وقال - سبحانه -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)(الحديد: من الآية20).
هذه بعض الآيات التي تبين خطوط الانحراف عن الصراط المستقيم في جمع المال وحبه، والآيات كثيرة جدًا.
ولأجل المزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية فسأذكر شيئًا من أقوال المفسرين حول بعض هذه الآيات:
قال الطبري في قوله - تعالى -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر:1) ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.
وروي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - كلام يدل على أن معناه التكاثر بالمال(1).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:1، 2) الهماز بالقول واللماز بالفعل، يعني يزدري الناس وينتقص بهم.
(الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:2) أي: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عده، كقوله - تعالى -: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج:18) قال السدي وابن جرير وقال محمد بن كعب في قوله: (جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة: من الآية2) ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة:3) أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار. (كَلَّا) (الهمزة: من الآية4) أي: الأمر ليس كما زعم ولا كما حسب (2).
وقال في قوله - تعالى -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8). أي: وإنه لحب الخير وهو المال لشديد، وفيه مذهبان:
أحدهما: أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني: وإنه لحريص بخيل من محبة المال.
وكلاهما صحيح (3).
وقال القرطبي في الآية نفسها: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) (العاديات: من الآية8) أي: المال، ومنه قوله - تعالى -: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (البقرة: من الآية180) (لَشَدِيدٌ) (العاديات: من الآية8) أي لقوي في حبه للمال.
وقيل: لشديد: لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد.
قال ابن زيد: سمي المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا وحرامًا، ولكن الناس يعدونه خيرًا، فسماه الله خيرًا لذلك(4).
وقال في قوله - تعالى -: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2) أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا كسب من جاه.
قال ابن عباس: لما أنذر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - عشيرته بالنار قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنزل: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2)(5).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20) وتحبون المال أيها الناس واقتناءه حبًا كثيرًا شديدًا.
من قولهم: حم الماء في الحوض: إذا اجتمع.
قال قتادة: "حبًا جمًا" أي: حبًا شديدًا.
وقال الضحاك: يحبون كثرة المال(6).
وقال القاسمي في آية الكهف: "وكان له" أي: لصاحب الجنتين، "ثمر" أي أنواع من المال غير الجنتين، من "ثمر ماله" إذا كثر، (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) (الكهف: من الآية34) أي: يراجعه الكلام، تعبيرًا له بالفقر، وفخرًا عليه بالمال والجاه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف: من الآية34) أي أنصارًا وحشمًا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) (الكهف: من الآية35) أي بصاحبه يطوف به فيها، ويفاخره بها(7).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6،7) يخبر - تعالى - عن الإنسان أنه ذو فرح، وأشر بطر، وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده وتوعده ووعظه، فقال: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:8)(8).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (30/ 283). ويشير إلى ما رواه عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) وهو يقول: "يقول ابن آدم: مالي مالي!! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت". أخرجه مسلم رقم (2958) والترمذي (5/ 417) رقم (3354) - والنسائي (6/ 238) رقم (3613) وأحمد (4/ 24، 26).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/548).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (4/542).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (20/162).
(5) - انظر: تفسير القرطبي (20/238).
(6) - انظر: تفسير الطبري (30/184).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (11/4058).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (4/528).(/76)
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد قطب في مطلع تفسيره لآيات سورة القصص، في قصة قارون، حيث قال: والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق.
وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح، مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ثم فسر قوله: (لا تَفْرَحْ) (القصص: من الآية76)(1) قائلا: لا تفرح فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.
لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال، وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران.
لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد(2).
والآيات التي مضت وكلام المفسرين حولها يُعطي الدلالة على المنهج الخاطئ الذي يسلكه كثير من الناس في جمع المال، حيث أفرطوا في ذلك وبالغوا فيه، وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح هذا المال وبالا عليهم في الدنيا والآخرة.
إن الإسلام ليس ضد جمع المال - كما قد يتوهم البعض - بل إنه أمر مشروع جاءت الآيات الكثيرة تبين مشروعيته وأهميته، ومن ذلك قوله - تعالى - مبينًا أن المال من الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: من الآية33) وقال ممتنًا على بني إسرائيل: (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء: من الآية6). ويقول نوح لقومه داعيًا إياهم إلى الإيمان، ومبينًا عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:11، 12).
وقال - سبحانه - آمرًا بالمحافظة على المال الذي هو من الله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: من الآية5) وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: من الآية46) وقال: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا) (الأحزاب: من الآية27).
إذن فكما أن القرآن الكريم يحذر من الإغراق في حب المال، وقضاء الحياة في جمعه وتحصيله دون أداء حق الله فيه، ويبين عاقبة من كانت هذه حاله، فإنه لا يرضى بالرهبنة والتصوف والإعراض عن المال بالكلية. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77) بل إنه يقر جمع المال وتحصيله، ويشرع السبل الصحيحة لذلك، وهذا ما سيتضح في الفقرة التالية:
(ب) في كسب المال
توصلنا في الفقرة السابقة إلى أن القرآن الكريم بين لنا خطوط الانحراف في جمع المال وحبه، واتضح لنا أن جمع المال مشروع، ولكن الانحراف يكون في الإفراط فيه أو التفريط، وكذلك فإن حب المال ليس رجسًا أو عارًا، بل هو أمر جبلي فطري، لا ينفي ذلك إلا مكابر أو شاذ، والشذوذ يؤكد القاعدة: وإنما الأمر المنهي عنه هو الغلو في حبه وتقديسه، والتوسط في ذلك هو المشروع: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46) (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
ومن هنا جاءت الآيات تبين الخطوط العريضة والمنطلقات الشرعية في كسب المال وتحصيله، وجاءت القاعدة التي تفرعت عنها كل القواعد: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275).
إذن فكسب المال مشروع، ولكن ليس كل طريق يؤدي إلى ذلك جائز ومحمود.
فلا نحرم ما أحل الله من وسائل الكسب المباحة، ولا نبيح ما حرم الله من الوسائل الممنوعة: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وسأذكر بعض ما ورد من آيات تنهي عن بعض أوجه الكسب المحرمة، ليتضح من خلال ذلك أن هناك منهجًا وسطًا في ذلك لا إفراط ولا تفريط:
فقد نهى الله عن الربا، وبين أنه من الكسب المحرم بل غلظ الله في عقوبة هذا الكسب، الذي أفرط فيه كثير من الناس، - وبخاصة في عصرنا الحاضر - حتى قل أن يسلم أحد من الربا أو من غباره، والله المستعان.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/528).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (5/2710).(/77)
قال - تعالى -: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275) وقال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: من الآية275) وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية276) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) (آل عمران: من الآية130).
وكذلك من طرق الكسب المحرمة: الميسر، وهو القمار، كما قال ابن كثير وغيره(1). وقد جاءت بعض الآيات تبين حكمه وأن الله قد حرمه. قال - تعالى -: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219) وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:90، 91).
وكذلك من أوجه الكسب المحرمة السرقة. قال - تعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) (المائدة: من الآية38). وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:12).
ومن الكسب المحرم أكل مال اليتيم. قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10).
وبالجملة فكل مال أُخذ بالباطل فهو محرم، ولذلك جاءت الآيات تنهى عن أكل المال بالباطل. فقال - سبحانه -: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).
وقال مبينًا سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:160، 161).
وقال: (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) (التوبة: من الآية34).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية29).
قال ابن الجوزي مبينًا معنى الباطل هنا: لا يأكل بعضكم أموال بعض، قال القاضي أبو يعلى:
والباطل على وجهين: أحدهما أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغضب، والخيانة.
والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار والغناء، وثمن الخمر(2).
وقال القرطبي: والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، ثم قال: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال (3).
ومما سبق يتضح أن هناك منهجًا وسطًا في كسب المال.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/255)، وزاد المسير (1/240) حيث قال ابن الجوزي: العلماء أجمعوا على أن القمار حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياسًا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارًا في الجزر خاصة، وقال: قال ابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة في آخرين: الميسر: هو القمار.
(2) - انظر: زاد المسير (1/194).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (2/338).(/78)
فالقول بإباحة جميع المعاملات قول باطل، وهو من التفريط. وكذلك التشديد، وجعل أن الأصل في الاكتساب هو التحريم إلا ما ورد نص في إباحته قول باطل، وهو من الإفراط.
والقول الصحيح وهو الوسط أن الأصل في البيوع والمعاملات الحل والإباحة، إلا ما ورد النص بتحريمه ومنعه (1) سواء كان المنع بدليل خاص أو عام، فمن الخاص تحريم الميسر والربا والسرقة ونحوها، ومن العام ما يدخل تحت الضرر أو الظلم أو الغرر ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه والأحكام.
(جـ) إنفاق المال
وبعد أن تبين لنا تقرير القرآن لمنهج الوسطية في جمع المال وكسبه، نقف أخيرًا مع المنهج الشرعي في إنفاق المال كما قرره القرآن الكريم.
والناس في هذه المسألة طرفان ووسط:
فهناك القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، المقترون على أنفسهم وأهليهم، فضلا عمن سواهم.
وعلى النقيض من هؤلاء، آخرون مسرفون مترفون، باسطو أيديهم كل البسط.
وبين هؤلاء وأولئك قلة من الناس سلكوا السبيل القويم، والتزموا العدل والاعتدال، واتخذوا بين ذلك سبيلا (2).
وقد نزلت الآيات من لدن عليم حكيم، تبين سلامة هذا المنهج، وتأمر به، وتحث عليه، مع النهي عن سلوك أي من المنهجين المنحرفين، وبيان عاقبة ذلك عاجلا وآجلا (3).
وسأذكر من الآيات ما يبين هذا المنهج ويقرره، دون إيجاز مخل أو إطناب ممل، بل سأتخذ بين ذلك سبيلا:
فبالنسبة للطرف الأول، وهم القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، جاءت الآيات تبين انحراف هذا المنهج، وتنهى عن هذا المسلك، فقال - سبحانه -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(آل عمران: من الآية180) وقال - جل وعلا -: (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحديد:23، 24).
وقال مبينًا خصلة من خصال المنافقين: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:76).
وقال سبحانه: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38) .
وقال - سبحانه وتعالى -: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً) (الإسراء:100).
قال ابن كثير في هذه الآية: يقول - تعالى - لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس وقتادة: أي: الفقر خشية أن تُذهبوها، مع أنها لا تنفد ولا تفرغ أبدًا، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال: "وكان الإنسان قتورًا". قال ابن عباس وقتادة: أي: بخيلا منوعًا.
وقال - تعالى -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء:53). أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله ما أعطوا أحدًا شيئًا ولا مقدار نقير.
والله - تعالى - يصف الإنسان من حيث هو - إلا من وفقه الله وهداه - فإن البخل والجزع والهلع صفة له، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه - سبحانه وتعالى -(4).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية180) هذه الآية نزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة.
والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك. ثم قال: واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك.
والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك.
__________
(1) - للعلماء كلام في هذه القضية، وتفصيل في هذه القاعدة، انظر: مثلا تفسير القرطبي (3/356) تجد بيان ذلك.
(2) - أي: بين المنهجين المتطرفين.
(3) - من بيان العاجل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا). [سورة الإسراء، آية: 29]. ومن الآجل قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة). [سورة آل عمران، الآية: 180].
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/66).(/79)
وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم -
وهذا يردّ قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح: منع المستحب، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة (1).
وكما جاءت الآيات محذرة من عاقبة البخل والتقتير، فقد جاءت ناهية عن الطرف المقابل وهو الإسراف والتبذير.
فقال - سبحانه -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:26، 27).
وقال - جل وعلا -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: من الآية141).
قال القاسمي في تفسير آية الإسراء: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء: من الآية26) أي: بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه إحسانًا إلى نفسك أو غيرك. قال: وفي الكشاف: كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء: من الآية27) أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان.
وقال: قال أبو السعود: وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله - تعالى - إلى غير مصرفها، من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له، والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه، فإن كفر نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران، ونهاية الضلال والطغيان.
وقال: وقد استدل بالآية مع منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله (2).
وقال الطبري مبينًا مدلول آية الأنعام، (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام: من الآية141) قال: بعد أن ذكر أقوال العلماء: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى - نهى بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب (3) كان معلومًا أن المفرق ماله مباراةً، والباذلَه للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له.
وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة، إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها.
وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه.
كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم.(4).
وبهذا يتضح لنا أن البخل والإِسراف ضدان قد نهى الله عنهما، وحرمهما على عباده، كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وإذا كانت الآيات السابقة، بينّت كل واحدة منها أحد طرفي الانحراف وحذّرت منه، فإنها تدل بمفهومها على أن طريق الوسط، هو طريق الاستقامة، وبخاصة إذا نظرنا إلى مجموع الآيات السابقة التي تدل على أن الإِسراف والبخل لا يمثلان المنهج الصحيح.
ومع ذلك فقد جاءت آيات تدلّ صراحة على انحراف كل من الطرفين المذكورين، وينصّ بعضها على طريق الوسط، وأنه المنهج الحق الذي يجب الالتزام به والسير فيه.
قال - تعالى - في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (4/291-293). والحديث أخرجه مسلم (4/1996) رقم (2578).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (10/3921).
(3) - ممن قال بذلك وفسر به الإسراف: سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، كما ذكر الطبري في تفسيره (8/61). ولكن الإسراف إذا أطلق يراد به التبذير، وما يقابل البخل والتقتير، قال - سبحانه -: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا). [سورة الفرقان، آية: 67]. وتفسير الإٍسراف بالبخل فيه نظر. والله أعلم.
(4) - انظر: تفسير الطبري (8/61).(/80)
قال ابن كثير في الآية الفرقان: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: من الآية67) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: من الآية67) كما قال - تعالى -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29)(1).
وقال الطبري في آية الإسراء: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) (الإسراء: من الآية29).
وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئًا، إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها. (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29) يقول: ولا تبسطها بالعطية كل البسط، فتبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئًا تعطيه سائلك. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء: من الآية29) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلوم نفسك على الإسراع في مالك وذهابه(2).
ومما يدل على الوسطية في النفقة قوله - تعالى -: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وهذا من الوسطية النسبية التي يراعى فيها حال المنفق، وما جرت العادة به ونحو ذلك.
قال القرطبي: فتقدّر النفقة بحسب الحالة من المنفِق، والحاجة من المنفَق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفَق عليه، ثم ينظر إلى حالة المنفَق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، وإن اقتصرت حالته على حالة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتماله(3).
من خلال ما سبق ظهر لنا منهج الوسطية واضحًا جليًّا في الجمع والكسب، وإنفاق المال.
ودلتّ الآيات السابقة على النهي على الإِفراط والتفريط، ووجوب الالتزام بالمنهج الوسط، وجماع ذلك قول الله العظيم، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67). ومن أصدق من الله قيلا.
ومما سبق في تقرير وسطية الإسلام في جمع المال وكسبه وإنفاقه يتّضح انحراف كل من المنهج الرأسمالي والمنهج الاشتراكي(4).
فالنظام الرأسمالي يقوم على حرية الفرد في عمل ما يروق له من الأعمال التجارية.
فهي تعني حرية الاستثمار، وحرية الفرد في التملك، الحرية المطلقة، فهو حرّ في البحث عن الربح بشتى الوسائل والطرق.
والملكية الفردية مقدّسة، لا تمسّ، ولا يحدّها ضابط أو قيد، حتى لو أدّت هذه الملكية لاحتكار المالك للسلعة.
إن هذه الحرية بل هذه الفوضوية المطلقة - كان لها نتائج عكسية على المجتمع، حيث أوقدت نار الاحتكار والأنانية الفردية.
وبالتالي تحوّلت الحياة الاقتصادية إلى شريعة غاب، يأكل فيها القوي الضعيف.
وأدّى هذا إلى تكدس رءوس الأموال في يد طبقة معينة من أصحاب رءوس الأموال، ويقابلهم طبقة العمال الذين لا حول لهم ولا قوّة.
ويقابل المنهج الرأسمالي المنهج الاشتراكي، حيث قام على فكرة وفلسفة انتقال السيطرة على المال من أيدي أصحاب رءوس الأموال إلى أيدي الطبقة العاملة. حيث قامت على أسس من أبرزها:
1- إلغاء الملكية الفردية، وتأميم الممتلكات التجارية والصناعية، بدعوى مصلحة الجميع، والأفراد يؤدون أعمالا للدولة نظير أجور متساوية.
2- توزيع السلع والمنتوجات الاستهلاكية كل وفق حاجته.
فالاقتصاد الاشتراكي يعتمد على - دعوى - تغليب مصلحة المجتمع، ويجعل الدولة مالكة لكل شيء، وموجهة للاقتصاد، فلا يكاد يوجه للأفراد حقوق تذكر، من التملك والتنقل أو اختيار العمل، فأفقر الغني ولم يُغن الفقير.
وبهذا فإن في هذين النظامين يتمثل الإفراط والتفريط في أبشع صورة.
أمّا الإِسلام - فكما سبق بيان منهج القرآن في ذلك - يختلف عن هذين النظامين اختلافًا جذريًّا.
فهو آخذ بمصلحة الفرد ومصلحةَ المجتمع في وقت واحد، فهو يحترم الملكية الفردية ويقرّها، لأنها توافق الفطرة الإنسانية، ولكنه لا يقرّها مطلقة من كل قيودها، بل جعل لها ضوابط وقيود تحول دون الاعتداء على مصلحة المجتمع، وكذلك يحترم مصلحة المجتمع دون التعدي على مصلحة الفرد.
ففيه الإِرث والوصية والزكاة والصدقة وغير ذلك من وجوه الإنفاقُ المشروعة.
كما حرّم الاحتكار والرّبا والغشّ وغيرها من وجوه الاكتساب المحرّمة (5).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/325).
(2) - انظر: تفسير الطبري (15/76).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (18/170).
(4) - انظر: الوسطية في الإسلام د/ زيد الزيد ص (56).
(5) - انظر: الوسطية في الإسلام د/ زيد الزيد ص (56) وما بعدها.(/81)
وبهذا تحقّقت الوسطيَّة في أبهى صورها، الوسطية التي توافق الفطرة وتنميها: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: من الآية30).
مطالب النفس وشهواتها
قال الله - سبحانه وتعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
قال سيد قطب: صياغة الفعل للمجهول - هنا - تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمّن هذا الميل، فهو محبّب ومزين، وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه، ففي الإِنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية، كي تتأصل وتنمو وتطرد(1).
وقال رشيد رضا بعد أن بين اختلاف المفسرين في إسناد التزيين في هذا المقام، فأسنده بعضهم إلى الله، وأسنده بعضهم إلى الشيطان. قال: وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر، وبيان حقيقة الأمر في نفسه، لا في جزئياته، وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه، ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنّما يسند إليه ما قد يعدّ هو من أسبابه، كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحًا، ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال - تعالى -: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الأنفال: من الآية48) وقال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: من الآية43).
وأمّا الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلاّ إلى الخالق الحكيم، الذي لا شريك له، قال - عز وجل - (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)(2).
وبعد أن تقّررت هذه الحقيقة: وهي أن الميل إلى شهوات الدنيا أمر فطري مركوز في خلق الإنسان، فإن الناس أمام هذه الحقيقة طرفان ووسط.
فهناك من وقف أمام هذا الميل موقفًا مغاليًا، فحرّم على نفسه الطيبات وغيرها، ومنعها من الملاذّ، وما فُطرت عليه من الزواج والمال وأطايب الملابس والمآكل، وهؤلاء يمثلهم رهبان النصارى وغلاة الصوفية، وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وتراها رجسًا من عمل الشيطان، وأصبح هذا النزوع مذهبًا رائجًا (3).
فهؤلاء رأوا الجسد سجنًا للروح، يحول بينها وبين أشواقها العالية، وشفافيتها السامية، فاخترعوا الرياضيات الروحية الشاقة، التي تقوم على إرهاق الجسد وتعذيبه، وتحوّله إلى شبح هزيل، يسكن المغاور والمقابر والكهوف، وينفر من كل الصلات الإِنسانية(4).
وهؤلاء أفرطوا وغلوا، وخرجوا عن سواء السبيل.
والطرف المقابل لهؤلاء، هم الذين انساقوا وراء شهوات أنفسهم، واعتبروا الحياة الدنيا هي الغاية والنهاية، وقالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24).
فأغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا لهم هدفًا ساميًا يسعون إليه، غير منافع الدنيا العاجلة، ولذائذها الفانية.
وأصبحوا كالأنعام، بل هم أضلّ سبيلا.
وهذا المنهج سقطت فيه الكثير من الأيديولوجيات، وتبعه ملايين البشر، الذين ارتموا في أحضان النفعية الغربية المادية، أو سقطوا في مخالب المادية الماركسية، التي تعيث في الأرض فسادًا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهؤلاء فرّطوا وضيّعوا، وضلّوا عن سواء السبيل.
وبين هؤلاء وأولئك جاء القرآن بالمنهج العدل الوسط، فاعترف بحاجة الإِنسان إلى تلبية فطرته، وتحقيق بعض رغباته، دون حجر أو كبت.
ولكنه لم يترك له الحبل على غاربه، بل وضع الضوابط والحدود، وبينّ أنّ له مهمة سامية يسعى إليها أشرف من الدنيا وما فيها.
ونبينّ الآن ما جاء في القرآن تجاه كل طرف، ثم تقريره للمنهج الوسط.
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/373).
(2) - انظر: تفسير المنار (3/239).
(3) - انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي ص (186)، والوسطية في الإسلام ص (42).
(4) - انظر: المسلمون بين التشديد والتيسير للعودة ص13، والوسطية في الإسلام ص44.(/82)
أمّا الطرف الأول وهم الذين غلوا وأفرطوا، فقد جاءت بعض الآيات التي تردّ هذا المنهج وتبين انحرافه، فقال - سبحانه -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32).
وقال - سبحانه -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33).
وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (البقرة: من الآية168).
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
يقول - تعالى - ردًّا على من حرّم شيئًا من المآكل والمشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يُحّرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: من الآية32) أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار(1).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأعراف: من الآية33).
يقول الله - تعالى - ذكره لنبيه محمد، - صلى الله عليه وسلم - قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه، أيّها القوم إن الله لم يحرّم ما تحرمونه، بل أحّل ذلك لعباده المؤمنين وطيّبه لهم، وإنّما حرم ربيّ القبائح من الأشياء، وهي الفواحش، ما ظهر منها فكان علانية، وما بطن منها فكان سرًّا في خفاء.
ثم فسرّ - قوله تعالى - في آخر الآية: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: من الآية33) فقال: يقول وأن تقولوا: إن الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيبتموها، وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرمه، أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به.
فإن ذلك - أي هذا القول - هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلاً منكم بحقيقة ما تقولون، وتضيفونه إلى الله(2).
وقال رشيد رضا مفسراً قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبداً وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرّموا من الحرث والأنعام ما بيّنه - تعالى - في سورة الأنعام، وحرّم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرًا من الطيبات والزينة كذلك، فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم، ينكر هذا التحكم والظلم للنفس، فالاستفهام في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) (الأعراف: من الآية32) إنكاري، يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشيطان، لا مما أوحاه - تعالى - إلى من سبق من المرسلين(3).
وبهذا يتّضح انحراف هذا المنهج وبعده عن الصّراط المستقيم.
ومثلما جاءت الآيات مبينة حكم الله في هذا الطرف، جاءت كذلك تبين انحراف الطرف المقابل وميله عن الحق، وهم الذين تركوا العنان لأنفسهم تعبث كيفما تشاء، وترتع كالأنعام فيما اشتهت وهوت، دون حسيب أو رقيب أو ضابط.
قال - سبحانه وتعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
وقال - جلّ وعلا -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27).
وقال عزّ ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد: من الآية12).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2/211).
(2) - انظر: تفسير الطبري (8/167).
(3) - انظر: تفسير المنار (8/387).(/83)
وقال: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
وقال: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف:20).
وقال - سبحانه -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية200).
فهذه الآيات وأمثالها تدّل على ضلال هؤلاء وانحرافهم، حيث فرّطوا بركونهم إلى الحياة الدنيا وشهواتها، وتفصيلا لهذا الانحراف أذكر بعض أقوال المفسرين حول معنى هذه الآيات.
قال الطبري في قوله - تعالى -: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء: من الآية27) يقول: يريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر الله - تبارك وتعالى - فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم، وركوبكم معاصيه ميلا عظيمًا، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
ثم قال بعد أن ذكر أقوال العلماء في المراد بالذين يتبعون الشهوات: فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذين لا شاهد عليه من أصل أو قياس.
وإذا كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتّبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزّناة، وكل متبع باطلا، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه(1).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) (محمد: من الآية12). قال: أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضمًا وقضمًا، وليس لهم همة إلا ذلك، ولذلك ثبت في الصحيح: - المؤمن يأكل في معي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء - (2).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20). أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي.
وقيل: أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي.
قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي: شبابه وقوّته.
قال القرطبي: قلت: القول الأول أظهر، ثم ساق الأدلة على صحة هذا القول، وذلك بتفسير عمر - رضي الله عنه - للآية وغيره من السلف (3).
وقال القرطبي - أيضًا - في قوله - تعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (مريم: من الآية59) عن علي، - رضي الله عنه - هو من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور.
قلت - أي القرطبي -: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان، يشتهيه ويلائمه ولا يتقيه، وفي الصحيح: - حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات - (4).
وما ذكر عن علي - رضي الله عنه - جزء من هذا(5).
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد في تفسير قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20) قد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا، فلم يدّخروا للآخرة منها شيئًا، واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابًا.
استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام، ومن ثمّ كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة (6).
وهذه الآيات وكلام المفسرين حولها بيّنت أنّ التفريط مذموم، وعاقبته وخيمة، وأنّه مجافاة للطريق السوي، والصراط المستقيم.
وننتهي بعد ذلك إلى نتيجة محدّدة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أن تحريم الطيبات وما أحلّ الله لعباده غلو وإفراط، ومثل ذلك - في الذّم - اتباع الشهوات وعدم منع النفس مما تشتهي حلالا كان أو حرامًا، فهذا تفريط. والطريق العدل والمنهج الوسط ما بين ذلك، وهو ما تحدّده وتُبيّنه الآيات التالية:
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (5/28).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/175) والحديث أخرجه البخاري (6/200).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (16/200).
(4) - أخرجه مسلم (4/2174) رقم (2822) وهو عند البخاري أيضًا (7/186) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "حُجبت النار بالشهوات وحُجبت الجنة بالمكاره".
(5) - انظر: تفسير القرطبي (11/125).
(6) - انظر: في ظلال القرآن (6/3264).(/84)
قال - تعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31). فهذه من أوضح الآيات دلالة على المراد، حيث حددت معالم هذا المنهج، فلباس الزينة مشروع، ومثل ذلك الأكل والشرب مما أباح الله، ولو كان فيه زيادة على الحاجة والضرورة، ولكن المنهي عنه أن يكون هناك إسراف وتبذير، سواء كان الإسراف في النوع أو الكم أو العادة.
وما أجمل ما قاله القرطبي في هذا الباب، حيث قال: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا، ولا يتكلّف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي، - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي، - صلى الله عليه وسلم - معلومة، وطريقة الصحابة منقولة(1).
وقال الطبري في هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) (الأعراف: من الآية31) من الكساء واللباس، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا) (الأعراف: من الآية31) من طيبات ما رزقتكم وحللته لكم، (وَاشْرَبُوا) (الأعراف: من الآية31) من حلال الأشربة، ولا تُحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي، أو على لسان رسولي محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: عن ابن عباس قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة.
وروي عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31).
قال: في الطعام والشراب.
وقال السدي: لا تسرفوا في التحريم.
وقال ابن زيد: لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31) يقول: إن الله لا يحب المتعدين حدّه، في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام، وبتحريم الحلال، ولكنه يجب أن يُحلّل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به(2).
وقال ابن كثير: قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31) وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة(3).
ومن الأدلة على الوسطية والاعتدال في مطالب النفس قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168). فقوله: (كُلُوا) (البقرة: من الآية168) إباحة لما قد يتوهّم من التحريم جهلا أو غلوًّا. وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: من الآية168) نهى عن الحرام، والإسراف حرام، فهو منهي عنه.
قال الطبري في الآية: يا أيها الناس كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد، - صلى الله عليه وسلم - فطيبته لكم، مما تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك، مما لم أحرّمه عليكم، دون ما حرّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجسته؛ من ميتة ودم ولحم خنزير، وما أُهل به لغيري. ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فيهلككم ويوردكم موارد العطب.
ثم قال بعد أن بيّن أقوال العلماء في المراد بخطوات الشيطان: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، غير أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بيّنت من أنها بُعد ما بين قدميه، ثم تستعمل في جميع آثاره وطرقه على ما قد بيّنت(4).
ومن الأدلة قوله - تعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة:201، 202).
قال ابن كثير في هذه الآية:
جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هيّن، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأمّا الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة(5) وتوابعه، من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام(6).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (16/202).
(2) - انظر: تفسير الطبري (8/162).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/210). وصحيح البخاري (7/33).
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/76).
(5) - وأعلى منها لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه لا يكون إلا لمن دخل الجنة.
(6) - انظر: تفسير ابن كثير (1/243).(/85)
ومن الأدلة التي تصلح في هذا المقام قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:5-7).
قال ابن كثير في تفسيره للآية: أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنهم من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحلّه الله فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون: من الآية6)(1).
ووجه الاستدلال من هذه الآية على منهج الوسطيَّة أنه أباح لهم بعض مطالب أنفسهم كالزواج والتسري، وهذا هو الطريق المشروع لإشباع هذه الغريزة، ولكنه - أيضًا - حرّم التعدي والإسراف والإفراط والتفريط، وذلك بإتيان ما حرم الله من الزنا واللواط، بل والاستمناء على القول الراجح من أقوال العلماء(2).
وأختم الكلام في هذا المبحث بما قاله سيد قطب أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14) حيث قال:
في الآية واحدة يجمع السياق القرآني أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) (آل عمران: من الآية14) فهي شهوات مستحبة مستلذة، وليست مستقذرة ولا كريهة، والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها، إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى.
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشريّة، وقبوله بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها، إننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال(3).
هذه هي الوسطية التي رسمها القرآن الكريم فيما يتعلق بمطالب النفس وشهواتها.
وهو بهذا يمثل الواقعية والحكمة، ويوازن بين نوازع النفس البشرية وحقائق العبودية وتكاليفها.
عاشرًا: شواهد أخرى
وبعد أن ذكرت الآيات التي جاءت تقرّر منهج الوسطيَّة في إطار الأبواب الماضية، فإن هناك آيات أخرى ليست داخلة في أي باب من الأبواب السابقة دخولا مباشرًا. وهي تدلّ دلالة واضحة على هذا المنهج وتؤكده (4).
ولذلك سأذكر بعض هذه الآيات دون استطراد في التفسير أو التعليق، وإنما سأكتفي بذكر الآية مع الإشارة إلى وجه الدلالة، وذكر قول لأحد المفسرين أو قولين، بما يؤدي الغرض ويحققه.
1- قال الله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9).
قال ابن كثير: يمدح الله - تعالى - كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد، - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل(5).
وقال القرطبي: ومعنى (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9) أي الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب(6).
وبهذا التفسير فإن الوسطيَّة داخلة في هذه الهداية من باب أولى، لأنها متضمنّة للعدل والاستقامة.
2- قال - تعالى -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (المعارج:19- 22).
قال القرطبي: الهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه.
والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شرّ حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
والمنوع: هو الذي أصاب المال منع منه حق الله - تعالى -.
وقال أبو عبيدة: الهلوع: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضرّ لم يصبر(7).
3- قال - تعالى -: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:5-10).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/239).
(2) - انظر: تفصيل ذلك في تفسير القرطبي (12/105).
(3) - انظر: في ظلال القرآن (1/373).
(4) - قد ترد آيات يبدو منها لأول وهلة دخولها تحت باب من الأبواب السابقة، ولكن عند التأمل سنجد أن هناك فرقًا في وجه الدلالة آثرت معه إفرادها هنا، مع وجود شيء من الاشتراك هناك.
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (3/26).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (10/225).
(7) - انظر: تفسير القرطبي (18/290).(/86)
قال ابن كثير مبينًا دلالتها على الوسطية:
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (عبس:5،6) أي: أمّا الغني فأنت تعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (عبس:7) أي: بمطالب منه إذا لم يحصل له زكاة - وهي الهداية -.
(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) (عبس:8، 9) أي: يقصدك ويؤمك، ليهتدي بما تقول له، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:10) أي: تتشاغل.
ومن هنا أمر الله تعالى رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ألا يخصّ بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة(1).
4- قال - تعالى -: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر:15،16).
وهذا الأمر فيه إفراط وتفريط، قال ابن كثير مبينًا ذلك، وموضحًا طريق الاستقامة في ذلك.
يقول - تعالى - منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال -تعالى-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون:55، 56).
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيق على من يحب ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر(2).
5- قال - تعالى – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: من الآية6).
والموقف من الخبر إذا جاء من الفاسق إمّا قبوله مطلقًا، وهذا إفراط، أو ردّه مطلقًا، وهذا تفريط، فقد يصدق خبره، وإما التثبت والتبين، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
قال القرطبي: في الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبيت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، وقد استثنى الإجماع من ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير (3).
وقال ابن كثير: يأمر - تعالى - بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبًا أو مخطئًا (4).
6- قال - تعالى -: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (لقمان: 14، 15) والأمر يدورعلى ثلاثة أوجه:
إما الطاعة وحسن الصحبة والإحسان، وإما البراء منهما مطلقًا فلا طاعة ولا صحبة ولا إحسان، وإما التوسط، وهو عدم الطاعة في معصية الله، مع الإحسان إليهما، وحسن الصحبة، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
وقريب من هذا المعنى ما جاء في سورة الممتحنة، قال - سبحانه -: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
والدلالة في الآية واضحة جلية.
7- ومشاقة الله ورسوله خروج عن منهج الوسطيَّة، ولذلك جاء ذمها في القرآن في أكثر من موضع، قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:13). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:4).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/470).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/509).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (16/312).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (4/308).(/87)
قال سيد قطب في تفسيره للآية الثانية: والمشاقة أن يأخذوا لهم شقًّا غير شق الله، وجانبًا غير جانبه، وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله، - صلى الله عليه وسلم - حين وصف علّة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية، فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده، فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها.
ثم ليقف المشاقّون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجّح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يُشاقّونه (1).
8- قال - تعالى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى:27).
قال الطبري: ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسّعه وكثّره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير ذلك الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزّل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه(2).
وقال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا.
وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك (3).
ودلالة هذه الآية: أن وسطيَّة الرزق تؤدي إلى وسطية العمل والعبادة، والإفراط يؤدي إلى الإفراط والتفريط، فأصبحت وسطيَّة الرزق مانعة من الطغيان والبغي.
9- ومما يُدلّ على ذمّ الإِفراط والتفريط قوله - تعالى -: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم:36). ومثل هذا المعنى قوله - تعالى - عن المنافقين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58) ثم يبين لهم المنهج الحق الذي يجب أن يسلكوه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:59).
قال القاسمي في الآية الأولى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) (الروم: من الآية36) أي: نعمة من صحة وسعة (فَرِحُوا بِهَا) (الروم: من الآية36) أي: بطرًا وفخرًا، لا حمدًا وشكرًا.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) (الروم: من الآية36) أي: شدّة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (الروم: من الآية36) أي: من المعاصي والآثام: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم: من الآية36) أي: ييأسون من روح الله.
قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقّه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال: (ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود: من الآية10) أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره.
وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية، ثم بين المنهج الوسط.
قال الله - تعالى -: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (هود: من الآية11) أي: صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرّخاء، كما ثبت في الصحيح: عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له(4).
وأشير إلى الآية التي وردت قبل هذه الآية، وهي تدل على فساد مسلك من خرج عن منهج الاستقامة، وانحراف يُمنة ويُسرة، قال - سبحانه -: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم:33).
10- وانظر نتيجة الخروج عن منهج الوسطية والاعتدال وشكر النعمة فيما قصه الله علينا في هذه الآيات: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ:18، 19).
قال ابن كثير: وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبّوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تُنبت الأرض، من بقلها وقثّائها وفُومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب، وملابس مرتفعة، ولهذا قال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: من الآية61).
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (6/3522).
(2) - انظر: تفسير الطبري (25/30).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (4/115).
(4) - انظر: تفسير القاسمي ص (4780). والحديث أخرجه مسلم (4/2295). رقم (2999).(/88)
وقال - عز وجل - (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) (القصص: من الآية58).
وانظر ماذا كانت النتيجة: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (سبأ: من الآية19) قال ابن كثير: أي جعلناهم حديثًا للناس. وسمرًا يتحدثون به من خيرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر(1).
أمّا بنو إسرائيل فكان أمرهم كما أخبر الله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
11- الطغيان خروج عن الاستقامة، بل هو مضاد لها ومباين، ولذلك جاءت الآيات تذمّ الطغاة وتنهى عن الطغيان، وتأمر بالاستقامة:
قال - تعالى – (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
وقال عن فرعون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طه:43). وقال: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-39).
وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (الشورى: من الآية15).
وقال: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16).
ومن ترك الطغيان واستقام فقد التزم منهج الوسط والاعتدال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )(البقرة: من الآية143).
وإلى هنا نصل إلى نهاية بيان القرآن لمنهج الوسطيَّة، وتقريره لذلك والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشكره شكرًا عظيمًا على ما أولاه من فضل وعون وتوفيق، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد ذكرت في مقدمة هذه الرسالة أن البحث جاء يُعالج قضية الوسطية من حيث جهل كثير من الناس بها، وما ترتّب على ذلك من إفراط وتفريط.
ولذا فإنّي أجد من المناسب أن ألخص ما توصلت إليه في هذه الرسالة فيما يلي:
1- ذكرت تعريفات العلماء لكلمة (وسط)، وخلاصة ما ذكروا ما عبّر عنه محمد باكريم، حيث قال:
وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا يخرج معناها عن معاني: العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينية والتوسط بين الطرفين.
وذكرت - أيضًا - ما ذكره فريد عبد القادر، حيث قال: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير والعدل والنصفة والجودة والرفعة والمكانة العليّة.
وختمت ما قيل في معنى (الوسط) بما ذكره ابن عاشور وملخّصه:
والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تُحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء مُحيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عُرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة.
فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية. أمّا إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، فذلك مجاز.
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
2- ذكرت ورود كلمة (وسط) في القرآن الكريم بعدّة تصاريف، حيث وردت خمس مرات، في البقرة بلفظ: "وسطًا" و "الوُسْطى".
وفي المائدة بلفظ: "أوْسَط".
وفي القلم بلفظ: "أوْسَطَهُم".
وفي العاديات بلفظ: "فَوَسَطْن".
وبينت مدلول كل كلمة في ضوء أقوال المفسرين، وكذلك ذكرت مدى دلالة كل لفظة على معنى الوسطية.
3- استشهدت ببعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (وسط).
قد ذكرت (12) حديثًا شرحت فيها معنى كل لفظة، وهل هي من الوسط أو الوسطية؟
4- وفي ختام تعريف الوسطية حررت معناها، وبينت المراد من هذا المصطلح عند إطلاقه، وكان مما قلت:
وقد تأملت ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطية)، فتوصلت إلى أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توافر فيه صفتان:
(أ) الخيرية أو ما يدل عليها.
(ب) البينية، سواء كانت حسية أو معنوية. فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية.
5- هناك أسس لابد منها لفهم الوسطية، وتلك الأسس مطردة مع وصفي الخيرية والبينية، وهي:
(أ) الغلو والإفراط.
(ب) الجفا والتفريط.
(ج) الصراط المستقيم فالصراط المستقيم يمثل الخيرية ويحقق معناها، وهو وسط بين الغلو والجفاء، وهو كذلك وسط بين الإفراط والتفريط.
وقد وقفت مع هذه الأسس الثلاثة مبينًا وشارحًا، ثم توصلت إلى عدة حقائق أهمها:
أن الصراط المستقيم يمثل قمة الوسطية، وذروة سنامها، وأعلى درجاتها.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/533).(/89)
أنه يجب عند النظر في أي أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية، ومدى قربه أو بعده منها دقة النظر والاعتبار في حقيقة الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعاة في ذلك عدة أمور أشرت إليها في ذلك المبحث.
فإذا اتضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصراط المستقيم فهو داخل في الوسطية، أما إذا كان إلى الإفراط والتفريط أقرب حقيقة ومآلا، فليس من الوسطية في شيء، وإن حسبه الناس كذلك.
6- للوسطية ملامح وسمات تحف بها وتميزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهم تلك السمات والملامح باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الباحثين في ضوء الكتاب والسنة.
إن تحديد تلك الملامح مهمة أساسية، حتى لا تكون الوسطية مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشهوات.
وقد توصلت إلى أن أهم سمات الوسطية ما يلي:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينية.
5- العدل والحكمة. وكل سمة من هذه السمات يندرج تحتها بعض آحادها. وأشرت إلى أن هذه الملامح تصلح ضابطًا لتحديد الوسطية ومعرفتها، بما يجيب على السؤال الذي يرد في الأذهان.
أين ضابط الوسطية؟ وكيف نميزها عن غيرها؟
7- نزل القرآن الكريم هداية للناس ونورًا، يخرج الله به من شاء من الظلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطية عين الهداية وجوهرها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضة ترسم منهج الوسطية وتدل عليه. والوسطية ليست محصورة في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن واحد من الأركان، وإنما هي منهج شامل متكامل، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كله وسط، وهذه الأمة أمة الوسط. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن حقيقة القرآن وهداياته.
ومن هذا المنطلق بينت - بالتفصيل - تقرير القرآن لمنهج الوسطية في أبواب كثيرة، أجملها فيما يلي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وختمت هذه الأبواب بباب ضمنته شواهد متفرقة، تدل على منهج الوسطية وتأمر به. هذا بالإضافة إلى ما ذكرته في أول هذا المبحث من دلالة سورة الفاتحة على هذا المنهج في عدة آيات منها.
ومن خلال هذه الأبواب اتضح لنا أن الوسطية منهج حياة وتشريع متكامل، لا يقبل التجزئة والتفريق، وأن أدلة الوسطية ليست هي التي ورد فيها لفظ (الوسط) فقط، بل أعم من ذلك وأشمل، والآيات التي جاءت تدل دلالة صريحة على منهج الوسطية تربو على العشرات، إذ هي في عداد المئات.
8- وبعد بيان موجز للمسائل العلمية التي توصلت إليها في هذا البحث، أذكر أهم النتائج العملية التي نخرج بها من هذه الدراسة العلمية.
(أ) أن أهم أسباب نشوء جماعات الغلو بين المنتسبين إلى الدعوة في هذا العصر هو الجهل بحقيقة الوسطية، بل الجهل بمكانتها في الإسلام.
(ب) وكذلك أجد من الأسباب الرئيسية لقبول ما يطلقه الأعداء على الدعاة الصادقين من ألقاب وأوصاف: كالتطرف والغلو، والتزمت والتشدد، ونحوها، من أبرز أسباب قبولها ورواجها بين الناس لسببين:
1- الجهل بحقيقة الوسطية الشرعية، وتصور أولئك العامة أن الوسطية التي أمر الله بها تعني التساهل والتنازل واتباع شهوات النفس ورغباتها، ولهذا تجدهم يستخدمون هذا الفهم مقياسًا لرمي الدعاة بتلك الأوصاف والألقاب.
2- السبب الثاني وهو أهم من الأول في قوة التأثير: عدم ممارسة الوسطية على وجهها الصحيح من قبل بعض الدعاة والملتزمين، حيث تجد خللا في تطبيقها أتاح للأعداء فرصة اقتناص بعض الأخطاء والهفوات، ومن ثم إقناع كثير من الناس بصحة تلك الدعاوى وتلبيس هذه التهم الباطلة.
(ج) وأخلص إلى حقيقة عملية تكون هي المخرج مما نعانيه تجاه موضوع الوسطية، وتتمثل هذه الحقيقة فيما يلي:
1- بذل الجهود العلمية من قبل العلماء وطلاب العلم في بحث موضوع الوسطية، واستفراغ الوسع في ذلك، حيث أرى أن هناك جوانب مهمة لم تعط حقها من البحث والدراسة.
2- عقد الندوات والمحاضرات لبيان أهمية الموضوع وحقيقته، وأثره الإيجابي في حياة الناس.
3- الممارسة العلمية الواقعية لمنهج الوسطية من قبل العلماء وطلاب العلم والدعاة، مما يتيح للناس أن يروا القدوة الصالحة التي هم في أمس الحاجة إليها.
4- تربية الأمة على هذا المنهج تربية عملية شاملة، مما يقضي على الخلل الموجود في محيط المجتمع المسلم سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.(/90)
5- وأخيرًا فإن هناك لبسًا في فهم الوسطية وممارساتها من قبل بعض الجماعات والدعاة، وهذا اللبس أدى إلى أنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فرأينا التنازل مع الأعداء باسم المصلحة، وضعفًا في حقيقة الولاء والبراء بحجة تأليف القلوب والدعوة إلى الله، ومصانعة لبعض الظالمين بدعوى دفع الشر والفتنة، وهكذا.
ولذلك لا بد من تصفية المنهج مما علق به ليكون وفق الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/91)
الوسطية
في ضوء القرآن الكريم
الشيخ ناصر بن سليمان العمر
www.almoslim.net
المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فإنّ المتأمل في الواقع الذي تعيشه الأمّة اليوم يرى بَوْنًا شاسعًا في مشاربها وأهدافها، واختلافًا في منطلقاتها وغاياتها.
يرى الإفراط والتفريط، والغلوّ والجفاء، والإسراف والتقتير: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (الحج: من الآية45).
هذا على مستوى الأمّة عمومًا، فإذا انتقلنا إلى حال الدّعاة والمصلحين الذي أقضَّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمّتهم، فطفقوا يبحثون عن سبل العلاج وطوق النَّجاة، لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضّلالة إلى الهدى، نجد انعكاس واقع الأمة على حالهم، فمنهم المشَرِّق، ومنهم المغرِّب، ترى المفرِط والمفرِّط، نرى بين هؤلاء الدّعاة والمصلحين من غلا وأفرط في الغلوّ، فنشأت جماعات تكفير وهجرة، وعادت سوق الخوارج رائجة، وهناك من فرَّط وجفا، وأضاع معالم الدّين وأصول العقيدة، حرصًا على جمع النَّاس دون تربيتهم، ففشا الإرجاء، وانطمست معالم التَّوحيد، وحقيقة العبادة.
وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر، وتصحِّح الطّريق، وتدلُّ الناس إلى الصِّراط المستقيم، على منهج أهل السنة والجماعة، وسلف الأمّة؛ ينفون عن هذا الدّين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنافقين والمرجفين. ووسط هذا الواقع المؤلم، والاضطراب المهلك، تشتدّ الحاجة إلى دلالة الأمّة إلى الصّراط المستقيم، والمنهج العدل المبين، لإنقاذها من كبوتها، وإيقاظها من رقدتها، وتبصير الدّعاة والمصلحين بالمنهج الحقّ، والطّريق البيِّن الواضح: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
لقد وقفت طويلا عند مسألة الغلوّ والجفاء، والإفراط والتَّفريط، وأدركت أن الأمّة بأمسِّ الحاجة إلى منهج الوسطيَّة منقذًا لها من هذا الانحراف، الذي جرَّ عليها المصائب والمشكلات.
ووجدت أنّ القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في شتَّى جوانبه، أصولا وفروعًا، عقيدةً وعبادةً، خُلقًا وسلوكًا، تصوُّرًا وعملا.
ولقد جاء منهج الوسطيَّة من خلال القرآن الكريم في أساليب عدَّة، تصريحًا وإيماءً، مفصَّلا ومجملا، خبرًا وإنشاءً، أمرًا ونهيًا.
واقتناعًا منِّي بأهميَّة هذا الموضوع، ومسيس الحاجة إليه، فقد عزمت على الكتابة فيه، وهذا يقتضي أن أعيش مع كتاب الله متأمِّلا لآياته، متفكِّرًا في دلالاته، مستوعبًا لما كتبه المفسِّرون حول تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة.
القضية التي يعالجها البحث
مفهوم الوسطيَّة وحقيقتها ضلَّ فيها كثيرون، وبيان ذلك كما يلي:
1- هناك من فهم أن الوسطيَّة تعني التَّنازل والتَّساهل، فإذا رأوا مسلمًا قد التزم الصّراط المستقيم، وسار على هدي النبوَّة، قالوا له: لماذا تُشدِّد على نفسك وعلى الآخرين ودين الله وسط؟ ولذلك نجد في واقعنا المعاصر أن أكثر الذين يُرمَون بالتَّطرف والغلوّ وأخيرًا بالأصوليَّة (1) هم من الذين التزموا بالمنهج على وجهه الصَّحيح.
ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطيَّة.
2- وفي المقابل نجد فئة من المتحمِّسين المندفعين، يصفون أصحاب المنهج الحقّ، الذين لم يوافقوا هؤلاء على أفكارهم، ولم يسايروهم في حماسهم واندفاعهم يصفونهم بالتَّساهل والتَّهاون، وعدم الغيرة، بل وأحيانًا بالتَّنازل والممالأة.
ومنشأ ذلك - أيضًا - جهلهم بحقيقة الوسطيَّة، مع أنهم يدَّعونها، لكنهم لا يفهمونها على الوجه الصحيح.
__________
(1) - بعض من يطلق هذه الصفات، يطلقها لأغراض لا تخفى، والمشكلة أن هناك من يصدّق ما يقولون جهلا أو سذاجة، أما الذين يتجاهلون فلا يعنيهم هذا البحث.(/1)
3- وهناك فئة ثالثة ليست من هؤلاء ولا أولئك، وهم حريصون على الالتزام بالمنهج الصحيح، ولكنَّهم يقعون في أخطاء أثناء ممارستهم للدعوة قولا أو فعلا، وسبب هذا الأمر عدم تصورهم لمنهج الوسطيَّة تصورًا شاملا، وقصرهم هذا المنهج على بعض آحاده.
4- والنتيجة التي نتوصل إليها من ذلك كله أن هذا المنهج بحاجة إلى تفصيل وبيان، لا لخفائه في ذاته، بل هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن خفاءه من الأمور النسبيَّة التي تعود إلى بُعد كثير من الناس عن منهج القرآن والسنة، وضعف حصيلتهم العلميَّة، وممارستهم التعبديَّة والدعويَّة.
والخلاصة أنَّ هذا البحث معنيُّ بإيضاح مفهوم الوسطيَّة، وتحديد مدلولها في ضوء القرآن الكريم، تعريفًا وتأصيلا، وتحديدًا، وتطبيقًا.
وهذا هو المعنى الشّامل الذي نفهمه من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فمن منطوق هذه الآية انْطَلَقْت، وفي ضوئها سرتُ وكتبتُ، ومن مفهومها موافقة ومخالفة حقَّقتُ وبيَّنتُ.
وكنت أضع القضيَّة التي جئت أعالجها نصب عيني في كل ما سطَّرتُ ودوَّنتْ.
مخطط البحث
بدأت البحث بتعريف الوسطيَّة، واشتمل هذا المبحث على ما يأتي:
1- الوسطيَّة في اللغة.
2- استعمالات الكلمة في القرآن الكريم.
3- أحاديث نبوية في (الوسط).
4- تحرير معنى الوسطيَّة.
ثم انتقلت إلى مبحث آخر وهو أسس فهم الوسطيَّة، واشتمل على ما يلي:
1- مقدمة لهذا المبحث.
2- الغلو والإفراط.
3- الجفاء والتفريط.
4- الصّراط المستقيم.
ثم عقدت مبحثًا لبيان ملامح الوسطيَّة، وتضمّن الحديث عن الملامح التالية، بعد مقدمة المبحث:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينيَّة.
5- العدل والحكمة.
وأخيرًا ذكرت دليلا تطبيقيًّا يجمع هذه الملامح.
وهذه المباحث الثلاثة، تعتبر أركانًا أساسيَّة، ومنطلقات منهجيَّة لمعرفة حقيقة الوسطيَّة في حدودها الشرعيَّة، بل إن مضمون تلك المباحث هو المعيار الذي نستطيع من خلاله أن نعرف هل هذا الأمر وسطيًا أو هو يتضمَّن إفراطًا أو تفريطًا؟
وهي كذلك وسيلة للبحث عن المنهج الوسطيّ في كل قضية تعرض لنا، فمن خلال تلك المباحث نخرج المنهج وننقحه، ثم نحقّقه.
وبعد تحرير تلك الأصول والمنطلقات، عقدت أهمَّ مباحث الكتاب، وهو بيان تقرير القرآن الكريم لمنهج الوسطيَّة، حيث بيَّنت عناية القرآن بهذا المنهج، وذكرت الأمثلة التطبيقيَّة التي توضح ذلك، وجاء هذا الباب مشتملا على المباحث التالية:
1- مقدمة توضيحيَّة.
2- وقفة مع سورة الفاتحة.
3- منهج الوسطيَّة في الاعتقاد.
4- منهج الوسطيَّة في التَّشريع والتَّكليف.
5- منهج الوسطيَّة في العبادة.
6- منهج الوسطيَّة في الشّهادة والحكم.
7- منهج الوسطيَّة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
8- منهج الوسطيَّة في الجهاد في سبيل الله.
9- منهج الوسطيَّة في المعاملة والأخلاق.
10- منهج الوسطيَّة في كسب المال وإنفاقه.
11- منهج الوسطيَّة في مطالب النفس وشهواتها.
وأخيرًا ذكرت بعض الشواهد المتفرِّقة التي تؤكد هذا المنهج وتبيِّنه.
وختمت البحث بخاتمة مناسبة ربطت فيها بين الهدف والنتيجة.
وبعد:
فقد بذلت جهدي في إخراج هذا الموضوع، فما كان فيه من حقّ وصواب فمن الله وحده (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (البقرة: من الآية255). (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء: من الآية113). وما كان فيه من تقصير وخطأ فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله.
فلله الحمد والشكر والمنَّة، والثَّناء الحسن، على فضله، وتيسيره، وإعانته، وتوفيقه، ثم أشكر كل من أسهم في إخراج هذا البحث سواء كان إسهامًا مباشرًا أو غير مباشر(1) فلهم مني الشّكر وجميل الدّعاء.
والحمد لله أولا وآخرًا.
إن تجد عيبًا فسدَّ الخللا ... جلَّ من لا عيبَ فيه وعلا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الطائف
26/3/ 1413 هـ
تعريف الوسطيَّة
الوسطيَّة في اللغة
جاءت كلمة (وسط) في اللغة لعدّة معانٍ، ولكنها مُتقاربة في مدلولها عند التأمّل في حقيقتها ومآلها.
قال ابن فارس: (وسط): الواو والسّين والطّاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنّصف.
وأعدل الشيء: أوسطه، ووسطه، قال الله - عز وجل - (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسِه - بفتح السين - ووسْط القوم - بسكونها -، وهو أوسَطُهم حسبًا - إذا كان في واسطةِ قومه وأرفعهم محلا (2).
ومن هذا الكلام يتَّضح أن (وسط) تأتي بفتح السّين وسكونها، وفتحها أكثر استعمالا كما سيأتي.
__________
(1) - أشكر الجامعة بصفة خاصة حيث فرَّغتني لمدة عام مما مكنني من إنجاز هذا البحث.
(2) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة: (وسط) 6/108.(/2)
ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تدلّ عليها هذه الكلمة فيما يلي (1) .
1- (وسْط) بسكون السّين تكون ظرفًا بمعنى (بين)، قال في لسان العرب: وأمَّا الوسْط بسكون السّين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزان نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلست وسْط القوم، أي: بينهم، ومنه قول سوار بن المضرب:
إنيّ كأنيّ أرى من لا حياة ... ولا أمانة وسْط النَّاس عُريانًا (2)
قال د. زيد الزيد: وقد أشارت بعض المعاجم اللغوية إلى التفريق بين كلمة وسَط - بالتحريك - ووسْط بالسكون، فقالوا: إن كل موضع يصلح فيه (بين) فهو بالسّكون، وما لا يصلح فيه (بين) فهو بالفتح.
وقيل: كل منهما يقع موضع الآخر، قال ابن الأثير في غريب الحديث: وهو الأشبه (3).
وقال الزبيدي: وقديمًا كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفرق بينهما كلامًا شاملا لما ذكر، وهو السّاكن متحرّك، والمتحرّك ساكن (4).
2- وتأتي - وسَط بالفتح - اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، ومن ذلك: قبضتْ وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدّار، وهذه حقيقة معناها كما ذكر ابن برّي (5).
3- وتأتي - بالفتح أيضًا - صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره: كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار.
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها، وهو أجودها، ورجل وسط ووسيط: حسن (6).
4- وتأتي وسط - بالفتح - بمعني عدل، قال ابن فارس: وسط: بناء صحيح يدلّ على العدل، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه.
وقال ابن منظور: ووسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وقال الفيروزآبادي: الوسط - محركة - من كل شيء: أعدله (7).
5- وتأتي (وسط) بالفتح - أيضًا - للشيء بين الجيد والرديء.
قال الجوهري: ويقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء.
وقال صاحب المصباح المنير: يُقال شيء وسط، أي بين الجيد والرديء (8).
ومنه ما ورد في الحديث: - ولكن من وسط أموالكم فإنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - (9).
6- ويقال (وسط) لما له طرفان مذمومان، يراد به ما كان بينهما سالمًا من الذّمِّ، وهو الغالب.
قال الراغب: وتارة يُقال لما له طرفان مذمومان (10).
ومثال ذلك: السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر (11).
قال محمد باكريم (12) وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينيَّة، والتوسط بين الطرفين، فتقول: (وسوطًا): بمعنى المتوسّط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: علمني دينًا وسوطًا، لا ذاهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا، فإن الوسط هاهنا المتوسّط بين الغالي والجافي (13).
و(وسيطًا) أي: حسيبًا شريفًا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلا، قال العرجي:
كأنّي لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو (14)
و(الوسيط): المتوسّط بين المتخاصمين (15).
و(التوسط): بين الناس من الوساطة (16) وهي الشفاعة.
و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط (17).
و(التوسيط): - أيضًا - قطع الشيء نصفين (18).
و(وسوط الشمس): توسّطها السماء (19).
و(واسطة القلادة): الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها (20).
وقال فريد عبد القادر: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والنصفة، والجودة، والرّفعة، والمكانة العليّة.
__________
(1) - انظر تفصيل ذلك في المعاجم اللغوية، ووسطيَّة أهل السنَّة بين الفرق لمحمد باكريم - مخطوط - والوسطيَّة في الإسلام لزيد الزيد.
(2) - انظر لسان العرب مادة (وسط) (7/428).
(3) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (17) ومختار الصحاح مادة (وسط) (720)، وغريب الحديث لابن الأثير (5/183).
(4) - انظر: تاج العروس مادة (وسط) (5/340).
(5) - لسان العرب مادة (وسط) (7/427).
(6) - انظر: لسان العرب مادة (وسط) (7/427، 430)، والصحاح مادة (وسط) (3/1167)، ووسطيَّة أهل السنة ص2.
(7) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (وسط) ولسان العرب مادة (وسط) والقاموس المحيط مادة (وسط) وسطيَّة أهل السُنَّة بين الفرق ص (2).
(8) - انظر: مادة (وسط) في الصحاح، والمصباح المنير ص (252)، ووسطيَّة أهل السُنَّة ص (2/3).
(9) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115). والبيهقي في السنن (4/95). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041).
(10) - انظر: المفردات في غريب القرآن، مادة: وسط ص (522).
(11) - انظر: الوسطيَّة لفريد عبد القادر ص (9).
(12) - وسطيَّة أهل السُنَّة ص (3)، وانظر: لما سيأتي لسان العرب مادة (وسط) وتاج العروس مادة (وسط) والصحاح مادة (وسط).
(13) - لسان العرب مادة (وسط) (7/429).
(14) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(15) - القاموس المحيط مادة (وسط) (2/406).
(16) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(17) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(18) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(19) - لسان العرب مادة (وسط) (7/429).
(20) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).(/3)
والعرب تصف فاضل النّسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي من خيارهم وأشرافهم (1).
وأختم ما قيل في معنى الوسط بهذا الكلام للشيخ ابن عاشور، حيث قال أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والوسط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يُحيط به، أخذ فيه معنى الصّيانة والعزّة؛ طبعًا: كوسط الوادي لا تصل إليه الرّعاة والدّواب إلا بعد أكل ما في الجوانب، فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعًا: كوسط المملكة يجعل محلّ قاعدتها، ووسط المدينة يجعل محل قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدوّ بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه.
فمن أجل ذلك صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية، قال زهير:
هم وسط يرضى الأنامُ بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
ويقال: أوسط القبيلة، لصميمها.
وأمّا إطلاق الوسط على الصّفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، كالشّجاعة بين الجبن والتهوّر، والكرم بين الشُّحِّ والسرّف، والعدالة بين الرّحمة والقساوة، فذلك روى حديث: - خير الأمور أوسطها - وسنده ضعيف (2).
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عُرفيَّتين (3).
ومن خلال ما سبق اتَّضح لنا المعنى اللغوي لكلمة (وسط)، وما تصرّف منها، وأنها تئول إلى معانٍ متقاربة.
استعمالات الكلمة في القرآن الكريم
وردت كلمة (وسط) في القرآن في عدَّة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعدّدة، حيث وردت بلفظ: (وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(4) و (الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238)(5) و (أَوْسَطِ) (المائدة: من الآية89)(6) و (أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28)(7) و (فَوَسَطْنَ) (العاديات: من الآية5)(8) .
وسأذكر معنى كل كلمة حسب ورودها في القرآن الكريم، وكلام المفسرين حولها، مستشهدًا لذلك ببعض ما ورد في السنة النبويَّة.
أولا: كلمة "وسطًا":
وردت في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا. فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا). والوسط: العدل - (9).
وروى الطبري بإسناده عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: - عدولا - (10).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين، كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها بـ "عدولا".
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة ص (10)، وجمهرة اللغة لابن دريد (3/29)، والقاموس المحيط مادة (وسط) (2/391)، وتهذيب اللغة مادة (وسط) (12/26).
(2) - قال العجلوني في كشف الخفاء (2/391): حديث: "خير الأمور أوسطها" وفي لفظ: "أوساطها". قال ابن الغرس: ضعيف. وقال في المقاصد: رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد، لكن بسند فيه مجهول عن علي مرفوعًا. وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعًا: "خير الأعمال أوسطها". وللعسكري عن الأوزاعي أنه قال: ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيهما أصاب: الغلو أو التقصير. ولأبي يعلى بسند جيد عن وهب بن منبه، قال: إن لكل شيء طرفين ووسطًا، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء.
(3) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(4) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(5) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(6) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(7) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(8) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(9) - أخرجه البخاري (5/151). قال الحافظ في الفتح (8/22): قوله: "والوسط: العدل" هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(10) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".(/4)
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها "جعلكم أمة عدولا". وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي، - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمم (1).
2- قال الإمام الطبري: وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط، قال ابن زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيل هم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أبناءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم (2).
3- قال ابن كثير (3) وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد (4) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا). قال: الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم - رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة (5).
4- وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية: سبب نزولها أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدل بين الناس، فنزلت هذه الآية.
والوسط: العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة.
وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل والخيار، ومنه قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)(القلم: من الآية28). أي: أعدلهم وخيرهم.
قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوسطها، والغلوّ والتقصير مذمومان.
قال أبو سليمان الدّمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه جعلت قبلتكم وسطًا بين القبلتين، فإن اليهود يصلون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما (6).
5- قال صاحب المنار: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). هو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما (7).
6- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: عدلا خيارًا.
وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين، وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/7).
(2) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(3) - انظر: عمدة التفسير عن ابن كثير (1/263). تحقيق أحمد شاكر.
(4) - المسند (3/32).
(5) - انظر: صحيح البخاري (5/151). سنن الترمذي (5/190) رقم(2961) سنن ابن ماجة (2/1432) رقم (4284)، ولم أجده في الصغرى من سنن النسائي، فلعله في الكبرى منه.
(6) - انظر: زاد المسير (1/154)، وكلام أبي سليمان الدمشقي فيه غرابة، فإنه جعل الوسطيَّة وصفًا للقبلة، والصحيح أنها وصف للأمة كما ثبت في الصحيح، ثم إنه لم يكن هناك قبلتان قبل الكعبة، وإنما هي بيت المقدس فقط.
(7) - انظر: تفسير المنار (2/4).(/5)
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) بسب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم (1).
7- وقال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:
وإنها للأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ.
أمَّةً وسطًا في التصوّر والاعتقاد، أمَّةً وسطًا في التّفكير والشّعور، أمَّةً وسطًا في التَّنظيم والتَّنسيق، أمة وسطًا في الارتباطات والعلاقات، أمَّةً وسطًا في الزَّمان، أمَّةً وسطًا في المكان، ثم قال: وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنّها تخلَّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتَّخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها (2).
هذه أهمّ أقوال المفسِّرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير اتَّضحت معانٍ سيأتي اعتبارها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في فصول لاحقة.
ثانيًا: كلمة "الوسطى"
وقد وردت هذه الكلمة في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) وسأذكر أقوال المفسِّرين في هذه الآية ممَّا له علاقة مباشرة في معنى "الوسط" حيث سيتَّضح سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسِّطة بين الصَّلوات، أو لأنَّها أفضل الصّلوات، أو لكليْهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصَّلوات هي، وما سيرد حول هذه القضيَّة فهو لبيان المعنى فقط.
1- ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصَّلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلَّة من قال: إنَّ الصّلاة الوسطى هي العصر، ثم قال بعد أن رجَّح أن الصَّلاة الوسطى هي العصر:
وإنما قيل لها الوسطى: لتوسّطها الصَّلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهنّ.
والوسطى: الفعلى من قول القائل: وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطًا، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذّكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانًا (3). وعندما ذكر قول من قال: إن (الوسطى) هي صلاة المغرب، وهي قول: قبيصة بن ذؤيب، عقَّب الطبري على ذلك قائلا:
ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله: (الوسطى) إلى معنى التوسّط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرَّجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطًا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنَّها ليست بأقلِّها ولا أكثرها.
ومن أجل فهم كلام الإمام الطبري في تعقيبه على ابن ذؤيب أذكر كلام قبيصة بن ذؤيب، قال: الصلاة الوسطى: صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تُقصر في السَّفر، وأنّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - لم يؤخِّرها عن وقتها ولم يُعجّلها (4).
2- وجه ابن الجوزي أقوال العلماء في المراد بالصَّلاة الوسطى قائلا: وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها أوسط الصَّلوات محلا.
والثاني: أوسطها مقدارًا.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
فإن قلنا: إن الوُسطى بمعنى الفُضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنَّها أوسطها مقدارًا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعًا.
وإن قلنا: إنَّها أوسطها محلا، فللقائلين: إنَّها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.
ومن قال هي الفجر، قال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار.
وقال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار.
فأما من قال: هي المغرب، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت الظّهر، فصارت المغرب وُسْطى.
ومن قال: هي العشاء، فإنَّه قال: هي بين صلاتين لا تقصران (5).
ومن خلال ما سبق يتَّضح ارتباط كل قول بمعنى (الوسط) في ضوء المعاني التي سبق بيانها.
3- وقال القاسميّ في تفسيره:
و"الصلاة الوسطى" أي: الوسطى بين الصَّلوات، بمعنى المتوسّطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.
__________
(1) - انظر: تفسير كلام المنان (1/157).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (1/131).
(3) - انظر: تفسير الطبري (2/568).
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/564).
(5) - انظر: زاد المسير (1/283).(/6)
فعلى الأوّل يكون الأمر لصلاة متوسّطة بين صلاتين، وهل هي: الصّبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصّحابة والتَّابعين.
وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطّول والقصر، أقوال - أيضًا- عن كثير من الأعلام.
ثم قال: سنح لي وقوي بعد تمعّن احتمال قوله - تعالى -: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) بعد قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (البقرة: من الآية238) لأن يكون إرشادًا وأمرًا بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسّطًا، لا طويلا مُملا، ولا قصيرًا مُخلا، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيّده الأحاديث المرويَّة عنه، - صلى الله عليه وسلم - في ذلك قولا وفعلا.
ثم مرَّ بي في القاموس حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسّطة بين الطّول والقصر، قال شارحه الزّبيدي. وهذا القول ردّه أبو حيّان في البحر.
ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) أريد به توصيف الصَّلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنَّها فُضلى، أي ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفُضلى من قولهم للأفضل: الأوسط (1).
4- أما رشيد رضا فقال:
والصَّلاة الوسطى هي إحدى الخمس، والوسطى مؤنَّث الأوسط، ويستعمل بمعنى التوسّط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون، ولذلك اختلفوا في أيّ الصّلوات أفضل، وأيّتها المتوسّطة (2).
5- وأختم كلام المفسّرين حول هذه الآية بما ذكره ابن عاشور في تفسيره، حيث قال:
فأمّا الذين تعلّقوا بالاستدلال بوصف الوسطى فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبّع ما ورد في تفضيل بعض الصّلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلّب الصّلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب (3).
وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من خلال كلام المفسّرين المتقدّم نلحظ الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطيَّة الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسّط بين شيئين أم بمعنى الخيار الأفضل، وسيأتي مزيد بيان لهذه القضيَّة - إن شاء الله - بعد عرض جميع الآيات.
ثالثًا: كلمة (أوسط)
وقد وردت هذه الكلمة في آيتين:
الأولى في قوله - تعالى -: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والثانية في سورة القلم في قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28).
وقد ذكر المفسّرون معنى كل كلمة في موضعها، فمنهم من جعل معناهما واحدًا، ومنهم من فرَّق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:
الأولى: آية سورة المائدة:
1- قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) أعدله.
قال عطاء: أوسطه: أعدله.
وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفَّر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتّمر، والخبز والسَّمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
وقال آخرون: من أوسط ما يُطعم المكفّر أهله، قال إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عُسره ويُسره.
ثم عقَّب الطبري على ذلك بقوله:
وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تُطعمون أهليكم في القلّة والكثرة (4).
2- وقال ابن الجوزي:
في قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبِيدَة، والحسن، وابن سيرين (5).
3- وقال القرطبي:
تقدَّم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين المنزلتين، ونصفًا بين طرفين، وعن ابن عباس، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وكان الرّجل يقوت أهله قوتًا فيه شدَّة، فنزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) وهذا يدلّ على أن الوسط ما ذكرناه، وهو ما كان بين شيئين (6).
4- وقال الزمخشريّ:
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (3/622، 626).
(2) - انظر: تفسير المنار (2/437).
(3) - انظر: التحرير والتنوير (2/467).
(4) - انظر: تفسير الطبري (7/16-22).
(5) - انظر: زاد المسير (2/414).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (6/276).(/7)
(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) من أقصده، لأنَّ منهم من يُسرف في إطعام أهله، ومنهم من يُقتّر (1).
5- وأختم هذه الأقوال في معنى (أوسط) فيما قاله سيد قطب حيث قال:
و(أوسط) تحتمل من (أحسن)، أو من (متوسّط)، فكلاهما من معاني اللفظ، وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأنَّ المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام (2).
الثانية: آية سورة القلم:
1- قال الطبري:
وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28). يعني أعدلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد، والضّحَّاك.
وقال قتادة: أي أعدلهم قولا، وكان أسرع القوم فزعًا، وأحسنهم رجعة (3).
2- وقال القرطبي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم (4).
3- وقال ابن كثير:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم (5).
4- وقال ابن الجوزي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي أعدلهم وأفضلهم (6).
5- قال القاسميّ:
أي: أعدلهم وخيرهم رأيًا (7).
ومما سبق يتَّضح لنا أن كلمة (أوسط) في آية المائدة فسَّرت على عدَّة أوجه وبعدَّة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيّد والرديء، أو الشدَّة والسّعة. أمَّا آية القلم فاتَّفق المفسِّرون (8) على تفسيرها بمعنى الأفضل والخيار وهو الأعدل.
رابعًا: كلمة (فوسطن) .
وردت في قوله - تعالى -: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) وذلك في سورة العاديات، الآية الخامسة.
وقد ذكر المفسِّرون أنَّ معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:
1- قال الطبري:
يقول - تعالى ذكره -: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم - بالتخفيف -، ووسّطته - بالتّشديد -، وتوسّطته، بمعنى واحد (9).
2- وقال ابن الجوزي:
قال المفسّرون: المعنى: توسّطن جمعًا من العدوّ.
وقال ابن مسعود: فوسطن به جمعًا، يعني مزدلفة (10).
3- وقال القرطبي:
(جَمْعاً?) (العاديات:5) مفعول بـ "وسطن" أي: فوسطن بركبانهن العدوّ.
يُقال: وسطت القوم أسِطُهم وسْطًا وسطَة أي: صرت وسطهم.
يقال: وسطت القوم - بالتّشديد والتخفيف - وتوسّطتهم، بمعنى واحد.
وقيل: معنى التّشديد: جعلها الجمع قسمين، والتّخفيف: صرن وسط الجمع (11).
4- وقال القاسمي:
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرَّقته وشتَّته.
يقال: وسطت القوم - بالتَّخفيف - ووسّطته - بالتَّشديد وتوسّطته، بمعنى واحد (12).
5- وقال سيد قطب:
وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غرَّة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب (13).
ومن خلال ما سبق يتَّضح أن معناها التوسّط والوسط.
أحاديث نبوية في (الوسط)
السنة شارحة للقرآن، ومبيّنة له، وقد وردت بعض الأحاديث التي فيها الدّلالة على معاني (الوسط).
ولأهميّة التعمّق في فهم مدلول هذا المصطلح، فسأذكر بعض الأحاديث التي ورد فيها ما يدلّ على هذا المعنى، مع توضيح المراد حسب سياق الحديث، حيث قد يكون فيه دلالة على الوسط لا على الوسطيَّة.
1- عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بّلغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله - جل ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا). - والوسط: العدل رواه البخاري (14).
__________
(1) - انظر: الكشاف (1/640).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (2/971).
(3) - انظر: تفسير الطبري (29/34).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (18/244).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (4/406).
(6) - انظر: زاد المسير (8/338).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (16/5900).
(8) - هذا على حسب اطلاعي وبحثي.
(9) - انظر: تفسير الطبري (30/276).
(10) - انظر: زاد المسير (9/209)، وتفسير ابن مسعود فيه غرابة.
(11) - انظر: تفسير القرطبي (20/160).
(12) - انظر: تفسير القاسمي (17/6238).
(13) - انظر: في ظلال القرآن (6/3958).
(14) - المسند (3 / 32).(/8)
والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أن الوسط فسّر هنا بالعدل، وهو المقابل للظّلم، حيث إن أمّة محمد، - صلى الله عليه وسلم - شهدوا بما علموا، (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) (يوسف: من الآية81). وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوًى مع نوح، عليه السلام - وحاشاهم من ذلك - ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنّى لهم (1) ذلك، وهذا هو العدل، لأنَّ الظّلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشَّهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم، والشّهادة بالحقّ دون النّظر لصاحبه عدل، فأمَّة محمد، - صلى الله عليه وسلم - ممّن قال الله فيهم: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف:181).
2- روى الترمذي قال: لما نزل قوله - تعالى -: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكَّة: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) قال ناس من قريش لأبي بكر، فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الرّوم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى - وذلك قبل تحريم الرّهان - فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرّهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسمّ بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، فسمّوا بينهم ست سنين (2).
والستّ هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها ثلاث وبعدها ثلاث.
3- عن عبد الله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - (3).
والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89). كما سبق.
4- عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - كنا عند النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخطّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطّ الأوسط، فقال: "هذه سبيل الله"، ثم تلا هذه الآية: (وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) - [سورة الأنعام، الآية: 153]. (4).
والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسّط بينهما.
ونجد بيان هذا الصّراط في الحديث الآتي:
عن النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى الصّراط داعٍ يدعو يقول: يا أيّها النَّاس اسلكوا الصّراط جميعًا، ولا تعوجّوا، وداع يدعو على الصّراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنَّك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسّتور حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصّراط كتاب الله، والدّاعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم - (5).
__________
(1) - أي لقوم نوح.
(2) - أخرجه الترمذي (5/321، 322) رقم (3194، 3195)، قال فيهما الترمذي: حسن صحيح غريب.
(3) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115)، والبيهقي في السنن (4/95)، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041) والسلسلة الصحيحة رقم (1046).
(4) - أخرجه ابن ماجة (1/6) رقم (11). قال البوصيري في الزوائد (1/45): هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد. قلت: مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في التقريب ص (520): ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. اهـ. ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: "هذه سبيل الله". ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه). [سورة الأنعام، الآية: 163]. أخرجه أحمد (3/ 397). والدارمي (1/78، 79) رقم (202). وحسنه الألباني كما في المشكاة رقم (166) ونقل عن الحاكم تصحيحه.
(5) - أخرجه أحمد (4/182، 183). والحاكم في المستدرك (1/73). وقال: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علّة، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الألباني: وهو كما قالا، انظر: المشكاة رقم (191). وروى هذا الحديث الترمذي - أيضًا - (5/133) رقم (2859). وقال: هذا حديث غريب. قال الألباني: وكأنه عنى الطريق التي أخرجها منه، وهي إحدى طريقي المسند.(/9)
5- وقال - صلى الله عليه وسلم - - إنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة، أو أعلى الجنة - (1).
قال الحافظ بن حجر: قوله: - أوسط الجنة أو أعلى الجنة - المراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(2).
6- وقال - صلى الله عليه وسلم - - البركة تنزل وسط الطّعام، فكلوا من حافَّتيه، ولا تأكلوا من وسطه - (3).
والوسط هنا: نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية. أو هو أشبه ما يكون بمركز الدّائرة ومنتصفها.
7- وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - خطَّ خطًّا مربَّعًا، وخطّ وسط الخطّ المربّع، وخطوطًا إلى جانب الخطّ الذي وسط الخطّ المربّع، وخطًّا خارجًا من الخطّ المربّع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان الخطّ الأوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه - (4).
