرض خُلقت هكذا كما هي عليه اليوم ، وهذه هي أفكار أرسطو التي تبنتها من بعده الكنيسة ، فلما جاء القرن الثامن عشر، وانطلقت الأفكار أن الحاضر ما هو إلا نتيجة للماضي وأن هناك آثاراً موجودة على الأرض هنا وهناك يمكن أن نسير في الأرض فنتعرف على تلك العلامات لتدلنا بواقعها المشاهد على الماضي الذي كان من قبل ، حين وقع ذلك احتدم الصراع بين رجال الكنيسة وقادة العلوم الحديثة .
لكننا نجد الأمر على العكس في كتاب الله الكريم ؛ نجد أن العلوم الحديثة قطعت شوطاً طويلاً في التعرف على حقائق بداية الخلق وخاصة بداية خلق الأرض وتكوينها ثم وصلت بعد رحلة طويلة وبعد وسائل وطرائق حديثة للبحث العلمي إلى مقررات ، فإذا المقررات الثابتة التي يصلون إليها هي التي كان القرآن قد ذكرها من قبل.
نرى بداية الخلق: يقول جلا وعلا: ? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ? [الأنبياء:30 ]
" هذه الآية ماذا فهم منها المفسرون الذين يعرفون هذا النص القرآني ؛ فهم ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وكعب كلهم قالوا المقصود كانتا ملتصقتين ففصلتا.
وجاء البحث العلمي بعد رحلة طويلة ليقرر ما قرره القرآن ، وتُقدم لنا كتب العلم صوراً تدل على بداية الخلق …. صور وتعليق عليها .
? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ?[الأنبياء:30 ]
" قال ابن كثير: أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ففتق هذه من هذه .
ثم ما حقيقة هذا الأصل الذي انفصل منه الكون صورة نشرتها وكالة ناسا للدخان وتكون النُّجوم منه فتتكون النجوم من السديم (الدخان) وقال تعالى: ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ?[فصلت:11 ] .
فقد كانت دخان وهي كذلك إلى يومنا هذا كما في الصورة تتكون منه النجوم، وهو دليل على بداية تكونها منه يقول (جيثهيستر) رئيس الفريق الذي التقط الصورة وهو من جامعة (إرزونا) لقد كان الناس قد تقدموا بنظريات تستحق التقدير عن ولادة النجوم ثم حصلنا على هذه الصورة، وهي صورة غير مألوفة أبداً، وفجأة يمكنك أن تشاهد بوضوح ما يحدث فعلاً، ترى بعينك كيف يتكون النجم من هذا الدخان، ثم بعد انفصال الأَرض ما الذي جرى لها؟، لقد انفصلت من كتلة سديمية دخانية ملتهبة فهل كان لها سطح، القرآن يقرر انه لم يكن لها سطح، ثم وجد السطح قال تعالى: ? أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ?[الغاشية:17-20 ]
أي أنه لم يكن لها سطح ثم سطحت بعد، ولقد تحركت العلوم الحديثة من الشواهد الكثيرة التي جمعتها، وبينت لنا كيف وجد هذا السطح فترى هذه الأبحاث وهذه الكتب العلمية تحدثنا عن كيفية بداية سطح الأرض عند الانفصال تخبرنا أن الأرض انفصلت بسطح رقيق جداً ثم بالشهب... صور وتعليق عليها شهب نزلت فانفجرت في جسم الأرض الذي لا يزال ناريا ملتهبا، أخذت القشرة تبرد بسبب ملامستها للجو.
ولو أنا فتحنا الكرة الأرضية نصفين لوجدناها كالبطيخة من وسطها ملتهبة (توضح بصورة)
ثم تحدث البراكين وبداية دوامات نشاط داخلي في باطن الأرض الملتهب ظهر في صورة براكين، وبهذه البراكين تكونت أول بداية للغلاف الهوائي.
(صورة وتعليق)
وهنا بدأت الجبال والبحار وبدأت السَّحاب ومنها يسقط المطر.
تبين الدراسات بأن القارات لم تكن موجودة ولم تكن هناك قشرة أرضية سميكة وإنَّما كانت قشرة رقيقة سرعان ما تلاشت ثم بدأت القشرة الأرضية تتكون عن طريق البراكين حتى تكونت القارات، وهناك بركان يستشهد به العلماء اليوم هو بركان (تيلاوية) "صورة"
يقول العلماء: نتيجة لهذه الدراسات إنَّ الجبال تكونت من البراكين فهذا وصف دقيق لتكون الجبال، رمي بها من أسفل مع حمم البراكين ثم سقطت على الأرض وتراكمت حتى صار شكلها كما هي عليه.
ونرى الوصف القرآني يقول الله جل وعلا: ? وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ?[ق:7 ] لفظ (مدد) فعل ماضي كان ذلك في الزمن السابق.(/26)
ويقول جل وعلا في سورة الرعد? وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ?[الرعد:3 ] فبالبراكين مُدت الأرض وتكوَّنت الأنهار والجبال وقد قال تعالى في سورة "ق" ? وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ?[ق:7 ]
فهذا الوصف عن مد الأرض وربطه بالماء والجبال وربطه بالأنهار يبين بدقة بداية تخلق الأرض.
ويقول الله ايضاً: ? أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ? [النازعات:27-31 ]
ودحى في العربية يأتي بمعنى البسط والمد كما في مختار الصحاح وفي أساس البلاغة للإمام الزمخشري بمعنى بسطها ووسَّعها ومدَّها وفي الِّلسان بمعنى ألقى فهو لمعنيين الإلقاء والبسط وهذا هو الشيء الخاص تماماً.
فقد خرجت الحمم فتمددت بها القشرة وخرج معها الماء وألقيت من علو وتكونت بها الجبال وهذا منطبق تمام الانطباق.
فلفظ الدحي يغطي عمليتي التوسع والامتداد وكذلك الإلقاء.
وكذلك تكوين الجبال فكل الجبال الأولى في تكوين الأرض بركانية ولذلك قال الله جل وعلا: ? وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?[النحل:15 ] وقال تعالى: ? خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ?[لقمان:10] فهذا ذكر واضح لتكون الجبال عن طريق الإِلقاء.
ويأتي الوصف أدق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت".
فقد خرج الجبل منها لأنه عاد بها أي الجبال ولا يكون العود إلا من حيث بدأ الخروج أي من الأرض وعاد بها عليها فاستقرت الأرض بها حيث عاد الصهير مكونا طبقات متراكمة تضغط على القشرة فمدَّ جذراً تحتها فكان سبباً لتثبيتها الأرض، وهذا بالضبط ما قررته مجلة العلوم الأمريكية المجلد التاسع لعام 1993م يتكلم عن بركان "كيلاوية" وكيف أنه يمدنا بالمعلومات التي تبين لنا كيف كان الخلق، قال: وتمدنا اللابة "يعني الصهير" التي انبعثت من بركان "كيلاوية" بعينية مباشرة من مواد على عمق عشرات بل ربما مئات الكيلومترات داخل الأرض وتقدم لنا كل مرحلة من الأحداث عرضا ثمينا من العمليات البركانية التي كونت أكثر من 80% من سطح الأرض الكلي فوق وتحت سطح الأرض.
ثم هذا الماء البحار من أين جاءت؟
بعد عام 1950 فقط عرف العلماء أن هذه البحار كانت عبارة عن مياه محبوسة في باطن الأرض، وخرجت مع هذه البراكين، وإلى هذا تشير الآية من قوله تعالى: ? وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ?[النزعات:30-32 ]
يقول وليام دي استوكس استاذ علم الجيولوجيا في جامعة أوتادا بأمريكا في كتابه مبادئ تأريخ الأرض "كانت النظرة التقليدية في العصور التي سبقت عصر العلوم تقول: إن اليابسة والمحيطات ظهرت فجأة في نظام عمل جاهز والنظرة الحديثة مفادها أنَّ الماء وغازات الجو خرجت من باطن الأرض ويقول العالم البريطاني ديفيد ايروس في كتابه مدخل إلى علم المحيطات: إنَّ مصدر الماء هو النَّشاط البركاني وإلينابيع الحارة وتسخين الصخور النارية.
فهذا هو الوصف الذي ورد في تكوين الجبال ومد القارات وكيفية خروج الماء من باطن الأرض ثم يحدثنا عن الجبال ووظيفتها وجذورها، وكان بعض علماء الجغرافيا يعرِّف الجبل فيقول هو كتلة مرتفعة عن الأرض، فهم لم يكونوا يتكلمون عن جزء غائر في الأرض. فإنه ما من جبل إلا وله جذور في الأرض وقد توصل الإنسان إلى هذه النظرية حديثاً جداً. (صورة وتعليق)
فالجبال على شكل وتد مغروس في الصهير البركاني ليحفظ الأرض من الإضطراب.
وقد قال تعالى: ? وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ?[النبأ:7 ] تماماً كأوتاد الخيمة.
وقال تعالى: ? وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ? [النحل :15 ] فهي كمرساة السفينة التي تحفظها من المد والاضطراب.(/27)
لم تعرف هذه الحقائق إلا حديثاً فأول تفكير عن جذور الجبال بدأ عام 1855م عندما قامت فرق المساحة البريطانية بمسح جبال هيمالايا، فوجدوا أن هناك اختلافاً في قراءات الجاذبية، فتقدم أحد العلماء ببحث حول هذا فوجد لغزاً أسماه (لغز الهند)، قدم اللغز إلى عالم بريطاني اسمه (جي. بي. إيري) فأخذ إيري يدرس هذه القراءات وبعد شهرين قال ايري (أنا استنتج من قراءات هذه الأجهزة أنَّ تحت كل جبل من هذه الجبال جذر يغوص في الطبقة التي من أسفل)
فجاء عالم آخر أسمه براك كان معاصراً له فقال: (لا لتفسير ذلك بأنه حدث ضغط تحت الجبال فأزيحت الكتلة الثقيلة على الجانبين).
ثم جاء عالم آخر عام 1930م اسمه ناينز فقال: (إن الجبل يضغط فالطبقة التي تحدث تنثني ولا يكون له امتداد كما قال إيري)
وهذه كلها نظريات (صورة وتعليقات)
جاءت مجلة العلوم الأمريكية الصادرة في يوليو 1986م يقول فيها الكاتب العلمي (إلا أن الدراسات الزلزالية التي أجريت على مدى عشرات السنين الماضية أبدت ما تنبأ به (أيري) وهو أن سمك القشرة الأرضية يختلف اختلافا جوهريا ويترواح سمك القشرة الأرضية القارية في المتوسط بين ثلاثين وأربعين كيلو متراً، ولكنه يزداد تحت الجبال ليصل إلى 75 كيلو متراً وتقوم جذور القشرة الأرضية بتعويض كتلة الجبال الزائدة عن طريق إزاحة الوشاح الأكبر كثافة هذا ما قررته مجلة العلوم الأمريكية عام 1986م أي دام أكثر من مائة عام من كلام إيري. وبعد اكتشاف أحدث الأجهزة التي تقيس الزلازل وتستقبل الموجات الزلزالية.