والوسط هنا: هو ما كان بين عدَّة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
8- وقال - صلى الله عليه وسلم - - وسّطوا الإمام وسدُّوا الخلل - (5). أي اجعلوه وسط الصّف - في منتصفه - من أمامه، بحيث يكون طرفا الصّفّ متساويين بالنّسبة لموقف الإمام.
9- وقال - صلى الله عليه وسلم - - لعن الله من جلس وسط الحلقة - (6). وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تمامًا، وإنَّما من جلس في داخلها بعيدًا عن أطرافها فهو في وسطها.
10- وقال - صلى الله عليه وسلم - - أنا زعيم بيت في رَبَضَ الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه - (7).
والوسط هنا ما كان بين الرّبض والأعلى.
11- وقال - صلى الله عليه وسلم - - لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبّ إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أُبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السّوق - (8).
والمراد بالوسط - هنا - الوسط المكاني.
12- وقال - صلى الله عليه وسلم - - ليس للنساء وسط الطّريق - (9).
ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين وهو منه، لأن المشروع في حقّ المرأة أن تكون بجانب الطّريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها وتعرّضها للرّجال.
هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط). ومعناه، ومنها ما يدلّ على معنى الوسطيَّة، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين (الوسط) و(الوسطيَّة)، فكل وسطيَّة فهي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطيَّة، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزّماني ونحوه، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله -.
تحرير معنى الوسطيَّة
من خلال ما سبق اتَّضح لنا أن كلمة (وسط)، تستعمل في معانٍ عدَّة أهمّها:
1- بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
2- قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3- وتستعمل لما كان بين شرّين وهو خير.
4- وتستعمل لما كان بين الجيّد والرديء، والخير والشَّرّ.
5- وقد تُطلق على ما كان بين شيئين حسًّا، كوسط الطّريق، ووسط العصا.
وقد تأتي لمعانٍ أخرى قريبة من هذه المعاني سبق ذكرها، ولا أجد حاجة لإعادتها.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/202). والترمذي (4/582) رقم (2530).
(2) - انظر: فتح الباري (6/13).
(3) - أخرجه الترمذي (4/229) رقم (1805). وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة (2/1090) رقم (3277). وأحمد (1/270، 343، 364) والدارمي (2/137) رقم (2046) والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع رقم (4502) وتخريج المشكاة رقم (4211).
(4) - أخرجه البخاري (7/171). وابن ماجة (2/1414) رقم (4231). وأحمد (1/385).
(5) - أخرجه أبو داود (1/182) رقم (681). وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6122) وضعيف أبي داود رقم (105).
(6) - أخرجه الترمذي (5/84) رقم (2753). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأبو داود (4/258) رقم (4826). وأحمد (5/384، 398، 401). وصححه الحاكم (4/281) ووافقه الذهبي.
(7) - أخرجه أبو داود (4/253) رقم (4800) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1464).
(8) - أخرجه ابن ماجة (1/499) رقم (1567). قال البوصيري في الزوائد (1/512): هذا إسناد صحيح محمد بن إسماعيل - شيخ ابن ماجة - وثقه أبو حاتم والنسائي وابن حبان، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين. والحديث صححه الألباني كما في إرواء الغليل رقم (63) وصحيح الجامع رقم (5038).
(9) - أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/416- الإحسان) رقم (5601). وابن عدي في الكامل (4/1321). وأخرجه - أيضًا- أبو يعلى في مسنده بلفظ: "ليس للنساء باحة الطريق" كما في المطالب العالية (2/440). قال في النهاية (1/60): أي وسطه وباحة الدار: وسطها. اهـ.(/10)
والمهمّ - هنا - متى يُطلق لفظ (الوسطيَّة)؟ بل على ماذا يُطلق هذا المصطلح؟
فهناك من جعل مصطلح الوسطيَّة مُرادفًا للفظ الخيريَّة، ولو لم يكن بين شيئين - حسًّا أو معنى - قال فريد عبد القادر:
ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفًا خاصًّا محدّدًا للوسطيَّة، فنقول: بأن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من: العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. ثم قال:
أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين، مهما كان موضع هذا الوسط - الذي تمَّ اختياره - من صراط الله المستقيم، التزامًا وانحرافًا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث (1).
ويؤكّد هذا المعنى في موضع آخر، فيقول:
ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظّلم، والصّدق وسط ولا يقابله إلا الكذب (2).
وهناك من جعل (الوسطيَّة) من التوسّط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيريَّة التي دلَّ عليها الشَّرع، قال الأستاذ فريد عبد القادر:
وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرَّبانيّ، استعمالا فضفاضًا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التَّساهل والتَّنازل.. إلخ (3).
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطيَّة، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتَّضح ذلك فيما سيأتي:
وقد تأمَّلت ما ورد في القرآن والسنَّة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطيَّة)، فتوصَّلت إلى أن هذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:
1- الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2- البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطيَّة.
والقول بأن الوسطيَّة ملازمة للخيريَّة - أي أنّ كلّ أمر يوصف بالخيريَّة فهو (وسط) - فيه نظر، والعكس هو الصّحيح، فكل وسطيَّة تلازمها الخيريّة (4) فلا وسطيَّة بدون خيريَّة، ولا عكس.
فلا بدَّ مع الخيريَّة من البينيَّة حتى تكون وسطًا.
وكذلك البينيَّة - أيضًا - فليس كل شيء بين شيئين أو أشياء يُعتبر وسطيًّا وإن كان وسطًا. فقد يكون التوسّط حسيًّا أو معنويًّا، ولا يلزم أن يوصف بالوسطيَّة كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك.
ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلا بد أن يكون بينيًّا حسًّا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ أيَّ أمر اتَّصف بالخيريَّة والبينيَّة جميعًا فهو الذي يصحْ أن نُطلق عليه وصف: الوسطيَّة، وما عدا ذلك فلا (5).
وسأذكر بعض الأمثلة التي توضّح ذلك:
1- جاء وصف هذه الأمة بالوسطيَّة في قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وصح عنه، - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فسَّر الوسط هنا بالعدل (6) وفي رواية: - عدولا - (7). والمعنى واحد.
وإذا نظرنا إلى العدل وجدناه يتضمَّن معنى الخيريَّة، والعدل كذلك يُقابله الظّلم، والظّلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما (8).
ولذلك فقول صاحب (الوسطيَّة في الإسلام) (9) .
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام - مخطوط - ص (29).
(2) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33).
(3) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (30).
(4) - قال ابن عاشور بعد بيان معنى الوسط: فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس. انظر: التحرير والتنوير (2/17)، وقال رشيد رضا: فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما. انظر: تفسير المنار (2/4).
(5) - سيأتي مزيد تفصيل لهذا عند الحديث عن ملامح الوسطيَّة، حيث سأذكر بعض الضوابط لإطلاق هذا المصطلح - إن شاء الله -.
(6) - كما عند البخاري وقد تقدّم تخريجه ص (19).
(7) - كما في رواية الطبري. انظر: ص (20).
(8) - ومثل ذلك - أيضًا - قوله - تعالى -: (قال أوسطهم). [سورة القلم، الآية: 28]. فإن جمهور المفسرين فسروها "بأعدلهم" كما سبق، والعدل وسط بين طرفي الظلم كما قررت هنا، فاجتمعت الصفتان: البينيَّة والخيريَّة.
(9) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33).(/11)
"ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم". قول غير مسلَّم في أصله ومثاله، أمَّا الأصل فقد بيَّنْتُه سابقًا، وأمّا المثال: فإنَّ الظلم له طرفان كل منهما يصدق عليه وصف الظلم، والعدل وسط بينهما. ويوضّح وسطيَّة الإسلام ووسطيَّة هذه الأمة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلَّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذَّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابًا، كما قال - تعالى -: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79،80) ومن ذلك أن المؤمنين توسّطوا في المسيح، فلم يقولوا هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النَّصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة، كما زعمت اليهود.
بل قالوا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142) وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا.
إلى أن قال - رحمه الله - وهذا باب يطول وصفه... (1).
وممَّا سبق يتَّضح معنى الوسطيَّة في قوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والقارئ لكلام شيخ الإسلام، يتَّضح له التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في استخراج معنى الوسطيَّة في ضوء المنهج الذي سلكه ابن تيمية - رحمه الله - للوصول إلى تحقيق هذه المسألة، وبيان اتّصاف هذه الأمَّة بهذه الصّفة الحميدة.
وقبل ذلك سلك الطبري هذا المنهج في تفسيره لقوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كما سبق.
2- عن عبد الله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ثلاث من فعلهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرة ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - رواه أبو داود. (2).
وهنا نجد أن الوسطيَّة واضحة في هذا التَّوجيه النبويّ، فالبينيَّة صريحة في الحديث، أمّا الخيريَّة فهي ظاهرة لمن تأمَّل من خلال ما يلي:
1- أمر الرَّسول، - صلى الله عليه وسلم - بذلك دليل على هذه الخيريَّة، فلا يأمر، - صلى الله عليه وسلم - إلا بخير، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29). وهل أمرُ الرسول، - صلى الله عليه وسلم - إلا وحي يُوحى.
__________
(1) - من أراد مزيد بيان لما ذكره شيخ الإسلام فليرجع إلى كتابه العقيدة الواسطية، وتفسير القاسمي (2/287) فقد ذكر كلامه كاملا.
(2) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115). والبيهقي في السنن (4/95). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041).(/12)
2- أنَّنا عندما نُريد أن نستخرج معنى الخيريَّة لا ننظر من طرف واحد فقط، فإذا نظرنا إلى مصلحة الفقير فقط قلنا: إنَّ الخيريَّة في السّمينة السّليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيريَّة الغني - في الدنيا - قلنا إن الأسهل عليه أن يُخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها.
ولكن الخيريَّة الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني - صاحب المال - جميعًا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطيَّة، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها - وهي الوسط - وذلك مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
وهنا اتَّضح لنا التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في تحقيق معنى الوسطيَّة.
3- روى الإمام البخاريّ في صحيحه أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - خطب يوم السّقيفة، وكان مما قال يُخاطب الأنصار: - ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا - الحديث (1).
والوسطيَّة المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جليًّا لا لَبْسَ فيه، فأين البينيَّة؟
إن التأمّل والتّمعنّ في هذه الوسطيَّة يوصّل الباحث إلى حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ قريشًا امتازت بصفات أهّلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصّفات من الشّجاعة والكرم وسائر الصّفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات وسطيَّة بينيَّة بين مجموعة من الصّفات المتضادّة، وهم اتّصفوا بأفضل هذه الصّفات، دون إفراط أو تفريط، أو غلوّ أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم وتميزّهم عن غيرهم، واجتماع العرب عليهم دليل على قبولهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطيَّة فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (2)
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينيَّة بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيًا، فكذلك سائر صفاتهم.
وبهذا يتَّضح أن الخيريَّة والبينيَّة - المعنويَّة -هي التي أهّلتهم لأن يكونوا وسطًا نسبًا ودارًا.
وتأمّل معي ما قاله رشيد رضا في تفسيره: قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي: المتوسّط بينهما(3).
وأختم هذا المبحث بكلام جيد يتَّفق مع ما ذكرتُ وقرّرتُ، ذَكَرَهُ الدكتور/ زيد في كتابه: (الوسطيَّة في الإسلام). وكان مما قال(4) .
الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرّد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطيَّة جزئيَّة، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته، ويُراد أنَّه وسط بين الجيد والرّديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدَّى إلى إساءة فهم معنى الوسطيَّة المقصودة.
وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا، هو العدل الخيار والأفضل، إلى أن قال:
وبالتالي لم يبق معنى الوسطيَّة مجرَّد التّجاور بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتَّسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإنَّ السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتَّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنَّب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم، ويبقى الخير والفضل للوسط.
ومن خلال ما سبق من الأمثلة، وما ذكرته من الأدَّلة من الكتاب والسنَّة، والكلام المأثور من لسان العرب وأقوال السّلف اتَّضح لنا ما بيّنته من التلازم بين الخيريَّة والبينيَّة - حسيَّة أو معنويّة - في إطلاق مصطلح (الوسطيَّة).
ولهذا فعندما أستخدم هذا المصطلح في هذا البحث فإنَّني أعني به ما يصدق عليه هذا المدلول دون سواه.
وما عدا ذلك فلا يدخل في هذا البحث، وإن كان داخلا في معنى الوسط، كما سبق بيانه، فهو من الوسط لا الوسطيَّة.
وكذلك ما كان خيرًا أو فاضلا فلا يلزم أن يكون (وسطيًا) وإن كان محمودًا.
قال يوسف كمال: فهناك فضائل ليست وسطيَّة كالصدق الذي يقابله الكذب. (5).
أسس فهم الوسطيَّة
__________
(1) - صحيح البخاري (4/194). وأحمد في المسند (1/55، 56).
(2) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(3) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(4) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (18) وما بعدها.
(5) - انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127)، وإن كان بعض العلماء يرى أن كل أمر أمر الله به فهو وسط بين خلقين ذميمين، والصدق قد أمر الله به. انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي ص (90).(/13)
بعد أن تبينَّ لنا أنَّ الوسطيَّة لا بدّ لها من توافر أمرين، وهما: الخيريَّة والبينيَّة، فإنَّ هناك أُسُسًا لا بدّ من بيانها، ليتحدَّد معنى الوسطيَّة على الوجه الدّقيق. وتلك الأسس مطَّردة مع شَرْطَي الخيريَّة والبينيَّة، وهذه الأسس هي:
1- الغلوّ أو الإفراط.
2- الجفاء أو التَّفريط.
3- الصّراط المستقيم.
فالصّراط المستقيم يُمثِّل الخيريَّة ويُحقّق معناها، وهو وسط بين الغلوّ والجفاء، أو الإفراط والتَّفريط، وهذا يُحقّق وصف البينيَّة وشرطها الذي ذكرت أنَّه من لوازم الوسطيَّة.
وسأقف مبيِّنًا هذه الأُسس مبتدئًا بالغلوّ والإفراط، ثم الجفاء والتَّفريط، ثم أُبيِّن معنى وحقيقة الصّراط المستقيم، وبضدّها تتبيَّن الأشياء.
وحيث إنَّ هذا البحث مستمدٌّ من كتاب الله - تعالى - فسأُركِّز على تحديد معنى هذه الأُسس من خلال القرآن الكريم والسنَّة المبيِّنة لذلك، ثم كلام المفسّرين وغيرهم من العلماء، ومن الله أستمدّ العون والتَّوفيق.
أولا: الغلو والإفراط
أما الغلوّ فقد عرَّفه أهل اللغة بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس:
غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به سهمًّ أقصى غايته (1).
وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحدّ (2).
وقال في لسان العرب: وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه، وفي التّنزيل: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).
وقال بعضهم: غلوْتَ في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطّت فيه.
وفي الحديث: - إيّاكم والغلوّ في الدّين - (3) أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر: - إن هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق - (4). وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز.
ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم (5).
هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171) قال الطبري:
يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه.
وأصل الغلوْ في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا(6).
وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية:
والغلوّ: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزَّجَّاج: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظّلم.
وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة.
وعلى قول الحسن: غلوّ اليهود فيه قولهم: إنَّه لغير رشده. وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزّيادة في التّشدُّد فيه (7).
وقال ابن كثير: يَنهى - تعالى -أهل الكتاب عن الغلوّ والإطراء، وهذا كثير في النَّصارى، فإنَّهم تجاوزوا الحدّ في عيسى حتَّى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إيَّاها، فنقلوه من حيِّز النّبوَّة إلى أن اتَّخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوًا في أتباعه وأشياعه، ممَّن زعم أنَّه على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتَّبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقَّا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال - تعالى -: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31)(8).
__________
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (غلو) (4/387).
(2) - انظر: الصحاح مادة (غلا) (6/2448).
(3) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(4) - أخرجه أحمد (3/199) وحسنه الألباني، وعزاه أيضًا للبزار والبيهقي، كما في صحيح الجامع رقم (2246)، ولفظ الحديث: "فأوغلوا".
(5) - انظر: لسان العرب، مادة: "غلا".
(6) - انظر: تفسير الطبري (6/34).
(7) - انظر: زاد المسير (2/260).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (1/589).(/14)
أمَّا الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77) قال الطبري: يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطّوائف، وإيَّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن (2).
ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27).
قال ابن كثير في آية المائدة:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) (المائدة: من الآية77) . أي لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيِّز النبوَّة إلى مقام الإلهيَّة، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله (3).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ، وذِكْرُ بعضها يساعد على فَهم معناه وحدّه:
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع: - هلمّ القط لي الحصى - ، فلقطت له حصيات من حصى الحذف، فلمَّا وضعهَّن في يده قال: - نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين - (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنَّها أبلغ من الصّغار، ثم علَّله بما يقتضي مجانية هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك (5).
2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطّعون - قالها ثلاثًا (6).
قال النَّوويُ: هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (7).
3- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: - لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدِّدوا على أنفسهم فشدِّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
4- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّ هذا الدّين يُسر، ولن يُشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدَّلجة - (8). وفي لفظ: - القصد القصد تبلغوا - (9).
قال ابن حَجَر: والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيَّة، ويترك الرّفق إلا عجز وانقطع فيُغلب (10).
قال عبد الرحمن بن معلا: وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرًا بالتَّسديد والمقاربة، قال ابن رجب: والتّسديد العمل بالسَّداد، وهو القصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمَّل منها ما لا يُطيقه(11).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (6/316).
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/82).
(4) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(5) - انظر: تيسير العزيز الحميد ص (275) والغلو في الدين لعبد الرحمن بن معلا اللويحق ص (68).
(6) - أخرجه مسلم (4/2055) رقم (2670). وأبو داود (4/201) رقم (4608). وأحمد (1/386).
(7) - شرح مسلم للنووي (16/220).
(8) - أخرجه البخاري (1/15). والنسائي (8/122) رقم (5034).
(9) - أخرجه البخاري (7/181، 182)، وأحمد (2/514).
(10) - انظر: فتح الباري (1/94).
(11) - انظر: الغلو في الدين ص (69). والمحجة في سير الدُّلجة لابن رجب ص (51).(/15)
5- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه - (1).
6- وروي عنه، - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين - (2).
وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهح ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ولست بصدد ذكر الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا، ومن أشهرها قصَّة الذين جاءوا وسألوا عن عمل الرسول، - صلى الله عليه وسلم - في السرّ، فكأنَّهم تقالّوا، فكان من مقولتهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر (3).
بل لم أرد حصر جميع الأحاديث التي ورد فيها لفظ الغلوّ مصرحًا به، وإنَّما اخترتُ هذه الأحاديث للدلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثمَّ علاقته بالوسطيَّة.
وأختم تعريف الغلوّ بهذين التّعريفين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الغلوّ: مجاوزة الحدّ بأن يُزاد في الشيء، في حمده أو ذمّه على ما يستحقّ ونحو ذلك (4).
وقال ابن حجر في تعريفه للغلوّ: المبالغة في الشيء والتّشديد فيه بتجاوز الحدّ (5).
وضابط الغلوّ بيَّنة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، حيث قال: وضابطه تعدّى ما أمر الله به، وهو الطّغيان الذي نهى الله عنه في قوله: (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) (طه: من الآية81)(6).
وممَّا سبق من التَّعريف الّلغوي للغلوّ وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك تعريف العلماء يتَّضح لنا أن الغلوّ هو: مجاوزة الحدّ في الأمر المشروع، وذلك بالزّيادة فيه أو المبالغة إلى الحدّ الذي يُخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشَّارع.
وإيضاحًا لحقيقة الغلوّ، وكشفًا لحدوده ومعالمه، أذكر هذه الحقائق.
أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي(7) .
1- أن يكون الغلوّ متعلقًا بفقه النّصوص، كتفسيرها تفسيرًا متشدّدًا يتعارض مع السِّمة العامَّة للشَّريعة ومقاصدها الأساسيَّة فيشدّد على نفسه وعلى الآخرين.
2- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالأحكام، ومن صور ذلك:
(أ) إلزام النَّفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله - عز وجل - عبادة وترهُّبًا، ومعيار ذلك الطَّاقة الذَّاتيَّة حيث إنّ تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوًّا.
ومن الأدلَّة على ذلك، ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي، - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (8).
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التعمّق فيها.(9).
(ب) تحريم الطيِّبات التي أباحها الله على وجه التعبّد، أو ترك الضّرورات أو بعضها، ومن أدلّة ذلك قصَّة النَّفر الثّلاثة، حيث روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، - صلى الله عليه وسلم - فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا.
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند (3/428، 444). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/170، 171): رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168).
(2) - أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن بسنده عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم،.. به. قال الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة رقم (248): ثم إن الحديث مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ، كما قال الذهبي، وراويه عنه: معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي- في "بغية الملتمس".
(3) - وهو حديث أنس المشهور في قصة الثلاثة، وسيأتي بعد قليل.
(4) - انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).
(5) - انظر: فتح الباري (13/278).
(6) - انظر: تيسير العزيز الحميد ص (256) والغلو في الدين ص (82).
(7) - انظر: كتاب الغلو في الدين فقد ذكر هذه الأقسام ص (83(.
(8) - أخرجه البخاري (2/48) ومسلم (1/542) رقم (784).
(9) - انظر: فتح الباري (3/37).(/16)
فجاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منيِّ" - (1).
وكذلك لو اضطرّ إنسان إلى محرَّم، كأكل الميتة أو حيوان محرَّم، وتَرْكُ ذلك يؤّدي به إلى الهلكة، فإنَّ ذلك من التّشدّد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرَّم هذا الشّيء في حالة اليسر، وهو - سبحانه - الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال - سبحانه -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173).
3- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض النَّاس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذَّامّ، الجافي ويصفهم بما لا يلزمهم شرعًا، كالفسق أو المروق من الدّين ونحو ذلك.
وفي كلا الحالين يترتَّب على ذلك أعمال هي من الغلوّ في السَّلب أو الإيجاب، كالحبّ والبغض، والولاء والهجر، ونحو ذلك.
ثانيًا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه القاعة الشَّرعيَّة والأوامر الإلهيَّة، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدَّها الشَّارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدّين، وليس خروجًا عنه في الأصل، بل هو نابع من الرَّغبة في الالتزام به (2).
ثالثًا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركًا (3) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا التَّرك على سبيل العبادة والتقرّب إلى الله كما يفعل بعض الصّوفيَّة والنَّباتيّين (4).
رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقاديّ وعمليّ.
والاعتقاديّ على قسمين:
اعتقادي كلّي، واعتقادي (فقط).
والمراد بالغلوّ الكلّي الاعتقادي ما كان متعلّقًا بكلِّيَات الشَّريعة، وأمَّهات مسائلها.
أمَّا الاعتقادي - فقط - فهو ما كان متعلّقًا بباب العقائد دون غيرها، كالغلوّ في الأئمَّة وادِّعاء العصمة لهم، أو الغلوّ في البراءة من المجتمع العاصي، أو تكفير أفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلوّ الكلّي الاعتقادي الغلوّ في فروع كثيرة إذ أن المعارضة الحاصلة به للشَّرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلّيّ (5).
أمَّا الغلوّ الجزئي العمليّ، فهو ما كان غلوًّا في جزئيَّة من جزئيَّات الشَّريعة ومتعلّقًا بباب العمليَّات دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواءً أكان قولا بالّلسان أو عملا بالجوارح (6).
والغلوّ الكّليّ الاعتقاديّ أشدّ خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلوّ العمليّ، إذ أنَّ الغلوّ الكليّ الاعتقاديّ هو المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصّراط المستقيم، وذلك كغلوّ الرّافضة والخوارج (7).
خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلوّ تجاوز الأكمل إلى ما يؤدّي إلى المشقَّة ونحوها، إذ ليس الأكمل في كميَّة العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدَّة تتعلّق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصَّدقة - مثلا -: يُراعى فيها: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمال المتصدِّق به، ولا يُسمَّى كمالا كليًّا بالنَّظر للكمال الجزئيّ.
قال ابن المنيّر: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل (8).
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أنَّ هذا المرء من الغُلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يُدركون حدود هذا العمل، ويعلمون أبواب العقيدة وفروعها، لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، فقد يكون الأمر مشروعًا ويوصف صاحبه بالغلوّ، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسِّكين بالكتاب والسنَّة يُوصفون بالغلوّ والتّطرُّف والتَّزمُّت ونحوها.
ولذلك فإنّ المقياس في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنَّة، وليست الأهواء والأعراف، وما تواضع عليه النَّاس، وقد ضلَّ في هذا الباب أُممٌ وأفراد وجماعات.
وبعد أن تبينَّ لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعًا، وما يتعلَّق به من معانٍ وأقسام، أبيِّن معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتَّضح صلته بالغلوّ:
الإفراط
لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
__________
(1) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم (2/1020) رقم (1401).
(2) - الغلو في الدين ص (84).
(3) - مع أن الترك قد يكون فعلا.
(4) - انظر: الغلو في الدين ص (84).
(5) - ينظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/289) والغلو في الدين ص (70).
(6) - انظر: الغلو في الدين ص (77).
(7) - انظر: الغلو في الدين ص (70).
(8) - انظر: فتح الباري (1/94) والغلو في الدين ص (85).(/17)
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يقولون: إيَّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته (1).
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ (2).
وفي لسان العرب: وأمر فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ.
والفُرطة - بالضم -: اسم للخروج والتقدّم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - نهاك عن الفُرْطَة في البلاد، وفي رواية: نهاك عن الفُرْطَة في الدّين، يعني السّبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ.
والإفراط: الإعجال والتقدّم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدَّم.
وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط(3).
قال - تعالى -: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طه: من الآية45).
قال الطبري: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي، يقال منه، أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدَّى.
وأمَّا التَّفريط فهو التَّواني، يُقال منه: فرَّطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه.
قال ابن زيد: (نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طه: من الآية45) قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك أو أمرك، يفرط ويعجّل (4).
وقال الفرَّاء: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طه: من الآية45) قال: يعجّل إلى عقوبتنا(5).
ونخلص ممَّا سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحدّ، والتقدّم عن القدر المطلوب، وهو عكس التَّفريط - كما سيأتي-.
ومن خلال ما سبق يتَّضح من تعريفي الغلوّ والإفراط أنَّ كلا منهما يصدق عليه: تجاوز الحدّ، وقد فسَّر الغلوّ بالإفراط كما سبق.
وإن كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثَّاني في بعض ما يستعمل فيه.
فالذي يُشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيِّبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يُعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدَّى بها حدود مثل تلك العقوبة فوصف الإفراط ألصق به من الغلوّ، فنقول: عاقبه وأفرط في عقوبته. وهكذا.
والذي يعنينا في هذا المبحث أن كلا من الغلوّ والإفراط خروج عن "الوسطيَّة" فكل أمر استحقّ وصف (الغلوّ) أو (الإفراط) فليس من الوسطيَّة في شيء.
ثانيًا: التفريط والجفاء
بعد أن عرَّفنا معنى الغلوّ والإفراط، وما يدّل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو: التَّفريط والجفاء. والتَّفريط في اللغة هو التَّضييع كما في لسان العرب.
وقال الزَّجَّاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28). أي كان أمره التَّفريط وهو تقديم العجز.
وفي حديث عليّ - رضي الله عنه - لا يرى الجاهل إلا مفْرِطًا أو مفرِّطًا، وهو بالتخفيف: المسرف في العمل، وبالتّشديد المقصِّر فيه.
ومنه الحديث: - أنَّه نام عن العشاء حتى تفرّطت - أي: فات وقتها قبل أدائها.
وفرّط في الأمر يُفرِّط فرطًا، أي: قصَّر فيه وضيَّعه حتى فات، وكذلك التّفريط (6).
ومنه قول الرسول، - صلى الله عليه وسلم - - أما إنَّه ليس في النوم تفريط - (7). وإذن فالتَّفريط هو التَّقصير والتَّضييع والتَّرك.
قال ابن فارس: وكذلك التَّفريط، وهو التَّقصير، لأنَّه إذا قصر فيه فقد قعد به عن رتبته التي هي له(8).
وقال الجوهري: فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصَّر فيه، وضيَّعه، حتى فات، وكذلك التَّفريط (9).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع.
قال - تعالى -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها.
قال السّدي: أما (يَا حَسْرَتَنَا) (الأنعام: من الآية31) فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(10).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم، فقولهم: (فَرَّطْنَا) (الأنعام: من الآية31) أي: قدَّمنا العجز.
وقيل: "فرَّطنا" أي: جعلنا غير الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا (11).
وقال - تعالى - في سورة الأنعام - أيضًا-:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه (12).
__________
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (فرط) (4/490).
(2) - انظر: الصحاح مادة (فرط) (3/1148).
(3) - انظر: لسان العرب مادة (فرط).
(4) - انظر: تفسير الطبري (16/170).
(5) - انظر: لسان العرب مادة (فرط).
(6) - انظر لكل ما سبق: لسان العرب، مادة (فرط).
(7) - جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1/473) رقم (681). وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1/121) رقم (441). والترمذي (1/334) رقم (177). والنسائي (1/294) رقم (614). وغيرهم.
(8) - معجم مقاييس اللغة مادة (فرط) (4/490).
(9) - انظر: الصحاح مادة (فرط) (3/1148).
(10) - انظر: تفسير الطبري (7/178).
(11) - انظر: تفسير القرطبي (6/413).
(12) - انظر: تفسير الطبري (7/188).(/18)
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أمّ الكتاب (1).
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38) قال: لم نغفل، ما من شيء إلا وهو في الكتاب (2).
وقال - تعالى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).
قال الطبري: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: "لا يُفرّطون". لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: "لا يفرّطون". لا يضيِّعون (3).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف (4).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80) قصَّرتم في شأنه (5).
وقال - تعالى - في سورة النحل: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل:62).
قال سعيد بن جبير: (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) منسيّون مضيّعون.
وقال الضَّحَّاك: متروكون في النَّار.
وقال قتادة: مضاعون.
وقال آخرون: إنَّهم معجلون إلى النَّار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانًا في طلب الماء إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية. وقيل غير ذلك. ورجّح الطبري أن معنى (مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) مخلّفون متروكون في النَّار، منسيّون فيها (6).
وقال - تعالى - في سورة الكهف: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28).
روى عن مجاهد: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) ضائعًا.
وروي عنه: ضياعًا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: معناه: ضياعًا وهلاكًا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذ أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرّياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حدّه، فضيّع بذلك الحقّ وهلك (7).
وقال ابن الجوزي: في الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنّه أفرط في قوله، روي عن ابن عباس.
والثاني: ضياعًا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة، سرفًا وتضيّيعًا.
الثالث: ندمًا، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة.
الرابع: كان أمره التَّفريط، والتَّفريط: تقديم العجز، قاله الزَّجَّاج (8).
وفي سورة الزمر: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر:56).
قال الطبري: يقول: على ما ضيَّعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.
وروي مثل ذلك عن مجاهد والسّدّي (9).
وقال القاسمي: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (الزمر: من الآية56) أي قصَّرت. (فِي جَنْبِ اللَّهِ) (الزمر: من الآية56) أي في جانب أمره ونهيه (10).
هذه هي الآيات التي ورد فيها ما يدلّ على التَّفريط، كما بيَّنت من خلال أقوال المفسّرين، وكلّها تدلّ على التَّضييع والتَّقصير، والتَّرك والتَّهاون، مع اختلاف يسير بين مدلول هذه المعاني.
وكلّها في مقابل الإفراط والغلوّ، كما سبق بيانهما.
أما الجفاء
فقال ابن فارس: الجيم والفاء والحرف المعتلّ يدلّ على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل اجفوه، وهو ظاهر الجفوة، أي: الجفاء، وجفا السَّرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا.
وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئًا يُقال جفا عنه يجفو.
والجفاء: خلاف البّر، والجفاء: ما نفاه السّيل، ومنه اشتقاق الجفاء (11).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (7/188).
(2) - انظر: تفسير الطبري (7/188).
(3) - انظر: تفسير الطبري (7/218).
(4) - انظر: تفسير الطبري (13/35).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (13/35).
(6) - انظر لما سبق: تفسير الطبري (14/177).
(7) - انظر: تفسير الطبري (15/236).
(8) - انظر: زاد المسير (5/133).
(9) - انظر: تفسير الطبري (24/19).
(10) - انظر: تفسير القاسمي (14/5146).
(11) - انظر: مقاييس اللغة مادة (جفو) (1/465).(/19)
وقال ابن منظور(1) جفا الشيء يجفو جفاءً وتجافى: لم يلزم مكانه، كالسَّرج يجفو عن الظّهر، وكالجّنب يجفو عن الفراش، وفي التَّنزيل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16) وفي الحديث: - أنه كان يجافي عضديه عن جنبيه في السّجود - (2) أي يباعدهما.
وفي الحديث: - إذا سجدت فتجاف - وهو من الجفاء: البعد عن الشيء، ومنه الحديث: - اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه - (3). أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.
قال أبو عبيد في معنى الجفاء في الحديث: والجافي عنه التَّارك له، وللعمل به.
وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال، - صلى الله عليه وسلم - - الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار - (4).
وفي الحديث الآخر: - مّنْ بدا جفا - (5). بالدّال المهملة، خرج إلى البادية، أي: من سكن البادية غلظ طبعه، لقلّة مخالطة النَّاس.
والجفاء غلظ الطّبع.
وفي صفته، - صلى الله عليه وسلم - ليس بالجافي المهين، أي ليس بالغليظ الخلقة، ولا الطّبع (6).
وقال - تعالى -: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17). قال الطبري: وأمَّا الجفاء، فإني حدّثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: يُقال: قد أجفأت القدور، وذلك إذا غلت فانصبّ زبدها، أو سكنت فلا يبقى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربيَّة من أهل البصرة أن معنى قوله: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى: في معنى نشف (7).
وقال - تعالى -: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16). قال الطبري: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع عن مضاجعهم التي يَضْطَجعون لمنامهم، ولا ينامون.
وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النبو.
وإنَّما وصفهم - تعالى ذكره - بتجافي جُنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصّلاة.
ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأنَّ جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلا منهم بدعاء ربّهم وعبادته، خوفًا وطمعًا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلا.. إلخ (8).
ومما سبق يتَّضح أن الجفاء هو النبوء والتَّرك والبعد، وهو غالبًا ما يحدث خلاف الأصل والعادة.
وأكثر ما يرد الجفاء لما هو محظور ومنهيّ عنه، كالجفاء بما يقابل الصلة والبّر، والجفاء الذي هو من الشّدة والغلظة، ونحو ذلك.
وسأذكر بعض الأمثلة التي يتَّضح فيها معنى التَّفريط والجفاء:
1- تأخير الصلاة عن وقتها تفريط، ولذلك ورد في الحديث: - أمَّا إنّه ليس في النوم تفريط، إنَّما التَّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتى يجيء وقت الصَّلاة الآخر - (9).
2- رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة تفريط.
3- إهمال تربية الأولاد، تفريط.
4- ترك الأخذ بالأسباب، تفريط.
5- تأخير عمل اليوم إلى الغد - دون سبب - تفريط.
6- الغلظة في المعاملة، جفاء.
7- عقوق الوالدين، جفاء.
8- قطع الأرحام وعدم صلتهم، جفاء وتفريط.
9- عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم، جفاء وتفريط.
10- السلبيَّة مع واقع المسلمين وشئونهم وشجونهم، جفاء وتفريط.
وبهذا يتبيَّن معنى التّفريط والجفاء، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا. وهما يُقابلان معنى الغلوّ والإفراط.
وعند التَّأمّل في استعمال العرب لهما يلحظ أن الجفاء يستعمل - غالبًا - فيما فيه قصد الأمر من التَّرك والبعد وسوء الخلق. أمَّا التَّفريط فمنشؤه - غالبًا - التَّساهل والتَّهاون.
والخلاصة:
__________
(1) - انظر: لسان العرب مادة (جفا).
(2) - أخرجه مسلم (1/357) رقم (497) من حديث ميمونة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (1/194) رقم (730). والنسائي (2/211) رقم (1101) من حديث أبي حميد الساعدي. وأخرجه أحمد (3/295) من حديث جابر. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4738).
(3) - أخرجه أحمد في المسند (3/428، 444). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/170، 171): رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168).
(4) - انظر: غريب الحديث (1/483) ووسطية أهل السنة ص (14) وهذا الحديث أخرجه الترمذي (4/321) رقم (2009). وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجة (2/1400) رقم (4184). وأحمد (2/501). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3200).
(5) - أخرجه أحمد (2/371، 440). وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1272).
(6) - انظر: لسان العرب مادة (جفا).
(7) - انظر: تفسير الطبري (13/137).
(8) - انظر: تفسير الطبري (21/99-102).
(9) - جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1/473) رقم (681). وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1/121) رقم (441). والترمذي (1/334) رقم (177). والنسائي (1/294) رقم (614). وغيرهم.(/20)
أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة، وبمقدار اتّصافه بأيّ من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطيَّة وتجافيه عنها.
ثالثًا: الصراط المستقيم
بعد أن عرفنا مدلول الغلوّ والجفاء والإفراط والتَّفريط، نأتي للحديث عن الصّراط المستقيم.
إنَّنا بدون فهم معنى (الصّراط المستقيم)، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم (الوسطيَّة) على معناها الصّحيح.
وقد ورد لفظ (الصّراط المستقيم)، في القرآن الكريم عشرات المرَّات، وجاء - أيضًا – بلفظ (صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء: من الآية68) و (صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16) و (صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) ونحو ذلك.
ففي سورة الفاتحة نجد قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ثم يفسّره بأنه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7).
وفي البقرة جاء قوله - تعالى-: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وجاء بعد هذه الآية مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين. وعيسى، عليه السلام، في سورة آل عمران يقول لقومه: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السّور التي ورد فيها الحديث عن الصّراط المستقيم: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39) (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) وفي سورة إبراهيم سمَّاه صراط العزيز الحميد. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: من الآية1) وفي طه، وصفه بالسّويّ، فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (طه: من الآية135) وفي الحجّ أضافه للحميد فقال: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج:24) وفي المؤمنون عرَّفه دون وصف أو إضافة: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) وفي مريم يقول إبراهيم، عليه السلام، لأبيه: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) ويقول الله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
هذه بعض الآيات التي وردت في "الصّراط" فما معناه؟:
قال الطبري: في قوله - تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6).
أجمعت الأمَّة من أهل التَّأويل جميعًا على أنَّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، من ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم (1)
وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد، - صلى الله عليه وسلم - - (اهدنا الصّراط المستقيم): يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوِجَ له - (2).
قال الطبري: وإنّما وصفه الله بالاستقامة، لأنَّه صواب لا خطأ فيه (3).
وقال: كل حائد عن قصد السّبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق(4).
وقال ابن كثير: واختلفت عبارات المفسّرين من السَّلف والخلف في تفسير الصّراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله(5).
وأعرِضُ الآن بعض أقوال المفسّرين الذين أشار إليهم ابن كثير - رحمه الله - (6).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/73).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/74).
(3) - انظر: تفسير الطبري (1/75).
(4) - انظر: تفسير الطبري (1/84).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (1/27).
(6) - انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري (1/74، 75). وزاد المسير (1/15).(/21)
فقد روى الطبري عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: - وذكر القرآن فقال: هو الصّراط المستقيم - (1).
وقال أبو العالية: هو رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر، قال الحسن: صدق أبو العالية ونصح.
وقال القاسمي في تفسير لهذه الآية في سورة الفاتحة: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهمّ نأثره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجليلة، قال - رحمه الله تعالى -: ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسّرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًّا، وإنًّما هو اختلاف تنوّع، أو اختلاف في الصّفات أو العبارات.
وعامّة الاختلاف الثابت عن مفسّري السَّلف من الصحابة والتَّابعين هو من هذا الباب.
فالله - سبحانه وتعالى - إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) فكل من المفسّرين يعبّر عن الصّراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حقّ، بمنزلة ما يُسمي الله ورسوله، وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدلّ على صفة من صفاته.
فيقول بعضهم: الصّراط المستقيم: كتاب الله أو اتّباع كتاب الله.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو الإسلام أو دين الإسلام.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو السنَّة والجماعة.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو العبوديَّة، أو طريق الخوف والرضى والحبّ، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنَّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات.
ومعلوم أنَّ المسمَّى هو واحد، وإن تنوّعت صفاته وتعدَّدت أسماؤه وعباراته (2).
ثم قال في موضع آخر: فإنَّ الصّراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نُهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبوديَّة، وكل هذا حقّ، فهو موصوف بهذا وبغيره (3).
قال القاسمي: الصّراط المستقيم: أصله الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
ويُستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطّريق الواضح للحسّ، كالحقّ للعقل، في أنَّه: إذا سير بهما أبلغا السّالك النّهاية الحسنى (4).
قال ابن عاشور: والصّراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار لمعنى الحقّ الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله؛ لأنَّ ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.
والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قوّمته فاستقام.
والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيمًا، وهو الجادّة، لأنَّه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.
والمستقيم هنا مستعار للحق البيّن الذي لا تُخالطه شبهة باطل، فهو كالطّريق الذي لا تتخلّله بنيات. ثم قال: والأظهر عندي أنَّ المراد بالصّراط المستقيم: المعارف الصالحات كلّها من اعتقاد وعمل (5).
هذه بعض أقوال المفسّرين في معنى الصّراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة.
وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصّراط المستقيم سبق ذكر بعضها، فإنَّ معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولبيان ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات بإيجاز:
قال - تعالى -: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) قال مجاهد: وسدَّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَجَ فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربّنا لأنبيائه، وأمر به عباده(6).
وفي قوله - تعالى -: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) قال الطبري: هو صراط ربك - يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه (7).
__________
(1) - أخرجه الترمذي (5/158، 159) رقم (2906) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وأخرجه - أيضًا - الدارمي (2/527) رقم (3332). وأخرجه أحمد مختصرًا (1/91). قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص (11، 12): وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.
(2) - انظر: تفسير القاسمي (1/20).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (1/22)، حيث نقل هذا الكلام عن شيخ الإسلام.
(4) - انظر: تفسير القاسمي (1/19).
(5) - انظر: تفسير التحرير والتنوير (1/1/190).
(6) - تفسير الطبري (7/262).
(7) - تفسير الطبري (8/32).(/22)
وفي قوله - تعالى -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) قال الطبري: هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده، (مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق (1).
وفي قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) قال الطبري: يقول: قل لهم: إنَّني أرشدني ربي إلى الطّريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفيَّة المسلمة، فوفّقني له (2).
وفي سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) قال الطبري: يقول: لأجلسنَّ لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحقّ، وهو الإسلام وشرائعه.
ونقل نحو ذلك عن مجاهد (3).
وفي قوله - تعالى - في سورة مريم: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) قال الطبري: يقول: أبصِّرك هدي الطّريق المستوي الذي لا تضلّ فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه(4).
وفي قوله - تعالى -: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) قال الطبري: يقول عن محجّة الطّريق، وقصد السّبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون(5).
وبهذا يتَّضح أن معنى الصّراط في جميع هذه الآيات معنًى واحدًا، وإن اختلفت العبارة والسّياق.
الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم
مما تقدَّم يتَّضح أن معنى الصّراط المستقيم يدلّ على الوسطيَّة في مفهومها الشَّرعي الاصطلاحيّ الذي سبق تقريره، وبخاصّة أن ما جعلته لازمًا لمفهوم الوسطيَّة وإطلاقها قد تحقَّق في معنى الصّراط المستقيم، فالخيريَّة والبينيَّة ظاهرتان في هذا الأمر.
فنجد في سورة الفاتحة لمَّا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) عرَّفه فقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7) ثم حدَّده فقال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) فجعل الصّراط المستقيم طريق الخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين.
وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضّالين.
وكذلك في سورة البقرة قال الله - تعالى -: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة: من الآية142) فقال بعدها مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وقد تحدَّث المفسّرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد أن (الكاف) للرّبط بين جعلهم أمَّة وسطًا وهدايتهم للصّراط المستقيم (6).
ونزيد الأمر وضوحًا في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في ذلك:
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - كنَّا عند النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخطَّ خطًّا وخطَّ خطين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطَّ الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فتفرَّق بكم عن سبيله) - (7).
وذكر القرطبي في تفسيره، قال: ذكر الطبري في آداب النّفوس حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصّراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد، - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثمَّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصّراط انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابن مسعود: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153)(8).
وبالتأمّل فيما سبق يتَّضح لنا ما يلي:
__________
(1) - تفسير الطبري (8/87).
(2) - تفسير الطبري (8/111).
(3) - تفسير الطبري (8/134).
(4) - تفسير الطبري (16/90).
(5) - تفسير الطبري (18/44).
(6) - انظر: تفسير التحرير والتنوير (2/1/15)، وتفسير الطبري (2/6).
(7) - أخرجه ابن ماجة (1/6) رقم (11). قال البوصيري في الزوائد (1/45): هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد. قلت: مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في التقريب ص (520): ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. اهـ. ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: "هذه سبيل الله". ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه). [سورة الأنعام، الآية: 163]. أخرجه أحمد (3/ 397). والدارمي (1/78، 79) رقم (202). وحسنه الألباني كما في المشكاة رقم (166) ونقل عن الحاكم تصحيحه.
(8) - انظر: تفسير القرطبي (7/138)، والوسطية في الإسلام لفريد عبد القادر ص (23).(/23)
1- أنَّ الصّراط المستقيم: يمثل قمَّة الوسطيَّة وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة والبقرة حجَّة قاطعة في ذلك.
2- أن الوسطيَّة تعني الخيريَّة، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرًا بين شرّين أو خيرًا بين أمرين متفاوتين، وقد سبق تفصيل ذلك.
3- أنَّ المقياس لتحديد الخيريَّة هو الشرع، وليس هوى النَّاس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه، فإنَّ مفهوم الوسطيَّة عند كثير من الناس تعني التّنازل أو التَّساهل بل والمداهنة أحيانًا، حيث يختارون الأمر بين الخير والشرّ وهو إلى الشرّ أقرب في حقيقته ومآله، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا.
4- أنَّ هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة (1) تجب مراعاتها عند تحديد مفهوم الوسطيَّة وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر على أمر دون آخر يؤدّي إلى خلاف ذلك ومجانية للصّواب.
5- وخلاصة الأمر: أنَّه يجب عند النظر في أيّ أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية ومدى قربه أو بعده منها دقَّة النّظر والاعتبار في حقيقة هذا الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعيًا في ذلك أمور عدَّة - كما أشرت في الفقرة السّابقة - وكلّها تنطلق من القواعد الشّرعية والضّوابط المنهجيَّة، فإذا اتَّضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصّراط المستقيم فهو داخل في الوسطيَّة التي نتحدث عنها، أمَّا إذا كان إلى الغلوّ أو الجفاء أو الإفراط أو التَّفريط أقرب حقيقة ومآلا فليس من الوسطيَّة في شيء، وإن حسبه النَّاس كذلك، وقد زلَّت في هذه المسألة عقول وأقدام.
ملامح الوسطيَّة
للوسطيَّة ملامح وسمات تحفّ بها، وتُميِّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهمّ تلك السّمات والملامح، باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطيَّة هذه الأمَّة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطيَّة.
إنَّ تحديد هذه الملامح مهمّة أساسيَّة في مثل هذا البحث، حتى لا تكون الوسطيَّة مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشّهوات.
ذلك أنَّ الوسطيَّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثَّمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمَّة، ومحور تميّزها بين الأمم؟! جعلها الله خاصيَّة من خصائصها، تكرّمًا منه وفضلا (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: من الآية21).
إنَّ أهمّ سمات الوسطيَّة ما يلي:
(أ) الخيريَّة.
(ب) الاستقامة.
(جـ) اليسر ورفع الحرج.
(د) البينيَّة.
(هـ) العدل والحكمة.
وكل سمة من هذه السّمات يندرج تحتها عدد من آحادها.
وسأعرض لكل سمة بما يُناسب المقام، ويفي بالغرض، والله الموفّق والمعين.
وأحسب أنَّ هذه الملامح بمجموعها تصلح ضابطًا لتحديد الوسطيَّة ومعرفتها، بما يجيب عن السّؤال الذي لا بدّ أن يرد في أذهان الكثيرين:
أين ضابط الوسطيَّة؟ وكيف نميزّها عن غيرها؟
أولا: الخيريَّة
قال الله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) وقال في سورة آل عمران: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) وقد ذكرت أن من معاني الوسطيَّة الخيريَّة، قال ابن كثير - رحمه الله -: والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرها (2).
وفي تفسيره لقوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) قال: يعني خير النَّاس للنّاس، والمعنى: أنَّهم خير الأمم وأنفع النَّاس للنَّاس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي خيارًا (3).
وقال الطبري: مقرّرًا خيريَّة هذه الأمَّة (أمَّة الوسط): فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران: من الآية110)؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية أن هذه الأمَّة خير الأمم التي مضت، وإنَّما يقال: كنتم خير أمَّة لقوم كانوا خيارًا فتغيّروا عمّا كانوا عليه؟!
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنَّما معناه أنتم خير أمَّة، كما قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (الأنفال: من الآية26) وقد قال في موضع آخر: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف: من الآية86) فإدخال كان في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأنّ الكلام معروف معناه.
ولو قال - أيضًا - في ذلك قائل: (كُنْتُمْ) (الأعراف: من الآية86) بمعنى التَّمام، كان تأويله: خلقتم خير أمَّة، أو وجدتم خير أمَّة، كان معنى صحيحًا(4).
__________
(1) - يختلف ذلك باختلاف الأحوال والقضايا، ولكل حالة ما يناسبها ضمن الضوابط الشرعية.
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (1/190).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/391).
(4) - انظر: تفسير الطبري (4/45).(/24)
وفي تفسيره لقوله - تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: وأمّا التّأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم (1).
وممَّا سبق يتَّضح أن الخيريَّة ممَّا فسر به معنى الوسطيَّة التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمَّة، فما هي هذه الخيريَّة التي نعرف بها وسطيَّة هذه الأمَّة؟
قال الطبري في تفسير آية الخيريَّة:
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، إذ كنتم بهذه الشّروط التي وصفهم - جلّ ثناؤه - بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمَّة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتُؤمنون بالله، أخرجوا للنَّاس في زمانكم (2).
قال رشيد رضا:
والحق أقول: إنّ هذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، حتَّى تركت الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
ثم قال: وقد بيَّن الفخر الرازي كون وصف الأمَّة هنا بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان علّة لكونها خير أمَّة أُخرجت للنّاس، فقال:
واعلم أنَّ هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريَّة، كما تقول: زيد كريم، يطعم النَّاس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.
وتحقيق الكلام أنَّه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونًا بالوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف.
فهنا حكم - تعالى - بثبوت وصف الخيريَّة لهذه الأمَّة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطّاعات، أعني الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيريَّة معلّلة بهذه العبادات (3).
وقال القاسمي:
ثم بيّن وجه الخيريَّة بما لم يحصل مجموعه لغيرهم، بقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) فبهذه الصفات فضّلوا على غيرهم ممن قال - تعالى - فيهم: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150).
قال أبو السّعود:
(وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أي إيمانًا متعلّقًا بكلّ ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنّما لم يُصرّح به تفصيلا لظهور أنّه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنَّه هو الإيمان بالله - تعالى - حقيقة(4).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدلّ على خيريَّة هذه الأمَّة منها:
1- روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّكم تتّمون سبعين أمَّة أنتم خيرها وأكرمها على الله - (5).
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - - أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: نصرُ بالرّعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمدَ، وجعل التّراب لي طهورًا، وجعلت أمّتي خير الأمم - (6).
فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبيّن خيريَّة هذه الأمَّة، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، وقد جمع المفسّرون بين معنيي الخيريَّة والوسطيَّة، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر، كما مرَّ معنا.
ولأهمّيَّة بيان معنى الخيريَّة، فسأذكر أبرز أوجه هذه الخيريَّة، ليتَّضح لنا معنى الوسطيَّة.
أبرز أوجه خيرية هذه الأمَّة (7)
قال الأستاذ سيد قطب:
فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة: من الآية18). كلا إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر(8).
إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة.
__________
(1) - انظر تفسير الطبري (2/7).
(2) - انظر: تفسير الطبري (4/44).
(3) - انظر: تفسير المنار (4/60).
(4) - انظر: تفسير القاسمي (4/936).
(5) - أخرجه الترمذي (5/211) رقم (3001). وابن ماجة (2/1433) رقم (4288) وأحمد (5/5). والدارمي (2/404) رقم (2760). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه الألباني كما في المشكاة رقم (6285).
(6) - أخرجه أحمد (1/98، 158). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/265، 266): وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيئ الحفظ. قال الترمذي: صدوق، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميد يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت: فالحديث حسن. والله أعلم. اهـ.
(7) - انظر: وسطيَّة أهل السُنَّة ص (224). فقد فصَّل في ذلك.
(8) - انظر: في ظلال القرآن (4/447).(/25)
إنَّ هذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها.
1- الإيمان بالله: قال - سبحانه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110). فقرن الله - جلّ وعلا - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به - تعالى -، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره.
وهل يمكن أن نتصوّر خيريَّة دون إيمان بالله - تعالى -؟ والإيمان بالله - تعالى - يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام، لأنَّ العلماء ذكروا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهنا جاء ذكر الإيمان وحده، فهو يشمل الإيمان والإسلام.
وعند التّأمل في معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل المشهور، قال: - أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه - (1). نجد الشّمول والتكامل، كما قال - سبحانه-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
فالإيمان بالله يشمل الأمور العقديَّة والعمليَّة، الظاهرة والباطنة، ما يتعلّق منها بعالم الغيب والشّهادة، ما كان منها في الدّنيا أو الآخرة.
والإيمان بالله أعمق دلالة وأثرًا ممّا قد يتصورّه كثير من النَّاس، فليس هو مجرّد التّصديق كما فسّره بعض المتكلّمين، ممّا أودي بكثير من النَّاس إلى اعتناق مبدأ الإرجاء، وهم لا يعلمون، وهم بهذا السّلوك والتّفسير فرّغوا الإيمان من معناه الحقيقي ومدلوله الصّحيح.
وإنّما هو علم واعتقاد وعمل، والإسلام من لوازم الإيمان، فمقتضى الإيمان بالله وكتبه ورسله، يستلزم العمل بما أمر به الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ولهذا فإن شرط الإيمان في تحقيق الخيريَّة جاء مغنيًا عمّا يشمله من أركان الإيمان والإسلام.
ولذلك فإنَّنا قبل أن نحكم بخيريَّة جماعة أو فرد أو عمل، لا بدّ من التّحقّق في توافر شرط الإيمان فيه بمعناه الشّامل المتكامل، فقد قال - سبحانه-: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )(آل عمران: من الآية110). مع أنَّهم يدّعون الإيمان، ولكن العبرة بالحقائق لا بالدّعاوى.
وعند التّأمّل في قوله- تعالى-: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أجد أن فيه معنى الخير والإنشاء، فهو خبر عن حقيقة واقعة بإيمان هذه الأمَّة، حيث تميّزت عن غيرها في شمول هذا الإيمان واستمراره، ويكفي دليلا عن شمول إيمانها شهادتها لبعض رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بلّغوا رسالة ربّهم إلى أقوامهم. فهذا الإيمان الموجود والمتحقّق أهَّلها لهذه الخيريَّة.
ثم فيه معنى الإنشاء والطلب، حيث جعل من لوازم الخيريَّة وجود هذا الإيمان، فكما أن هذا الإيمان موجود في هذه الأمَّة بجملتها وبخاصّة القرون المفضّلة، فإنّ على من أراد من أفراد هذه الأمَّة أن يكون من خيارها أن يُحقّق معنى الإيمان في نفسه، بمعناه الشّامل المتكامل.
فإذا تحقّق الإيمان تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشَّرعية وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها.
2- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: من الآية110).
والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79). ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا الحاضر وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل.
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/38، 39) رقم (8، 9). وأبو داود (4/224) رقم (4695). والترمذي (5/8، 9) رقم (2601) وغيرهم.(/26)
قد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا ولو كانوا قلَّة قليلة، وهذا مصداق قول الرسول، - صلى الله عليه وسلم - - لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك - (1). الحديث.
فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام السَّاعة، وهي طائفة ظاهرة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
وكما ذكرت في موضوع الإيمان، فإن ذكر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الآية خبرًا وإنشاءً، فهو خبر عن حقيقة واقعة ومستمرَّة، حيث إنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مستمرّ في هذه الأمَّة إلى قيام الساعة، وهو كذلك (إنشاء) فمن أراد الخيريَّة فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من خصائص هذه الأمَّة، ففيه معنى الأمر - أيضًا-.
وقد يسأل سائل: أليس الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فرعًا عن الإيمان، فلماذا أفرده دون سائر أبواب الإيمان العمليَّة؟
وألخّص الجواب على هذا السؤال بما يلي:
1- أهميّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وأثره المباشر في تحقيق الخيريَّة دون سواه.
2- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، سياج الإيمان، وركن أساس لبقائه وحمايته.
3- أن أغلب الأعمال خاصّة غير متعديّة، أمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، فإنّ نفعه لا يقتصر على فاعله بل يتعدّاه إلى المأمور والمنهي، وكذلك إلى الأمر المأمور به والمنهيّ عنه، فمثلا الأمر بالصلاة، لا يقتصر نفع هذا الأمر على جهة واحدة بل يشمل عدّة أطراف:
(أ) الآمر: حيث قام بما أوجبه الله عليه، وهذه عبادة له نفعها وأجرها.
(ب) المأمور: حيث ينتفع بهذا الأمر إن استجاب له، وقد يكون هذا الأمر سببًا لهدايته.
(جـ) المأمور به: فإن الأمر بالصلاة سبيل للمحافظة عليها واستمرارها، وهذا فيه من النّفع العظيم ما لا يخفى.
4- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر له صفة الشّمول، فليس متعلّقًا بعمل معيّن، بل يشمل كل معروف وكل منكر، بينما سائر الأعمال نجدها أعمالا مخصوصة معينة، فالصيام يتعلّق بعمل مخصوص، والزّكاة والحج وغيرهما كذلك. ولذلك فهو يشترك مع الإيمان في صفة الشّمول، حيث إن الأمر بالمعروف يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام.
والرسول، - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري: - من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان - (2). فجاء المنكر مُنَكّرًا هنا دلالة على عمومه، أي: أيّ منكر يراه المسلم، فهو يشمل كل منكر، كما أن الأمر يشمل كل معروف، فيدخل في ذلك جميع ما شرعه الله، فيؤمر به وينهى عن مخالفته (3).
وممّا سبق يتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، من أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، له صور متعدّدة، وليس محصورًا بحالة أو صفة واحدة كالكلام مثلا، بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل - كالقدوة مثلا - فمن صلّى أمام الناس لم يقوموا إلى الصلاة فهو داخل في الأمر بالمعروف، وإن لم يتكلّم، وكذلك من تصدَّق ليُقتدى به، فهو من الأمر بالمعروف، ومن خرج من مجلس فيه منكر فإنَّه من تغيير المنكر، ولو لم يتكلّم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (الأنعام: من الآية68) وأضعف أبواب تغيير المنكر أن يكون في القلب كما ورد في الحديث.
وأخيرًا:
فإنّه إذا تحقّق الإيمان بمعناه الشّامل المتكامل، وجاء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يحوطه ويحرسه، فإنّنا سنرى الخيريَّة التي أخبرنا الله بها ماثلة أمام أعيننا، لا يزيغ عنها إلا هالك.
هذه أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، وما عداهما من أوجه فأرى أنها داخلة فيما ذكرت دلالة أو ضمنًا.
ثانيًا: الاستقامة
الوسطيَّة استقامة، ولو لم تكن على نهج الاستقامة لكانت انحرافًا، والانحراف إمّا إفراط أو تفريط، وذلك ضد الوسطيَّة ومباين لها، كما سبق بيان ذلك.
__________
(1) - أخرجه مسلم (3/1523) رقم (1920). وأبو داود (4/98) رقم (4252). وابن ماجة (2/1304) رقم (3952). وأحمد (5/278).
(2) - أخرجه مسلم (1/69) رقم (49). وأبو داود (1/297) رقم (1140). والنسائي (8/111) رقم (5008) وغيرهم.
(3) - انظر: تفسير المنار (4/63).(/27)
وهناك شعور لدى بعض النَّاس أن الوسطيَّة تعني التنازل - ولو قليلا- عن حقيقة الأمر والنّهي، ولقد عبَّر أحد الباحثين عن هذا الشّعور الذي يختلج في صدور بعض النَّاس، حيث طرح سؤالا ورّد عليه، وممّا قاله: هل المقصود بالوسطيَّة مرونة الأمَّة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليّتها للأخذ والعطاء والتّنازل عن جزء ممّا عندها، من أجل تنازل الطّرف الآخر، والالتقاء عند نقطة وسط تُرضي جميع الأطراف؟
ثم ردّ على هذا المسلك وبيَّن مخالفته لحقيقة الوسطيَّة (1).
ومن هنا فإنَّ من ملامح الوسطيَّة، بل وضوابطها الاستقامة، ولذلك فمن ادَّعى الوسطيَّة مع خروجه عن الاستقامة، فهذه ليست الوسطيَّة الشّرعية في شيء، بل هي وسطيَّة نسبيَّة غير التي نتحدَّث عنها.
ولذا فإنَّ من المناسب - ونحن نتحدَّث عن ملامح الوسطيَّة - أن أُبيِّن معنى الاستقامة وحدودها ليتضح المراد:
فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة وتحثّ عليها، فالله - جلّ وعلا - يقول لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وفي سورة الشورى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16). وفي سورة فصلت: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: من الآية6). فهذه الآيات وغيرها تبينّ منزلة الاستقامَّة ومكانتها.
وحيث إنَّ لزوم الصّراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين الوسطيَّة وجوهرها، فسأقف مع (الاستقامة) وقفة مناسبة، تعريفًا وبيانًا.
تعريف الاستقامة:
قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت: من الآية30)(2). وقال ابن القيّم: الاستقامة ضد الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء(3).
وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشّمال (4).
وقال ابن القيم: قال عمر - رضي الله عنه - الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنّهي، ولا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثّعالب(5).
وقال ابن القيم - أيضًا -: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النِّيَّات والأقوال والأعمال.
ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد(6).
وهذه المعاني متقاربة، ويفسّر بعضها بعضًا.
أحاديث في الاستقامة:
في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم" - (7).
وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصّلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن - (8).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل - (9).
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص (14).
(2) - انظر: المفردات للراغب مادة (قوم).
(3) - انظر: مدارج السالكين (2/104).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (9/107).
(5) - انظر: مدارج السالكين (2/104)، وتفسير الطبري (24/115).
(6) - انظر: مدارج السالكين (2/105).
(7) - أخرجه مسلم (1/65) رقم (38). وأحمد (3/413).
(8) - أخرجه ابن ماجة (1/101، 102) رقم (277). ومالك في الموطأ (1/34) رقم (36). وأحمد (5/277، 280، 282). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة (1/122): هذا الحديث رجاله ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خوف. لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، والدارمي، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان. اهـ. وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (412).
(9) - أخرجه البخاري (7/182). ومسلم (4/2170) رقم (1816).(/28)
وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه - (1).
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: - إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلّها تكفّر اللسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا - (2).
وروى الترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: "قد قالها النَّاس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممّن استقام" - (3).
أقوال العلماء في الاستقامة:
سُئل الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئًا. قال ابن القيم: يريد الاستقامة على محض التّوحيد (4).
وفي قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). فسَّر السَّلف الاستقامة فقالوا: (5)
قال عمر - رضي الله عنه - استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثّعالب.
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - استقاموا: أخلصوا العمل لله.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - استقاموا: أدّوا الفرائض.
وبمثل ذلك فسَّرها ابن عباس - رضي الله عنه -.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: استقاموا على محبّته وعبوديَّته، فلم يلتفتوا عنه يُمنة ولا يُسرة.
ومن أقوال العلماء في الاستقامة:
قال ابن القيم: الاستقامة تتعلّق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنِّيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة(6).
وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيّم في مدارج السَّالكين ممَّا يتَّضح معه علاقة الاستقامَة بالوسطيَّة، وأنَّه لا استقامة بلا وسطيَّة، ولا وسطيَّة دون استقامة.
قال (7) وهي - أي الاستقامة - على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عاديًا رسم العلم، ولا متجاوزًا حدّ الإخلاص، ولا مخالفًا نهج السنَّة.
قال ابن القيم شارحًا قول الهروي: هذه درجة تتضمَّن سنَّة أمور: عملا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط - وهو الجور على النّفس - والتَّفريط بالإضاعة.
ووقوفًا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفًا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة. فبهذه الأمور الستَّة تتمّ لأهل هذه الدّرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إمَّا خروجًا كليًّا، وإمّا خروجًا جزئيًّا.
والسّلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما:
الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنَّة، فإنَّ الشّيطان يشمّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنَّة، أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنَّة، وشدَّة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النّفس، ومجاوزة حدّ الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزّيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النّوم، فلا يزال يحثّه ويحرّضه، حتَّى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدّها، كما أن الأوّل خارج عن هذا الحدّ، فكذا هذا الآخر خارج عن الحدّ الآخر (8).
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنَّة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التَّفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السَّلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشّيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإمّا إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيّهما ظفر، زيادة أو نقصان (9).
__________
(1) - أخرجه أحمد (3/198). قال الهيثمي في المجمع (1/58): وفي إسناده علي بن مسعدة، وثّقه جماعة، وضعفه آخرون. اهـ. قال الحافظ في التقريب ص (405): صدوق له أوهام.
(2) - أخرجه الترمذي (4/523) رقم (2407). وأحمد (3/96)، وعزاه السيوطي في الجامع لابن خزيمة والبيهقي - أيضًا- وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (351).
(3) - أخرجه الترمذي (5/351) رقم (3250). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وضعّفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (4079).
(4) - انظر: مدارج السالكين (2/104).
(5) - انظر: تفسير الطبري (24/114)، ومدارج السالكين (2/104).
(6) - انظر: مدارج السالكين (2/105).
(7) - أي أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين.
(8) - تأمل هذا الكلام تجد علاقته بالوسطيَّة وثيقة.
(9) - انظر: مدارج السالكين (2/107).(/29)
وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطيَّة وجوهرها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج
إنَّ من أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا عندما ننطق كلمة (الوسطيَّة) هو معنى اليسر والتّيسير، ورفع الحرج، وهذا الفهم صحيح فإنَّ من أبرز سمات الوسطيَّة: التّيسير ورفع الحرج.
وقد تقرَّر فيما مضى أنَّ هذا الدّين هو دين (الوسط)، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.
واليسر ورفع الحرج مرتبة عالية بين الإفراط وبين التفريط، وبين التشدّد والتنطّع وبين الإهمال والتضييع.
قال الدكتور/ صالح بن حميد:
رفع الحرج والسّماحة والسّهولة راجع إلى الاعتدال والوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطّع والتّشديد حرج من جانب عسر التكليف، والإفراط(1) والتّقصير حرج فيما يؤدّي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشّرع. قال - تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسّط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل(2).
ولأهميَّة بيان عناية الإسلام بهذا الجانب وتأكيده عليه، فسأذكر بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، وأئمة السّلف من الصّحابة وغيرهم، مع ذكر أقوال بعض المفسِّرين حول آيات التّيسير ورفع الحرج.
مع التنبيه إلى أنَّني لن أستقصي ما ورد في ذلك لصعوبته أوّلا، ولعدم الحاجة إلى ذلك ثانيًا، حيث يغني القليل عن الكثير. (وعن البحر اجتزاء بالوشل).
وقبل أن أدخل في ذكر الأدلّة من الكتاب والسنَّة أذكر تعريفًا موجزًا للتيسير ورفع الحرج فأقول:(3) .
أولا: تعريف اليسر والوسع:
قال البقاعي في تفسيره - نقلا عن الحرالي-: اليسر عمل لا يُجهد النّفس ولا يُثقل الجسم (4).
ونقل هذا القول القاسمي في تفسيره (5).
وقال الرازي: في معنى الوسع: إنَّه ما يقدر الإنسان عليه في حال السّعة والسّهولة، لا في حال الضّيق والشِّدَّة، وأمّا أقصى الطّاقة فيسمَّى جهدًا لا وسعًا، قال: وغلط من ظنَّ أن الوسع بذل المجهود(6).
وقال ابن منظور في تعريف اليسر: (7) .
اليسر: اللّين والانقياد.
والميسرة: السّعة والغنى.
وتيسير الشيء واستيسر: تسهّل.
واليسر: ضدّ العسر.
ويقول الدكتور/ صالح بن حميد بعد أن ذكر بعض هذه الأقوال:
يظهر من ذلك أن اليسر والوسع: ما يُقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقَّة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كلّ ما لديه من طاقة ومجهود، وعقّب قائلا: ومن هذا فإنّ ما ذكره ابن حزم في أصول الأحكام من أنَّ: (العسر والحرج ما لا يستطاع، أمَّا ما استطيع فهو يسر). ليس بدقيق، ولا سيَّما في إطلاق الشرع، إذ أنَّ هناك أمورًا يستطيع المكلّف عملها، مع لحوق مشقَّة أو عسر، فجاء التَّخفيف فيها إلى ما هو أيسر، ولو بذل غاية جهده وطاقته لقام بها، ومنه يتبين أن عدم الاستطاعة ليست معيار العسر الشّرعي(8).
وأختم أقوال العلماء في تعريف اليسر والوسع بما قاله الزمخشري: "إن الوسع هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، فالله لا يكلّف النّفس إلا ما يتّسع فيه طوقها، ويتيّسر عليه دون مدى غاية الطّاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلّي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من شهر، ويحجّ أكثر من حجّة" (9).
هذا ما يتعلّق بتعريف اليسر والوسع، أمّا رفع الحرج فإنَّ تعريفه يستلزم تعريف الحرج أولا: قال في لسان العرب:
الحرج: الإثم.
وقال أحمد بن يحيى: والتّحريج: التّضييق.
وقال ابن الأثير: الحرج في الأصل: الضيق.
وقيل: الحرج: أضيق الضّيق، ونسبه للزَّجَّاج في موضع آخر. وحرَّج فلان على فلان: إذا ضيَّق عليه(10).
هذا تعريف الحرج في اللغة، أمَّا في الاصطلاح: (كل ما أدَّى إلى مشقَّة زائدة في البدن أو النَّفس أو المال حالا أو مآلا)(11).
قال ابن عباس في قوله- تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). توسعة الإسلام، ما جعل الله من التّوبة والكفّارات(12).
وقال الضّحاك في تفسير الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيِّقًا(13).
وقال مقاتل بن حيان: لم يضيق الدّين عليكم ولكن جعله واسعًا لمن دخله، وذلك أنَّه ليس مما فرض عليهم فيه إلا وقد ساق إليهم عند الاضطرار فيه رخصة(14).
__________
(1) - الصحيح والتفريط، ولعله خطأ مطبعي.
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (13).
(3) - انظر لكل ما سيأتي كتاب: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية للدكتور صالح بن حميد ص (46) وما بعدها.
(4) - انظر: تفسير البقاعي (3/62).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (3/427).
(6) - انظر: تفسير الرازي (14/79).
(7) - انظر: لسان العرب مادة (يسر).
(8) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (46).
(9) - انظر: الكشاف (1/408).
(10) - انظر: لسان العرب مادة (حرج).
(11) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (47).
(12) - انظر: تفسير الطبري (17/206).
(13) - انظر: تفسير الطبري (17/207).
(14) - انظر: الدر المنثور (4/372).(/30)
وبعد هذا التّعريف للحرج يكون رفع الحرج هو:
(إزالة ما يؤدّي إلى هذه المشاقّ الموضَّحة في التَّعريف. ويتوجه الرّفع والإزالة إلى حقوق الله - سبحانه وتعالى - لأنَّها مبنيَّة على المسامحة، ويكون ذلك إمّا بارتفاع الإثم عند الفعل، وإمَّا بارتفاع الطّلب للفعل، وحينما يرتفع كل ذلك ترتفع حالة الضّيق التي يعانيها المكلّف حينما يستشعر أنَّه يقدم على ما لا يُرضي الله، وهذا هو الحرج النفسيّ والخوف من العقاب الأخرويّ.
كما يرتفع الحرج الحسيّ حينما يكون التّكليف شاقًّا فيأتي العفو من الله - سبحانه وتعالى - إمَّا بالكفّ عن الفعل الموقع في الحرج، وإمَّا بإباحة الفعل عند الحاجة إليه)(1).
ففي قوله، عليه السلام، حينما سئل عن التّرتيب بين أعمال يوم النّحر من الرّمي والحلق والطّواف والنَّحر: - افعل ولا حرج - (2). إباحة لترك التّرتيب بين هذه الشَّعائر، ورفع للإثم عمَّن لم يرتّب كترتيب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في نسكه حينما قال: - خذوا عنِّي مناسككم - (3).
وبعد أن تبيَّن لنا معنى التّيسير والوسع ورفع الحرج أذكر الأدّلة على ذلك من الكتاب والسنَّة، وأقوال السَّلف في ذلك:
الأدلة من القرآن الكريم:
وردت آيات كثيرة جدًّا تُبيِّن أنَّ هذا الدّين دين يسر، وأنَّ الله قد رفع الحرج عن هذه الأمَّة فيما يشقّ عليها، حيث لم يكلّفها إلا وسعها.
وسأذكر أدلَّة التّيسير، ثم أدلَّة رفع الحرج، ثم أدلَّة عدم التَّكليف بغير الوسع والطّاقة.
1- أدلة التيسير والتخفيف قال الله - تعالى-: (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
وقال - عز وجل - (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8).
وقال في سورة الانشراح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5، 6).
وفي سورة الطّلاق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق: من الآية4).
وقال - جلّ من قائل -: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: من الآية7).
هذه بعض الآيات التي تفيد التّيسير على هذه الأمَّة.
قال القاسمي في تفسير أية البقرة: قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية(4).
وقد ذكر المفسّرون في تفسيرهم لهذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمَّة اليسر ولم يرد لها العسر(5).
2- أدلة رفع الحرج من أقوى الأدلّة وأصرحها في الدّلالة على رفع الحرج قوله - تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78).
قال الطبري في تفسير هذه الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيّقًا(6).
وقال ابن كثير: أي: ما كلّفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا(7).
وقال- سبحانه-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: من الآية6).
وفي سورة التوبة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: من الآية91).
وقال في سورة الأحزاب: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
وفي سورتي الفتح والنور: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: من الآية61).
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج على هذه الأمَّة، وأنَّ الله لم يجعل في التّشريع حرجًا، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصّة في أحكام معيّنة، ولكنَّنا نجد التّعليل عامًّا، فكأنّ التّخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله وهو رفع الحرج عن هذه الأمَّة، فكل شيء يؤدّي إلى الحرج لسبب خاصّ أو عامّ فهو معفوّ عنه، رجوعًا إلى الأصل والقاعدة.
__________
(1) - رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص(48).
(2) - أخرجه البخاري (2/187، 188). ومسلم (2/948، 949) رقم (1306). وأبو داود (2/211) رقم (2014). والنسائي (5/272) رقم (3067). وابن ماجة (2/1013، 1014) رقم (3050، 3051، 3052).
(3) - أخرجه مسلم (2/943) رقم (1297). وأبو داود (2/201) رقم (1970). وأحمد (3/301، 318، 332، 337، 367، 378). والنسائي (5/270) رقم (3062) وغيرهم.
(4) - انظر: تفسير القاسمي (3/427).
(5) - انظر: تفسير الطبري (2/156) وتفسير ابن كثير (1/217) وغيرهما.
(6) - انظر: تفسير الطبري (17/207).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (3/236).(/31)
3- أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة قال- سبحانه- في سورة البقرة: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). وفي الآية نفسها: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286).
وقال الله- تعالى- كما في الحديث الصحيح: - قد فعلت - (1) وكذلك قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
قال الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله- تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطّاقة، فلا يكلّفها بما يتوقَّف حصوله على تمام صرف القدرة، فإنَّ عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكنَّ الله جلّت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمَّة اليسر ولم يرد بها العسر)(2).
ومن الأدلّة على أنَّ التكليف بحدود الوسع والطّاقة قوله- تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (لأعراف:42).
ويقول- سبحانه- في سورة المؤمنون: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (المؤمنون: من الآية62).
قال القاسميّ: فسنة الله جارية على أنَّه لا يكلف النّفوس إلا وسعها (3).
بل جاء تقرير هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الجزئيَّة فقال- سبحانه-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233).
وكذلك في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7).
وكذلك- أيضًا- في سورة الأنعام: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152).
هذه هي الآيات التي وردت مبيّنة أنَّ التّكليف بحسب الوسع والطّاقة، ولا شكَّ أنَّ الأحكام الشَّرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ اليسر سمة هذا الدّين، والتّوسعة على العباد خاصِّيَّة من خصائصه، فهي الحنيفيَّة السّمحة والوسطيَّة التي لا عَنَتَ فيها ولا مشقَّة(4).
الأدلة من السنة النبوية:
جاء في سورة براءة وصف الرسول، - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128). وكذلك فقد جاءت الأحاديث عنه، - صلى الله عليه وسلم - تبين يسر هذا الدِّين، وتحمل النّهي عن التّشدّد والتّعمّق والغلوّ، بل ترك، - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من الأعمال رحمة بأمّته وخشية من أن يشقّ عليها، وهذا يخالف يسر الدّين وسماحته (5).
وسأذكر بعض الأحاديث التي تؤكّد حقيقة يسر الإسلام وبعده عمَّا يخرج عن منهج الوسطيَّة.
وقد تنوَّعت أساليب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في توجيه أمّته لهذه الحقائق وتأصيلها.
فنجد في الأحاديث ما جاء صريحًا في بيان أنَّ هذا الدّين دين اليسر والسّماحة، وأنَّه، - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بذلك.
فقد روت عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا - (6).
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: - يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا - (7).
وقال، - صلى الله عليه وسلم - مبَيِّنًا حقيقة هذا الدين: - إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا - (8).
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/116) رقم (126).
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (69)، وتفسير القرطبي (3/426).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (12/4405).
(4) - انظر: رفع الحرج ص (73).
(5) - انظر: رفع الحرج ص (75)، والإشارة للغلو والمشقة.
(6) - أخرجه مسلم (2/1105) رقم (1478).
(7) - أخرجه البخاري (5/108). ومسلم (3/1359) رقم (1733).
(8) - أخرجه البخاري (1/15(.(/32)
وروى ابن عباس عنه، - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال لما قيل له: يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة" - (1).
وجاء في روايات أخرى: - بُعثت بالحنيفيَّة السّمحة - (2).
وفي رواية: - إنَّ أحبّ الدّين إلى الله الحنيفيَّة السّمحة - (3).
وعن عروة الفقيمي- رضي الله عنه- قال: - كنَّا ننتظر النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر" - (4). وما خير رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا (5).
وفي مسند الإمام أحمد، قال: قال، - صلى الله عليه وسلم - - إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره - (6).
وقال، - صلى الله عليه وسلم - في حديث محجن بن الأدرع: - إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير - (7).
وهذه الأحاديث صريحة في بيان يسر هذا الدّين وسماحته.
ونجد من أساليبه، - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب ما ورد في النّهي عن الغلوّ والتنطّع.
فعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين - (8).
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطّعون - قالها ثلاثًا (9).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: - لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم - (10).
ومن أساليبه- أيضًا- - صلى الله عليه وسلم - ترك العمل مخافة المشقَّة على أمَّته: ومن ذلك قصَّة صلاة التَّراويح، - حيث صلى، - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في رمضان فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى القابلة فكثر النّاس، ثم اجتمعوا في الليلة الثَّالثة أو الرّابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنيّ خشيت أن تُفرض عليكم" - وفي الرّواية الأخرى: - فتعجزوا عنها - (11).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كل صلاة - (12).
__________
(1) - أخرجه أحمد (1/236). والبخاري معلقًا (1/15) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/65): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولم يصرّح بالسماع. اهـ. وحسن الحافظ إسناده في الفتح (1/117).
(2) - أخرجه أحمد (5/266). قال الهيثمي في المجمع: (5/282): رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.
(3) - قال الهيثمي في المجمع (1/65). رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري منكر الحديث.
(4) - أخرجه أحمد (5/69). قال الهيثمي في المجمع (1/67)؛: رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عاصم بن هلال، وثقه أبو حاتم وأبو داود، وضعفه النسائي وغيره. قال الحافظ في التقريب ص (286): فيه لين.
(5) - أخرجه أحمد (4/338)، (5/32). قال الهيثمي في المجمع (1/66): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(6) - قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(7) - قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(8) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(9) - أخرجه مسلم (4/2055) رقم (2670). وأبو داود (4/201) رقم (4608). وأحمد (1/386).
(10) - أخرجه أبو داود (4/276، 277) رقم (4904)، وأخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية (1/117) رقم (422) وفي إسناد هذا الحديث: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ مختلف في توثيقه. قال الحافظ في التقريب ص (238) مقبول. وقال - أيضًا - في التهذيب (4/57): ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود حديثًا واحدًا.. وذكر هذا الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/259): رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة!! وضعف هذا الحديث العلامة الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6232)، والأقرب حسن هذا الإسناد. والله - تعالى - أعلم.
(11) - أخرجه البخاري (1/222). ومسلم واللفظ له (1/524) رقم (761).
(12) - أخرجه البخاري (1/214). ومسلم (1/220) رقم (252).(/33)
بل إنَّه يعمل العمل فيندم على ذلك مخافة المشقَّة على أمّته: فقد روت عائشة - رضي الله عنها- - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إنّي دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إنّي أخاف أن أكون قد شققت على أمّتي" - (1).
ووصل من رحمته، - صلى الله عليه وسلم - وتيسيره على أمّته وكرهه للمشقَّة عليهم ما يفيده هذا الحديث الذي رواه أبو قتادة، حيث قال، - صلى الله عليه وسلم - - إنّي لأقوم إلى الصّلاة وأنا أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبي فأتجوّز كراهية أن أشقّ على أمّه - (2).
ومن أساليبه في ذلك نهيه، - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عن أعمال تؤدي إلى المشقَّة والعسر:
- فقد جاء رجل إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا - قال أبو مسعود الأنصاري راوي الحديث: فما رأيت النبي، - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال: - أيّها الناس إن منكم منفّرين، فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة - (3).
- ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد - (4).
وجاء في الصّحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - - أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني، وأمره أن يركب - (5).
ومثل ذلك - قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول، - صلى الله عليه وسلم - فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم - أأنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي - (6).
وأختم هذه الأحاديث بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني بسنده عن نافع عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: - خرج رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار ليلا فمرَّ على رجل جالس عند مقراة له- وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء- فقال له عمر: يا صاحب المقراة: ولَغَتْ السّباع الليلة في مقراتك؟
فقال له النبي، - صلى الله عليه وسلم - "يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور" - (7).
ومما سبق من هذه الأحاديث يتبيَّن لنا سماحة هذا الدّين ويسره، وبعده عن الغلوّ والتّشدّد وما يؤدّي إلى المشقَّة والعسر.
أقوال السلف (8)
ما ذكرته من الأدلّة من الكتاب والسنَّة يغني عمَّا سواه، بل إن آية واحدة أو حديثًا واحدًا صحيحًا حجَّة في ذلك.
ولكن لأبين أنَّ قضيّة يسر هذا الدّين وسماحته ووسطيَّته أصبحت منهجًا عمليًّا، استجابة لله ورسوله، فسأذكر بعض ما ورد عن السّلف في هذا الباب، مع الاختصار دون إخلال أو إقلال.
يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مبيّنًا منهج الصّحابة في ذلك: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمَّة، أبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، - صلى الله عليه وسلم - ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم" (9).
وقال- أيضًا- إيَّاكم والتّنطّع، إيَّاكم والتّعمّق، وعليكم بالعتيق (10).
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - كنّا عند عمر - رضي الله عنه - فسمعته يقول: "نهينا عن التّكلّف" (11).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: هذه الصّيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنَّها تدلّ على البعد عن التّكلّف هو منهج عمر وغيره من الصّحابة (12).
__________
(1) - أخرجه أبو داود (2/215) رقم (2029). وابن ماجة (2/1018، 1019) رقم (3064). وضعّفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (2085).
(2) - أخرجه البخاري (1/173). وأبو داود (1/209) رقم (789).
(3) - أخرجه البخاري (1/172، 173). ومسلم (1/340) رقم (466، 467).
(4) - أخرجه البخاري (2/48). ومسلم (1/542) رقم (784).
(5) - أخرجه البخاري (7/234). ومسلم (3/1263، 1264) رقم (1642، 1643).
(6) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم بمعناه (2/1020) رقم (1401).
(7) - سنن الدارقطني (1/26).
(8) - انظر: رفع الحرج (87) وما بعدها.
(9) - إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (87).
(10) - انظر: إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (88).
(11) - انظر إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (88).
(12) - انظر: رفع الحرج ص (88).(/34)
وقد مرَّ عمر- رضي الله عنه- في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب: لا تخبرنا، ومضى (1).
وروي أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس؟ فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه (2).
وقال الإمام الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإنَّ أيسرهما أقربهما إلى الحقّ لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال معمر وسفيان الثوري: إنما العلم أن تسمع بالرّخصة من ثقة. فأمَّا التّشديد فيحسنه كل أحد(3).
وقال إبراهيم النخعي: إذا تخالجك أمران فظنَّ أن أحبهما إلى الله أيسرهما (4).
وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز: أفضل الأمرين أيسرهما لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (البقرة: من الآية185)(5).
والآثار في هذا كثيرة جدًّا، وما مضى فيه الكفاية- إن شاء الله-.
وبعد:
فإنَّ المتأمّل لهذه الآثار من الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمَّة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنَّه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصّحيحة، ولكن عند التأمّل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التّفريط.
والعجب أن بعض هؤلاء كأنَّه أغير على دين الله من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بل من الله- جلّ وعلا- الذي يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). وهذا لا يعني- أيضًا- التّفريط والتَّساهل والتّهاون بحجّة أن هذا الدّين يسر، وهو ما يبرّر به كثير من المقصّرين والعصاة أفعالهم، فإنَّ تحديد مفهوم اليسر والتّوسعة إلى الشَّارع لا إلى أهواء النَّاس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلوّ ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم). ثمَّ إن قضيَّة التّيسير والتّوسعة قضيَّة منهج متكامل وليست تتعلّق بجزئيَّة أو جزئيَّات كما قد يتصَّور بعض النَّاس.
وبهذا التّعريف والشّمول ندرك أنَّ هذا الأمر يندرج في منهج الوسطيَّة التي هي سمة من سمات هذه الأمَّة، وخاصيَّة من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطيَّة إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتّوسعة ورفع الحرج، وإلا تصبح الوسطيَّة معنى مفرغًا من حقيقته، وقولا نظريًّا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدّين خاصيَّة لها أثرها في حياة النَّاس ومآلهم.
رابعًا البينيَّة
ذكرت في مبحث سابق أنَّ البينيَّة من لوازم وصفات الوسطيَّة، وحيث ذكرت ذلك مختصرًا فإنّي أزيده هنا وضوحًا وبيانًا، فأقول:
إنَّ إطلاق لفظ البينيَّة يدلّ على وقوع شيء بين شيئين أو أشياء، وقد يكون ذلك حسًّا أو معنى.
وعندما نقول: إنَّ (الوسطيَّة) لا بدّ أن تتَّصف بالبينيَّة، فإنَّنا لا نعني مجرَّد البينيَّة الظَّرفيَّة، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، حيث إنَّ هذه الكلمة تعطي مدلولا عمليًّا على أن هذا الأمر فيه اعتدال وتوازن وبُعد عن الغلوّ والتّطرف أو الإفراط والتَّفريط.
وبهذا تكون البينيَّة صفة مدح، لا مجرَّد ظرف عابر.
ومن هذا التَّفسير جاءت علاقة البينيَّة بالوسطيَّة، وقد رأيت جمهورًا من العلماء ربطوا بين الوسطيَّة والبينيَّة، ولا غرابة في ذلك، فإنَّ لهذا أصلا في اللغة والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.
ولأهميَّة هذه القضيّة(6) فسأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث:
1- الإمام الطبري: حيث قال في تفسيره: وأنا أرى أنَّ الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله- تعالى ذكره- إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النّصارى الذين غلو بالتَّرهّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه.
__________
(1) - انظر: إغاثة اللهفان (1/154) ورفع الحرج ص (89).
(2) - انظر: جامع العلوم والحكم ص (269) ورفع الحرج ص (91).
(3) - انظر: جامع بيان العلم وفضله ص (285)، ورفع الحرج ص (92).
(4) - انظر: رفع الحرج ص (92)، والآثار لأبي يوسف ص (196).
(5) - انظر: المغني (3/150)، ورفع الحرج ص (92).
(6) - وذلك أن أحد الباحثين ألَّف رسالة علمية وبناها على عدم التلازم بين الوسطيَّة والبينيَّة، واعتبر أن ذلك خطأ ممن قال به، وهو الأستاذ فريد عبد القادر في رسالته: الوسطيَّة في الإسلام.(/35)
ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها(1).
2- شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرتُ كلامه سابقًا، وأُعيد بعضه هنا، حيث قال في العقيدة الواسطيَّة:
فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنَّة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمَّة، كما أنَّ الأمَّة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله- تعالى- بين أهل التّعطيل الجهميَّة، وأهل التَّمثيل المشبّهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم.
وفي باب أسماء الإيمان والدّين بين الحروريَّة والمعتزلة وبين المرجئة والجهميَّة.
وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج (2).
3- رشيد رضا حيث قال: قالوا: إنَّ الوسط هو العدل والخيار، وذلك أنَّ الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتَّفريط ميْل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.
ثم ذكر قولا لأستاذه محمد عبده حيث إنَّه يرى- أيضًا- أنَّ الوسط هو المتوسّط بين أمرين مع كونه خيارًا (3).
4- يوسف القرضاوي فقد قال: ونعني بها- أي الوسطيَّة- التوسّط أو التّعادل بين طرفين متقابلين أو متضادّين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتّأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله، ويحيف عليه، ثم ذكر بعض الأمثلة في ذلك (4).
5- محمد قطب حيث بين في كتابه "منهج التَّربية الإسلاميَّة" أنَّ الوسطيَّة هي التّوازن، والتّوازن هو العدل، حيث قال في قوله- تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسطًا في كل شيء، متوازنين، في كل ما تقومون به من نشاط.
ثم بين أنَّ الوسطيَّة تعني التَّوفيق بين أشياء كثيرة، كالتَّوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتَّوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة... وهكذا(5).
6- عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، وانظر ما قاله في رسالة القواعد الحسان لتفسير القرآن، القاعدة (24): وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسّط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(6).
7- عمر سليمان الأشقر، فقد اعتبر الوسطيَّة هي الأمر الوسط بين أمرين متطرّفين، حيث قال: من المعضلات التي لم ينجح المشرّعون من البشر في حلّها التّطرّف في التّشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلّما يوفّق واضعو القوانين إلى التوسّط والاعتدال.
وقال في موضع آخر: وإذا نظرت إلى الشّريعة الإسلامية وجدتها وسطًا في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي(7).
8- عمر بهاء الدين الأميري، فقد تناول الوسطيَّة من منطلق التوسّط بين شيئين، حتى إنَّه اعتبر من وسطيَّة هذه الأمَّة التوسّط الجغرافي في المكان والمناخ. وممَّا قال: وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمَّة أن جعل وسطيَّتها في كل مجال:
فهي موطن الرّسالة الأولى، وفي ساحتها الحضاريَّة المشعّة المترامية الأطراف- من بعد- في مناخ محتمل، وجوّ مسعف، لا في مناطق بركانيَّة زلزاليَّة، ولا لاظية استوائيَّة، ولا متجمّدة قطبيَّة، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنّشاط والإعمار الحضاري.
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهمّ، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمَّة الإسلاميّة الأولى.
فهي الوسط بين الشّمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقيا وآسيا، وطرف ممتدّ من أوروبا، وهي الرّباط البريّ بين الطّرق المائيَّة (8).
9- يوسف كمال، حيث قال: أمَّا الوسطيَّة في الإسلام فهي حدود لمنهج الحركة في طريق مستقيم إلى هدف، بعيد عن انحرافات في سبل شتّى تؤدّي للضّلال.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(2) - انظر: شرح العقيدة الواسطيَّة ص (124).
(3) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(4) - انظر: الخصائص العأمَّة للإسلام ص (127)، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص (ج).
(5) - انظر: منهج التربية الإسلامية (1/28).
(6) - انظر: القواعد الحسان ص (90).
(7) - انظر: خصائص الشريعة الإسلامية ص (86، 87)، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر (و).
(8) - انظر: وسطية الإسلام وأمَّته في ضوء الفقه الحضاري ص (58)، والوسطيَّة في الإسلام ص (و) لفريد عبد القادر.(/36)
قال عنه فريد عبد القادر: إلا أنَّه قد لازم عرضه فكرة التّوسّط بين أمرين (1).
ومن خلال ما سبق يتَّضح لنا أن صفة البينيَّة أمر أساسي في تحديد الوسطيَّة، وأنَّ هؤلاء العلماء والكُتّاب اعتبروا هذا الأمر قضيَّة مسلَّمة في تحديدهم، وتعريفهم للوسطيَّة.
وقد ذكرت الأدلّة من القرآن والسنَّة على أنَّ البينيَّة صفة لازمة للوسطيَّة، وذلك في مبحث (تحرير معنى الوسطيَّة).
وهذه البينيَّة ليست مجرّد الظّرفيَّة، وإنَّما هي التي تعطي الدَّلالة على التّوازن والاستقامَّة والعدل، ومن ثمَّ الخيريَّة، فهذه هي الوسطيَّة الحقَّة. وبهذا يتَّضح لنا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ فريد عبد القادر عندما ذهب إلى أنَّ الوسطيَّة لا تستلزم البينيَّة، ومن ثمَّ قام بتخطئة من ذهب إلى ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممَّن ذكرت سابقًا، حيث قال:
لقد ركّزت الدّراسات السّابقة حول موضوع الوسطيَّة على مفهوم التّوسّط بين أمرين. (ثم قال):
فكانت فكرة التّوسّط بين أمرين مسيطرة على الأذهان والعقول أثناء البحث لإظهار وسطيَّة الإسلام، مع التّعبير عن هذه الوسطيَّة بالخيريَّة،(ثم حكم عليها قائلا): فكانت هذه الدّراسات تخلط أثناء البحث بين ملابسات صحيحة، ونتائج غير صحيحة.
ثم ذكر أمثلة تدلّ على عدم فهمه لما ذهب إليه أولئك الأعلام، ومن ثمَّ قام بالحكم الجائر إيَّاه (2).
العدل والحكمة
أمّا العدل فقد صحّ فيه الحديث عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - حيث فسَّر قوله- تعالى-: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) بقوله: عدولا: وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال، - صلى الله عليه وسلم - - والوسط والعدل - (3).
وفي رواية الطبري: قال: - أمَّة وسطًا - عدولا (4).
وقد بيّنت أنَّ الوسطيَّة بينيَّة، ومن ثمَّ لا بد من العدل في اختيار هذا الأمر الذي بين أمرين أو عدَّة أمور.
قال القرطبي: والوسط: العدل، وأصل هذا أنَّ أحمد الأشياء أوسطها.
ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا- تبارك وتعالى- في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانًا، وإن كنَّا آخرًا زمانًا، كما قال، عليه السلام: - نحن الآخرون الأولون - (5). وهذا دليل على أنَّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا (6).
وممّا يدلّ على أنَّ العدل من ملامح الوسطيَّة قول الطبري: وأمَّا التّأويل فإنَّه جاء بأنّ الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم (7).
ثم ساق الأدلّة من السنَّة وأقوال السّلف في ذلك.
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ: إنَّ في لفظ الوسط إشعارًا بالسببيَّة، فكأنَّه دليل على نفسه، أي: أنَّ المسلمين خيار وعدول لأنَّهم وسط (8).
وإذا كان الوسط شيء بين شيئين، فإنَّه يلزم لأن يكون وسطًا شرعيًا أن يكون عدلا، لأنَّه إذا لم يكن كذلك مال وانحرف إلى أحد الطّرفين، إمَّا إلى الإفراط، وإمَّا إلى التّفريط، وهذا خروج عن حقيقة العدل، ومن ثمَّ خروج عن الوسط، ولذلك جاءت صفة الحكمة ملمحًا من ملامح الوسطيَّة، وبيان هذا: أنَّ التوسّط هو توسّط معنوي، وتحديد هذا التوسّط يكون بمراعاة جميع الأطراف، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشّرعيَّة. وبعبارة أخرى: فإنَّ الوسطيَّة أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدَّة لابدّ من مراعاتها، ولا يتحقَّق ذلك إلا بإتقان الحكمة.
ومن أجل إلقاء مزيد من الضّوء على هذه الحقيقة أذكر بعض ما ورد في الحكمة من أقوال المفسّرين، وتعريفات العلماء(9).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محلّ الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. (10)..
__________
(1) - انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127)، والوسطيَّة في الإسلام ص (ز).
(2) - انظر رسالته: وسطيَّة الإسلام ص (ب)، ومن هنا فإني أنصح طلاب العلم بعدم التعجل بتخطئة العلماء والمفكرين، وهذا لا يعني عصمتهم، ولكن كما قال الشاعر: وكم من عاتب قولا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم.
(3) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(5) - أخرجه البخاري (1/211). ومسلم (2/585) رقم (855).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (2/155).
(7) - انظر: تفسير الطبري (2/7).
(8) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(9) - انظر المزيد من التفصيل لتعريف الحكمة: رسالة المؤلف (الحكمة).
(10) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/332).(/37)
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصّائب من الحركات والأعمال (1) .
وكلام ابن سعدي وسيّد في غاية الدّلالة على صلة الحكمة بالوسطيَّة.
قال ابن القيّم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: إنّها معرفة الحقّ والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان (2).
وقال في موضع آخر: هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي (3).
وقوله: (على الوجه الذي ينبغي) من أقوى دلالات الوسطيَّة.
وقال في موضع آخر: الحكمة: أن تعطي كل شيء حقّه، ولا تعدّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه (4).
ونخلص ممّا سبق: أن الحكمة لابدّ من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطيَّة، بل إن الالتزام بالوسطيَّة وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التّفريط هو عين الحكمة وجوهرها.
وذلك أنَّ الخروج عن الوسطيَّة له آثاره السلبيَّة، إمَّا عاجلا أو آجلا، وهذا يُخالف الحكمة ويُنافيها.
ومن الأمثلة التي توضّح ذلك:
أمر الابن بالصّلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضربًا غير مبرِّح بعد بلوغ العاشرة، فإنَّنا نجد التوسّط في هذه القضية ظاهرًا بين الإفراط وبين التّفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرَّق بين من لم يبلغ السّابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عمَّا سبق.... وهكذا، فقد نزّل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها.
وصدق الله العظيم: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
دليل تطبيقي لهذه الملامح
بعد أن بيّنت ملامح الوسطيَّة سأذكر دليلا عمليًّا تبرز فيه جميع هذه الملامح، حيث يمثّل أعلى درجات الوسطيَّة: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا.
فجاء رسول الله، صلى الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغي عن سُنَّتي فليس منِّي - (5).
وسأذكر ملامح الوسطيَّة واحدة واحدة، مع بيان موضعها من الحديث:
أولا: الخيريَّة:
وهذا يتَّضح من قوله، - صلى الله عليه وسلم - - إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له - ثمَّ يبينّ أنَّه يأخذ بالوسطيَّة: فيصوم ويفطر، ويصلّي وينام، ويتزوّج النّساء، فلولا أن هذا العمل لا يعارض الخشية والتّقوى، بل يطّرد معهما لم يذكرها في هذا المقام، واستخدم هذا أفعل التفضيل "أخشاكم - أتقاكم" وهي أعلى درجات الخيريَّة.
فاتَّضح أن هذه الوسطيَّة التي يرشدنا إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمثّل الخشية والتّقوى، وهذه هي الخيريَّة في أفضل صورها.
ثانيًا: الاستقامة: وتبرز هذه الحقيقة في قوله، - صلى الله عليه وسلم - - فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي -
إذن فالاستقامة هي بأن يصوم ويفطر، وينام ويرقد، ويتزوّج النّساء، والخروج عنها انحراف عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يمثّل الوسطيَّة، لا نقول إنَّه لا يُعارض الاستقامة؛ بل هو الاستقامة بعينها، حيث جعله الرسول، - صلى الله عليه وسلم - من سنَّته، وهل الاستقامة إلا الالتزام بسنَّته والأخذ بها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج: وهذا أمر جلّي وبيِّن، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث:
تبتّل وامتناع عن النّساء والزّواج مع ما في ذلك من مشقَّة وحرج.
ويقابله تزوّج النّساء مع ما في ذلك من قضاء الوطر، والمودّة والرّحمة، وإنجاب الأولاد.
الأول يمثل الانحراف عن سنة النبي، - صلى الله عليه وسلم - مع ما فيه من مشقّة وعسر، والثاني يمثّل الوسطيَّة مع ما فيه من تخفيف وتيسير ورحمة، ودفع للحرج.
وقل مثل ذلك في الصّيام، والقيام.
إذن فالوسطيَّة في اليسر ورفع الحرج، وليس في التّكلّف والمشقَّة والعَنَت.
رابعًا: البينيَّة:
والأمثلة تبرهن على ذلك:
1- امتناع عن الزّواج مطلقًا - إفراط.
ويقابله التَّفريط وهو اتّباع الشّهوات دون وازع أو قيد.
وبينهما: قضاء الشّهوة والوطر، ولكن ضمن الضّوابط الشّرعيَّة، ويتمثَّل في الزّواج وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
2- صيام دائم - إفراط.
الإفطار دائمًا - تفريط.
الصيام أحيانًا - والفطر أحيانًا - وسط بين الأمرين - وهو المشروع في ضوابطه الشرعيَّة.
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/312).
(2) - انظر: التفسير القيم ص (226).
(3) - انظر: مدارج السالكين (2/479).
(4) - انظر مدارج السالكين (2/478).
(5) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم بمعناه (2/1020) رقم (1401).(/38)
3- القيام مطلقًا - إفراط.
النوم مطلقًا - تفريط.
القيام والنوم حسب الطّاقة ودون تكلّف - وسط، وهذا هو المشروع.
خامسًا: العدل والحكمة: وتبرز صفة العدل بالنّظر إلى مطالب النّفس وواجبات العبادة، فقد جعل لكلِّ منها نصيبًا، فعدل بين حقّ الرّبّ وحقّ النّفس، ولم يكن في ذلك حيف أو شطط، وحاشاه من ذلك.
أمّا الحكمة: فإنَّه بالنّظر إلى قدرة النَّفس ومدى تحمّلها، وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والاندفاع، فجاء الرسول، - صلى الله عليه وسلم - يضع الأمور مواضعها، ويجعلها في مسارها الطّبيعي، فإنَّ أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه(1) ولو التزم هؤلاء الرّجال بما قالوا لتعبوا عاجلا أو آجلا. ثمَّ إنَّ هذا الفعل نفسه مخالفة لصريح الحكمة وحقيقتها، وذلك أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول والعمل، وهذا هو عين ما وجَّه إليه، - صلى الله عليه وسلم -.
ومن خلال هذا التّطبيق العمليّ لملامح الوسطيَّة في ضوء هذا الحديث، يتَّضح المراد، ممَّا يساعد على فهم الوسطيَّة، واستنباطها في المباحث التالية إن شاء الله.
القرآن يقرر منهج الوسطيَّة
نزل القرآن الكريم هدايةً للنّاس ونورًا، يُخرج به الله من شاء من الظّلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطيَّة عين الهداية، وحقيقتها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضةً ترسم منهج الوسطيَّة وتدلّ عليه.
والوسطيَّة ليست محصورةً في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن من الأركان! وإنما هي منهج متكاملٌ شاملٌ، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كلّه وسطٌ، ولذلك فهذه الأمَّة هي أمَّة الوسط: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن جوهر القرآن ومقاصده.
ومن هذا المنطلق جاء القرآن الكريم مقرّرًا لمنهج الوسطيَّة في أبواب العبادات، والاعتقاد، والحكم والتحاكم، وفي باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من الأبواب والمجالات.
والناظر في كتاب الله لا يتلو بضع آيات إلا ويجد فيها ذلك صراحة أو إيماءً.
ولذلك فإن الذين حصروا الحديث عن الوسطيَّة في الآيات التي جاء فيها لفظ (الوسط) أو ما اشتق منه، قصروا الكل على بعض أجزائه، وإلا فإن بعض الآيات التي لم يرد فيها لفظ الوسط جاءت أقوى دلالة على الوسطيَّة من آيات ورد فيها هذا اللفظ.
وبيانًا لهذه الحقيقة وتجلية لها، سنعيش مع كتاب الله متأمّلين بعض ما ورد فيه، تقريرًا لهذا المنهج وتأصيلا له.
وتسهيلا للوصول إلى الهدف، سأذكر كل باب وبعض ما ورد فيه من آيات، معلّقًا على بعض الآيات بما يُبينّ المراد من إيرادها، ودلالتها على المنهج الذي نحن بصدده.
وأنبه إلى نقطتين مهمّتين:
الأولى: أن الآيات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر والاستقصاء، وإنما اكتفيت من الآيات بما كان أكثر دلالة من سواه، لأن المراد، هو بيان تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة، لا الحديث عن كل آية وردت تُقرّر منهج الوسطيَّة.
الثانية: أن الأبواب التي سأذكرها هي أبرز الأبواب التي تصلح منطلقًا للحديث عن هذا المنهج، وبخاصة أن انحراف الناس فيها عن منهج الوسطيَّة أكثر من غيرها، ولا يعني ذلك أن ماعداها ليس مهمًّا.
وهذه الأبواب هي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وقد أجد آية من الآيات تصلح دليلا في أكثر من باب، ولكنّي سألحقها بأقرب هذه الأبواب إليها، مراعاة للاختصار ودفعًا للتّكرار.
وحيث إن هناك عددًا من الآيات الدالة على الوسطيَّة غير داخلة تحت أي باب من هذه الأبواب، فسأجعلها تحت عنوان: (شواهد أخرى)، تكون ختامًا لهذه الأبواب ومكمّلة لها.
وسأفتتح الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة بوقفة مع سورة الفاتحة، في ضوء ما ورد فيها عن هذا المنهج.
ومن الله استمدّ العون وأسأله التّوفيق والسّداد.
وقفة مع سورة الفاتحة
أجد خير بداية لبيان المنهج القرآني في تقرير الوسطيَّة أن أقف مع أمّ الكتاب، حيث إنها من أولها إلى آخرها تقرّر هذه الحقيقة وتؤكدها.
ولكن أبرز آية فيها ناطقة بذلك هي قوله - تعالى – (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنّه بيّن أن هذا الصرّاط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري: أجمعت الأمَّة من أهل التأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس:
__________
(1) - أخرجه البخاري (1/16). ومسلم (1/542) رقم (785).(/39)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوَجَ له(1).
ثم قال: وكلّ حائد عن قصد السّبيل وسالك غير المنهج القويم فضالٌّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق (2).
وقد بيّن الله لنا أن الصّراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفًا الصراط المستقيم: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضّالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضّالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضّلالة، لا يهتدون إلى الحق (3).
وبهذا يتّضح لنا أن هناك ثلاثة سبل: سبيل الذين أنعم الله عليهم، وسبيل المغضوب عليهم، وسبيل الضالين.
ونحن مأمورون بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم، لأنَّه هو الصّراط المستقيم، وهو المنهج الوسط بين طريقين منحرفين، وهما طريقا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصّراط المستقيم فله حظّ. من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامَة تعني الوسطيَّة كما توضحها آية الفاتحة، وكما حرّرت ذلك في مبحث سابق، جاءت الآيات متعدّدة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعدّدة وألفاظ مُتقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء. ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرّر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمَّة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطيَّة والدّعوة إليها.
والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا أذكر بعضًا منها دلالة على المراد، وبيانًا لهذا المنهج.
قال - سبحانه -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وأجد في هاتين الآيتين ما يستحقّ التّنبيه عليه، ونحن بصدد الحديث عن الوسطيَّة، وذلك أنّه قال في الآية الأولى: (وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121) بعد أن أمر بالاستقامَّة، والطغيان هو مجاوزة الحدّ (4). وهو خروج عن منهج الوسطيَّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15) واتباع الهوى خروج عن الاستقامَة، وانحراف عن منهج الوسط.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وفي آل عمران: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران: من الآية101). وفي الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153). وفيها: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (الأنعام: من الآية161). وفي النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76). وفي الزخرف: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الزخرف:43).
وفي سورة الملك: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك:22).
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالّة على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الذي أمرنا باتّباعه واجتناب ما عداه، لأنّه هو طريق الحقّ والعدل والوسط، وما عداه طريق الضّلال والغواية والانحراف عن الصّراط المستقيم، وهاهو الشّيطان يُعلن هذه الحقيقة قائلا كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16)، وصدق الله العظيم. إذ يقول: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39).
وكما بدأنا في آيات الدعوة للاستقامة نختم بها، قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13).
وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16). وفي التّكوير: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:27، 28).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/73،74).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/84).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/29).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (9/107).(/40)
وهذه الآية نصّ في أنّ القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحقّ، قال القرطبيّ: (إِنْ هُوَ) (التكوير: من الآية27) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (التكوير: من الآية27) أيْ: موعظة وزجر. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:28) أي يتبع الحق ويُقيم عليه (1).
ومما سبق يتّضح لنا أن سورة الفاتحة وضعَت القاعدة والمنطلق، ورسمَت المنهج وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقرّرة لذلك، وداعية إليه.
أولا: الاعتقاد
لقد جاء تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في العقيدة شاملا ومتكاملا، وذلك أنّ العقيدة هي الأساس، وعليها البناء، فأيّ انحراف فيها يسري على ما سواها ويؤثر فيه.
والعقيدة من أوسع الأبواب وأكملها، حيث تشتمل على الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره، وشرّه.
وكل قسم من هذه الأقسام يشتمل على عدّة موضوعات وأجزاء.
وسأسلك في بيان تقرير القرآن للوسطيَّة - في بعض أبواب الإيمان - المنهج الإجمالي (2). دون الدخول في التفاصيل والجزئيات، لأن ذلك يُؤدي بنا إلى التّفريع والدخول في الجزئيات، مما لا يستلزمه مثل هذا البحث، ولا تدعو الحاجة إليه هنا.
وما سيرد في ثنايا ذلك من جزئيات فليست إلا أمثلة مُختارة للوصول إلى تحقيق المعنى المراد وتقريره.
إن أعظم أصول الإيمان وأعلاها مرتبة هو الإيمان بالله، وتوحيده، توحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته.
ولقد ضلّت طوائف كثيرة في هذا الباب، فهم بين إفراط وتفريط، وغلو وجفاء.
فنجد من الناس - كاليهود - من وصف الله - جل وعلا - بصفات النّقص التي يختصّ بها بعض المخلوقين، وشبهوا الخالق بالمخلوق، فقالوا: إنّه بخيل! وإنّه فقير! وإنّه لما خلق السماوات والأرض تعب فاستراح يوم السبت! إلى غير ذلك من صفات النقص التي لا تليق به - سبحانه - !!.
وجاء آخرون - كالنصارى - فوصفوا المخلوق بصفات الخالق التي يخْتّص بها، فشبّهوا المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وقالوا: المسيح ابن الله. وقالوا: إن المسيح يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ونحو ذلك (3).
بل هناك من أنكر وجود الله - جلّ وعلا -، وآخرون ادعوا الألوهية كفرعون. (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: من الآية24). وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38).
وجاء القرآن بالمنهج الوسط، وأنكر على كل فريق من هؤلاء وغيرهم ما ارتكبوه في جنب الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا -.
وأزيد الأمور وضوحًا، فأقول:
جاء اليهود فوصفوا الله - جل وعلا - بالبخل والفقر! وهذه الصفات لا تليق بالبشر، فكيف بحق الله تعالى؟! وهذا القول والاعتقاد انحراف في العقيدة وضلال مبين.
فردّ الله عليهم بقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181).
روى الطّبريّ بسنده عن ابن عباس، قال: دخل أبو بكر الصِّديق - رضي الله عنه - بيت المدارس، فوجد من يهود ناسًا كثيرًا، قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْر يُقال له أشيع، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لفنحاص: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم إن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرّع إليه كما تضرّع إلينا، وإنّا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرِّبا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا عنّا ما أعطانا الرِّبا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيمًا، زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله - تبارك وتعالى - فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) (آل عمران: من الآية181) الآية.
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (19/343).
(2) - سأقتصر على ركني الإيمان بالله ورسله، لأنهما إذا تحققا على الوجه الصحيح، فتحقق غيرهما من لوازم ذلك.
(3) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص (257).(/41)
وأورد الطّبريّ عددًا من الروايات تُؤكّد سبب هذا النّزول (1). وكذلك لما قال اليهود يد الله مغلولة، نزل قوله - تعالى -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة: من الآية64). وردّ عليهم في قولهم: إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)(2).
والشاهد أنّ هذه الآيات وأمثالها جاءت لتردّ على هؤلاء وأمثالهم، وفي الوقت الذي جاءت لتردّ على هذا الانحراف فإنها تُقرّر المنهج الحق، وما يجب على المؤمن أن يعتقده في جنب الله - تعالى -.
وكذلك نجد الردّ على من أنكر الألوهية وادّعاها لنفسه في قصة إبراهيم مع نمروذ حيث ذكرها الله في سورة البقرة، فقال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة: من الآية258) أي: وجود ربه، وذلك أنّه أنكر أن يكون له إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38)(3).
أما النصارى فقد شبهوا المخلوق بالخالق وأضفوا عليه من الصّفات والخصائص ما لا يليق إلا بالله - عز وجل - فقالوا عن المخلوق كقولهم في عيسى: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق، ويثيب ويُعاقب، إلى غير ذلك من خصائص الربوبية، وصفات الألوهية التي لا تكون إلا لله - سبحانه - (4) وهم بهذا القول قد جعلوا المسيح، عليه السلام، إلهًا، فجاء القرآن الكريم ليبينّ انحرافهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، فقال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:17). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
ومن ضلال النصارى وانحرافهم أنهم سبّوا الله - عز وجل - وتنقّصوه من الوجه الذي أرادوا به تعظيمه، حيث قالوا: إن المسيح ابن الله. (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30). وقد ردّ الله عليهم وعلى أمثالهم مثل هذا القول وبين أنّه انحراف وضلال، فقال - سبحانه - منزهًا نفسه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). وقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:88-93). وقال في سورة الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام:101).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (4/194).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/229).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/313).
(4) - انظر: وسطيَّة أهل السُنة ص (273).(/42)
وهناك من أرادوا تنزيه الله - جل وعلا - فنفوا عنه أسماءه وصفات الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله، - صلى الله عليه وسلم - فجاءت الآيات الكثيرة التي تثبت لله صفات الكمال وأسماء ذي الجلال، ومنها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:2، 3). وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: من الآية156). وقال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (الحشر: من الآية23). (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) (الفتح: من الآية6). إلى غير ذلك من الآيات.
وخلاصة القول:
إن القرآن جاء ليُبيّن انحراف أولئك المنحرفين، ويرد عليهم ضلالهم، وانحرافهم، ويُقرّر المنهج الحقّ، ويُبيّن ما يجب أن يعتقده المسلم في الله، من الإيمان به - جل وعلا -. (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية285). (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية136). (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ) (الملك: من الآية29). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (النساء: من الآية136). (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (الحديد: من الآية19).
وكذلك يجب أن يثبت لله ما يثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، - صلى الله عليه وسلم - وينفي عنه ما نفاه عنه نفسه أو نفاه عنه رسوله، - صلى الله عليه وسلم -.
قال - سبحانه -: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:180). فالإلحاد في أسماء الله وصفاته خروج عن منهج الوسطيَّة الذي رسمه القرآن وأثبته. (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: من الآية110). والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - يُلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصّراط المستقيم. (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا )(فصلت: من الآية40).
والله - جل وعلا - له صفات الكمال وأسماء الإجلال: لا يُشبه أحدًا من خلقه، ولا يْشبهه أحد من خلقه. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11).
والآيات في كتاب الله كثيرة جدًّا، جاءت مثبتة ونافية، ومنزهة الله عما يصفه به الواصفون، - تعالى الله عما يقول الجاحدون علوًّا كبيرًا – (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنعام: من الآية100). (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: من الآية31). (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ) (النحل: من الآية57). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) (الإسراء:43). (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: من الآية67). وصدق الله العظيم. (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص:1-4).
ومما سبق يتضح لنا صفاء عقيدة التوحيد وسلامتها من تأويل المؤولين وجحد الجاحدين، وتشبيه المشبّهين، وأن الجميع قد انحرفوا عن الصّراط المستقيم، نفيًا أو إثباتًا، إفراطًا أو تفريطًا، ولذلك جاءت الآيات تلو الآيات، إثباتًا ونفيًا، وإنكارًا وردًّا وتنزيهًا، لتقرّر المنهج الحق بين الغلوّ والجفاء، والنفي والإثبات، مما يليق به - سبحانه - وتقدّست أسماؤه، وعلا وعزّ شأنه وسلطانه.
ونجد من أصول الاعتقاد الإيمان برسل الله، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وذلك يقتضي إنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إيّاها.
وعند دراسة أحوال الأمم في هذه القضية نجد الاضطراب والتناقض والغلوّ والجفاء.
وكما ذكرنا اليهود والنصارى مثلين للانحراف في باب الإيمان بالله، فسأذكرهما هنا نموذجين - أيضًا - للانحراف في باب الإيمان بالرسل، وذلك لأن القرآن، ذكرهما في مواضع عدة، ولأنهما أشهر أُمتين قبل أمَّة محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
ولنأخذ موقف اليهود من أنبياء الله ورسله (1) .
__________
(1) - انظر: في ذلك رسالة وسطيَّة أهل السنة ص (286) وما بعدها.(/43)
1- أنّهم فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بمجرّد التّشهّي والعادة، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل إلى ذلك، بل بمجرّد الهوى والعصبية (1) قال - تعالى -: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150) وهذا الأمر وإن كان يشترك فيه اليهود والنصارى، ولكنه في اليهود أكثر.
2- أنهم خذلوا أنبياءهم، ونقضوا العهود التي أخذوها عليهم، قال - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12).
وآيات أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل كثيرة جدًا(2) ولكن ماذا كانت النتيجة: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). ونقض العهد والغدر يُنبئ عن مكانة الأنبياء في نفوسهم وعقيدتهم فيهم.
3- أنهم تنقّصُوا بعض الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، ورموهم بارتكاب كبائر الذنوب، ورموهم بالنقائص والعيوب، والتوراة - المحرفة - مليئة بهذا اللون، وفيها من الخزي والعار ما ينَدى له الجبين.
فنسبوا لهارون، عليه السلام، أنّه صنع لهم العجل الذي عبدوه من دون الله، ورموا نبي الله سليمان، عليه السلام، بأنه في أواخر أيّامه مال إلى ممالأة نسائه على عبادة الأوثان، وبني لهن المعابد والأوثان، وأنّه لم يكن مخلصًا في إيمانه بربه - عز وجل -.
واتهموا نوحًا، عليه السلام، بأنّه كان يشرب الخمر، واتهموا داود ولوطًا، عليهما السلام، بالزنا، إلى غير ذلك من النقائص والتهم التي يقشعرّ لها قلب كل مؤمن (3).
ولا يُستغرب ذلك على أولئك الذين رموا رسولهم ونبيهم موسى، عليه السلام، بالنقائص والعيوب. فقال - سبحانه - مخبرًا عنهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب:69).
4- قتلهم الأنبياء والرّسل، وقد ذكر الله ذلك في القرآن في أكثر من موضع: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة: من الآية87). وقال: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (المائدة:70). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (البقرة: من الآية61).
ومن أشهر من قتل اليهود من الأنبياء زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام(4).
هذه عقيدة اليهود في أنبياء الله ورسله، والذي ينظر إلى مواقفهم مع موسى، عليه السلام، وهو نبيهم ومنقذهم من فرعون، يجد العجب(5). (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) (الصف: من الآية5). فكل من وقف من الأنبياء والرسل موقف تفريط وجفاء في اليهود أسوة وقدوة.
أمّا النصارى فإن عقيدتهم في الأنبياء والرسل تتلخص في موقفين (6) :
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2/396).
(2) - انظر: تفصيل ذلك في كتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف حيث تجد فصلا خاصًّا بذلك.
(3) - انظر: تفصيل ذلك وأدلته في وسطيَّة أهل السنة ص (289).
(4) - انظر: تفسير الطبري 6/284 ووسطيَّة أهل السنة ص (296).
(5) - انظر: تفصيل ذلك في ظلال القرآن تفسير سورة الصف، وكتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف في فصل نقض بني إسرائيل للعهد.
(6) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص (301).(/44)
الأول: التفريط والجفاء مع أنبياء الله ورسله - عدا عيسى، عليه السلام، فلم يؤمنوا ببعضهم، وكفروا بمحمد، - صلى الله عليه وسلم - - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150). قال ابن جرير - رحمه الله – (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150) يعني أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمد، - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبلهم بزعمهم، (1) وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا، - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم(2).
وقال - تعالى - مبينًا كفرهم بمحمد، - صلى الله عليه وسلم - (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف:6).
الثاني: الغلو والإفراط، ويتمثل ذلك في غلوهم في عيسى، عليه السلام، حيث رفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنزلوه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها - زعموا -.
فلم يؤمنوا به عبدًا لله، ورسولا نبيًا، وإنما جعلوه هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة !! بل عبدوه من دون الله - عز وجل - وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله - عز وجل - (3).
قال - تعالى -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآية72). (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: من الآية73). (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30).
وقال - صلى الله عليه وسلم - - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله - (4).
وهذان الموقفان - أي موقف اليهود وموقف النصارى - يمثلان مواقف الناس في الأنبياء والرسل في جانب الإفراط والتفريط والغلو والجفاء (5). أمّا الموقف الحق وهو الذي قررّه القرآن وبينه، فإنه بين هذين الموقفين، فهو وسط بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1- ردّ الله على أولئك الذين انحرفت عقيدتهم في رسل الله وأنبيائه، وردّهم عن الانحراف إلى المنهج الحق تقريرًا لهذا المنهج الذي أمر الله باتباعه والالتزام به، وهو العدل والصواب فيما يجب أن يعتقده المسلم ويعامل به أنبياء الله ورسله.
فقد ردّ الله على الذين فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعضهم وكفروا ببعض، وبينّ خطأ اعتقادهم وضلال طريقهم، فقال - سبحانه -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:151).
قال القرطبي - رحمه الله -: قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً) (النساء: من الآية151) تأكيد يزيل التوهّم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به - عز وجل - وكفروا بكل رسول مُبشرٍ بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقًا (6).
أمّا الذين نقضوا العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم بالإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد قال - سبحانه - مبينًا عاقبة جريرتهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). وقال في موضع آخر مبينًا عاقبة نقض العهد والميثاق: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25).
__________
(1) - تحفظ الطبري - رحمه الله - في مكانه، لأنهم في الحقيقة لم يؤمنوا بهم جميعًا.
(2) - انظر: تفسير الطبري (9/351).
(3) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص 301.
(4) - أخرجه البخاري (4/142) وأحمد (1/23، 24، 47، 55).
(5) - قد تكون هناك مواقف لبعض اليهود تتشابه مع موقف النصارى، كقول بعضهم "عزيز ابن الله" وكذلك قد تكون هناك مواقف لبعض النصارى تشابه موقف اليهود، كخذلان بعضهم لعيسى وعدم نصرته، والعبرة بالموقف لا بالأشخاص سواء أكانوا من اليهود أم النصارى أم المشركين أم غيرهم.
(6) - انظر: تفسير القرطبي (6/5).(/45)
والذين كفروا بالأنبياء، وفرّقوا بينهم قد نقضوا عهد الله وخانوا مواثيقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.
قال القرطبي: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: من الآية25) أي: من الأرحام، والإيمان بجميع الأنبياء(1).
أمّا الذين آذوا الأنبياء، وتنقّصوهم، واتهموهم بأبشع التهم، فقد جاء الردّ عليهم إمّا مباشرًا أو غير مباشر، فالذين اتهموا هارون بأنه أمرهم بالشرك وصنع لهم العجل، قال الله مبرءا هارون: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه:90).
وقال عن سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية30).
أما نوح ولوط وداود، عليهم السلام، فقد قال الله عنهم وعن غيرهم من الأنبياء والرسل الذين ذكرهم - سبحانه - في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89). وقال بعد ذلك مزكّيًا لهم وآمرًا رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدى بهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90). وقال عن نوح: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال عن داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية17).
أما الذين قتلوا الأنبياء والرسل فماذا كانت عاقبتهم جزاء انحرافهم عن الطريق السوي؟ تجيب هذه الآيات على هذا السؤال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: من الآية61). وقال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21).
وكذلك نجد ردّ الله على النصارى وغلّوهم في عيسى عليه السلام، حيث حكم عليهم بالكفر واللعن، قال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآيتين17،72). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
وقال - سبحانه -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30).
2- إن الحكم على الانحراف وبيانه وسيلة مباشرة للوصول إلى الطريق الصحيح، والمنهج المستقيم، فبعد بيان خطأ هؤلاء الذين انحرفت عقيدتهم وضلوا في رسل الله نأتي إلى بيان المنهج الحق في أنبياء الله ورسله، كما قرره القرآن الكريم، ودعا إليه في أكثر من موضع.
قال - تعالى -: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136).
قال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدّقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم(2).
وقال سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
وبين الله عبودية الأنبياء والرسل فقال سبحانه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (صّ:45).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (9/314).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/568).(/46)
أمّا عيسى فقد بينّ الله المنهج الحق فيه فقال: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (النساء: من الآية172). وقال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة: من الآية75) وقال: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء: من الآية171) (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59).
أمّا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه - سبحانه-:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء: من الآية1). وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم:10). وقال له الله - عز وجل - (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: من الآية50).
وقال مبينًا حق رسوله على أمته: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح: من الآية9). وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: من الآية157). وقال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (المائدة: من الآية92). وبينّ الله بشرية الأنبياء والرسل، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف: من الآية110). وقال: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: من الآية11). وقال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (الإسراء: من الآية93). ومما يرسم منهج التوسط في الأنبياء قوله - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً) (الرعد: من الآية38). وقال منكرًا على المشركين قولهم في محمد، - صلى الله عليه وسلم - (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية7). فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية20).
ومما سبق من الآيات اتضح لنا منزلة الأنبياء والرسل، وعلوّ مقامهم، والمنهج الحق فيهم، فلا يجوز الغلو فيهم مع الغالين قال، - صلى الله عليه وسلم - - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله - (1). وقال، - - صلى الله عليه وسلم - - يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، ورسول الله، والله ما أحبّ أن ترفعوني فوق ما رفعني الله - عز وجل - - (2).
وكذلك لا يجوز الحطّ من قدرهم أو انتقاصهم، بل يجب احترامهم والإيمان بهم وعدم التفريق بينهم، وكذلك يجب توقيرهم وحفظ جنابهم، فهم صفوة الخلق وأرفعهم مكانة ومنزلة. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90).
إن ما ذكرته من تقرير الإسلام لمنهج الوسطيَّة في باب الإيمان بالله ورسله دليل عملي على ما عداه من أبواب الاعتقاد، كالإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه.
وكما ذكرت سابقًا فليس المراد هو استقصاء ما ورد في ذلك، وإنما المراد إرساء قواعد الوسطيَّة وبيان أنّها منهج إلهي، فمن انحرف عنها فقد ضلّ سواء السبيل.
ولذلك جاء قوله تعالى في سورة المائدة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
بل قال قبل ذلك في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171). وهاتان الآيتان جاءتا في سياق تقرير مسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قضية اعتقاد النصارى في عيسى ابن مريم، عليه السلام، كما سبق بيانها.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/142) وأحمد (1/23، 24، 47، 55).
(2) - أخرجه أحمد (3/241) واللفظ له، وأبو داود (4/254) رقم (4806) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4418).(/47)
وفي إطار تقرير منهج الوسطيَّة في العقيدة يأتي قوله - تعالى – (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية130). وملّة إبراهيم، عليه السلام، هي الملة الحنيفيَّة السمحة لا إفراط فيها ولا تفريط.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأيّ سفه أعظم من هذا؟! قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قوله - تعالى -: )مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67)(1).
وفي سورة يونس (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (يونس: من الآية105). قال ابن كثير: أي أخلص العبادة لله وحده، (حَنِيفاً) (يونس: من الآية105) أي منحرفًا عن الشرك، ولهذا قال: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس: من الآية105)(2).
وفي يوسف: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية40). قال ابن كثير في تفسيرها: أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به(3).
وخلاصة القول:
إنّ الآيات جاءت متوالية متتالية، تقرّر حقيقة الوسطيَّة في باب الاعتقاد، اطّرادًا مع منهج القرآن في تقريره ذلك في جميع الأبواب - كما سيأتي -.
ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة تُؤكّد هذه الحقيقة وتبينها، ولكن لا أظن أنّها بعد ذلك تحتاج إلى بيان أو تأكيد.
وأشير إلى أنني اقتصرت على بابي الإيمان بالله ورسله، دون سواهما من أبواب الإيمان، لأنه إذا تحقّق الإيمان بالله ورسله على الوجه الصحيح فإن ذلك يستلزم تحقق بقية الأركان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: التشريع والتكليف
سبق أن ذكرت أنّ ملامح الوسطيَّة اليسر، ورفع الحرج، وهذا أمر قرّره القرآن في أكثر من موضع، كقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) وما ذكرته هناك متّصل بما سأذكره هنا في تقرير هذه القضية.
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في التشريع والتكاليف في فقرات متتالية، ليسهل تحرير القضية واستيعابها.
1- امتنّ الله على هذه الأمَّة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحملها ما حَمَّل من قبلها، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر وسطيَّة هذا الدّين.
يقول - تعالى - في وصف نبيه محمد، - صلى الله عليه وسلم - في كلامه - عز وجل - مع قوم موسى، عليه السلام: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157). كما أن من جملة دعاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(البقرة: من الآية286). وقد جاء في الحديث: "قال الله: قد فعلت". وفي رواية: "قال: نعم" (4).
والإصر هو العهد الثقيل الذي في تحمّله أشدّ المشقّة.
والأغلال هي الشّدائد التي كانت في عبادتهم.
روى الطبري عن الربيع قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286) يقول: التّشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ(5).
وقال سعيد: الإصر: شدّة العمل(6).
وقال مجاهد: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التّشديد في دينهم (7).
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الإصر: هو العهد، وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمّي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة، والعمل بما فيها من الأعمال الشّديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت مفروضة عليهم، فنسخها حكم القرآن (8).
وفي آيتي البقرة والأعراف إشارة إلى أنه، عليه السلام، قد جاء بالتيسير والسّماحة والوسطيَّة.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/185).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (2 /434).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/479).
(4) - أخرجه مسلم (1/116) رقم (126).
(5) - انظر: تفسير الطبري (3/158).
(6) - انظر: تفسير الطبري (9/85).
(7) - انظر: تفسير الطبري (9/85).
(8) - انظر: تفسير الطبري (9/85).(/48)
قال الجشمي: دلّت آية - الآية الأعراف - على أن شريعته أسهل الشّرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية (1).
وجاء في فوائد أبي عمرو بن مندة بسند صحيح عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: أقرأني النبي، - صلى الله عليه وسلم - "إن الدّين عند الله الحنيفيَّة السّمحة لا اليهودية ولا النصرانية". قال العلائي: وهذا إنما نسخ لفظه وبقي معناه (2).
ولبيان وسطيَّة الإسلام في التّكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبيَّن منها الأغلال والآصار التي كانت عليهم (3).
جاء في سفر الخروج في الإصحاح الحادي والعشرين:
"من شتم أباه وأمه يُقتل قتلا. إذا نطح ثور رجلا أو امرأة وكان الثور نطاحًا من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل".
وفي الإصحاح الخامس والثلاثين وفي السفر نفسه: "ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل".
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر اللاويين: "كل من مسّ حائضًا يكون نجسًا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسًا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسًا، وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسًا إلى المساء".
وفي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية: "لا تحرث على ثور وحمار معًا، ولا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا".
قال الدكتور صالح بن حميد بعد أن ساق هذه النماذج: وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق - تبارك وتعالى - في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، تنزيل من حكيم حميد: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) وقوله - سبحانه - في بيان أنواع من المحرمات عليهم بسبب بغيهم: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146).
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتنّ به على هذه الأمَّة من التخفيف، والتيسير والتسهيل، ونعت نبيه، - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157).
وقد ذكر علماؤنا - رحمهم الله - شيئًا من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب أو منه، ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعيّن القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدّية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيّام الصوم بعد العتمة والنّوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التّطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الّليل بالصّبح على الباب. (4).
ومما سبق يتّضح دلالة آيتي البقرة والأعراف على تقرير منهج الوسطيَّة في التّشريع والتّكليف.
2- وردت آيات كثيرة تُبيّن أن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، ولا يُكلّف نفسًا إلا وسعها وقدرتها، قال - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وقال: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233) وقال - جل في علاه -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152) وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأعراف: من الآية42) وقال تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) (المؤمنون: من الآية62).
وعلى الرغم من أن قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ظاهر الدلالة على عدم التّكليف إلا في حدود القدرة والميسرة، إلا أن الله - سبحانه وتعالى - قد أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يُبيّن فيه أن ما امتنّ عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والنّسيان، وحطّ الآصار والأغلال، وعدم التّكليف بما لا يُطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (7/2882).
(2) - انظر قواعد العلائي لوحة (27)، نقلا عن رفع الحرج في الشريعة ص (158).
(3) - انظر لما سيأتي: رفع الحرج في الشريعة ص (158).
(4) - انظر: لكل ما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (158) وما بعده.(/49)
الأول: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286).
الثاني: قوله: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
الثالث: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286). قال البقاعي تعليقًا على هذه الآية: وقد عرف الله عباده المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلامًا بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانًا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حمّلهم فوق طاقتهم، مع أنَّه له جميع ذلك، وأنَّه عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم.(1).
قال الدكتور/ صالح بن حميد معلّقًا على آيات عدم التّكليف بما لا يُطاق: ولاشكّ أنّ الأحكام الشّرعية إذ كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفيَّة سهلة سمحة (وسطيَّة)، فلله الحمد والمنَّة(2).
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) فيتعبدّها إلا بما يسعها، فلا يضيّق عليها، ولا يجهدها(3).
ففي كلام الطبري - رحمه الله - الدّلالة على أن هناك تكليفًا وأمرًا بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطيَّة.
وقال رشيد رضا في تفسير قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ولا يُحاسبها إلا على ما كلّفها، والتّكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته.
والمعنى: أنَّ شأنه - تعالى - وسنته في شرع الدّين ألا يُكلّف عباده ما لا يطيقون (4).
وخلاصة القول: إنّ هذه الآيات تُقرّر منهج الوسطيَّة في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقّة، وليس فيها تضييق وعسر وإحراج.
3- ومما يؤكّد ويقرّر منهج الوسطيَّة في التشريع والتّكليف الآيات التي وردت برفع الحرج، كقوله - تعالى -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله - تعالى - في سورتي النور(5) والفتح: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (الفتح: من الآية17). وبعد أن بيّن - سبحانه - جواز الزواج من زوجة الابن المتبني حيث زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب بعد طلاق زيد لها، قال - سبحانه -: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (الأحزاب: من الآية37).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: إن رفع الحرج، والسّماحة والسهولة راجع إلى الوسط والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتّشديد حرج في جانب عسر التكاليف، والإفراط (6) والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع.
قال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل.(7).
قال المفسّرون في آيتي المائدة والحج: إن الله - سبحانه وتعالى - ما كلّف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشقّ عليهم إلا جعل الله لهم فرجًا ومخرجًا.
ولقد كانت الشّدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمَّة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدًا قبلها، رحمة من الله وفضلا.
يقول ابن العربي: ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام (8).
قال الطوفي الحنبلي: إن الله - تعالى - لم يشرع حكمًا إلا وأوسع الطريق إليه ويسره، حتى لم يبق دونه حرج ولا عسر.
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (3/733)، وانظر: لما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (71).
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (73).
(3) - انظر: تفسير الطبري (3/154).
(4) - انظر: تفسير المنار (3/145).
(5) - الآية: (61).
(6) - الصحيح: والتفريط، ولعله خطأ مطبعي.
(7) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (13).
(8) - انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/1293) ورفع الحرج في الشريعة ص (60).(/50)
وقال: ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان خفيف وثقيل يرجح الخفيف دفعًا للحرج(1).
ويقرّر ذلك الكيا الطبري حيث يقول: ويحتج به في نفي الحرج والضّيق المنافي ظاهره للحنيفيَّة السّمحة. وقد علّق على ذلك القرطبي بقوله: وهذا بيّن(2).
وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة:
ولما بيّن فرض الوضوء وفرض الغسل، وما يحلّ محلهما عند تعذّرهما أو تعسرّهما، تذكيرًا بهما ومحافظة على معنى التعبّد فيهما - وهو التيمم - بيّن حكمة شرعهما لنا مبتدئًا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشّريعة السمحة. فقال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). أي: ما يُريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية - ولا في غيرها أيضًا - حرجًا ما. أي: أدنى ضيق وأقل مشّقة، لأنه - تعالى - غنّي عنكم، رءوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم(3).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). أي ما كلّفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، ولهذا قال، عليه السلام: - بعثت بالحنيفيَّة السمحة - (4). وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: - بشّر ولا تُنفّرا ويسّرا ولا تُعسّرا - (5). والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78) يعني من ضيق (6).
وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطيَّة هذا الدين في تشريعه وتكاليفه.
4- ونواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التّشريع والتّكليف التي تقرّر منهج الوسطيَّة، وأنه سمة هذا الدّين، وسرّ من أسرار عظمته، وهذه الآيات هي آيات التّخفيف والتّيسير.
قال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقال - جلّ في علاه -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8). وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5،6). وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
فهذه الآيات تبيّن أن الله أراد بهذه الأمَّة اليسر والتّخفيف، ونفي إرادة العسر والمشقّة.
وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرّخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسّرين، ومثل ذلك آية النساء، فقد وردت في سياق ما أبيح من نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر. إلا أن الذي صرح به كثير من المفسّرين أن المراد عموم التّخفيف في الشّريعة، وإرادة التيسير ورفع المشقّة(7).
قال القرطبي: قال مجاهد والضّحاك: اليسر الفطر في السّفر. والعسر: الصّوم في السفر. قال القرطبي: والوجه: عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)(8).
وقال رشيد رضا في الآية: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وهذا تعليل لما قبله، أي: يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من أحكام، أن يكون دينكم يسرًا تامًّا لا عسر فيه(9).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدره لكم (10).
وقال مجاهد: أي في نكاح الأمَّة، وفي كل شيء فيه يسر (11). ومن هنا نخلص إلى أن آيات التيسير والتّخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدِّين، وذلك أن الوسطيَّة ركن من أركان ديمومة هذا الدِّين وعالميته.
5- وأختم هذا الباب بذكر بعض الأدلّة العلمية التي تؤكّد وسطيَّه هذا الدين في باب التّشريع والتكليف:
__________
(1) - انظر: الإشارات الإلهية ص (132) مخطوط، ورفع الحرج ص (61).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (3/432) ورفع الحرج ص (61).
(3) - انظر: تفسير المنار (6/258).
(4) - تقدم تخريجه ص (110).
(5) - تقدم تخريجه ص (109).
(6) - انظر: تفسير ابن كثير (3/236).
(7) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (68).
(8) - انظر: تفسير القرطبي (2/301).
(9) - انظر: تفسير المنار (2/164).
(10) - انظر: تفسير ابن كثير (1/479) وتفسير القاسمي (5/1201).
(11) - انظر: تفسير الطبري (5/30).(/51)
(أ) قال - تعالى - في شأن المطلقات: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية236). وقال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241). والقضية تدور على عدة محاور؛ فإما ألا يكون هناك أي تمتيع للمطلقة، وهذا له آثاره السلبية، وبخاصة على المطلّقة التي ستستقبل حياة جديدة، تحتاج إلى تخفيف وقع الطّلاق وأثره حسّيًّا ومعنويًّا. وإمّا أن يكون هناك تمتيع مغلّظ، وهذا فيه إثقال على الزوج المطلق.
وإما أن تكون هناك متعة يُراعى فيها ظروف الزوج وإمكاناته، مع عدم إهمال حقّ المطلقة في المتعة.
وهذا هو الأمر الوسط الذي أقرّه القرآن، وأصبح شرعًا من لدن حكيم عليم.
(ب) قال - تعالى -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:225). وفي سورة المائدة: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: من الآية89).
وموضوع الحنث في اليمين، إما أن يكون فيه كفارة بإطلاق، أو لا يكون فيه كفارة بإطلاق، أو التفصيل.
والأمر الأول: فيه من المشقّة والعسر ما لا يخفى.
والأمر الثاني: يُؤدّي إلى الاستهانة باليمين، وهو قادح من قوادح الإيمان.
أمّا التفصيل: وهو التفريق بين لغو اليمين الذي يصعب التحرز منها، فهذا معفو عنه، أمّا ما عداه ففيه الكفارة الشّرعية صيانة لليمين والقسم، فهذا هو الأمر الوسط، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
(جـ) قال - تعالى - في بيان كفارة اليمين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والوسطيَّة في هذه الآية من ثلاثة وجوه:
1- أنَّ إطعام المساكين يُراعى في نوعية الطعام أو الكسوة الوسط في ذلك، وجعل المقياس الذي يُرجع إليه في اختيار هذا الوسط إطعام الرجل لأهله أو كسوتهم، فينظر في ذلك ويخرج الوسط منه.
وفي هذا تتحقق الوسطيَّة من وجهين - أيضًا -.
الأول: مراعاة الوسط في حق كل إنسان، فلم يؤخذ من أعلى ماله أو أدناه، بل الوسط منه، مراعاة للفقير - أيضًا -.
الثاني: مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط، وهذا فيه من معنى الوسطيَّة ما فيه، فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم.
2- أنَّه جعل الكفارة تدور على أحد ثلاثة أمور: إمّا الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق، والحالف مخيّر بينها دون إلزام بواحد منها، وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى.
3- إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلاثة انتقل إلى الصيام، وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده.
وبهذا اجتمعت أطراف الوسطيَّة في هذه القضية، وهي قضية جزئية يسيرة، فلا شك أن ما كان أعلى منها وأشدّ كلفة تكون مراعاة الوسطيَّة فيه من باب أولى، لأن الله غني عنًا وعن أعمالنا، ولكن التّشريع ميدان للامتحان والابتلاء، والله بنا رءوف رحيم.
(د) كذلك نلحظ الوسطيَّة في هذا التشريع، قال - سبحانه -: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: من الآية5). والوسطيَّة تبرز في موضوع الطعام، وموضوع النكاح من أهل الكتاب، مما لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل.
(هـ) وكذلك نرى إقرار منهج الوسطيَّة في موضوع الطّلاق وأحكامُه فلم يحرم الطّلاق، ولم يجعله مُتاحًا دون قيد أو شرط أو وصف.
بل إنَّه فرّق بين الحالات التي تبينُ فيها المرأة من طلقة واحدة أو من ثلاث طلقات، وهكذا.
ولا شك أن موضوع الطّلاق وأحكامه من أقوى الأدلة على هذا المنهج الذي روعيت فيه أحوال وأوضاع تتعلّق بالرجل والمرأة والأسرة.
والآيات التي وردت في سورتي البقرة والطّلاق هي البرهان على ذلك.
هذه بعض الأدلّة العملية على الوسطيَّة التي رسمها القرآن، وأكدها في أكثر من موضع في باب التشريع والتّكاليف.(/52)
ومن خلال ما سبق، اتضحت المنطلقات الأساسية التي تُبيّن المنهج الشّرعي في التّشريع والتّكليف، حيث ذكرت أن الله وضع عنّا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، بل لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وما آتاها، وآيات رفع الحرج دلالة قويّة على متانة هذا المنهج في وسطيَّة التّشريع، يؤكد ذلك ويقرّره ما صاحب ذلك من يسر ورفع للعسر والمشقة. كل ذلك أوصلنا للحقيقة التي استهدفناها، وبدأنا بها، وهي أنَّ القرآن الكريم عنى عناية تامة في رسم منهج الوسطيَّة وتثبيته.
العبادة (1)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
فقال أحدهم: أمّا أنا فأصلي الليل أبدًا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء أبدًا.
فجاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني - (2).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي، - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به، فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (3).
وعن عائشة - رضي الله عنها - - أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - دخل وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا -
وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه (4).
هذه الأحاديث صريحة في رسم منهج الوسطيَّة في العبادة فالحديث الأول في غاية البيان والوضوح، والحديث الثاني - قصة زينب - قال فيه ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق فيها (5) والثالث قال فيه ابن حجر - أيضًا -: "عليكم بما تطيقون": أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يُطاق (6).
وهذه الأحاديث - وأمثالها - وهي كثيرة جدًّا - جاءت على نسق ما جاء في القرآن في تحديده مسار العبادة في ضوء المنهج الوسط، وتشنيعه على أولئك الذين خرجوا بالعبادة عن مسارها الصحيح.
وقبل أن ألجّ في بيان ذلك الإطار الذي حدّده القرآن الكريم، وأرى أنّ من المناسب ذكر المناهج السائدة فيما يتعلّق بالعبادة تفريطًا وإفراطًا، فأقول:
المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم، فلو نظرنا إلى التوراة - بعد تحريفها - لوجدنا أن تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرًا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلّق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشّخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفًا من عقوبة عاجلة.
بل بالغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153). وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرّك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو.
وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلّقهم بالحياة وحرصهم عليها، فقال - تعالى -: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أي حياة، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها. وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95). لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعملهم للدنيا، وعبادتهم لمآرب دنيوية: فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء.
فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24)(7).
وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنّبنا إيّاه. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
__________
(1) - الحديث عن العبادة سيشمل معناها الخاص والعام.
(2) - تقدم تخريجه ص (59).
(3) - أخرجه البخاري (2 /48)، ومسلم (1/542) رقم (784).
(4) - أخرجه البخاري (2/48)، ومسلم (1/542) رقم (785).
(5) - فتح الباري (3/37).
(6) - فتح الباري (1/102) وانظر: الغلو في الدين ص (78).
(7) - انظر: لما سبق الوسطيَّة في الإسلام د/ زيد الزيد ص (39).(/53)
أما المنهج الثاني وهو المنهج القائم على الروحانيات، وذلك بإعلائها وتمجيدها، وأغرقوا في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو.
وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرّم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، معذبة للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة أو برهان. (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27). ولذلك كانت حالهم ومآلهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) (الغاشية:1-4)(1).
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصّراط المستقيم، ولذلك أُمرنا بأن نسأل الله أن يجنّبنا إياه؛ (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7).
وأمام هذا الغلو المادي الذي يمثّل التفريط في العبادة، والغلو الروحاني الذي يمثل الإفراط فيها والتفريط في حق البدن، جاء الإسلام ليُصحح المسألة، ويهدي الناس لأقوم السّبل، وأعدل الطّرق، طريق الوسط بين عبادة المادة ونسيان حق الرّوح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حقّ حقّه، وفقًا لقوله - تعالى -: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77).
ونجد أن القرآن الكريم قد قرّر هذا المنهج في آيات كثيرة، تنتظم فيما يلي:
أولا: الآيات التي تبيّن انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل قوله - تعالى -: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64). وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:43). وقوله: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً) (المائدة: من الآية76). وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر: من الآية3). ومثل ذلك قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطيَّة في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة على وجهها الصحيح.
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) (الحج: من الآية11) قال مجاهد وقتادة وغيرهما: (على حرف) على شك.
وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر(2) .
وانظر إلى قول القرطبي، حيث إن قوله نصّ في دلالة الآية على المراد. قال: (على حرف). على شكّ، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الحبل، وهو أعلاه المحدّد.
وقيل: (على حرف)، أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السّراء دون الضرّاء، ولو عبدوا الله على الشكر في السّراء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: (على حرف). على شرط(3).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: من الآية3). أي ليشفعوا لنا ويقرّبونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدّهر وحديثه، وجاءتهم الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه(4).
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام د/ زيد الزيد ص (41).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (3/209).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (12/17).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (4/45).(/54)
ثانيًا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال: قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). وقال في أكثر من موضع(1) (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
وقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدًّا، فما من نبي إلا قال لقومه: "يا قوم اعبدوا الله". قال الطبري في قوله تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64). يعني بذلك - جلّ ثناؤه - قل يا محمد لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل - تعالوا: هلمّوا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
والكلمة العدل: هي أن نوحّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا(2).
وقال ابن كثير في الآية نفسها: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران: من الآية64) أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيء، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، هذه دعوة جميع الرسل، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36)(3).
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ الإمام في قوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64) لما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسّره بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (آل عمران: من الآية64) الآية(4).
وبهذا يتضح لنا أن هذه الآية نصّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة الله وحده.
أمّا قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51). فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدي المتين الذي لا اعوجاج فيه (5).
وقال في آية مريم: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم:36). يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه (6).
وقال القاسمي:
(فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: من الآية36) أي: قويم، من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضلّ وغوى (7).
وقد سبق أن بيّنت أن الوسطيَّة تعني الاستقامة وأن قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). من أقوى الأدلة على منهج الوسطيَّة، كما يقرّره القرآن الكريم.
ثالثًا: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة في معناها الخاص كالصلاة والدعاء وغيرهما، حيث نجد فيها أمرًا بالتزام منهج الوسط، ونهيًا عن الإضاعة أو الرهبنة، وهو ما يمثل الإفراط والتفريط.
وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصرًا على ما يُبيّن المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطيَّة.
1- ذمّ الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: من الآية27).
قال القاسمي: الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل (8).
وقال ابن كثير: "ورهبانية ابتدعوها" أي ابتدعتها أمَّة النصارى. (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27) أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمّ لهم من وجهين:
__________
(1) - ففي سورة مريم، الآية: (36) (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم). وفي سورة الزخرف، الآية: (64) (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم).
(2) - انظر: تفسير الطبري (3/301).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/371).
(4) - انظر: تفسير المنار (3/325).
(5) - انظر: تفسير الطبري (3/283).
(6) - انظر: تفسير الطبري (16/85).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (11/4137).
(8) - انظر: تفسير القاسمي (16/5698).(/55)
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله - عز وجل - (1).
وهذه الرّهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلوّ في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقّتها وصعوبتها.
وقول الله - جل وعلا -: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلّف بما فيه غلوّ ومشقّة، كما سبق بيانه.
ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلوّ والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله، ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفى. وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلا، أذكر نتفًا منها(2).
قال صاحب ريحانة النفوس - وهو نصراني-: إنَّ الرهبنة قد نشأت من التوهّم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة، لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة. ثم قال: ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس.
وفي كتاب البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية: إن ذم الزيجة خطأ، لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقّد بنار الشّهوة.
ثم قال: ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيه - إلى أن قال -: ولذلك نرى كثيرًا من القساوسة والأساقفة والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.
ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى.
وختم كلامه - الطويل - بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات.
قال القاسمي معقبًا على ذلك: وهو حجة عليهم منهم (3).
هذه نتيجة الرهبنة والإفراط والغلوّ الذي ذمه الله، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171). وقال: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
2- وكما ذم الله الغلوّ والرهبنة فقد ذم التفريط والتضييع والإهمال، فقال - سبحانه -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59). قال ابن كثير مبينًا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطيَّة.
لما ذكر الله - تعالى - حزب السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) (مريم: من الآية59) أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ) (مريم: من الآية59) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع، لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقَون غيًّا، أي: خسارة يوم القيامة(4).
وقال الشنقيطي في تفسير الآية: فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء.
ثم قال: إن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.
ثم قال: فإذا عرفت كلام العلماء في الآية الكريمة، وأن الله توعّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، بالغيّ الذي هو الشرّ العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في ذمّ الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: )فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4)
)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:5)
)الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) (الماعون:6). وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتّبعون الشّهوات، وتهديدهم، كقوله - تعالى -: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتّبعون الشّهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:40، 41).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/315).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (16/5698).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (16/5700).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/137).(/56)
3- وبعد أن ذكرت الآيات التي تدل على النهي عن الغلوّ والإفراط أو التفريط والتضييع أذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط.
قال - تعالى -: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
قال ابن كثير:
قال الإمام أحمد (1) حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله، - صلى الله عليه وسلم - متوار بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله - تعالى - لنبيه، - صلى الله عليه وسلم - "ولا تجهر بصلاتك". أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110) أخرجاه في الصحيحين (2) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به (3).
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء (4).
قال القرطبي:
روى مسلم عن عائشة في قوله - عز وجل - (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قالت: أنزل هذا في الدعاء (5). والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما، وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
وقال - تعالى -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ )(لأعراف: من الآية205).
قال القرطبي: (ودون الجهر) أي دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110). أي بين الجهر والمخافتة (6).
وقال ابن كثير:
(تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) (الأعراف: من الآية205) أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (الأعراف: من الآية205). وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا (7).
وقال - تعالى – (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16).
قال ابن كثير:
أي جهدكم وطاقتكم.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله - تعالى -: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: من الآية102). وقال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، تخفيفًا على المسلمين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16). فنسخت الآية الأولى(8).
ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة جلية.
وأخيرًا: نقف أمام قوله - تعالى - في سورة المزمل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4). ثم قال في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20). أي من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة (سبحان): (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) (الإسراء: من الآية110). أي بقراءتك(9).
وقال القرطبي:
قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) (البقرة: من الآية187). قيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر(10).
وبعد:
فقد اتضح لنا من خلال ما سبق في هذا الباب من آيات أنّ الوسطيَّة أصل في باب العبادة في معناها الخاص والعام، وأن الغلوّ والجفاء، والإفراط والتفريط منفيان عنها كما نفيا عن غيرها.
الشهادة والحكم
__________
(1) - المسند (1/23، 215).
(2) - صحيح البخاري (5/229). ومسلم (1/329) رقم (446).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (3/68).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/69).
(5) - انظر: تفسير القرطبي (10/344). وانظر: صحيح مسلم (1/329) رقم (447).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (7/355).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (2/281).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (4/376).
(9) - انظر: تفسير ابن كثير (4/438).
(10) - انظر: تفسير القرطبي (19/53).(/57)
سبق معنا في تفسير قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). أن الرسول، - صلى الله عليه وسلم - فسّرها بقوله: "عدولا"(1). وكذلك فسّرها، - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة، حيث ذكر شهادة هذه الأمَّة لنوح، عليه السلام، ثم قرأ، - صلى الله عليه وسلم - (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143). الآية (2).
ولا مُنافاة بين التفسيرين، بل أحدهما مكمّل للآخر، لأن الشهادة المعتبرة عند الله ما كانت عدلا.
ومن هذا المنطلق فقد جاءت آيات كثيرة تبيّن وجوب العدل في الشهادة، وكذلك في الحكم - أيضًا - والشهادة هي إحدى مقدّمات الحكم في كثير من الأحكام، بل في كلها إذا اعتبرنا إقرار المرء على نفسه شهادة، وهو كذلك.
وإذا كان العدل يعني الوسط، كما تقرّر، فإن أمر الله بالعدل في الشهادة والحكم هو أمر وإقرار لمنهج الوسطيَّة، ويتّضح ذلك - تفصيلا - من خلال ما سيأتي - إن شاء الله -:
1- قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135). ولنتأمل ما قاله الطبري في تفسيره للآية، فإننا نجد الدلالة البينة في هذه الآية على منهج العدل والوسط، والتّحذير من الحيف والجور واتباع الهوى، وإليك بعض ما قال:
يقول الله لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء: من الآية135). يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني العدل (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء: من الآية135) معناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (النساء: من الآية135). يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموا على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيّها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيها مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما.