وقد قدمنا أن إيري قدر أنَّ للجبال جذوراً، وفي عام 1960م عرفوا وظيفة هذه الجبال وهي أنها لتثبيت القشرة الأرضية بأكملها أليس هذا هو ما قرره القرآن قبل 1400 عام .
فمن يا ترى أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بكل هذه الأَسرار من أخبره بأسرار السماء والأرض وما فيها لاشك أنَّه الله سبحانه وتعالى الذي قال: ? قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ?[الفرقان :6 ]
وقال : ? لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ? [النساء:166 ]
والحمد لله رب العالمين
والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
الحلقة الخامسة عشرة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد الله وأصلي وأسلم على رسول الله وبعد:
فإن الله تعالى قد قال في كتابه: ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? [فصلت:35 ] وقد رأينا بعض آيات الله في الآفاق في حلقات ماضية ونرى اليوم بعض هذه المعجزات العلمية التي ظهرت في عصرنا.
فمن ذلك علم الأَجنة الحديث ومن قضاياه الهامة موضوع متى يأخذ الجنين الشكل الإنساني؟ ولقد بحثت هذا الأمر مع البروفيسور الألماني "شومخر" فقال: قبل القرن الثامن عشر كان يستحيل أن يقدر اليوم بالضبط إلاَّ بخطأ حوالي واحد وعشرين يوم زيادة أو مثلها نقص فسألته لماذا؟ فقال: لأنه لا يمكن للرجل إتيان الزوجة طاهرة إلا خلال مثل هذا الوقت وهو لا يستطيع بالضبط تحديد هل حملت أول طهرها أم نهايته وهي مدة واحد وعشرين يوم. وكذلك بسبب ندرة العينات المدروسة ولقد كانت هذه تمثل مشكلة، ولكن بتقدم أساليب العلم الحديث تمكَّن الإنسان أن يصل إلى تحديد اليوم الفاصل بين الشكل غير الإنساني والشكل الإنساني الذي بدأ يأخذ مكانة في هذا الجنين (صورة مع التعليق)
(جنين في ما قبل الثاني والأربعين يوماً ثم بعد هذا اليوم) (صورة مع التعليق)
لقد ظهرت الصورة البشرية بجلاء بعد اليوم الثاني والأربعين حسب الصور التي وضحتها أحدث الأجهزة.
وقد جاء حديث في صحيح مسلم يقول فيه عليه الصلاة والسلام: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها ولحمها وجلدها وعظامها" فمن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم كل هذا إنه الله سبحانه.(/28)
أرسلنا من هيئة الإعجاز العلمي طبيباً مندوباً لنا إلى بريطانيا فكان ممن قابلهم الدكتور/ "ديفيد بالمر"، هذا البروفيسور ذُهل عندما سمع هذا النَّص النبوي ثم قال كلمات لهذا الطبيب قال له : لقد ذهب زماننا وجاء زمانكم فقال له: يا بروفيسور أنا لا أسألك عن هذا الأمر إنَّما أسألك ما رأيك في هذا الجانب العلمي الذي أطلعتم عليه في صدق هذا الحديث وتحققه في الواقع هل حقاً اليوم الثاني والأربعين هو اليوم الفاصل الذي يبدأ بعده تكوين الصورة الآدمية للإنسان ولم تكن قبل ذلك تكونت قال : قلت لك إنَّ زماننا قد ولى وجاء زمانكم أنتم، قال له: يا بروفيسور ما زلتم أنتم قادة العلوم الحديثة، قال له : أنظر هل كان والدك يجرؤ أن يتقدم ويستطيع أن يتقدم بهذه الأسئلة إلى والدي لأن بلاده كانت من ضمن المستعمرات البريطانية وقال أيضاً: إني في عجب من كلام محمد إنه يصل إلى الحقيقة هكذا مباشرة بلا لف ولا دوران اليوم الثاني والأربعين اليوم الثاني والأربعين ويحدد بغاية الدقة.
-أليس هذا من الأسرار الغائبة في أعماق الأرحام التي لا يعلمها إلا الله جل وعلا وهو الذي علم رسوله صلى الله عليه وسلم.
• كنت أقرأ قول الله جل وعلا: ? كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ?[العلق:15, 16 ]
والنَّاصية هي مقدمة الجبهة عند منابت الشعر فكنت أقول في نفسي كيف يصف الله النَّاصية بأنَّها كاذبة خاطئة وهي لا تنطق ولا تجترح الآثام فأَحتار في أمري.وأرجع إلى كتب التفسير فأرى الغالب منهم يؤولها عن الظاهر فيقول معناها ناصية كاذب خاطئ منهم الشوكاني والجمهور.
ولكن ابن كثير رحمه الله يقول: يعني ناصية أبي جهل كاذبة خاطئة، كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها، وكنت أنا أجد أن مازال في نفسي حاجة إلى ما يشبعها في هذا المعنى. وأخذت أبحث وأسأل حتى شاء الله وصول الجواب إليَّ عن طريق البروفيسور محمد يوسف سكر الذي كان رئيساًّ لقسم الدراسات العليا في كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز وهو من السودان أخذ يصف لي المخ ووظائفه ومراكزه حتى وصل إلى الجزء الذي في الناصية وقال إنَّ وظيفة هذا الجزء توجيه سلوك الإنسان فقلت له: ماذا قلت يا بروفيسور؟ فكرر عليَّ فقلت له، إذا أراد الإنسان أن يكذب فالأوامر تصدر من هنا أو إن أراد أن يخطئ تصدر من هنا قال: نعم.
قلت: وجدتها وجدتها قال : ماذا؟ ما هي؟ فذكرت له الآية قال: لا.لا مادام المسألة متعلقة بالآية دعني أراجع معلوماتي فراجع الكتب ثم وجدته بعد أسبوعين فقلت له: ماذا وجدت يا بروفيسور؟ قال: ما قلت لك هو صحيح ثم قابلت البروفيسور " كيث إل مور " وهو من أشهر علماء الأجنة في العالم ومن أشهر علماء التشريح وله كتاب في تشريح المخ بحجم القاموس فسألته هذا السؤال فقال: نعم الناصية هي المسؤولة عن المقايسات العليا وعن اتخاذ القرار فقلت له فما بال اللسان؟ قال : عسكري ينفذ الأوامر قلت له والجوارح؟ قال: جنود تنفذ ما يصدر من أوامر من الناصية قلت له: إذن هي الكاذبة وهي الخاطئة قال: نعم ثم اتفقت أنا وهو إن نقدم بحثا في المؤتمر الطبي العالمي الذي عقد في القاهرة على أن أتولى أنا الجانب الشرعي ويتولى هو الجانب العلمي في هذا البحث وأثناء عرضه أخذ يصف القضية في أمخاخ الحيوانات فإذا به يتكلم عن النَّاصية عندها‘ووظيفة الناصية في الحيوانات فلما سمعته يتكلم قلت: سبحان الله إنه يتكلم عن آيةٍ أخرى وسرٍ آخر انتبهنا له ولم نلتفت إليه وهو قوله تعالى: ? مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ?[هود:56 ] ليست المسألة فقط عند الإنسان بل حتى عند الحيوان وهذا شيءٌ متعلق بعلم التشريح المقارن فمن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم كل هذا؟!
قال تعالى : ? قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ?[الفرقان:6 ] سبحان الله وكذلك جاء في الحديث في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك"أي مركز القيادة.
وفي حديث آخر "وأعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته" وفي حديث آخر " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة" لاحظوا التركيز على الناصية في هذه النصوص.(/29)
- ومن القضايا التي يثيرها المتشككون والمرتابون قول الله : ? وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ? [البقرة:282 ] فبعض الملاحدة يسخرون ويقول كيف يعدل شهادة الرجل بشهادة امرأتين وكان بعض من يرد عليهم يعلل بضعف المرأة عامة في الجانب النفسي ولكن شاء الله تعالى أن يُكشف سر هذا النص وهذا التشريع في مجلة التايم الأمريكية الصادرة 31 يوليو 1995م فقد نشرت صورة للدماغ ضمن بحث لمخ الرجل والمرأة (صورة مع التعليق)
فوجدوا مركز الكلام والذاكرة عند الرجل يعملان كل على حدة فلا تتداخل المعلومات بينما مركز المرأة يحدث تداخل في المعلومات بين الكلام والذاكرة فتغطي بعض معلومات مركز الكلام معلومات مركز الذاكرة فشرط الشارع وجود امرأتين ثم علل بأن أحداهما تتكلم والأخرى تذكِّرها إن ضلت أي ضاع عليه بعض المعلومات بسبب اشتغال مركز الذاكرة بالكلام.
- من أسرار خلق الإنسان الجلد جعله الله تعالى حدوداً لجسم الإنسان الخارجي ولذا جعل الله فيه مساحات واسعة للإحساس في النهايات الصعبة التي تجعل الإنسان يحس بالألم منها الخلايا الحساسة بالحرارة والحريق فهي في الجلد فلو نُزع الجلد فإنه لا يحس إلا شيئاً يسيرا يسمى ألم من الدرجة الثالثة.
يقول الدكتور سالم المحمود في بحث اشتركت معه فيه في المؤتمر الطبي للإعجاز الذي عقد في القاهرة ذكر قول الله جل وعلا : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ? [النساء:56 ] إنه إذا نضجت زال الألم فيعيد الله لهم جلوداً يذوقون العذاب.
لكن ماذا عن الماء الحميم الذي يعذب به أهل النار؟
يقول دكتور سالم المحمود: حين يقول الله جل وعلا: ? وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ? [محمد:15 ] (يعرض صورة لتشريح الأمعاء مع التعليق)
إن الله جل وعلا بطَّن الأمعاء من الداخل بغشاء مخاطي غير حساس للحرارة لا يتألم بها؛ فبتقطيع الأمعاء يكون الألم حيث يخرج الماء الحميم إلى الأحشاء والأحشاء بها أعصاب حساسة للحرارة وهي كثيرة جداً في الأحشاء
(صورة مع التعليق)
فنرى تغاير وصف العذاب وطريقته بين الجلد والأَحشاء ومناسبة ذلك العذاب للكفار.