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء: من الآية135). فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
والتعبير بالغني والفقير هو في مقام العدو أو القريب كما سيأتي في آيتي المائدة والأنعام، ويمكن استعماله في الوجهين كما يدل عليه كلام الطبري، فقد يكون بعض الناس مع الغني ضد الفقير - وهو الغالب -، وقد يكون البعض مع الفقير لفقره، ضد الغني لغناه، ولكل حالة ما يناسبها.
2- قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8).
قال الطبري في معنى الآية: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حدّدت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حدّدت لكم في أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري(3).
وهذا التفسير للآية واضح الدلالة على منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، ومثل ذلك تفسير ابن كثير، حيث قال في قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8). أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًّا، ولهذا قال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8)(4).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".
(2) - انظر: تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمَّة وسطًا). في أول هذه الرسالة.
(3) - انظر: تفسير الطبري (6/141).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (2/30).(/58)
وقد جاء قبل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2).
قال الطبري في تفسيرها: فتأويل الآية إذن: لا يحملنّكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون. أن تعتدّوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن ألزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم(1).
وقال رشيد رضا في تفسيره للآية: وأمّا الاعتداء على من تبغضونهم فلا يُباح لكم وأنتم حلّ، كما أنَّه لا يُباح لكم وأنتم حُرم، وإن كانوا صدّوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرًا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عند حدود العدل(2).
3- ومثل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(الأنعام: من الآية152).
قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا، وأنصفوا، ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنّكم قرابة قريب، أو صداقة صديق، حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكمتم إليه فيه (3).
وقال القرطبي: قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) يتضمّن الأحكام والشهادات، (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152). أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم، كما تقدّم في النساء(4).
وقد وقفت متأمّلا لآيتي المائدة والأنعام، فوجدت أن كلا منهما تأمر بالعدل وهو طريق الوسط، ولكن كل آية اختصت بمعنى ليس في الأخرى، فآية المائدة تنهى عن الحيف والجور في حق العدوّ، وأن عداوته وبغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه، شهادة أو حكمًا، فهي تنهي عن الإفراط والغلو بالنسبة لصدور الحكم ضده، وعن التفريط والجفاء بالنسبة لحفظ حقوقه وما يجب له.
أما آية الأنعام فإنها تُحذّر من الميل والإفراط في حقّ القريب، مما يكون سببًا لعدم ثبوت الحق عليه، وهذا غلو منهي عنه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب القرابة، فإن عدم أداء الشهادة محاباة للقريب فيه تفريط في حق الخصم وضياع للحقوق. ومن هنا فإن هاتين الآيتين بمجموعهما ترسمان خط الوسطيَّة، وترشدان إليه، وتحذران من الحيف والميل سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.
وقد يؤدي بغض العدوّ أو حبّ القريب إلى شهادة الزّور والكذب، فيحكم على العدوّ بما ليس عليه، ويحكم للقريب بما ليس له، وكل هذا خروج عن العدل، ومن الظلم الذي لا يرضاه الله أبدًا.
أمّا آية النساء فإنها جمعت بين المعنيين كما هو واضح من سياقها، وتفسير الطبري لها، وإن كانت لمعنى ما في سورة الأنعام أقرب منها لما في سورة المائدة.
4- ونجد تطبيقًا عمليًّا لمدلول هذه الآيات ما ذكره الله في سورة يوسف في قصة زوجة العزيز مع يوسف، عليه السلام، حين راودته عن نفسه: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) (يوسف: من الآية25). وهنا حدثت المفاجأة (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) (يوسف: من الآية25). وبسرعة مذهلة يدرك المرأة كيد النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: من الآية28)، فتقلب الدعوى على يوسف: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف: من الآية25). وهذه دعوى خطيرة، ولكن يوسف، عليه السلام، يردّ هذه الدعوى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (يوسف: من الآية26)، ووقع العزيز في إشكال في هذه القضية، وبخاصة إذا كانت امرأة، لأن العادة الغالبة أنّ الرجل هو الذي يعتدي عليها، لا أن تعتدي هي عليه، وفي هذه اللحظات الحرجة يأتي الفرج: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف:26، 27)، إنها شهادة عجيبة تنطق بالعدل والصدق، مع قرابته للمرأة.
فقد وضع أمام العزيز ميزانًا دقيقًا دون حيف أو محاباة، وبدأ بما يتعلّق بالرجل أولا، وما أشبه فعل يوسف، عليه السلام به، عندما بدأ بأوعية إخوته قبل وعاء أخيه، ثم ذكر ما يتعلّق بالمرأة، ويظهر العدل في هذا من خلال ما يلي:
(أ) فعدم كتمانه للشهادة دليل على عدم محاباته للمرأة وهي قريبته.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (6/69).
(2) - انظر: تفسير المنار (6/129).
(3) - انظر: تفسير الطبري (8/86).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (7/137)، و(5/410).(/59)
(ب) البداءة بيوسف وعدم اقتصاره على ما يتعلق بالمرأة يدلّ على أنه لا يحابي يوسف، عليه السلام. وهنا صدر الحكم العادل المبني على شهادة العدل: (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:28، 29).
5- وردت آيات كثيرة تأمر بالعدل، وتنهى عن الهوى، وذلك مثل قوله - تعالى – (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية58). وقوله - تعالى - في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، وكذلك قوله - تعالى - في سورة الأعراف: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29)(1)، وفي سورة (ص): (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26) وقريب من هذه الآية ما جاء في سورة الشورى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: من الآية15) ونجد في سورة النحل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل: من الآية126)، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ومعلومة، وكلها تأمر بالعدل، وتنهى عن البغي والعدوان، وهذه دلالة الوسطيَّة، والنهي عن الإفراط والتفريط.
6- ومن الأدلة العملية على وجوب التزام العدل وعدم البغي أو العدوان قوله - تعالى - في سورة الإسراء: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33). فهنا ثلاث حالات - طرفان ووسط -
أ- ضياع حقّ أولياء المقتول، كما يقع في كثير من الأزمنة، وتحمي هذا الضياع أنظمة ودول وبخاصة في عصرنا الحاضر، وبالذّات الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، إمّا نظامًا أو واقعًا، وهو الأكثر - وبخاصة إذا كان القاتل شريفًا فهيهات أن يؤخذ الحق منه.
ب- أن يأخذ أولياء المقتول أكثر مما لهم، وهو الإسراف في القتل، وهذا ما كان يجري في الجاهلية، ويوجد في عصرنا الحاضر في بعض المجتمعات التي تأخذ بالثأر، فتقتل غير القاتل دون ذنب إلا أنه من أقرباء القاتل، أو تقتل أكثر من فرد انتقامًا وثأرًا.
ج- أن يقتل القاتل قِصاصًا، أو تؤخذ الدية، أو يكون العفو برضى أولياء القتيل. والحالة الأولى تمثل التّفريط.
والحالة الثانية تمثل التّعدي والإفراط.
والحالة الثالثة هي العدل والوسط.
ولقد نزل القرآن بالحالة الثالثة، فقوله - تعالى -: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) إثبات للحالة الثالثة، ونفي للحالة الأولى، فإثبات الحقّ نفي للتفريط وإضاعة الدم، وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) نهي عن الحالة الثانية، وهي التعدّي والإفراط.
قال الطبري: وأولى التأويلين بالصّواب في ذلك من تأوّل: أنّ السلطان الذي ذكر الله - تعالى - في هذا الموضع ما قاله ابن عباس: من أن لولي القتيل القتل إن شاء، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال يوم فتح مكة: - ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية - (2).
وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) يقول: فلا تقتل بالمقتول ظلمًا غير قاتله.
وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلا عمد ولى القتيل إلى الشّريف من قبيلة القاتل فقتله بوليّه، وترك القاتل، فنهى الله - عز وجل - عن ذلك عباده، وقال لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثل به (3).
__________
(1) - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(2) - أخرجه البخاري (8/38). ومسلم (2/988) رقم (1355).
(3) - انظر: تفسير الطبري (15/81).(/60)
وقال القاسمي: أي ومن قتل بغير حق - مما تقدم – (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) (الإسراء: من الآية33) الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه. (سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) أي: تسلّطًا على القاتل في الاقتصاص منه، أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يُسرف في القتل، أي: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية، كان إذا قُتل منهم واحد قتلوا به جماعة، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33) تعليل للنهي. يعني: حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك(1).
وبهذا المثال ومن خلال ما سبق من آيات اتضح لنا منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، لأن الله أمر بالعدل ونهى عن الظلم والبغي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نالت الأمَّة الخيريَّة لأسباب من أهمّها قيامها بواجب الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، واستمرار الخيريَّة مرهون بالأسباب التي نالت بها هذه الدّرجة الرفيعة.
والواقع المشاهد استمرار للواقع الماضي في أنّ هناك فئات كثيرة ضلّت في هذا الباب، فهناك كثيرون جدًّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو قصّروا فيها تقصيرًا شديدًا، وهؤلاء سلكوا سبيل التّفريط، وآخرون - وهم أقل من أولئك - قاموا بالأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولكنهم لم يعرفوا مراتبه ودرجاته وحدوده، أو لم يلتزموا بها، فوقع كثير منهم في الغلو والإفراط.
والقلّة القليلة - ماضيًا وحاضرًا - من سلك السّبيل المستقيم، والطّريق القويم، والتزم بالمنهج الوسط الذي شرعه الله على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم -.
وعناية بهذا الركن العظيم، ومن أجل القيام به على الوجه المشروع جاءت الآيات تلو الآيات تبيّن حكمه، وترسم معالمه وحدوده، وتزجر، عن الانحراف به وعنه ذات اليمين وذات الشمال.
وكل هذه الآيات في دلالتها جاءت لتقرّر منهج الوسطيَّة، وتصون هذا الركن عن الانحراف والتبديل، والتضييع والإهمال.
وسأختار بعض الآيات التي تبيّن هذه الحقيقة وتدلّ عليها، في ضوء المنهج الذي سلكته فيما مضى:
1- قال - سبحانه وتعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس، ولهذا قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) - إلى أن قال -: والصحيح ان هذه الآية عامة في جميع الأمَّة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم، - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: خيارًا(2).
والشاهد هنا أن الخيريَّة تعني الوسطيَّة، كما وضّحت ذلك في مبحث (ملامح الوسطيَّة)، ولذلك فلابد أن يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يُحقّق هذه الخاصية، وينطلق من ضوابطها.
2- نعى الله على الذين أضاعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتركوا الدعوة إلى الله فقال - سبحانه -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79).
وقال - سبحانه -: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63). وقال - سبحانه -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187). وقال - جل وعلا -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159).
قال ابن كثير في الآية الأولى: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (المائدة: من الآية79). أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم، والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذّر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79).
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (10/3926).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (1/391).(/61)
وقال القرطبي: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ) (المائدة: من الآية79) أي لا ينهى بعضهم بعضًا. ) لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم (1).
وقال الطبري في الآية الثانية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) (المائدة: من الآية63). هلاّ ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشاء في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم.
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(المائدة: من الآية63) وهذا قسم من الله أقسم به، يقول - تعالى ذكره -: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان، وأكل السّحت، عما كانوا يفعلون من ذلك، وكان العلماء يقولون: ما في القرآن أشدّ آية توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها، ثم روي عن ابن عباس قوله: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية.
وكذلك روي عن الضّحاك قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنّا لا ننهى (2).
وقال القرطبي: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي المنكر (3).
وقال ابن كثير في الآية الثالثة: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187).
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب.. إلى أن قال: وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدالّ على العمل الصّالح، ولا يكتمون منه شيئًا(4).
ومعنى الآية الرابعة قريب من معنى هذه الآية(5).
والخلاصة أن هذه الآيات - وأمثالها - جاءت لتبيّن خطورة ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تضييع هذا الركن وعدم القيام به انحراف عن الصّراط المستقيم.
وهي بهذا تحذّر المؤمنين من سوء عاقبة هذا الأمر، وترشدهم إلى طريق الحق والسلامة والنّجاة.
3- وإذا كان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انحراف وخروج عن الصّراط المستقيم، وهو منهج المغضوب عليهم من اليهود وأشباههم، فإن هناك انحرافًا آخر قد لا ينتبه له كثير من الناس، وهو أن يأمر الإنسان وينهى، ولكنه لا يلتزم بما يدعو الناس إليه، وينهاهم عنه، ولذلك جاءت الآيات تبين خطأ هذا المسلك وسوء هذا الفعل.
قال - سبحانه -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2، 3).
وقال - جل وعلا - حكاية عن شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود: من الآية88).
وأنبّه هنا إلى أن الانحراف ليس بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإنما لمخالفة فعله قوله (6) قال ابن كثير والغرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88)(7).
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44).
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذًا: أتأمرون الناس بطاعة الله، وتتركون أنفسكم تعصيه!! فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم، فعيّرهم بذلك، ومقبّحًا إليهم ما أتوا به.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها، وتنهونهم عن ركوبها، وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به، وربما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه(8).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (6/253).
(2) - انظر: تفسير الطبري (6/298).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (6/237).
(4) - انظر تفسير ابن كثير (1 /436).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (1/200).
(6) - انظر: القول البين الأظهر للشيخ عبد العزيز الراجحي ص (49).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (1/85).
(8) - انظر تفسير الطبري (1/259).(/62)
قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه وبالبرّ، ويخالفون، فعيرهم الله (1).
وقال ابن جريج: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصوم، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة (2).
وقال رشيد رضا في قوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السّفة، مثل من كانت هذه حاله، كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى، بحيث لا يضلّ سالكه، ثم هو يسلك طريقًا آخر مظلمًا طامس الأعلام، وكلّما لقي في طريقه شخصًا نصحه ألا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه(3).
وأختم أقوال العلماء في هذه الآية بما قال عبد الرحمن بن سعدي: فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأمّا قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير (4) - وأيضًا - فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يُخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة (5).
أما آيتا الصف. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3). فإنهما وإن كانتا في قضية خاصة كما ذكر المفسرون، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، كما هو مقرّر عند الأصوليين. ولذلك فإن دلالتها كدلالة أية البقرة: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) (البقرة: من الآية44) الآية.
وقال الطبري في آية هود: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) يقول:
وما أريد أن أنهاكم عن أمر، ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا بما آمركم به، ولا أنتهي إلا عمّا أنهاكم عنه(6).
وقال النّخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس(7) (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44) ، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)(8).
والشاهد من قول النخعي أن هذه الآيات مدلولها واحد، وهو النهي عن مثل هذا الفعل، وبيان خطورة هذا الانحراف عن الصّراط السّوي.
4- وإذا كان إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو مخالفة الفعل للقول انحراف عن الصّراط المستقيم، وخروج عن منهج الوسطيَّة، فإن أعظم أنواع الانحراف في هذا الباب هو ما بيّنه الله تعالى في سورة التوبة مما هو من سمات المنافقين وأخلاقهم: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67).
قال رشيد رضا: أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفا وعملا، كأن كلا منهم عين الآخر، كما قيل:
تلك العصا من هذه العصية ... هل تلد الحية إلا الحية!!
ثم بين هذا التشابه بقوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67) المنكر الشّرعي ما ينكره الشّرع ويستقبحه، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامَة، والشّرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله.
والمعروف: ما يُقابل المنكر مقابلة تضاد.
ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضًا؟ الكذب والخيانة وإخلاف الوعود، والفجور، والغدر بنقض العهود.
ومن المعروف الذي ينهون عنه: الجهاد، وبذل المال في سبيل الله، للقتال وغير القتال (9).
ويقول سيد قطب وهو يفسر هذه الآية ويبين وجه انحراف المنافقين: أما سلوكهم - أي المنافقين - فهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وهم حين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دسًّا وهمسًا، وغمزًا ولمزًا، لأنهم لا يجرءون على الجهر إلا حين يؤمنون. (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: من الآية67). فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطّريق، وقد وعدهم الله مصيرًا كمصير الكفار(10).
وبهذا يتّضح لنا أن هذا المسلك أسوأ ألوان الانحراف في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/258).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/258).
(3) - انظر: تفسير المنار (1/296).
(4) - أي دونه بالإثم وشناعة وقبح الفعل.
(5) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/82).
(6) - انظر: تفسير الطبري (12/103).
(7) - هذه الآيات يجب أن تكون دافعة للعمل لا للتوقف عن الدعوة، وكلام الإمام من باب بيان عظم شأن هذه الآيات وغفلة الناس عنها.
(8) - انظر: تفسير القرطبي (18/80).
(9) - انظر: تفسير المنار (10/533).
(10) - انظر: في ظلال القرآن (3/1673).(/63)
5- ومن الآيات التي جاءت تحمل الدّلالة الصّريحة على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو الطريق الصحيح، والمنهج الحق، وأنّه لا يستوي من قام به، ومن أهمله وفرّط فيه، قوله - تعالى -:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113، 114).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (لَيْسُوا سَوَاءً ) (آل عمران: من الآية113) أي: ليسوا كلّهم على حدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم، المجرم، ولهذا قال - تعالى -: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) (آل عمران: من الآية113) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة يعني مستقيمة(1).
ومفهوم هذه الآية أن الأمَّة التي ليست كذلك، ولم تتصف بهذه الصفات، فهي أمَّة منحرفة ضالة زائغة.
6- والآيات السابقة جاءت مقرّرة أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو طريق الخيريَّة والاستقامة، وأن ما عداه طريق الانحراف والضّلالة.
ولكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، فليس كل من تصوّر أنّه قام به قد وافق الصّواب في ذلك، فكم من داعية يأمر وينهى - استجابة للآيات الداعية لذلك على وجه العموم - ضلّ في هذا الأمر، ولم يوفّق للمنهج الوسط، وهو المنهج الحق، فقد يتكلّم في مقام يجب فيه السّكوت، وقد يغلظ في حال تجب فيها اللين والرفق، وقد يلين القول فيما لا يجدي فيه إلا الغلظة والشدة، وهكذا.
ولذلك جاءت الآيات تبيّن المنهج القويم في مثل هذا الأمر، وترسم الطريق المستقيم الذي قد يخفى على الكثيرين.
ولصعوبة التفصيل في هذا الأمر، فسأذكر بعض الآيات التي تبيّن هذا المنهج وتدل عليه.
(أ) قال - تعالى -: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية108).
قال ابن عباس: قالت قريش: يا محمد: لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم. وقال قتادة: كان المسلمون يسبُّون أصنام الكفّار، فيسبّ الكفار الله - عز وجل - عدوًا بغير علم، فأنزل الله هذه الآية(2).
وانظر - رحمك الله - إلى ما قاله القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمَّة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسبّ الإسلام أو النبي، - صلى الله عليه وسلم - أو الله - عز وجل - فلا يحلّ لمسلم أن يسبّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرّض إلى ما يُؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية(3).
وقال ابن الغرس: إنه متى خيف من سبّ الكفّار وأصنامهم أن يسبّوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم، وهي أصل في قاعدة سدّ الذرائع(4).
وبعد هذا التأصيل لمدلول هذه الآية، أذكر بعض ما قيل حولها فيما يتعلّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال السيوطي: وقد يستدلّ بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا كل فعل مطلوب ترتّب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه (5).
وفصّل بعض العلماء في المسألة، ومن هؤلاء الحاكم، حيث قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها لا تستحقّ العبادة، وهذا ليس بسبّ، ولهذا قال أمير المؤمنين يوم صفين: لا تسبُّوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم (6).
وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدّين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الجمادات بأنها لا تضرّ ولا تنفع، يكفي في القدح في إلاهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها(7).
وأختم هذا الكلام النفيس حول الآية، بما قاله الزمخشري: قال: فإن قلتَ: سبّ الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النّهي عنه؟ وإنما يصحّ النّهي عن المعاصي؟
قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر، وهو من أجلّ الطّاعات، فإذا علم أنّه يؤدي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النّهي عن ذلك، كما يجب النّهي عن المنكر(8).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/397).
(2) - انظر: القولين في تفسير ابن كثير (2/164).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (7/61).
(4) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(6) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(7) - انظر: تفسير الرازي، وتفسير القاسمي (6/2463).
(8) - انظر: الكشاف، وتفسير القاسمي (6/2463).(/64)
ومما سبق يتّضح أن القرآن الكريم قد وضع قاعدة في رسم منهج الوسطيَّة، وأنّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكذلك فمن الحق النظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط.
(ب) ونقف وقفة أخرى يتضح فيها أنّ الوسطيَّة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مسألة نسبيّة تختلف باختلاف ملابساتها والظروف المحيطة بها.
فإن هناك من يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يكون دائمًا باللّين، وخفض الجانب، ويستدلّ بقوله - تعالى -: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43، 44)، ووجه استدلاله من الآية: أن فرعون قد بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغه أحد من البشر، حيث ادّعى الألوهية، ومع ذلك يأمر الله بالإنة القول له، والرّفق معه. فإذا كان ذلك مع فرعون، فإن من هو دونه بالجرم والإثم أولى منه بالرّفق واللّين.
وآخرون يرون وجوب الشدّة والإغلاظ في القول مطلقًا، ويستدلّون بقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله سبحانه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: من الآية123). وقول موسى لفرعون: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). فيقولون: إن هذه الآيات تدل على وجوب الإغلاظ والشدة مع هؤلاء، وأن اللين يكون مع المؤمنين، لقوله - تعالى -: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: من الآية88)، وأمثالها.
والحق أن هذه الآيات هي التي تؤكد صحة ما قلته من أن الوسطيَّة مسألة نسبية، تختلف باختلاف ما يحفّ بها من قرائن وأحوال، يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل.
والقول الأمثل أنّه يجب النظر في مجموع الأدلة، وعدم الاقتصار على بعضها دون الآخر، فضلا عن ضرب بعضها ببعض - كما يفعل أصحاب الأهواء -.
وهذا المسلك - مسلك النظر في جميع الأدلة - سيؤدي إلى إعمال كل دليل في موضعه، دون إهمال الدليل الآخر أو الغفلة عنه.
ولننظر - الآن - فيما ذكرته من أدلّة كل من الفريقين، فنجد أن أمر الله لموسى وهارون، عليهما السلام، باستعمال الرفق مع فرعون، كان في أول رسالة موسى، عليه السلام، كما يدلّ عليه سياق الآيات في سورة طه، ولذلك جاء الأمر معلّلا برجاء إسلامه وانقياده (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44).
قال ابن كثير - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في القول اللين -: والحاصل من أقوالهم إن دعوتهما له تكون بكلام رقيق ليّن سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجع، كما قال - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
قال الحسن البصري: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: من الآية44) يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه (1).
وقال القاسمي: وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما لا من الله، فإنّه لا يصحّ منه، ولذا قال القاضي: أي باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما، أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد، والآيس متكلّف.
والفائدة في إرسالهما، والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من آيات (2).
أمّا آية الإسراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعون، ولما لم تنفع جميع الآيات التي جاء بها موسى، عليه السلام، وهي تسع آيات عظيمة، فلم يكن بد من الإغلاظ له في القول (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). أي هالكًا، فإن الثبور: الهلاك والخسران (3). والدليل على أن هذا الأمر كان في نهاية الأمر معه قوله - تعالى - بعد هذه الآية: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (الإسراء:103).
أمّا قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(التوبة: من الآية123). فإن هذا كان - أيضًا - في آخر العهد النبوي، حيث إن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكذلك سورة التّحريم متأخرة.
ومعنى هذا أنّ الرسول، - صلى الله عليه وسلم - قد خاطب المشركين قبل ذلك، ودعاهم إلى الله باللين، واستخدم معهم جميع وسائل الرفق، حتى لم يعد يُجدي معهم إلا السّيف والغلظة.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/153).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (11/4182).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (10/337).(/65)
وكذلك المنافقون، لم تجد معهم وسائل المهادنة والوعظ، والرفق واللين، فكان لابدّ من الإغلاظ لهم بالقول، كالإغلاظ للكفّار بالسّيف.
وخلاصة القول: إن اللين والإغلاظ، أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه. كما قال الشاعر:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا ... مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
(ج) وأخيرًا نأتي لكلمة الفصل في هذه القضية: إذا كانت الوسطيَّة في هذا الباب تختلف باختلاف الحال والمحلّ، والزّمان والمكان، فما هو الضّابط لذلك؟
والجواب حسمه القرآن الكريم في آية واحدة، حيث قال - سبحانه وتعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
فالحكمة هي الضّابط، والفيصل في ذلك، فحيث كانت الحكمة كانت الوسطيَّة، وحيث فقدت فإن هناك انحرافًا إلى ذات اليمين أو ذات الشمال.
ولعلّ من المناسب أن أختم هذا المبحث بتعريف الحكمة كما عرفها العلماء.
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله(1).
وقال عبد الرحمن بن سعدي: الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرّزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال.
ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (2).
وقال ابن عاشور: وفسّرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (3).
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصائب من الحركات والأعمال (4).
وجماع الحكمة في قول ابن القيم: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي(5).
وبعد: فإن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله واضح جليّ، زادته هذه الأدلة بيانًا وتفصيلا.
وهذا الباب من أهمّ الأبواب - العملية - التي يجب أن يتحرّى فيها الدعاة وطلاب العلم منهج القرآن، ويلتزموا به، حتى لا تزل العقول والأقدام، فيقعوا في الغلو والإفراط، نتيجة الحماس غير المنضبط، أو يقعوا في التّفريط والتّهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
الجهاد في سبيل الله
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام (6) وهو ماضٍ إلى أن تقوم السّاعة (7).
ولا عزّة للأمة ولا فخر ولا سؤدد إلا بإقامة هذا الركن العظيم.
وما تركت أمة الجهاد في سبيل الله إلا ذلّت وضعفت، وهانت على الله ومن ثمّ على خلقه.
ولقد انقسم الناس - قديمًا وحديثًا - في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:
1- فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.
2- وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.
3- أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.
__________
(1) - انظر: هذه الأقوال الثلاثة - في تفسير ابن كثير 1/322. ورسالة الحكمة للمؤلف ص (17).
(2) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/332).
(3) - انظر: التحرير والتنوير (3/61).
(4) - انظر: في ظلال القرآن (1/312).
(5) - انظر: مدارج السالكين (2/479)، وانظر: لكل ما سبق رسالة الحكمة للمؤلف ص (16) وما بعدها.
(6) - ورد ذلك في حديث أخرجه الترمذي (5/ 13) رقم (2616)، وابن ماجة (2/ 1314) رقم (3973)، قال الترمذي: حسن صحيح.
(7) - ترجم البخاري في الصحيح باب "الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر". وذكر قوله، صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وقد روى أبو داود (3/ 18): عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من أصل الإيمان" وذكر منها: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل". حديث رقم (2532) وفي إسناده يزيد بن أبي نُشْبَة السُّلمي: مجهول من الخامسة. انظر: التقريب ص (605 (.(/66)
وكذلك إذا دعا داعي الجهاد، لم يقعدوا مع القاعدين، ولم يثّبطوا مع المثّبطين، بل سارعوا إلى إجابة المنادي غير خائفين أو وجلين.
ولقد جاء القرآن يبينّ خطأ الطائفتين، الأولى والثانية: الغالية والجافية، المفْرِطة والمفرّطة، ومن ثمّ يرسم المنهج الحقّ، منهج الطّائفة الوسط، مؤكدًا على خطورة الإفراط والتّفريط، داعيًا إلى الجهاد في سبيل الله، إذا توافرت أسبابه ودواعيه، وتحقّقت شروطه وضوابطه. وسأبيّن أسلوب القرآن في إقرار المنهج الحق، والدّلالة إلى الصّراط المستقيم.
ولنقف مع تشخيص القرآن للطّائفة الأولى:
قال الله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246).
هذه الآية خلّد الله فيها قصة من قصص بني إسرائيل، التي انحرفوا فيها عن السبيل القويم، والطّريق المستقيم.
ها نحن نرى الحماس والاندفاع للجهاد في سبيل الله، ويطالبون نبيهم، عليه السلام، بإعلان الجهاد واختيار قائد يقودهم إليه.
ويأتي نبيّهم، ويسألهم سؤالا يحمل الحقيقة: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) (البقرة: من الآية246)؟ وهنا يأتي الجواب الذي يردّده المتحمّسون دائمًا: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246) ، وكيف كانت النتيجة: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية246).
وفي ثنايا القصّة وتفاصيلها نعايش مشاهد تبخّر هذه الدّعوى والحماس، وأول ذلك: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) (البقرة: من الآية247). وتبدأ رحلة الجهاد، ويبدأ معها تحقق ما قاله نبيهم في خوفه من عدم صدقهم وثباتهم: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) (البقرة: من الآية249). والنتيجة (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية249). وبعد ذلك تقول فئة من البقية الباقية: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة: من الآية249).
وأخيرًا لا يثبت إلا فئة أقل من القليل، ولعل هذه الفئة التي قتلت جالوت، وانتصرت بعد ثباتها لم تكن من أولئك المتحمسين المندفعين، الذين كانوا أول الهاربين والمتخاذلين.
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ) (البقرة: من الآية246). أخبر - تعالى - أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب، وأن نفوسهم ربما قد تذهب (تَوَلَّوْا) (البقرة: من الآية246) أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم الممتنعة، المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها.
وعن هذا المعنى نهى النبي، - صلى الله عليه وسلم - بقوله: - لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا - (1) رواه الأئمة.
ثم أخبر الله عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى، واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله - تعالى - (2).
وقال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا - قيل كان عددهم ثمانين ألفًا - وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا، وأخذ بعضهم الغرفة.
وقال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل، فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون (3).
وهذا نموذج آخر من نماذج المتحمسين للقتال، الذي أفرطوا في طلبه والسعي إليه، فلما تحقق لهم ذلك خالفت أفعالهم أقوالهم.
وإذا كان المثل الأول كان في بني إسرائيل، فإن هذا المثل في أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم - وهذا يؤكد حقيقة مهمة أن ذلك النموذج يتكرر في كل عصر وحين، وها نحن نراه ماثلا أمام أعيننا في زمننا الحاضر.
والحماس هو الحماس، والنهاية هي النهاية، وها هي الآيات تذكر البداية والنهاية:
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/9، 24) ومسلم (3/ 1362) رقم (1742).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (3/ 244).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (3/254). وبالنسبة لعددهم ومقدار من رجع منهم من أخبار بني إسرائيل والمهم أن الأكثر هم الذين رجعوا.(/67)
قال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77).
قال الطبري: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كانوا قد آمنوا به، وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
روى الطبري بسنده عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي، - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: - إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة أُمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ - . الآية (1).
ولننظر فيما قاله سيد قطب في هذه الآية حيث يشخص الحقيقة في أدق تصوير، قال:
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال، ويستعجلونه، وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذونًا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله.
فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخش الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبار، أو أشد خشية، وإذا هم يقولون في - حسرة وخوف وجزع -: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) (النساء: من الآية77).
إن أشدّ الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعًا، وانهيارًا وهزيمة، عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة - غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التّكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الأذى، والضيّق والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة، والدفع والانتصار بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة، والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشقّ مما تصوّروا، فكانوا أول الصف جزعًا ونكولا وانهيارًا، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدته، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا، وأي الفريقين - كان - أبعد نظرًا كذلك (2).
إنها الحقيقة التي عبّر عنها سيد - رحمه الله -، تلك الحقيقة التي لا يدركها إلا من عاشها، وذاق مرارة هذا اللون من الاندفاع والحماس، مما نراه ماثلا أمام أعيننا في صنف من الناس، لا يقدرون عواقب الأمور، ويثورون لأقل الأسباب، غافلين عن السنن الربانية، والأحكام الشرعية، والقدرات البشرية، متصورين أن طيبتهم وحسن نيتهم، ومقصدهم تكفي سببًا لانتصارهم.
وكما جاءت آية النساء، فقد جاءت آية الصف، تعالج القضية نفسها، وتبين الحقيقة ذاتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (5/170). والحديث أخرجه النسائي (6/3) رقم (3086). والبيهقي في السنن (9/11) والحاكم في المستدرك (2/307)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي - وانظر: الدر المنثور (2/328).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (2/712).(/68)
قال ابن كثير: وحملوا الآية - أي الجمهور - على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل بعضهم، كقوله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (النساء: من الآية77) الآية، وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2). قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لاشك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به، فما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمر الله، فقال الله - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)(1).
هذه حقيقة الاندفاع والحماس، عندما لا ينضبط بالضوابط الشرعية ولا السنن الربانية. إنه انحراف عن المنهج الحق، انحراف يمثل الغلو والإفراط، ومن ثم فهو خروج عن المنهج الوسط، المنهج الذي لا يلغي الاعتبارات المتعددة قبل اتخاذ القرار الحاسم، لخطورة هذه القضية وآثارها بعد ذلك.
ولعل في هذه الآيات عظة وذكرى لأولئك المغالين، وعبرة لهؤلاء المتعجلين المندفعين.
إن المنهج الذي يسلكه أولئك لا يؤدي إلى الأهداف التي شرع من أجلها الجهاد، بل قد يكون سببًا لتعطيل الجهاد، أو تأخيره سنوات وسنوات، ومن استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وكما جاءت الآيات تعالج قضية الإفراط والغلو، فقد جاءت تعالج قضية التفريط والتضييع.
فإذا كان أولئك المتحمسون والمندفعون قد خالفوا الصراط المستقيم في قضية مشروعية الجهاد، فإن المثبطين والقاعدين يمثلون الوجه الآخر للانحراف والضلال. وقد جاءت الآيات تلو الآيات تبين خطورة هذه الفئة، وما تحدثه من خلل وانحراف.
قال - سبحانه -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81). ثم يبين الله خطورة ما صنع هؤلاء، يتضح ذلك. من العقوبة القاسية التي أمر الله رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقب بها هؤلاء جزاء ما صنعوا:
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:83، 84).
وقال - سبحانه -: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86).
وقال - جل وعلا - مبينًا خطورة القعود عن سبيل الله: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
وقال - جل وعلا - مهددًا ومتوعدًا القاعدين عن الجهاد في سبيل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:38، 39).
وقال: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:44،45).
وقال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة:49).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/357).(/69)
وقال - جل ذكره - مصورًا حالة أولئك الذين لا يريدون الجهاد: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (محمد: من الآية20).
إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن خطورة هذا المسلك وسوء عاقبة أصحابه في الدنيا والآخرة(1).
ونقف مع تفسير هذه الآيات، وما قيل في معناها، مع الاقتصار على ما تدعو الحاجة إليه: قال الطبري في معنى قوله - تعالى -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) فرح الذين خلفهم الله مع الغزو مع رسوله والمؤمنين، وجهاد أعدائه بمقعدهم (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) يقول: بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمره، وجلسوا في منازلهم(2).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة: من الآية38) الآية. هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدّة الحرّ وحمارة القيظ (3).
وقال في قوله - تعالى -: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86).
يقول - تعالى - منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه، مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول، - صلى الله عليه وسلم - في القعود، وقالوا: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال - تعالى - عنهم في الآية الأخرى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) (الأحزاب: من الآية19)(4).
وقال رشيد رضا في قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية45) الآية: والمعنى: إنما يستأذنك بالتخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرمًا يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابًا كما يرجو المؤمنون.
ويرون الجهاد بالنفسي آلامًا ومتاعب، وتعرضًا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا(5).
وقال سيد قطب في قوله - تعالى -: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (التوبة: من الآية39).
والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله، لكل ذي عقيدة في الله، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، واستغلالها للمعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.
وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.
(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (التوبة: من الآية39). يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله(6).
هذه بعض الآيات التي جاءت تبين انحراف المثبطين عن الجهاد، القاعدين عنه، الذين وصفهم الله بقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب:18).
والنتيجة التي نخلص منها بعد بيان طرفي الانحراف، سواء الذين أفرطوا وغلوا، أم الذين فرطوا وجفوا، تلكم النتيجة هي أن هناك منهجًا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط.
__________
(1) - تعتبر سورة التوبة السورة التي فضحت المتخلفين عن الجهاد وبينت سوء مصيرهم وحكم الله فيهم.
(2) - انظر: تفسير الطبري (10/200).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/357).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (2/380).
(5) - انظر: تفسير المنار (10/469).
(6) - انظر: في ظلال القرآن (3/1655).(/70)
وذلكم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وركن من أركانه، وهو ماض إلى أن يأتي أمر الله، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلاَّ ذّلوا، وضعفوا، وسلط الله عليهم عدّوهم. والجهاد له شروطه وضوابطه، وأسبابه وموانعه، فإذا توافرت الأسباب وانتفت الموانع، وتحقّقت الشروط وجب أن يُنادي المنادي حيّ على الجهاد، ووجب على القادرين أن يستجيبوا للنداء، فرض عين أو فرض كفاية.
وهذا هو المنهج الوسط الذي جاءت الآيات الكثيرة تدعو إليه وتأمر به وتحث عليه، وجاءت السنة شارحة ومبيّنة، ومفصّلة لأحكام الجهاد، كما جاءت مبينة أحكام السَلم والموادعة والمعاهدات.
وقد عني العلماء - قديمًا وحديثًا - في بيان هذه القضية، وأشبعوها بحثًا وتفصيلا، وهم بذلك لم يدعوا مجالا لانحراف منحرف بدعوى الجهل وعدم الوضوح.
وأخيرًا أختم هذا المبحث بذكر بعض الآيات التي تدعو إلى الجهاد، وتثني على المجاهدين، أولئك الذين لا يتأخرون لحظة إذا دعا داعي الجهاد، وهم كذلك يستجيبون لداعي السلم والموادعة إذا جاء وقتها، وتوافرت أسباب السلم ودواعيه.
قال - سبحانه -: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41). وقال مبينًا صفة المؤمنين إذا دعا داعي الجهاد (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة:44).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (الأنفال: من الآية65). وقال: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (النساء: من الآية75).
وهذه بعض الآيات التي تأمر بالقتال:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة: من الآية36) (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) (التوبة: من الآية12). (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية29). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية193). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وقال مبينًا فضل المجاهدين في سبيل الله:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة:20، 21). (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف:10، 11).
وأختم هذه الآيات - آيات الجهاد - بهاتين الآيتين:
قال - سبحانه - في سورة النساء: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
وقال - عز وجل - في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ومما يؤكد وسطية هذا المنهج استجابتهم لأمر الله بالدخول في السلم، كاستجابتهم لأمره بالقتال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208). (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: من الآية61)، ولكن السلم لا يعني الاستسلام والذل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35).(/71)
الأخلاق والمعاملة
سُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن"
وقد أثنى الله على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
أما المعاملة فهي قرينة الأخلاق، حيث إن معاملة المرء نتاج طبيعي لأخلاقه، ولقد رسم القرآن المنهج السوي لما يجب أن تكون عليه أخلاق المسلم ومعاملاته.
وهذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويندر فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن الكريم به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوًا أو جفاء، إفراطًا أو تفريطًا.
ولطول الموضوع وتشعبه، وكثرة الآيات الواردة فيه، نظرًا لتعدد أجزائه ومنطلقاته، فسأقتصر على اختيار نماذج متفرقة تبين عناية القرآن الكريم به، في ضوء المنهج الذي سلكته في هذا البحث، ومن الله استمد العون والتوفيق.
الكبر والطغيان خلق ذميم، ذمه الله في أكثر من موضع في كتابه، لما له من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع، والكبر خروج عن المنهج الوسط إلى الإفراط والغلو وحب الذات. والتفريط في حق الآخرين.
قال - تعالى - مبينًا أثر الكبر على الإنسان، وكيف أنه يؤدي إلى الحيلولة بينه وبين الإيمان. (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر:56).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) (غافر: من الآية35) أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) (غافر: من الآية56) أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به(1).
وقال - تعالى -: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر:27). وقال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: من الآية35). وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: من الآية60) وقال: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل: من الآية29).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37).
ومن وصايا لقمان لابنه كما ذكر الله - عز وجل - (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
قال ابن كثير في تفسيرها: قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك(2).
والآيات في ذم الكبر والنهي عنه، وبيان عاقبة المتكبرين كثيرة جدًا.
ومن الآيات التي جاءت تنهي عن بعض الأخلاق الممقوتة، قوله - تعالى -: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19).
ونهى الله - سبحانه - عن كتمان الشهادة لما لها من آثار في إضاعة الحقوق وسوء المعاملة بين الناس، فقال - جل وعلا -: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: من الآية283).
ومن سوء أخلاق بني إسرائيل ما ذكره الله عنهم بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
وهذه غاية الجرأة على الله وعلى رسوله(3).
وقال ابن عاشور:
تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفا طبع(4).
ونقض العهد والميثاق خلق فاسد ومعاملة ممقوتة(5) ولذلك جاء ذم الناكثين العهود الخائنين للمواثيق والعقود، قال - سبحانه -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25). وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: من الآية13).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/84).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (3/446).
(3) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/86).
(4) - انظر: التحرير والتنوير (2/504).
(5) - انظر: تفصيل ذلك في رسالة المؤلف: العهد والميثاق في القرآن الكريم.(/72)
وفي مقابل الكبر نجد الذل والضعف والخور، وبخاصة أمام أعداء الله، فإنه خلق لا يرضاه الله - جل وعلا -، فلذلك قال - سبحانه -: واصفًا المؤمنين بما هم عليه من خلق رفيع: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
ومن هنا، ودلالة على أن الذل مسبة وعار، وليس خلقًا رفيعًا وسيرة محمودة، بين الله أنه جعله عقوبة لمن عصاه، وتكبر على رسله وهداه، فقال - سبحانه -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
وقال: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) (آل عمران: من الآية112). وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الأعراف: من الآية152).
قال سيد قطب مبينًا أثر الذل على هؤلاء اليهود، إن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادًا عميقًا.
وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد، استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين (1) .
وإذا كان هؤلاء قد ضرب الله عليهم الذلة في الحياة الدنيا، فإن الذلة - أيضًا - جزاء هؤلاء وغيرهم ممن دُعي إلى عبادة الله فاستكبر وأبى، قال - تعالى -: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم:43). وقال: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (المعارج:44).
وقال - سبحانه - ممتنًا على عباده حيث أعزهم بعد الذلة والانكسار: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123).
وخلاصة الأمر: أن هذه الآيات تدل على أن تلك الأخلاق مما لا يقره الشرع لمخالفتها للمنهج الحق والطريق السوي، ولذلك جاءت الآيات تبين ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق صادق وحسن في المعاملة، بعيدًا عن الخلق الذميم سواء كان إفراطًا أو تفريطًا، وهذه الآيات هي التي ترسم المنهج الوسط في الأخلاق والمعاملة.
قال - تعالى - مثنيًا على نبيه، - صلى الله عليه وسلم - (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
وقال - جل وعلا -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159).
وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).
وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215).
وقال - جل وعلا - واصفًا عباده المؤمنين وما هم عليه من خلق رفيع، ومعاملة حسنة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) ثم قال: )وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان:72) وهذا قمة الخلق وحسن الطوية، ولذلك قال في آيات أخرى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة:15). أما غيرهم فكما أخبر الله عنهم )إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات:35)، وفرق شاسع بين الخلقين.
ومما أمر الله به عباده، تربية على الخلق الحسن، ودفعًا لكيد الشيطان ونزغه ما قاله - سبحانه - في سورة المؤمنون: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون:96).
وقال في سورة فصلت: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:34-36).
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/72).(/73)
وكذلك أمر الله بالوفاء بالعهود والمواثيق والعقود، وذلك من صميم المعاملة التي يجب أن تكون بين المسلمين، بل حتى ولو كانت مع الكافرين، فقال - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: من الآية1) وقال: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4).
وقال: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:19، 20). وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل:91). وقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
ومن الأخلاق التي أمر الله بها، ما أمر به الزوج عندما يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، حيث قال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية231). ومثل ذلك الآية التي جاءت في سورة الطلاق: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: من الآية2).
وكذلك من العدل وحسن الخلق في المعاملة ما جاء بالأمر بالوفاء بالكيل، قال سبحانه: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (الإسراء: من الآية35) وقال: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: من الآية85).
ولذلك شنع الله على أولئك الذين حادوا على المنهج الوسط في الكيل والميزان، فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين:1-5).
ومن الخلق التي أمر الله بها ما جاء في سورة المجادلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) (المجادلة: من الآية11).
وإذا تأملنا سورة الحجرات وما فيها من أخلاق عالية أمر الله بها، ونهى عن سيئ الأخلاق وأرذلها، علمنا الجهد المبذول لتربية هذه الأمة على الأخلاق القويمة، وتجنيبها ما وقعت فيه بعض الأمم السابقة من أراذل الأخلاق وسفسافها كأهل الكتاب عمومًا واليهود خصوصًا.
وتأمّل هاتين الآيتين لترى كيف يرسم القرآن الكريم منهج الوسطية.
قال - تعالى - في سورة القصص مخبرًا عما جرى بين موسى وشعيب (1) عليهما السلام: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27).
وقال في سورة النساء: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء:148).
وأختم هذا المبحث بهذه الوقفة المهمة:
لما أثنى الله على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - لحسن خلقه، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) قال بعد عدة آيات: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9).
قال ابن عباس:
لو ترخص لهم فيرخصون(2).
والوقفة هنا: هناك من يتصور أن من لوازم حسن الخلق المداهنة والمصانعة.
بل تعجب إذا سمعت من يرى أن ذلك من أسس الدعوة وأساليبها.
وهذا خلل في الفهم، وقصور في التصور، وذلك أنه في السورة التي أثنى الله فيها على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - لأخلاقه الرفيعة العظيمة، نفى عنه المداهنة والمصانعة. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم:9، 10) مع التنبيه إلى أن هناك فرقا بين المداهنة المحرمة، والمدرارة المشروعة فليعلم ذلك(3).
هذه بعض الأخلاق التي ذكرها الله في القرآن الكريم، جاءت لتربي الأمة على الأخلاق الفاضلة، والمعاملة المستقيمة دون تكبر وبطر وغمط لحقوق الناس، أو ضعف وخور وذلة.
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (13/270).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/403).
(3) - انظر: كتاب: القول البين الأظهر للراجحي ص (115) فقد بين ذلك.(/74)
لقد اتصف اليهود بالكبر والتعالي والغطرسة حتى على أنبيائهم، ورسلهم، عليهم السلام، بل على ربهم - جلا وعلا -: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153) (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (البقرة: من الآيات68،69، 70) (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا) (المائدة: من الآية24).
واتصف النصارى بالذل والجبن، حتى كان مما يتوارثونه. "إذا صفعك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن". أما هذه الأمة فقد ربيت على العزة والكرامة، مع سمو الخلق وحسن التعامل، حتى مع الأعداء، بل وأثناء القتال والطعان، وهذه درجة لم تصل إليها أمة من الأمم الماضية، ولن تصل إليها أي أمة حاضرة: ولا عجب في ذلك فإنها أمة الإسلام، الأمة الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) ورسولها، - صلى الله عليه وسلم - قال فيه مولاه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
كسب المال وإنفاقه
قضية المال من القضايا الكبرى التي عني بها الإسلام كسبًا، وحفظًا، وإنفاقًا.
وذلك أن المال عصب الحياة، وهو بالنسبة للحياة الدنيا كالماء الذي يمشي في غصون الشجر، وكالدماء التي تجري في عروق البشر.
ولقد سلك الناس - ولا يزالون - مسالك شتى في هذا المال، كسبًا، وجمعًا، وإنفاقًا.
والكثرة الكاثرة، والغالبية العظمى ضلوا الطريق، وحادوا عن سواء السبيل.
ولذلك جاء القرآن الكريم مبينًا خطورة هذا الانحراف، وهاديًا إلى الصراط المستقيم.
وفي ضوء المنهج الذي أشرت إليه مرارًا، سأذكر بعض ما ورد في كتاب الله من آيات تبين خطوط الانحراف، وطريق الوسط الذي يجب أن يسلكه المؤمنون. (أ) في جمع المال وحبه:
وردت عدة آيات تبين خطورة الانهماك في جمع المال والمبالغة، والإفراط في حبه، وقد وردت هذه الآيات في سياق الذم لذلك. ومن تلك الآيات:
قال - تعالى -: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:19، 20).
وقد برر المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وغيرهم سبب تخلفهم، بانشغالهم بأموالهم وأولادهم: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (الفتح: من الآية11).
وقال - سبحانه -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:6-8).
وقال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر:4).
وقال: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:1-4).
وقال - جل وعلا - عن أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) (المسد:1-3).
وقال - سبحانه - مخبرًا عمن سيؤتى كتابه بشماله يوم القيامة حيث سيقول متحسرًا: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (الحاقة:27، 28).
وقال: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6، 7).
وقال: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) (القلم:13، 14).
وقال: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل:11).
وقال: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) (الكهف:34، 35).
وقصة قارون فيها العظة والعبرة، والتحذير من الإفراط في حب الدنيا، وعدم أداء حق الله فيها: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: من الآية76) ثم يذكر الله حالة من حالات بطره وفرحه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79). وماذا كانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص:81) ولم يخسر الدنيا فقط بل والآخرة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).(/75)
وقال - سبحانه -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً)(الحديد: من الآية20).
هذه بعض الآيات التي تبين خطوط الانحراف عن الصراط المستقيم في جمع المال وحبه، والآيات كثيرة جدًا.
ولأجل المزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية فسأذكر شيئًا من أقوال المفسرين حول بعض هذه الآيات:
قال الطبري في قوله - تعالى -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر:1) ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وعما ينجيكم من سخطه عليكم.
وروي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - كلام يدل على أن معناه التكاثر بالمال(1).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:1، 2) الهماز بالقول واللماز بالفعل، يعني يزدري الناس وينتقص بهم.
(الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة:2) أي: جمعه بعضه على بعض، وأحصى عده، كقوله - تعالى -: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج:18) قال السدي وابن جرير وقال محمد بن كعب في قوله: (جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ) (الهمزة: من الآية2) ألهاه ماله بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة:3) أي: يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار. (كَلَّا) (الهمزة: من الآية4) أي: الأمر ليس كما زعم ولا كما حسب (2).
وقال في قوله - تعالى -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8). أي: وإنه لحب الخير وهو المال لشديد، وفيه مذهبان:
أحدهما: أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني: وإنه لحريص بخيل من محبة المال.
وكلاهما صحيح (3).
وقال القرطبي في الآية نفسها: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) (العاديات: من الآية8) أي: المال، ومنه قوله - تعالى -: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (البقرة: من الآية180) (لَشَدِيدٌ) (العاديات: من الآية8) أي لقوي في حبه للمال.
وقيل: لشديد: لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد.
قال ابن زيد: سمي المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًا وحرامًا، ولكن الناس يعدونه خيرًا، فسماه الله خيرًا لذلك(4).
وقال في قوله - تعالى -: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2) أي: ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا كسب من جاه.
قال ابن عباس: لما أنذر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - عشيرته بالنار قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنزل: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2)(5).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20) وتحبون المال أيها الناس واقتناءه حبًا كثيرًا شديدًا.
من قولهم: حم الماء في الحوض: إذا اجتمع.
قال قتادة: "حبًا جمًا" أي: حبًا شديدًا.
وقال الضحاك: يحبون كثرة المال(6).
وقال القاسمي في آية الكهف: "وكان له" أي: لصاحب الجنتين، "ثمر" أي أنواع من المال غير الجنتين، من "ثمر ماله" إذا كثر، (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) (الكهف: من الآية34) أي: يراجعه الكلام، تعبيرًا له بالفقر، وفخرًا عليه بالمال والجاه: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (الكهف: من الآية34) أي أنصارًا وحشمًا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) (الكهف: من الآية35) أي بصاحبه يطوف به فيها، ويفاخره بها(7).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6،7) يخبر - تعالى - عن الإنسان أنه ذو فرح، وأشر بطر، وطغيان، إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده وتوعده ووعظه، فقال: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:8)(8).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (30/ 283). ويشير إلى ما رواه عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) وهو يقول: "يقول ابن آدم: مالي مالي!! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت". أخرجه مسلم رقم (2958) والترمذي (5/ 417) رقم (3354) - والنسائي (6/ 238) رقم (3613) وأحمد (4/ 24، 26).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/548).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (4/542).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (20/162).
(5) - انظر: تفسير القرطبي (20/238).
(6) - انظر: تفسير الطبري (30/184).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (11/4058).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (4/528).(/76)
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد قطب في مطلع تفسيره لآيات سورة القصص، في قصة قارون، حيث قال: والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق.
وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح، مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ثم فسر قوله: (لا تَفْرَحْ) (القصص: من الآية76)(1) قائلا: لا تفرح فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.
لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال، وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران.
لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد(2).
والآيات التي مضت وكلام المفسرين حولها يُعطي الدلالة على المنهج الخاطئ الذي يسلكه كثير من الناس في جمع المال، حيث أفرطوا في ذلك وبالغوا فيه، وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح هذا المال وبالا عليهم في الدنيا والآخرة.
إن الإسلام ليس ضد جمع المال - كما قد يتوهم البعض - بل إنه أمر مشروع جاءت الآيات الكثيرة تبين مشروعيته وأهميته، ومن ذلك قوله - تعالى - مبينًا أن المال من الله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: من الآية33) وقال ممتنًا على بني إسرائيل: (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء: من الآية6). ويقول نوح لقومه داعيًا إياهم إلى الإيمان، ومبينًا عاقبة ذلك في الدنيا قبل الآخرة: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:11، 12).
وقال - سبحانه - آمرًا بالمحافظة على المال الذي هو من الله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: من الآية5) وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: من الآية46) وقال: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا) (الأحزاب: من الآية27).
إذن فكما أن القرآن الكريم يحذر من الإغراق في حب المال، وقضاء الحياة في جمعه وتحصيله دون أداء حق الله فيه، ويبين عاقبة من كانت هذه حاله، فإنه لا يرضى بالرهبنة والتصوف والإعراض عن المال بالكلية. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77) بل إنه يقر جمع المال وتحصيله، ويشرع السبل الصحيحة لذلك، وهذا ما سيتضح في الفقرة التالية:
(ب) في كسب المال
توصلنا في الفقرة السابقة إلى أن القرآن الكريم بين لنا خطوط الانحراف في جمع المال وحبه، واتضح لنا أن جمع المال مشروع، ولكن الانحراف يكون في الإفراط فيه أو التفريط، وكذلك فإن حب المال ليس رجسًا أو عارًا، بل هو أمر جبلي فطري، لا ينفي ذلك إلا مكابر أو شاذ، والشذوذ يؤكد القاعدة: وإنما الأمر المنهي عنه هو الغلو في حبه وتقديسه، والتوسط في ذلك هو المشروع: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف:46) (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
ومن هنا جاءت الآيات تبين الخطوط العريضة والمنطلقات الشرعية في كسب المال وتحصيله، وجاءت القاعدة التي تفرعت عنها كل القواعد: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275).
إذن فكسب المال مشروع، ولكن ليس كل طريق يؤدي إلى ذلك جائز ومحمود.
فلا نحرم ما أحل الله من وسائل الكسب المباحة، ولا نبيح ما حرم الله من الوسائل الممنوعة: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116).
وسأذكر بعض ما ورد من آيات تنهي عن بعض أوجه الكسب المحرمة، ليتضح من خلال ذلك أن هناك منهجًا وسطًا في ذلك لا إفراط ولا تفريط:
فقد نهى الله عن الربا، وبين أنه من الكسب المحرم بل غلظ الله في عقوبة هذا الكسب، الذي أفرط فيه كثير من الناس، - وبخاصة في عصرنا الحاضر - حتى قل أن يسلم أحد من الربا أو من غباره، والله المستعان.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/528).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (5/2710).(/77)
قال - تعالى -: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: من الآية275) وقال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: من الآية275) وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: من الآية276) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:278) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) (آل عمران: من الآية130).
وكذلك من طرق الكسب المحرمة: الميسر، وهو القمار، كما قال ابن كثير وغيره(1). وقد جاءت بعض الآيات تبين حكمه وأن الله قد حرمه. قال - تعالى -: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة: من الآية219) وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:90، 91).
وكذلك من أوجه الكسب المحرمة السرقة. قال - تعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) (المائدة: من الآية38). وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:12).
ومن الكسب المحرم أكل مال اليتيم. قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10).
وبالجملة فكل مال أُخذ بالباطل فهو محرم، ولذلك جاءت الآيات تنهى عن أكل المال بالباطل. فقال - سبحانه -: )وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188).
وقال مبينًا سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:160، 161).
وقال: (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) (التوبة: من الآية34).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية29).
قال ابن الجوزي مبينًا معنى الباطل هنا: لا يأكل بعضكم أموال بعض، قال القاضي أبو يعلى:
والباطل على وجهين: أحدهما أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغضب، والخيانة.
والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار والغناء، وثمن الخمر(2).
وقال القرطبي: والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة، وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، ثم قال: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال (3).
ومما سبق يتضح أن هناك منهجًا وسطًا في كسب المال.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/255)، وزاد المسير (1/240) حيث قال ابن الجوزي: العلماء أجمعوا على أن القمار حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياسًا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارًا في الجزر خاصة، وقال: قال ابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة في آخرين: الميسر: هو القمار.
(2) - انظر: زاد المسير (1/194).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (2/338).(/78)
فالقول بإباحة جميع المعاملات قول باطل، وهو من التفريط. وكذلك التشديد، وجعل أن الأصل في الاكتساب هو التحريم إلا ما ورد نص في إباحته قول باطل، وهو من الإفراط.
والقول الصحيح وهو الوسط أن الأصل في البيوع والمعاملات الحل والإباحة، إلا ما ورد النص بتحريمه ومنعه (1) سواء كان المنع بدليل خاص أو عام، فمن الخاص تحريم الميسر والربا والسرقة ونحوها، ومن العام ما يدخل تحت الضرر أو الظلم أو الغرر ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه والأحكام.
(جـ) إنفاق المال
وبعد أن تبين لنا تقرير القرآن لمنهج الوسطية في جمع المال وكسبه، نقف أخيرًا مع المنهج الشرعي في إنفاق المال كما قرره القرآن الكريم.
والناس في هذه المسألة طرفان ووسط:
فهناك القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، المقترون على أنفسهم وأهليهم، فضلا عمن سواهم.
وعلى النقيض من هؤلاء، آخرون مسرفون مترفون، باسطو أيديهم كل البسط.
وبين هؤلاء وأولئك قلة من الناس سلكوا السبيل القويم، والتزموا العدل والاعتدال، واتخذوا بين ذلك سبيلا (2).
وقد نزلت الآيات من لدن عليم حكيم، تبين سلامة هذا المنهج، وتأمر به، وتحث عليه، مع النهي عن سلوك أي من المنهجين المنحرفين، وبيان عاقبة ذلك عاجلا وآجلا (3).
وسأذكر من الآيات ما يبين هذا المنهج ويقرره، دون إيجاز مخل أو إطناب ممل، بل سأتخذ بين ذلك سبيلا:
فبالنسبة للطرف الأول، وهم القابضون أيديهم، البخلاء بأموالهم، جاءت الآيات تبين انحراف هذا المنهج، وتنهى عن هذا المسلك، فقال - سبحانه -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(آل عمران: من الآية180) وقال - جل وعلا -: (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحديد:23، 24).
وقال مبينًا خصلة من خصال المنافقين: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:76).
وقال سبحانه: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38) .
وقال - سبحانه وتعالى -: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً) (الإسراء:100).
قال ابن كثير في هذه الآية: يقول - تعالى - لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس وقتادة: أي: الفقر خشية أن تُذهبوها، مع أنها لا تنفد ولا تفرغ أبدًا، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال: "وكان الإنسان قتورًا". قال ابن عباس وقتادة: أي: بخيلا منوعًا.
وقال - تعالى -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء:53). أي: لو أن لهم نصيبًا في ملك الله ما أعطوا أحدًا شيئًا ولا مقدار نقير.
والله - تعالى - يصف الإنسان من حيث هو - إلا من وفقه الله وهداه - فإن البخل والجزع والهلع صفة له، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه - سبحانه وتعالى -(4).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية180) هذه الآية نزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة.
والبخل في اللغة: أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، لأنه لا يذم بذلك. ثم قال: واختلف في البخل والشح، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك.
والشح: الحرص على تحصيل ما ليس عندك.
__________
(1) - للعلماء كلام في هذه القضية، وتفصيل في هذه القاعدة، انظر: مثلا تفسير القرطبي (3/356) تجد بيان ذلك.
(2) - أي: بين المنهجين المتطرفين.
(3) - من بيان العاجل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا). [سورة الإسراء، آية: 29]. ومن الآجل قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة). [سورة آل عمران، الآية: 180].
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/66).(/79)
وقيل: إن الشح هو البخل مع حرص، وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم -
وهذا يردّ قول من قال: إن البخل منع الواجب، والشح: منع المستحب، إذ لو كان الشح منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذم الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة (1).
وكما جاءت الآيات محذرة من عاقبة البخل والتقتير، فقد جاءت ناهية عن الطرف المقابل وهو الإسراف والتبذير.
فقال - سبحانه -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:26، 27).
وقال - جل وعلا -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: من الآية141).
قال القاسمي في تفسير آية الإسراء: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء: من الآية26) أي: بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه إحسانًا إلى نفسك أو غيرك. قال: وفي الكشاف: كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف.
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء: من الآية27) أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي، وهذا غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان.
وقال: قال أبو السعود: وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله - تعالى - إلى غير مصرفها، من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له، والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه، فإن كفر نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران، ونهاية الضلال والطغيان.
وقال: وقد استدل بالآية مع منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله (2).
وقال الطبري مبينًا مدلول آية الأنعام، (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام: من الآية141) قال: بعد أن ذكر أقوال العلماء: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله - تعالى - نهى بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان الإسراف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب (3) كان معلومًا أن المفرق ماله مباراةً، والباذلَه للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما كيفته له.
وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة، إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها.
وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه.
كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: (وَلا تُسْرِفُوا) (الأنعام: من الآية141) في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم.(4).
وبهذا يتضح لنا أن البخل والإِسراف ضدان قد نهى الله عنهما، وحرمهما على عباده، كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وإذا كانت الآيات السابقة، بينّت كل واحدة منها أحد طرفي الانحراف وحذّرت منه، فإنها تدل بمفهومها على أن طريق الوسط، هو طريق الاستقامة، وبخاصة إذا نظرنا إلى مجموع الآيات السابقة التي تدل على أن الإِسراف والبخل لا يمثلان المنهج الصحيح.
ومع ذلك فقد جاءت آيات تدلّ صراحة على انحراف كل من الطرفين المذكورين، وينصّ بعضها على طريق الوسط، وأنه المنهج الحق الذي يجب الالتزام به والسير فيه.
قال - تعالى - في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (4/291-293). والحديث أخرجه مسلم (4/1996) رقم (2578).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (10/3921).
(3) - ممن قال بذلك وفسر به الإسراف: سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، كما ذكر الطبري في تفسيره (8/61). ولكن الإسراف إذا أطلق يراد به التبذير، وما يقابل البخل والتقتير، قال - سبحانه -: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا). [سورة الفرقان، آية: 67]. وتفسير الإٍسراف بالبخل فيه نظر. والله أعلم.
(4) - انظر: تفسير الطبري (8/61).(/80)
قال ابن كثير في الآية الفرقان: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: من الآية67) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.
(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: من الآية67) كما قال - تعالى -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29)(1).
وقال الطبري في آية الإسراء: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) (الإسراء: من الآية29).
وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئًا، إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها. (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: من الآية29) يقول: ولا تبسطها بالعطية كل البسط، فتبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئًا تعطيه سائلك. (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء: من الآية29) يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلوم نفسك على الإسراع في مالك وذهابه(2).
ومما يدل على الوسطية في النفقة قوله - تعالى -: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وهذا من الوسطية النسبية التي يراعى فيها حال المنفق، وما جرت العادة به ونحو ذلك.
قال القرطبي: فتقدّر النفقة بحسب الحالة من المنفِق، والحاجة من المنفَق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفَق عليه، ثم ينظر إلى حالة المنفَق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، وإن اقتصرت حالته على حالة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتماله(3).
من خلال ما سبق ظهر لنا منهج الوسطية واضحًا جليًّا في الجمع والكسب، وإنفاق المال.
ودلتّ الآيات السابقة على النهي على الإِفراط والتفريط، ووجوب الالتزام بالمنهج الوسط، وجماع ذلك قول الله العظيم، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67). ومن أصدق من الله قيلا.
ومما سبق في تقرير وسطية الإسلام في جمع المال وكسبه وإنفاقه يتّضح انحراف كل من المنهج الرأسمالي والمنهج الاشتراكي(4).
فالنظام الرأسمالي يقوم على حرية الفرد في عمل ما يروق له من الأعمال التجارية.
فهي تعني حرية الاستثمار، وحرية الفرد في التملك، الحرية المطلقة، فهو حرّ في البحث عن الربح بشتى الوسائل والطرق.
والملكية الفردية مقدّسة، لا تمسّ، ولا يحدّها ضابط أو قيد، حتى لو أدّت هذه الملكية لاحتكار المالك للسلعة.
إن هذه الحرية بل هذه الفوضوية المطلقة - كان لها نتائج عكسية على المجتمع، حيث أوقدت نار الاحتكار والأنانية الفردية.
وبالتالي تحوّلت الحياة الاقتصادية إلى شريعة غاب، يأكل فيها القوي الضعيف.
وأدّى هذا إلى تكدس رءوس الأموال في يد طبقة معينة من أصحاب رءوس الأموال، ويقابلهم طبقة العمال الذين لا حول لهم ولا قوّة.
ويقابل المنهج الرأسمالي المنهج الاشتراكي، حيث قام على فكرة وفلسفة انتقال السيطرة على المال من أيدي أصحاب رءوس الأموال إلى أيدي الطبقة العاملة. حيث قامت على أسس من أبرزها:
1- إلغاء الملكية الفردية، وتأميم الممتلكات التجارية والصناعية، بدعوى مصلحة الجميع، والأفراد يؤدون أعمالا للدولة نظير أجور متساوية.
2- توزيع السلع والمنتوجات الاستهلاكية كل وفق حاجته.
فالاقتصاد الاشتراكي يعتمد على - دعوى - تغليب مصلحة المجتمع، ويجعل الدولة مالكة لكل شيء، وموجهة للاقتصاد، فلا يكاد يوجه للأفراد حقوق تذكر، من التملك والتنقل أو اختيار العمل، فأفقر الغني ولم يُغن الفقير.
وبهذا فإن في هذين النظامين يتمثل الإفراط والتفريط في أبشع صورة.
أمّا الإِسلام - فكما سبق بيان منهج القرآن في ذلك - يختلف عن هذين النظامين اختلافًا جذريًّا.
فهو آخذ بمصلحة الفرد ومصلحةَ المجتمع في وقت واحد، فهو يحترم الملكية الفردية ويقرّها، لأنها توافق الفطرة الإنسانية، ولكنه لا يقرّها مطلقة من كل قيودها، بل جعل لها ضوابط وقيود تحول دون الاعتداء على مصلحة المجتمع، وكذلك يحترم مصلحة المجتمع دون التعدي على مصلحة الفرد.
ففيه الإِرث والوصية والزكاة والصدقة وغير ذلك من وجوه الإنفاقُ المشروعة.
كما حرّم الاحتكار والرّبا والغشّ وغيرها من وجوه الاكتساب المحرّمة (5).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/325).
(2) - انظر: تفسير الطبري (15/76).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (18/170).
(4) - انظر: الوسطية في الإسلام د/ زيد الزيد ص (56).
(5) - انظر: الوسطية في الإسلام د/ زيد الزيد ص (56) وما بعدها.(/81)
وبهذا تحقّقت الوسطيَّة في أبهى صورها، الوسطية التي توافق الفطرة وتنميها: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: من الآية30).
مطالب النفس وشهواتها
قال الله - سبحانه وتعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
قال سيد قطب: صياغة الفعل للمجهول - هنا - تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمّن هذا الميل، فهو محبّب ومزين، وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه، ففي الإِنسان هذا الميل إلى هذه الشهوات، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته، فهو ضروري للحياة البشرية، كي تتأصل وتنمو وتطرد(1).
وقال رشيد رضا بعد أن بين اختلاف المفسرين في إسناد التزيين في هذا المقام، فأسنده بعضهم إلى الله، وأسنده بعضهم إلى الشيطان. قال: وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر، وبيان حقيقة الأمر في نفسه، لا في جزئياته، وأفراد وقائعه، فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه، ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنّما يسند إليه ما قد يعدّ هو من أسبابه، كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحًا، ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال - تعالى -: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الأنفال: من الآية48) وقال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: من الآية43).
وأمّا الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلاّ إلى الخالق الحكيم، الذي لا شريك له، قال - عز وجل - (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف:7)(2).
وبعد أن تقّررت هذه الحقيقة: وهي أن الميل إلى شهوات الدنيا أمر فطري مركوز في خلق الإنسان، فإن الناس أمام هذه الحقيقة طرفان ووسط.
فهناك من وقف أمام هذا الميل موقفًا مغاليًا، فحرّم على نفسه الطيبات وغيرها، ومنعها من الملاذّ، وما فُطرت عليه من الزواج والمال وأطايب الملابس والمآكل، وهؤلاء يمثلهم رهبان النصارى وغلاة الصوفية، وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وتراها رجسًا من عمل الشيطان، وأصبح هذا النزوع مذهبًا رائجًا (3).
فهؤلاء رأوا الجسد سجنًا للروح، يحول بينها وبين أشواقها العالية، وشفافيتها السامية، فاخترعوا الرياضيات الروحية الشاقة، التي تقوم على إرهاق الجسد وتعذيبه، وتحوّله إلى شبح هزيل، يسكن المغاور والمقابر والكهوف، وينفر من كل الصلات الإِنسانية(4).
وهؤلاء أفرطوا وغلوا، وخرجوا عن سواء السبيل.
والطرف المقابل لهؤلاء، هم الذين انساقوا وراء شهوات أنفسهم، واعتبروا الحياة الدنيا هي الغاية والنهاية، وقالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24).
فأغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، ولم يعرفوا لهم هدفًا ساميًا يسعون إليه، غير منافع الدنيا العاجلة، ولذائذها الفانية.
وأصبحوا كالأنعام، بل هم أضلّ سبيلا.
وهذا المنهج سقطت فيه الكثير من الأيديولوجيات، وتبعه ملايين البشر، الذين ارتموا في أحضان النفعية الغربية المادية، أو سقطوا في مخالب المادية الماركسية، التي تعيث في الأرض فسادًا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وهؤلاء فرّطوا وضيّعوا، وضلّوا عن سواء السبيل.
وبين هؤلاء وأولئك جاء القرآن بالمنهج العدل الوسط، فاعترف بحاجة الإِنسان إلى تلبية فطرته، وتحقيق بعض رغباته، دون حجر أو كبت.
ولكنه لم يترك له الحبل على غاربه، بل وضع الضوابط والحدود، وبينّ أنّ له مهمة سامية يسعى إليها أشرف من الدنيا وما فيها.
ونبينّ الآن ما جاء في القرآن تجاه كل طرف، ثم تقريره للمنهج الوسط.
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/373).
(2) - انظر: تفسير المنار (3/239).
(3) - انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي ص (186)، والوسطية في الإسلام ص (42).
(4) - انظر: المسلمون بين التشديد والتيسير للعودة ص13، والوسطية في الإسلام ص44.(/82)
أمّا الطرف الأول وهم الذين غلوا وأفرطوا، فقد جاءت بعض الآيات التي تردّ هذا المنهج وتبين انحرافه، فقال - سبحانه -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32).
وقال - سبحانه -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33).
وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (البقرة: من الآية168).
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
يقول - تعالى - ردًّا على من حرّم شيئًا من المآكل والمشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يُحّرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: من الآية32) أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حباً في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار(1).
وقال الطبري في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأعراف: من الآية33).
يقول الله - تعالى - ذكره لنبيه محمد، - صلى الله عليه وسلم - قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه، أيّها القوم إن الله لم يحرّم ما تحرمونه، بل أحّل ذلك لعباده المؤمنين وطيّبه لهم، وإنّما حرم ربيّ القبائح من الأشياء، وهي الفواحش، ما ظهر منها فكان علانية، وما بطن منها فكان سرًّا في خفاء.
ثم فسرّ - قوله تعالى - في آخر الآية: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: من الآية33) فقال: يقول وأن تقولوا: إن الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيبتموها، وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرمه، أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به.
فإن ذلك - أي هذا القول - هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلاً منكم بحقيقة ما تقولون، وتضيفونه إلى الله(2).
وقال رشيد رضا مفسراً قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32).
حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبداً وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرّموا من الحرث والأنعام ما بيّنه - تعالى - في سورة الأنعام، وحرّم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرًا من الطيبات والزينة كذلك، فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم، ينكر هذا التحكم والظلم للنفس، فالاستفهام في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ) (الأعراف: من الآية32) إنكاري، يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشيطان، لا مما أوحاه - تعالى - إلى من سبق من المرسلين(3).
وبهذا يتّضح انحراف هذا المنهج وبعده عن الصّراط المستقيم.
ومثلما جاءت الآيات مبينة حكم الله في هذا الطرف، جاءت كذلك تبين انحراف الطرف المقابل وميله عن الحق، وهم الذين تركوا العنان لأنفسهم تعبث كيفما تشاء، وترتع كالأنعام فيما اشتهت وهوت، دون حسيب أو رقيب أو ضابط.
قال - سبحانه وتعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
وقال - جلّ وعلا -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27).
وقال عزّ ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد: من الآية12).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2/211).
(2) - انظر: تفسير الطبري (8/167).
(3) - انظر: تفسير المنار (8/387).(/83)
وقال: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
وقال: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف:20).
وقال - سبحانه -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية200).
فهذه الآيات وأمثالها تدّل على ضلال هؤلاء وانحرافهم، حيث فرّطوا بركونهم إلى الحياة الدنيا وشهواتها، وتفصيلا لهذا الانحراف أذكر بعض أقوال المفسرين حول معنى هذه الآيات.
قال الطبري في قوله - تعالى -: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء: من الآية27) يقول: يريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر الله - تبارك وتعالى - فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم، وركوبكم معاصيه ميلا عظيمًا، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
ثم قال بعد أن ذكر أقوال العلماء في المراد بالذين يتبعون الشهوات: فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذين لا شاهد عليه من أصل أو قياس.
وإذا كان ذلك كذلك كان داخلا في الذين يتّبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزّناة، وكل متبع باطلا، لأن كل متبع ما نهاه الله عنه فمتبع شهوة نفسه(1).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) (محمد: من الآية12). قال: أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضمًا وقضمًا، وليس لهم همة إلا ذلك، ولذلك ثبت في الصحيح: - المؤمن يأكل في معي واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء - (2).
وقال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20). أي: تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي.
وقيل: أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي.
قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي: شبابه وقوّته.
قال القرطبي: قلت: القول الأول أظهر، ثم ساق الأدلة على صحة هذا القول، وذلك بتفسير عمر - رضي الله عنه - للآية وغيره من السلف (3).
وقال القرطبي - أيضًا - في قوله - تعالى -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (مريم: من الآية59) عن علي، - رضي الله عنه - هو من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور.
قلت - أي القرطبي -: الشهوات عبارة عما يوافق الإنسان، يشتهيه ويلائمه ولا يتقيه، وفي الصحيح: - حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات - (4).
وما ذكر عن علي - رضي الله عنه - جزء من هذا(5).
وأختم أقوال المفسرين بما قاله سيد في تفسير قوله - تعالى -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الأحقاف: من الآية20) قد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا، فلم يدّخروا للآخرة منها شيئًا، واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابًا.
استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام، ومن ثمّ كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة (6).
وهذه الآيات وكلام المفسرين حولها بيّنت أنّ التفريط مذموم، وعاقبته وخيمة، وأنّه مجافاة للطريق السوي، والصراط المستقيم.
وننتهي بعد ذلك إلى نتيجة محدّدة لا لبس فيها ولا غموض، وهي أن تحريم الطيبات وما أحلّ الله لعباده غلو وإفراط، ومثل ذلك - في الذّم - اتباع الشهوات وعدم منع النفس مما تشتهي حلالا كان أو حرامًا، فهذا تفريط. والطريق العدل والمنهج الوسط ما بين ذلك، وهو ما تحدّده وتُبيّنه الآيات التالية:
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (5/28).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/175) والحديث أخرجه البخاري (6/200).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (16/200).
(4) - أخرجه مسلم (4/2174) رقم (2822) وهو عند البخاري أيضًا (7/186) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ "حُجبت النار بالشهوات وحُجبت الجنة بالمكاره".
(5) - انظر: تفسير القرطبي (11/125).
(6) - انظر: في ظلال القرآن (6/3264).(/84)
قال - تعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31). فهذه من أوضح الآيات دلالة على المراد، حيث حددت معالم هذا المنهج، فلباس الزينة مشروع، ومثل ذلك الأكل والشرب مما أباح الله، ولو كان فيه زيادة على الحاجة والضرورة، ولكن المنهي عنه أن يكون هناك إسراف وتبذير، سواء كان الإسراف في النوع أو الكم أو العادة.
وما أجمل ما قاله القرطبي في هذا الباب، حيث قال: والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا، ولا يتكلّف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي، - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي، - صلى الله عليه وسلم - معلومة، وطريقة الصحابة منقولة(1).
وقال الطبري في هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) (الأعراف: من الآية31) من الكساء واللباس، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا) (الأعراف: من الآية31) من طيبات ما رزقتكم وحللته لكم، (وَاشْرَبُوا) (الأعراف: من الآية31) من حلال الأشربة، ولا تُحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي، أو على لسان رسولي محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: عن ابن عباس قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة.
وروي عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31).
قال: في الطعام والشراب.
وقال السدي: لا تسرفوا في التحريم.
وقال ابن زيد: لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
وقوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: من الآية31) يقول: إن الله لا يحب المتعدين حدّه، في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام، وبتحريم الحلال، ولكنه يجب أن يُحلّل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به(2).
وقال ابن كثير: قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31) وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة(3).
ومن الأدلة على الوسطية والاعتدال في مطالب النفس قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168). فقوله: (كُلُوا) (البقرة: من الآية168) إباحة لما قد يتوهّم من التحريم جهلا أو غلوًّا. وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة: من الآية168) نهى عن الحرام، والإسراف حرام، فهو منهي عنه.
قال الطبري في الآية: يا أيها الناس كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد، - صلى الله عليه وسلم - فطيبته لكم، مما تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك، مما لم أحرّمه عليكم، دون ما حرّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجسته؛ من ميتة ودم ولحم خنزير، وما أُهل به لغيري. ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فيهلككم ويوردكم موارد العطب.
ثم قال بعد أن بيّن أقوال العلماء في المراد بخطوات الشيطان: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، غير أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بيّنت من أنها بُعد ما بين قدميه، ثم تستعمل في جميع آثاره وطرقه على ما قد بيّنت(4).
ومن الأدلة قوله - تعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة:201، 202).
قال ابن كثير في هذه الآية:
جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شرّ، فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هيّن، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأمّا الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة(5) وتوابعه، من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام(6).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (16/202).
(2) - انظر: تفسير الطبري (8/162).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/210). وصحيح البخاري (7/33).
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/76).
(5) - وأعلى منها لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ولكنه لا يكون إلا لمن دخل الجنة.
(6) - انظر: تفسير ابن كثير (1/243).(/85)
ومن الأدلة التي تصلح في هذا المقام قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون:5-7).
قال ابن كثير في تفسيره للآية: أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنهم من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحلّه الله فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون: من الآية6)(1).
ووجه الاستدلال من هذه الآية على منهج الوسطيَّة أنه أباح لهم بعض مطالب أنفسهم كالزواج والتسري، وهذا هو الطريق المشروع لإشباع هذه الغريزة، ولكنه - أيضًا - حرّم التعدي والإسراف والإفراط والتفريط، وذلك بإتيان ما حرم الله من الزنا واللواط، بل والاستمناء على القول الراجح من أقوال العلماء(2).
وأختم الكلام في هذا المبحث بما قاله سيد قطب أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14) حيث قال:
في الآية واحدة يجمع السياق القرآني أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) (آل عمران: من الآية14) فهي شهوات مستحبة مستلذة، وليست مستقذرة ولا كريهة، والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها، إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى.
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشريّة، وقبوله بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها، إننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال(3).
هذه هي الوسطية التي رسمها القرآن الكريم فيما يتعلق بمطالب النفس وشهواتها.
وهو بهذا يمثل الواقعية والحكمة، ويوازن بين نوازع النفس البشرية وحقائق العبودية وتكاليفها.
عاشرًا: شواهد أخرى
وبعد أن ذكرت الآيات التي جاءت تقرّر منهج الوسطيَّة في إطار الأبواب الماضية، فإن هناك آيات أخرى ليست داخلة في أي باب من الأبواب السابقة دخولا مباشرًا. وهي تدلّ دلالة واضحة على هذا المنهج وتؤكده (4).
ولذلك سأذكر بعض هذه الآيات دون استطراد في التفسير أو التعليق، وإنما سأكتفي بذكر الآية مع الإشارة إلى وجه الدلالة، وذكر قول لأحد المفسرين أو قولين، بما يؤدي الغرض ويحققه.
1- قال الله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9).
قال ابن كثير: يمدح الله - تعالى - كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد، - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل(5).
وقال القرطبي: ومعنى (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9) أي الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب(6).
وبهذا التفسير فإن الوسطيَّة داخلة في هذه الهداية من باب أولى، لأنها متضمنّة للعدل والاستقامة.
2- قال - تعالى -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (المعارج:19- 22).
قال القرطبي: الهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه.
والمعنى: أنه لا يصبر على خير ولا شرّ حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
والمنوع: هو الذي أصاب المال منع منه حق الله - تعالى -.
وقال أبو عبيدة: الهلوع: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضرّ لم يصبر(7).
3- قال - تعالى -: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:5-10).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/239).
(2) - انظر: تفصيل ذلك في تفسير القرطبي (12/105).
(3) - انظر: في ظلال القرآن (1/373).
(4) - قد ترد آيات يبدو منها لأول وهلة دخولها تحت باب من الأبواب السابقة، ولكن عند التأمل سنجد أن هناك فرقًا في وجه الدلالة آثرت معه إفرادها هنا، مع وجود شيء من الاشتراك هناك.
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (3/26).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (10/225).
(7) - انظر: تفسير القرطبي (18/290).(/86)
قال ابن كثير مبينًا دلالتها على الوسطية:
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (عبس:5،6) أي: أمّا الغني فأنت تعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) (عبس:7) أي: بمطالب منه إذا لم يحصل له زكاة - وهي الهداية -.
(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى) (عبس:8، 9) أي: يقصدك ويؤمك، ليهتدي بما تقول له، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:10) أي: تتشاغل.
ومن هنا أمر الله تعالى رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ألا يخصّ بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة(1).
4- قال - تعالى -: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر:15،16).
وهذا الأمر فيه إفراط وتفريط، قال ابن كثير مبينًا ذلك، وموضحًا طريق الاستقامة في ذلك.
يقول - تعالى - منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسّع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال -تعالى-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (المؤمنون:55، 56).
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيّق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحبّ ومن لا يحبّ، ويضيق على من يحب ومن لا يحبّ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر(2).
5- قال - تعالى – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: من الآية6).
والموقف من الخبر إذا جاء من الفاسق إمّا قبوله مطلقًا، وهذا إفراط، أو ردّه مطلقًا، وهذا تفريط، فقد يصدق خبره، وإما التثبت والتبين، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
قال القرطبي: في الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبيت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعًا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، وقد استثنى الإجماع من ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير (3).
وقال ابن كثير: يأمر - تعالى - بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبًا أو مخطئًا (4).
6- قال - تعالى -: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) (لقمان: 14، 15) والأمر يدورعلى ثلاثة أوجه:
إما الطاعة وحسن الصحبة والإحسان، وإما البراء منهما مطلقًا فلا طاعة ولا صحبة ولا إحسان، وإما التوسط، وهو عدم الطاعة في معصية الله، مع الإحسان إليهما، وحسن الصحبة، وهذا هو الوسط وهو المشروع.
وقريب من هذا المعنى ما جاء في سورة الممتحنة، قال - سبحانه -: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
والدلالة في الآية واضحة جلية.
7- ومشاقة الله ورسوله خروج عن منهج الوسطيَّة، ولذلك جاء ذمها في القرآن في أكثر من موضع، قال - سبحانه -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:13). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:4).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/470).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/509).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (16/312).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (4/308).(/87)
قال سيد قطب في تفسيره للآية الثانية: والمشاقة أن يأخذوا لهم شقًّا غير شق الله، وجانبًا غير جانبه، وقد جعل الله جانبه هو جانب رسوله، - صلى الله عليه وسلم - حين وصف علّة استحقاقهم للعذاب في صدر الآية، فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده، فهي تشمل مشاقة الرسول وتتضمنها.
ثم ليقف المشاقّون في ناحية أمام الله - سبحانه - وهو موقف فيه تبجّح قبيح، حين يقف المخاليق في وجه الخالق يُشاقّونه (1).
8- قال - تعالى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى:27).
قال الطبري: ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسّعه وكثّره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير ذلك الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزّل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه(2).
وقال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان، من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا.
وقال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك (3).
ودلالة هذه الآية: أن وسطيَّة الرزق تؤدي إلى وسطية العمل والعبادة، والإفراط يؤدي إلى الإفراط والتفريط، فأصبحت وسطيَّة الرزق مانعة من الطغيان والبغي.
9- ومما يُدلّ على ذمّ الإِفراط والتفريط قوله - تعالى -: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم:36). ومثل هذا المعنى قوله - تعالى - عن المنافقين.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58) ثم يبين لهم المنهج الحق الذي يجب أن يسلكوه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:59).
قال القاسمي في الآية الأولى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) (الروم: من الآية36) أي: نعمة من صحة وسعة (فَرِحُوا بِهَا) (الروم: من الآية36) أي: بطرًا وفخرًا، لا حمدًا وشكرًا.
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) (الروم: من الآية36) أي: شدّة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (الروم: من الآية36) أي: من المعاصي والآثام: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم: من الآية36) أي: ييأسون من روح الله.
قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقّه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال: (ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود: من الآية10) أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره.
وإذا أصابته شدّة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية، ثم بين المنهج الوسط.
قال الله - تعالى -: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (هود: من الآية11) أي: صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرّخاء، كما ثبت في الصحيح: عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له(4).
وأشير إلى الآية التي وردت قبل هذه الآية، وهي تدل على فساد مسلك من خرج عن منهج الاستقامة، وانحراف يُمنة ويُسرة، قال - سبحانه -: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (الروم:33).
10- وانظر نتيجة الخروج عن منهج الوسطية والاعتدال وشكر النعمة فيما قصه الله علينا في هذه الآيات: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ:18، 19).
قال ابن كثير: وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبّوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تُنبت الأرض، من بقلها وقثّائها وفُومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب، وملابس مرتفعة، ولهذا قال لهم: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: من الآية61).
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (6/3522).
(2) - انظر: تفسير الطبري (25/30).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (4/115).
(4) - انظر: تفسير القاسمي ص (4780). والحديث أخرجه مسلم (4/2295). رقم (2999).(/88)
وقال - عز وجل - (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) (القصص: من الآية58).
وانظر ماذا كانت النتيجة: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (سبأ: من الآية19) قال ابن كثير: أي جعلناهم حديثًا للناس. وسمرًا يتحدثون به من خيرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر(1).
أمّا بنو إسرائيل فكان أمرهم كما أخبر الله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
11- الطغيان خروج عن الاستقامة، بل هو مضاد لها ومباين، ولذلك جاءت الآيات تذمّ الطغاة وتنهى عن الطغيان، وتأمر بالاستقامة:
قال - تعالى – (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
وقال عن فرعون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طه:43). وقال: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-39).
وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (الشورى: من الآية15).
وقال: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16).
ومن ترك الطغيان واستقام فقد التزم منهج الوسط والاعتدال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )(البقرة: من الآية143).
وإلى هنا نصل إلى نهاية بيان القرآن لمنهج الوسطيَّة، وتقريره لذلك والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأشكره شكرًا عظيمًا على ما أولاه من فضل وعون وتوفيق، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد ذكرت في مقدمة هذه الرسالة أن البحث جاء يُعالج قضية الوسطية من حيث جهل كثير من الناس بها، وما ترتّب على ذلك من إفراط وتفريط.
ولذا فإنّي أجد من المناسب أن ألخص ما توصلت إليه في هذه الرسالة فيما يلي:
1- ذكرت تعريفات العلماء لكلمة (وسط)، وخلاصة ما ذكروا ما عبّر عنه محمد باكريم، حيث قال:
وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا يخرج معناها عن معاني: العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينية والتوسط بين الطرفين.
وذكرت - أيضًا - ما ذكره فريد عبد القادر، حيث قال: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير والعدل والنصفة والجودة والرفعة والمكانة العليّة.
وختمت ما قيل في معنى (الوسط) بما ذكره ابن عاشور وملخّصه:
والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تُحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء مُحيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عُرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة.
فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية. أمّا إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، فذلك مجاز.
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
2- ذكرت ورود كلمة (وسط) في القرآن الكريم بعدّة تصاريف، حيث وردت خمس مرات، في البقرة بلفظ: "وسطًا" و "الوُسْطى".
وفي المائدة بلفظ: "أوْسَط".
وفي القلم بلفظ: "أوْسَطَهُم".
وفي العاديات بلفظ: "فَوَسَطْن".
وبينت مدلول كل كلمة في ضوء أقوال المفسرين، وكذلك ذكرت مدى دلالة كل لفظة على معنى الوسطية.
3- استشهدت ببعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (وسط).
قد ذكرت (12) حديثًا شرحت فيها معنى كل لفظة، وهل هي من الوسط أو الوسطية؟
4- وفي ختام تعريف الوسطية حررت معناها، وبينت المراد من هذا المصطلح عند إطلاقه، وكان مما قلت:
وقد تأملت ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطية)، فتوصلت إلى أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توافر فيه صفتان:
(أ) الخيرية أو ما يدل عليها.
(ب) البينية، سواء كانت حسية أو معنوية. فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية.
5- هناك أسس لابد منها لفهم الوسطية، وتلك الأسس مطردة مع وصفي الخيرية والبينية، وهي:
(أ) الغلو والإفراط.
(ب) الجفا والتفريط.
(ج) الصراط المستقيم فالصراط المستقيم يمثل الخيرية ويحقق معناها، وهو وسط بين الغلو والجفاء، وهو كذلك وسط بين الإفراط والتفريط.
وقد وقفت مع هذه الأسس الثلاثة مبينًا وشارحًا، ثم توصلت إلى عدة حقائق أهمها:
أن الصراط المستقيم يمثل قمة الوسطية، وذروة سنامها، وأعلى درجاتها.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/533).(/89)
أنه يجب عند النظر في أي أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية، ومدى قربه أو بعده منها دقة النظر والاعتبار في حقيقة الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعاة في ذلك عدة أمور أشرت إليها في ذلك المبحث.
فإذا اتضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصراط المستقيم فهو داخل في الوسطية، أما إذا كان إلى الإفراط والتفريط أقرب حقيقة ومآلا، فليس من الوسطية في شيء، وإن حسبه الناس كذلك.
6- للوسطية ملامح وسمات تحف بها وتميزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهم تلك السمات والملامح باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الباحثين في ضوء الكتاب والسنة.
إن تحديد تلك الملامح مهمة أساسية، حتى لا تكون الوسطية مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشهوات.
وقد توصلت إلى أن أهم سمات الوسطية ما يلي:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينية.
5- العدل والحكمة. وكل سمة من هذه السمات يندرج تحتها بعض آحادها. وأشرت إلى أن هذه الملامح تصلح ضابطًا لتحديد الوسطية ومعرفتها، بما يجيب على السؤال الذي يرد في الأذهان.
أين ضابط الوسطية؟ وكيف نميزها عن غيرها؟
7- نزل القرآن الكريم هداية للناس ونورًا، يخرج الله به من شاء من الظلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطية عين الهداية وجوهرها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضة ترسم منهج الوسطية وتدل عليه. والوسطية ليست محصورة في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن واحد من الأركان، وإنما هي منهج شامل متكامل، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كله وسط، وهذه الأمة أمة الوسط. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن حقيقة القرآن وهداياته.
ومن هذا المنطلق بينت - بالتفصيل - تقرير القرآن لمنهج الوسطية في أبواب كثيرة، أجملها فيما يلي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وختمت هذه الأبواب بباب ضمنته شواهد متفرقة، تدل على منهج الوسطية وتأمر به. هذا بالإضافة إلى ما ذكرته في أول هذا المبحث من دلالة سورة الفاتحة على هذا المنهج في عدة آيات منها.
ومن خلال هذه الأبواب اتضح لنا أن الوسطية منهج حياة وتشريع متكامل، لا يقبل التجزئة والتفريق، وأن أدلة الوسطية ليست هي التي ورد فيها لفظ (الوسط) فقط، بل أعم من ذلك وأشمل، والآيات التي جاءت تدل دلالة صريحة على منهج الوسطية تربو على العشرات، إذ هي في عداد المئات.
8- وبعد بيان موجز للمسائل العلمية التي توصلت إليها في هذا البحث، أذكر أهم النتائج العملية التي نخرج بها من هذه الدراسة العلمية.
(أ) أن أهم أسباب نشوء جماعات الغلو بين المنتسبين إلى الدعوة في هذا العصر هو الجهل بحقيقة الوسطية، بل الجهل بمكانتها في الإسلام.
(ب) وكذلك أجد من الأسباب الرئيسية لقبول ما يطلقه الأعداء على الدعاة الصادقين من ألقاب وأوصاف: كالتطرف والغلو، والتزمت والتشدد، ونحوها، من أبرز أسباب قبولها ورواجها بين الناس لسببين:
1- الجهل بحقيقة الوسطية الشرعية، وتصور أولئك العامة أن الوسطية التي أمر الله بها تعني التساهل والتنازل واتباع شهوات النفس ورغباتها، ولهذا تجدهم يستخدمون هذا الفهم مقياسًا لرمي الدعاة بتلك الأوصاف والألقاب.
2- السبب الثاني وهو أهم من الأول في قوة التأثير: عدم ممارسة الوسطية على وجهها الصحيح من قبل بعض الدعاة والملتزمين، حيث تجد خللا في تطبيقها أتاح للأعداء فرصة اقتناص بعض الأخطاء والهفوات، ومن ثم إقناع كثير من الناس بصحة تلك الدعاوى وتلبيس هذه التهم الباطلة.
(ج) وأخلص إلى حقيقة عملية تكون هي المخرج مما نعانيه تجاه موضوع الوسطية، وتتمثل هذه الحقيقة فيما يلي:
1- بذل الجهود العلمية من قبل العلماء وطلاب العلم في بحث موضوع الوسطية، واستفراغ الوسع في ذلك، حيث أرى أن هناك جوانب مهمة لم تعط حقها من البحث والدراسة.
2- عقد الندوات والمحاضرات لبيان أهمية الموضوع وحقيقته، وأثره الإيجابي في حياة الناس.
3- الممارسة العلمية الواقعية لمنهج الوسطية من قبل العلماء وطلاب العلم والدعاة، مما يتيح للناس أن يروا القدوة الصالحة التي هم في أمس الحاجة إليها.
4- تربية الأمة على هذا المنهج تربية عملية شاملة، مما يقضي على الخلل الموجود في محيط المجتمع المسلم سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.(/90)
5- وأخيرًا فإن هناك لبسًا في فهم الوسطية وممارساتها من قبل بعض الجماعات والدعاة، وهذا اللبس أدى إلى أنهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا، فرأينا التنازل مع الأعداء باسم المصلحة، وضعفًا في حقيقة الولاء والبراء بحجة تأليف القلوب والدعوة إلى الله، ومصانعة لبعض الظالمين بدعوى دفع الشر والفتنة، وهكذا.
ولذلك لا بد من تصفية المنهج مما علق به ليكون وفق الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/91)
الوسطية لا التميعية أ.د. جعفر شيخ إدريس*
إن بعض الناس ـ اليوم ـ يعمدون إلى ألفاظ عربية إسلامية فيفرغونها من مدلولاتها الإسلامية، ثم يحشونها بمدلولات كلمات غربية يجعلونها ترجمة لها. من هذه الكلمات: كلمة الوسطية، التي شاع في هذه الأيام استعمالها عند أمثال هؤلاء بمعنى لكلمة moderate. نعم، إن المعنى اللغوي لكلمة مودريت قريب من معنى المعتدل وغير المتطرف، لكن ينبغي أن نتذكر أن الاعتدال والتطرف من المفاهيم النسبية التي لا يتضح المقصود منها إلا حين توضع في إطارها التصوري؛ فالله ـ تعالى ـ يدعونا لأن نأخذ ديننا بقوة، وأن نعتقد أن ما جاءنا به رسوله هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن ما خالفه لا يكون إلا باطلاً وضلالاً. لكن المسلم المودريت عند الغربيين ولا سيما الأمريكان، هو الذي لا يأخذ دينه بقوة، بل يجامل فيه ويداهن، ويغير ويبدل بحسب ما تقتضيه أهواء الثقافة الغربية، بل ومصالحها السياسية والاقتصادية. فهو إنسان لا يأخذ النصوص ـ ولاسيما نصوص السنة النبوية ـ مأخذ الجد إلا ما كان منها موافقاً لهواه، ويرى الحوار مغنياً عن جهاد القتال، فيطلب من المسلمين أن يظلوا يحاورون ويحاورون، ويحاورون... حتى لو كانت قنابل من يحاورونهم تتساقط على رؤوسهم، ولا يدعوهم لأن يحاوروا فحسب؛ بل يطلب منهم أن يكون حوارهم مع الآخر مبنياً على الاعتراف به. فهو حين يحاور يقول للكافر أو المنافق متلطفاً: هذا رأيي وهذا اعتقادي، ولا حرج عليك في أن ترى غيره، وتعتقد سواه، فنحن جميعاً طلاب حقيقة، يدرك كل منا قدراً منها، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه قد وجدها كلها.
مما يدلك على نسبية هذه المفاهيم أن بوش لم يكن يرى نفسه، ولا رآه الغربيون، بل ولا رآه عبيدهم ممن يدعون الليبرالية في بلادنا، لم يره واحد من هؤلاء متطرفاً حين ألقى قبل أيام خطاباً في غاية الحماسة، دعا فيه دفعة من الضباط من خريجي الأكاديمية العسكرية بكلية وست بوينت: أن يستعدوا لقتال عدوهم ـ الإسلام الراديكالي ـ لأن هذه ستكون أعظم مهامهم، ولا حين قال لهم: إن أمريكا لن تنتظر حتى تهاجم، بل ستبادر بالهجوم على من يستعد للهجوم عليها، وتقضي عليه في الخارج لئلا تضطر لمواجهته في الداخل. حين يقول بوش هذا كله لا يكون متطرفاً، لكن إذا دعا زعيم مسلم خريجي كلية عسكرية في بلده أن يستعدوا لإعلاء كلمة الله، ومحاربة أعدائه فإنه يعد من أكبر المتطرفين، ويكون من أكبر الدعاة إلى الكراهية.
من الخطأ إذن أن تعطى الألفاظ القرآنية الدلالات الأيديولجية التي تعطى للكلمات الغربية، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بقضايا في أصول الدين، حتى لو كانت المعاني اللغوية متقاربة. وعليه فإن ما تشير إليه كلمة الوسطية في إطار الهدي الإسلامي لا بد أن تكون مخالفة لما تشير إليه كلمة مقاربة لها لغوياً في إطار أيديولجية مخالفة للإسلام.
دلالة الوسطية في المفهوم الإسلامي يجب أن تلتمس في مصادرها الإسلامية، في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فما الذي تقول لنا عنها هذه المصادر؟
الوسطية التي وردت في كتاب الله صفة خص الله بها المسلمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ـ تعالى ـ عنهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
جعلهم ـ سبحانه ـ كذلك بالرسالة التي بلَّغهم إياها نبيهم، فكلما كان الواحد منهم أعلم بها وأكثر عملاً بها كان أقرب إلى الوسطية، فالوسطية ليست ـ إذن ـ موقفاً يتخذه الإنسان من الدين، ولا طريقة يفهم بها الدين، فيقول مثلاً: بما أنني وسطي فأنا لا أكفر أحداً، أو بما أنني وسطي فأنا لا أرى تحريم الموسيقى. كلا إنما الوسطية صفة يكتسبها المسلم نتيجة لتمسكه بدينه، هذه الصفة هي التي تؤهله لأن يكون من الشهداء على الناس، الشهداء الذين يقبل الله شهادتهم.
ما هذه الصفة؟ قال الإمام ابن كثير: والوسط ها هنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] .
ذكر الإمام الطبري أقوال السلف في تفسير هذه اللفظة، فوجدها لا تخرج عن قولهم: إنها الخيار أو العدل، لكنه قال:(/1)
وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين... وأرى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى... ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود... ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه.
وقد جمع الشيخ السعدي بين القولين جمعاً جميلاً في عبارة موجزة فقال: عدلاً خياراً، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر.
ومسألة أخرى مهمة هي أن الله ـ تعالى ـ أعطانا مثالاً حياً واقعياً لجماعة معينة تمثلت فيها هذه الوسطية، فقد شهد ـ سبحانه ـ كما شهد رسوله لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ممن تحققت فيهم صفة الوسطية. وإذن فكما أننا نعلم المعنى الصحيح للوسطية، فإننا نعرف جماعة معينة تمثلت هذه الصفة فيها، في معتقداتها، وعباداتها، وأخلاقها، ومعاملاتها، ومواقفها من غيرها، وهكذا. وعليه فإن كل من كان أقرب إلى منهجها في فهمه للدين وعمله به، وكان حريصا على التأسي بها، كان أقرب إلى الوسطية.
ولذلك قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن الصحابة رضوان الله عليهم:
فإن الحق لا يعدوهم و(لا) يخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان حقا ما سبقونا إليه. (إعلام الموقعين، 4/166ـ 67).
الجماعة الوسط هي إذن: جماعة معتزة بدينها، متأسية بسلفها، شاهدة بالعدل على غيرها، تقول لهذا: إنك على الحق، وتقول لذاك: إنك على باطل. جماعة تعمل لإعلاء كلمة الله على بصيرة بحقائق دينها، وبصيرة بواقع عصرها، جماعة تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادل بالتي هي أحسن إلا من ظَلَم، ولكنها تؤمن في الوقت نفسه بأنه كما لا يقوم الدين إلا بالكتاب الهادي، فإنه لا يقوم إلا بالسيف الناصر. فهي إذن جماعة أبعد ما تكون عن التميع والمداهنة، والخضوع والاستكانة.
ولكن بما أنها جماعة تؤمن بأن العدل واجب على كل أحد مع كل أحد في كل أمر، فإنها لا تُكَفِّر من لا دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله على تكفيره، ولا من لم تُكَفِّره الجماعة التي شهد الله لها بالوسطية ـ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن سار على منهجهم، واقتفى أثرهم ممن جاء بعدهم من أئمة أهل السنة ـ، وكما أنها لا تُكَفِّر بلا دليل، فإنها لا تَهَابُ أن تقول لمن قام الدليل على كفره: إنه كفر وخرج على الملة؛ لأنه إذا لم يكن من العدل أن يخرج إنسان من هذه الملة الشريفة بغير دليل، فإنه من الظلم أن يحسب منها من قام الدليل على خروجه منها، ومعاداته لها. وهي جماعة يمنعها عدلها أن تعتدي على الأبرياء حتى لو كانوا كفاراً.
هذه أمثلة للصفات التي تتحلى بها كل جماعة تتصف بالوسطية بالمفهوم الإسلامي الصحيح لها.(/2)
الوسطيّة .. وآثار صفة الله في القلوب (9/10)
د. علي محمد الصلابي 8/7/1426
13/08/2005
لكل صفة من صفات الله أثر في قلب المؤمن
وقد يظن الذين يدّعون العلم، وممن لاحظّ لهم من علوم الشريعة، أن معرفه أسماء الله وصفاته لا تؤثر في الإيمان بالله من حيث الزيادة والنقصان ولا تؤثر في القلوب، ولذلك لا فائدة من معرفتها أو جهلها أو إثباتها أو إنكارها، وقد توسع في هذا الجانب الفلاسفة الذين وصفوا الله تعالى بصفات من عند أنفسهم، وأنكروا وجحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله؛ فانحرفوا عن منهج الوسطيّة، ووقعوا في الإفراط والتفريط، وابتعدوا عن الصراط المستقيم ومنهج الاعتدال الذي يبيّنه القرآن.
ومما لا ريب فيه أنه ليست هناك صفة لله في القرآن أو في السنة إلا وقد ساقها الله تعالى لحكمة ومنفعة وغاية، ولولا ذلك لما ساقها، ولما ذكرها؛ لإن كلامه وكلام رسوله ينزه عن العبث واللغو والحشو، ومن ظن أن الله يحشو كلامه بما لا فائدة في ذكره، أو لا غاية من ورائه، أولا أهمية له فقد اتهم الله بالنقص واللغو.
ولبيان أن لكل صفة من صفات الله أثراً في قلب المؤمن سنبين ذلك ببعض التفاصيل من حيث إن لكل صفة في القلب أثراً يتضح ذلك ويخرج في السلوك البشري, فلا توجد صفة من صفات الله إلا ولها أثر وفائدة، وإنما الذي ينكر الأثر هم الجهلة والجاحدون، أما علماء أهل السنة والجماعة فبينوا ذلك الأمر بياناً أوضح من الشمس في رابعة النهار.
أثر صفة العظمة
وهذه الصفة مشتقة من اسمه تعالى العظيم، والعظمة صفة من صفاته لا يقوم لها خلق، والمقصود أن عظمة الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتصف بها أحد من خلقه، والله خلق بين الخلق عظمة يعظّم بها بعضهم بعضاً، فمن الناس من يعظم ا لمال، ومنهم من يعظّم الفضل، ومنهم من يعظّم العلم، ومنهم من يعظم السلطان، ومنهم من يعظم الجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم لمعنى دون معنى، والله -عز وجل- يعظم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرف حق عظمته سبحانه ألاّ يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله (1).
فإذا شعر العبد بعظمة الله خاف مولاه واتقاه ورغب في مرضاته سبحانه وتعالى، والحديث الدال على صفة العظمة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول تبارك وتعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" (2).
أثر صفة يد الله
ومن الصفات التي جحدتها قلوب النفاة و أنكرها الزنادقة قديماً، وصف الله نفسه سبحانه بأن له يدين، وهذا ما قد مدح الله به نفسه في آيات كثيرة من كتابه، وقد مدحه بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، وهي تدخل في صفات الله الذاتية, وقد بيّن سبحانه في الآيات والأحاديث عظمة كفاءة وسعة فضله، وأن يده الكريمة جل وعلا دائمة العطاء والإنفاق، وفي مجال قوته وجبروته وبطشه وكمال قدرته وبيان عظمته أن السموات والأرض يوم القيامة تكون بيمينه (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (3)
ولا شك أن آثار الإيمان بهذه الصفة في قلب المؤمن عظيمة، لأنها تورث القلب المهابة لله، والخوف منه وتعظيم أمره، وشأنه، وأنه الملك الذي قهر الملوك، وأنه لا مفر من قبضته، ولا ملجأ منه إلا إليه.
أثر اسم الله الحميد
هذا الاسم يتضمن لصفة الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله -عز وجل- لا تنفك عنه، وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة، ومعناها أنه سبحانه مستحق لكل أنواع الحمد؛ لأنه المحمود في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه سبحانه، كما يبدو لي أن العبد لابد أن يسلك في حياته سلوكاً يُحمد عليه؛ لأن أعماله جميعاً يجب أن تكون خاصة للحميد، ولو أن كل فرد تحرّى أن يكون عمله حميداً لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات فيما بينهم والخصومات و لعاشوا جميعاً أخوة في الله متحابين (4).
أثر اسم الله المهيمن
ومن آثار هيمنته سبحانه أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأنهم ملكه، والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافه أنواع التصرف, من نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تنبيهاً وتذكيراً باستمرار وشمول هيمنته على خلقه سبحانه وتعالى (5).
قال تعالى ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لتكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (6)
وإذا شعر القلب بهيمنة ربه عليه لجأ إليه وطلب العون منه لدفع ضر أو جلب نفع، والآيات في هذا الباب كثيرة، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أثر صفه العلو في قلب العبد(/1)
إذا أيقن العبد أن الله تعالى فوق السماء، عالٍ على عرشه بلا حصر، ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، كان لقلبه في صلاته وتوجههه، ودعائه ومن لا يعرف ربه بأنه فوق السماء على عرشه، فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، ولكن ربما عرفه بسمعه، وبصره، وقدمه وتلك بلا هذا معرفة ناقصة، بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل الصلاة وكبّر وتوجّه قلبه إلى جهة العرش منزهاً له تعالى، مفرداً له كما أفرد في قدمه وأزليته، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته، ذاته فوق الأشياء، فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أشرق قلبه، واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان، وعكفت أشعة العظمة على قلبه وروحه، ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزّه ربه عن صفات خلقه، من الحصر والحلول، وذاق حينئذ شيئاً من أذواق السابقين المقربين (7).
أثر صفه السمع
قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (8)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله -عز وجل- ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها .....) (9)
أقول : لو أن دارس الأسماء والصفات ومدرسيها تأملوا ماد لت عليه هذه الصفات، وأشعر المرء نفسه أنه مراقب في جميع أحواله، وأن ما ينطق به لسانه يسمعه خالقه من فوق سبع سماوات في حينه، وأنه سيجازيه على ذلك لانعكس على سلوكه وأخلاقه وأعماله وسيرته في مجتمعه، و لظهرت الأخلاق الربانية وأصبح الشخص لله ولياً، يمشى على وجه الأرض، ولشعرنا أن الأخلاق الرفيعة ثمرة من ثمرات التوحيد، وبقدر ما يملك العبد من الإيمان والتوحيد ينعكس ذلك ويظهر على أخلاقه.
ولابد أن نراعي قواعد السلف عند تأملنا وتفكرنا في أسماء الله وصفاته التي تزيدنا إيماناً بالله العلي العظيم, ويعجبني في هذا المقام أن أكتب ما كان يقوله ويكرره شيخي الفاضل الحق عبد المحسن العباد في دروسه بالمدينة المنورة ( المذهب الحق وسط بين الطرفين في قضية الإثبات، فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنزيه فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المتشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان, فالمشبهة: أحسنوا إذ اثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساؤوا إذ شبهوا ومثّلوا، وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الحسنتين وسلموا من الإساءتين، فإحسان الذي عند الطرفين عندهم، وليس عندهم ما عند كل من الإساءة، وذلك أنهم أثبتوا ما أُثبت في الكتاب والسنة من الصفات، ونزّهوا الله عن مشابهة خلقه، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (10)فأول الآية تنزيه، وآخرها إثبات؛ فمثل هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلين كاللبن السائغ للشاربين الذي يخرج من بين فرث ودم (11).
ثانياً: تدبر القرآن عل وجه العموم, فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيماناً, كما قال تعالى: (...وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون) (12).
وكذلك: إذا نظرنا إلى انتظامه، وأحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف:- تيقن أنه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) )(13). وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه – من التناقض والاختلاف – أموراً كثيرة. قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(14).
وهذه من أعظم مقوّيات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة: فالمؤمن بمجرد تلاوته آيات الله، ومعرفة ما ركب عليه من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة – يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير، فكيف إذا أحسن تأمله, وفهم مقاصده وأسراره, لذلك كان المؤمنون الكمَل يقولون:
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) (15)
ثالثاً: معرفة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وما تدعوا إليه من علوم الإيمان وأعماله – كلها من محصلات الإيمان ومقوّماته فكلّما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله، ازداد إيمانه ويقينه, وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين, فقد وصف الله الراسخين في العلم الذين حصل لهم العلم التام القوي الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام، ولهذا كانوا سادة المؤمنين: الذين استشهد الله بهم، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين (16).
والجاحدين، كما قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتّبعون ما تشابه منه: ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب) (17)(/2)
فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، ورضوا بالجميع، فكلها من عند الله، وما منه، وما تكلم به وحكم به- كله صدق وحق.
وقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (18).
ولعلمهم بالقرآن العلم التام، وإيمانهم الصحيح استشهد بهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (19).
وأخبر تعالى في عدة آيات، أن القرآن آيات للمؤمنين، وآيات للموقنين لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره – من العلم واليقين والإيمان – بحسب ما فتح الله عليهم منه، فلا يزالون يزدادون علماً وإيمانا ويقيناً (20).
رابعاً: ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه – معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة.
فإن من عرفه حق المعرفة لم يرْتب في صدقه وصدق ما جاء به: من الكتاب والسنة، والدين الحق، كما قال تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم؟ فهم له منكرون) (21).
فمعرفته – صلى الله عليه وسلم – توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به.
وقال تعالى: حاثاً لهم على تدير أحوال الرسول الداعية للإيمان: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) (22).
وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول، وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق – بقوله: ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)(23).
فهو- صلى الله عليه وسلم – أكبر داعٍ للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدة؛ فهو الإمام الأعظم، والقدوة الأكمل(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (24).
وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: (ربنا إننا سمعنا منادياً) وهو: هذا الرسول الكريم (ينادي للإيمان) . بقوله وخلقه وعمله ودينه، وجميع أحواله، ( أن آمنوا بربكم فآمنا) أي : إيماناً لا يدخله ريب.
ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله – توسّلوا بأيمانهم أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات.
فقالوا: (ربنا، إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار)(25).
ولهذا كان الرجل المنصف – الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه – يبادر إلى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم – مجرد ما يرى وجهه الكريم – يعرف أنه ليس بوجه كذاب وقيل لبعضهم: "لم بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته؟" (26) فقال: (ما آمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته آمر به) ((27) فاستدل هذا العاقل الموفق بحسن شريعته و موافقتها للعقول الصحيحة – على رسالته، فبادر إلى الإيمان (به) (28) ولهذا استدل ملك الروم هرقل – لما وُصف له ما جاء به الرسول ، وما كان يأمر به، وما ينهى عنه – استدل بذلك : أنه من أعظم الرسل، واعترف بذلك اعترافاً جلياً ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه ،كما منعت كثيراً ممن أتضح لهم أنه رسول الله حقاً. وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء، وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة ، فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات، ولا يرون لها قيمة: حتى يعارض بها الحق الصحيح النافع، المثمر للسعادة – عاجلاً وآجلاً.
ولهذا السبب الأعظم، كان المعتنون بالقرآن حفظاً ومعرفة، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة – أعظم إيماناً ويقيناً من غيرهم، وأحسن عملاً في الغالب (29)29.
خامساً: ومن أسباب الإيمان و دواعيه التي بينها القرآن: التفكر في الكون، في خلق السموات والأرض وما فيهن: من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات المتنوعة.
قال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (30)
وقال تعالى : (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (31)
فان التأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داعٍ قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يحيّر الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، الدالة على سعة رحمه الله، وجوده وبره. وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره, وإخلاص الدين له, وهذا هو روح الإيمان وسره (32).(/3)
وإذا تأملنا في مخلوقات الله كلها نجدها مضطرة و محتاجة إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين, خصوصاً ما تشاهده في نفسك: من أدلة الافتقار وقوة الاضطرار, وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله: في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد، فإن الدعاء مخ العبادة وخالقها.
قال تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)(33)
وكذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. فإن هذا يدعو إلى الإيمان.
ولهذا دعا الله الرسل والمؤمنين إلى شكره، فقال: (يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (34).
فالإيمان يدعو إلى الشكر، والشكر ينمو به الإيمان فكل منهما ملازم وملزوم للآخر.
سادساً: ومن أسباب دواعي الإيمان التي بينها ( القرآن ) الإكثار من ذكر الله في كل وقت، و الإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة.
فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها وكلما ازداد العبد ذكراً لله: قوي لإيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر. فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي: الإيمان، بل هي روحه (35) قال تعالى (يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً) (36) (لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (37)). سابعاً: من الأسباب الجالبة للإيمان التي بيّنها القرآن السعي والاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه: قال تعالى: (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن ...) (38) قال تعالى : (... وقولوا للناس حُسناً ...) (39).
فعلى العبد: أن يعبد الله كأنه يشاهده، فإن لم يقو على هذا استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه. ولا يزال العبد يجاهد نفسه ليلتحق بهذا المقام العالي، حتى يقوى إيمانه ويقينه ويصل في ذلك إلى حق اليقين وطريق المحسنين الذين جاء في القرآن في بيان صفاتهم في قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (40).
وقال تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (41).
وبذلك يتضح لنا صفات المحسنين, ويكون الإحسان إلى الخلق- بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع – هو من الإيمان، ومن دواعي زيادته، والجزاء من جنس العمل، فكما أحسن إلى عباد الله، وأواصل إليهم من بره ما يقدر عليه أحسن الله إليه أنواعاً من الإحسان، ومن أفضلها: أن يقوى إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه، وإخلاص العمل له (42)
ثامناً: ومن الأمور التي تقوّي الإيمان وتزيده ما ذكره الله تعالى في سورة المؤمنون من قوله: ( قد افلح المؤمنون) إلى قوله: (أولئك هم الوارثون) (43)).
فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره كما تقدم.
فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلى يجاهد نفسه على استحضارها بقوله وفعله: من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والرجوع والسجود من أسباب زيادة الإيمان ونموه.
وقد سمّى الله تعالى الصلاة إيماناً، بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (44) (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ...) (45)
فحشاء ومنكر ينافى الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذى الإيمان وينميه، لقوله: (ولذكر الله أكبر) (46)والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، وهى فرضها ونفلها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كونها برهان على إيمان صاحبها فهي تغذي الإيمان وتنميه.
والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لاخير فيه، وكل فعل لاخير فيه – بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولاً وفعلاً – لاشك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان، ويثمر؛ ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم، إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض (اجلس بنا نؤمن ساعة) : فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم، وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا، لاريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمّياته
فالمؤمن لخوفه و مقامه بين يدي ربه، (ونهى النفس عن الهوى) (47) إجابة لداعي الإيمان، وتغذية لما معه من الإيمان.(/4)
ورعاية العهود والأمانات وحفظها: من علائم الإيمان وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله: هل يرعى الأمانات كلها، مالية أو قولية أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله، والتي بينه وبين العباد؟ فإن كان ذلك: فهو صاحب دين وإيمان. وإن لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه. بمقدار ما انتقص من ذلك. وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها، وحقوقها، وأوقاتها لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان فيسقيه وينميه ويؤتى أكله كل حين.
تاسعاً: ومن دواعي زيادة الإيمان وأسبابه الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وبذلك يكمل العبد بنفسه، ويكمِل غيره كما أقسم تعالى بالعصر: إن جنس الإنسان لفي خسر، إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح الذين لهم تكميل النفس والتواصي بالحق – الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق، وبالصبر على ذلك كله، يكمل غيره.
وذلك: إن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقومات الإيمان وصاحب الدعوة لابد أن يسعى بنصر هذه الدعوة ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوصل إلى الأمور من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه (48) قال تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) (49) ومن حرص على نصح الناس ودعوتهم إلى دين الله لابد أن يجازيه الله ويؤيده لنور منه، وروح وقوة وإيمان، وقوة توكل، فإن الإيمان وقوة التوكل على الله، يحصل بها النصر على الأعداء: من شياطين الإنس وشياطين الجن (50) قال تعالى : (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (51).
والمتصدي لنصرة الحق، فلا بد أن يُفتح عليه فيه : من الفتوحات العلمية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه.
العاشر: ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته : توطين النفس على مقاومته ما ينافي الإيمان: من شعب الكفر والنفاق ، والفسوق والعصيان.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الأسباب المقوية المنمية للإيمان وأوضحها رسول الله، كذلك بيان المولى -عز وجل- الموانع والعوائق وإرشاده إلى دفعها، وهي: الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. فان الإرادات التي أصلها: الرغبة في الخير ومحبته والسعي فيه،- لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها: من رغبة النفس في الشر، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء.
فمتى حُفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات، وفتن الشهوات- تم إيمانه، وقوى يقينه (52).
فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين:
أحدهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتخلق بها علماً وعملاً وحالاً.
والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقصها أو ينقضها: من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرّأ عليه من الثاني: بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل وفاته (53).
قال تعالى: (إن الذين اتّقوا إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكّروا فإذا هم مبصرون) (54).
أي: يبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، والذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا تداركوا هذا الخلل بسده، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيراً ذليلاً، وإخوان الشياطين (...يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون ) الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبون لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحق عليهم الخسارة، وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان تبين أن ما جاء به القرآن وضحه سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم- هو الصراط المستقيم والاستقامة والاعتدال بعيداً عمّا وقع فيه الملاحدة من الزور والبهتان، ووقع فيه الفلاسفة من تصوّرات خاطئة مريضة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته.
لقد وقع الناس بين إفراط وتفريط وانكسار وغلو فأكرم الله البشرية بهذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه؛ ففي جانب الإيمان بالله تعالى جاء القرآن بالمنهج الوسط الذي تجسّدت فيه ملامح الوسطية من حكمة واستقامة واعتدال وعدل وبينية.
وقبل الانتهاء من مبحث الإيمان وأسباب زيادته رأيت من باب الفائدة والحث على استيعاب وفهم هذا الموضوع المهم في حياة الناس أن أتطرق إلى فوائد الإيمان وثمراته كما جاء في القرآن.(/5)
موضحاً الآثار والفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة, وذكر القرآن الكريم لهذه الفوائد والثمار يرسم لنا الصورة اليانعة الحية في وسطية القرآن في قضيه الإيمان.
|1|2|3|4|5|6|7|8|9|
--------------------------------------------------------------------------------
1- أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر ( ج2 / 1397 )
2- رقم (4175) وصححه الألباني
3- سورة الزمر آية 67
a. انظر : مفهوم الأسماء والصفات مقال مجلة الجامعة الإسلامية ص (70)
b. انظر : مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد (59) سعد ندا
c. سورة الأنعام آية 63،64،65
4- انظر: النصيحة في صفه الرب -جل وعلا- للواسطي ص 50
5- سورة المجادلة آية 1
6- البخاري مع الفتح ، كتاب التوحيد ، باب وكان الله سميعاً بصيراً ( ح13/ 384)
7- سورة الشورى الآية رقم 11
8- عشرون حديثاً من صحيح مسلم لعبد المحسن العباد ( 177- 178)
9- سورة الأنفال آية 2
10- سورة فصلت آية 42
11- سورة النساء آية 82
12- سورة آل عمران الآية 193
13- انظر : التوضيح والبيان ص (43)
14- سورة آل عمرا آية 7
15- سورة آل عمران آية 18
16- سورة الروم آية 56
17- انظر: التوضيح والبيان ص (42، 43)
18- سورة الذريات : 69
19- سورة سبأ: 46
20- سورة القلم : 1-4
21- سورة الحشر : 7
22- سورة آل عمران: 193
23- سورة آل عمران آية: 193
24- التوضيح والبيان ص (49)
25- التوضيح والبيان ص (49)
26- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص (49)
27- شجرة الإيمان للسعدي ص (49)
28- سورة آل عمران آية
29- سورة الذاريات آية
30- التوضيح والبيان ص (50)
31- التوضيح والبيان ص (50)
32- سورة فاطر
33- التوضيح والبيان ( 51)
34- سوره الأحزاب
35- سوره الأحزاب
36- سوره لقمان ايه
37- سوره البقرة آية
38- سورة الذاريات
39- سورة آل عمران
40- التوضيح والبيان ص 54
41- سوره المؤمنون آية ( 1-11)
42- التوضيح والبيان ص 54
43- سورة البقرة الآية 143
44- سورة العنكبوت الآية ، 45
45- سورة العنكبوت الآية ،45
46- سورة النازعات ، ...
47- التوضيح والبيان ص ( 58 )
48- سورة فصلت
49- التوضيح والبيان ص ( 58 )
50- سورة النحل آية (99)
51- التوضيح والبيان ص (61)
52- التوضيح والبيان ص (61)
53- سورة الأعراف آية 201
54- من سورة الأعراف: آية 202(/6)
الوسطيّة .. وآثار صفة الله في القلوب (9/10)
د. علي محمد الصلابي 8/7/1426
13/08/2005
لكل صفة من صفات الله أثر في قلب المؤمن
وقد يظن الذين يدّعون العلم، وممن لاحظّ لهم من علوم الشريعة، أن معرفه أسماء الله وصفاته لا تؤثر في الإيمان بالله من حيث الزيادة والنقصان ولا تؤثر في القلوب، ولذلك لا فائدة من معرفتها أو جهلها أو إثباتها أو إنكارها، وقد توسع في هذا الجانب الفلاسفة الذين وصفوا الله تعالى بصفات من عند أنفسهم، وأنكروا وجحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله؛ فانحرفوا عن منهج الوسطيّة، ووقعوا في الإفراط والتفريط، وابتعدوا عن الصراط المستقيم ومنهج الاعتدال الذي يبيّنه القرآن.
ومما لا ريب فيه أنه ليست هناك صفة لله في القرآن أو في السنة إلا وقد ساقها الله تعالى لحكمة ومنفعة وغاية، ولولا ذلك لما ساقها، ولما ذكرها؛ لإن كلامه وكلام رسوله ينزه عن العبث واللغو والحشو، ومن ظن أن الله يحشو كلامه بما لا فائدة في ذكره، أو لا غاية من ورائه، أولا أهمية له فقد اتهم الله بالنقص واللغو.
ولبيان أن لكل صفة من صفات الله أثراً في قلب المؤمن سنبين ذلك ببعض التفاصيل من حيث إن لكل صفة في القلب أثراً يتضح ذلك ويخرج في السلوك البشري, فلا توجد صفة من صفات الله إلا ولها أثر وفائدة، وإنما الذي ينكر الأثر هم الجهلة والجاحدون، أما علماء أهل السنة والجماعة فبينوا ذلك الأمر بياناً أوضح من الشمس في رابعة النهار.
أثر صفة العظمة
وهذه الصفة مشتقة من اسمه تعالى العظيم، والعظمة صفة من صفاته لا يقوم لها خلق، والمقصود أن عظمة الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتصف بها أحد من خلقه، والله خلق بين الخلق عظمة يعظّم بها بعضهم بعضاً، فمن الناس من يعظم ا لمال، ومنهم من يعظّم الفضل، ومنهم من يعظّم العلم، ومنهم من يعظم السلطان، ومنهم من يعظم الجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم لمعنى دون معنى، والله -عز وجل- يعظم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرف حق عظمته سبحانه ألاّ يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله (1).
فإذا شعر العبد بعظمة الله خاف مولاه واتقاه ورغب في مرضاته سبحانه وتعالى، والحديث الدال على صفة العظمة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول تبارك وتعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" (2).
أثر صفة يد الله
ومن الصفات التي جحدتها قلوب النفاة و أنكرها الزنادقة قديماً، وصف الله نفسه سبحانه بأن له يدين، وهذا ما قد مدح الله به نفسه في آيات كثيرة من كتابه، وقد مدحه بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة، وهي تدخل في صفات الله الذاتية, وقد بيّن سبحانه في الآيات والأحاديث عظمة كفاءة وسعة فضله، وأن يده الكريمة جل وعلا دائمة العطاء والإنفاق، وفي مجال قوته وجبروته وبطشه وكمال قدرته وبيان عظمته أن السموات والأرض يوم القيامة تكون بيمينه (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (3)
ولا شك أن آثار الإيمان بهذه الصفة في قلب المؤمن عظيمة، لأنها تورث القلب المهابة لله، والخوف منه وتعظيم أمره، وشأنه، وأنه الملك الذي قهر الملوك، وأنه لا مفر من قبضته، ولا ملجأ منه إلا إليه.
أثر اسم الله الحميد
هذا الاسم يتضمن لصفة الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله -عز وجل- لا تنفك عنه، وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة، ومعناها أنه سبحانه مستحق لكل أنواع الحمد؛ لأنه المحمود في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه سبحانه، كما يبدو لي أن العبد لابد أن يسلك في حياته سلوكاً يُحمد عليه؛ لأن أعماله جميعاً يجب أن تكون خاصة للحميد، ولو أن كل فرد تحرّى أن يكون عمله حميداً لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات فيما بينهم والخصومات و لعاشوا جميعاً أخوة في الله متحابين (4).
أثر اسم الله المهيمن
ومن آثار هيمنته سبحانه أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأنهم ملكه، والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافه أنواع التصرف, من نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تنبيهاً وتذكيراً باستمرار وشمول هيمنته على خلقه سبحانه وتعالى (5).
قال تعالى ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لتكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (6)
وإذا شعر القلب بهيمنة ربه عليه لجأ إليه وطلب العون منه لدفع ضر أو جلب نفع، والآيات في هذا الباب كثيرة، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أثر صفه العلو في قلب العبد(/1)
إذا أيقن العبد أن الله تعالى فوق السماء، عالٍ على عرشه بلا حصر، ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، كان لقلبه في صلاته وتوجههه، ودعائه ومن لا يعرف ربه بأنه فوق السماء على عرشه، فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، ولكن ربما عرفه بسمعه، وبصره، وقدمه وتلك بلا هذا معرفة ناقصة، بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل الصلاة وكبّر وتوجّه قلبه إلى جهة العرش منزهاً له تعالى، مفرداً له كما أفرد في قدمه وأزليته، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته، ذاته فوق الأشياء، فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أشرق قلبه، واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان، وعكفت أشعة العظمة على قلبه وروحه، ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزّه ربه عن صفات خلقه، من الحصر والحلول، وذاق حينئذ شيئاً من أذواق السابقين المقربين (7).
أثر صفه السمع
قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (8)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله -عز وجل- ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها .....) (9)
أقول : لو أن دارس الأسماء والصفات ومدرسيها تأملوا ماد لت عليه هذه الصفات، وأشعر المرء نفسه أنه مراقب في جميع أحواله، وأن ما ينطق به لسانه يسمعه خالقه من فوق سبع سماوات في حينه، وأنه سيجازيه على ذلك لانعكس على سلوكه وأخلاقه وأعماله وسيرته في مجتمعه، و لظهرت الأخلاق الربانية وأصبح الشخص لله ولياً، يمشى على وجه الأرض، ولشعرنا أن الأخلاق الرفيعة ثمرة من ثمرات التوحيد، وبقدر ما يملك العبد من الإيمان والتوحيد ينعكس ذلك ويظهر على أخلاقه.
ولابد أن نراعي قواعد السلف عند تأملنا وتفكرنا في أسماء الله وصفاته التي تزيدنا إيماناً بالله العلي العظيم, ويعجبني في هذا المقام أن أكتب ما كان يقوله ويكرره شيخي الفاضل الحق عبد المحسن العباد في دروسه بالمدينة المنورة ( المذهب الحق وسط بين الطرفين في قضية الإثبات، فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنزيه فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المتشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان, فالمشبهة: أحسنوا إذ اثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساؤوا إذ شبهوا ومثّلوا، وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الحسنتين وسلموا من الإساءتين، فإحسان الذي عند الطرفين عندهم، وليس عندهم ما عند كل من الإساءة، وذلك أنهم أثبتوا ما أُثبت في الكتاب والسنة من الصفات، ونزّهوا الله عن مشابهة خلقه، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (10)فأول الآية تنزيه، وآخرها إثبات؛ فمثل هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلين كاللبن السائغ للشاربين الذي يخرج من بين فرث ودم (11).
ثانياً: تدبر القرآن عل وجه العموم, فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيماناً, كما قال تعالى: (...وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون) (12).
وكذلك: إذا نظرنا إلى انتظامه، وأحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف:- تيقن أنه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) )(13). وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه – من التناقض والاختلاف – أموراً كثيرة. قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(14).
وهذه من أعظم مقوّيات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة: فالمؤمن بمجرد تلاوته آيات الله، ومعرفة ما ركب عليه من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة – يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير، فكيف إذا أحسن تأمله, وفهم مقاصده وأسراره, لذلك كان المؤمنون الكمَل يقولون:
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) (15)
ثالثاً: معرفة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وما تدعوا إليه من علوم الإيمان وأعماله – كلها من محصلات الإيمان ومقوّماته فكلّما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله، ازداد إيمانه ويقينه, وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين, فقد وصف الله الراسخين في العلم الذين حصل لهم العلم التام القوي الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام، ولهذا كانوا سادة المؤمنين: الذين استشهد الله بهم، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين (16).
والجاحدين، كما قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتّبعون ما تشابه منه: ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب) (17)(/2)
فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، ورضوا بالجميع، فكلها من عند الله، وما منه، وما تكلم به وحكم به- كله صدق وحق.
وقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (18).
ولعلمهم بالقرآن العلم التام، وإيمانهم الصحيح استشهد بهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (19).
وأخبر تعالى في عدة آيات، أن القرآن آيات للمؤمنين، وآيات للموقنين لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره – من العلم واليقين والإيمان – بحسب ما فتح الله عليهم منه، فلا يزالون يزدادون علماً وإيمانا ويقيناً (20).
رابعاً: ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه – معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة.
فإن من عرفه حق المعرفة لم يرْتب في صدقه وصدق ما جاء به: من الكتاب والسنة، والدين الحق، كما قال تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم؟ فهم له منكرون) (21).
فمعرفته – صلى الله عليه وسلم – توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به.
وقال تعالى: حاثاً لهم على تدير أحوال الرسول الداعية للإيمان: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) (22).
وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول، وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق – بقوله: ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)(23).
فهو- صلى الله عليه وسلم – أكبر داعٍ للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدة؛ فهو الإمام الأعظم، والقدوة الأكمل(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (24).
وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: (ربنا إننا سمعنا منادياً) وهو: هذا الرسول الكريم (ينادي للإيمان) . بقوله وخلقه وعمله ودينه، وجميع أحواله، ( أن آمنوا بربكم فآمنا) أي : إيماناً لا يدخله ريب.
ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله – توسّلوا بأيمانهم أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات.
فقالوا: (ربنا، إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار)(25).
ولهذا كان الرجل المنصف – الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه – يبادر إلى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم – مجرد ما يرى وجهه الكريم – يعرف أنه ليس بوجه كذاب وقيل لبعضهم: "لم بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته؟" (26) فقال: (ما آمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته آمر به) ((27) فاستدل هذا العاقل الموفق بحسن شريعته و موافقتها للعقول الصحيحة – على رسالته، فبادر إلى الإيمان (به) (28) ولهذا استدل ملك الروم هرقل – لما وُصف له ما جاء به الرسول ، وما كان يأمر به، وما ينهى عنه – استدل بذلك : أنه من أعظم الرسل، واعترف بذلك اعترافاً جلياً ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه ،كما منعت كثيراً ممن أتضح لهم أنه رسول الله حقاً. وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء، وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة ، فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات، ولا يرون لها قيمة: حتى يعارض بها الحق الصحيح النافع، المثمر للسعادة – عاجلاً وآجلاً.
ولهذا السبب الأعظم، كان المعتنون بالقرآن حفظاً ومعرفة، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة – أعظم إيماناً ويقيناً من غيرهم، وأحسن عملاً في الغالب (29)29.
خامساً: ومن أسباب الإيمان و دواعيه التي بينها القرآن: التفكر في الكون، في خلق السموات والأرض وما فيهن: من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات المتنوعة.
قال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (30)
وقال تعالى : (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (31)
فان التأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داعٍ قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يحيّر الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، الدالة على سعة رحمه الله، وجوده وبره. وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره, وإخلاص الدين له, وهذا هو روح الإيمان وسره (32).(/3)
وإذا تأملنا في مخلوقات الله كلها نجدها مضطرة و محتاجة إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين, خصوصاً ما تشاهده في نفسك: من أدلة الافتقار وقوة الاضطرار, وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله: في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد، فإن الدعاء مخ العبادة وخالقها.
قال تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)(33)
وكذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. فإن هذا يدعو إلى الإيمان.
ولهذا دعا الله الرسل والمؤمنين إلى شكره، فقال: (يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (34).
فالإيمان يدعو إلى الشكر، والشكر ينمو به الإيمان فكل منهما ملازم وملزوم للآخر.
سادساً: ومن أسباب دواعي الإيمان التي بينها ( القرآن ) الإكثار من ذكر الله في كل وقت، و الإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة.
فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها وكلما ازداد العبد ذكراً لله: قوي لإيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر. فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي: الإيمان، بل هي روحه (35) قال تعالى (يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً) (36) (لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (37)). سابعاً: من الأسباب الجالبة للإيمان التي بيّنها القرآن السعي والاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه: قال تعالى: (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن ...) (38) قال تعالى : (... وقولوا للناس حُسناً ...) (39).
فعلى العبد: أن يعبد الله كأنه يشاهده، فإن لم يقو على هذا استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه. ولا يزال العبد يجاهد نفسه ليلتحق بهذا المقام العالي، حتى يقوى إيمانه ويقينه ويصل في ذلك إلى حق اليقين وطريق المحسنين الذين جاء في القرآن في بيان صفاتهم في قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (40).
وقال تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (41).
وبذلك يتضح لنا صفات المحسنين, ويكون الإحسان إلى الخلق- بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع – هو من الإيمان، ومن دواعي زيادته، والجزاء من جنس العمل، فكما أحسن إلى عباد الله، وأواصل إليهم من بره ما يقدر عليه أحسن الله إليه أنواعاً من الإحسان، ومن أفضلها: أن يقوى إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه، وإخلاص العمل له (42)
ثامناً: ومن الأمور التي تقوّي الإيمان وتزيده ما ذكره الله تعالى في سورة المؤمنون من قوله: ( قد افلح المؤمنون) إلى قوله: (أولئك هم الوارثون) (43)).
فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره كما تقدم.
فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلى يجاهد نفسه على استحضارها بقوله وفعله: من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والرجوع والسجود من أسباب زيادة الإيمان ونموه.
وقد سمّى الله تعالى الصلاة إيماناً، بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (44) (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ...) (45)
فحشاء ومنكر ينافى الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذى الإيمان وينميه، لقوله: (ولذكر الله أكبر) (46)والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، وهى فرضها ونفلها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كونها برهان على إيمان صاحبها فهي تغذي الإيمان وتنميه.
والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لاخير فيه، وكل فعل لاخير فيه – بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولاً وفعلاً – لاشك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان، ويثمر؛ ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم، إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض (اجلس بنا نؤمن ساعة) : فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم، وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا، لاريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمّياته
فالمؤمن لخوفه و مقامه بين يدي ربه، (ونهى النفس عن الهوى) (47) إجابة لداعي الإيمان، وتغذية لما معه من الإيمان.(/4)
ورعاية العهود والأمانات وحفظها: من علائم الإيمان وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله: هل يرعى الأمانات كلها، مالية أو قولية أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله، والتي بينه وبين العباد؟ فإن كان ذلك: فهو صاحب دين وإيمان. وإن لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه. بمقدار ما انتقص من ذلك. وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها، وحقوقها، وأوقاتها لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان فيسقيه وينميه ويؤتى أكله كل حين.
تاسعاً: ومن دواعي زيادة الإيمان وأسبابه الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وبذلك يكمل العبد بنفسه، ويكمِل غيره كما أقسم تعالى بالعصر: إن جنس الإنسان لفي خسر، إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح الذين لهم تكميل النفس والتواصي بالحق – الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق، وبالصبر على ذلك كله، يكمل غيره.
وذلك: إن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقومات الإيمان وصاحب الدعوة لابد أن يسعى بنصر هذه الدعوة ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوصل إلى الأمور من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه (48) قال تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) (49) ومن حرص على نصح الناس ودعوتهم إلى دين الله لابد أن يجازيه الله ويؤيده لنور منه، وروح وقوة وإيمان، وقوة توكل، فإن الإيمان وقوة التوكل على الله، يحصل بها النصر على الأعداء: من شياطين الإنس وشياطين الجن (50) قال تعالى : (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (51).
والمتصدي لنصرة الحق، فلا بد أن يُفتح عليه فيه : من الفتوحات العلمية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه.
العاشر: ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته : توطين النفس على مقاومته ما ينافي الإيمان: من شعب الكفر والنفاق ، والفسوق والعصيان.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الأسباب المقوية المنمية للإيمان وأوضحها رسول الله، كذلك بيان المولى -عز وجل- الموانع والعوائق وإرشاده إلى دفعها، وهي: الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. فان الإرادات التي أصلها: الرغبة في الخير ومحبته والسعي فيه،- لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها: من رغبة النفس في الشر، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء.
فمتى حُفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات، وفتن الشهوات- تم إيمانه، وقوى يقينه (52).
فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين:
أحدهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتخلق بها علماً وعملاً وحالاً.
والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقصها أو ينقضها: من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرّأ عليه من الثاني: بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل وفاته (53).
قال تعالى: (إن الذين اتّقوا إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكّروا فإذا هم مبصرون) (54).
أي: يبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، والذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا تداركوا هذا الخلل بسده، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيراً ذليلاً، وإخوان الشياطين (...يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون ) الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبون لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحق عليهم الخسارة، وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان تبين أن ما جاء به القرآن وضحه سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم- هو الصراط المستقيم والاستقامة والاعتدال بعيداً عمّا وقع فيه الملاحدة من الزور والبهتان، ووقع فيه الفلاسفة من تصوّرات خاطئة مريضة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته.
لقد وقع الناس بين إفراط وتفريط وانكسار وغلو فأكرم الله البشرية بهذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه؛ ففي جانب الإيمان بالله تعالى جاء القرآن بالمنهج الوسط الذي تجسّدت فيه ملامح الوسطية من حكمة واستقامة واعتدال وعدل وبينية.
وقبل الانتهاء من مبحث الإيمان وأسباب زيادته رأيت من باب الفائدة والحث على استيعاب وفهم هذا الموضوع المهم في حياة الناس أن أتطرق إلى فوائد الإيمان وثمراته كما جاء في القرآن.(/5)
موضحاً الآثار والفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة, وذكر القرآن الكريم لهذه الفوائد والثمار يرسم لنا الصورة اليانعة الحية في وسطية القرآن في قضيه الإيمان.
|1|2|3|4|5|6|7|8|9|
________________________________________
1- أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر ( ج2 / 1397 )
2- رقم (4175) وصححه الألباني
3- سورة الزمر آية 67
a. انظر : مفهوم الأسماء والصفات مقال مجلة الجامعة الإسلامية ص (70)
b. انظر : مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد (59) سعد ندا
c. سورة الأنعام آية 63،64،65
4- انظر: النصيحة في صفه الرب -جل وعلا- للواسطي ص 50
5- سورة المجادلة آية 1
6- البخاري مع الفتح ، كتاب التوحيد ، باب وكان الله سميعاً بصيراً ( ح13/ 384)
7- سورة الشورى الآية رقم 11
8- عشرون حديثاً من صحيح مسلم لعبد المحسن العباد ( 177- 178)
9- سورة الأنفال آية 2
10- سورة فصلت آية 42
11- سورة النساء آية 82
12- سورة آل عمران الآية 193
13- انظر : التوضيح والبيان ص (43)
14- سورة آل عمرا آية 7
15- سورة آل عمران آية 18
16- سورة الروم آية 56
17- انظر: التوضيح والبيان ص (42، 43)
18- سورة الذريات : 69
19- سورة سبأ: 46
20- سورة القلم : 1-4
21- سورة الحشر : 7
22- سورة آل عمران: 193
23- سورة آل عمران آية: 193
24- التوضيح والبيان ص (49)
25- التوضيح والبيان ص (49)
26- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص (49)
27- شجرة الإيمان للسعدي ص (49)
28- سورة آل عمران آية
29- سورة الذاريات آية
30- التوضيح والبيان ص (50)
31- التوضيح والبيان ص (50)
32- سورة فاطر
33- التوضيح والبيان ( 51)
34- سوره الأحزاب
35- سوره الأحزاب
36- سوره لقمان ايه
37- سوره البقرة آية
38- سورة الذاريات
39- سورة آل عمران
40- التوضيح والبيان ص 54
41- سوره المؤمنون آية ( 1-11)
42- التوضيح والبيان ص 54
43- سورة البقرة الآية 143
44- سورة العنكبوت الآية ، 45
45- سورة العنكبوت الآية ،45
46- سورة النازعات ، ...
47- التوضيح والبيان ص ( 58 )
48- سورة فصلت
49- التوضيح والبيان ص ( 58 )
50- سورة النحل آية (99)
51- التوضيح والبيان ص (61)
52- التوضيح والبيان ص (61)
53- سورة الأعراف آية 201
54- من سورة الأعراف: آية 20(/6)
الوسوسة في حال الزوجة قبل الزواج
رقم الفتوى
11177
تاريخ الفتوى
20/2/1426 هـ -- 2005-03-31
السؤال
السؤال: أنا متزوج منذ أكثر من سنة من بنت ولله الحمد ملتزمة تعمل في التعليم وتطيعني ولكن بعد مدة سمعت أنها كانت تريد شخصا كان يعمل معها علما أني أعرفه وهو إنسان فاسق باعترافه .فكلمته في الموضوع فأكد لي بأنها كانت تجري ورائه ؟ فانتابني الوسواس ؟ فما علاقة امرأة ملتزمة بهذا الفاسق وتكلم عنها بسوء . فتشاجرت معه. ولم أستطع مكالمتها في الموضوع وتغيرت معاملتي وأصبحت لا أكلمها؟ حتى فاتحتها في الموضوع حيث أقسمت علي أنه كاذب وفاسق.
فأرجو أن تساعدوني ؟ فان الوسوسة أثرت على نفسي كثيرا؟ حتى لا أظلمها. وحينما أراه افتكر كل ما قاله. لأنه يسكن في نفس الحي. فكيف التخلص من هذا الأمر. وجزاكم الله كل الخير
الإجابة
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما دامت زوجتك ملتزمة وصالحة كما تذكر والحمد لله، فأنصحك أن لا تلتفت إلى هذا الوساوس الشيطانية؛ لأن من أحب الأشياء إلى الشيطان أن يفرق بين الرجل وأهله كما جاء ذلك في صحيح مسلم، فلا تلتفت إلى تلك الخواطر، ولا تلتفت إلى كلام زميلك، وتجنب لقاءه والحديث معه، فالغالب أن يكون كاذبا وحاسدا؛ بدليل أنه أخبرك به خاصة وأن زوجتك تنفي ذلك وتحلف عليه.
واعلم أن مسائل الزواج عرضة للحسد والوقيعة عند ضعاف النفوس، وحتى لو فرض أن لكلامه أصل من الصحة، فإن هذا لا يضر زوجتك ما دام أنها صالحة وملتزمة، والتوبة تجب ما قبلها، وهل كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم قبل إسلامهم إلا مشركين، ويشربون الخمر ويرتكبون المحرمات، فلما أسلموا كانوا هم سادة الدنيا، وزينتها ورضي الله عنهم ورضوا عنه، ووعدوا الخلود في جنات النعيم
فاتق الله في نفسك وفي زوجتك، واستعذ بالله من وساوس شياطين الإنس والجن، ولا تجعل الشيطان يفرح بالوقيعة بينكما، وأسأل الله أن يجمع بينكما في جنته ودار نعيمه، والله أعلم.(/1)
الوصايا العشر للمسلم في تربية الأبناء
... تربية
1 ـ لا تُشْغِل نفسك بتحقيق طموحاتك وتنسى مشاكل أبنائك.
2 ـ لا تترك مسؤولية التربية على عاتق زوجتك وحدها.
3 ـ حاول أن تقضي وقتاً كافياً مع أبنائك، تعيش معهم أحاسيسهم ومشاكلهم.
4 ـ تذكَّر حين توبخ ابنك أن تشعره بأنك تحبه، ولكنك لا تحبُّ سلوكَه فقط، وكلما أحبَّ أطفالُك أنفسَهم حاوَلوا تطوير سلوكهم نحو الأفضل.
5 ـ عليك أن تحسن الإصغاء إلى أبنائك كي يتعلم الأبناء كيف يُصْغون إليك وإلى أمهاتهم.
6 ـ حاول تنمية الإحساس بالنجاح في نفوس أبنائك منذ الصغر، واجعلهم يلتفتون إلى تصرفاتهم الحسنة، وامدحهم عندما يتصرفون بشكل جيد.
7 ـ شجِّع أولادك على أن يكونوا صادقين معك.
8 ـ عندما تكون في البيت حاول ألا تفكر إلا في شؤون بيتك وأولادك، وعندما تكون في العمل فكَّر فقط في عملك.
9 ـ إذا رأيت طفلك متمرداً عليك فاسأل نفسك: هل احتضنتَ طفلك ذلك اليوم؟
10 ـ اتبع أسلوب الدقيقة الواحدة في حياتك مع أبنائك، فالتأنيب بدقيقة، والمديح بدقيقة، ولكنها حقاً دقيقة مثمرة!(/1)
الوصايا العشرللعاملين بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
يتناول الدرس عشر نقاط لو أخذت بها الأمة؛ فإن النتيجة الحتمية بحول الله وقوته هي: العز والنصر والتمكين، والفوز برضوان الله بالآخرة، والسعادة والفلاح، وهذه الوصايا العشر أسند كل وصية فيها إلى دليل من كتاب الله، أو سنة نبيه صلوات الله عليه وسلامه، وكذلك وقائع السير والتاريخ.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسوله وعبده، وبعد،،، سأركز إن شاء الله في عشر نقاط أرى بحكم تجربتي أن هذه النقاط لو أخذت بها الأمة؛ فإن النتيجة الحتمية بحول الله وقوته هي: العز والنصر والتمكين، والفوز برضوان الله بالآخرة، والسعادة والفلاح، وهذه الوصايا العشر سأسند كل وصية فيها إن شاء الله إلى دليل من كتاب الله، أو سنة نبيه صلوات الله عليه وسلامه، وكذلك وقائع السير والتاريخ، وسترون إن شاء الله أن هذه النقاط العشرة من البديهيات، ولكنها للأسف تغيب عن كثير من المسلمين العاملين في حقل الدعوة، بل عموم المسلمين قد لا يهتمون بشئون الدعوة إلى الله .
الوصية الأولى:البدء بدعوة الناس إلى تحقيق غاية وجودهم: عبادة الله وحده لا شريك له
فهذه النقطة ينبغي أن تكون هي المنطلق الأول في الدعوة إلى الله: الانتماء إلى هذه الأمة التي أوجدت لمهمة، وهي: أن تدعو إلى عبادة الله التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض، وأرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وقامت المعركة بين الكفر والإيمان ، والهدى والضلال: كل هذا من أجل هذه الكلمة : }قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...[110] {سورة الكهف . }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[25] {سورة الأنبياء فالوحي يصب في هذه النقطة، ويبدأ من هذه النقطة: }قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163]{ سورة الأنعام . وبالتالي الأمة الإسلامية: يقولون عنها:'أمة الفكرة' يعنون أمة العقيدة، والمعنى: أن تجمع هذه الأمة ليس على أرض، ولا على وطن، ولا مبدأ اقتصادي كشيوعية ورأسمالية، ولا على نظام اجتماعي وسياسي كديمقراطية وغيرها، وبالتالي ينبغي أن نفهم أن المنطلق لعز الأمة إنما هو الاجتماع على عقيدة يسميها الناس بلغتهم: 'الفكرة'، ونسميها:' العقيدة' هذه أمة العقيدة .
إذاً الخطوة الأولى نحو عز الأمة تمكينها في الدنيا، ثم سعادتها في الآخرة ينبغي أن تكون من لا إله إلا الله، أي تجمع ينبغي أن يكون على هذه النقطة الأساسية، والعمل في البداية عليها، ولا شك أن تحت هذه الكلمة علم عظيم وهو أن لا إله إلا الله ليس بالمعنى، الذي نصوره نحن ، إنما بالمعنى الذي أراده وبينه الله عز وجل، فيجب أن نؤمن بالله بالصفات الموجودة في كتاب الله وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أعني: أن يكون التوحيد بحسب مواصفات الكتاب والسنة، وليس بحسب ما يتخيله الجاهلون.
فالله هو الرب الرحمن الرحيم، العزيز الكريم، المستوي على عرشه، الذي بيده مقاليد كل شيء، والذي لم يقم آلهة تعبد من دونه، فلم يأذن بهذا . الرب السميع العليم المراقب لحركات عباده، الذي لا يغفل ولا يسهو عن شيء من فعل خلقه، ولا يرضى سبحانه أن يُعَقَّب على أمره ونهيه، فنؤمن بالرب على هذا النحو، ليس الرب الذي يُزعم أنه ترك الناس هملاً ليتخذوا من المناهج ما شاءوا ويدعوا من كلامه ما شاءوا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً }وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[41]{ سورة الرعد} إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[40]{ إذاً لابد من فهم هذه القضية كما بيَّنها الله في كتابه وفي سنة نبيه .
الوصية الثانية:توحيد الصراط: بجعل الكتاب والسنة مصدراً للتشريع، واتّباع سلف الأمة ورد كل خلاف إلى كلام الله وكلام رسوله
لابد من توحيد الصراط، فالأمة التي تريد أن تعز وتنتصر؛ لا بد أن يكون صراطها واحداً، بمعنى أن يكون منهجها وطريقها واحداً. والمنهج والطريق: يعني السنن العملية في الحياة، كما ينبغي أن يكون التشريع واحداً كذلك الصراط ، وهذا الذي نقوله ونطلبه في صلاتنا إذ نقول: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6] {سورة الفاتحة. الصراط: الطريق } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153] {سورة الأنعام .(/1)
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: [ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ السُّبُلُ وَلَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153] {سورة الأنعام]
معنى الصراط: هو منهج عملي كامل، فلا يوجد تصرف من تصرفات الإنسان ليس لله فيه حكم }مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[38]{سورة الأنعام . }وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[89]{ سورة النحل . فيقول لك: هذا مباح فاعمله، وهذا واجب لابد أن تؤديه، أو هذا حرام إياك أن تفعله، أو هذا مندوب إن شئت فعلته؛ فلك أجره، أو هذا مكروه الأولى لك أن تتركه، فأعمال المكلفين تقع ضمن أحكام تكليفية، ما ينفك المكلف عن حكم الله، هذا معنى الصراط، فهو المنهج العملي، فالدين صبغة كاملة: كيف تتصرف تجاه الله، تجاه النبي، تجاه المؤمنين، تجاه الكفار، تجاه الزوجة، تجاه الأولاد، تجاه الناس، لا يوجد تصرف من هذه التصرفات إلا وفيه حكم، وبالتالي لابد من توحيد الصراط في العمل، وكذلك في المنهج التشريعي: صلاتنا واحدة، وصيامنا واحد، فقهنا واحد- ما أمكن بالطبع- توحيد الصراط، وهذا بلاشك لا يعني التطابق التام في كل صغيرة وكبيرة؛ لأن في قضايا الإسلام صبغة عامة.
ولا يمكن أن يتطابق المسلمون حول كل تصرف من التصرفات، وبالتالي لا بد أن يكون هناك اختلاف في بعض القضايا الاجتهادية، لكن الله أرشدنا فقال: }وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[10]{ سورة الشورى. وقال تعالى: }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]{ سورة النساء.
فعندنا إذا اختلفنا مركز اللقاء في كلام الله وكلام رسوله؛ هذا هو المرجع، لا عقلي ولا عقلك، ولا عرفي ولا عرفك، ولا أخلاق قبيلتي وأخلاق قبيلتك، إنما المرجع إذا اختلفنا هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كل أحد بعد النبي يؤخذ من قوله ويرد عليه .