فلو عكس الأمر بينهما لم يكن عذاباً لكن الدقة والعلم المطلق جعلت الوصف مناسباً للردع والزجر.
فطعم العذاب والإحساس به يتوقف على أمرين:-
وجود موصِّلات للحرارة وهي النهايات العصبية التي تحسُّ وتتفاعل الحرارة وتنقل الإشارات العصبية مع الجهاز العصبي إلى مركز الوعي- أيِ موصِّلات ومركز وعي!! من يا تُرى علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم كل هذه الأسرار التي لم يتم كشفها إلا بأدق الأجهزة.
ولا شكَّ أنَّ من صدَقنا في هذه الأوصاف صدق في وصف الجنة والنار لنا ودقة وصفه في تلك الأوصاف السابقة ومثلما وصلنا إلى هذه الحقائق العلمية فنصل إلى حقيقة ما أخبرنا عن اليوم الآخر ولقاء الله تبارك وتعالى وحسابه وعقابه وجنته وناره وعندها ينادي المنادون كما ذكرت الآية: ? وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ? [الأعراف:44 ] .
اللهم أهدنا إلى طريقك الكريم،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
راجعه: عبد الله بن عبَّاس غانم الحبوري 1427هـ
علي عمر بلعجم
- كأنَّ المقصود أي ليس على شكل قطرات .
- ذكر الشيخ عبد المجيد-حفظه الله-جزءً من الآية ثم بدأ بالحديث حولها ورأيت ذكر الآية كاملة قبل البدء بالتفصيل.
- كانت الكلمة(سمن) والظاهر أنه لا معنى لها هنا.
- رأيت ذكر الآيات [النبأ:14-16] المتعلقة قبل التفصيل .
- كانت الكلمة لعبده ولامعنى لها
- كانت العبارة (فإذا ثبتت المقررات التي يصلون إليها) فاقتضى السياق تغيرها على هذا النحو.
- كانت اللفظة(من)
- سنن الترمذي5/454, برقم: (3369), وأخرجه أحمد3/124, برقم:(12275)،وأخرجه أبو يعلى في مسنده 7/286(4310)،وكذلك أخرجه البيهقي في شعب الإيمان3/44, برقم: (3441)،وأخرجه عبد بن حميد في مسنده 1/365, برقم:(1215)كلهم من طريق يزيد بن هارون عن العوَّام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان (مولى ابن عبَّاس) عن أنس بن مالك وهذا إسناد رجاله ثقات سوى سليمان قال عنه الدارقطني مجهول وقال ابن حجر مقبول, قال الشيخ الألباني:ضعيف, وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط إسناده ضعيف.
- كانت اللفظة أهذا
- العبارة فيها غموض
ـ صحيح مسلم:4/2037, برقم: (2645).
- أضفت لفظة(عند) لاقتضاء السياق لها.(/30)
- أضفت لفظة (وصول) لاقتضاء السياق.
ـ مسند احمد:1/452, برقم:(4318) ومعجم الطبراني الكبير:10/169, برقم: (10352)،وصحيح ابن حبان:3/253, برقم: (972), قال الشيخ شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح .
- سنن الترمذي 5/518, برقم: (3481)، وسنن أبي داود 2/732, برقم:(5051) وأصل الحديث في مسلم 4/2084, برقم: (2713) .
ـ البخاري 3/1047, برقم: (2694), ومسلم 3/1492, برقم: (1871) .
- كان هنا لفظة (حسن).
(18)- الظاهر أن هنا لفظة (مع).
الحلقة التاسعة عشر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد:
فقد أيد الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ببينات ومعجزات وآله وبراهين تكفي للبشرية إلى قيام الساعة على اختلاف ثقافاتهم وعلى اختلاف إدراكهم وكنا نتكلم عن المعجزات بالخوارق التي أيد الله بها رسوله في حلقات ماضية وقد استعنا ببعض الخرائط للدكتور حسين مؤنس في كتابه أطلس تاريخ الإسلام ونتكلم اليوم عن معجزة جديدة وهي (الإخبار بالغيب) هذا الغيب المجهول ، الغيب الذي في الماضي، أو الغيب الذي في الحاضر ، والغيب الذي في الحاضر إما أن يكون في مكان بعيد لا سبيل للوصول إليه ، أو أن يكون غائباً في نفوس الناس لا يستطيع أن يكشفه أحد إلا الذي يعلم ما بداخل النفوس، والغيب الذي في المستقبل سواء المستقبل القريب أو المستقبل البعيد إلى عصرنا هذا وإلى ما بعد عصرنا وإلى أن يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار، هذا الغيب الذي يتكشف على مر الزمان، هذا الغيب الذي تحقق منه الكثير وانكشف مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، والله يقول: ?لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ?[النساء:166] فسواء هذا الوحي الذي في القرآن أو ذلك الوحي الذي في السنة النبوية قد نزل بعلم الله جل وعلا، والرسول لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، وقد أشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن أكبر معجزة له هي هذا الوحي كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم:
(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
إن لكل نبي معجزة على أساسها يكون الإيمان وأما أكبر معجزة عندي وأظهرها هي هذا الوحي الذي جاءني ، وهذا الوحي في العلم الذي فيه وقد رأينا ما كشف الله لنا فيما نسميه في عصرنا اليوم بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
ونتحدث اليوم عن أخبار الغيب التي كشفها الله لرسوله في الماضي وفي الحاضر في وقت النبي وفي المستقبل بعد وقت النبي صلى الله عليه وسلم.
ونبدأ بخبر الماضي: أما الماضي فيتعلق بأسرار خلق الكون وقد رأينا في حلقات سابقة كيف أخبر القرآن بسر تكوين الأرض، كيف رفع هذا الكون ورفعت هذه السماء، وكيف خرج الضياء من بين الظلام وكيف اشتد ظلام السماء، وكيف تكونت النجوم، وكيف كان الدخان الذي هو أصل تلك النجوم وأصل السماء، ثم كيف انفصلت الأرض عن السماء، ثم كيف تكون سطح الأرض، وكيف تكونت الجبال، وكيف خرج الماء تكلمنا عن ذلك كله، وهذا لا سبيل لمعرفته إلا بوحي من الله، كما قال تعالى : ?مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً?[الكهف:51] .
ولكن جعل الله علامات في الأرض تدلنا على كيفية بدء الخلق وأمرنا أن ننظر إلى ذلك فقال تعالى ?قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ?[العنكبوت:20] (أي قد جعلت لكم علامات في الأرض تسيروا فيها وتعلمون بها كيف بدء الخلق أما أن تقولوا هكذا من رؤوسكم بدون دليل فلا، ما كنتم شاهدين خلق الأرض ولا خلق السماء ولا خلق أنفسكم).(/31)
وأما النوع الثاني من أخبار الغيب الذي في الماضي فهو قصص الرسل السابقين وقصص الأمم السابقة، فمحمد صلى الله عليه وسلم وقومه ما كانوا يعلمون من ذلك، وليس هذا من ثقافتهم ويواجههم القرآن بهذا بعد ذكره لقصص سيدنا نوح ويقول لهم : ?تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ?[هود:49] يعني لا أنت يا محمد ولا قومك لا شك أن العرب سمعوا ذلك وعلموا أن القرآن ينفي عنهم أنهم كانوا يعرفون هذه الأخبار ولو كانوا يعلمون لكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم وقالوا : يكذب علينا ويقول ما كنا نعلم نحن نعلم ولكن القرآن يواجههم بهذا ويواجههم بالحقائق ويسكتون ، فمن علم محمداً صلى الله عليه وسلم أخبار الأولين وقصص الأولين، إن الذين ورثوا هذه الأديان قد اختلفوا فيما بينهم فلما جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم كشف لهم أماكن الخطأ وأماكن الغلط الذي وقعوا فيه وكثير منهم دخل في دين الله فهذه أيضاً معجزة بإخباره بالغيب وحله المشاكل حيرت أكابر أهل هذه الأديان، وضمن هذا ما ذكره القرآن الكريم، ما أخبرنا به الدكتور/ موريس بوكاي : كان ضمن فريق فرنسي استقبل جثة فرعون وخانت الحكومة المصرية على جثة فرعون التي هي محفوظة لديهم بدأ فيها تآكل شيء في الأنف فأرسلوها إلى فرنسا لعلاجها.
قال لي الدكتور موريس بوكاي فلما وصلت الجثة إلى باريس واستقبلناها وأطلقت لها إحدى وعشرون طلقة كما تستقبل الرؤساء ثم أخذنا نكشف على جثة هذا الفرعون فرأينا أن الأدلة كلها تؤكد أنه فرعون موسى لماذا؟ لأننا وجدنا بقايا الملح في جسمه – في جثته – ملح البحر ، ووجدنا كذلك أن عظامه مكسرة بينما الجلد ليس مقطع فمعناه أن التكسير كان بضغط لين لا يقطع الجلد ولا اللحم ولكنه يكسر العظام وهذا هو الذي يفهم من الماء وانطباق فلقتي البحر من الماء على هذا الفرعون فتتكسر العظام، وهناك علامات .