المسلمون اليوم مختلفون في المنهج التشريعي: في مسائل العبادات، ومسائل العمل، و الحرام والحلال، ولابد من محاولة جمع شمل الأمة الواحدة، لابد أن يكونوا متفقين في هذا، فتوحيد الصراط مهم جداً، و قد كان الصحابة يختلفون في بعض الأمور، ولكن في الأمر الجامع لا يختلفون: اختلفوا في قضية الإتمام في السفر، إتمام الصلاة الرباعية، فهذا عثمان رضي الله عنه كان يتم وهو في الحج، فأفتوا بخلافه، ولكن عندما كان يقوم للصلاة، كانوا يصلون خلفه أربعاً، فقال بعضهم: كيف تفتون أن الصلاة اثنتان وتصلون أربعاً، فقالوا: [سبحان الله أمير المؤمنين!!] والمعنى: لابد من اجتماع الكلمة، ولا يجوز الخلاف، وهذا لا يكون إلا بتوحيد الصراط، لا يكون إلا بالتحاكم في كل خلاف صغير وكبير إلى كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه، وأنه لا عصمة إلا لكلام الله وكلام النبي، وهذا أمر هام، لأن الله عز وجل يقول:} وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46] { سورة الأنفال. لأنه بالتنازع والاختلاف؛ يكون الفشل وذهاب الريح، ولابد من توحيد صراط الأمة وهذا بتعليمها مناهج الإسلام كلها حتى يظهر في الأمة النموذج الكامل للإسلام.
الوصية الثالثة:التربية والتزكية هي السبيل لإنشاء الجيل الذيينصر الله به الأمة، ويعز به الإسلام(/2)
ليس الإيمان بالعلم فقط، أعني: أن الإيمان ليس هو فقط مطلق المعرفة بالله، فلو كان هو مطلق المعرفة بالله لكان إبليس مؤمناً، وكان كل الذين يقرءون القرآن ويقرءون السنة مؤمنين، علماً أن القرآن مبذول لكل أحد، يأخذ منه المؤمن والمنافق، وإنما الإيمان كما قال الله:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2] {سورة الأنفال. فلم يقل سبحانه: إنما المؤمنون الذي عرفوا الله ورسوله . معنى هذا: أن الإيمان يحتاج إلى نوع من الممارسة والعمل، وهذا ما أعنيه هنا بالتربية: التربية على الإيمان؛ لأنه بالتربية يتشرب القلب الإيمان، وكذلك: فأعمال الإيمان أعمال كثيرة كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ] رواه البخاري ومسلم- واللفظ له-. فلكي نستحي- مثلاً- لابد أن نربي أنفسنا على الحياء، وكذلك كلنا يعلم أن إزالة الأذى من الطريق من الإيمان، لكن هل بمجرد المعرفة ينشط الفرد منا، ويكف الأذى عن طريق المسلمين؟ هذه تحتاج إلى عزيمة وإرادة وتوجه، وبالتالي إلى ممارسة، وإلى وقت أيضاً حتى يتشربها الإنسان، وبالتالي حتى يصطبغ بها الجيل.
ليس بمجرد درس يسمعه الناس أو بمجرد دورة، يخرج منها الناس مؤمنين، نعم يخرج الناس عارفين متعلمين، لكن حتى تصل معاني الإيمان إلى القلوب، هذه تحتاج إلى ممارسة في واقع الحياة، وبالتالي أقول هذه الكلام لأن كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل يريد أن يحول الناس إلى الدين بمجرد جرة قلم من الحاكم وهذا الكلام خطأ، وحقاً الحاكم يملك السيف والعصا، ويستطيع أن يوجه الناس إلى الدين بالقهر، وقديماً قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن].
هذا صحيح من حيث العموم، فأكثر الناس يخشون العصا أكثر من خوفهم من الله، ولكنني أحب هنا أن أبين أن الذين يتبعون الإسلام إيماناً واختياراً دون خوف السلطان هم الأتباع الحقيقيون والملتزمون الصالحون.
ولذلك أقول وأكرر: أن الأمة تقوم على جيل: القرآن وازعه، والخوف من الله رادعه، أناس يخافون الله عز وجل بالسر والعلن، سواء أكان سوط الحاكم على رءوسهم، أو لم يكن، بل يحركهم الدين والخوف من الله، والإيمان بالله، هذا الجيل لا يمكن أن يتأتى إلا بتربية، فلابد من اعتماد التربية وسيلة لإخراج الجيل، وكثير من الشباب المتحمس يريد أن يبني دولة الإسلام عن طريق قرار وجرة قلم من الحاكم، ولو كان هذا الحاكم في شعب منسلخ عن الدين، بعيد كل البعد عن الإذعان لمنهج الله، ومآل ذلك إلى أن يتحول الحاكم المسلم قبل هذا الشعب إلى سفاح وجلاد إذا أراد أن يقيمهم على الجادة، أو يسكت على انحرافهم، وهذه مصيبة أخرى، والخلاصة: أنه لابد من جيل قد تربى وفق مواصفات الكتاب والسنة بتربية متدرجة ودخل الإيمان فعلاً قلبه، ويستطيع أن يتحمل تبعات الدعوة إلى الله، وحمل هذه الأمانة.
الوصية الرابعة:تجييش الأمة كلها للدعوة إلى الله، وألا تكون الدعوة مهمة مجموعات أو أفراد أو هيئات فقط، بل مهمة الأمة كلها
وأعني بالتجييش: أن تكون أمة الإسلام جيشاً واحداً، وهذا لا يتأتى إلا بأن يعلم كل مسلم أنه جندي، وأنه مأمور من قِبَلِ الله بحمل هذه الأمانة، وبالتالي: واجب الدعوة إلى الله ليس على طائفة معينة، ليس على الحكام، أو على العلماء، أو على طلاب العلم وحدهم، بل على كل أحد بقدر جهده وبقدر عطائه: هذا يجاهد بماله، وهذا يجاهد بكلمته، وهذا يجاهد بنفسه، إذا أصبح الجهاد هاجس الأمة، وكل مؤمن يعتقد بأنه واجب عليه ويتحمل جزءا من هذا الجهاد، إنه لا يقوم للإسلام قائمة والناس قاعدون، وما أقوله هو الذي أراده الله تماماً لهذه الأمة، جميعها أن تكون مجاهدة داعية إلى الله، ومن أعظم الأدلة على ذلك أن الله هدد بالنار القاعد عن الهجرة، قال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ{ أي: بالقعود في ديار الكفر وعدم تمكنهم من تطبيق الدين} قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[97]{ سورة النساء . فهذا الإنسان الذي لم تدفعه عقيدته لأن يترك بيته ووطنه ليعلن ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم شرائع الإسلام، لا عذر له أن يقول: كنا مستضعفين في الأرض ... الناس تخرج وتهاجر وتترك أوطانها؛ لتكسب الدينار والدرهم، فإنه يجب أن يكون الدين أعز من النفس والدنيا.(/3)
وباختصار أقول: لابد من تجييش الأمة كلها وتحميلها أمانة الدعوة، والدعوة الآن فرض عين على كل مسلم بقدر ما يستطيع الدعوة، والجهاد فرض عين على كل مسلم، قال تعالى: }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]{ والمعنى: كونوا جميعاً أمة على هذا النحو، فتجييش الأمة واجب، والدعوة إلى الله والجهاد فرض عين، ولابد من تحريك كل قوى الأمة، وتفجير كل طاقاتها نحو هذا الأمر وحمل أمانة الدعوة.
الوصية الخامسة:البناء من كل المواقع، والعمل في كل اتجاه
بعد تجييش الأمة بأن يكون كل مؤمن جندياً لله لابد من التوجه إلى البناء في كل موقع...لا نريد أمة من صنف واحد، تتوجه إلى عمل واحد، لا نريد جميع الدعاة إلى الله خطباء، فالخطابة وتعليم الناس باب من أبواب الدعوة، وتربية الأبناء باب، وكل هذه ولا شك من عمل الدعوة ومن عمل البناء.
الأمة احتياجاتها عظيمة جداً، وبالتالي لابد من التوجه إلى كل مجال يمكن للمسلم أن يثمر فيه وأن يعمل من خلاله، وهذا الذي كانت عليه أمة الإسلام في عهد النبي .
إن الذي يبني أمة يحتاج إلى كل فرد، وكل فرد ينبغي أن يكون في موقعه، ولا يوجد فرد مسلم، وإلا وفيه نفع ما، وأعلانا منزلة أكثرنا نفعاً، وأبو بكر رضي الله عنه ما كان خطيباً ولا واعظاً، كان رجلاً تاجراً، لكنه كان داعية بكل ما للكلمة من معنى ...كان أبو بكر خير داع إلى الله بعد الرسول، هذه دعوته: لم يكن مدرساً ولا خطيباً، كان أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحسن الخطابة كما يحسنها كثير من الناس، إنما يحسن الإيمان والدعوة، وفعل الخير، وكان رجلاً نافعاً بكل معاني النفع، وعندما قاد الأمة قادها بمنتهى الحزم، والفهم، والتقوى، وبالإرادة الصلبة فهو من حيث الرجال: رجل مواقف وتربية، لقد كان شيئاً فوق التصور والخيال.
وأريد أن أنبه إلى أنه يمكن أن يكون لكل إنسان عمل في الدعوة، وبالتالي إذا أردنا أن نقيم أمة لابد أن يكون لكل إنسان مهمة مهما صغر شأنه وقل عطاؤه، فليكن له عطاء بحسب قدرته، ولو كان لكل إنسان مهمة في الدعوة؛ لتغير حال الأمة.
الوصية السادسة: العمل المتأني على توسيع دائرة الإيمان الذي يعني بالضرورة تضييق دائرة الفسق والكفران
القضاء الحقيقي على الفساد إنما هو بتوسيع دائرة الإيمان، والخنق التدريجي للفساد، والتضييق عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا...] رواه أبوداود وابن ماجه . ومعنى: [لَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا] أي: تستمرون وراءه بالموعظة والتشديد والتضييق... وهذا هو الخنق التدريجي، حتى يموت الفساد ويختفي، وهذا هو الطريق الصحيح الذي بين الله أنه به تنتهي دائرة الفساد قال: } أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ[44] {سورة الأنبياء . الأرض هنا: أرض الكفر، ومعنى}نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا{: نأخذ طرفاً طرفاً منها يزاد إلى أرض الإسلام، وهكذا دواليك وأقول: كلما اكتسبنا فرداً من معسكر الفسق والفساد، وانضم إلى معسكر التوحيد والهداية؛ كلما ضاقت الدائرة على المفسدين، وبالتالي لو التزم كل منا برجل واحد كل عام؛ نكون قد وسعنا دائرة المهتدين، وضيقنا دائرة المفسدين، وهذا العمل التدريجي المتأني عظيم جداً والدعوة مباركة مثلها مثل الزرع تبذر بذرة، ويتولى الله إنباتها، ونموها، واستواءها.
الوصية السابعة: الحرب على كل الجبهات، ومحاولة سد كل الثغرات
لابد من سد جميع الثغرات، والحرب على كل الجبهات وفي كل الميادين، الأمة الإسلامية قد فتح عليها باب الشر من كل مكان، والقول الآن: بأن الدعوة لا تكون إلا في مكان واحد من هذه الأمكنة؛ خطأ كبير، مثلاً: لابد من الدعوة إلى التوحيد، وهذه هي البداية، ولكن هذا القول يمثل نصف الحقيقة، وليس كل الحقيقة، فلو كانت الدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد فقط، ورأيت عارياً وجائعاً، ألا ينبغي لك وأنت تدعو إلى التوحيد أن تكسو هذا العاري، وأن تطعم هذا الجائع، أم أنه إذا جاءك الجائع والعاري وأمسك بثيابك، وقال لك: يا فلان أنا جوعان أعطني ديناراً، تقول له: اذهب عني أنا الآن مشغول بدعوة التوحيد، فلعله يقول لك: حث الناس يعطوني ديناراً أعيش به، فهل تقول له: لا وقت عندي، ولا بد أن نهتم بالتوحيد أولاً؟ هذا القول لا يصدر من داعية حق إلى الله، وهذه ليست دعوة إلى الله، فإنه لو كان الإنسان جالساً في درس التوحيد، وجاء هذا الجائع، ودخل هذا العاري ينبغي أن نوقف الدرس، ونعطيه من أموالنا حتى نسد حاجته.(/4)
وأقول: إن هناك من يتصرف مثل هذا التصرف، يرى حاجات الناس وآلامهم ومصائبهم، وركوب الظالمين عليهم وتهتيك حرماتهم، ولا يهتم بشيء من ذلك ويقول: الدعوة إلى التوحيد أولاً!!.
ولا شك أن هناك أولويات، و لكن ليس معنى الأولوية أن لا ننشغل بغيرها، هذا خطأ في فهم الأولويات، إذ لابد من الحرب على كل الجبهات. التوحيد أولاً: نعم، ولا يجوز أن نشغل عن إحسان الصلاة فإذا كانت صلاتي غير صحيحة؛ فينبغي أن أصححها، وإذا كان بيننا رجل جائع؛ فلابد أن نطعمه ونتعاون في هذا، ولا ينبغي أن نقول: إن هذا مشغلة عن العمل.
والخلاصة: أن على المسلمين اليوم: أن ينظموا صفوفهم، وأن يوحدوا جهودهم، وأن يحاربوا ما أمكنهم على كل الجهات، وأن يحاولوا أن يسدوا كل الثغرات .
الوصية الثامنة : تصحيح مسيرة الدعوة أولاً بأول،وإنكار منكر الدعاة قبل غيرهم، وإشاعة الشجاعة الأدبية والنقد الذاتي
هذه القضية هامة:النقد الذاتي لأهل الدعوة إلى الله عز وجل والمهتدين: فليس كل من دعا إلى الله، و ليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً، وهناك مقولة سارية عند الدعاة إلى الله تقول: إنه لا يجوز أن نفضح أنفسنا عند الناس ولا ننتقد بعضنا ! وأقول: إن هذه المقولة خاطئة:
لأنه لابد من تصحيح مسيرة الدعوة، ولابد من إشاعة النقد؛إذ لو كان إظهار خطأ المهتدين عيباً لما بين الله كثيراً من عيوب المهتدين، مثلاً: سرية عبدالله بن جحش اجتهدت اجتهاداً وقتلت بعض الناس في الحرم وفي الشهر الحرام، وجاء الكفار وقامت قيامتهم، وقالوا: استحل محمد الدم في الشهر الحرام، وأشاعوا ذلك في العرب، فلما فعل هذا بعض المسلمين اجتهاداً منهم أنكر المشركون هذا، فأنزل الله قوله: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ{ وهذا بيان أن هذا خطأ ومعصية ولكن الله رد على الكفار قائلاً سبحانه: }وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ{ سورة البقرة.والمعنى إن كنتم تعيبون على المسلمين أمراً، فقد فعلتم معشر المشركين ما هو أعظم، فقد فعلتم أضعافه من الكفر بالشهر الحرام، والبلد الحرام، وإخراج أهل البلد الحرام منه .
لقد تأخرت الدعوة إلى الله بسبب السكوت عن كثير من الأخطاء: أخطاء في العقيدة، وأخطاء في المنهج، وأخطاء في السلوك... بعض الدعاة يريد أن يكون جباراً في الأرض: يسفك الدماء المحرمة بغير حق، ويستحل حرمات الناس بغير حق، والسكوت عن هذه الأخطاء إقرار لها، وتشويه للمنهج الإسلامي، وصد عن سبيل الله .
وبالطبع، فأنا أفرق بين الخطأ المستعلن والخطأ الخفي، يجب التمييز: فلان فعل هذا، وقد نصب نفسه داعياً إلى الله ، لا أقول اسكتوا؛ لأن هذا وغيره منسوبون إلى الدعوة، فإذا سكتنا عن أخطائه، تصبح هذه أخطاء المنهج الرباني، والمنهج السماوي منهج الله، وهذه جريمة في حق الدين أننا نسكت عن الأخطاء، فأي خطأ استعلن، وأظهر للناس ينبغي أن يبين ونقول: هذا الذي فعله فلان ليس من الدين، وهذا فعله باجتهاده، ليس معصوماً، ولكنه مجتهد وأخطأ الطريق، وهذا ليس بصواب وهذا ليس من دين الله، فيكون المنهج سليماً والطريق سالكاً نظيفاً... كان الصحابي إذا أفتى بفتوى برأيه يقول: 'إن كانت صواباً فمن الله، وإن كانت خطأ، فمني ومن الشيطان' .
بعض الدعاة يستحل الدم الحرام، ولا يريد أن ينتقده أحد ويقول: إذا حصل النقد للدعاة يحتج علينا المنافقون والكفار، أننا فعلنا جريمة، وأنا أقول: لأن تنسب هذه الجريمة إلينا خيراً من أن تنسب إلى الله ومنهجه، وإلى رسوله وإلى دينه، فلنقل: هذا الخطأ منا وليس من تشريع الله، وليس من الدين، فالذي فعله فلان وفلان لا ينسب إلى الدين، ولكنه اجتهاد منهم، ويتحملون هم وزره، والله بريء من هذا والرسول بريء من هذا .
هذه قضية هامة، وترك نقد الدعاة؛ أخّر الدعوة سنوات طويلة، بسبب السكوت على الأخطاء، وبالتالي أي إنسان خارج الدين ينظر إلى الدين، فيراه مجموعة من حركات المجانين والعابثين، بل والمجرمين أحياناً، ودين الله غير هذا، دين الله ينبغي أن يبرأ، وينبغي إن نحن فعلنا خطأ أن نعترف ونقول: الله بريء من هذا ورسوله بريء ودين الله بريء، وبالتالي يبقى الإسلام نظيفاً وطريقه صحيحاً، لأن الخطأ إذا أقر والبدعة إذا بقيت، فسيأتي جيل ولا يجد من يبين له، فيقلد في هذا وتستقر البدع، وتصبح جزءاً من المنهج والدين، وهكذا يفسد الدين بالتراكمات وأخطاء الدعاة، والذي يأتي من الخارج يجدها جزءاً من المنهج.
هذا كعب بن مالك لما تأخر عن تبوك؛ نزل القرآن في شأنه .
وهذا حاطب بن أبي بلتعة فعل شيئاً؛ فنزل في حقه قرآن .(/5)
وهذا كتاب الله فضح المنافقين الذين كانوا جزءاً من المسيرة، وكان لابد من فضحهم وبيانهم حتى لا يتأثر بهم غيرهم... فلابد من تصحيح المسيرة، وبيان الأخطاء، وتقويم العوج في الدعوة إلى الله .
الوصية التاسعة : تنسيق العمل بين الجماعات الإسلامية، ومناصرة بعضها بعضاً، والوقوف صفاً واحداً أمام القوى المعادية
? وهذه وصية عظيمة، وهي تنطوي على مجموعة من الحقائق:
إن قيام الجماعات الإسلامية الكثيرة في أنحاء العالم الإسلامي كان بحكم تباعد الديار، والاختلاف في الأولويات، وتغير الظروف والملابسات، وهذا جميعه قد أفرز بالتالي تعدد جماعات الدعوة.
هذا التعدد استفاد منه الجهاد الإسلامي كثيراً؛ وذلك أن الأوضاع السياسية والظروف القائمة لا تسمح بإقامة عمل واسع منظم للدعوة، ولذلك فقد كان لقيام الجمعيات الدعوية التي اهتمت بأعمال الخير والدعوة إلى أمور الدين المختلفة أثر بالغ في حياة المسلمين، وخاصة بعد أن تخلت معظم الحكومات عن هذه المهام: من تعليم القرآن والصلاة والإسلام، ورعاية الأيتام والفقراء، وإخراج الزكاة، والنهي عن البدع والمنكرات، والشرك.
ولا أنكر ولا أشك أنه قد كان هناك بعض السلبيات من هذا التعدد كالتنافس غير الشرعي، الذي أدى إلى الطعن والتشويه والتجريح، وإيقاع المبتدئ في بلبلات عظيمة، وحيرة من أمره في شأن الدعاة للإسلام واختلافهم، ولكن هذه السلبيات لا يمكن أن توازي الإيجابيات العظيمة من تعدد الجماعات، علماً أن هذه السلبيات يمكن تلافيها تماماً، والتخلص منها أبداً باتباع سياسة حكيمة وهذا ما تدعو إليه الوصية التاسعة، وتتمثل هذه السياسة الحكيمة فيما يأتي:
إشاعة إخوة الإسلام ورابطته بين جميع العاملين للإسلام، وأن هذه الرابطة من أصول الدين وقواعد الإسلام.
التلاقي بين العاملين للإسلام، ومناقشة أولوياتهم ومناهجهم، والانفتاح على الآخرين، ومعرفة ما عندهم.
وفي ظني أن حتمية العمل ووحدة المصير ستحتم على العاملين للإسلام أن يكونوا وحدة في آخر المطاف، وذلك أن الأمور تتحرك في ظل الدعوة إلى الله إلى انحياز أهل الشر بعضهم بعضاً، وتناصرهم وتعاونهم، وبالتالي سيجد أهل الخير والدعوة أنه لا مناص لهم من التعاون والتآزر... ومع ذلك فإنني لا أقول يجب أن نصبر حتى تلجئنا الظروف إلى التعاون، بل يجب أن يسعى كل العاملين للإسلام إلى أن يكونوا إخوة متحابين متناصرين، وأن يكونوا صفاً واحداً في وجه المجرمين من الملحدين، وألا ينتظروا حتى تلجئهم الظروف إلى ذلك، بل عليهم أن يعملوا للوحدة والتآلف والتآزر من الآن بوحي من إيمانهم وعقيدتهم، وأن هذا هو فرض الله عليهم وأمره لهم كما قال تعالى:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[103]{ سورة آل عمران .وقوله: }وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[46]{ سورة الأنفال وقوله: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[4] { سورة الصف. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. والخلاصة: أنني أدعو إلى التقارب والتنسيق بين الجماعات الإسلامية، وفتح مجالات الحوار واللقاء، وإذكاء التنافس في الخير، والتسابق إلى الإحسان، وهذا هو الذي سيسرع بنشر الوعي الديني، وتحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات إسلامية.
الوصية العاشرة: الاعتصام بالله دائماً، واليقين أنه هو سبحانه الذي يقود ويوجه مسيرة الدعوة، ويسدد الدعاة، ويختار لهم وأن الدين دينه والأمر كله له
وأختم بها، وهي: أن جماع هذا كله هو الاعتصام بالله تعالى، والعلم بأن حركة الدعوة إلى الله الذي يقدر لها هو الله وليس الأفراد، هو سبحانه الذي يقود مسيرة أهل الإيمان، وهو الذي يربيهم، ويعلمهم ويبتليهم بالخير والشر، الشر الظاهري لكنه في باطنه خير، أريد أن نخلص من هذا كله إلى أن أهل الدعوة ينبغي أن يعتصموا بالله كما قال الله في ختام آية الدعوة: } وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[78] {سورة الحج .
وأن نوقن أنه لسنا نحن الذين نخطط للدعوة، نحن بحسب علمنا البشري نعمل، لكننا نعمل في إطار تدبير الله ومشيئته، لو أن الدعاة إلى الله فقهوا أنه لا صلاح لهم ولا نجاح لهم إلا بالاعتصام بالله، والتوكل عليه في كل أمر، وإخلاص الدين له، والتبرؤ من الهوى، وجعل الأمر كله لله عز وجل، أقول: لا شك نصل إلى درب الأمان بكل سهولة وكل يسر، ويصبح كل قضاء يقضيه الله لنا خيراً لأننا أسلمنا، وسلمنا القيادة لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فالله لا غالب له.
هذه عشر وصايا هي والله ثمرة قلبي، وزبدة عمري وبحثي واستقرائي لحال الدعوة إلى الله ما كذبت فيها -يعلم الله- وأرجو أن أكون قد أخلصت القصد والنية في بيانها وتقديمها، واعلم يقناً أن هذه الأمور والقواعد العشر معالم حقيقية للطريق لو اتبعها الدعاة إلى الله؛ لنصر الدين بأسرع ما نتصور.(/6)
وأسأل الله أن يأخذنا إلى طريقه وأن يرفق بنا في الأمر كله والله غالب على أمره،وصلى الله على رسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
من رسالة:الوصايا العشرللعاملين بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
للشيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق(/7)
الوصية الصغرى
لإبن تيمية
سؤال أبى القاسم المغربى
يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف وقدوة الخلف أعلم من لقيت ببلاد المشرق والمغرب تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية بأن يوصينى بما يكون فيه صلاح دينى ودنياى ويرشدنى إلى كتاب يكون عليه إعتمادى فى علم الحديث وكذلك فى غيره من العلوم الشرعية وينبهنى على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات ويبين لى أرجح المكاسب كل ذلك على قصد الإيماء والإختصار والله تعالى يحفظه والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته
فأجاب
الحمد لله رب العالمين
أما الوصية فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها وإتبعها قال تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن إتقوا الله
ووصى النبى صلى الله عليه وسلم معاذا لما بعثه إلى اليمن فقال يا معاذ إتق الله حيثما كنت وإتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن
وكان معاذا رضى الله عنه من النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة علية فإنه قال له يا معاذ والله إنى لأحبك وكان يردفه وراءه وروى فيه أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام وأنه يحشر إمام العلماء برتوة أى بخطوة ومن فضله أنه بعثه النبى صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه داعيا ومفقها ومفتيا وحاكما إلى أهل اليمن
وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلام وإبراهيم إمام الناس وكان إبن مسعود رضى الله عنه يقول إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين تشبيها له بإبراهيم
ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصاه هذه الوصية فعلم أنها جامعة وهى كذلك لمن عقلها مع أنها تفسير الوصية القرآنية
أما بيان جمعها فلأن العبد عليه حقان حق لله عز وجل وحق لعباده ثم الحق الذى عليه لا بد أن يخل ببعضه أحيانا إما بترك مأمور به أو فعل منهى عنه فقال النبى صلى الله عليه وسلم إتق الله حيثما كنت وهذه كلمة جامعة وفى قوله حيثما كنت تحقيق لحاجته إلى التقوى فى السر والعلانية ثم قال وإتبع السيئة الحسنة تمحها فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا مضرا أمره بما يصلحه والذنب للعبد كأنه أمر حتم فالكيس هو الذى لا يزال يأتى من الحسنات بما يمحو السيئات وإنما قدم فى لفظ الحديث السيئة وإن كانت مفعولة لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة فصار كقوله فى بول الأعرابى صبوا عليه ذنوبا من ماء
وينبغى أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ فى المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء
أحدها التوبة
و الثانى الإستغفار من غير توبة فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب فإذا إجتمعت التوبة والإستغفار فهو الكمال
الثالث الأعمال الصالحة المكفرة إما الكفارات المقدرة كما يكفر المجامع فى رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو ترك بعض واجباته أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة وهى أربعة أجناس هدى وعتق وصدقة وصيام
وإما الكفارات المطلقة كما قال حذيفة لعمر فتنة الرجل فى أهله وماله وولده يكفرها الصلاة ةالصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح فى التكفير بالصلوات الخمس والجمعة والصيام والحج وسائر الأعمال التى يقال فيها من قال كذا وعمل كذا غفر له أو غفر له ما تقدم من ذنبه وهى كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصا ما صنف فى فضائل الأعمال
وإعلم ان العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه فإن الإنسان من حين يبلغ خصوصا فى هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التى تشبه الجاهلية من بعض الوجوه فإن الإنسان الذى ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء فكيف بغير هذا
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث أبى سعيد رضى الله عنه لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن هذا خبر تصديقه فى قوله تعالى فإستمعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتهم كالذى خاضوا ولهذا شواهد فى الصحاح والحسان
وهذا أمر قد يسرى فى المنتسبين إلى الدين من الخاصة كما قال غير واحد من السلف منهم إبن عيينة فإن كثيرا من أحوال اليهود قد إبتلى به بعض المنتسبين إلى العلم وكثيرا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى الدين كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذى بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ثم نزله على أحوال الناس
وإذا كان الأمر كذلك فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وكان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشى به فى الناس لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى فيرى أن قد إبتلى ببعض ذلك(/1)
فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو إتباع السيئات الحسنات والحسنات ما ندب الله اليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة وهى كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى فى مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك لكن ليس هذا من فعل العبد
فلما قضى بهاتين الكلمتين حق الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد قال وخالق الناس بخلق حسن وهو حق الناس
وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والإستغفار والثناء عليه والزيارة له وتعطى من حرمك من التعليم والمنفعة والمال وتعفو عمن ظلمك فى دم أو مال أو عرض وبعض هذا واجب وبعضه مستحب
وأما الخلق العظيم الذى وصف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقا هكذا قال مجاهد وغيره وهو تأويل القرآن كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن وحقيقته المبادرة إلى إمتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وإنشراح صدر
وأما بيان أن هذا كله فى وصية الله فهو أن إسم تقوى الله يجمع فعل كل ما أمر الله به إيجابا وإستحبابا وما نهى عنه تحريما وتنزيها وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد لكن لما كان تارة يعنى بالتقوى خشية العذاب المقتضية للإنكفاف عن المحارم جاء مفسرا فى حديث معاذ وكذلك فى حديث أبى هريرة رضى الله عنهما الذى رواه الترمذى وصححه قيل يا رسول الله ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق قيل وما أكثر ما يدخل الناس النار قال الأجوفان الفم والفرج
وفى الصحيح عن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا فجعل كمال الإيمان فى كمال حسن الخلق ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضوع فإنها الدين كله لكن ينبوع الخير وأصله إخلاص العبد لربه عبادة وإستعانة كما فى قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفى قوله فإعبده وتوكل عليه وفى قوله عليه توكلت وإليه أنيب وفى قوله فإبتغوا عند الله الرزق وإعبدوه وإشكروا له بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين إنتفاعا بهم أو عملا لأجلهم ويجعل همته ربه تعالى وذلك بملازمة الدعاء له فى كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك والعمل له بكل محبوب ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك
أما ما سألت عنه أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنه يختلف بإختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه فى الجملة وعلى ذلك دل حديث أبى هريرة الذى رواه مسلم سبق المفردون قالوا يا رسول الله ومن المفردون قال الذاكرون الله كثرا والذاكرات وفيما رواه أبو داود عن أبى الدرداء رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها فى درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالو بلى يا رسول الله قال ذكر الله
والدلائل القرآنية والإيمانية بصرا وخبرا ونظرا على ذلك كثيرة وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم كالأذكار المؤقتة فى أول النهار وآخره وعند أخذ المضجع وعند الإستيقاظ من المنام وادبار الصلوات والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد إلى خير ذلك وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة
ثم ملازمة الذكر مطلقا وأفضله لا إله إلا الله وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله أفضل منه ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الله من تعلم علم وتعليمه وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من ذكر الله ولهذا من إشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض او جلس مجلسا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذى سماه الله ورسوله فقها فهذا أيضا من أفضل ذكر الله وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين فى كلماتهم فى أفضل الأعمال كبير إختلاف
وما أشتبه أمره على العبد فعليه بالإستخارة المشروعة فما ندم من إستخار الله تعالى وليكثر من ذلك ومن الدعاء فإنه مفتاح كل خير ولا يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لى وليتحر الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر ونحو ذلك(/2)
وأما ارجح المكاسب فالتوكل على الله والثقة بكفايته وحسن الظن به وذلك أنه ينبغى للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلىالله ويدعوه كما قال سبحانه فيما ياثر عنه نبيه كلكم جائع إلا من أطعمته فإستطعمونى أطعمكم يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فإستكسونى أكسكم وفيما رواه الترمذى عن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا إنقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر
وقد قال الله تعالى فى كتابه وإسألوا الله من فضله وقال سبحانه فإذا قضيت الصلاة فإنتشروا فى الأرض وإبتغوا من فضل الله وهذا وأن كان فى الجمعة فمعناه قائم فى جميع الصلوات ولهذا والله أعلم أمر النبى صلى الله عليه وسلم الذى يدخل المسجد أن يقول اللهم إفتح لى أبواب رحمتك وإذا خرج أن يقول اللهم أنى أسالك من فضلك وقد قال الخليل صلى الله عليه وسلم فإبتغوا عند الله الرزق وإعبدوه وإشكروا له وهذا امر والأمر يقتضى الإيجاب فالإستعانة بالله واللجأ إليه فى أمر الرزق وغيره أصل عظيم ثم ينبغى له ان يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه ولا يأخذه باشراف وهلع بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذى يحتاج إليه من غير ان يكون له فى القلب مكانة والسعى فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء وفى الحديث المرفوع الذى رواه الترمذى وغيره من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وفرق عليه ضيعته ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة وقال بعض السلف أنت محتاج إلى الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فإنتظمه إنتظاما قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة او تجارة أو بناية أو حراثة او غير ذلك فهذا يختلف بإختلاف الناس ولا أعلم فى ذلك شيئا عاما لكن إذا عن للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الإستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم فإن فيها من البركة ما لا يحاط به ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية
وأما ما تعتمد عليه من الكتب فى العلوم فهذا باب واسع وهو أيضا يختلف بإختلاف نشء الإنسان فى البلاد فقد يتيسر له فى بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له فى بلد آخر لكن جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه فى تلقى العلم الموروث عن النبى صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذى يستحق أن يسمى علما وما سواه إما أن يكون علما نافعا وإما أن لا يكون علما وإن سمى به ولئن كان علما نافعا فلا بد أن يكون فى ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغنى عنه مما هو مثله وخير منه ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه فإذا اطمأن قلبه إن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك
وليجتهد أن يعتصم فى كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم وإذا اشتبه عليه مما قد إختلف فيه الناس فليدع بما رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلى من الليل اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنى لما إختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم .(/3)
الوعد الحق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد المؤمن بأن للكون والإنسان والحياة خالقا واحدا لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا والحمد لله الذي أنزل معجزته القرآن العظيم نورا وحجة وبرهانا على صدق نبوة وبعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعالمين رسولا اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا آمين آمين آمين يا ذا الجلال والإكرام.
الوعد الحق
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.النور55
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ22/42
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ11/85
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ30/45
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ2/47
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ2/218
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا4/173
وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ9/5
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ32/7
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ96/7
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ2/10
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ9/10
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ103/10
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ23/11
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ58/11
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ66/11
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ94/11
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ29/13
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ23/14
يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء27/14
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ102/16(/1)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا107/18
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا96/19
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ14/22
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ23/22
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ38/22
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ50/22
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ56/22
وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ53/27
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ7/29
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ9/29
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ 19/57
*فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ8/64
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ25/84
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ8/41
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ6/95
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ7/98
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ57/3
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ58/29
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ15/30
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ8/31
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ19/32
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ51/40
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ11/47
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ12/47
البرهان واليقين: رَّبَّنَا إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ3/193
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا4/136
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا170/4
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ.محمد19
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ54/22
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ15/49(/2)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ7/158
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ24/8
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.الأنعام75-79
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ257/2 أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.الطور35 أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ. أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ. أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ... أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ.الواقعة58-69.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب3/190
قوله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض" تقدم معنى هذه الآية في "البقرة" في غير موضع. فختم تعالى هذه السورة بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته؛ إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير وقدوس سلام غني عن العالمين؛ حتى يكون إيمانهم مستندا إلى اليقين لا إلى التقليد. "لآيات لأولى الألباب" الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية على النبي قام يصلى، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرآه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: (يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا ولقد أنزل الله على الليلة آية "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" - ثم قال:(ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها).
قال العلماء: يستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه، ويستفتح قيامه بقراءة هذه العشر الآيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما وسيأتي؛ ثم يصلي ما كتب له، فيجمع بين التفكر والعمل، وهو أفضل العمل على ما يأتي بيانه في هذه الآية بعد هذا. وروي عن أب هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة "آل عمران" كل ليلة، خرجه أبو نصر الوائلي السجستاني الحافظ في كتاب "الإبانة" من حديث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة. وقد تقدم أول السورة عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ الحج73
برهان التمانع:(/3)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ.أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ.أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ.أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.النمل59-64
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَالأنبياء21\22
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.المؤمنون91
لو كان هناك إلهين اثنين فإما أن يتطابقا تمام الإنطاق دون ميزة أو يتفاضلا بميزة فيسقط المفضول وليس بإله ويبقى الواحد الفاضل وهو الله.
لو كان هناك إلهين اثنين أراد أحدهما قيام زيد و أراد الآخر قعوده في آن لاستحال وقوع الإرادتين لاستحالة الجمع بين الضدين فمن نفذت إرادته فهو آله قادر والثاني عاجز و ليس بإله.
العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستند بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناوبه : وبرهانه قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وبيانه أنه لو كانا اثنين وأراد أحدهما أمرا فالثاني إن كان مضطرا إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهورا عاجزا ولم يكن إلها قادرا وإن كان قادرا على مخالفته ومدافعته كان الثاني قويا قاهرا والأول ضعيفا قاصرا ولم يكن إلها قادرا
وإذا سقطت التثنية سقط التثليث و التعدد.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً4/171
ليسوا سَوَاءا
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ52/29
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ58/40
أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ21/45
قل للطبيب
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض:من أرداكا
قل للطبيب نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب: من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام:من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولا بلا راعٍ ومرعى:ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة:ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله:من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين دم و فرث ما الذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من أحياكا
وإذا ترى ابن السودِ أبيضَ ناصعاً فاسأله:مِنْ أين البياضُ أتاكا
وإذا ترى ابن البيضِ أسودَ فاحماً فاسأله:من ذا بالسوادِ طلاكا
قل للنبات يجف بعد تعهدٍ ورعايةٍ:من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبتَ في الصحراءَ يربو وحده فاسأله:من أرباكا
هذي عجائب طالما أَخذت بها عيناك وانفتحت بها أذناكا
والله في كل العجائب ماثلٌ إن لم تكن لتراه فهو يراكا
القرآن الكريم(/4)
1-وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ23/2
2-أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ38/10
3-أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ13/11
4-قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا88/17
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :الحياء شعبة من شعب الإيمان ولا إيمان لمن لا حياء له و إنما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له و قال : قوام المرء عقله ولا دين لمن لا عقل له
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق الله تعالى العقل قال له : قم فقام ثم قال له : أدبر فأدبر ثم قال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أقعد فقعد فقال عز وجل : ما خلقت خلقا خيرا منك ولا أكرم منك ولا أفضل منك ولا أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعز وبك أعرف وإياك أعاتب بك الثواب وعليك العقاب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا الشاهد على الله عز وجل أن لا يعثر عاقل إلا رفعه الله عز وجل ثم لا يعثر إلا رفعه حتى يجعل مصيره إلى الجنة
شك محمد بن مسلم في الثالثة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كرم المرء دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يعجبنكم إسلام امرئ حتى تعرفوا معقود عقله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح من جعل الله عز وجل له عقلا
1 - وقال : بعض الحكماء لأخ له : يا أخي عقلك لا يتسع لكل شيء ففرغه لأول المهم من أمرك وكرامتك لا تسع الناس فخص بها أولى الناس بك وليلك ونهارك لا يستوعبان حوائجك فاسقط عنك مالك منه بد وليس من العقل أن تذر من الخير مالا بد منه ولا تمدح من لم تخبر إحسانه
2 - وقيل لبعض الحكماء : ما العقل ؟ قال أمران أحدهما صحة الفكر في الذكاء والفطنة والآخر حسن التمييز وكثرة الإصابة
3 - وقيل لبعض الحكماء : أوصنا بأمر جامع قال : احفظوا وعوا أنه ليس من أحد إلا ومعه قاضيان باطنان أحدهما : ناصح والآخر : غاش فأما الناصح فالعقل وأما الغاش فالهوى وهما ضدان فأيهما ملت معه وهي الآخر
4 - حدثني : أبو بكر حدثني : الحسين بن عبد الرحمن قال : قال بعض الحكماء : لا ترى العاقل إلا خائفا كما أن الجاهل لا تراه إلا آمنا وفي ذلك يقول القائل :
( لا ترى العاقل إلا خائفا ... حذرا من يومه دون غده )
5 - قال : أبو بكر عبد الله : وسمعت محمودا الوراق : ينشد
يمثل ذو العقل في نفسه
... مصيبته قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه
... لما كان في نفسه مثلا
رأى الهم يفضي إلى آخر
... فصير آخره أولا
وذو الجهل يأمن أيامه
... وينسى مصارع من قد خلا
فإن بدهته صروف الزمان
... ببعض مصائبه أعولا
ولو قدم الحزم في أمره
... لعلمه الصبر حسن البلا
6 -ابن جريج قال : قسم العقل على ثلاثة أجزاء فمن كن فيه كمل عقله : حسن المعرفة بالله وحسن الطاعة له وحسن الصبر على أمره
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن هو حبل الله تعالى هو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول آلم حرف ولكن في الالف عشر وفي اللام عشر وفي الميم عشر
قال علي عليه السلام وقد ذكر القرآن فقال: ليس هو بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله عز وجل منه بدأ وإليه يعود.
كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال اللهم رب القرآن أوسع عليه مداخله اللهم رب القرآن اغفر له فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود.
سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود.
أصول الإيمان [ جزء 1 - صفحة 139 ]
باب التحريض على طلب العلم وكيفية الطلب
تحريم التقليد
103 - فيه حديث الصحيحين في فتنة القبر أن المنعم يقول جاءنا بالبينات والهدى فآمنا وأجبنا واتبعنا وأن المعذب يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته(/5)
أصول الإيمان [ جزء 1 - صفحة 144 ]
تحريم الإقتداء بغير رسول الله ص - حتى لو كان نبيا
108 - وعن جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها فقال ص - امتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي رواه احمد
أصول الإيمان [ جزء 1 - صفحة 156 ]
من هو الفقيه
120 - وعن علي رضي الله عنه قال إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا علم لا فهم فيه ولا قراءة لا تدبر فيها
121 - وعن الحسن رضي الله عنه قال قال رسول الله ص - من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة درجة واحدة في الجنة رواهما الدارمي
ابو السيد(/6)
الوعد الشرقي
قال لي صديق من زملائي في المحكمة:
كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتا هائلا له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر بئر، أو يصرخ في الحمام، يقول:
السلام عليكم.
فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن رجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يدا كالمخاطب يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يدخل نفسه فيه فلم يستطع، فلبث واقفا وعرض حاجته وهي دعوة إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا، ولم يكن من عادي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض، لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، وآثرت السلامة ووعدته.
قال: أين نلتقي؟ فخفت أن أدله على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا الساعة الثالثة بالضبط.
قال: نعم، وولى ذاهبا كأنه عمارة تمشي.
وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني، فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني، حسبني أحد أرباب الدعاوى، فقال: (ما فيها أحد، سكرت المحكمة) فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلا وأضع أخرى، وأقبل مرة وأدبر مرة، أنظر من هنا وهناك، فكلما رأيت من بعيد شيئا كبيرا أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملا عليه حطب، أو حمارا فوقه تبن، أو تاجرا من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس، حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي، غضبا منه ومن نفسي أن لنت له ولطفت به، وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس، مهيج الأعصاب فألقيت بنفسي على الفراش. فلم أكد أستقر لحظة، حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا، أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتحت له الخادم فراعها أن رأت فيه فيلا يمشي على رجلين، فأدخلته عليّ بلا استئذان، وولت هاربة تحدّث من في الدار حديث هذه الهولة المرعبة.
ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر، التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى.
وأخرج منديلا كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركبة بين كتفيه، وقال:
- هيك يا سيدنا؟ ما بنتنظر شوية؟ شو صار؟ حمّل الحج؟ سارت الباخرة؟ الإنسان مسير لا مخير، والغائب عذره معه، والكريم مسامح، وعدنا وعد شرقي؟
* * *
قال الصديق وهو يحدثني: فلما سمعت هذه الكلمة وقفت عندها، أفكر فيها، ثم جئت إليك أقترح عليك أن تكتب عنها.
وعد شرقي؟ أليس عجيبا أن صار اسم (الوعد الشرقي) علما على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علما على الوعد الصادق؟.
ومن علم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قبسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؟ ألم يأخذوها منا؟
من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس بعد ذلك، وهg في الدنيا دين إلا هذا الدين يجعل للعبادات موعدا لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شرع لتقوية البدن، وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع، وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشر ساعة، واثنتي عشر ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق، أليس (والله أعلم) لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟
والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد فجر يوم النحر بخمس دقائق، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟
أولم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى بعد هذا كله كثيرا من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخلف لهم وعدا؟ أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد، والتدقيق فيه والحرص عليه، نادرة يتحدث بها الناس، ويُعجبون بصاحبها ويَعجبون منه… وحتى صارت وعودنا مضطربة مترددة لا تعرف الضبط ولا التحديد.
يقول لك الرجل (الموعد صباحا)، صباحا؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة، في السابعة، في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. (الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين؟ (الوعد بعد العشاء). أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم، ولا قيمة لأوقاتهم، ولا مبالاة لهم بكرامتهم!
هذه مواعيدنا وفي ولائمنا، وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.
دعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحدا له عند صاحب الدار منزلة، وتحدثنا وحلت ساعة الغداء وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث، ورائحة الطعام من شواء وقلاء وحلواء، تملأ آنافنا وتصل إلى معدنا الخاوية، فتوقد فيها نارا، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت: هل عدلت عن الوليمة؟(/1)
فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت:
- يا أخي جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة.. حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!
فتغافل وتشاغل، ثم صرح فقال: حتى يجيء فلان.
قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد، أفنعاقب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنا كنا غير مخلفين؟
* * *
والحفلات مثل الولائم، يكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط، ركبت مرة الطائرة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظار راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر قبل أن يدخل الحمّام، ويستريح بعد الخروج كي لا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد، وكنت يومئذ عائدا من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزة في دمشق وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون قدومي في الشمس منذ ساعة كاملة.
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف، فيا أيها القراء خبروني سألتكم بالله، أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، تدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون والحذاؤون؟ سائقو السيارات؟ من؟ من يا أيها القراء؟.
يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة، أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصّد فيك بصره ويصوبه، ويقومك بعينه، فإن أنت لم تملأها، ولم تدفعه لمساعدتك رغبة فيك، أو رهبة منك قال لك: ارجع غدا. فترجع غدا، فيرجئك إلى ما بعد غد… لا أعني موظفا بعينه، ولا عهدا بذاته، بل أصف داء قديما سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل..
ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرسا لم يأت درسه إلا متأخرا.
والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا بها على باب الطبيب، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.
أما الخياطون والخطاطون، والحذّاؤون والبنّاؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم للوعد. الكذب لهم دين، والحلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خطت قميصا ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوبا إلى مصبغة لكيّه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد، والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقا.
فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق لا يعد فيه المرشح وعدا إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازما على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادرا على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعا، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق: أين معلمك؟ فيقول، إنه هنا، سيحضر بعد دقيقة، ويكون نائما في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين.
ويقول لك الموظف: من فضلك لحظة واحدة. فتصير لحظته ساعة. ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديقا صادقا دقيقا، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يرجأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها. ولو أنا حددنا بالضبط موعد القتال، وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غدا عنا.(/2)
إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جرّ إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درسا؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين، وأعدنا ملك الجدود.
فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق.(/3)
الوعي السياسي ونظريّة المؤامرة “مرة أخرى”
د. عبدالله الصبيح 16/5/1426
23/06/2005
المؤامرة في التحليل السياسي يمكن وصفها بأنها حالة وعي منحرف يحاول صاحبه تحليل الواقع والتعرّف عليه بأدوات خاطئة.
ومن سِمات الوعي المنحرف أنه يوظّف المعلومات المتاحة والثقافة المكتسبة في ترسيخ الانحراف، وليس في التعرف على الواقع، والانحراف هنا هو نظريّة المؤامرة. والملاحظ أنه بمقدار ما تزداد المعلومات يزداد تشبّث الشخص بالنظريّة.
وصاحب الوعي المنحرف الواقع في نظريّة المؤامرة ربما حشد لرأيه كثيراً من الأدلة والأمثلة والشواهد التي تثبت وجهة نظره، وقد لايختلف معه غيره في وجود الأمثلة، ولكن يختلف معه في الربط بين ما أورده وفي علاقته بالواقع. وعند هذا الصنف من الناس لا يمكن أن تربط بين أدلته وشواهده وبين الواقع إلا بنظريّة المؤامرة، فإذا سلّمت له بها انتظم التحليل.
وبعض هؤلاء يبالغ في نظريّة المؤامرة فيحتجّ لها بأمثلة وحوادث متخيّلة أو يحتجّ لها بما في النوايا، فيعرض عن الأعمال الظاهرة، ويبحث فيما لا سبيل له إلى معرفته من أعمال القلب.
وهو لا يستطيع البحث في عمل القلب، ولا تطّرد عنده نظريّة المؤامرة إلا إذا جرّد خصمه من خصال الخير كلها؛ لأن النظر في أعمال القلب عنده قائم على سوء الظن.
وهذا النوع من التحليل التآمري هو أسوؤُها.
وهناك صفتان ملازمتان لمن يحلّلون الأحداث تحليلاً تآمرياً وهما الشكّ في الخصم والعجز عن الفعل. والشكّ يدفع صاحبه إلى التركيز على نيّة من يخالفه بدلاً من دراسة الأفعال الظاهرة، والعجز يدفعه إلى السلبيّة وعدم العناية بما يحسنه من عمل إيجابيّ. ومع الشكّ والعجز يلجأ هؤلاء إلى التحليل التآمريّ حماية لذاوتهم وتسويغاً لعجزهم.
وربما يكون من أسباب الوقوع في نظريّة المؤامرة غياب المعلومات وعدم الشفافيّة، ذلك أن الإنسان حينما يفكر يميل إلى ملء الفراغ المعلوماتي باستحداث معلومات جديدة إما بافتراضها أو استنتاجها. وعملية ملء الفراغ المعلوماتي إذا صاحبها الشك والعجز تقود إلى نظريّة المؤامرة.
ومع ذلك ليس غياب الشفافيّة أو فقد المعلومات هو السبب الوحيد لنظريّة المؤامرة، فربما أعرض الشخص عن المعلومات المتاحة لعدم ثقته بها، ولأنه يرى أنها جزء من المؤامرة لتضليله، ووقع في نظريّة المؤامرة وملأ الفراغ المعلوماتي الذي تخيّله بمعلومات مختلقة.
وفي الغرب توجد عدد من المنظمات، ولاسيّما المنظمات اليمينيّة مغرقة في نظريّة المؤامرة، ولاتثق بما هو متاح من معلومات؛ لأنها ترى أنها جزء من المؤامرة.
والوقوع في فخ نظريّة المؤامرة قد يكون من الأفراد ومن الجماعات ومن الأنظمة السياسيّة. بل يظهر لي أن كثيراً من الأجهزة الأمنيّة في العالم الثالث تتعامل مع من يخالفها من خلال نظريّة المؤامرة.
والوقوع في نظريّة المؤامرة ليس خاصاً بمجتمع دون مجتمع، ولاثقافة دون ثقافة؛ فأينما وُجِد الوعي المنحرف وصاحبه الشكّ والعجز، وُجِدت نظريّة المؤامرة.(/1)
الوعي الفقهي ..ضرورة أمنية
د. مسفر بن علي القحطاني* 2/3/1425
21/04/2004
إن نعم الله - عزوجل - على الخلق كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما قال الله تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) [ابراهيم:34]. وأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن ، فالأمن أصل تقوم عليه الحياة الإنسانية بجميع مجالاتها واختلاف أنشطتها ، ولهذا امتن الله - عزوجل - على بعض خلقه بنعمة الأمن وذكّرهم بهذه المنة ليشكروه عليها ويعبدوه في ظلالها في قوله تعالى : (أولم نمكن لهم حرماً ءامناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون) [القصص57:] وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مايؤكد حاجة الإنسان للأمن في قوله: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " رواه الترمذي وقال: حديث حسن .
وأمن المجتمعات من أعظم مقاصد الشريعة، ومن أهم واجبات إمام المسلمين ؛ إذ الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولولا الولاة لكان الناس فوضى مهملين وهمجاً مضيعين..(1)
يقول الطاهر بن عاشور - رحمه الله - في بيان الترابط بين الأمن في المجتمع وكونه مقصداً من مقاصد الشرع الحكيم :" إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع؛ استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرأة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان ..".(2)
ولهذا فالإخلال بالأمن ، وزعزعة الاستقرار، وإرهاب المسلمين والمستأمنين، إنما هو إفساد في الأرض، وإجرام في حق الخلق يناقض مقصد التشريع العام .
و في هذا المقال نتحدث عن مكامن الخطأ الفقهي في مثل هذه المناهج وأثره على زعزعة الاستقرار والأمن من خلال النقاط التالية :
1- إن النظر الجزئي لنصوص الشريعة بعيداً عن مقاصدها الكلية ، أو الاستدلال الناقص لبعض الأدلة الأصولية دون مراعاة التوابع والعوارض المؤثرة على تنزيل الحكم على الوقائع؛ قد يثمر شططاً عن الوصول للحكم الصحيح وبعداً عن الظفر بالحق المطلوب .
وقد اتفق الأصوليون على ذم التعجل بالقول بالحكم المستنبط من الادلة قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون له أثر على سير الدليل نحو إثبات حكم ما ؛ من معرفة العوارض المؤثرة على دليل الحكم كالنسخ والتخصيص والتقييد وغيرها . فلا يجوز التمسك بدليل من أدلة الشرع وبناء الأحكام عليه من جهة الاستقلال دون جمع الأدلة الأخرى المتعلقة به والمؤثرة عليه ، أو أن ينظر إليه بمعزل عن عوارض الألفاظ التي تؤثر على فهم المعنى المراد لذات الدليل أو بمعزل عن مقاصد الشريعة الكلية ..(3)
والمتأمل لحال من جعل السيف منهجه في التغيير وألزم الأمة بهذا الاتجاه ؛ قد لا يختلف حاله عن حال كثير من أهل البدع الذين خالفوا أهل السنة في كثير من أبواب الاعتقاد بناءً على قصورهم الفقهي والاجتهادي في جمع أطراف المسألة وإحكام جوانبها الأخرى .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه"..(4)
ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله - مؤكداً هذا المعنى :" فكثيراً ما نرى جهالاً يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة، وبأدلة صحيحة اقتصاراً بالنظر على دليل ما، وإطراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفرعية العاضدة لنظره أو المعارضة له، وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً"..(5)
ولا يخفى الأثر السيئ لانحراف هذه الفرق عن منهج أهل السنة والجماعة، وما أحدثته من فتن وقلاقل وتفريق بين المسلمين .
2-هناك قضايا فقهية يجب إثارتها في موضوع الجهاد ؛ إذ قد يفهم أن بروز الكفار للمسلمين في القتال هو وحده الموجب للجهاد ، وهذا نوع انغلاق في فقه المسألة؛ فالجهاد مقيد وجوبه بتحقق الظفر أو النكاية بالعدو ، وقد نص كثير من الفقهاء على تحريم القتال في صور منها :
- أن يغلب على الظن غلبة العدو على المسلمين .
- وأن يتخذ العدو من المسلمين تروساً له يحمي بها نفسه ..(6)
يقول ابن جزي - رحمه الله - : "وإن علم المسلمون أنهم مقتولون فالانصراف أولى ، وإن علموا مع ذلك أنه لا تأثير لهم في نكاية العدو وجب الفرار. وقال أبو المعالي : لاخلاف في ذلك" ..(7)
يقول الشوكاني - رحمه الله - : "إذا علموا (أي المسلمون ) بالقرائن القوية أن الكفار غالبون لهم مستظهرون عليهم؛ فعليهم أن يتنكبوا عن قتالهم ويستكثروا من المجاهدين ويستصرخوا أهل الإسلام . وقد أُستدل على ذلك بقوله تعالى :"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة "(البقرة195) وهي تقتضي ذلك بعموم لفظها؛ وإن كان السبب خاصاً. ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب فقد ألقى بيده في التهلكة"..(8)(/1)
ومعلوم أن تقدير هذه المصالح العامة المتعلقة بالجهاد أو تقدير ضدها ليس متروكاً لآحاد المسلمين؛ بل هو شأن أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وقادتهم وأمرائهم على أن يراعوا شروط تحقق المصلحة المعتبرة شرعاً بعيداً عن الأهواء والحظوظ الخاصة ، وهذه الشروط التي ذكرها الأصوليون في المصلحة المعتبرة ينبغي أن تراعى من قِبل أهل النظر ، وهي: عدم مخالفة المصلحة للنصوص الشرعية الصريحة ولا مقاصد الشريعة الكلية، وأن تكون المصلحة حقيقة غير متوهمة ، ويقينية أو ظنها غالب ، وأن تكون عامة لا تقتصر على فئة بالمصلحة ويتضرر منها الآخرون..(9)
كل ذلك ينبغي أن يُفقه من تشريع الجهاد. أما أن تقحم الأمة كلها في معركة غير متكافئة العدد والعدة، ولم تستكمل الأمة إعدادها النفسي والإيماني والعسكري؛ فهذا لاشك أنه خلل في فقه الواقع وفي تنزيل الأحكام عليه، ومن جهل ذلك لم يحل له أن يفتي أو أن يستنبط الأحكام ويجتهد فيها فضلاً أن يلزم الأمه ويوقعها في الحرج . يقول ابن القيم - رحمه الله - : "ولايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الأخر .."..(10)
وبذلك تكتمل جوانب المسألة ويفقه الناظر صورتها الكاملة ليكون أقرب للظفر بالحكم الصحيح .
3- إن الخلل في منهج التلقي للأحكام أورث خللاً أكبر في الواقع التطبيقي لها ، كما أصبح الواقع العملي الوارث لهذا الخلل مجالاً لفوضى الفكر وعنف التعايش والتخاطب بين هذه التيارات والمناهج.
ومن صور هذا الخلل المنهجي في الفقه والفكر:
- الجهل وتحسين الظن بالعقل مع الغرور بالنفس ، وهذه الأمور مجتمعة سبب كبير في الخروج عن الاعتدال المطلوب إلى الجنوح والإحداث في الدين . يقول الله - عز وجل - : "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" [ص: 26] ، يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: "إن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل ، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق ، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة "..(11)
والناظر في سمات أهل الأهواء يجد قاسماً مشتركاً من الجهل والهوى يجمع بين أطرافهم المتناقضة . ومما يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية…"رواه البخاري (3610).
- ويحدث الخلل في منهج التلقي؛ عندما تقدم آراء البشر على نصوص الشرع، وهذا الأمر وإن كان مردوداً من الناحية النظرية، إلا أن الواقع يشهد بهذا الخلط من تنزيل أقوال الرجال مكان نصوص الشرع . يقول الأمام ابن القيم - رحمه الله - : "اتخاذ أقوال رجل بعينه منزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه؛ بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله "..(12)
-ومن الخلل كذلك؛ ترك تلقي العلم من العلماء ومجالستهم والتتلمذ على الأصاغر أو الأخذمن كتب أهل الأهواء ، فهذا الجهم بن صفوان كان على معبر ترمذ وكان رجلاً كوفي الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم كغيره من أئمة الفرق وأهل الكلام فضل وأضل. .(13)
إن هذه الصور من الخلل في منهج التلقي وغيرها أبرزت مناهج متنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، والمطالع لصحافتنا العربية أو المتابع لبعض المنتديات على الشبكة العنكبوتية يرى صوراً من الغلو والتنطع في الأحكام والتصورات، ويرى التساهل والتفريط في بعضها الآخر ، حتى كتاب الشهرة أو المتعلمنين - الذين غاصوا في مستنقع التشفي بأهل الدين - وقعوا فيما هربوا منه ووصموا به غيرهم؛ من ضيق الأفق والعطن الفكري في نظرتهم للأحداث الماضية .
إن الضرورة الأمنية في المجتمع قد تملي على صنّاعها زيادة الاحتياطات الأمنية عند التوتر، وتفعيل الرقابة على مكامن الخطر والصرامة في الردع والزجر، وكل ذلك قد يجدي لو كانت المعركة في غير ميدان الفكر والتصورات، أما هذا الميدان الشائك والحقل الملغوم بالقناعات والمؤثرات الفكرية، فلا يجدي معه إلا الفكر الصحيح والحجة الدامغة والفقه المعتدل الذي لايجنح نحو الترهيب والغلو المعاكس .حينها ينجلي الحق ويزهق الباطل ، وفي ذلك يقول الله تعالى:"بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" [الأنبياء: 18] والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
*الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1)الأحكام السلطانية للماوردي ص5.(/2)
(2)مقاصد الشريعة ص63.
(3)انظر: المستصفى 3/ 371 تحقيق حمزه حافظ ،مرآة الوصول لمنلا خسرو 1/30 ، البحر المحيط 2/241.
(4)العقيدة الواسطية شرح الفوزان ص93.
(5)الإعتصام 1/222.
(6)انظر: الجهاد والقتال لهيكل 2/946.
(7)القوانين الشرعية ص165.
(8)السيل الجرار 4/529.
(9)ظر: المستصفى 1/297 ، الإبهاج 3/190 ، المحصول 2/579 ، البحر المحيط 6/ 79.
(10)إعلام الموقعين 1/69.
(11)الاعتصام2/493.
(12)إعلام الموقعين 2/236.
(13)انظر : دراسات في الأهواء والفرق للعقل 2/119.(/3)
الوعي المقاصدي.. وأثره في البنية الفكرية
د. مسفر بن علي القحطاني 11/5/1427
07/06/2006
اتجه عدد من المفكرين والنقاّد خلال العقود الثلاثة الماضية نحو نقد العقل المسلم ومحاولة تحليل الخلل الذي نجم عن حالة الوهن العام في أجزاء عدة من الأمة الإسلامية والارتخاء الحضاري في القيام بدورها الاشهادي على العالم, تحقيقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)]سورة البقرة 143[.
فالعقل المسلم الذي سبق أن تفتق عن دورٍِ نهضوي وتغييري واضح في بنية المجتمع العربي ها هو يعود لمشرط النقد والفحص العلمي للعلاّت التي ألمت به من تداخل الوحي الغيبي بالاجتهاد البشري ,والشرعي بالعرفي, والعقلي بالذوقي, وتداخلت أدوات البيان السمعي من القرآن والسنة بالعرفان الصوفي, والبرهان الفلسفي بالغيبي , مما أدى إلى حالة من المراوحة الميدانية كبّلها عن الإنجاز الحقيقي ذلك الجدل العقيم في المقولات الكلامية والآراء الفقهية ,وتعصب ذميم للمذاهب والفرق والجماعات الدينية, واستبداد سياسي تداخلت فيها حظوظ السلطة ومغالبات الفقهاء وتنافسهم على المناصب والقضاء.
هذه الإشكاليات وغيرها ساهمت بذبول العقل الواعي وتضاءلت بالتالي روح الاجتهاد الفقهي ,وأدى هذا الفتور إلى غياب التجديد ودعاته عن الساحة الفكرية والعلمية.
لذلك كان المبرر قوياً لمعاودة النظر في الخلل المؤدي لتلك النتائج السالفة والسالبة على المستوى الفردي والمجتمعي. ولعل الدور الذي قدمه الجابري أو أركون أو شحرور أو حسن حنفي أو جمال البنا وغيرهم من النقاد المعاصرين كان محاولة جادة للبحث عن المنهجية الإصلاحية المثلى لنقد العقل وتحريره من شوائبه المتراكمة من عقود ,لكن الأدوات المعرفية والمنهجية العلمية في النظر والحكم لأولئك الباحثين كانت مستمدة من بيئة علمية أخرى ليست في مستوى القدسية والعصمة كما هي في البيئة العلمية عند المسلمين والمعتمِدة على منهجية الاستدلال القائمة على نصوصٍ شرعيةٍ قاطعةٍ من القرآن أو السنة , أو قواعد أصولية منبثقة عن هذا الوحي قد تختلف دلالاتها وحجيتها ولكن تبقى أقرب للضبط والتحديد، وأقصد بتلك البيئة المختلفة روحاً وشكلاً هي بيئة البحث المعرفي التي تم استيرادها من الخارج بأدواتها النقدية التي جاء بها فلاسفة التنوير لنقد السلطة الدينية وتفكيك الكهنوت النصراني ومحاولة إرجاع العقل لدوره المسلوب. فكما أن بعض الظواهر والنتائج متماثلة بين واقع الدين النصراني في أوروبا أثناء العصور الوسطى وما حصل للمسلمين بعد القرن الخامس الهجري, إلا أن هناك فروقاً واضحة وكبرى تختلف في سببيتها وجوهرها بين الواقع المسلم والواقع النصراني.
إضافة إلى أن تحليل الواقع المنهجي للعقل المسلم اتجه لدى أولئك النقاد من خلال نظرات جزئية للتراث الديني المستمد من الوحي دون الوصول للعمق الحقيقي الذي يمثلّ الأصول والمنطلقات والقواعد التي تبنى عليها تلك المنهجية.
واعتقد أن الجابري في مشروعه الكبير (نقد العقل العربي) قد ساهم بشكل كبير في تحليل ذلك الواقع إلى حد ما . لكن مساهمات الآخرين كانت أقل جهداًَ وأقصر نظراً بل بعضها أكثر تطرفاً عن المنهج الإسلامي فتوصلت بالتالي إلى نتائج فلسفية غير واقعية مازالت خاصة بدوائر بعض المثقفين من التيار العقلاني دون أن تشمل جميع أطياف الفقه والاجتهاد الديني لدى المسلمين.
ومن خلال هذه المقدمة أرى أن مشروع نقد العقل المسلم وبنية التخلف التي أصابته تحتاج إلى مزيد نظر وكشف عن مواضيع الصحة والضعف ومحاولة فهم العلل التي أصابت منهج النظر والاستدلال وتحليل الخطاب الإسلامي ومدى موائمته للمتغيرات الراهنة من حيث كونه تجسيداً لتنزيل النصوص والقيم الدينية في واقع الحياة ومدى قدرتها في المعالجة والتبيين والإصلاح والتغيير.
وعند التأمل في هذا الواقع والنظر في مشاريع العمل لإصلاح هذا الواقع الفكري يُرى أن هناك غياب حقيقي في إعمال دور المقاصد الشرعية في المساهمة في معرفة الخلل أو استشراف الحلول من خلالها. والذي دعاني للبحث في المنهج المقاصدي وتعليق الأمل في دوره في إحياء العقل المسلم عدة أمور أوجزها فيما يلي:(/1)
1- أن مقاصد الشريعة هي الرابط الجامع لكل فروع التشريع في جميع المناحي العبادية والعادية والاجتماعية والقضائية وغيرها, فهي لا تخرج عن كلياتها ومقاصدها الثابتة العائدة إلى الضرورات الخمس من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهذه الكليات العامة والأهداف الرئيسة للتشريع حاكمة للفروع وليست محكومة بها، ويسير الاجتهاد الفقهي في فلكها و لا تخضع لأفلاك المجتهدين أو الفقهاء، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في وجوب موافقة قصد المكلف من عمله قصد الشارع سواءً كان متعلماً أو مجتهداً : (( قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ولا يخالف ما قصد الشارع ))(1) . كذلك هي أمر مشترك لا يمكن أن يُتصّور فرد أو مجتمع يمكنه أن يتخلى عن حفظها ومحاولة ديمومتها في شأنه الخاص والعام، فهي مقصودة ومرادة لكل الناس لا يختلف في ضرورتها أحد، والتشريع الإسلامي تشكلّ في أحكامه وآدابه على حفظها من جهة الوجود ومن جهة العدم. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :(( فلم يعتمد الناس في إثبات مقصد الشارع في هذه القواعد (2) على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة ، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه ، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على حفظ تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة )) (3).
فبما أن للمقاصد هذا الشأن العالي والأهمية الواضحة في الضبط والتحديد كان الرجوع لها في البحث عن الخلل أمر مطلوب عقلاً كما أن اعتبارها في أنشاء الأحكام وبناء التشريعات الحياتية أمر لازم شرعاً وألا كانت الجزئيات خلاف كلياتها والمآلات خلاف الاجتهادات ولأبين لذلك بأمثلة واقعية.
فالذين حمّلوا نظام الحدود والعقوبة في الإسلام أنه هدم للحريات وقسوة على المخطئين لم ينظروا إلى المجتمع كوحدة كاملة وأن استقرار نظامه وصلاح العيش فيه لا يمكن إلا من خلال عقوبات رادعه وزواجر ناهية تحفظ للناس جميعاً حقوقهم وحرياتهم. مع أن آيات الحدود والعقوبات لا تمثل من مجمل أحكام الشريعة إلا العشر وألا فبناء الإنسان وإصلاح باطنه يحتل المساحة الأكبر من التوجيهات الشرعية.
وكذلك من أباح الربا كضرورة اقتصادية معاصرة لم ينظر إلى آثاره الأخلاقية والاجتماعية وهي من الكليات التي تتناغم في حفظ الفرد والمجتمع دون رعاية جزء منه وإهمال باقيه.
2- أن اعتبار المقاصد الشرعية كقضايا كلية تضبط الفهم وترسخ الأهداف الحقيقة من الوجود الإنساني ,والكيفية التي بها يعيش ويتعامل مع غيره ومع ظروف الحياة ونواميس الكون؛ تؤكد أن اعتبارها كفيل بحفظ بنية العقل من الشطط أو الوهم، وكفيل أيضاً بتنظيم العقل وترتيب أولويته في الذهن , لذلك قام الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله وقد عَلِم بهذا الدور الكبير الذي تؤسسه وتعمقه المقاصد في بنية العقل إلى محاولة ضبط المقاصد حتى لا يختلط المقصد بالوسيلة ولا الكلية بالجزئية.فجعل رحمه الله للمقصد المعتبر أربعة شروط لابد من توافرها وهي:
أ . الظهور: بمعنى أن يكون المقصد واضحاً لا تختلف أنظار المجتهدين في الاتجاه إليه وتشخيصه بعيداً عن كل التباس أو مشابهة، وذلك مثل اتفاقهم على تشريع القصاص لحفظ النفوس.
ب . الثبوت: بمعنى ان تكون تلك المعاني مجزوماً بتحققها أو مظنوناً بوجودها ظناً قريباً من الجزم.
ج.الانضباط: أي أن يكون للمقصد الشرعي حدّ معتبر وقدر معين لا يتجاوزه، فلايؤدي إلى وقوع الحرج المرفوع شرعاً ونفور البشر من التشريع ولا تقصير عنه فيؤدي إلى ضعف الوازع الديني في النفوس وفقدان الشريعة لهيبتها وسلطانها على الخلق.
د.الاطراد: بمعنى أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأفكار والقبائل والإعصار(4).
فهذه الشروط والضوابط المحددة للمقصد المعتبر هي لاشك ضوابط محددة للتفكير الموضوعي والاستدلال الصحيح والفهم الشامل الذي يحتاجه العقل الواعي في دوره الحضاري المنشود.
3- أن الفطرة السليمة -وهي مشترك إنساني – نزّاعة لتلمسّ القوى الكبرى في الكون؛ لتدين لها بالخضوع , والطاعة أمراً ونهياً دون أن يكون مبتغاها من وراء ذلك تلمس منفعة مادية معينة أو غير معينة، وبهذا تعتبر الرواق الذي يتحرك من خلاله قانون الاستجابة بين السماء والأرض(5).(/2)
لذلك ذهب الإمام ابن عاشور رحمة الله إلى أن الفطرة هي القاعدة التي شُيدَّ عليها صرح المقاصد الشرعية ,ويجب أن تكون الأساس الذي ينطلق منه المكلفون حتى تكون مقاصدهم من وراء تصرفاتهم موافقة لمقصد الشارع يقول رحمه الله: "نحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها، ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعدّ في الشرع محذوراً وممنوعاً، وما أفضى إلى حفظ كيانها يعدّ واجباً، وما كان دون ذلك في أمرين فهو منهي أو مطلوب في الحملة، وما لا يمسها مباح، ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل يصُار إلى ترجيح أولاها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب.."(6)
فمن هنا نستطيع القول أن الفطرة هي الموجهّ للإنسان تفكيراً وتصرفاً وأخلاقاً وهي السمة الرئيسية للدين ووصفه العظيم:"فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين العظيم" ]سورة الروم30 [.
فمقاصد الشريعة متسقة مع الفطرة السليمة غير مخالفة لها وليس هذا الاتساق في النوازع والمنافع المادية فقط؛ بل له آثارهُ على الفكر والحريات المتعلقة بحياة الإنسان. وهذا الجانب المهم والمتعلق بضبط السلوك الباطني بالفكر والعقل الواعي لم يعط حقه من التنظير والتأصيل مع أن له أثاره في حياة الإنسان سواء كانت ايجابية بإعماله والانسياق في موارده, أو سلبية في إنكاره ومخالفة منزعه الفطري المكوِّن لحقيقة الفرد الإنساني، ولعل الدور المقاصدي أن يُعيد الاهتمام بهذا الجانب العرفاني ويضبطه من الانحراف أو التعدي في تقديره واعتباره.
4- المتأمل في مصنفّات مقاصد الشريعة يرى أن هناك دور إصلاحي قام به أولئك المصنّفون لما تحملّوا هذا الجانب من التأليف والعودة إلى كليات الشريعة بتجديد الصلة بها وإحياء دورها المتجدد في النظر والوقائع المختلفة , وشواهد أحوال أولئك المجددين تثبت أن المقاصد الشرعية هي الحامل على التغيير نحو الأفضل والتصحيح نحو الأولى والأهم والإمام الشاطبي –رحمه الله- في مصنفه العظيم الموافقات يعتبر من رواد الإصلاح الفكري في دوره في رد الخلاف الفقهي إلى مقاصد الشريعة الكلية وترتيب الذهنية الفقهية وتنقية علوم الاستدلال من شوائب الإغال الفلسفي والكلامي. كما أن دور الإمام الطاهر بن عاشور وعلاّل الفاسي لا يختلف عن سابقهما , فقد جعلوا من مقاصد الشريعة محور التجديد الذي دعوا إليه وكذلك منهاجهم الإصلاحي الذي بشّروا به سواء كان على مستوى التشريعات النظامية أو المحافظة على دور الفقه في علاج مستجدات الحياة.
لذلك أرى أن المنحى الدلالي للمقاصد فيه روح التجديد والتصحيح للمسار المنحرف للفقه أو الفهم للعلوم الشرعية ,فلا ينبغي أن نهمله عند النظر في إعادة ترتيب بنية العقل المسلم أو البحث عن مكامن الخلل التي أدت ضعف الدور المناط به في الإصلاح والتغيير.
5- الواقع الذي تمر به الأمة الإسلامية والمتمثل بصور التفرق والضعف والجهل المتراكم في روعها المعاصر ؛ يحتاج إلى عودة عاجلة إلى الكليات والمقاصد العامة , لأن عصور الضعف والانحطاط أغرقت أفرادها في الهوامش البعيدة عن مكامن البناء والإنتاج ؛ لذلك يأتي دور المقاصد في تجسيد العودة إلى الأصل وترك الهوامش التي أثقلتنا في تعقيداتها المثالية. كذلك تنحو المجتمعات الضعيفة إلى الكماليات والإسراف في استعمالها والإشباع في تعاطيها ونشرها , بينما الردّ إلى مقاصد الشريعة يعيد الاعتبار إلى فقه الأولويات ويثبت في الذهن ميزان المنافع أو المضار بدأً بحفظ الضروريات التي لا يقوم مجتمع إلا بها في كل شؤونه الحياتية والفكرية ثم الحاجيات ثم التحسينيات, والإخلال في هذا إخلال في بنية المجتمع والأفراد.
كما أن عصور الضمور الفكري تهنمك في بحث الجزئيات الهامشية وتشقيق الفروعيات الغير واقعية ,مما يعمّق جهل الناس بها ويوسع الهوة بينهم وبين المعارف الأصيلة ؛ وبالتالي تتشكل في المجتمع طبقة وحيدة ومحصورة تمتلك حق العلم والفهم والتفسير , وهذا هو منحى الكثير من الفلاسفة الأقدمين والمعاصرين في تعقيد العلوم وحصرها في افهامهم الخاصة ووضع الجسور التي لا تسمح لغيرهم أن يجتازها , ولعل مقاصد الشريعة تعيد للشريحة الأوسع في المجتمع أن تعلم الكليات الظاهرة الواضحة وتكشف إغراق المتفلسفة في مسارات أبعد ما تكون عن هموم المجتمع وقضاياه الرئيسية، بل أرى أن الحديث عن المقاصد قد يساهم في بناء الوحدة الفكرية التي هي أساس الوحدة المجتمعية ويخفف من الصراعات المذهبية والمجادلات الخلافية كونها تأتي بالعودة إلى المفاهيم المشتركة والقضايا العامة التي تحمل في طياتها مشاريع لا تنقضي من العمل والبناء والإصلاح.(/3)
6- وأختم في ذكر مبررات العودة إلى مقاصد الشريعة في كشف الخلل الفكري في بنية العقل المسلم؛ بالتأكيد على دور الوعي المقاصدي في حفظ العقل من الشطط أو الانحراف بتأسيس قواعد الكشف عن الموهوم والمظنون والمردود والمرجوح. وهذه القواعد هي في بنيتها معايير عقلية راجعية إلى مقاصد الشرع وكلياته.
يقول العز بن عبدالسلام –رحمة الله- من أن تصرفات الناس العامة لا تخلو في كونها من قبيل المصالح أو المفاسد ولضبط هذه الأفعال قال -رحمه الله-: "الأفعال ضربان: أحدهما المصالح وهي أقسام:
(احدهما) ما هو مصلحة خالصة من المفاسد السابقة واللاحقة والمقترنة و لا يكون إلا مأذوناً فيها إما إيجابا أو ندباً أو إباحة (القسم الثاني) ما هو مصلحة على مفسدة أو مفاسد وهي ما دونه.(القسم الثالث) ما هو مصلحة مساوية لمفسدته أو مفاسده. ( القسم الرابع) ما هو مصلحة مساوية لمصلحة أو مصالح فإن أمكننا الجمع جمعنا وإن تعذر الجمع تخيرنا، ومهما تمحصت المصالح قدمنا الأفضل فالأفضل، والأحسن فالأحسن ولا نبالي بفوات المرجوح.
الضرب الثاني : المفاسد وهي أقسام:
(أحدها) ما هو مفسدة خالصة لا يتعلق بها مصلحة سابقة ولا لاحقة ولا مقترنة، فلا تكون إلا منهياً عنها، إما حظراً، وإما كراهة. (القسم الثاني) ما هو مفسدة راجحة على مصلحة أو مصالح وهي منهية. (القسم الثالث) ما هو مفسدة مساوية لمصلحة أو مصالح، فإن أمكن درء المفسدة وجلب المصلحة أو المصالح قلنا بذلك وتركنا المفسدة وأثبتنا المصلحة أو المصالح. وإن تعذر الجلب والدرء ففيه نظر. ( القسم الرابع) ما هو مفسدة مساوية لمفسدة أو مفاسد فإن أمكن درء الجميع درأناه وإن تعذر تخيرنا ومهما تمحصّت المفاسد درأنا الأرذل فالأرذل والأقبح فالأقبح" (7).
ونظراً لصعوبة الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة سطر لنا كذلك علماء القواعد والفقه قواعد فقهية تساعد على الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارض، يحفظها الفقيه ليفتي بها ويحفظها غيره ليتزن على وفقها، ومن أمثال هذه القواعد:
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح – تفوت أدنى المصلحتين لحفظ أعلاهما – المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف- الضرر لا يزال بمثله- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام- الضرورات تبيح المحظورات- الضرورات تقدر بقدرها- إذ تعارضت مصلحتان أمام الفرد، فعليها أن يقدم المصلحة المتعلقة بأمر ضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني وإذا تعارضت مصلحتان في نفس الرتبة تقدم مصلحة حفظ الدين على حفظ النفس والنفس على العقل والعقل على النسل والنسل على المال. وإذا تعارضت مصلحتان في نفس المرتبة وتتعلق بنفس الأمر تقدم المصلحة العامة التي تتعلق المجموع على المصلحة الخاصة – المتعدي أفضل من القاصر والفرض أفضل من النفل_ لاعبرة بالظن البين خطؤه – ويغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد. إلى غير ذلك من القواعد المنظّمة للعقل والمؤسسّة لمنهج التفكير الموضوعي القائد نحو مدارج الرقي المعرفي والمنتج للعمران الحضاري .
________________________________________
(1) الموافقات 3 / 23 و 24 .
(2) المقصود بالقواعد هنا : الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، انظر : حاشية الموافقات 2 / 79 .
(3) الموافقات 2 / 82 .
(4)41) انظر : مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور ص 50-52.
(5) انظر: المقاصد العامة للشريعة لعز الدين بن زغيبه ص 78.
(6) مقاصد الشريعة لابن عاشور ص 59، 60.
(7) قواعد الاحكام في مصالح الانام ص 56 .(/4)
الوقاية من الزنا
أسعد احمد*
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي رسوله الأمين وبعد: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. اللهم استر عوراتنا وآمن روعتنا. اللهم احفظ أولادنا وبناتنا من الزنا والفواحش ووفقنا لما تحب وترضى آمين، أما بعد:
في هذا العصر وبعد دخول شبكة الإنترنت العالمية في كثير من بلاد المسلمين ودخول تلفاز الغرب عن طريق القنوات الفضائية وانتشار كثير من المجلات الغربية في ديارنا الإسلامية وهجرة كثير من شباب المسلمين إلى بلاد الغرب، أصبح لهذا الهجوم الثقافي أثر واضح في أخلاق الشباب، من انتشار الزنا والفواحش، والتساهل في أمر الحجاب وشيوع الاختلاط بين الرجال والنساء والاستجابة لدعوات التحرر وترك الحياء والعفة والطهر.
وهكذا أصبح الدعاة أمام مسؤولية كبرى لابد من التعامل معها، وحشد الهمم والطاقات وتوعية العامة بهذا الخطر الواقع على الأمة للتصدي لهذه الثقافة الدخيلة. وفي هذا الإطار أحببت مشاركة غيري بكتابة هذا البحث الوجيز الذي حرصت فيه على بيان خطورة جريمة الزنا على المجتمع والتدابير التي جاء بها الإسلام لمحاربة هذه الجريمة.
لقد جمعت كل ما أستطيع الحصول عليه من آيات وأحاديث وآثار تخص هذه المسألة، وفرقتها على حسب الفصول والمباحث، وحاولت الاختصار من غير إخلال بالمعنى، حتى يسهل طبعها ويكثر تداولها بين الناس، لكي تعم الفائدة وينتشر الفكر الصحيح ويندحر الفكر السقيم وتسلم الأمة والمجتمع من آفات الزنا وأضراره.
وقمت بتقسيم الرسالة إلى ثلاثة فصول هي على التوالي: الإيمان ثم الأعمال الصالحة ثم الزواج و ذكرت أهم المباحث في تلك الفصول. وأرجو من خلالها أن أوفق إلى إقناع الآباء وأئمة المسلمين وعامتهم بخطورة جريمة الزنا، وأهمية اتخاذ التدابير الواقية من الوقوع فيها، وضرورة تشجيع الشباب على الزواج وتسهيله لهم.
ويطيب لي أن أشكر شكراً وافياً كلاً من الدكتور يوسف الشبيلى، الدكتور محمد وقيع الله، الدكتور صالح الصنيع، والشيخ عبد المنعم الآمين على تكرمهم بقراءة هذا الكتاب، رغم تعدد أعمالهم العلمية والتزاماتهم الاجتماعية وتقديمهم يد العون والمساعدة والنصح، ولكن ذلك ليس غريباً عليهم لعلو همتهم ونبل فضلهم وحرصهم على الأجر، فجزاهم الله كل خير وحفظ نسلهم من الزنا والفواحش إلى يوم القيامة، آمين.
أسال الله الكريم أن ينفع بهذا الكتاب كل من قرأه أو طالعه وأعتذر عما قد يحوي من الأخطاء:
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
التمهيد
إن الإسلام هو دين الطهر والعفة والنقاء، فقد جاء لينظم الغريزة البشرية ويهذبها ويجريها في مجراها الطبيعي. وإن الإنسان من غير هذا النظام إنما يعيش كالبهيمة وقد قال الله تعالى في شأن هؤلاء (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(1). وقد بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيم حياة الإنسان عامة بكل صورها وعلاقة بني آدم بعضهم مع بعض خاصة تنظيماً يتناسب مع الفطرة الخيرة التي فطرهم عليها، وقد قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون) (2).
يقول ابن القيم رحمه الله "أصول المعاصي كلها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله وطاعة القوة الغضبية وطاعة القوة الشهوانية. فغاية التعلق بغير الله الشرك وان يدعوا مع الله إلها آخر وغاية طاعة القوة الغضبية القتل وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا" وفي ذلك قال الله تعالى:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (3).
إن من آثار الزنا اختلاط الأنساب وضياع حقوق الأبناء من وجود أبوين يوفران لهم الحماية والرعاية، وضياع حقوق المرأة نفسها، فهذا الذئب البشري عندما يقضي حاجته منها في أغلب الأحيان لا يعبأ بها، وإذا حملت قد لا يساعدها في نفقات الحمل ولا ينفق على الجنين بل يتبرأ منها ومما في بطنها وفي معظم الأحوال تتحمل هي العار وحدها.
وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال الفم والفرج"(4).(/1)
وقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر عند الله قال: ((أن تدعو لله ندا وهو خلقك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك)) (5).
مما تقدم ذكره يتبين لنا خطورة الوقوع في الزنا، ولذلك حارب الإسلام هذه الجريمة وقفل كل الطرق المؤدية إلى الوقوع فيها كالخلوة بالأجنبية وفي ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم فقام رجل فقال يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة قال اذهب فحج مع امرأتك)) (6).
ومنع الخلوة بالأجنبية خطوة واحدة من خطوات اتخذها الشرع لمحاربة هذه الجريمة التي سوف نستعرضها في الصفحات القادمة إن شاء الله وبه نستعين ونسأله التوفيق.
الفصل الأول
الإيمان وأثره في الوقاية من الزنا
يعرف الإيمان على أنه تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان. هذا هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة، ولذلك في كثير من الآيات ربط الله سبحانه وتعالى الأيمان بالعمل الصالح.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (7).
قال القرطبي:" وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل : 1- زادهم علما. 2- أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا سَمِعُوا وَعَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا. 3- زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم.4- شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان."
يقول الإمام البخاري: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الأيمان قول وعمل يزيد وينقص"(8) ولذلك عندما يبعد الإنسان عن الأعمال الصالحة من الصلاة وقراءة القران وبر الوالدين وصلة الرحم يسقط في هاوية المنكرات والآثام.
ولاشك أن الأيمان القوي بالله تعالى من أقوى أسباب الوقاية من الزنا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (9) وعندما دعت امرأة العزيز نبي الله يوسف عليه السلام للزنا حجبه إيمانه من الوقوع في الفاحشة. قال الله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ(10).
وكثير من المجتمعات غير المسلمة وبعض المجتمعات المسلمة الزائغة اعتمدت على مواجهة الشهوات والأخطاء بمبادئ وأخلاق المجتمع نفسه النابعة من عرفه وتقاليده، ولكن ما لبث أن تكسرت هذه المبادئ أمام الفتن والأهواء وفشلت هذه المجتمعات في تعليم أبنائها المبادئ الصحيحة. لابد لهؤلاء أن يعلموا أن الإيمان القوى بالله تعالى واتباع منهجه هو وحده الذي يصمد أمام كل الشهوات الجارفة، ولذلك في تلك المجتمعات كانت النتيجة واضحة في زيغهم ووقوعهم في فتنة الزنا والفواحش، وهذا دليل على أنه سبحانه وحده القادر على وضع نظام كامل شامل ابدي وكل من يحاول تكسير قوانينه ونظمه سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم لابد له من الفشل قال الله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (11).
إذا خاف العبد من الفتن والزنا وأراد أن يتقي منها فعليه بالإيمان بما عند الله سبحانه وتعالى من الجزاء والثواب ومراقبته له في السر والعلانية وقدرته عليه ثم يتبع ذلك بالعمل الصالح فانه يزيد من إيمانه ويفتح له أبواب الهداية. والأيمان ينقسم إلى عمل القلب والجوارح، أعمال الجوارح هي الصلاة والصوم والزكاة والحج وغض البصر وغيرها، وعند التحدث عن أعمال القلب نجد أن ثمرة تقوية الأيمان تتضح في الخوف من الله والحياء منه، وعلى الرجاء والرغبة في ثواب المتعفف وفي الصبر والزهد.
الخوف من الله والحياء منه:
قال العلماء يجب على العبد أن يكون بين الخوف والرجاء، الخوف من عقاب الله والرجاء لما عنده من الثواب، وهما كجناحي الطائر والحب رأسه.
قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (12).
وقال الله تعالى:
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (13).
ولذلك فيجب على المسلم أن يتقي الله ويستحضر مراقبه الله له، وأن الله يعرف سره وعلانيته، فهو الخالق المسيطر على الكون القادر على أخذ عباده وعذابهم ولكن الله يترك لهم مجالاً للتوبة والإنابة لكي يرجعوا ويتوبوا.
قال الله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون) (14).
وقال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) (15) أي ما يتكلم بكلمة وإلا ولها من يرقبها.(/2)
وقد أخرج الإمام البخاري من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم(16).
إن الخوف من الله والحياء منه وعلمنا بمراقبته وقدرته علينا، يعطينا قوة ومناعة من الوقوع في الزنا، لأن جريمة الزنا تتم في معظم الأحيان في الخفاء، حيث يقول الزناة نذهب إلى حيث لا يرانا أحد ونسوا أن الله يراهم ومحاسبهم علي فعلتهم الدنيئة التي فيها مضار على المجتمع بأكمله وليس عليهم وحدهم، فهذا شاب قد لوث شرف أسرة مسلمة قد تكون هي شريفة في نفسها ولكن ابتليت هذه الأسرة ببنت لا تخاف من الله ولا تستحي منه. وبعض الزناة يزينون لغيرهم هذه الفعلة ولا يدرون انهم سوف يأتون يوم القيامة وعليهم آثام جميع من دعوهم إلى الفاحشة، فيجب عليهم أن يتقوا الله ويخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
وفي التحذير من سوق الناس إلى الفواحش قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)) (17).
والحياء ستر واقٍ من الزنا والفواحش، فالعبد المؤمن عندما يهم بمعصية يستحي من الله فهو أقرب إليه من حبل الوريد، والذين يقعون في المعاصي ويتفاخرون ويتنافسون بها ما هو إلا دليل على أن ثوب الحياء نزع منهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) (18). وقال أيضاً: (( الحياء خير كله أو قال الحياء كله خير)) (19).
ويورث الزنا حزناً في القلب لأنه ممارسة تضاد الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها. ومن تلبيس إبليس أن كثير من الناس يظنون إن الملتزمين بهذا الدين يعيشون حياة كآبة لا فرح فيها ولا مرح و كل الفرح والمرح في معصية الله، ولا يعرف هؤلاء الجهلاء كم يعيش العصاة في حزن وشقاوة وتأنيب ضمير، هذا بالإضافة للسمعة والذكر السيئ بين الناس. وقد أخرج الإمام أحمد عن يزيد بن هارون حدثنا جرير حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه مه فقال : ((ادنه )) فدنا منه قريبا فقال: ((اجلس )) فجلس فقال: ((أتحبه لأمك )) ؟ قال لا والله، جعلني الله فداك قال:((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) قال: ((أفتحبه لابنتك )) ؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال((ولا الناس يحبونه لبناتهم)) قال: ((أفتحبه لأختك )) ؟ قال لا والله، جعلني الله فداك قال:((ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال :((أفتحبه لعمتك )) ؟ قال لا والله، جعلني الله فداك قال:((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) قال: ((أفتحبه لخالتك )) ؟ قال لا والله، جعلني الله فداك قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) قال فوضع يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه )) قال فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(20).
قال الشاعر:
فتاة اليوم ضيعت الصوابا****وألقت عن مفاتنها الحجابا
فلم تخشى حياءً من رقيب****ولم تخشى من الله الحسابا
إذا سارت بدت ساق وردف***وإذا جلست ترى العجب العجابا
بربك هل سألت العقل يوماً***أهذا طبع من رام الصوابا
شباب اليوم يا أختي ذئاب***وطبع الحمل أن يخشى الذئابا
إن الخوف من الله ينتج من الأيمان بعقوبة الله الواقعة على الزناة في الدنيا والآخرة، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة عقاب الزناة ما ينبعث منه الخوف من الله وعقابه.(/3)
وقد ابلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بأحوال الزناة في البرزخ عندما رآهم في المنام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا قال فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال: "ذات غداة إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال قلت لهما سبحان الله ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه قال وربما قال أبو رجاء فيشق قال ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى قال قلت سبحان الله ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور قال فأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات قال فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا قال قلت لهما ما هؤلاء قال قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا قال قلت لهما ما هذان قال قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلا مرآة وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها قال قلت لهما ما هذا قال قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال قلت لهما ما هذا ما هؤلاء قال قالا لي انطلق انطلق قال فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن قال قالا لي ارق فيها قال فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبنة ذهب ولبنة فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قال قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قال فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قال قالا لي هذاك منزلك قال قلت لهما بارك الله فيكما ذراني فأدخله قالا أما الآن فلا وأنت داخله قال قلت لهما فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قال قالا لي أما إنا سنخبرك أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة قال فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسنا وشطراً قبيحا فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم"(21).
• ومن شؤم الزنا أن العبد لا يوفق للزوجة الصالحة
قال الله تعالى:
(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (22)
• ومن شؤم الزنا أن العبد يحصل له في أهله ما فعل في الآخرين
قال الشافعي:
عفوا تعف نساءكم في المحرم وتجنبوا مالا يليق بمسلم
إن الزنا دين فان أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يا هاتكاً حُرَمَ الرجال وقاطعا سبل المودة عشت غير مُكرّم
لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هتّاكاً لحرمة مسلم
من يَزنِِ يُزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم(/4)
• ومن شؤم الزنا والمعاصي أن صاحبها يشعر بالحزن وضيق الصدر وعدم الطمأنينة والبعد عن الله
قال الله تعالى:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (23)
قال ابن كثير:
"ومن أعرض عن ذكري أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فإن له معيشة ضنكا أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة".
الرجاء والرغبة في ثواب المتعفف
للعبد رزق مقدر في هذه الحياة، وهذا الرزق لا يستطيع العبد زيادته أو نقصانه مهما فعل أو ذهب إلى الحرام. بل الذي حصل عليه العبد من الحرام لو صبر لحصل عليه بالحلال لأنه مقدر له أصلا وهو في رحم أمه.
وقد أخرج الامام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)) (24)
ومن هذا نعرف أن العبد الذي يقع في السيئات ظالم لنفسه، وليس هذا فحسب بل وقوعه في السيئات يحرمه من كثير من عطايا الله، ولذلك ينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله، ومن ذلك حرمانه لذة الركوع والسجود وقراءة القران وتدبر آياته وكثرة الذكر والاستغفار والبكاء من خشية الله وبر الوالدين والسعادة الزوجية وأكل الحلال وحسن الخاتمة. فالملتزم الحق هو الذي يستمتع بالدنيا حقيقة مع الثواب المنتظر من الله سبحانه وتعالي في الآخرة.
إذا عرف الشاب هذه الحقيقة أستقر في نفسه حب الثواب والرغبة فيه من عند الله والزهد عن المعاصي التي لن تعطيه أكثر من الذي سوف يحصل عليه بالحلال.
• سوف نستعرض بعض النصوص الشرعية التي تتحدث عن ثواب المتعفف من الزنا:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) (25)
وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال أنى أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"(26)
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله رجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفيه الشمس تقرب إلى بعد ميل ويغطي العرق العصاة إلى أكتافهم.
الصبر
الصبر: هو حبس النفس عن المكروه وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج. ولاشك أن من أعطاه الله الصبر فقد أخذ مفاتيح الفرج وسوف ينجو إن شاء الله من الزنا وكثير من الآثام.
قال علي ابن أبى طال برضي الله عنه :
"الصبر من الأيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فقد الصبر فقد معه الأيمان".
الصبر ثلاثة أنواع:
1- صبر علي فعل الطاعات
2- صبر علي ترك المحارم والمآثم.
3- صبر علي المصائب والنوائب.
صبر علي فعل الطاعات:
وهذا يشمل جميع أنواع العبادة من صوم وصلاة وزكاة وقراءةٍ للقران ونحوها.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(( الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها)) (27) فمعتقها أي معتقها من النار وموبقها أي مهلكها.
صبر علي ترك المحارم والماثم:
وهذا يحتوي علي مكابدة النفس وضبطها وحفظها من المحارم والوقوع فيها.
قال الله تعالى:
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (28)
و يقصد بالاستعفاف إخماد الغريزة الجنسية و التسامي بالإحساسات الشهوية و تهذيب الميول الجسدية.(/5)
وقد يبتليك الله سبحانه وتعالى بنقص من الأموال فلا تستطيع الزواج وتعف نفسك فيطلب الله سبحانه وتعالي منك الصبر حتى يغنيك من فضله. وقد أخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عنه أنه قال: " إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال: (( ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)) (29)
ومن المؤسف أن ترى بعض شيوخ المسلمين لا يزالون يلهثون وراء شهواتهم ولا يصبرون على ترك الفواحش والزنا بعد طول عمر وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم، شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر)) (30)، فقال القاضي عياض رحمه الله :
سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده ; وإن كان لا يعذر أحد بذنب لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة، ولا دواعي معتادة، أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى.
صبر علي المصائب والنوائب:
وهذا يحتوي علي تحمل المصائب والأذى
قال الله تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (31)
وقال صلى الله عليه وسلم:
(( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) (32)
الزهد:
الزهد هو كف البصر عمّا عند الناس، والرضا بالقليل، وإهلاك المال في أوجه الخير، والاستعداد ليوم الرحيل. وليس هو لبس الثياب الممزقة وتجنب الحياة والآخرين، وقد يكون المسلم غنياً وزاهداً إذا كان لا ينظر إلى ما عند الناس، ويقنع ويرضي بما قسمه الله له ويستعمل ما عنده في سبيل الله. ولو أقتنع المسلم بما قسم الله له ورضي به ولم يرغب بما عند الآخرين، لتيسرت له كثير من الأمور ونجا من كثير من الآثام، وسلم صدره من كثير من الأحقاد والحسد والظلم وغير ذلك من أمراض القلوب. وقد أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه)) (33)
وعندما يعلم المسلم ما أعد الله له من حور عين، وجنات عرضها السموات والأرض تزهد نفسه في هذه الدنيا ويرغب فيما عند الله ويؤثرها على ملاذ هذه الحياة القصيرة الفانية. وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا تباغض بينهم ولا تحاسد لكل امرئ زوجتان من الحور العين يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم. (34) وقد أخرج الترمذي من حديث المقداد بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه)) (35)
ويقول أهل العلم إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم والطبع بالتطبع، والزهد خلق نبيل لا يوجد في كثير من المسلمين، ولكن لا باس أن يحاول العبد التخلق بهذا الخلق ويستعين بالله. وعندما تقع أعيننا علي شئ جميل ليس لنا يجب أن نحمد الله علي ما رزقنا ونعف ونعلو بأنفسنا ونستغني عنه.
يقول الشافعي:" ليس الغنى بالشيء إنما الغنى عن الشيء".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب. (36)
فإذا تحلى المسلم بهذا الخلق لن يسرق لأنه غني عن ما ليس له وأيضا لن يزني لأنه غني عن امرأة ليست له وهكذا.
قال الشاعر:
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فان أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
الفصل الثاني
الأعمال الصالحة وأثرها في الوقاية من الزنا
كل بني آدم مسؤول عن عمره الذي يقضيه في هذه الدنيا. والناس فريقان فريق يقضي وقته في هذه الحياة الدنيا في عبادة الله ونشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآخر يقضيه في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وعبادة الشهوات والأوثان والشيطان.
قال الله تعالى:
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون)َ(37)(/6)
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (38)
والوقت من النعم التي يحاسب عليها العبد يوم القيامة. ولذلك يجب الحرص على اغتنامه في فعل الخير ونصرته، وهو شاهد لك أو عليك يوم القيامة، وكم من ميت في قبره يتمني لو أعيد إلى هذه الحياة الدنيا لكي يعمل صالحا ويغتنم الوقت.
وقد أخرج الترمذي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وماذا عمل فيما علم)) (39)
وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) (40)
وأبواب الأعمال الصالحة كثيرة وكلما يشغل الإنسان نفسه بالخير يبعد عن الحرام وفعله، وإذا لم تشغل نفسك بالطاعات والعبادة جاءتك نفسك تجرك من كل باب إلى الشهوات والى الحرام. ولذلك يقول العلماء أشغل نفسك بالطاعات قبل أن تشغلك بالمعاصي. إذا كان العبد مبتلى بالزنا ولا يدري كيف يتخلص منه أو يخاف أن يقع فيه بوجود الفتن المحيطة به من كل مكان فعليه بفعل الطاعات من صوم الاثنين والخميس والصلاة في الجماعات والذهاب إلى حلقات القران وغيره من الأعمال الصالحة التي سوف نستعرض بعض منها في الصفحات القادمة إن شاء الله.
قال الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
الصلاة
لقد ابتعد كثير من الناس عن الدين ونهجه القويم، ومن ثم فقد ثقلت عليهم الصلاة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلميقول: ((أرحنا بها يا بلال))، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر صلى صلاة تريحه من الهم والغم، فالصلاة صلة روحية عميقة بين العبد وربه، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالي بالمحافظة عليها قال الله تعالى:
(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (41)
وقال الله تعالى:
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور) (42)
وقال الضحاك عن ذلك : هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك.
فإذا كنا نريد التمكين في الأرض ونرفع غضب الله عنا، فلابد من الأخذ بأسباب التمكين وتحقيق شرط الله فينا وأوله إقامة الصلاة.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل ؟ قال : " الصلاة في وقتها " قلت ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قلت ثم أي ؟ قال " بر الوالدين ".(43)
والذي يقيم الصلاة ويحافظ عليها تحفظه صلاته من جريمة الزنا.
والوقوع في المعاصي لا يعني أن العبد غير مستعد للصلاة وأنه لا يصلي حتى يتوب كما يزين الشيطان للبعض، بل الصلاة تساعده في البعد عن المنكر وتحميه من بعض الآثام إذ الكمال لله وحده.
قال الله تعالى:
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون) (44)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا.)) (45)
ولقد حذر الله سبحانه وتعالي ورسوله من التهاون واللعب بالصلاة قال الله تعالى:
(فَوَيْل لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتهمْ سَاهُونَ) (46)
" للمصلين " الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ثم هم عنها ساهون إما عن فعلها بالكلية وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية.
والصلاة صلة بين العبد وربه، فالذي لا يصلي صلته بالله قليلة أو منقطعة ولذلك يكون لقمة سهلة للشيطان. وبعد ذلك يجره الشيطان إلى ساحات الفتن والأهواء الواسعة ومنها الزنا، فيكون عبداً لهواه.
قال الله تعالى:
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون. (47)(/7)
قال ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى ولو شئنا لرفعناه بها " أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها " ولكنه أخلد إلى الأرض " أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من أولي البصائر والنهى."
وقال الله تعالى:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. (48)
قال ابن كثير:
" أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه"
الصوم
إن المرء قد يعجز ماديا عن مؤونة النكاح ولا يستطيع تحصيلها، وهذا هو واقع الحال لدي الكثيرين. ولما كان المرء عرضة للوقوع في الفتنة والحالة هذه، فقد شرع الله له الصيام ليسيطر علي غرائزه، ويكبح جماح شهواته، ويقوى على مقاومة وساوس الشيطان(49).
وللصوم ثلاثة مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. فامّا صوم العموم فهو: كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المبعدة عن الله تعالي، وكفه عما سوى الله تعالي بالكلية. (50)
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (51)
يقول تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها)) (52)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)). (53)
فالصيام يساعد علي كسر الشهوة بتقليل الطاقات الزائدة عن الجسم.
فطاقة زائدة + وقت فراغ = فتنة وقد تؤدي إلى اتباع الشهوات التي أعلاها الزنا. العلاج هو صيام+ انشغال بالأعمال الصالحة = هروب من الفتن والزنا.
ولذلك يقول العلماء أشغل نفسك بفعل الطاعات قبل أن تشغلك بالمعاصي.
التوبة
التوبة هي الإقلاع عن الذنب في الحاضر والندم على ما سلف في الماضي والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل ثم إن كان الحق لآدمي علي المرء أن يرده بطريقه.
والتوبة من صغار الذنوب كالنظرة المحرمة تمنع من الوقوع في كبائر الذنوب كالزنا، يقول ابن القيم " الخطرة تنقلب وسوسة، والوسوسة تصير إرادة، فالإرادة تقوي فتصير عزيمة، ثم تصير فعلا، ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة. وحينئذ يتعذر الخروج منها".(54)، وأن أول إدمان المعصية قد كان خاطرة وكبائر الذنوب كانت بداياتها ذنوباً صغاراً استهان العبد بها ولم يتب منها فجرته في مهاوي الذنوب الكبار. وليست فوائد التوبة محصورة علي محاربة جريمة الزنا فحسب بل لها فوائد كثيرة نعدد منها ما يلي:
• من فوائد التوبة محو السيئات
قال الله تعالى:
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (55)
• من فوائد التوبة تبديل السيئات إلى حسنات
قال الله تعالى:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (56)
• ومن فوائد التوبة أنها تدخل الجنة
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قدير) (57)
قال ابن عباس: " المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه"
• ومن فوائد التوبة أنها تستجلب المطر
قال الله تعالى:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (58)
• ومن ثمرات التوبة أنها تستجلب الرزق والبنين والبركة في الأرض والزرع
قال الله تعالى:
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (59)(/8)
ويجب أن لا يغتر العبد بنفسه وذلك عندما يفعل المعاصي ويعتاد عليها ويظن أن الوقت أمامه طويل للتوبة فهذا من وساوس الشيطان. فأن الأعمار بيد الله ولا يدري العبد متي يأتيه الموت وهو غارق في الشهوات بعيدا عن النهج القويم والطريق المستقيم. وكثير من هؤلاء المسوفين عندما يأتيهم الموت بغتة يتمنون العودة ألي الدنيا للتوبة والعمل الصالح وقد قال الله تعالى:
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (60)
والله سبحانه وتعالي قادر علي معاقبة الظلمة والفاسقين الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها مع قدرته سبحانه على أن يخسف بهم الأرض علي سيئاتهم ولكنه يمهلهم ويعطيهم الفرصة للعودة إليه.
قال الله تعالى:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) (61)
قال الشاعر:
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني** * وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني
وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها** * الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني**** وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
وقال شاعر:
حتى متى يا نفس تغترين بالأمل الكذوب***يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك غفار الذنوب***إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
والموت شرع واحد *** والناس مختلف الضروب
الغيرة
إن الغيرة حجاب من الزنا، فالذين يغيرون علي أهلهم يحمونهم من الوقوع فيه بشتى الطرق من أمرهم بالحجاب، وعدم تركهم في سفر من غير محرم، وعدم السماح للرجال بمخالطتهم والدخول عليهم من غير إذن وهكذا.
والذنوب تطفئ من القلب نار الغيرة التي فيها حياته وصلاحه، والغيرة تخرج من القلب الخبث كما يخرج الذهب الخالص من بقية المعادن، وفي ذلك يقول الشاعر:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وأشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة علي نفسه وخاصته وعموم الناس، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أغير الخلق علي الأمة والله سبحانه وتعالي أشد غيرة منه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني)) (62) وقد روي البخاري من حديث عائشة أنها قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)) (63) وقد أخرج الأمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)) (64) فجمع هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبغضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان. فان كثيراً ممن تشتد غيرتهم من المخلوقين تحمله شدة غيرته علي سرعة الإيقاع والعقوبة من غير اعتذار منه، ومن غير قبول عذر من اعتذر إليه.
قال ابن القيم رحمه الله :
" كلما اشتدت ملابسة العبد للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة علي نفسه وأهله وعموم الناس. وقد تضعف في القلب جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوا إليه ويحثه عليه ويسعى له في تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة حرام عليه وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له"(65)
وقد أخرج الأمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث)) (66)
الحجاب
إن نظرة الإسلام إلى المرأة نظرة احترام وإنصاف ورعاية وقد شرع لها كل ما يحفظ لها كرامتها، وكل ما يحقق لها حمايتها، ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى الحجاب.
وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه لم يشذّ عن ذلك منهم أحد، فتخصيص هذه العبادة – عبادة الحجاب- بعصر دون عصر يحتاج إلى دليل، ولا دليل للقائلين بذلك ألبتة. ولو لم يكن الحجاب مأموراً به في الكتاب والسنة، ولو لم يرد في محاسنه أيُّ دليل شرعي، لكان من المكارم والفضائل التي تُمدح المرأة بالتزامها.(/9)
والحمد لله أن كثيراً من المسلمات قد أخذن في الالتزام بأمر الحجاب الشرعي، ولكن ما زال بعض النساء ينظرن إلى الحجاب على أنه يتنافى مع الحضارة العصرية، كما صورها الغرب وترسخت في أذهانهن عبر ما يبث يومياً في الإذاعات والقنوات الفضائية. وهذا مما يدل علي بعدهن عن النهج القويم والفكر السليم، وهذا من تلبيس إبليس فأمره بنزع الحجاب أصبح هو الحضارة بعينها وأمر الله في نظرهن يتنافى مع متطلبات العصر، وأصبح هؤلاء النساء جنوداً مخلصين للشيطان فهو يستعملهن في تهيج الشهوات وإغراء الشباب ودفعهم نحو الفتن والزنا بلبسهن الضيق الذي يبين جسد ولون المرأة، ومن هنا يتبين أن أمر الله بحجاب المرأة جاء من أجل حمايتها من الذئاب البشرية، وقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) (67)
قال النووي رحمه الله:
((كاسيات عاريات أي معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهارا بحالها، وقيل معناه تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها، مائلات عن طاعة الله ومميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم))
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) (68)
عن سفيان الثوري أنه قال: "(ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي إذا فعلن ذلك عرفهن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر".
قال مجاهد: "يتجلين فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة".
والتبرج لا يكون باللباس فقط بل يكون بالتبختر والتكسر أيضا وفي ذلك قال تعالى:
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى). (69)
قال الطبري:
إن التبرج في هذا الموضع التبختر والتكسر.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه يجب علي المرأة أن تستر نفسها من الرجال الأجانب إلا المحارم. وقد بين الله سبحانه وتعالى هؤلاء المحارم ولا يجوز لأحد أن يتجرأ على شرع الله ويقول أن المحارم ليسوا هؤلاء فقط بل هم أكثر من ذلك، فأبن العم محرم فهو كأخيها ولا بأس وابن الجار التي تربت معه البنت لا بأس فهو كالمحرم وهذا كله افتراء على الله ويجب على هؤلاء أن يتقوا الله ولا يقولوا إلا الحق.
فالمحارم بينهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قال الله تعالى:
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (70)
قالت امرأة: "أسلمت قبل الإسلام والحجاب كان الرجال ينظرون إلى جسدي، وأما الآن بعد الحجاب فهم ينظرون إلى ما في رأسي من أفكار."
قال الشاعر:
لحد الركبتين تشمرينا*****بربك أي نهر تعبرينا
كأن الثوب ظل في صباح***يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور***لأنك ربما لا تشعرينا
غض البصر
إن المقصود من الأمر من غض البصر هو حماية الأعراض، وحفظ الأنساب، لأن النظر ذريعة إلى مثيرات الشهوات الداعية إلى الوقوع في الزنا.
قال الشاعر:
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف
وقال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
غض البصر نتيجة مباشرة للأيمان ودليل عليه، فالمسلم يغض بصره لعلمه بأن الله سبحانه وتعالى يراقبه، ولرغبته بما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر والثواب، ولعلمه أن الله سبحانه وتعالي عنده من الثواب الجزيل من الجنة والحور العين ما هو خير من هذه اللذة القصيرة التي تنتهي بسرعة ويبقي إثمها إلى يوم القيامة ما لم يتوب.
قال القرطبي:
"البصر: هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله".(71)(/10)
والصور الفاضحة هي سلاح الغرب الفعال في نشر الفساد والفتن. فشبكة الإنترنت العالمية دخلت معظم الدول الإسلامية وما أدراك ما الإنترنت وما فيها من صور خليعة والدش وما فيه من فساد. فيجب علي الآباء مراقبة الأولاد في استعمالهم لهذه الأجهزة الخطيرة. وقد قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (72) ويجب على أولياء الأمور في البلاد الإسلامية مراقبة هذه الأجهزة وفرض الرقابة عليها فهم مسؤولون أمام المولى عز وجل. ويقول العلماء النظر بريد الزنا ولهذا أمر الشرع بغض البصر عن المحارم.
قال الله تعالى:
(ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(73)
وقال الله تعالى:
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (74)
وقال الله تعالى:
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (75)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(( إياكم والجلوس في الطرقات قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (76)
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
الاستئذان
لقد استهانت كثير من الأمم بأمر الاستئذان، فيدخل الشخص على صديقه من غير استئذان بحجة أنه بقوة صداقته يعتبر من أهل البيت وكذلك ابن العم وابن الخالة وترى الخادم يدخل على البيت من غير أذن وفي أوقات الراحة بحجة أنه خادم وكأنه ليس رجلاً. فقد يري هؤلاء الرجال بعدم استئذانهم النساء في وضع هن لا يرغبن أن يراهن أحد فيه.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يأتي من الجهاد يجلس في المسجد مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى تستعد زوجاتهم ويتهيّأن لمقابلتهم. وقد قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-:"من ملأ عينه من قاعة بيتٍ قبل أن يؤذن له فقد فسق".(77) وقد نهي الشرع الحكيم عن هذا الخلق في القران وفي السنة الكريمة فهذا الدين لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وذكرها قال الله سبحانه وتعالي:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا). (78)
وهناك نصوص شرعية تنبه على ضرورة الاستئذان ومنها قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْض)ٍ(79)
قال ابن كثير في شرح هذه الآيات:
"فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال " الأول " من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم " وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة " أي في وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله " ومن بعد صلاة العشاء " لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال".
وقال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) (80)
هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات فإن أذن له وإلا انصرف.
عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره " أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( إنما جعل الإذن من أجل البصر)) (81)
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو قال الحمو الموت)) (82)
والحمو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه ونحوهما.
الرفقة الصالحة(/11)
كثيراً ما تهاون بعض المسلمين في مجاراة شاربي الخمر والزناة والجلوس معهم والاستماع إليهم وكانت النتيجة مجاراتهم في أفعالهم. وترى بعض الزناة يحاولون جر الآخرين إلى هذه الفعلة المشينة بشتى الطرق وهذا معروف ومشاهد، فيزينون الأمر بطرق مختلفة من تصوير أن الأمر طبيعي وهي المرة الأولى فقط ولا أحد يعلم وان الطب متقدم يستطيع أن يداري العملية وكأن شيئاً لم يكن. فالتمادي والتعود علي مخالطة الأشرار أمر خطير لابد للآباء أن ينتبهوا له. والشرع الحكيم بكماله لم يغفل عن هذا الأمر واليك الآيات والأحاديث التي تنبه إلى خطورة مخالطة الأشرار والركون إليهم.
قال الله تعالى:
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (83)
قال ابن عباس في شرح ذلك : "لا تميلوا إلى الذين ظلموا".
قال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم".
إن الإخلاء في الدنيا الذين لا يتعاملون فيما بينهم على أساس من تقوى الله سيكونون يوم القيامة أعداء.
قال الله تعالى:
(الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (84)
قال ابن كثير:
"أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) (85)
وقال الله تعالى:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.. (86)
قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. (87)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحدادلا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة" (88)
وقال شاعر:
أنت في الناس تقاس بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلُ وتنل ذكرا جميلا
في يوم ربيعي خرجت والدتها برفقة والدها إلى السوق مع أختها الصغرى، لم تكن تود الذهاب معهم، رن الهاتف أسرعت إليه كانت صديقتها المتحدثة، دعتها إلى نزهة قصيرة والتجول في أحد المراكز الجديدة، وافقت دون تردد، جاءتها صديقتها وذهبتا سوية تبادلتا أطراف الحديث سألتها صديقتها إذا كانت لديها بوي فريند ؟!!
أجابت بكل براءة وقالت : كيف أخون ثقة أهلي !!
الصديقة : كلام قديم لا أحب سماعه، فجأة قفزت الصديقة وأشارت إلى أحد المحلات وقالت : انظري هنالك مجموعة من الشباب هيا لا تضيعي الفرصة، رفضت رفضاً قاطعاً، لكن مع إصرار صديقتها وافقت بعد عدة جولات ها هي تستلم وتأخذ أحد الأوراق التي رميت عليها، هنأتها صديقتها، وانتهت النزهة وعادت كل منها إلى المنزل كان ضمير الفتاة يأنبها، لكنها تقلت اتصالا من نفس الصديقة كان الاتصال كالتالي :
بعد محاولات من صديقتها استسلمت الفتاة واتصلت، كانت المحادثة الأولى مختصرة، لكن الثانية كانت أطول بكثير، وانتهت الثالثة بموعد، عادت الفتاة من الموعد وهي تجر العار وراءها، ماذا تفعل ماذا تقول ؟؟
لاحظت بعد أشهر حركة، يا إلهي ثمرة الخطيئة، هربت من المنزل خافت من الفضيحة، ذهبت إلى أحد النساء الشهيرات بالتوليد في المنزل وهربت تاركة طفلة وراءها، لجأت إلى التسول، اتصلت بالثمن للحبيب المفقد، أطلق ضحكة ساخرة وأقفل الخط بوجهها، تم الإبلاغ من قبل والديها عن اختفائها، عثر عليها وتم إدخالها الإصلاحية، خرجت بعد أن أصبحت في الثلاثينات، لجأت إلى العمل كخياطة وبقيت وحدها بعد تبرأ أهلها منها !!
تطبيق حدود الله
لقد ابتلي هذا الجيل الإسلامي بضياع الخلافة الراشدة، وعندما أنفرط عقد الخلافة ضاع تحكيم الشريعة الإسلامية، فالبلاد الإسلامية متخبطة لا تدري ماذا وكيف تقرر في الأمور التي تهم معظم المسلمين من غير خليفة عالم عابد يقودهم إلى الخير والي الطريق المستقيم.(/12)
والشريعة الإسلامية يتربص بها الأعداء من الداخل بحجة ضرورة فصل الدين عن الدولة. ولا يخفي أن في القران الكريم والسنة النبوية الصحيحة أحكاما كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر علي الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقذف المحصنات وجزاء الساعي في الأرض فسادا و....ألخ. وهذا يدلنا على أن من يدعوا إلى العلمانية أو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يتصور دينا آخر وسماه الإسلام. وتهاجم الشريعة من خارج الدول الإسلامية بحجة حقوق الاقليات التي لم يهملها الشرع وحفظ لها حقوقها وكرامتها. فهذه الشريعة إنما جاءت لكي تكون رحمة للعالمين سواء كانوا رجالاً أو نساءً، مسلمين أو نصارى قال الله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (89)
وقال الله تعالى:
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (90).
فهذه الشريعة جاءت لتبين لنا الطريق الصحيح والمنهاج القويم الذي نستطيع أن نعيش به في هذه الحياة ونحارب الزنا والفواحش. والزاني المحصن يعاقب بأشد عقوبة وهي رجمه بالحجارة حتى يموت ليذوق وبال أمره وليتألم كل جزء من جسده كما استمتع به في الحرام، والزاني الذي لم يسبق له الوطء في نكاح صحيح يجلد مائة جلدة مع ما يحصل من فضيحة بشهادة طائفة من المؤمنين لعذابه والخزى بإبعاده عن بلده وتغريبه عن مكان الجريمة عاماً كاملاً. ويجب أن يكون الجميع سواء أمام القضاء لكي تتم العدالة وتنتهي مظاهر الزنا والفواحش في جميع الطبقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (91)
وكثير من الفواحش لو أعطيت الشريعة الإسلامية الفرصة الكافية لقضت عليها، ولكن أعداء الإسلام واقفون لها بالمرصاد، أما غير المسلمين فلا قضية لنا معهم فقد بين الله سبحانه وتعالى موقفهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (92)
قال ابن جرير: " وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله. أما أبناء جلدتنا فلا بد لنا من توضيح الأمر إليهم حتى لا نكون من الذين كتموا علم وأمر الله".
قال الله تعالى:
(وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (93)
ولهذا نبين ونقول لكي يكون الشخص مسلماً لابد له من الشهادة. والشهادة تعني أنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
رضيت بالله ربا:
يقول د/ صلاح الصاوي:
"أن الرضا بالربوبية يعني: الرضا بحاكمية الله جل وعلا والتسليم المطلق لما بعث به رسوله من الهدي والشرائع. (94)
رضيت بالإسلام دينا:
يقول ابن القيم:
"الرضا بدينه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليما. ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها"(95)
قال الله تعالي:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(96)
رضيت بمحمد رسولا:
قال ابن القيم:
"الرضى بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه. (97)
في أمريكا صرحت إحدى المنظمات الأمريكية لمكافحة الاغتصاب (رين) أن 92 ألف بنت اغتصبوا و55 ألف نجوا من محاولة اغتصاب في سنة 2000. وتقول المنظمة أن هذه الأرقام لا تشمل الأطفال من عمر 12 سنة وأصغر. وتقول المنظمة إن من بين كل ست بنات أمريكيات هناك بنت أما اغتصبت فعلا أو واجهت محاولة اغتصاب. (98)
وبهذا يفتضح سر الحضارة التي دعانا إليها العلمانيون وحاربوا شريعة الله من أجلها، ولذلك نقول لأبناء جلدتنا اتقوا الله ولا ترفضوا حكمه وقد قال الله تعالى:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (99)
ويجب أن يعلم المسلمون أنه إذا سلموا أمرهم لله لن يظلمهم وهو العدل وقد بنى السماوات والأرض علي العدل، وأن الشريعة ليست فقط حدود وإنما نظام كامل يحفظ حقوق وحياة المسلم.
قال الله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (100)
وقال الله تعالى:(/13)
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (101)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في المجتمع المسلم النقي يستحي أصحاب الفجور والأهواء من الصالحين، ولذلك لا يجاهرون بالمعاصي بل يخافون ويستخفون، ومما لا شك فيه أن هذه ظاهرة صحية ومقصودة من الشرع بعينها، ولذلك حث الإسلام علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تستمر هذه الظاهرة وتدوم.
قال الله تعالى:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) (102)
بل المجتمع الذي لا يداوم علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحل عليه عذاب الله ولعنته.
قال الله تعالى:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (103)
وفي المجتمع الذي ليس فيه أمر بالمعروف ولا نهي عن منكر، ينتشر الفساد ويقوي أهله ويعلو صوتهم. وهذا المثال واضح في المجتمع الغربي من انتشار الزنا واللواط والمجاهرة والمفاخرة بها، ولذلك عندما ينزل الله عذابه يعم العذاب علي الجميع، وذلك لأن الذين لم يقعوا في الفاحشة قد ساهموا بطريقة غير مباشرة في نشر الفساد، لأنهم لم يأخذوا بيد العصاة ولم يردوهم عن فسادهم، ولن ينفعهم صلاتهم وتخفيهم في بيوتهم من تجنب عقاب الله.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). (104) قال الترمذي حديث حسن
ويجب علي الرجال الذين يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يطبقوا ذلك علي أنفسهم أولا ثم من يعولون ثم بقية المجتمع والمسلمين.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه)) (105)
قال سفيان الثوري:
"إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
وقال أيضا:
"دخلت علي أبي جعفر المنصور(الخليفة العباسي)، فقال ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله قد ملأت الأرض ظلماً وجورا. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه وقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا فاتق الله وأوصل أليهم حقوقهم، قال: فطأطأ رأسه، ثم رفعه وقال: ارفع الينا حاجتك. فقلت: حج عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما. وأري ههنا أموالا لا تطيقها الجبال." (106)
ذكر الله
إن أفراد جيل الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يفارقون قراءة القران، وكانوا يقرأونه قراءة فهم وتطبيق، وفي ذلك يبين ابن مسعود رضي الله عنه إن بعض الصحابة كانوا يقرؤون عشر آيات فيدرسونها ويعرفون معناها ثم يحفظونها ثم يطبقونها وبعد ذلك يذهبون إلى العشر الآيات التي تليها. ومن هنا يتبين لنا أهمية حفظ وتدبر القران والعمل به، حيث نجد في زماننا من لا يقرأ القران لمدة سنة أو تزيد، ومع هذا يزين الشيطان للعبد أنه على خير وهدي وان الأيمان محله القلب. ألا يعرف هذا الشاب أن القران هو كلام الله الذي لا تنقطع حلاوته وأنه مطالب بقراءته وتأمل معانيه وأنه من طلب الهدى بغيره أضله الله.
قال الله تعالى:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (107)
(أكنة)ً أي أغطية وغشاوة.(وقرا) أي صمما معنويا عن الرشاد.
وذكر الله يساعد علي حفظ نفسك من جريمة الزنا بوسائل شتي منها:
• إن الذكر يبعد عنك قرناء السوء ويبعدك عن أهل الفجور ويحفظك منهم
قال الله تعالى:
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) (108)
وهذا شئ مشاهد إذا ذكرت الله أو تكلمت عن الدين بعض الفجرة يذهب ويترك المكان
• ومن فوائد ذكر الله تذكيرك بالله عندما تقع في الرذيلة وتساعدك على الإقلاع عنها
قال الله تعالى:
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) (109)
• ومن فوائد ذكر الله إنها تجعل قلبك يخشع وينقاد إلى أمر الله(/14)
قال الله تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (110)
قال الطبري:
ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وانقاد لأمره وخضع لذكره خوفا منه وفرقا من عقابه.
• ومن فوائد ذكر الله إنه يحميك من الشيطان ووساوسه
قال الله تعالى:
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (111)
• ومن فوائد ذكر الله انه يقويك علي مجابهة الباطل وردعه من طواغيت وآثام
قال الله تعالى:
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (112)
والمراد أنهما لا يفتران عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عونا لهما عليه وقوة لهما وسلطانا كاسرا له.
# واليك بعض الأذكار المأثورة:
فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"(113)
وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه"(114)
الدعاء
الدعاء سلاح المؤمن وهو من الوسائل المساعدة للقرب من الله عز وجل. والدعاء درع من المعاصي إذا خرج من قلب مخلص وطلبت من الله أن يخلصك من الدنايا وان يعظم نفسك عن حب المعاصي وان يصرف بصرك وبصيرتك عن الشهوات وان يرزقك حب الطاعات.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"(115)
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل. قال ابن القيم للدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:"1- أن يكون أقوي من البلاء فيرفعه.2- أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد ولكن قد يخففه، وان كان ضعيفا. 3- أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه". وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر. (116) الدعاء كالترس والبلاء كالسهم والقضاء أمر مبهم مقدر في الأزل. قُدّر أعمال البر سببا لطول العمر كما قُدّر الدعاء سببا لرد البلاء.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عند أصعب الأوقات يلجأ إلى الدعاء كما في غزوة بدر عندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه حتى سقط رداءه وأشفق عليه أبوبكر الصديق. ونبي الله يوسف عليه السلام عندما تآمرت عليه النساء ليقع معهم في الفاحشة فإنه لجأ إلى الله سبحانه وتعالي بالدعاء وقال:
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين) (117)
فاستجاب له ربه وحماه من تلك الفتنة.
قال الله تعالى:
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم) (118)
• وفي كثير من الآيات أمرنا الله سبحانه وتعالي أن ندعوه ونسأله
وقال الله تعالى:
(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين) (119)
وقال الله تعالى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين) (120)
قال سفيان الثوري:
" يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب".
قال الشاعر:(/15)
إذا كثرت منك الذنوب فداوها برفع يد في الليل والليل مظلم
ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من خطاياك أعظم
فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم
الفصل الثالث
الزواج وأثره في الوقاية من جريمة الزنا
الزواج من أكبر وسائل محاربة الزنا، ففيه المصرف الطبيعي للغريزة التي أوجدها الله في عباده البالغين. وفي الزواج يحصل التعاون علي تقوى الله وهو من أكبر أسباب الحماية من الأمراض الجنسية، وفيه رفع لمكانة المرأة وكفالتها بالنكاح وسلامة الفرد والمجتمع من الانحلال الخلقي والأمراض النفسية، وفي الزواج يحصل الجمع بين المتحابين والولد الصالح الذي يدعوا لوالده بعد الموت وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له)) (121)
وجعل الله سبحانه وتعالى بالمصاهرة بين المسلمين مودة يتحابون ويتوادون ويتواصلون بينهم من أجلها وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده.
قال الله تعالى:
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) (122)
فالزواج كما بين النبي صلى الله عليه وسلم يساعد المسلم علي تحصين فرجه وعلي غض بصره فهو وقاية من الزنا.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) (123)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الزواج يحافظ على الشباب ويحميهم من الزنا، ولذلك شدد علي الآباء بعدم رفض الخاطب إذا كان ذا خلق ودين، لأنه برفضه ينتشر الفساد في الأرض، فقد يلجأ إلى الزنا والحرام لإشباع غريزته.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) (124)
ولأهمية المعاشرة الزوجية في حفظ الزوجين من الزنا، شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزوجة بعدم رفض الزوج إذا دعاها إلى الفراش، فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح )) (125) وكذلك الزوج إذا لم يعاشر زوجته لمدة سنه كاملة تفصل عنه بحكم القاضي. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تزوج امرأة فلم يستطع أن يمسها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسها وإلا فرق بينهما)) (126)
وجوب تيسير الزواج
إن طبيعة النفس البشرية تهفو وتتوق إلى من تؤنسه ويؤنسها والي من تسكن إليه ويسكن إليها، وقد جاء الدين ليقرر شرعية هذه الغريزة بل بأمرتصريفها في مصرفها الطبيعي عن طريق الزواج. ومن هذا الباب تظهر أهمية الزواج والمسؤولية الكبيرة الملقاة علي عاتق ولاة الأمور وعلي الآباء من تسهيل الزواج للشباب ومحاولة إزالة كل العواقب التي تقف أمام زواجهم من غلاء المهور وغيرها. و يجب علي العلماء توعية الآباء والمجتمع بأهمية تيسير الزواج لأنه من أقوي أسباب محاربة الزنا بعد الأيمان، وعندما ينتشر الزواج تقل تدريجيا ظاهرة الزنا، كما يجب علي العلماء وولاة الأمور تشجيع مشروع الزواج الجماعي واقامه المحاضرات والخطب في المساجد من أجل هذا المشروع، كما أن من الضروري عمل صندوق خيري لدعم الشباب الراغبين في الزواج.
قال الله تعالى:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (127)
والأيم الذي لا زوج له
وفي هذه الآية الكريمة دحض لفرية يزعمها كثير من ضعاف الأيمان بالله تعالي، حيث يظن كثير من لبّس عليه الشيطان أن تكاليف الحياة تعوق الزواج لأنه يحتاج إلى مبالغ مالية كبيرة وهو زعم ليس قائما على دليل، بل الدليل علي خلافه، وهذا ما وعد الله وصدق المرسلون.
قال أبوبكر الصديق: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله)) (128)
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، فهذا الدين يأمر بالتيسير على المسلمين وأن لا يصعبوا على الناس حياتهم وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا))(129)(/16)
في واقعنا اليوم تمسك بعض الآباء بالعرف والعادات في الزواج وبعدوا عن السنة النبوية الشريفة التى ترشد إلى تقليل المهور و عدم الصرف الزائد عن الحاجة، وهذا البعد عن الطريق المستقيم أدى إلى عزوف بعض الشباب عن الزواج وهذا يؤدي إلى انتشار الزنا.
قال الله تعالى:
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (130)
ويكون التيسير للشباب أيضا عن طريق إزالة العقبات العرقية والطبقية
قال الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (131)
قال الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله:
"بادروا إلى تزويج أبنائكم وبناتكم مقتدين بنبيكم وصحابته الكرام والسائرين على هديهم وطريقتهم واحرصوا علي تزويج الأتقياء ذوي الأمانة والدين واقتصدوا في تكاليف الزواج ووليمته، ولا تغالوا في المهور أو تشترطوا دفع أشياء تثقل كاهل الزوج، وإذا كانت لديكم فضول أموال فأنفقوها في وجوه البر والإحسان ومساعدة الفقراء والأيتام وفي الدعوة إلى الله وإقامة المساجد فذلك خير وابقى وأسلم في الدنيا والآخرة من صرفها في الولائم الكبيرة ومباهاة الناس. وينبغي لعلماء المسلمين وأمرائهم وأعيانهم أن يعنوا بهذا الأمر وان يجتهدوا في أن يكونوا أسوة حسنة لغيرهم لأن الناس يتأسون بهم ويسيرون وراءهم في الخير والشر فرحم الله امرءاً جعل من نفسه أسوة حسنة وقدوة طيبة للمسلمين في هذا الباب وغيره ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعدة لا ينقص ذلك من أجره شيئا))" (132)
الخطبة ما لها وما عليها
الخطبة بكسر الخاء هي وعد غير ملزم بالزواج وفيه إبداء الرغبة بالزواج. شرع الإسلام الخطبة لحفظ حق الزوج والزوجة في الاختيار. ولا تعطي الخطبة المسلم المتقدم للزواج أي حق زائداً على بقية المسلمين، سوى أن له الحق في رؤية المخطوبة والتحدث معها في وجودهم. وقد أخرج الترمذي من حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) (133) يعني يكون بينكما الألفة والمحبة ; لأن تزوجها إذا كان بعد معرفة فلا يكون بعدها غالبا ندامة.
وذهب أحمد بن حنبل والجمهور أنه لا يشترط في جواز النظر رضاها بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدم إعلام. و قال مالك : أكره نظره في غفلتها مخافة من وقوع نظره على عورة. إذا أمن الرجل أنه لن ينظر إلى عورة وهو عازم علي خطبتها وغلب على ظنه موافقة أهلها، جاز له ذلك حتى لا يجرح شعورها إذا لم تعجبه وهذا قول كثير من العلماء المعاصرين.
والحق الثاني هو إذا قبل الأب والبنت الخاطب، لا يجوز لأي مسلم أن يحاول خطبة هذه المرأة لنفسه. وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه)). (134) قال الجزري في النهاية :" هو أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق، ويتراضيا ولم يبق إلا العقد. فأما إذا لم يتفقا ولم يتراضيا. ولم يركن أحدهما إلى الآخر، فلا يمنع من خطبتها وهو خارج عن النهي".
وكثير ما يعطي الآباء والمجتمع الخاطب حقوقاً كثيرة هي ليست له. كأن يخلوا الخطيبان وحدهما دون محرم وهذا لا يجوز في شريعة الله عز وجل. وفي بعض الأحيان ينتج من هذه الخلوة وقوعهما في الزنا. ويكون الناتج أن لا يرغب الخاطب فيها وتنعدم الثقة بينهما ويفسخ الخطبة وينقطع الأمل في الزواج. ولذلك يجب الحذر وعدم التساهل في الخلوة بينهما، ومن هذا أيضا الزيارات المستمرة في أي وقت شاء لحاجة ولغير حاجة وهذا أيضا لا يجوز. يجوز للخاطب زيارة أهلها والتعرف عليهم وعلى المخطوبة والتحدث معها ولكن في حدود الشرع.
قال الله تعالى:
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (135)
قال ابن كثير في تفسير الآية:
" لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها"
الخاتمة(/17)
وفي الخاتمة أحب أن اذكر أخواني وأخواتي بان الواقع يفرض نفسه ولا نستطيع أن نتجاهله، وهو أن المسلمين في هذا العصر محاصرين من وسائل الأعلام كالصحافة والتلفزيون والإنترنت التي تحمل في جوانبها مبادئ في جلها معادية للتعاليم الإسلامية من الحياء والعفة وغيرها من تعاليمنا الإسلامية السمحة. ويجب أن نعلم تماما أن الإسلام واقف بالمرصاد لهذه الأجهزة، وكل ما علينا هو أن نأخذ الدواء الناجع من المولي عز وجل. فالغريزة الجسدية جزء أساسي في النفس البشرية، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من التحكم فيها وإلا صارت كالثور الهائج. وللتحكم في الغريزة الجسدية لابد من إزالة كل المثيرات كالنظر إلى المحرمات لمحرمات ومخالطة الأجانب ولبس المحرم كالباس الضيق والعاري والدخول علي النساء من غير استئذان. ثم يحمي بعد ذلك المظاهر الصحية التي تشكل البيئة النقية حول الغريزة الجسدية بتطبيق حكم الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرفقة الصالحة. وبعد ذلك يقوم المسلم بخطوة أكبر وهي حماية القلب والنفس من وساوس الشيطان بالأيمان بما عند الله من الثواب في الآخرة للمتعفف الذي هو أفضل وأبقي، والخوف والحياء من الله ومن ملائكته، ثم يشد عضد ذلك بالصبر والزهد والترفع عن المعاصي والمزالق. ويحرص على العمل الصالح من صلاة وصوم وتوبة وذكر لله الذي فيه انشغال النفس بالطاعات التي تمتزج مع الأيمان وتقويه وتحميه. وعليه أن يسعى لتزويج نفسه، وتيسير الزواج له ولغيره فان فيه المصرف الطبيعي للغريزة الجسدية التي أوجدها الله فيه وبه يكتمل ذاته ووجوده ويعصم نفسه وزوجته من هذه المزالق الخطيرة. فإذا استعان العبد بهذه الخطوات وتوكل علي الله فانه ينجو بأذن الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذه الوسائل في مجملها وسائل تربوية للنفس البشرية فهي تترواح بين الترغيب والترهيب وبين الخوف والرجاء. وإذا كان المراد من الوسائل السمو بالنفس البشرية من المزالق الشهوانية، فلابد أن نعلم إن شريعة الله عز وجل وما تحمله من عقوبات رادعة للمجرمين ومحافظتها على ضبط النظام الأخلاقي العام للمجتمع النظيف من خير الوسائل المحاربة لهذه الجريمة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيأ للمسلمين خليفة رباني يعيد لهم شريعتهم المسلوبة.
المراجع :
كتب التفاسير:
جامع البيان في تفسير القران لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري
الجامع لأحكام القران لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
تفسير القران العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي
كتب الأحاديث:
صحيح البخاري الطبعة السلفية للعلوم والحكم: القاهرة- مصر
صحيح مسلم إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان
سنن الترمذي المكتبة الإسلامية: استانبول - تركيا
مسند احمد المكتبة الإسلامية : بيروت- لبنان
موطأ مالك دار أحياء التراث العربي : بيروت- لبنان
الكتب المساعدة:
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي : لأبن قيم الجوزية دار الوفاق : بيروت-لبنان
موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم : أعداد مجموعة من المتخصصين بأشراف صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن ملوح مؤسس دار الوسيلة للنشر والتوزيع.
تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين : د/ صلاح الصاوي معهد العلوم العربية والإسلامية : واشنطن - أمريكا
مذكرة فقه الأسرة : د/ عبد العزيز الفوزان معهد العلوم العربية والإسلامية : واشنطن - أمريكا
حرمة الزنا وأخطاره : د/ بندر بن فهد السويلم معهد العلوم العربية والإسلامية : واشنطن - أمريكا
قضايا تهم المرأة : عبد الله بن جار الله دار الصميعي للنشر والتوزيع : الرياض - السعودية
أصول الأيمان3 : عبد المنعم الأمين الجامعة الأمريكية المفتوحة : واشنطن – أمريكا
(1) سورة الأعراف: 179.
(2) سورة البقرة الآية 151
(3) سورة الفرقان الآية 68 و 69
(4) سنن الترمذي وقال حديث صحيح غريب ج7/ص74/ح2005
(5) صحيح مسلم ج1/ص90/ح86
(6) صحيح البخاري ج2/ص359/ح3007
(7) سورة محمد الآية 17
(8) أصول الايمان3 ص53
(9) صحيح البخاري ج4/ص11/ح5578
(10) سورة يوسف الآية 23.
(11) سورة الملك الآية 14.
(12) سورة الملك الاية 12
(13) سورة النازعات الاية 40و41
(14) سورة الانعام الاية 3
(15) سورة ق الاية 18
(16) صحيح البخاري ج4/ص187/ح478
(17) صحيح مسلم ج4/ص2060/ح2674
(18) صحيح البخاري ج2/ص501/ح3483
(19) صحيح مسلم ج1/ص64/ح37
(20) مسند الأمام احمد ج5/ص256
(21) صحيح البخاري ج4/ص310/ح7047
(22) سورة النور الآية 26.
(23) سورة طه الآية 124
(24) صحيح مسلم ج4/ص2036/ح2645
(25) صحيح البخاري ج4/ص187/ح6479
(26) صحيح البخاري ج1/ص319/ح660.
(27) رواه مسلم ج1/ص203/ح223
(28) سورة النور الآية 33
(29) صحيح البخاري ج1/ص455/ح1469
(30) صحيح مسلم ص 102/ ح 107
(31) سورة البقرة الآية 155
(32) صحيح مسلم ج4/ص2295/ح2999(/18)
(33) صحيح مسلم ج2/ص730/ح125
(34) صحيح البخاري ج2/ص432/ح3246.
(35) سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب ج5/ص374/ح1663.
(36) سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ج7/ص88/ح2338
(37) سورة التوبة الآية 67
(38) سورة التوبة الآية 71
(39) سنن الترمذي وقال حديث ضعيف ج7/ص36/ح2419
(40) سنن الترمذي وقال حديث حسن غريب ج7/ص70/ح2307
(41) سورة البقرة الآية 238.
(42) سورة الحج الآية 41.
(43) صحيح البخاري ج1/ص184/ح527
(44) سورة العنكبوت الاية45. 5
(45) صحيح البخاري ج1/ص184/ح528
(46) سورة الماعون الآية 4 و 5
(47) سورة الأعراف الآية 176
(48) سورة الفرقان الآية 43
(49) حرمة الزنا وأخطاره 21.
(50) موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.
(51) سورة البقرة الآية 183.
(52) صحيح البخاري ج2/ص29/ح1894.
(53) صحيح مسلم ج2/ص108/ح1400
(54) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص72
(55) سورة النساء الآية 17.
(56) سورة الفرقان الآية 70
(57) سورة التحريم الآية 8
(58) سورة نوح الآية 11,10
(59) سورة نوح الاية12
(60) سورة النساء الآية 18
(61) سورة النحل الآية 45
(62) صحيح البخاري ج3/ص393/ح107.
(63) صحيح البخاري ج3/ص393/ح5221
(64) صحيح مسلم ج4/ص2113/ ح2760
(65) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص72
(66) مسند الأمام أحمد ج2/ص128.
(67) صحيح مسلم ج3/ص1680/ح2128.
(68) سورة الأحزاب الآية 59.
(69) سورة الأحزاب الآية 33.
(70) سورة النور الآية 31 .
(71) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم.
(72) سورة التحريم الآية 6
(73) سورة الإسراء الآية 36
(74) سورة النور الآية 30
(75) سورة النور الآية 31.
(76) صحيح مسلم ج4/ص1704/ح2121
(77) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 2/193
(78) سورة المائدة الاية 3.
(79) سورة النور الاية 58.
(80) سورة النور الاية 27.
(81) صحيح مسلم ج3/ص1698/ح2156
(82) صحيح البخاري ج3/ص395/ح5232
(83) سورة هود الآية 113
(84) سورة الزخرف الآية 67
(85) سورة العنكبوت الآية 25
(86) سورة الفرقان الآية 27-28-29
(87) سنن الترمذي وقال حديث حسن غريب ج7/ص111/ح2379
(88) صحيح البخاري ج2/ص89/ح2101.
(89) سورة الأنبياء الآية 107
(90) سورة البقرة الآية 151
(91) صحيح البخاري ج2/ص499/ح3475
(92) سورة البقرة الاية 120
(93) سورة البقرة الآية 42.
(94) تحكيم الشريعة وصلته باصل الدين,ص 10
(95) تحكيم الشريعة وصلته باصل الدين ص12
(96) سورة النساء الآية 65
(97) تحكيم الشريعة وصلته باصل الدين,ص13
(98) www.rainn.org.
(99) سورة المائدة الآ ية 50
( 100) سورة النساء الاية 40
(101) سورة الأنبياء الآية 47
(102) سورة آل عمران الآية 104.
(103) سورة المائدة الآية 78,79.
(104) سنن الترمذي ج7/ص336/ح2170.
(105) صحيح مسلم ج4/ص2290/ح2998.
(106) موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(107) سورة الكهف الاية57.
(108) سورة الإسراء الآية 45.
(109) سورة آل عمران الآية 135
(110) سورة الأنفال الآية 23
(111) سورة الزخرف الآية 36.
(112) سورة طه الآية 42.
(113) ج4/ص419/ح7563
(114) ج4/ص172/ح6403
(115) صحيح مسلم ج4/ص1994/ح2577.
(116) سنن الترمذي قال الترمذي حديث حسن غريب ج6/ص313/ح2140 .
(117) سورة يوسف الآية 33
(118) سورة يوسف الآية 34
(119) سورة الأعراف الآية 56
(120) سورة غافر الآية 60
(121) سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح ج5/ص65/ح1376
(122) سورة الروم الآية 21.
(123) صحيح مسلم ج2/ص1018/ح1400.
(124) سنن الترمذي وقال حديث حسن ج4/ص42/ح1085.
(125) صحيح البخاري ج3/ص387/ح5193
(126) موطأ مالك ج2/ص585/ح5193
(127) سورة النور الآية 32..
(128) سنن الترمذي وقال حديث حسن ج5/ص370/ح1655
(129) صحيح البخاري ج1/ص42/ح69
(130) سورة الاسراء الآية 27
(131) سورة الحجرات الآية 13.
(132) قضايا تهم المرأة ص33
(133) سنن الترمذي وقال حديث حسن ج4/ص44/ح1087
(134) سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح ج4/ص68/ح1134.
(135) سورة الأحزاب الآية 32(/19)
الوقت الضائع في حياة المسلمين بين سوء التقدير وسوء التدبير
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
كثير من الناس يشكون من ضيق الوقت وكثرة الأعمال ، ويقدم بعضهم أعذاراً يسوغون بها تقصيرهم في الوفاء بالأمانة المنوطة بهم في مختلف ميادين الحياة ، بالأمانة التي وضعها الله في أعناقهم والتي سيحاسبون عليهما يوم القيامة بين يدي العزيز الجبار .
كثيرون يسوغون عدم تلاوتهم لكتاب الله ، أو عدم تدبره ودراسته ، أو عدم دعوتهم الناس الى دين الله , الى الإيمان والتوحيد أو عدم النصح لهم , أو عدم تعهدهم بالتربية والبناء ، أو عدم البذل لدين الله ولدعوته في الأرض ، كثيرون يسوغون ذلك بأعذار يوهمون بها أنفسهم ، ويخدعون بها آخرين .
ويتناقض كثير من المسلمين في أعذارهم . فقد تلقى من يجد الوقت لنشاطه لدنياه ، للهوه ومتعته ، أو لنشاطه الحزبي وانشغاله بتكاليف لم تورث إلا الشحناء والبغضاء على غير طاعة الله ، أو لنشاطه في تجارته وجريه اللاهث وراء المال ، أو غير ذلك ، ثم يزعم أنه لا يجد وقتاً لتدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو لإتقان لغته ولغة دينه ، أو لدعوة الله في الأرض ، وأعجب من ذلك أنك قد تسأل أحدهم لم لا يقرأ القرآن ويتدبره ، فيقول إن شؤون الدعوة الإسلامية وكثرة أعبائها لم تدع لي وقتاً لذلك . فالعذر دائماً هو ضيق الوقت على مزاعم متناقضة وأعذار واهية .
لقد غاب عن بال هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر الوقت وحدد تكاليف الأمانة ، ليكون الوقت كافياً للإنسان ليؤدي أمانته التي خلق لها . والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل شيء وقدر كل شيء ، على حكمة بالغة . واستمع لآيات الله البينات :
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } . [ المزمل : 20 ]
نعم ! { والله يقدر الليل والنهار } ثم حدد الله التكاليف هنا بصياغة ربانية عامة جاءت تفصيلاتها وأحكامها في سور أخرى وفي الأحاديث النبوية . وقد جاءت التكاليف العامة على النحو التالي :
1 ـ { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } بمعدل يحدده وسع الإنسان وما يتعرض له من مرض أو سعي في طلب الرزق أو قتال في سبيل الله . فهذا كله لا يعطل تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل به ، كل على قدر وسعه وطاقته ، ومسئوليته وأمانته . ثم جاءت السنة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصل ذلك . والتلاوة هنا في هذه الآية تعني التدبر والممارسة والتطبيق .
2 ـ { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } إقامة الشعائر كلها التي أمر الله بها وأشارت إليها الآية الكريمة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . ثم جاءت التفصيلات لإقامة الشعائر في مناهج الله ـ قرآنا وسنه ـ كما جاءا باللغة العربية . والإقامة هنا تعني استكمال شروط الشعائر من أحكام وخشوع وصدق إيمان .
3 ـ { وأقرضوا الله قرضاً حسناً … } وذلك بإنفاق المال على وجهه الذي أمر الله به ، وحمل رسالة الله إلى الناس وتعهدهم عليها وجمعهم على كلمة سواء دون تفرق وتمزق ، والجهاد في سبيل الله ، وغير ذلك من التكاليف المفصلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وجاء مع هذا التكليف العام حث عليه وتشجيع :{ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرأ } .
4 ـ { … واستغفروا الله … } وهذه تتطلب محاسبة النفس ومراجعتها ، والوقفة وقفة إيمانية لمراجعة النهج والخطة والدرب والتأكد من سلامة ذلك برده إلى مناهج الله الذي يحافظ المسلم على تلاوته وتدبره . وكذلك تأتي تفصيلات التوبة والاستغفار ومحاسبة النفس ومراجعة المسيرة في مناهج الله ، حتى لا يبقى عذر لأحد في التقصير أو الإهمال أو النكوص ، ما دام البذل قائماً ، كل في حدود وسعة وطاقته الصادقة التي سيحاسبه الله عليها :
{ ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون }
[ المؤمنون : 62] .
واستمع إلى الآيات الكريمة التي توضح أن الله قدر كل شيء خلقه تقديراً ربانياً عادلاً متوازناً ، وقدر التكاليف كذلك على أساس من ذلك :
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر … } [ القمر : 49 ]
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21]
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار … } [ الرعد : 8 ](/1)
إذن لابد أن نعي هذه الحقيقة الهامة وهي أن الله سبحانه وتعالى قدر الليل والنهار ، وقدر التكاليف ، وجعل التكاليف في حدود وسع الإنسان وأمانته ومسئوليته . فإذا وجد الإنسان ضيقاً في الوقت فهو من خلل في موازنته وبذله ، لا في هذا النظام الرباني الذي قدره الله تقديراً ، ولا في التكاليف التي أمر بها .
كيف لا يضطرب الميزان ، وكيف لا يضيق الوقت ، حين يعكف الإنسان على أهوائه فيعطيها الوقت الأوسع ، أو يمضي في سعيه للرزق يلهث ليل نهار، أو يؤثر الدنيا وزخرفها على الآخرة ونعيمها ؟!
كيف لا يضيق الوقت ويختل الميزان ؟!
أما الذين تصدق موازنتهم فقد قال سبحانه وتعالى فيهم :
{ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار* ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ النور : 37،38]
وميزان الدعاة الذين يحملون مسئولية الدعوة يختلف عن ميزان المسلم العادي أو الضعيف . فالداعية ينهض لمسئوليات أوسع تناسب طاقته ووسعه الذي جعل منه داعية لله ولرسوله . هؤلاء الدعاة يعطون الدعوة بخصائصها الربانية ، لا بخصائصها الحزبية ، جهداً أكبر وبذلاً أعظم . فانظر كيف يصبح الليل والنهار عندهم :
{ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون }
[ الذاريات :17،18] .
وكذلك نتذكر النبوة الخاتمة وصحابتها الأبرار وهم يقومون الليل ليعدوا أنفسهم لعبء الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإيمان والتوحيد :
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك …. } [ المزمل : 20] .
هكذا يصبح الميزان لدى الدعاة إلى الله ورسوله ، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، إنهم قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون . وصورة أخرى .
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون } [ السجدة : 16] .
هذه قبسات من كتاب الله تصور لنا جانباً من حياة المؤمن الداعية وجانباً من تنظيمه لوقته حتى يوفي بالأمانة الملقاة على عاتقه .
كيف لا يضيق الوقت حين يريد المسلم أن ينام حتى يطول نومه ، ويأكل حتى يشبع من الأكل ويتخم ويتكور بطنه ، ويلهو ويتمتع بمباهج الحياة الدنيا حتى يشبع ولن يشبع ، ويجمع من المال لاهثاً يأمل أن يقنع ولا يقنع ؟!
كيف لا يضيق الوقت وهو يرى أن شؤون بيته وزوجته وأولاده هي همه الأكبر ، أو أن حصوله على الشهادات العليا يزين بها بيته ويرفع بها سمعته ، أو أن تجارته وتنمية أرباحه هي واجبه الأكبر ، أو أن الوفاء بحقوق الوظيفة وحدها أو السعي لها هي شاغلة الشاغل ، ثم يضع مسئوليات الدعوة إلى الله ورسوله آخر ما يفكر فيه أو يبالي به ؟! كيف لا يضيق عليه الوقت ؟!
إن الموازنة الأمينة تبتدئ في تحديد مسئولياته وأمانته في هذه الحياة الدنيا كما حددها له مناهج الله ، ثم يعطي كل مسئولية حقها على أساس من القواعد الربانية التي فصلها منهاج الله .
ولكل مسلم دور وواجب ومسئولية . وهنالك حد أدنى من المسئوليات يشترك فيه المسلمون جميعاً . ثم تنمو المسئوليات مع نمو الوسع والطاقة ، حتى إذا أصبح المسلم داعية لله ورسوله ، منطلقاً من إيمانه وعمله ويقينه ، فلا حق له إلا أن يعتبر قضية الإيمان والتوحيد والدعوة لها هي القضية الأكبر والأخطر في حياته ، ثم تليها سائر القضايا حسب وزنها ومنزلتها في منهاج الله .
تحديد المسئوليات والواجبات تحديداً واضحاً هي نقطة الانطلاق في الموازنة الأمينة لتنظيم الوقت ، ثم تحديد منزلة كل مسئولية وأهميتها على أساس من ميزان رباني دقيق يفصله منهاج الله.
لا يوجد في الإسلام إنسان دون مسئولية . فكل فرد مسئول ، وكل فرد محاسب بين يدي الله ، وكل فرد عليه تكاليف ربانية أمر الله بها في مختلف ميادين الحياة : نحو نفسه ، وبيته وأسرته ، ووظيفته وتجارته ، ودينه ودعوته ، وأمته :
فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته . والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه . ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) (1) .
ثم تأتي تفصيلات التكاليف في الكتاب والسنة . ثم نظَم الإسلام حياة المسلم اليومية والأسبوعية والسنوية . حدد موعد نومه واستيقاظه وراحته ، ووقت سعيه وبذله ، ومواعيد الشعائر كلها ، ورسم له سياسة إنفاقه وميادين جهاده . رسم له الإسلام منهج حياة متكاملة .
فعلى المسلم أن يعي هذا النهج ويتدبره ويمارسه بأمانة ووفاء عليه أن يضع على ضوء منهاج الله وعلى ضوء واقعة خُطته الخاصة ليومه وأسبوعه ، أو لشهره وسنته .(/2)
على المسلم أن يعرف تكاليفه ومسئولياته ، وعليه أن يعي واقعة من خلال منهاج الله ، لا من خلال أهوائه وشهواته .
وإنها مسئولية البيت والمعهد ومؤسسات الأمة ، وكذلك الدعوة الإسلامية ودعاتها وجنودها ، هؤلاء كلهم مسئولون عن إعداد المسلم وتدريبه على احترام الوقت وتنظيمه ، ووضع نهجه وخطته لذلك .
إن التدريب جزء أساسي رئيس في الإعداد والبناء . إنه جزء رئيس في تربية الناشئة والأطفال ، والفتيان ، والشباب ، على النهج والتخطيط لأمور حياتهم ومسئولياتهم ، ومن أهم هذه الأمور احترام الوقت وتنظيمه .
إنها قضية تقدير أولاً ، ثم هي قضية تدبير بعد ذلك . والتقدير علم وإيمان ، والتدبير نهج وتخطيط . فإذا وعى المسلم منهاج الله وواقعه وضع خطته على أساس من ذلك ، على أساس الركنين الأساسيين في النظرية العامة للدعوة الإسلامية : المنهاج الرباني والواقع .
وانظر إلى هذا التوجيه الرباني في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : فعن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( بورك لأمتي في بكورها ) [ أخرجه الطبراني في الأوسط ] (1) .
وعن صخر بن وداعة الغامدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( اللهم بارك لأمتي في بكورها )
[ رواه أبو داود والترمذي والدارمي وابن ماجه ] (2) .