العظم عندما يكسر يسيل منه مادة أسمنتية هذه المادة الأسمنتية موجودة في جثة فرعون وموجودة في جمجمته، مما يدل على أنها تهشمت بهذا الماء وتكسرت، ومع أنه بقي محافظاً على الجلد واللحم ، ورأينا آثار الموت غرقاً الذي يموت غرق يكون له آثار تبقى في جسمه ، تعرفنا على ذلك وعلمنا أنها جثة فرعون ثم ألف بعد ذلك الدكتور موريس كتاباً قال فيه :
إن التوراة تذكر أن الجثة أي جثة فرعون ابتلعها البحر ولكنها لا تعطي تفصيلاً بشأن ما حدث لها لاحقاً، أما القرآن فيذكر أن جثة فرعون الملعون سوف تنقذ من الماء، كما جاء في الآية السابقة وهي قول الله جل وعلا ?فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ?[تونس:92] فاليوم ننجيك ببدنك هو أشار إليها قبل ذلك في كلامه فقوله إلى ما قاله موريس بوكاي – قال أما القرآن فيذكر أن جثة الفرعون الملعون سوف تنقذ من الماء كما جاء في الآية السابقة، وقد أظهر الفحص الطبي لهذه الموميا، أن الجثة لم تظل في الماء مدة طويلة، إذ أنها لم تظهر أية علامات للتلف التام بسبب المكوث الطويل في الماء، ويعني ذلك أن هذه الجثة قد أخرجت، وأريد أن أقف هنا وقفة مع فكرة التحنيط التي تنسب إلى الفراعنة ولا يزال الناس يتحدثون عنها ويقولون هي لغز من الألغاز، أقول عندما حللت اللفافات التي يظنها الناس أن اللفافات هذه هي التي حفظت جثة الفراعنة ، ويحتفظ فيها جثث الفراعنة، عندما حللوها وجدوا فيها الفطريات ووجدوا فيها الجراثيم قد غزتها وأكلتها فلو كانت للحفظ ما غزتها الجراثيم فإذا الحفظ بشيء آخر وليس بهذه المواد التي استعملها قدماء المصريين فقدماء المصريين ما كانوا يعرفون الجراثيم ولا يعرفون الطفيليات، وليست لديهم ميكروسكوبات وليست لديهم آلات وآلاتهم بدائية التي نراهم يستعملونها في الحرب وفي السلم وفي غيرها، فالزعم أنه كان لهم علم خفي ، مستواهم العلمي والتقني لا يمنحهم هذه الفكرة أن تكون لهم فكرة عن جراثيم وعن غيرها، فلابد أن هذا هو شيء آخر لابد أن هذا تم بشيء آخر ثم لماذا اختفى سر التحنيط، اختفى هذا السر، فيقولون اختفى – ويقولون: إن البشر في عصرنا اليوم الذين عرفوا البكتريا وعرفوا أسباب تحلل الأجسام يعجزون أن يحنطوا كما حنط الفراعنة، هذا كلام لا يستطيع إنسان أن يقبله وأظن والله أعلم أن الله نجى فرعون ونجى جميع الجثث من جيشه التي أغرقت لتخرج ولتكون سبباً لمجيء المصريين ليروا جثث أهليهم ويعودوا بها ليدفنوها في قبورهم.
وهناك مؤشرات كثيرة تدل على أنها حادثة واحدة وجاء الناس كل أخذ جثة صاحبه وعاد بها إلى قبره فهل يكون هذا هو السبب ، وأن الله سبحانه وتعالى أعلن لنا في القرآن قال :
?فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ?[يونس:92].(/32)
ثم هناك شيء في التاريخ أربك الكتاب من النصارى وحيرهم فنجد هذا الارتباك موجوداً في الأناجيل الموجودة الآن ، ففي الأناجيل المعترف بها عند النصارى اليوم يذكرون أن حادثة صلب وقعت ويذكرون في نفس هذه الأناجيل أن أصحاب سيدنا عيسى رأوا سيدنا عيسى بجسده بعد حادثة الصلب ثلاثة أيام ، بعد حادثة الصلب حي يرزق والله يقول ?وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً?[النساء:157].
هناك مخطوطات ظهرت في البحر الميت هذه المخطوطات ظهرت في عام 1945م ثم كانت في حوزة الحكومة الأردنية وآلت بعد ذلك إلى حوزة الدولة اليهودية لكن هناك نسخة منها في الفاتيكان ونسخة منها في ألمانيا ونسخة منها في أمريكا وتشترط الدولة اليهودية عدم نشر هذه المخطوطات وهذه المخططات اهتم بها البابا يوحنا السادس ، ففاجأ الناس بدعوته لعقد مؤتمر بين المسيحيين والمسلمين ولكن اعترض سفير دولة اليهود بالفاتيكان وبعد فترة وجد هذا البابا على فراشه ميتاً.
البابا الذي جاء بعده كأنه عرف أن الأمر خطير وأن الدعوة التي دعى ونادى البابا السابق لها غير مقبولة ، فقرر أن يعقد مؤتمراً للمسيحيين فقط، فعقد مؤتمراً للمسيحيين استمر أربع سنوات ، وبعد أربع سنوات صدرت القرارات عن هذا المؤتمر، ماذا قال المؤتمر؟ يقول المؤتمر:
القرار الأول :
اعتبار المسلمين فرقة ناجية ، ماذا يعني فرقة ناجية؟!!
أي أنهم على دين حق ، أي أن القرآن حق ، أي أن الرسول صادق..
هذا قرار مؤتمر للمسيحيين وهو مؤتمر قريب في قرننا هذا الذي نحن فيه .. نحن في آخره الآن.. في الستينات..
القرار الثاني :
يمنع التبشير بين المسلمين.. لماذا يمنع؟ لأن المسلمين على حق وأن التبشير هذا سيشوش عليهم.
القرار الثالث :
من أراد أن يعرف شخصية المسيح فليسأل المسلمين.
تحدثت بهذا إلى الدكتور / عبدالله عمر نصيف أمين عام رابطة العالم الإسلامي، بعد أن نشر هذا في المجلات ، وقرأناه في المجلات فقال لي نعم البابا أصدر هذا القرار ونشر هذا وأرسل صور منه إلى الهيئات الإسلامية إلى الأزهر وإلى رابطة العالم الإسلامي وغيرها، ونحن لدينا صورة من هذا القرار لهذا المؤتمر المسيحي سبحان الله الحيرة التي تحيرهم في شخصية المسيح جوابها لدينا في القرآن يذعن أكابر علماء النصارى إلى ذلك ، فمن علم محمداً من بين الناس؟! ومن كشف هذه الأسرار له صلى الله عليه وسلم هذا من خبر الغيب، وقد جاءت مخطوطات البحر الميت تؤيد ذلك وتخبر بأن هناك نبيناً آخر سيظهر في الحجاز وأنه سينتصر على أعدائه وأنه سيصحح المفهوم الخاطئ الذي يكون عن المسيح عيسى عليه السلام . هذه مخطوطات البحث الميت . خبر بالغيب الماضي .
ثم هناك أخبار كانت تتعلق بأحوال الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فيكشفها الله له ، كم أخفى المنافقون في نفوسهم أشياء كم أخفى الناس في نفوسهم من أمور وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون غير ذلك فيخبرهم الرسول بالأمر ويقول لهم الأمر كذا وكذا وكذا وكذا.
وتقع الحادثة في مكان آخر فيأتي الوحي ويكشفها للنبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما قصه لنا القرآن وما ذكر أيضاً في الصحاح في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ـ فعن علي رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقدام فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ – منطقة اسمها روضة خاخ – فإن بها ضغينة معها كتاب – والضغينة هي المرأة المسافرة- أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمكان – وأخبرهم أنكم ستجدون فيها امرأة وهذه المرأة مسافرة وأخبرهم أن عندنا كتاب – قال علي رضي الله عنه – فانطلقنا تعدى بنا خيلنا حتى وصلنا روضة خاخ، فإذا بنا نجد الضغينة فلما وصلوا ورأوا الضعينة قالوا لها قلنا لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب) ، واحدة من اثنتين إما تخرجي الكتاب وإلا تلقى الثياب ونحن نفتش فأحست المرأة بعد أن أنكرت أن معها كتاب وقد هذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة وهو ممن شهدوا بدراً إلى أناس من المشركين في مكة يخبرهم ببعض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن تعرف قريش أنه يتجهز لغزوها في عقر دارها حتى لا تستعد وحتى لا تكون هناك خسائر عسكرية كثيرة وتورث أحقاداً وضغائن .(/33)
كان يريد أن يأخذ مكة بغتة صلى الله عليه وسلم كما حدث بالفعل لكن هذه الرسالة كانت من ضمن الأسباب التي تكشف الأمر لقريش وتجعلها في حالة استعداد فلما اطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا سأل حاطب وقال له : سأله عن الذي حمله على ذلك فأخبر حاطب وقال والله ما هو رضي بالكفر بعد الإسلام ولكني كنت امرأً ملصقاً في قريش – يعني لست من صميم قريش وإنما أنا ملصق بها ـ والمهاجرون لهم أقارب يحمون قرابتهم هناك ـ يعني كل واحد من أخواني المهاجرين الذين هنا له أسرة من الكفار تحمي بقية أسرته وأفراد أسرته أما أنا فلا يوجد من يحمي أهلي هناك ، فأردت أن أفعل هذا ـ يداً عندهم ـ وأعلم أن هذا لن يضرك وأن الله سبحانه وتعالى سينصرك ، وما فعلته لأني قد رضيت بالكفر بعد الإيمان – سيدنا عمر ما عنده هذا الكلام : فقال دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد ، ولكن حاطب أدرك هذا الضعف وهو ممن يشهدوا بدراً فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً :(لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ونزل قرآن يخبر بهذا الأمر ويسجله فجاء في كتاب الله قول الله جل وعلا : ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] وتكشفوا لهم بعض أسرار المسلمين، لكن انظروا كيف جاء الخطاب يا أيها الذين آمنوا ما قال يا حاطب من غير المؤمنين – بل وصفه بالإيمان وناداه بالإيمان ثم قال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ?[الممتحنة:1] فكيف تلقون إليهم بالمودة وهم أخرجوكم بسبب إيمانكم بالله فكانت هذه شهادة من الله سبحانه وتعالى لحاطب بالإيمان وهكذا نجد الرحمة والرفق والسياسة النبوية تدرك الضعف البشري وتدرك الدوافع المختلفة ولكنها أيضاً تضمنت أن الله كشف لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة وكشف له أين المرأة ووجه الرسول رسله إلى المكان االمحدد فوجدوا الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام ، هذا كله من أمر الغيب الذي لا يعرفه إلا الله .
وتعرض الكثير من الابتلاءات والاختبارات فيأتي ناس تحت ظروف معينة وتحت ضغوط معينة فيكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون شيئاً ثم يكاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصدق فينزل الوحي ويكشف الأمر لهم فتنكشف الأمور، ما قال الناس آمنا بمحمد هكذا صلى الله عليه وسلم فكل واحد رأى معجزة ـ كل واحد رأى بينة ـ وجاءت هذه البينات تتظافر بعضها فوق بعض.
وهناك قصة أخرى من هذا النوع (قصة بني أبيرق) بنو أبيرق هؤلاء كانوا ثلاثة أخوة وكان حالهم من الناحية المادية ضعيفاً فهجموا على بيت وسرقوا منه سلاحاً وطعاماً وكان هذا البيت الذي سرق بيت عم قتادة بن النعمان فجاء إلى ابن أخيه قتادة وأخبره الخبر وقال له لقد سرقنا ويبدوا أن المؤشرات كلها تشير إلى بني أبيرق لأنهم في تلك الليلة أوقدوا ناراً وأكلوا وهم ليس لهم ذلك وتهامس الناس بهذا.(/34)
اجتمع أصحاب وعشيرة هؤلاء بني أبيرق وتدارسوا وقالوا الحل أن نذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشتكي من هؤلاء الذين يطعنوننا وهؤلاء الذين يتهموننا بغير بينة وبغير حجة، ذهب قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالخبر إلا والخبر عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس قد نقلوا إليه أن هذه الأسرة تتهم بريئاً وترمي أبرياء بسرقة ولا بينة لهم ولا حجة فلما جاء قتادة قال قتادة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال عليه الصلاة والسلام (عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة) فقتادة قال وددت أني ما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني خسرت كثيراً من مالي وما قلت للرسول صلى الله عليه وسلم هذا حتى لا أجد منه هذا الكلام ـ فرجع مهموماً فلما وصل إلى عمه قال له عمه ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم قال : قال لي كذا وكذا وكذا . فقال عمه الله المستعان فأنزل الله الجواب ?إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً?[النساء:105] أي لا تدافع عن الخونة ? وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ?[النساء:105-106] واستغفر الله مما قلت لقتادة ولعمه . ? وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً?[النساء:105-109] . سبحان الله كيف يأتي هذا الجواب القرآني إلى أن قال الله تعالى في هذه الآيات ?وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ?[النساء:112] لأنهم رموا شخصاً صالحاً وقالوا هو السابق لكي يدفعوا عن أنفسهم ذلك فنزل الوحي يكشف الحقيقة ويكشف الألاعيب ويكشف التبيت الذي بيتته هذه المجموعة بفضحها على رؤوس الأشهاد.
?وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ?[النساء:112-113] لماذا؟ لأنه مؤيد بالوحي مؤيد من الله جل وعلا يكشف له ما في نفوس الناس ويخبره عما أخفت تلك النفوس، من يستطيع أن يعرف ما في قلوب الناس؟ من يعرف؟ لا يكون ذلك إلا لمن أيده الله بالوحي إلا للرسول الصادق صلى الله عليه وسلم ، الذي أظهر الله لنا معجزاته وبيناته الكثيرة ، وكم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأشياء بعيدة عنه كموت النجاشي رضي الله عنه وعن قوم مؤتة واستشهاد جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وهو يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأحداث عن بعد بل صلى على النجاشي وأمر المسلمين أن يصلوا عليه ثم جاءت الأخبار بعد ذلك أنه قد توفاه الله.
من يخبر الرسول بذلك من يعلمه هذه الأسرار من يأتيه بما يدور في أعماق النفوس وما يدور بعيداً في هذه الساحات الواسعة الشاسعة إنه الوحي إنه التأييد الإلهي، إنها المعجزات التي أيد الله بها رسوله ليشهد الناس وليستيقنوا أن محمداً رسول الله .
والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
(1)- رواه البخاري من حديث أبي هريرة،باب:كيف نزل الوحي وأول ما نزل ،رقم: 4696 ،4/ 1905، ومسلم من حديث أبي هريرة، باب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم،رقم:152، 1/ 134 .
(2)- رواه البخاري في باب:الجاسوس وقول الله ( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء )،رقم:2845، 3 / 1095 ،ومسلم في باب: فضائل أهل بدر،وقصة حاطب بن أبي بلتعة،رقم:2494، 4 / 1941.
(3) - سبق تخريجه ص:7 .
(4)- أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث قتادة بن النعمان، رقم:8164 ،4 /427 ،وقال الحاكم:حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
الحلقة العشرون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :(/35)
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد : تكلمنا عن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها أنه أخبر بالغيب الذي مضى وكان يخبر بالغيب الذي يقع في عصره ومن الغيب الذي أخبر به في عصره خبر أهل مؤتة الذين كانوا يقاتلون، خرجوا لقتال الروم ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان ثم أخذها خالد بن الوليد إمرة ففتح له) ، وأمرهم أن يضعوا الطعام لأهل هؤلاء الذين استشهدوا وقال عليه الصلاة والسلام اصنعوا لآل جعفر الطعام .
فهو يبني على هذا الخبر مواقف عملية من أنهم يصنعوا لآل جعفر الطعام ـ وتأتي الأخبار مصدقة كما قال عليه الصلاة والسلام ، ومن هذا أنه كان يخبر الناس بما يدور في نفوسهم، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه :
أن الأنصار قال بعضهم لبعض يوم الفتح أن الرسول قد أدركته رغبته في قرابته ورأفته بعشيرته (فنزل الوحي) عندما سالم قريشاً وقال (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن دخل البيت فهو آمن) .
عندما أمن هؤلاء فوقع في نفوس الأنصار أهل المدينة شيء فحدثوا أنفسهم بهذا الحديث فنزل الوحي يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله الأنصار ، فواجههم الرسول صلى الله عليه وسلم بما قالوا ـ فأقروا فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم المحيا محياكم والممات مماتكم ، كشف له ما في نفوسهم وواجههم به فأقروه ومن يعرف ما في النفوس؟ لا يعرف ذلك إلا الله سبحانه وتعالى ونتكلم اليوم عن خبر من أخبار الغيب :
تألب الناس حوله وتجمعوا وتحزبوا فكان هناك حزبان حزب أهل الإسلام يقودهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ وحزب أهل الكفر اجتمعوا وراء أبي بن خلف هذا الخبر هو أن معركة دارت بين الفرس والروم فهزم الروم ففرح أهل الشرك في مكة وقالوا المشركون أمثالنا من الفرس عبدة النيران غلبوا أهل الكتاب أمثالكم فحزن المسلمون فأخبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأنزل الله هذا الجواب على هؤلاء:
بسم الله الرحمن الرحيم : ?ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ?[الروم:1-4] أخبر أن الروم غلبت في أدنى الأرض ثم أعلن خبراً وقال ? وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ?[الروم:3] أي بعد هزيمتهم ?سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ?[الروم: 4] وحدد المدة في بضع سنين والبضع هو ما بين الثلاث إلى العشر ، فإذا وصل إلى أكثر من ذلك ما تقول بضع تقول ثمانون ، ولما سمع أبي ابن خلف بذلك وكان أبو بكر ينادي بالأسواق بهذا ويتكلم عن هذا فقال : (تراهن (هل تراهن يا أبا بكر) ، فوقع في هذا . وبعد الرهان احتشد أهل الإسلام وراء أبي بكر واحتشد أهل الكفر وأخذ الناس ينتظرون ماذا سيكون من هذا الخبر وما مرت سبع سنوات إلا وتحقق وعد الله سبحانه وتعالى ، وتحقق وعد الله ، والله قد أكد ذلك وبينه فقال :
?وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ?[الروم:3-6].
بعد هذا أسلم عدد كبير من الناس ودخلوا في دين الله وقالوا محمد ، عاقل لا يمكن أن يغامر بنبوته ويراهن بها على دولة خرجت من المعركة مهزومة ويحدد مدة قريبة يشهدها هو في حياته، وهي بضع سنين أقل من عشر سنوات ثم يعقب هذا التعقيب ?وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِلا يَعْلَمُونَ ?[الروم:6].
جاء الفرس من جهة العراق واتجهوا فوجدوا أمامهم البحر الميت ونهر الأردن ووصلوا إلى أغوار نهر الأردن ووصلوا إلى أغوار نهر الأردن وهي أخفض منطقة في العالم .
كنت أتحدث مع البروفيسور الأمريكي رئيس الجمعية الجيولوجية الأمريكية (السون بالمر) رئيس الجمعية سابقاً السن بالمر فقلت له يا بروفيسور القرآن يخبرنا بأن هذه هي أخفض منطقة في العالم لأن الله يقول : ?ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ?[الروم:1-2].(/36)
ففي الأرض مرتفعات ومنخفضات وهذه أدناها . فرد عليّ وقال لا هناك منخفضات أكثر فوقع النقاش بيني وبينه فلما رأى موقفي المتشدد راح وجاء بـ نموذج مجسم للأرض فيه جميع المرتفعات والمنخفضات في العالم وقال "أين المنطقة التي تتحدث عنها فقلت له بيت المقدس قال يعني أيش – قلت له يعني أورشليم فوضع يده ووجهها إلى المنطقة فما أن وضع يده على هذه المنطقة حتى رأى سهماً خرج من تلك المنطقة مكتوب عليه اخفض منطقة في العالم. فسبحان الله تتجدد المعجزة وتتجلى .
وهناك أخبار غيبية كثيرة ومن هذه الأخبار الغيبية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدث المسلمين وهم في المدينة بأنهم سيطوفون بالبيت الحرام محلقين رؤوسهم ومقصرين. ثم توجه معتمراً إلى مكة وهو في حالة حرب مع كفار قريش فقريش لما سمعت بذلك احتشدت وجهزت نفسها – استعدت للقتال فتدخل بعض الناس بينهم بالمصالحة وفي النهاية تمت هذه المصالحة على أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم من عامة ذلك ثم يأتي العام التالي فتأثر المسلمون الذين جاؤوا محرمين وكانوا يظنون أنهم سيدخلون في ذلك العام تحقيقاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أن عمر رضي الله عنه، حاور الرسول صلى الله عليه وسلم وحاور أبا بكر الصديق فقال لرسول الله : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به، قال الرسول صلى الله عليه وسلم بلى : أفأخبرتك أنك تأتي عامك هذا قال عمر : لا . قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنك آتيه ومطوف به ونزل القرآن بعد هذه الحادثة وهي حادثة صلح الحديبية ، فأنزل الله سورة الفتح وجاء فيها ?لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ?[الفتح:27]. يعني رؤيا الرسول حق والله يصدق تلك الرؤيا ? )لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً?[الفتح:27] فكان صلح الحديبية هو الفتح قبل الطواف ونزلت سورة الفتح التي أخبرت أن صلح الحديبية فتح وحقاً كان أكبر فتح، لأنه في خلال عامين بعد صلح الحديبية تضاعف عدد المسلمين جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لصلح الحديبية، ومعه ألف وأربعمائة وبعد عامين توجه لفتح مكة بعد أن خانت قريش هذا العهد وغدرت ومعه عشرة آلاف فكان فتحاً عظيماً.
ووعد الله سبحانه رسوله بمغانم في سورة الفتح فقال تعالى : ?وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ?[الفتح:20] وأخبرهم في نفس السورة بأنهم عندما يتوجهون للمغانم (وكانت تلك المغانم التي أخبرهم بها الله سبحانه وتعالى في الآية هي ما وقع لهم في خيبر) فأخبرهم بقول المخلفين لهم عند انطلاقهم لأخذ المغانم، قال تعالى : ?سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً?[الفتح :15].
ومن خلال أشهر فتح المسلمون خيبر ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يحضر صلح الحديبية أن يحضر خيبر، فهذه المغانم التي وعد الله من كانوا قد حضروا معه في صلح الحديبية، وقد جعل الله ذلك آية للمؤمنين قال :
?وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً?[الفتح:24] يعني الله سبحانه وتعالى هو الذي رتب ذلك فكف أيديكم أيها المسلمون عن أن تقتلوا هؤلاء الكافرين وكف أيديهم من جهة أخرى وكان هذا الصلح الذي كان بعد ذلك سبباً لفتح مكة – وكافأكم الله بمغانم فقال تعالى :
?وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ? أي صلح الحديبية الذي كان سبباً لفتح مكة ? فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً?[الفتح:20] .(/37)
وكانت هذه هي فتح خيبر والآية أن الله صدق رؤيا رسوله صلى الله عليه وسلم ? لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ?[الفتح:27] فدخل الصحابة رضوان الله عليهم في العام التالي ودخل عمر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف مع سائر المسلمين وكانوا محلقين ومقصرين كما بينت الآية وكما وعدت بذلك خبر غيبي أحدث رجة في نفوس المسلمين تساءل عمر أما كنت تقول لنا قال: وهل قلت لك من عامك هذا؟ فيمر الوقت ويتحقق الوعد كما أخبر به الله سبحانه وتعالى في كتابه فلقد سُجل ذلك في كتاب الله والتسجيل في كتاب الله ليس كالتسجيل في أي كتب من كتب التاريخ إن الجميع يسمع ما سجل القرآن ويتلو ما سجل القرآن ولو كانوا قد وجدوا شيئاً مما سجله القرآن لم يقع لكان سبباً لتكذيب الكافرين ولردة المسلمين والعياذ بالله.
وهناك خبر آخر من أخبار الغيب، أخبر الله رسوله أن الله سيعصمه من الناس، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي ومعه حراسة كان هناك من يحرسه لأن المتآمرين عليه كثر من أهل الكتاب ومن المشركين ومن المنافقين، والخلفاء الثلاثة بعده وبعد انتصار الإسلام سيدنا عمر سيدنا عثمان سيدنا علي ثلاثة خلفاء في أوج قوة الأمة الإسلامية يقتلون فيموتون غيلة ، فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مراحل إقامة هذه الدولة ومواجهة كل هذه القوى ، يأتي خبر من الله ويقول يا محمد الله يعصمك كما قال الله تعالى : ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ?[المائدة:67] أي لا تخشى قد عصمتك منهم، خبر ثمنه الحياة، بعد أن نزلت هذه الآية، تقول عائشة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت ? وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ?[المائدة:67] .
فأخرج رأسه من القبة فقال (أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله انصرفوا لا أحتاج إليكم قد عصمني الله) ، يقدم حياته ثمناً لتصديقه لوعد الله سبحانه وتعالى، وكم تآمر عليه الكفار وكم تآمر عليه المنافقون وكم تآمر عليه اليهود بعد ذلك. ولكن الله كشفهم جميعاً وعصمه منهم جميعاً فتحقق وعد الله جل وعلا وكما أخبر الله سبحانه وتعالى بهذه الغيوب وتحقق منها ما تحقق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهناك ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما يكون بعده إلى قيام الساعة ولهذه كتب خاصة أفراد لها العلماء الكثير من الكتب المتخصصة وفي كتب الحديث أبواب مستقلة تتحدث عن هذا الأمر، وخلاصة هذه الأخبار أنك تجد من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وفي أحاديث النبي ما يصف بها ما سيكون من الفتوح، ستفتحون أرض كسرى أرض مصر أرض قيصر وسيكون وسيكون وسيكون.. ثم يقول وبعد ذلك ستضعفون (وسيعود الدين غريباً كما بدأ غريباً) فيذكر وهو في مراحل الضعف أن الإسلام، سينتصر وسيعزو العالم وسينتشر في الأرض كلها ثم يعود غريباً بعد ذلك ويضعف المسلمون مرة ثانية وهانحن في هذه الأحوال التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ومما أخبر به القرآن عن أحوال المسلمين وما يكون من أمرهم هذه الآية: قال تعالى : ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?[الأنعام:65] لما نزلت هذه الآية خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف المسلمون لأنها تهديد ووعيد فلما قال تعالى ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ?[الأنعام:65] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك استعاذ بوجه الله من هذا العذاب الذي يكون في الناس – أعوذ بوجهك – ثم قرأ أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك، واستعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من العذاب الذي يكون من أعلى ومن تحت أجلنا فلما قرأ عليه جبريل
? أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?[الأنعام:65] قال صلى الله عليه وسلم (هذا أهون أو أيسر) .(/38)
يستحيل أن يصيب الأمة هذا العذاب من فوق ومن أسفل من تحت أقدامنا ما دمنا مستقيمين فهم مع هذه التعويذة النبوية التي استعاذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن بعد أن يستبيح المسلمون يستبيحون دماء بعضهم وبعد أن يتجرأ على حدود الله سبحانه وتعالى بعد هذا كله لابد أن يقع هذا ولذلك روى أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية خاف الصحابة رضوان الله عليهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعد أن استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم فسألوه يا رسول الله أو ذلك كائن أخبرهم بأنها كائنة ولكن على قوم آخرين على الذين يعصون الله على الذين ينحرفون ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أما إنها كائنة لم يأت تأويلها بعد )– يعني وقوعها وتحققها ما جاء بعد وإنما سوف تكون في المستقبل- وقد احتار كثير من الناس أو من المفسرين ما هو هذا العذاب الذي يكون من أعلى والعذاب الذي يكون من أسفل تحت الأرجل فقال بعضهم الزلازل التي تكون من تحت الأرجل وذكروا ما قد يكون من أنواع العذاب من أعلى.
وبعضهم فساد الرعية وفساد العامة ، هو العذاب من أسفل (السوقان) وفساد العظماء والرؤساء هذا هو العذاب من أعلى .
لكن الآية تتكلم عن عذاب يأتي من أعلى مباشر وكم قد رأينا الآن ما يأتي من العذاب من فوق الرؤوس وما تتفجر به الألغام من تحت الأقدام، خبر يعلنه القرآن ونرى كثيراً من تفاصيله وصوره ، أما السنة النبوية فهي مملوءة بالإخبار بالغيب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بما هو كائن من زمنه إلى أن تقوم الساعة وبعد أن تقوم الساعة أخبر إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وهناك أحاديث كثيرة ومنها ما جاء في حديث جبريل عندما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ثم قال له فأخبرني عن أماراتها بعلامات ، قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة الحفاة العراة – العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان) وهذا كان حالنا في أوائل هذا القرآن، أوائل القرآن والأمة العربية والإسلامية في حالة من الفقر شديد حفاة عراة عالة معظم الناس هو هذا فلما جاء آخر هذا القرن إلا وقد فجر الله هذه الثروات فرأيت من كان بالأمس حافي عاري عالة لا يجد طعاماً أصبح يبني البيوت المتطاولة سبحان ربي سبحان ربي ، هل يستطيع الحافي الذي لا يملك الحذاء العاري الذي لا يملك الثوب العالة الذي لا يملك الرزق أن يبني بيتاً طويلاً فضلاً عن أن يطاول زملائه وأصحابه ، فهذا يقول أنا بنيت بيتاً أطول وهذا يقول لا . أنا بيتي أطول من بيتك ، هذا شيء غريب لا يمكن للناس أن يتخيلوه لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بهذا وأنه سيأتي زمان وهذه من علامات الساعة أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنان شيء ما كان يفهم من قبل حتى رأينا هذا القرآن ومما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) .
الصنف الأول : قوم بيدهم سياط كأذناب البقر ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (قوم بيدهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، قال العلماء الذين شرحوا هذا الحديث قالوا هي الشرط كأذناب البقر يضرون بها الناس ، قال العلماء الذين شرحوا هذا الحديث قالوا هي الشرط في آخر الزمان تضرب الناس يعني بغير حق .(/39)
ثم قال الصنف الثاني : ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، هذا الصنف قال عنه كاسية عارية ، كيف تكون الكاسية عارية؟ الكاسية لا تكومن عارية لكن رأينا في عصرنا هذا في كثير من بلدان المسلمين كاسيات لهن الملابس الكثيرة ولكنها عارية لأنها إما أن تكون ملابس شفافة أو ملابس ضيقة أو ملابس قصيرة أو تراها كاسية في البيوت عارية في شواطئ البحار وفي المراقص كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، أما التفنن في الإمالة والتمايل أصبح فناً عند أصحاب الموضات وخاصة في صانعي الكعب العالي وقال: روؤسهن كأسنمة البخت المائلة رأسها مثل سنام الجمل المائل ، الجمل المائل السنام يميل هكذا (يميناً) أو يميل هكذا (شمالاً) أو يميل إلى الخلف. وعندما رأينا الباروكة الآن وهي كسنام الجمل المائل ، فكأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من أن المسيح عليه السلام سيأتي بل أخبرنا به القرآن فقال الله تعالى: ?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ?[الزخرف:61] أي عيسى عليه السلام – وأنه لعلم للساعة وفي قراءة وإنه لعلَم للساعة ، فعودة سيدنا عيسى هو علم من أعلام الساعة والثلاثة الأديان اليوم كلها تنتظر مجيء المسيح عليه السلام اليهود على أحر من الجمر يقولون نحن نريد نقيم دولة إسرائيل الكبرى من أجل أن يأتي المسيح وبعض النصارى يقول نساعد اليهود – لإقامة دولة إسرائيل الكبرى من أجل أن يأتي المسيح وعنده أرض كبيرة واسعة ويجد النصارى ذلك موجود في كتبهم أنه سوف يعود عليه السلام ونحن نعلم أنه سيعود – ولكن الخلاف بين هذه الآيات إلى من يعود .
فاليهود يقولون: هو يهودي هو من بني إسرائيل فسيعود إلينا، والمسلمون يقولون من آمنا به وصدقناه وسيعود إلينا ، ولن يعود إلى الذين كذبوا من عند مجيئه الأول وهذا من خبر الغيب الذي ينتظرنا والعالم ينتظره، وستحقق الأخبار التي أخبر بها القرآن وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وإن رسولنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا بما يكون بعد مجيء المسيح عليه السلام إلى أن تقوم الساعة وإلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، أفليست هذه معجزة متجددة باقية، من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي الإخبار بالغيب فيأتي الواقع شاهداً ومصدقاً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين .
وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) -البخاري، باب: الرجل ينعى إلى أهل البيت بنفسه، رقم:1188 ، 1/420.
(2)- مسلم، عن أبي هريرة،باب فتح مكة،رقم: 1780 3،/1406.
(3) -أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن عائشة، تحقيق:مصطفى عبد القادر عطا،رقم:3221 2/342، دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الأولى: 1411هـ ـ 1990م، وقال الحاكم:هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: 2489 .
(4)- جزء من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة، باب:بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ،1 قم:145/ 130 .
(5) - رواه البخاري عن جابر بن عبد الله،باب:قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلككم،رقم:4352 ،4/ 1694 .
(6) - سنن الترمذي،باب: ومن سورة الأنعام،رقم:3066، 5/ 261 .
(7)- رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، باب:بيان الإيمان والإسلام والإحسان،رقم:8، 1 /37 .
(8) رواه مسلم من حديث أبي هريرة،باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات،رقم:2128، 3/1680.
تفريغ الشريط التاسع
الحلقة 25
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين وبعد:-
كنا قد تكلمنا عن صفات الله سبحانه وتعالى، والآن نتكلم عن أسماء الله سبحانه, الأسماء التي تدل على تلك الصفات, الأسماء التي ننادي الله بها، ومعانيها في أذهاننا ونحن نتوجه إليه، هذه الأسماء هي موضوع ما سنقوله الآن .
- إذا ناداك أحد باسم حسن فإن ذلك يكون فيه التكريم، وإذا ناداك باسم قبيح فإنك تتألم وتغضب، ولذلك كان لابد لنا من أن نُحسن مخاطبة الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وأن نتجنب كل اسم يدل على عيب أو نقص أو لا يرضاه الله سبحانه وتعالى قال تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180] ولذلك فمعرفة الأسماء الحسنى من تمام علمنا بالله جل وعلا ، ودعائنا له بها من تمام عبادتنا له.(/40)
- وقد أمرنا الله سبحانه أن نعلم بحقيقة تلك الأسماء التي سمى بها نفسه سبحانه وتعالى فقال { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة:233] بصير اسم من أسماء الله وهذا يجعلنا نشعر بمراقبة الله سبحانه وتعالى،وقال { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة209] وهذا يجعلنا نستشعر بعزته وقوته التي لا تهاد ولا تغلب ونستشعر حكمته التي لا يكون معها عبث وقال سبحانه { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:34] وهذا يفتح أمامنا أبواب اللجوء إلى الله ،والإنابة وعدم القنوط بسبب الذنوب والمعاصي، وقال سبحانه { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة :244] هذه كلها أسماء الله جل وعلا أمرنا أن نعلم بذلك { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة :244] ، وهذا يجعلنا نتجه إليه بالدعاء لقضاء حوائجنا فهو سبحانه سميع مجيب الدعاء.
- وعلينا أن نتحرى فنحسن في أقوالنا وأفعالنا فهو عليم بجميع أمورنا، وقال تعالى { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة:235] وهذا يعرفنا نسبة حلمه على عبادة فلا يعجل ولا يتعجل في عقاب الكافرين، وفي أخذ المذنبين الذين يستحقون، ولكن كذلك في نفس الوقت أن هذا الذي نجده من حلم الله سبحانه وتعالى لا يغرينا بالاسترسال في المعاصي.
والله يقول { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة:196] { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:34] هذان هما الجناحان اللذين يطير بهما المؤمن في علاقته بربه يعلم أن الله شديد العقاب فيجعله يخاف ويحذر ولكن يعلم أن الله غفور رحيم، فيتعلق قلبه بالخوف من ربه ويتعلق بالرجاء من ربه سبحانه أن يغفر له كل ذنب.
ويقول الله جل وعلا { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الطلاق:12] هذا يجعلنا نثق به ونتوكل عليه فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، وقال تعالى { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } [إبراهيم:52] وهذا يجعلنا نخلص لله ،ونصفي من قلوبنا كل ما يكون لغير الله جل وعلا ونتعلق به، وحده فهو الإله الواحد الذي يستحق العبادة وحده ،والتعلق به سبحانه وتعالى.
- وهذه أسماء أمرنا الله أن نعلمها ،وهناك أسماء كثيرة وردت في كتاب الله، ووردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلها أسماء حسنى.
ما المقصود من هذه الأسماء الحسنى؟ أنت عندما تقول هذا حكم فهو اسم يدلك على هذه القيمة، وعندما تقول هذا كتاب جئت بمصطلح يدل على هذا الكتاب.
فنفرق بين العلم وبين الكتاب بالاسم الذي وضعناه،فإذا أردنا أن نتكلم عن الله فما هي الأسماء التي نعبر بها للدلالة عليه؟ إنها الأسماء الحسنى التي ليست مجرد ألفاظ نستدل بها على الله سبحانه فحسب، وتليق به سبحانه فحسب بل هي أسماء حسنى تحمل المعاني العظيمة، والشرف العظيم لله جل وعلا،ولو لم تدل هذه الأسماء على معان عظيمة ما كانت حسنى.
- وبعض الناس الذين يجادلون في هذا فيقولون هي فقط أسماء وأعلام فقط لمجرد العلمية يعني نعرف الله سبحانه وتعالى ولا تحمل معاني.
- وقد رد على هؤلاء العلماء فقالوا معنى ذلك كأنك تقول يستوي عندي كل الأسماء لأنها لا معنى لها ،فإذا قلت اللهم يا قوي يا جبار ويا منتقم اغفر لي هل يليق ،وهل يليق بك أن تقول كذلك يا غفور يا ودود يا لطيف يا تواب يا رحيم؟ أو تقول اللهم يا رافع اللهم يا جبار اعطني ،واعطني ليس هكذا ولا يليق.
هذا الأسماء تدل على معاني ومعاني عظيمة تليق بجلال الله سبحانه وتعالى.(/41)
- وهناك مسألة يبحثها العلماء ،هل هذه الأسماء توقيفية؟ يعني لا يسمح أن يسمى الله بغيرها أم أنه يجوز أن يسمى الله بأسماء لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، والله سبحانه وتعالى يجيب علينا في ذلك فيق { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا... } [الأعراف:180] فالأسماء الحسنى هي لله وتدعون الله جل وعلا بهذه الأسماء،أنت إذا وقفت عند ملك فإنما تطلق عليه أسماء فريدة، وجميلة فنقول يا أيها الملك يا أيها العظيم يا أيها الكريم يا أيها كذا ... فنحن ندعو الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، ولكن قال العلماء يجوز إذا أردت أن تشرح معنى من المعاني اللائقة بالله سبحانه وتعالى، كأن تقول مثلا في العلوم الحديثة يتكلمون عن الذرة فإذا قال أحدهم: الله الذي يجري الالكترونات ـ وهي جسيمات صغيرة توجد في الذرة حول النواة في الذرة ـ فإذا قال هذا لا مانع، لا باس من هذا الوصف، أو قال الله هو الذي يجعل الدماء تجري في أجسامنا لا مانع، صحيح ما ورد النص بهذه الألفاظ أو بهذه الكلمات في الكتاب أو في السنة ،ولكن المعاني صحيحة للدلالة أو للشرح، ولكن عندما ننادي الله جل وعلا فنناديه بأسمائه الحسنى { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } [الإسراء :110]. فإذا أردنا أن نناديه أو نخاطبه فلنخاطبه بالأسماء التي عرفنا بها سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فأسماء الله هي التي يدعى بها، وهي متعددة فمنها ما يدل على الذات الإلهية، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد: 2-3] والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم, فقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم معنى هذه الأسماء.
- ومن الأسماء المتعلقة بذات الله مثل اسمي (الحي و القيوم) وقد وردت في قوله تعالى { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة:255]. فهو الحي الذي لا يموت كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم "أنت الحي الذي لا تموت" وحياته لا يهددها موت لأن جميع أسباب الموت من خلقه سبحانه وتعالى.
- وهو القيوم القائم على كل شيء، والحافظ لكل شيء،وبه يقوم الكون والوجود، وكذلك لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يأخذه نعاس أو نوم ،و إلا لو أخذه نعاس أو نوم ضاع هذا الكون واختلط أمره فهو الحي القيوم سبحانه وتعالى.
- وهناك أسماء متعلقة بالعلم، مثل العليم وهذا من البديهيات، من البديهيات أن الله عليم بخلقه وقد قال في كتابه { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [تبارك : 14]. كيف لا يعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير سبحانه، وقال تعالى { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:231 ] ما من صغيرة ولا كبيرة في الكون كله ولا في دخائل النفوس إلا والله عليم بها ،وهذا يدعونا إلى مراقبة الله جل وعلا.
- وقال تعالى: { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } [ البقرة:235]. ومن هذه الأسماء المتعلقة بالعلم مثل السميع والبصير قال تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى: 11]. ومثل الخبير اسم الخبير كما قال تعالى { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:18] ومن هذه الأسماء المتعلقة بعلم الله سبحانه الشهيد قال تعالى { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت:53]. هكذا بقية الأسماء الدالة على العلم.
- وهناك أسماء أخرى تتعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، وسعت رحمته جل وعلا مثل الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، الرحيم الذي يرحم عباده المؤمنين ومثل البر، التواب، الحليم، الرؤوف، العفو، الغفار، اللطيف الودود، كلها أسماء تجمعها معاني الرحمة، وتتعلق بصفة الرحمة،وهناك أسماء متعلقة بالقوة مثل القوي، الجبار، العزيز، القاهر جل وعلا، القهار المهيمن، المتين .
وهناك أسماء تتعلق بالمجد مثل المجيد الحميد، وهناك أسماء تتعلق بالكرم مثل الكريم الأكرم، الرزاق، الغني الفتاح ، المقيت الوهاب.
وهناك أسماء تتعلق بالخلق مثل الخالق ، الخلاق ، البارئ المصور، الحفيظ القيوم.
{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر:24].(/42)
وهناك أسماء متعلقة بالعلو العلي الأعلى، الظاهر المتعال ،وهناك أسماء متعلقة بالعدل والجزاء الحي الحق ، الخبير الشاكر، الشكور، وقال تعالى: { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام:62].
وهناك أسماء متعلقة بالملك مالك الملك، المليك المهيمن { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر: 23].
وهناك أسماء تتعلق بالتوكل على الله جل وعلا مثل اسمي الوكيل ، والولي قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] نعم الوكيل عندما يقول لك أحد الناس، وكل أمرك إلي، كل شيء عليَّ ،فكيف عندما يكون وكيلك هو الله جل وعلا الذي يقول للشيء كن فيكون، هو الولي الذي يتولى أمرك وحسبك الله و يتولاك الله، قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الشورى:9]. هذه الأسماء العظيمة لله جل وعلا هي التي ندعوه بها، ونفهم معانيها، ونذكر الله بهذه الأسماء فتصور ما تحمله من معاني، ولكن هل لها عدد محدود؟ ورد حديث هذا الحديث الذي رواه الترمذي، وفي هذا الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحد لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر " وفي رواية: "من أحصاها دخل الجنة" وفي بعض الروايات عند الترمذي، وغيره روايات لهذا الحديث ذكر فيه الأسماء التسعة والتسعين لكن المحققين من العلماء قالوا هذه الأسماء التي ذكرت في الحديث ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما أدرجها بعض الرواة استنباطا منهم لأسماء الله جل وعلا التي وردت في القرآن.
ـ والإمام الغزالي قال راجعت كتاب الله وهذه الأسماء التي وردت في بعض روايات الترمذي ما وجدت من الأسماء الموجودة في كتاب الله إلا ثمانية وتسعين اسما في القرآن.
- وأما ابن حجر العسقلاني فقد قام بشيء لطيف اعتمد العدد الموجود في حديث التسعة والتسعين، واعتمد التي موجودة في القرآن ثم بحث هو بنفسه عن أسماء الله التي لم يذكرها هذا الحديث فزاد على ذلك من الأسماء سبعة وعشرين اسما حتى اكتمل له العدد ووصل إلى تسعة وتسعين اسما كلها من القرآن، وورد في الحديث: "من أحصاها دخل الجنة" , ما معنى من أحصاها دخل الجنة؟ أحصاها أي أحصى ألفاظها ،وعدد تلك الألفاظ، وفهم معانيها، وما يدل عليه، ودعاء الله بها ثناءاً عليه سبحانه وتعالى.
- ولكن هل يمكن أن تحصر هذه الأسماء؟
أسماء الله لا حصر لها، أسماء الله تليق بجلال الله وعظمته سبحانه، وعظمته لا نستطيع أن نحيط بها فكيف يمكن أن تكون الأسماء الدالة عليها محدودة، وقد جاء في الحديث عند احمد وابن حبان والطبراني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دعائه: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك عدل في قضاؤك اسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" كلها تدل على أن هناك أسماء ليست في كتاب الله وليست في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بل هناك أسماء استأثر الله بعلمها، واختص بها من شاء من عباده سبحانه وتعالى .
- وهذه الأسماء هي اللائقة بالله جل وعلا، والتي ندعوه بها ،والتي جاء ذكرها في الكتاب أو في السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك طائفة من الناس يميلون بهذه الأسماء عن حقيقتها، ويلحدون في أسماء الله جل وعلا، ولقد هدد الله هؤلاء الذي يلحدون في أسمائه وحذرنا أن نكون منهم فقال: { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف :180].
- فما هو هذا الإلحاد في الأسماء؟
كفار قريش كانوا من أوائل الذين ألحدوا في أسماء الله، الألوهية جعلوها اللات، والعزيز جعلوه العزى، والمنان جعلوه مناة فهي ميل بأسماء الله جل وعلا عن أسمائه الصحيحة واليهود كذلك نسبوا إلى الله اسماء لا تليق به فقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقالوا: { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة:64]. قاتلهم الله { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة:64] فهذا من وصف الله، ومن الإلحاد في أسمائه جل وعلا، أما المؤمن فيتجنب هذه المنزلقات ويتقرب إلى ربه، ويناديه بأحب الأسماء إليه، وهي الأسماء الحسنى.(/43)
- وقد أمرنا الله أن نتقرب بها في دعائنا فإذا أردت أن تدعو الله فادعوه كما علمك الله { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا... } [الأعراف:180] ادعوه بأسمائه { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [الإسراء :110].
- وهناك اسم عظيم هو اسم الله الأعظم فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن بريده عن أبيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: "اللهم إني أسألك بأني اشهد أنك أنت الله لا اله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" وهذا الحديث إسناده صحيح وأخرجه أبو داود ،والترمذي، وابن أبي شيبة ،وابن حبان، والحاكم.
- وفي حديث لأبي أمامه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة و آل عمران و طه "
قال بعض العلماء: فنظرت في هذه السور الثلاث فرأيت فيها شيئاً ليس في القرآن مثله. آية الكرسي { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة:255].
وفي آل عمران { الم* اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ ال عمران:1-2].
وفي طه { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ طه:111].
- أما حديث أسماء بنت زيد، وقبل أن تتحدث عن حديث أسماء بنت زيد، فاستنتج من هذا أن اسم الله الأعظم يكون في قوله تعالى { الحي القيوم } [ آل عمران:2].وان هذا هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب سبحانه وتعالى.
- لكن هناك حديث لأسماء بنت زيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة :163].وفي فاتحة آل عمران { الم* اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ آل عمران:1-2].
- قال العلماء هذا حديث ضعيف ،فهذه هي أسماء الله الحسنى.
- ولقد قام الإمام ابن حجر العسقلاني، وكما أشرت، وجمع هذه الأسماء واستنبطها من كتاب الله سبحانه وتعالى ... وابن حجر تحرى أن تكون مما هي موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى.
- ورتبها وسردها كما سأسردها الآن، وذلك اجتهاد منه لكي تكون وسيلة لحفظها فقال: الأسماء الحسنى التي استنبطها من كتاب الله سواء التي وردت في بعض روايات حديث الترمذي أو ما استنبطها هو، هي كما يلي:-
الله – الرحمن – الرحيم- الملك- القدوس- السلام- المؤمن- المهيمن- العزيز-الجبار- المتكبر- الخلق-البارئ- المصور-الغفار- القهار- التواب- الوهاب-الخالق- الرزاق- الفتاح- العليم- الحليم-العظيم- الواسع- الحكيم- الحي – القيوم- السميع- البصير- اللطيف الخبير- العلي- الكبير- المحيط- القدير- المولى- النصير- الكريم- الرقيب- القريب- المجيب- الوكيل- الحبيب- الحفيظ- المقيت- الودود- المجيد- الوارث- الشهيد- الولي- الحميد- الحق- القوي- المتين-الغني- المالك-الشديد- القادر- المقتدر- القاهر- الكافي- الشاكر- المستعان- الفاطر-البديع- الغافر- الأول- الآخر- الظاهر- الباطن- الكفيل- الغالب- الحكيم- العالم- الرفيع- الحافظ- المنتقم- القائم- المحيي- الجامع- المليك- المتعالي- النور- الهادي- الغفور- الشكور- العفو- الرؤوف- الأكرم- الأعلى- البر- الحق- الرب- الإله- الواحد- الأحد- الصمد- الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
هذه هي الأسماء التي جمعها ابن حجر العسقلاني، وأوصلها إلى تسعة وتسعين مستنبطة من كتاب الله ليكون ذلك سبباً لدعاء الله ومناداة الله بها.(/44)
- ولكن الأهم من ذلك هو الإخلاص لله واللجوء إلى الله، والتعلق به سبحانه وتعالى، واختيار الأوقات المناسبة ،وعدم إشراك الله في الدعاء،كما يقع من بعض العوام ،ومن بعض الجهال فإن الله جل وعلا جعل الدعاء مخ العبادة، والإخلاص فيه هو الأهم، واللجوء إلى الله لابد أن يكون بإخلاص كامل قال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ* إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 13-14]. سبحان ربي سبحان ربي سمى الدعاء لغير الله جل وعلا سماه شركاً قال تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ* إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 13-14]. يكفرون بشكركم .
أما إذا دعا من لا يسمع ومن لا يجيب ومن لا يملك شيئاً فلا شك انه يقع في ضلال بعيد.
فهذه هي أسماء الله الحسنى دلنا الله عليه، وعرفنا بها لنعرفه سبحانه، ولنعظمه ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، ومن الذين يحسنون التأدب مع الله جل وعلا .
والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
تفريغ: محمد البكري مراجعة: خالد حسن البعداني
علي عمر بلعجم
- رواه مسلم في صحيحة في كتاب العلم باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 4/2081 برقم2713.
- رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل: 4/2060رقم الحديث: 2717 .
- رواه البخاري في كتاب الدعوات باب لله مائة اسم غير واحد 5/2354برقم 6047 .
- رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها4/2060 رقم الحديث:2677 .
- سبق تخريجه ص 6.
- الحديث رواه احمد في المسند 1/452 برقم 4318 قال شعيب إسناده ضعيف ، ورواه ابن حبان في صحيحه 3/253 برقم 972 قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح.
- رواه احمد في المسند 5/360 برقم 23091 قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين ، وانظر صحيح ابن حبان في كتاب الرقائق باب الأدعية 3/174 برقم 891، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح.
- الحديث رواه ابن ماجة في سننه 2/1267 برقم 3856 قال الشيخ الألباني حسن، ورواه الحاكم في المستدرك 1/684 برقم (1861) .
الحلقة 26
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:-
فما هي الحكمة من خلق الإنسان؟ يسأل ذلك الشاعر
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقي سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري.
سبحان ربي! تظهر حقيقة هذه الحياة عند الموت فإذا جاء الموت انكشفت حقيقتها، ينظر إلى ما مضى من عمره فلا يجد لها قيمة، ويعرف عندئذ أن الحقيقة الباقية هي التي سيقدم عليها، وعندئذ يتساءل لماذا خلقت في الدنيا؟
يسأل لماذا دخل إلى الدنيا؟ لكن متى يسأل ذلك؟ عند خروجه.
أي غفلة كان فيها هذا الإنسان فعلاً، وليعلم كل عاقل أننا قد خلقنا لحكمة وليس كما يظن الجاهلون أننا خلقنا عبثاً، تأمل إلى كل جزء من أجزاء جسمك ستراه محكما، وستر شهادة علماء الطب يعرفونك عن علم وظائف الأعضاء فما من عضو إلا وله حكمه؟، وسيحدثك الأطباء أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان مرتبط بالكل، فما أحكمت المعدة، ولا أحكمت الأمعاء إلا من أجل أن توجد جهازاً كاملا هو الجهاز الهضمي، وما أحكم خلق الجهاز الهضمي إلا ليقوم بوظيفته ضمن هذا الإنسان، ضمن هذا الكيان بأكمله، وهكذا كل عضو، أفيكون الجزاء محكماً وله وظيفة ثم يكون الكل بدون إحكام وبدون وظيفة سبحان ربي.(/45)