ونظم الإسلام أوقات الصلاة ، وأوقات الصيام والإفطار والحج ، ونظم وقت العمل والراحة ، وربط ذلك كله بالإيمان والتوحيد وبمنهاج الله .
ولكن إذا غلب الهوى وهاجت الأماني فأنى يكون تنظيم الوقت عندئذ ، وكيف يعتدل الميزان ؟!
لذلك على الدعوة الإسلامية أن تجعل التدريب على الاستفادة من الوقت وتنظيمه عملاً هاماً من أعمالها ومسئولياتها .
ولقد راعينا خطورة هذه القضية بإثارتها وطرحها في حياة المسلمين ، وكذلك بوضع أسس التدريب عليها . فهي مراعاة في خطة ( المنهاج الفردي ) وخطة
( منهج لقاء المؤمنين ) وفي النظام الإداري وقواعده ، وفي المتابعة والتوجيه والإشراف . ويجب أن تظل هذه القضية هامة وخطيرة في حياة المسلم وحياة الأمة كلها .
إن جهداً كبيراً في حياة الأمة يُهدر فيما لا طائل تحته ، في فوضى ولهو وعبث ، وسوء إدارة ونظام . ولقد نشرت دراسات حول طاقة الإنتاج في دول متعددة حول أساس ساعات عمل واحدة ، فكانت دول العالم الثالث والعالم العربي الأضعف إنتاجاً . فلو فرضناً أن ساعات العمل ثماني ساعات كانت الإحصائية تشير إلى ساعات الإنتاج واحدة ، والساعات الضائعة سبع وأما لدى الدول الأخرى فكانت ساعات الإنتاج قرابة ضعف ساعات العمل أو أقل من ذلك قليلاً .
نرى من ذلك الوقت الكبير الذي يهدر في حياة المسلمين ، والجهود الكثيرة التي تتبعثر وتضيع ، وأثر ذلك في جميع نواحي حياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها .
إن المذاهب البشرية تقدر الوقت بميزان مادي دنيوي هابط ، ولكنه يوفر الحافز المادي للإنتاج . ولعل المثل الشائع يوضح وجهة نظرهم وتقديرهم للوقت ، فهم يقولون : ( الوقت مال ، الوقت من ذهب ) .
أما الإسلام فينظر للوقت نظرة أخرى ، نظرة أسمى وأصدق وأعدل . إن المال الذي يضيع منك قد ييسر الله لك استعادته بفضله وعونه . وأما الدقيقة التي تمر فلن تعود ولن تستعاد ، فهذه سنة الله في الزمن في الحياة الدنيا . وأما قضاؤه فيه في الآخرة فهو أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي ربه :
فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزولا قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وما ذا عمل فيما علم )(1) .
ولا يريد الإسلام من أبنائه أن يهدر الوقت في اللهو والسمر الضائع ، كما يحدث في واقعنا اليوم ، حتى درج على الألسنة أن يقول الرجل لصاحبه : ( تعال نقتل الوقت أو نضيع الوقت )! ويقتل الوقت فعلاً بالنرد ولعب الورق وغيرها مما لا يقدم للأمة خيراً وهي في أسوأ مراحل تاريخها . إنهم لا يقتلون الوقت ، ولكنهم يقتلون الأمة ويقتلون أنفسهم .
إن الإسلام يريد من أبنائه أن يروحوا عن أنفسهم بين الحين والآخر ، حتى يستعيد المسلم نشاطه وقوته ، دون أن يبالغ في الترويح عن النفس حتى يضيع الوقت أو يقع في الإثم .
فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب )(2) .
ونهى الإسلام عن كل ما يضيع وقت المسلم : نهى عن الجدل والقيل والقال ، والشقاق والتدابر والشحناء . ودعا الإسلام إلى كل ما يجمع الجهود ويصون الوقت : دعا إلى التعاون والحب الصادق في الله والنصيحة والموازنة وغير ذلك من قواعد الإسلام . بل إن قواعد الإسلام كلها تدعو إلى الاستفادة من الوقت في طاعة الله :
فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ) (3) .(/3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله تِرَة ، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة ) (4) .
وذكر الله هو العمل الصالح الذي يخلص الإنسان فيه لله رب العالمين، وهو الكلمة الطيبة والتوبة والاستغفار والدعاء كله وأداء الشعائر والسعي الصالح في الأرض والدعوة إلى الله ورسوله والتعهد والتربية . كل ذلك هو من ذكر الله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر وقبل صلاة العشاء ، وكان يكره الحديث بعد صلاة العشاء إلا لحاجة وخير ، وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه .
حين حرص المسلمون على الوقت ، ونظموا حياتهم كما يأمرهم الإسلام أنجزوا ما لم تنجزه أمة في التاريخ . ففي حدود عشرين عاماً منذ بدء الدعوة الإسلامية دانت الجزيرة العربية كلها للإسلام ، وأخذ المسلمون يستعدون للتصدي للظالمين المعتدين من الرومان والفرس ، ثم امتدت الدعوة في الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً خلال فترة قصيرة توالت الانتصارات فيها .
لقد كان من جملة ما تميز به الصف المؤمن آنذاك الإدارة والنظام ، وتنظيم الوقت والجهد . فالإدارة والنظام عامل رئيس لاحترام الوقت والاستفادة منه . والإدارة والنظام قاعدة رئيسية في الإسلام ومنهجه فالشعائر كلها مرتبة عل أساس ذلك ، وعلى أساس تنظيم الوقت في حياة المسلمين .
إذا نظرنا في واقعنا اليوم نجد الجهد الضائع والوقت الضائع في حياة المسلمين يمثل حجماً كبيراً . تجد العدد الكبير من الناس جالساً في كثير من الدوائر ينتظر إنهاء معاملته ، وتجد الموظفين الذين يقتلون وقتهم بقراءة الصحف والاسترخاء والعبث دون المبالاة بالوقت الضائع منهم ومن أصحاب الحاجات . ثم تجد الارتجال والسلوك غير الواعي في تعطيل أنشطة الأمة ومصالحها تحت شعارات الوطنية . لقد بلغ عدد أيام الدراسة في بعض الأقطار خمسة وأربعين يوماً فقط خلال السنة كلها . وباقي الأيام ذهبت في المظاهرات واللهو والصخب والعبث ، دون أن يعود ذلك على الأمة بشيء من الخير . ونحن اليوم نحصد ما نلقاه من هزائم وهوان ، لم يكن إلا حصاد سنين طويلة مرت بنا ضاع فيها الجهد وضاع فيها الوقت .
لقد أصبحت بعض الكلمات لا تحمل في ذهن المسلم اليوم معناها الحق . فالخير والعمل الصالح والإحسان وغير ذلك أصبح يعني العمل الارتجالي المقطوع عن سائر أعمال المسلم ، المنعزل عما قبله وعما بعده ، فقد الهدف والنهج ، وانحصر في حياة الفرد معزولاً عن الأمة .
إن العمل الصالح هو عمل منهجي مرتبط بحياة الفرد كلها ، مرتبط بالأمة ، يتكامل من خلال النهج لتعظم بركته بفضل الله ، يعرف الهدف الممتد من الدنيا للآخرة . إن العمل الصالح يحرص على الوقت والإدارة والنظام على أساس من صدق الإيمان وصدق العلم بمنهاج الله والعلم بالواقع .
إن الأمة التي تنظم نفسها من خلال إدارة واعية ذكية يرتبط عمل الفرد فيها بالأمة ومنهجها وأهدافها ، ولا يبقى عملاً فردياً معزولاً ، فتترابط الجهود كلها وتنمو البركة ويعم الخير .
لذلك نعيد وتؤكد أهمية الوقت في الإسلام وأهمية تنظيمه في حياة الأمة . ونؤكد مسئولية الدعوة الإسلامية على تدريب أبنائها على احترام الوقت والاستفادة منه على أحسن وجه ممكن من خلال الإدارة والنظام والنهج والتخطيط .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته ( الفتح الكبير ) ، ط3 (4 / 183/ 4445 ) . أحمد : الفتح ( 23 / 17 ) . مسلم ( 33 / 5 / 1829 ) . وأخرجه البخاري في كتب الجمعة والوصايا وغيرهما . والترمذي في الجهاد .
(1) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم ( 2838 ) .
(2) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته حديث رقم ( 1311) .
(1) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته . رقم ( 7176 ) .
(2) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم ( 7312 ) .
(3) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم ( 7700 ) .
(4) ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم ( 6477) .(/4)
الوقت سيف
د.محمد إقبال
ترجمة: د.عبد الوهاب عزام
نضر الله تراب iiالشافعي
فكره قد صار نجماً iiلامعاً
فات خوفاً ورجاءً iiصاحبه
تغدق الصخرة من ضربته
كان هذا السيف في كف iiالكليم
شق صدر البحر لمع iiالقبس
وبهذا السيف يوم iiالخطر
* * ii*
ممكن إبصار دور iiالفلك
يا أسير اليوم والأمس انظرا ii(2)
أنت في النفس بذرت iiالباطلا
وذرعت الوقت طولاً ، iiللشقاء
وجعلت الخيط زناراً iiلكا
صرت يا إكسير تُرباً سافلاً
اقطع الزنار حراً لا iiتَهُن
إيه يا غافل عن أصل الزمان
يا أسير الصبح والمسى iiاعقلن
كل ما يظهر، من iiتسياره
ما من الشمس أراه iiيوجد
وبه الشمس أضاءت iiوالقمر
قد بسطت الوقت بسطاً iiكالمكان
يا شذى قد فر من iiبستانه
وقتنا بين الحنايا iiسافرُ
الحياة الدهر يا من عرفا
* * ii*
نكتة كالدر خذها iiرائقة
حيرة العبد مسيرة iiالزمن
ينسج العبد عليه iiكفنا
وترى الحر من الطين iiنجا
قفص العبد صباح ومساء
وبصدر الحر ثار iiالنفس
فطرة العبد حصول الحاصل
في مقام من همودٍ iiراكدُ
ومن الحر جديد iiالخلقة
قيد العبد صباح iiومساء
وأرى الحر مشيراً iiللقدر
عنده الماضي التقى iiوالقابل
* * ii*
ضاق عن معناي حرف iiوصدى
قلت ، واللفظ من المعنى iiخجل
مات معنى الحروف iiيحبس
سرّ غيب وحضور في القلوب
إن للوقت للحنا صامتاً
أين أيام بها سيف iiالدهر
قد غرسنا الدين في أرض iiالقلوب
ومن الدنيا حللنا iiالعقدا
من دنان الحق صرّفنا iiالرحيق
يا مدير الراح في iiأضوائها
من غرور واختيال تسكر
كأسنا كانت سراج iiالمحفل
إن هذا العصر من iiآثارنا
روضة الحق ارتوت من دمنا
كبّر العالم من iiتكبيرنا
" اقرأ " الحق لنا قد iiعلّما
لا تهون قدر حر iiأعدما
إن نكن عندك أصحاب iiالخسار
فلدينا عزة من " لا إلاه ii"
قد تركنا غم أمس iiوغد
نحن وراث هداة iiللبشر
لا تزال الشمس تبدي iiنورنا
ذاتنا المرآة للحق ، iiاعلمِ ...
... سحر الألباب هذا iiالألمعي
حين سمى الوقت سيفاً iiقاطعا
كفه كف كليم ، iiضاربه
ويغيض البحر من iiصولته
فشأى التدبير بالعزم iiالصميم
صيّر القلزم مثل اليبس
زلزلت خيبر كف الحيدر ii(1)
* * ii*
وتوالى نوره iiوالحلك
انظرن في القلب كوناً iiسُتِرا
وحسبت الوقت خطاً iiطائلاً
بذراع من صباح ومساء
صرت للأصنام نداً iiويلكا
يا وليد الحق صرت iiالباطلا
شمعةً في محفل الأحرار كن
كيف تدري ما خلود الحيوان ii(3)
" لي مع الله " بها الوقت اعرفن (4)
والحياة السر من أسراره ii(5)
إنها تفنى وهذا iiيخلد
وبه في العيش ما ساء iiوسر
وفرقت اليوم من أمس iiالزمان
وحبيس السجن من بنيانه ii(6)
ليس فيه أول أو آخر
" لا تسبوا الدهر" قول iiالمصطفى
* * ii*
بين حر ورقيق فارقه ii:
حيرة الأزمان قلب المؤمن
من صباح ومساء iiمذعنا
نفسه حول الليالي iiنسجا
يحرم التحليق في جو iiالسماء
طائر الأيام فيه iiيحبس
ليس في تفكيره من طائل
نوحُه ليلاً وصبحاً iiواحدُ
كل حين ، وحديث iiالنغمة
وثوى في فمه لفظ القضاء ii(7)
صورت كفاه أحداث الدهر (8)
عاجل بين يديه الآجل ii(9)
* * ii*
عجز الإدراك في هذا iiالمدى
وشكا المعنى من اللفظ iiالمحل
ناره يخمد منك iiالنفس
رمز وقت ومرور في القلوب ii(10)
وله في القلب سراً خافتاً ii(11)
صرّفته في أيادينا القدر ! ii(12)
وجلونا من ستر iiالغيوب
واستنار الترب منا iiسجدا
وهدمنا حانة العصر iiالعتيق
ومذيب الكأس من لألأئها (13)
ومن الفقر لدينا تسخر ii!
صدرنا كان لقلبٍ iiمشعل
من عجاج ثار في iiتسيارنا
عزّ أهل الحق في الدنيا iiبنا
كعبات شاد من iiتعميرنا
بيدينا رزقه قد قسّما ii(14)
أن ترى التاج مضى والخاتما
قدماء الفكر أحلاف iiالصّغار
نحن للكونين حرّاس iiأباه
ووفينا لحبيب iiأوحد
نحن عند الحق سر iiمدخر
غيمنا فيه بروقٌ iiوسنا
آية الحق وجود iiالمسلم
الهوامش :
(1) حيدر : علي ابن أبي طالب .
(2) انظرا : فعل الأمر مع نون التوكيد الخفيفة .
(3) الحيوان : الحياة .
(4) إشارة على الأثر : لي مع الله وقت لا يسعني فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب ويريد الشاعر أن يقول إن الوقت حال الإنسان لا ساعات الفلك .
(5) الضمير يرجع إلى الوقت .
(6) يقول الشاعر إنك أحياناً كالرائحة لا تثبت في بستانها ، وأحياناً سجين في سجن بنته يد تسير مع ساعات الزمان وتحبس نفسك فيها والوقت هو أنت .
(7) لفظ القضاء والقدر، يعتل به ويحيل الأمور عليه .
(8) عزم الحر من القضاء ، ويقول الشاعر في هذا إن القضاء يستشير الحر فيما يفعل .
(9) لا يعتل بأن شيئاً فات وقته وأن شيئاً لم يحن وقته . بل عزمه يطوع كل وقت لما يريد .
(10)القافية مردوفة الروي في حضور ومرور .
(11)أبيات إقبال هذه في الوقت وفي التفريق بين العبيد والأحرار من أروع ما عرفته الفلسفة والشعر .
(12)في هذا البيت ولأبيات بعده يذكر إقبال ماضي المسلمين .
(13)في هذا البيت وأبيات تليه يخاطب الشاعر أهل الغرب المسيطرين على العالم .(/1)
(14)يشير إلى أول سورة في القرآن : " اقرأ باسم ربك " .(/2)
الوقت في حياة المسلمة
تعاني نساء كثيرات مشكلة الفراغ وأخريات يلجأن إلى ما يسمينه 'قتل الوقت' دون اهتمام كبير بوسيلة ذلك، وبين هذين الصنفين صنف ثالث يبحث عن كل ما هو مفيد ونافع لشغل أوقاتهم، فبعد قيامها بحق ربها عز وجل ثم زوجها وبيتها نجدها كالنملة حيوية وحركة وعطاءً حسنًا مؤثرًا في الآخرين.
أختي المسلمة:
لقد أعطانا الله عمرًا وأمدنا بطاقات وقدرات، وأنعم علينا بالإسلام ومتعنا بنعمة الأمان والصحة والعلم وسعة الرزق, فنعم الله تحيط بنا من كل جانب: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
ولو سألت نفسك ما أكثر نعمة أنعمها الله عليك بعد الإسلام؟
هل هي نعمة المال أم الجمال أم الأولاد أم الصحة؟
الإجابة بعيدة كل البعد عن الأشياء التي ذكرتها، والجواب هو : نعمة الوقت.
الوقت نعمة كبيرة:
حقيقة الوقت من أكبر نعم الله على الإنسان حيث أعطانا الله وقتًا وزمنًا هذا الوقت هو عمرنا لماذا؟
للعمل والسعي والمسارعة إلى ما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة.
ـ هناك من الدلائل الكثيرة على عظم قيمة الوقت منها:
1ـ لقد أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالوقت في القرآن، ولا يقسم الله بشيء إلا إذا كان غاليًا وهامًا قال تعالى: { وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1ـ2].
و{ وَالْفَجْرِ[1]وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1ـ2].
2ـ إن كل شعائر الإسلام مرتبطة بالوقت كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، والحج والوقوف بعرفة.
3ـ وكذلك إقامة الحجة على الإنسان يوم القيامة مرتبطة بالوقت.
يقول تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. نعمركم: أي أعطيناكم عمرًا ووقتًا.
ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [[لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه ....]] الحديث
أي لا يدخل المرء جنة ولا نارًا حتى يُسأل عن عمره أي الوقت الذي أعطي له في الدنيا ماذا عمل فيه.
وهناك نسأل ما علاقة هذا الكلام بنا نحن الفتيات والنساء عمومًا؟
أريد أن أقول: إن رأس مال المرأة في الدنيا هو أنفاسها والوقت هو حياتها, والمصيبة الكبرى التي تقع فيها جميع النساء إلا القليل ـ هي أن الوقت عندها ليس له قيمة، بالرغم من أن الوقت هو الحياة.
وكلنا يعرف القول المشهور 'الوقت من ذهب'.
لا والله الوقت أغلى من الذهب ولا يقدر بثمن.
لذلك يقول الحسن البصري رحمه الله:
'كل يوم تشرق فيه شمس ينادي هذا اليوم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة'.
ويقول أيضا:
'يا ابن آدم إنما أنت أنفاس وأيام فإذا ذهب نفسك ويومك فقد ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل'.
ـ فاحرص أن تخرج أنفاسك في الدنيا في عمل مفيد في الحياة يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
'كل نفس وكل عرق سيخرج في الدنيا في غير طاعة الله أو فائدة في الحياة سيخرج يوم القيامة حسرة وندامة'.
وهذه قضية إيمانية لذلك يقول العلماء أن من علاقة غضب الله ومقته على العبد أن يكون مضيعًا لوقته، ومن علامة محبة الله للعبد أن يجعل شواغله أكثر من وقته.
بداية المعصية تبدأ بالفراغ:
إذا نظرنا بعين فاحصة لكل مشاكل النساء تجدها بسبب الفراغ، وما وقع النساء في الغيبة والنميمة وتصيد أخطاء الآخرين والخلافات وغير ذلك إلا وكان الفراغ وراء هذا الوقوع.
يقول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
إذن بداية المعصية تبدأ بالفراغ, وأكبر مثال حي وصادق على ذلك امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه وهذه معصية كبيرة كان وراءها الفراغ.
ونساء المدينة كن فارغات لا يفكرن إلا في الحديث عن قصة امرأة العزيز ويوسف ـ عليه السلام ـ.
وهنا يأتي السؤال فيم تضيع المرأة في هذا العصر وقتها؟
من أشكال الفراغ وتضيع الوقت بين النساء في هذا العصر:
ـ النوم لساعات الطويلة، قراءة المجلات التافهة بالساعات إن لم تكن فاضحة، التزين الزائد عن الحد، الذهاب للتسوق وبالساعات، مشاهدة التليفزيون والأفلام والمسلسلات والتقليب في القنوات الفضائية بالساعات، الحديث في التليفون مع الأصدقاء أوقات طويلة، والكلام بين الفتيات والشباب بالساعات في الإنترنت إما في كلام ليس له قيمة أو علاقات آثمة، فضلاً عن الخروج والفسح والأكل بالأربع ساعات في المطاعم ... وغير ذلك كثير.
الزينة حلال للمرأة .. ولكن:
وأرد لمن يرد في ذهنه أننا ضد الزينة للمرأة وأقول:(/1)
إن الوقت لهو الحياة وهو سريع الانقضاء، وما مضى منه لا يرجع، ولا يعوض بشيء، والمسلمة مطالبة بحفظ وقتها، فعليها أن تحرص على الاستفادة من عمرها، وصرف وقتها فيما ترجو نفعه، والمرأة التي تمضي الساعة تلو الساعة أمام المرآة لتجميل وجه، وتسريح شعر بصورة مبالغ فيها هي ممن أضاع الوقت، وفرط في العمر، لأن الإسلام جعل الزينة وسيلة لا غاية، وسيلة لتلبية نداء الأنوثة في المرأة، وللظهور أمام زوجها بالمظهر الذي يجلب المحبة ويديم المودة، ولكن يجب أن يكون ذلك بحد معين في الوقت والمال.
والإسلام كما يرفض إضاعة الوقت في الزينة فهو كذلك لا يرضى بإضاعته في البحث عن وسائل الزينة ومتابعة المستحدثات وكثرة ارتياد الأسواق.
صور ونماذج لكيفية استغلال الوقت:
تعالي معي لنرى كيف استفاد السابقون بأوقاتهم في عظائم الأمور ومفيدها:
المحاسبي:
انظري إلى المحاسبي وهو يقول: 'والله لو كان الوقت يشترى بالمال لأنفقت كل أموالي غير خاسر أشتري بها أوقاتًا لخدمة الإسلام والمسلمين فقالوا له: فممن تشتري هذه الأوقات؟ فقال: من الفارغين.
ابن عقيل:
وانظري إلى ابن عقيل وهو يقول: 'أنا الآن ابن الثمانين, والله أجد همة وعزمًا واستفادة من الوقت كما كنت وأنا ابن العشرين'.إني لا آكل الطعام كما تأكلون فقالوا له: فكيف تأكل؟
قال: إني لأضع الماء على الكعك حتى يصير عجينًا فآكله سريعًا حتى لا أضيع وقتي'.
لذلك استمرت هذه الأمة 1300 سنة لقيمة الوقت في حياتهم.
أسامة بن زيد:
وهذا أسامة بن زيد يقود جيشًا وعمره السادسة عشر ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عليه:
وإنه لخليق بالإمارة [أي يقدر عليها].
محمد الفاتح:
وهذا محمد الفاتح يفتح القسطنطينية التي استعصت على المسلمين عدة قرون يفتحها هو وعمره ثلاثة وعشرين سنة.
النووي:
كلنا يعرف النووي مؤلف كتاب رياض الصالحين هل تعرفين كم كتابًا ألف؟
لقد ألف خمسمائة كتاب ومات في الأربعين من عمره قبل أن يتزوج, وكانت أمه تطعمه وهو يكتب دون أن يشعر لكثرة مشاغله.
ابن رجب:
يقول ابن رجب: لقد كتبت بإصبعي هذا أكثر من ألفين مجلد.
يقولون: فبعد موته أخذنا كتب ابن رجب وقسمناها على عمره فكان نصيب اليوم من الكتب تسعة كتب.
هؤلاء كانوا يبنون أمة فنجحوا وأشرقت هذه الأمة.
والتاريخ الإسلامي يزخر بالعالمات من النساء والفقيهات والطبيبات والشاعرات, فهذه السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ يؤثر عنها أنها روت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث.
وكثير من النساء في ذلك الوقت كن يشغلن أوقاتهن فيما يفيد ولخدمة الإسلام والمسلمين.
الحل بيدك .. فبادري:
كيف تشغلين وقت فراغك فيما يفيد وينفع في الدنيا والآخرة؟
1. يقول تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[7]وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8].أي إذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ومع دوامة الحياة، فإذا فرغت من كل هذه الأعباء فتوجهي بقلبك كله إلى من يستحق أن تنصبي فيه، وتجتهدي من أجله.والمسلمة طالما احتسبت أعمال الدنيا لله تعالى بما فيها الترويح المباح الذي لا يأخذ من وقتها الكثير فهي في عبادة وهي في جهاد.فحاولي استغلال معظم لحظات حياتك في جلب الخير لك وللآخرين.
2. أشغلي نفسك بتحقيق أهداف ذات قيمة تشعرك بالحماس كحفظ سور من القرآن الكريم وقدرًا من الأحاديث النبوية، وتعلم أحكام فقهية تتعلق بالعبادات وكذلك قراءة الكتب المفيدة.
3. التحقي بدورة مفيدة [كمبيوتر ، أو تعلم لغة] أو تعلم مهارة تطورك في جانب تحبينه كالخياطة والتطريز والأعمال الفنية.
4. عليك بالدعاء فهو سهم الله النافذ، فعلى المرأة أن تدعو الله أن يشغلها بما يفيد وينفع في حياتها وفي مماتها، لأن النفس إن لم تشغليها بحق شغلتك هي بباطل.
5. مشاهدة البرامج المفيدة المتعلقة بالمرأة والنواحي الأسرية.
6. المبادرة إلى الخيرات كما أمرنا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] أي سارعوا إليها.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: [[بادروا بالأعمال [أي الصالحة] سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفنداً [أي موقعًا في الفند وهو كلام المخرف] أو موتًا مجهزًا [أي سريعًا] أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر]]. [رواه الترمذي].
هذه اقتراحات بسيطة وعليك أختي المسلمة التفكير فما يشغل وقت فراغك بما ينفع بيتك وأسرتك وحياتك ومماتك.
أعدي للسؤال جوابًا ... وعن عمرك فيما أفنيتيه؟(/2)
الوقف في ديار الغرب
فضيلة الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
قد طلب مني أن أكتب حول هذا الموضوع وهو موضوع له أهمية قصوى لأنه من أهم الوسائل للحفاظ على شخصية المسلمين في ديار الغرب والغربة وتوفير الظروف الملائمة لممارسة شعائرهم الدينية.
مقدمة:
إن هذا البحث المختصر عن الأوقاف في الغرب يرمى إلى إبراز أهمية الوقف في ديار الغرب.
ولهذا سنتحدث عن الأقلية المسلمة وهي المستهدفة من هذا البحث وعن معوقات الوقف الإسلامي في الغرب وحلول تشتمل على ضرورة مساعدة المسلمين وأهمية التضامن فيما بينهم.
تعريف للوقف في الإسلام مع مقارنة سريعة بنظام المؤسسة الوقفية fondation في الغرب "فرنسا أنموذجاً" لتكييف الوقف في ديار الغرب.
ضرورة تأقلم الوقف مع المحيط الغربي.
أولاً: الأقلية المسلمة:
إن مصطلح الأقلية مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول تسمية "فقه الأقليات" وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن ايرلندا.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك أحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
وهكذا فإن تنامي الوجود الإسلامي يطرح تحديات ومهمات جديدة قد تشكل الأوقاف أداة للقيام بها والتعامل مع تعقيداتها إذا أنشأت أوقاف إسلامية في مجالات متنوعة ومتعددة بالإضافة إلى المساجد والتي يسمونها في الغرب بدور العبادة ومؤسسات التعليم التي لها أهمية كبرى وبخاصة على مستويات التعليم الابتدائي والثانوي حيث تتشكل شخصية الفرد العقدية والخلقية خاصة بالإضافة إلى مشكلة منع الحجاب بالنسبة للفتيات في هذه المرحلة في بعض الدول الأوربية.(/1)
بالإضافة إلى التعليم الجامعي والعالي كمعهد العلوم الإنسانية في باريس الذي يرتاده طلاب من أوربا وكذلك المراكز الثقافية التي من خلالها يتاح القيام بأنشطة ثقافية من شأنها أن تحافظ على المقومات الثقافية والفكرية للمسلمين وتتكامل وظيفتها مع المعاهد والمساجد وهناك بعض المجالات المهمة الأخرى التي لم تصلها عناية المسلمين وهي مراكز الدراسة والبحث فقد تكوّن المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وله شعبة للبحث تصدر مجلة المجمع ونحن بحاجة إلى أوقاف في مجال البحث والفكر ودراسة المجتمعات والحوار... إلى آخره.
وكذلك تحتاج الأقليات إلى مؤسسات اقتصادية وثقافية فاعلة تجبر ضعفها وتقيم أودها وتحرس عقيدتها وتحافظ على أبنائها بتعليمهم أمر دينهم ولمساعدة المحتاجين والفقراء والمرضى منهم وبخاصة بعد أن تزايد أعداد المسلمين في الغرب ولم يعد وجودهم عابراً ولا عارضاً وإنما أصبح وجودهم يتصف بالديمومة والنمو حيث بلغ عددهم كما يراه بعض الباحثين يتجاوز ستين مليوناً في أمريكا وأوربا بين مسلمين أصليين في شرق أوربا ومسلمين جدد ووافدين وهناك مدن مرشحة لأن يكون عدد المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كمدينة ابريكسل البلجيكية عاصمة أوربا. وفي مدينة واحدة كمدينة باريس بلغ عدد المسلمين مليونين.
ثانيا:معوقات الوقف الإسلامي في الغرب
ويواجه الوقف في ديار الغرب جملة من المعوقات منها معوقات مادية :
المعوق الاول:
شح الموارد الذي كان من أسبابه الحملة الشرسة الموجهة ضد مؤسسات العمل الخيري مما جعل كثيراً من الخيرين يعزفون عن تقديم الأموال التي من شأنها أن تساعد في إنشاء أوقاف في الغرب وينصرفون إلى إنفاق ما ينفقون – إن أنفقوا- إلى بناء مساجد ودور أيتام في نطاق محيط جغرافي محدود جداً في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التنصيرية بإنفاق الأموال بسخاء لترسيخ دعوتها في البلاد الإسلامية وفي إفريقيا وآسيا بلا حدود ولا نكير.
ولهذا فإن هذا الموضوع ينبغي أن يدرج على جدول الحوار مع الجهات الغربية وكذلك أن يلفت انتباه الجهات الرسمية إلى أهمية المعاملة بالمثل في مثل هذه القضايا.
فالمسلمون كالجسد الواحد فلا يجوز أن نخذل الأقليات المسلمة التي هي جزء من الأمة الإسلامية وجسر للتواصل الحضاري مع الغرب وحلقة حيوية في حلقات العلاقة مع الغرب.
المعوق الثاني:
يتمثل في وجود بعض الخلل في التضامن والتعاون بين الأفراد والجمعيات الإسلامية في بلاد الغرب الأمر الذي يشكل عقبة تحول دون القيام بمجهود جماعي لإنشاء مؤسسات وقفية متعددة الخدمات على مستوى التحدي.
ومع ذلك فلا ينكر وجود حد من التضامن – ولله الحمد- في أكثر من منطقة.
المعوق الثالث:
النقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للوصول إلى أكبر قدر من استغلال الموارد الإنسانية والمالية المتاحة أو التي يمكن أن تتاح.
المعوق الرابع: هو التلاؤم مع النظم والقوانين الغربية إذ أن الأقلية المسلمة تعيش ضمن مجتمع غير مسلم خاضع لسلطان قوانين وضعية غالباً تختلف في أحكامها عن أحكام الشريعة التي تحكم الوقف الإسلامي بناء على طبيعته الخاصة التي أملت أحكاماً قد لا تتفق بشيء من الاجتهاد والانتقاء من الأقوال مع الأنظمة الغربية.
حلول:
لمواجهة هذه المعوقات يمكن أن نتصور بالنسبة للمعوق الأول: قيام جهات وقفية مهمة في العالم الإسلامي بتقديم دعم مادي كبير لمنظمات إسلامية معترف بها في بلاد المهجر لتنفيذ برنامج وقفي مسجل لدى الجهات الرسمية.
وأعترف أن هذا الحل يقتضي اتصالات مكثفة بين المنظمات الإسلامية المستفيدة والسلطات المختصة وبخاصة بعدما شرعت بعض الجهات في دول أوربية بتكوين مؤسسات تمويلية محلية لبناء دور العبادة والاعتناء بها في نطاق الحماية مما يسمى "بالأصولية الوافدة".
وبالنسبة للمعوق الثاني: فإن مزيداً من التوعية في صفوف المسلمين لإقناعهم بإدماج هيئاتهم في بعضها البعض حيث تقوم في الوقت الحاضر مؤسسات ومساجد على أساس عرقي وجهوي وأحياناً مذهبي وبالتالي لتكوين أوقاف ضخمة لمواجهة الحاجات وهناك بشائر منها الوقف الإسلامي الأوربي وهو حديث وهناك وقفية في أمريكا وقد قامت على أكثر من مائة وثلاثين مسجداً ويمكن للمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وللإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يقوما بدور طليعي في هذا المجال.
المعوق الثالث:
وهو المتعلق بالنقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للاستغلال الأمثل فيبدو لي أنه من الممكن التغلب عليه عن طريق تبادل الخبرات وتنظيم دورات للراغبين والتركيز على النماذج الناجحة لتكون قدوة ويمكن للأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت على دورات.
أما المعوق الرابع:
وهو فقهي قانوني فيجب لإيضاحه أن نبين طبيعة الوقف في الإسلام باختصار
تعريف الوقف :
الوقف وهو الحبس وهما لفظان مترادفان يعبِّر بهما الفقهاء عن مدلول واحد وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. [ شرح الرصاع 2/539] .(/2)
ويُطلق على ما وقف فيقال هذا وقف فلان أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج ويطلق على المصدر وهو الإعطاء .
وحده ابن عرفة بأنه : إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً.
ورد ابن عرفة ما حدّه به ابن عبد السلام : بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد مبطلا طرده بصورة المخدم.(مرجع سابق)
وحده في أقرب المسالك بأنه :جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس )[ الشرح الصغير للدردير4 /97] .
وعند أبي حنيفة: حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. [حاشية ابن عابدين 3 /357] .
وقال ابن قدامة: ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. [المغني 8 /184] .
وهو أقرب تعريف لنص الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه من حديث ابن عمر بلفظه وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعمر في المائة سهم التي أصابها في خيبر : "حبس أصلها وسبل ثمرتها".وأخرجه الدار قطني والبيهقي وصححه الألباني في إرواء الغليل .
الوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن يوجدوا فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة وللواقفين صدقة جارية يجرى عليهم أجرها ويدخر لهم ذخرها فيتلقون روحها في القبور ويوم الحشر والنشور .
ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقة جارية" في الأعمال الثلاثة التي يبقى أجرها ولا ينقطع درها بالموت حيث جاء في الحديث الصحيح :" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".أخرجه مسلم.
وفسرت الصدقة الجارية بالوقف وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى وغيره إن الوقف من خصائص هذه الأمة وأنه لم يكن معروفاً قبل الإسلام.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها منظومة كاملة تمثل سياجاً حول الوقف لسد ذرائع التدخل فيه ضد أيدي الحكام والنظار عن التغيير فيه والتبديل بله التفويت والتبذير.
ولهذا كان الإبدال والاستبدال والمناقلة والمعاوضة وترميم الوقف من وفره وغلته وقسمته مهايأة أو بتة كل ذلك كان محل عناية من الفقهاء أدت أحياناً إلى خلاف قسم الفقهاء إلى ثلاث مدارس هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد ، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين ، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة – صلبة إذا جاز الجمع بين الضدّين .
الفريق الأول:
يمكن أن نصنّف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلاّ في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد .
الفريق الثاني:
المتوسط يمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث:
الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الأحناف كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين بن تيمية وبعض متأخري المالكية .
ونحن هنا نتبنى هنا رأي مدرسة إعمال المصلحة في الوقف وتجيز المناقلة والمعاوضة وتتبنى التعريف المالكي للوقف الذي ذكرناه عن أقرب المسالك لأن الموقوف لا يشترط أن يكون عيناً باقية بل شيئاً مملوكاً حتى ولو كان منفعة مدة بقاء الإجارة وهو لا يمنع التوقيت في الوقف.
ومن أهم قضايا الوقف النظارة وبمراجعة أقوال علماء وبمراجعة أقوال علماء المذاهب الإسلامية فإن النظارة تدور على الواقف والناظر والقاضي والإمام "الحاكم المسلم" والموقوف عليهم وجماعة المسلمين.( يراجع كتابنا "إعمال المصلحة في الوقف" وبحثنا المقدم لهذا المنتدى حول النظارة)
والناظر يمكن أن يكون واحداً أو متعدداً كما نص عليه صاحب التوضيح الجامع بين المقنع والتنقيح في الفقه الحنبلي.
ولهذا فإن إدارة الجمعية تتمتع بالنظارة وكذلك مؤسسة الوقف التي ينضم إليها في النظام الفرنسي الجديد مفوض الحكومة.
ويستند في جواز الوقف على غير المسلمين كما ثبت عن أمنا صفية رضي الله عنها أوقفت على أخيها اليهودي.
كما يجوز الوقف على الكنائس قصداً للإنفاق على المار بها.( يراجع المغني لابن قدامة وغيره )
هذا في حال كان الوقف مؤسسة اجتماعية يستفيد منها المسلمون وغيرهم, وكذلك ما لو كان الوقف مؤسسة تعليمية تستقبل أطفال المسلمين وغيرهم لأن المصلحة هي المعيار الأهم.
أما في الحالة الغربية فهناك صور متعددة منها: أن تسجل جمعيةassociation للنفع العام لها الشخصية المعنوية القانونية وهذه الجمعية تدير أملاكها طبقاً لنظامها المؤسسي الذي قدمته في تصريحها ويمكن أن تجمع أموالاً من الجمهور كما يمكن أن تتلقى مساعدة من السلطات العمومية وتقبل الهدايا والوصايا.(/3)
وهناك المؤسسة الوقفية fondation وهي لا تختلف كثيراً عن نظام الجمعيات ذات النفع العام في مصادر تمويلها إلا أن هناك فرقاً مهما بالنسبة للقانون الفرنسي وهو أن العطايا المقدمة إلى المؤسسة الوقفية تخضع لترخيص إداري للسماح لها بتلقي التبرعات.
كما أن الاعتراف بالمؤسسة يكون بمرسوم من مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية في فرنسا.
وفي الختام:
لا بد من نظرة تأصيلية شمولية لواقع الأوقاف في الغرب وآفاق المستقبل لإيجاد الصيغ الملائمة التي تسمح برواج الأوقاف في المحيط الغربي مع المحافظة على أساسيات الوقف في الشريعة الإسلامية.
وأخيراً فإن مجالات الوقف الإسلامي في ديار الغرب عديدة وأهمها: المجال الدعوي والمجال التربوي والمجال الاجتماعي ومجال البحث العلمي كما شرحه بإسهاب الدكتور عبد المجيد النجار في بحثه:" مقاصد الوقف في الغرب".
وقد يكون من المناسب إجراء كشف لحاجات المسلمين في هذه المجالات.
والله ولي التوفيق.(/4)
الوقف والابتداء في القرآن
روى البيهقي في "سننه" والحاكم في "مستدركه" عن القاسم بن عوف قال: سمعت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، يقول: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، فينثره نثر الدقل) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي؛ و"الدقل" رديء التمر ويابسه.
هذا الأثر المروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يحمل دلالات عدة، نقتصر منها هنا على الحديث عن أهمية معرفة الوقف والابتداء في قراءة القرآن، وهو إحدى الدلالات المستفادة من هذا الأثر.
ووجه الدلالة فيما ذكرنا أن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين، كانوا يتعلمون الوقف والابتداء كما يتعلمون القرآن، هذا أولاً؛ وأيضًا فإن في قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: (..لقد عشنا برهة..) ما يفيد على أن ذلك كان إجماعًا من الصحابة - رضي الله عنهم -.
ويؤكد ما نحن بصدد الحديث عنه ما روي عن علي - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) قال: الترتيل: تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. وقال بعض أهل العلم في هذا المعنى: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء به.
وقد تواتر عن سلف هذه الأمة وخلفها تعلُّم هذا الفن، والاعتناء به أشد العناية، إذ من دونه لا يُفهم القرآن الفهم الصحيح، وبغيره لا يمكن استنباط الأحكام والمقاصد على وجه معتبر؛ ومن ثَمَّ اشترط أهل العلم على المجيز لقراءة القرآن ألاَّ يُجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء؛ وذلك لأهمية ما ذكرنا، واعتبارًا لما قررنا. وصح عن الشعبي أنه قال: إذا قرأت قوله - تعالى -: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26) فلا تسكت حتى تقرأ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} (الرحمن: 27) ووجه النهي واضح، لما يترتب على ما ذُكر من فساد في المعنى، وهو ما ينبغي أن يُجلَّ القرآن عنه.
ومن هذا القبيل أيضًا، الوقف على قوله - تعالى -: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (البقرة: 120) ومن ثَمَّ الابتداء من قوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة: 120) ووجه فساد المعنى في حالة الوقف واضح، كما لا يخفي بأدنى تأمل.
ثم إن لأئمة هذا الشأن اصطلاحات خاصة في الوقف والابتداء، حاصلها أن الوقف على ثلاثة أوجه، وإن شئت قل: على ثلاثة أنواع: وقف تام، ووقف حسن، ووقف قبيح، وهاك شيئًا من التفصيل في ذلك:
فالوقف التام: هو الوقف الذي يحسن الوقوف عليه والابتداء بما بعده، ويكون ما بعده غير متعلق بما قبله، ويُمثل لذلك بقوله - تعالى -: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) وقوله - تعالى -: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) وهذا الوقف أكثر ما يكون عند رؤوس الآيات، وانتهاء القصص.
والوقف الحسن: هو الوقف الذي يحسن الوقوف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، ويُمثل له بقوله - تعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} (الفاتحة: 2) فالوقف عليه حسن ومقبول، لأن المراد من ذلك يفهم؛ إلا أن الابتداء بما بعده، وهو قوله - تعالى -: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) لا يحسن، لكونه صفة لما قبله، فهو متعلق به، لتعلق الصفة بالموصوف؛ وكذلك الوقف على قوله - تعالى -: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبحين} (الصافات: 137) ثم الابتداء بقوله - تعالى -: {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الصافات: 138) لارتباط المعنى في الآية الثانية بما قبله.
أما الوقف القبيح: فهو الوقف الذي ليس بتام ولا حسن، ولا يفيد المعنى المقصود؛ ويُمثل لهذا النوع من الوقف بقوله - تعالى -: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (الماعون: 4) وقوله - تعالى -: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء: 43) لما في ذلك من فساد في المعنى، ومخالفة لما هو من معهود الشرع الحنيف.
على أن للعلماء تقسيمات أُخر في هذا المجال، أعرضنا عنها، ونحيل طالبها إلى مكانها من كتب هذا العلم، إذ ليس هذا المقام مقاماً لها.
لكن من المفيد الإشارة هنا إلى مصطلح يُطلق عليه "الوقف الاضطراري" وهو مقابل لمصطلح "الوقف الاختياري" والمقصود من هذا المصطلح، أنَّ القارئ للقرآن الكريم إذا اضطر إلى أن يقف على موضع غير مناسب؛ لِضِيْقٍ في نَفَسه، أو انقطاع فيه، فإن له ذلك، لكن عليه أن يعاود الاستئناف من موضع يصح الابتداء به، ليستقيم المعنى، ويرتبط أول الكلام بآخره.(/1)
على أن الضابط في هذا الفن لَحْظُ المعنى، فهو المبتدأ وإليه المنتهى، فحيثما كان المعنى مستقيماً جاز الوقف أو الابتداء، وحيثما أدى الوقف أو الابتداء إلى فساد في المعنى وجب المنع من ذلك.
أما الابتداء فلا يكون إلا اختياريًا؛ لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة، فلا يجوز إلا بمستقل بالمعنى، وافٍ بالمقصود، وهو في أقسامه كأقسام الوقف المتقدمة.
ومن أهم الكتب التي كتبت في هذا الفن، كتاب "الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء" لمؤلفه ابن الجزري، المتوفى (833هـ) - رحمه الله -.
ومن المناسب هنا، التنبيه إلى أن فن الوقف والابتداء لا ينبغي الاقتصار في تحصيله على ما جاء في مؤلفات أهل العلم، بل لابد - وهو الأهم - من تلقي هذا الفن عن أهل هذه الصناعة وأربابها، إذ عليهم التعويل في هذا الشأن أولاً وآخراً، وإليهم المرجع في ضبط وإتقان هذا الفن.
نسأل الله الكريم أن ينفعنا بالقرآن العظيم، ويجعلنا من أهله المقربين يوم الدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير المرسلين.
الثلاثاء: 30/03/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
الوقوف للمسؤولين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 20/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي يا فضيلة الشيخ هو: ما حكم إجبار حراس الأمن على الوقوف لبعض أصحاب المناصب بالدوائر الحكومية؟ وجزاكم الله ألف خير، ورحم الله والديكما.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
جاء في الحديث عند أحمد (16830) وأبي داود (5229 والترمذي (2755): "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرجلُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ". فالنهي منصب على رضا ومحبة من يقام أو يوقف له، وليس على القائم والواقف إذا كان يكره ذلك في نفسه.
كما أنه ليس على الآمر للحارس بالوقوف شيء إذا كان يراه إكرامًا وتقديرًا للزائر والعميل، حتى إنها أصبحت كالعادة المألوفة في كثير من المجتمعات، لا يستحضر فيه الحارس والبواب والآمر معنى العبادة والتقديس، وإنما قد يوجد عند بعض ضعاف النفوس من الكبراء والعسكريين من أصحاب المناصب والمقامات، وهؤلاء هم المعنيون بالحديث النبوي لا غير.
والخلاصة: لا شيء على الحارس والبواب ونحوهما إذا قاما أو وقفا لأحد، والأولى عدمه، وإن كان المرء مكرهًا أو مجبرًا فلا شيء عليه أصلًا. والحمد لله. وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
الولاء والبراء
(الشبكة الإسلامية)
من خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء ، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين .
وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً ، تسوده روابط المحبة والنصرة ، التي تعمل مجتمعة على تحقيق رسالة الإسلام في الأرض ، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
والمتأمل في القرآن الكريم يقف على آيات كثيرة تؤيد هذا المعنى وتؤكده ، فنحن نقرأ في الولاء ، قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71 ) ونقرأ أيضاً قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (المائدة:55) ،ونقرأ في البراء قوله : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } (آل عمران:28) ، ونقرأ كذلك قوله : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون }َ (المجادلة:22) . إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين .
ويمكن تلخيص صور ولاء المسلم لأخيه المسلم في صورتين:
الأولى: ولاء الود والمحبة ، وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه . بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ،مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم .
الثانية: ولاء النصرة والتأييد ، وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف ، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم ، يدفع عنه الظلم ، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قالوا يا رسول الله : هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه ) أي تمنعه من الظلم . رواه البخاري ، فبهذا الولاء يورث الله عز وجل المجتمع المسلم حماية ذاتية ، تحول دون نشوب العدوات بين أفراده ، وتدفعهم جميعا للدفاع عن حرماتهم ، وعوراتهم .
هذا من جهة علاقة الأمة بعضها ببعض . أما من جهة علاقة الأمة أو المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات الكافرة ، فقد أوجب الله عز وجل على الأمة واجب البراء من الكفر وأهله ، وذلك صيانة لوحدة الأمة الثقافية والسياسية والاجتماعية ، وجعل سبحانه موالاة الكفار خروجا عن الملة وإعراضاً عن سبيل المؤمنين ، قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } ( آل عمران:28) فكأنه بموالاته للكافرين يكون قد قطع كل الأواصر والعلائق بينه وبين الله ، فليس من الله في شيء .
وتحريم الإسلام لكل أشكال التبعية للكافرين , لا يعني حرمة الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم ، كلا ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها ، ولكن المقصود والمطلوب أن تبقى للمسلم استقلاليته التامة ، فلا يخضع لأحد ، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين .
ومن أخطر صور الموالاة التي يحرمها الإسلام ويقضي على صاحبها بالردة والكفر ما يلي:
1- ولاء الود والمحبة للكافرين:(/1)
فقد نفى الله عز وجل وجود الإيمان عن كل من وادَّ الكافرين على كفرهم قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (المجادلة:22) ، إلا أن هذه المفاصلة والمفارقة لا تمنع من البر بالكافرين والإحسان إليهم -ما لم يكونوا محاربين - قال تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة:8 ) .
2- ولاء النصرة والتأييد للكافرين على المسلمين:
ذلك أن الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع الكافر ضد إخوانه المسلمين يقتلهم ، ويشردهم ، إرضاء للكافر وانصياعا لرغباته ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً } (النساء:144) وقال أيضاً : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (المائدة:81 ) .
فهاتان الفريضتان - الولاء والبراء - تجعلان من المجتمع المسلم مجتمعا مترابطا متعاضدا يؤدي رسالة الله ويسعى في تحقيقها ، وهو في الوقت نفسه مجتمع مستقل عن الكفار كاره لهم ، لا يخضع لهم بتبعية ، ولا يدين لهم بسلطان ، من غير أن يمنعه ذلك من الإحسان إليهم والبر بهم - ما داموا غير محاربين لنا - .
فبهاتين الفريضتين تتعاضد الروابط الإيمانية بين المسلمين ، وتتحدد الروابط بين المؤمنين والكافرين ، فما أحوج الأمة اليوم إلى تفعيل هاتين الفريضتين ، والعمل بهما حتى تتحقق لنا سيادتنا واخوتنا ، فلا ندين بالولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولا نعادي إلا من حادَّ الله ورسوله وتنكب سبيل المؤمنين ، نسأل الله العظيم أن يعز دينه وأن يعلي كلمته ، والله على كل شيء قدير . والحمد لله رب العالمين .
http://www.islamweb.netالمصدر(/2)
الولاء والبراء بين العلم والحال في نازلة الزمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أما بعد:
فالمقصود من عنوان هذه المقالة: التفريق بين من يعلم حقيقة التوحيد ، ومقوماته ، وأنواعه ونواقضه مجرد علم نظري مع ضعف في تطبيقه والتحرك به ، وبين من يجمع مع العلم العمل والتطبيق ، وظهور آثار التوحيد في حاله وأعماله ومواقفه .
ويدخل هذا تحت ما سماه الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – بالقوة العلمية والقوة العملية، حيث ذكر أن الناس مع هاتين القوتين أربعة أقسام :
01 فمن الناس من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ، ومنازلها، وأعلامها، وعوارضها ومعاثرها ، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ، ويكون ضعيفاً في القوة العملية ، يبصر الحقائق ، ولا يعمل بموجبها ، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها ، فهو فقيه ما لم يحضر العمل ، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف ، وفارقهم في العلم ، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم ، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله .
02 ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه ، وتقتضي هذه القوة السير ، والسلوك ، والزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، والجِد ، والتشمير في العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات ، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ، فَداءُ هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله ، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم.
03ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ، ورُجي له النفوذ ، وقوي على رد القواطع والموانع - بحول الله وقوته - ، فإن القواطع كثيرة شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد ، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها ، ولكن الله يفعل ما يريد ، والوقت -كما قيل - سيف فإن قطعته وإلا قطعك .
04 فإذا كان السير ضعيفاً ، والهمة ضعيفة ، والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة ، فإنه جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وشماتة الأعداء ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب ، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع ، والله ولي التوفيق طريق الهجرتين ( 335، 336) طبعة الشؤون الدينية القطرية.
وقد زاد – رحمه الله تعالى – هذا المعنى وضوحاً عندما تحدث عن التوكل ، وحقيقته ، والفرق بين مجرد العلم به وبين التحرك به عملاً وحالاً ، حيث قال : " فكثير من الناس يعرف التوكُّل وحقيقته وتفاصيله ، فيظن أنه متوكل ، وليس من أهل التوكل ، فحال التوكل : أمر آخر من وراء العلم به ، وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها ، وحال المحب العاشق وراء ذلك ، وكمعرفة علم الخوف ، وحال الخائف وراء ذلك ، وهو شبيه بمعرفة المريضِ ماهيةَ الصحة وحقيقَتها وحاله بخلافها .
فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق ، والعوارض بالمطالب ، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " مدارج السالكين 2/125ا.هـ .
وحري بهذا الكلام أن تعقد عليه الخناصر، وتعض به النواجذ ، وأن يهتم به المربُّون مع أنفسهم ومن تحت أيديهم ، فلقد كان من مضى من العلماء الصالحين الربانيين يخافون على أنفسهم من الضعف العملي ، أو ضعف الحال مقابل ما عندهم من العلم الكثير ، وكانوا لا يركنون إلى شهرتهم العلمية ، بل كانوا يكرهون أن يتضخم علمهم ويشتهروا به بين الناس وليس في قلوبهم وأحوالهم ما يكافئ ذلك من الأعمال الصالحة ، والأحوال الشريفة ، والتي هي مقتضى الفهم والعلم .(/1)
ولنا أن نتساءل ونفكر ، أيهما أسعد حالاً ومنزلة عند الله – عز وجل - رجل أوتي من العلم ما يتمكن به من حشد النصوص الدالة على فضل قيام الليل والأسباب المعينة على ذلك ثم هو لا يقوم الليل ، وآخر لا يعلم من ذلك إلا أن قيام الليل مستحب وأجره عظيم فاجتهدَ ليلة بين يدي ربه – تعالى – ساجداً وقائماً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ؟ فالمرء لا يكون قائماً الليل بمجرد علمه بفضل ذلك وأحكامه ، ولا يكون ورعاً بمجرد علمه بالورع، ولا يكون صابراً بمجرد علمه بالصبر وتعريفاته وأنواعه ، ولا يكون متوكلاً بمجرد علمه بالتوكل وأقسامه ، وفرق بين علم الحب وحال الحب ، فكثيراً ما يشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده ، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال ، وهو مثخن مريض، وبين الصحيح السليم ، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها ، وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده ، وإياك أن تظن أن مجرد العلم بهذا الشأن قد صرت من أهله هيهات، مما أظهر الفرق بين العلم بوجوده الغني وهو فقير وبين الغني بالفعل انظر زاد المهاجر ص26 ، طريق الهجرتين ص 196 بتصرف .
وبعد هذه المقدمة التوضيحية لمصطلح العلم والحال أدخل في صلب الموضوع الذي بات يؤرق كل مسلم صادق ، ويشغل بال كل موحِّد لله – عز وجل – ، وذلك في هذه الأيام العصيبة التي نزلت فيها بأمة الإسلام ، نازلة عظيمة ، وداهية دهياء أجمعت فيها أمم الكفر وتحالفت فيما بينها تحالفاً لم يسبق له نظير في التاريخ ، فإن أقصى ما كنا نسمعه من تحالف على المسلمين فيما مضى من تاريخهم أن يتحالف النصارى مع بعضهم أو الوثنيون مع بعضهم، أما في نازلة اليوم فلقد تحالفت النصارى بشتى طوائفهم مع اليهود والعلمانيين والوثنيين والبوذيين والشيوعيين الملاحدة ، وكلهم يريد شفاء غيظه من الإسلام والمسلمين ، ووجهوا جيوشهم، وأساطيلهم، وطائراتهم، وأسلحتهم المتطورة إلى دولة أفغانستان المسلمة ، وكل ذنبها أنها تحكم بالإسلام وترفض التبعية لشرق أو لغرب، وتعلن ولاءها لله – عز وجل – ولدينه وللمسلمين ، كما تعلن براءتها من الكفر والكافرين ، وإن مما يقض المجتمع ويثير الأشجان أن يغيب كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم عن هذا الحدث الذي تمتحن فيه العقيدة وبخاصة الأصل الأصيل لكلمة التوحيد ألا وهو " الولاء والبراء ، والذي هو واضح في هذا الصراع غاية الوضوح وجلي أشد الجلاء . وأن المسلم ليحتار ويتساءل : أين ما كنا نتعلمه من ديننا وعقيدتنا من كلمة التوحيد إنما تقوم على الولاء والبراء ، الولاء لله – عز وجل – وعبادته وحده ومحبة ما يحبه ومن يحبه والبراء من الشرك وأهله ومن كل ما يبغضه - سبحانه - ومن يبغضه ، وإعلان العداوة ، له وهذه هي وصية الله – تعالى – لهذه الأمة " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده" [ الممتحنة : 4]. إي والله إنه لسؤال محير : أين دروس المساجد ؟ وأين محاضرات أهل العلم ، وأشرطتهم المسجلة، وبيانهم للناس فيها عقيدة التوحيد القائمة على الولاء والبراء ؟ أين الاعتزاز بدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده ، والذين كان جل كلاهم ورسائلهم في شرح هذه العقيدة ولوازمها والتحذير مما يخالفها وينقضها ؟ أين نحن ، وأين علماؤنا من بيان هذا الحق الأصيل للناس ؟! أين هم عن ذلك والأمة تمر في ساعات عصيبة تحتاج مَنْ يبعث فيها عقيدة الولاء والبراء ، وبناء المواقف في ضوئها ؟(/2)
وهنا أعود إلى عنوان هذه المقالة بعد أن تبين لنا معناها ، وأقول : إن هناك فرق بين تناول التوحيد كعلم مجرد وبين أخذه علماً وحالاً وسلوكاً ، إن المواقف المتخاذلة اليوم أمام أمريكا الكافرة وحلفائها ، وعدم الصدع والجهر بعداوتها والبراءة منها ومن يتولاها لهو أكبر دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد ، أما أخذه علماً وحالاً وعملاً فإنه - ويا للأسف - أصبح مغيباً عن الأمة ، ومغيباً عن المواقف والممارسات . إن هذا الدين يرفض اختزال المعارف الباردة في الأذهان المجردة . إن العلم في هذا الدين يقتضي العمل ، ويتحول في قلب المسلم إلى حركة وأحوال ومواقف ، إذ لا قيمة للمعرفة المجردة التي لا تتحول لتوِّها إلى حركة ومواقف . نعم ، لا قيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها ومعاهدها ، ولا قيمة لاكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه المعارف إن لم يصحبها عمل ومواقف . إن العلم المجرد حجة على صاحبه إذا لم يقتضِ عنده العمل . إن العلم بالدين لابد أن يزاول في الحياة ، ويطبق في المجتمع ، ويعيش في الواقع ، وإلا فما قيمة الدروس المكثفة عن الولاء والبراء وأنواعه ، وما يضاده من الشرك وما ينقضه من النواقض ، ثم لما جاءت المواقف التي نحتاج فيها إلى تطبيق ما تعلمناه من مشائخنا فإذا بالسكوت ، بل والتشنيع على من ترجم ما تعلمه إلى سلوك وحال مع أعداء الله – عز وجل – فأعلن براءته وصرَّح بما تعلمه من علمائه ومشائخه من أن تولي الكفار ومناصرتهم على المسلمين رِدَّة وناقض من نواقض الإسلام . إن شأن التوحيد شأن عظيم من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، وقام سوق الجهاد وسوق الجنة والنار ، ومن أجل الولاء والبراء – الذي هو أس التوحيد وركنه الركين – هاجر المسلمون السابقون الأولون من ديارهم ، وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وفاصلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشائرهم الذين ليسوا على دينهم متمثلين في ذلك قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ، قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" [ التوبة :23-24].
إذن ، فمسألة الولاء والبراء ليست مسألة ذهنية نظرية تدرس لمجرد الدراسة والثقافة ، ولكنها مسألة خطيرة متى ما استقرت في قلب المؤمن الصادق فإنها تجعل منه رجل عقيدة باطناً وظاهراً قلباً وقالباً يتحرك بعقيدته يوالي من يواليها ، ويعادي من يعاديها ، ويهاجر ويجاهد في سبيل الله من أجلها ؛ إنه لا قيمة للمعرفة التي لا تتحول إلى عمل وحركة ومواقف ، ولا قيمة للدراسات الإسلامية والبحوث العقدية ، واكتظاظ أرفف المكتبات والأدمغة بها إن لم تزاول هذه العلوم والدراسات في الحياة ، وتطبق في المجتمعات ، وتحدد في ضوئها العلاقات، وتتمثل في حركة و مواقف يواجه بها الباطل وأهله .
والمقصود : بيان أن شأن الولاء والبراء شأن عظيم ، وأنه ليس علماً مجرداً ، بل يجمع إلى ذلك المقصود عمل القلب وبراءته من الشرك وأهله ، وإعلان ذلك ، وإظهاره باللسان ، وترجمة ذلك إلى عمل وجهاد وسلوك . أما أن يبقى رهين الكتب والأدمغة فإن هذا مما لا يتفق مع طبيعة هذا الدين الذي هو جد كله ؛ لأنه قول القلب وعمله ، وقول اللسان وعمل الجوارح، ولما كانت عقيدة الولاء والبراء هي صلب كلمة التوحيد ، وأنها تستلزم أقوالاً وأعمالاً ومواقف وبذلاً وتضحيات اهتم بها السلف اهتماماً عظيماً ، وعلموها لأولادهم ، وتواصوا بها ، وهاجروا ، وجاهدوا من أجلها ، وعادوا، ووالوا على أساسها . يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى- : "فاللهَ اللهَ إخواني : تمسّكوا بأصل دينكم أوله وآخره أسّهِ ورأسه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، واعرفوا معناها وأَحِبّوا أهلها ، واجعلوهم إخوانكم ، ولو كانوا بعيدين ، واكفروا بالطواغيت ، عادوهم ، وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم ، أو قال : ما عليّ منهم ، أو قال ما كلفني الله بهم ، فقد كذب على الله وافترى، بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم ، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه وأولاده ، فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً" الدرر السنية 2/119.(/3)
وقال في موطن آخر : "إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله ، والموالاة في الله ، والمعادات فيه قبل تعليم الوضوء والصلاة ؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة صلاته ولا صحة لإسلامه – أيضاً – إلا بصحة الموالاة والمعادات في الله" الرسائل الشخصية ص 323. ولما تواجه المسلمون في تاريخهم الطويل مع أعدائهم الكافرين بشتى مللهم برز دور العلماء في وقتهم ، وهم يحرِّضون على نصرة المسلمين وإعانتهم على الكافرين ويحذرون من تولي الكافرين ، ومناصرتهم بأي نوع من أنواع النصرة ، ويفتون بأن من ظَاهَر الكافرين على المسلمين فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام . فهذا الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – قال عن بابك الخرّمي عندما خرج على المسلمين وحاربهم وهو بأرض المشركين : " خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم بأرض الشرك ، أيّ شيء حكمه ؟ إن كان هكذا فحكمه حكم الارتداد" ( الفروع 6/163).
وعندما هجم التتار على أراضي الإسلام في بلاد الشام وغيرها أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – برِدِّة من قفز إلى معسكر التتار من بعض المنتسبين إلى الإسلام ( الفتاوى 28/530) .
وعندما هجمت جيوش المشركين على أراضي نجد لقتال أهل التوحيد ، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام ، وذلك بين عامي 1223 – 1226 أفتى علماء نجد بردة من أعانهم ، وألف الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ كتاب (الدلائل) في إثبات كفر هؤلاء .
وفي أوائل القرن الرابع عشر أعانت بعض قبائل الجزائر الفرنسيين ضد المسلمين ، فأفتى فقيه المغرب أبو الحسن التسولي بكفرهم. (أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبد القادر الجزائري ص 210) .
وفي منتصف القرن الرابع عشر اعتدى الفرنسيون والبريطانيون على المسلمين في مصر وغيرها فأفتى الشيخ أحمد شاكر بكفر من أعان هؤلاء بأي إعانة (كلمة حق : ص 126 وما بعدها ) وعندما استولى اليهود على فلسطين في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام أفتت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم عام 1366هـ بكفر من أعانهم ، وفي عصرنا الحاضر ، وعندما نزلت نازلة الزمان اليوم ، وتحالفت قوى الكفر على حرب دولة أفغانستان المسلمة بقيادة طاغوت العصر أمريكا ، ومن حالفها من النصارى والشيوعيين والوثنيين والمنتسبين إلى الإسلام من الزنادقة والمنافقين لم تعدم الأمة من قائل للحق وصادع به من علمائها الربانيين في بلاد الإسلام عرضاً وطولاً" حيث أفتوا جميعهم بأن من أعان أمريكا وحلفاءها من الكفرة والمنافقين على حرب أفغانستان المسلمة فإنه بذلك يخرج من دائرة الإسلام ويحكم بردته ، ودعموا فتاويهم بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف في تفسير بعض الآيات التي تنهى عن تولي الكافرين كما في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ المائدة : 51] ومن هؤلاء العلماء علماء المغرب ، ومفتي باكستان ( نظام الدين شامزي ) وعلماء اليمن وغيرهم من علماء البلدان الإسلامية، ومن بلاد الحرمين الشيخ حمود العقلا ، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ، والشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ سفر الحوالي ، وغيرهم من العلماء وطلبة العلم - حفظ الله الجميع ورعاهم - .
وفي الوقت الذي فرحنا فيه بهذه الفتاوى التي صدعت بالحق وقالته في وقته الذي يجب أن يقال فيه فإنه في الوقت نفسه قد أحزننا غياب بعض العلماء عن هذه النازلة التي تنتظر فيها الأمة قول علمائها والصدع بالحق فيها ، مع أن هذه النازلة من الوضوح بحيث لا يرد على العالم فيها لبس ولا شبهة حتى يقال : إن هناك تردد وتوقف يبرر به السكوت والإحجام ، ويزداد الحزن والألم حينما نسمع من بعض العلماء أو طلبة العلم ، من يتأول بعض النصوص وينزلها في غير مكانها من دون تخريج ، ولا تنقيح ، ولا تحقيق لمناطاتها ، حيث آل به الأمر إلى فتوى خطيرة مفادها: أن أمريكا الكافرة وحلفاءها ؛ إنما جاءوا لإقامة العدل ومحاربة الإرهاب والظلم فيجوز مساعدتها على ذلك .. !!! سبحانك هذا بهتان عظيم . ومتى عرفت أمريكا العدل وتاريخها كله ظلم وعدوان ، وهل جاءت لإقامة العدل أم لتعلنها حرباً صليبية على لسان شيطانها الأكبر ( بوش ) .(/4)
إننا ننصح علماءنا هؤلاء بأن يُتابعوا الأخبار ليطلعوا على الأطفال والنساء والشيوخ المسلمين الذين مزقت أجسادهم صواريخ كروز والقنابل الانشطارية ، ثم يقوموا لله ويسألوا أنفسهم هل هذا هو العدل الذي جاءت أمريكا لإقامته ، وهل هؤلاء الأبرياء هم الإرهابيون الذين زعمت أمريكا أنها تحاربهم ؟ يا علماءنا هؤلاء اتقوا الله في أنفسكم ، فلا تظلموها وتعرضوها لسخط الله – تعالى- فإن هذا الموقف منكم له ما بعده في الدنيا والآخرة وستكتب شهادتكم وتسألون . واتقوا الله في أمتكم ، فلا تكتموا عنها الحق ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون أولا تعلمون .
ويا ليتكم سكتم إذ لم تقدروا على قول الحق فهو أخف أثماً من قول الباطل . وإننا نناشدكم ونقول : ارحموا شباب الصحوة ، وأشفِقوا عليهم من المواقف المخذلة والفتاوى المتسرعة ، فإن الشباب المسلم إن لم يجدوا فيكم من يلتفُّوا عليه ، ويسمعهم الحق ويصدع به فإنهم سيذهبون إلى بعضهم ويجتهدون لأنفسهم ؛ مما قد يكون فيه فتنة وفساد. وحينئذٍ ستلومونهم وتشنِّعون عليهم، مع أنكم من بين الأسباب التي قد تدفعهم إلى التسرع وعدم الانضباط؛ وذلك بعدم إسماعهم ما يجب عليكم قوله في هذه النازلة العظيمة ، أو إسماعكم لهم أقوالاً غريبة تجرح شعور كل مسلم يحب المؤمنين ، ويعادي الكافرين .
وأخيراً ، أقول لكل عالم لم يصدع بكلمة الحق في هذه النازلة ، ولكل مسلم متردد تحت تأثير ما يسمع من الشبهات ، أقول : إن ما يحصل على أرض أفغانستان المسلمة من الوضوح والجلاء ، بحيث لا يدع عذراً لعالم أن يسكت عن قول الحق ، فضلاً عن أن يخذل أو يعوق، ولا يدع مجالاً لمتردد أن يتردد .
إن ما يحصل هناك إنما هو حرب صليبية على الإسلام والمسلمين ، حرب تميز الناس فيها إلى فئتين متقابلتين : فئة مسلمة تحكم بالإسلام في أفغانستان ، ولا ترضى بغيره بديلاً ، وفئة أخرى كافرة تقودها أمريكا الكافرة الصليبية مع أحلافها من النصارى واليهود والشيوعيين والبوذيين والمنافقين ، فمع أي الفئتين يضع المسلم نفسه ، وفي أيِّ الخندقين يجب أن يكون ، أفي خندق الكفر الحاقد على الإسلام وأهله أم في خندق الإسلام وأهله ؟ أفي ذلك غموض واشتباه ؟ إنه والله لا غموض فيه ولا لبس . وإن الأمر جِدُّ خطير ، وامتحان للتوحيد في قلب المؤمن القائم على عبادة الله وحده والكفر بما سواه والموالاة والمعاداة فيه .
وأخيراً : أطرح سؤالاً صريحاً لكل مخذل أو متردد ألا وهو : ما تقولون في جهاد الأفغان ضد الروس في العقود الماضية ؟ وأجزم بأن الجواب عندهم : إنه جهاد إسلامي بين المجاهدين المسلمين ، وبين الروس الكفرة الملحدين ، ولا أظن عندهم جواباً غيره لأن علماء بلد الحرمين قد أفتوا بذلك وحرضوا على الجهاد بالمال والنفس آنذاك ومنهم الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى- وحينئذٍ نقول : فما الذي تغير في هذه الحرب الجديدة بين الأفغان وأمريكا الكافرة . إنه لم يتغير إلا وجه الكافر ، بل إن الكافر الروسي الذي حاربه المسلمون في الحرب الأولى هو الآن متحالف مع أمريكا وحلفائها في ضرب المسلمين في أفغانستان ، فلماذا تغيرت المواقف ؟ إن الواجب بالأمس هو الواجب اليوم ، هذا إن كنا ننطلق من عقيدة الولاء والبراء التي لا تتغير بتغير وجوه الكافرين . أما إن كنا ننطلق من الألاعيب السياسية وأهواء الحكام وتلبيس الإعلام فلنراجع إيماننا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/5)
الولاء والبراء في نفس الداعية
إن المتأمل في كتاب الله - عز وجل - وفي واقع الدعوة إلى الله - عز وجل- يرى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الدعوة إلى الله - تعالى - والجهاد في سبيله
وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية . فكلما قوي شأن الدعوة وقوي شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الداعية المخلص لربه كلما قويت هذه العقيدة في نفسه ، وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته حتى يصبح على استعداد لأن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك ؛ بل إن هذه العقيدة -أعني عقيدة الولاء والبراء - لتبلغ ذورة السنام في قلب الداعية وتنعكس على مواقفه ، وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب ؛ قال الله - تعالى - : { والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71] . وقال - تعالى - : { إن الذين امإنَّ الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [الأنفال : 72] . والعكس من ذلك واضح ومُشاهَد ؛ فما من داعية فترت همته وضعف نشاطه ومال إلى الدنيا وأهلها إلا ظهر الضعف عنده في عقيدة الولاء والبراء ، ويستمر
الضعف والتنازل تبعاً لضعف الاهتمام بشأن هذا الدين حتى يصل إلى مستوى بعض العامة من الناس الذين لا هم لهم إلا الدنيا ومتاعها الزائل ، ولو نوزع في شيء من دنياه لهاج وماج ، أما أمر دينه ودعوته فلا مكان لذلك عنده فمثل هذا الصنف تصبح عقيدة الولاء والبراء في قلبه ضعيفة ورقيقة سرعان ما تهتز أو تزول عند أدنى موقف . ولعل في هذا تفسيراً لتلك المواقف المضادة للعقيدة التي نراها من أولئك البعيدين عن الدعوة والجهاد ، كتلك المواقف التي تظهر فيها أثر القوميات والوطنيات والقبليات على نفوس هؤلاء الذين يعقدون ولاءهم وبراءهم وحبهم وعداوتهم على هذه الرايات الجاهلية ، وليس على عقيدة التوحيد والإسلام والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تدرس وتحفظ في الذهن المجرد ؛ بل هي عقيدة عمل ومفاصلة ، ودعوة ومحبة في الله ، وكره من أجله وجهاد في سبيله ؛ فهي تقتضي كل هذه الأعمال ، وبدونها تصبح عقيدةً في الذهن المجرد سرعان ما تزول ، وتضمحل عند أدنى موقف أو محك ؛ فإذا أردنا أن نقوي هذه العقيدة العظيمة في نفوسنا فهذا هو طريقها : طريق الدعوة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله - تعالى - ، وكلما ابتعد الداعية عن هذه الأعمال مؤْثراً الراحة والدعة فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة ، وتعرضها للخطر والاهتزاز . ولا غرابة في ذلك ، فإن الإيمان - كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة : قول وعمل ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . والولاء والبراء من أخص
خصائص الإيمان ، فهو يزيد بالعمل الصالح الذي من أفضله الجهاد والدعوة ، وينقص بالمعصية التي منها ترك واجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله - تعالى - .
________________________
مجلة البيان :العدد : 139 التاريخ: ربيع الأول / 1420هـ(/1)
الولاء والبراء- عبد الرحمن عبد الخالق
بسم الله الرحمن الرحيم
الولاء والبراء
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
فقد كان مبدأ هذه الرسالة مقالات نشرتها في جريدة الوطن الكويتية في غضون عام 1399هـ، وقد وفقنا الله بحمده فأخرجنا هذه المقالات وطبعت رسالة مستقلة في عام 1400هـ، ثم طبعت مع رسالة الحد الفاصل بين الإيمان والكفر عدة مرات منذ عام 1401هـ، سائلاً الله تبارك وتعالى أن ينفع بها وأن يثيب عبده الضعيف العاجز عليها إنه هو السميع العليم والحمد لله رب العالمين،،
كتبه أبو عبد الله عبدالرحمن بن عبدالخالق
بالكويت المحرم 1407هـ
الموافق سبتمبر 1986م
... ... ...
الفصل الأول
الولاء أو الولاية
التعريف اللغوي:
الولاية بفتح الواو وكسرها تعني النصرة: يقال: هم على ولاية: أي مجتمعون في النصرة (لسان العرب).
والولي والمولى واحد في كلام العرب، ووليك هو من كان بينك وبينه سبب يجعله يواليك وتواليه أي تحبه وتؤيده وتنصره ويفعل هذا أيضاً معك، والله ولي المؤمنين ومولاهم بهذا المعنى أي محبهم وناصرهم ومؤيدهم كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة:257)، وقال أيضاً: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} (محمد:11) وولي المرأة هو متولي شئونها كالأب والأخ الأكبر ونحو ذلك، وفي لسان العرب: قال أبو الهيثم: "المولى على ستة أوجه: المولى ابن العم والعم والأخ والابن والعصبات كلهم، والمولى الناصر، والمولى الولي الذي يلي عليك أمرك، قال: ورجل ولاء وقوم ولاء في معنى ولي وأولياء لأن الولاء مصدر، والمولى مولى الموالاة وهو الذي يُسلم (أي يدخل الإسلام) على يديك ويواليك المولى مولى النعمة وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه، والمولى المعتق (بالبناء للمجهول) لأنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات، ولا وارث له فهذه ستة أوجه" أ.هـ.
المعنى الشرعي:
وهذه المعاني اللغوية الآنفة كلها ثابتة في حق المسلم للمسلم إلا ما استثناه النص من ذلك كالميراث مثلاً كما قال تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} (الأحزاب:6) أي أولى ببعضهم في الميراث من ولاية المؤمنين الآخرين والتي كانت ولاية الميراث ثابتة لهم في أول عهد الرسول بالمدينة وذلك لفترة محدودة ثم نسخت. ونستطيع أن نقول أن الولاية الثابتة من كل مسلم لأخيه المسلم تشمل ما يلي: الحب، والنصرة، والتعاطف والتراحم والتكافل والتعاون، وكف كل أنواع الأذى والشر عنه، وبعض هذه الأمور الإيجابية يدخل في باب الفرائض والواجبات وبعضها يدخل في باب المستحب والمندوبات.
وأما الأمور السلبية وأعين بها كف الأذى فإن بعضها يدخل في باب الكفر والخروج من الدين وبعضها معصية وبعضها يدخل في إطار المكروهات والتنزيهات، وسنبين كل ذلك بحول الله وتوفيقه بالنصوص من كتاب الله وسنة رسوله.
(أ) الأدلة على وجوب موالاة المسلم لأخيه المسلم:
الأدلة في هذا الباب أكثر من أن تحصر ونحن نذكر هنا بعضها، فمن الأدلة القرآنية قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات:10) وهذه الآية قد جاءت بصيغة الحصر أي ليس المؤمنون إلا أخوة، ومفهوم هذا أنه إذا انتهت الأخوة انتهى الإيمان، وكذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} (الأنفال:72) وهذا تأكيد من الله جاء بصفة الخبر وكأنه أمر مستقر مفروغ منه، والمقصود بالأمر بأن يوالي المهاجرون الأنصار بعضهم بعضا، ثم قال بعد عدة آيات: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} (الأنفال:75) فأشار إلى أن من يأتي بعد الرعيل الأول ويهاجر معهم فهم منهم أي قطعة وبضعة منهم، وهذه المعاني نفسها أكدها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر، ففي ذكر تقسيم الفيء حق لثلاثة أصناف هم فقراء المهاجرين، وفقراء الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان قبل المهاجرين ثم فقراء التابعين إلى يوم القيامة ووصف الله التابعين بصفة لازمة لاستحقاقهم الفيء وصحة انتسابهم إلى هذه الأمة فقال: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10) فوصفهم بأنهم يدعون لمن سبق من هذه الأمة بالخير ويطلبون من الله أن لا يكون في قلوبهم أدنى غل للمؤمنين، ولهذا استنبط الإمام الشافعي في هذه الآية أن الرافضة لا حظ لهم في أخماس الفيء وذلك لسبهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وامتلاء قلوبهم بالحقد والغل لهم.(/1)
ومن الآيات الدالة على معنى الولاء أيضاً قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (التوبة:71) وفي هذه الآية تقرير لولاية المؤمنين والمؤمنات واتصافهم بما وصفهم الله به من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. الخ.
والسنة مليئة بمثل هذه المعاني كقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم] (الشيخان وأبو داود والترمذي) وقال أيضاً: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً] (مسلم وغيره) وقال: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجيد بالسهر والحمى] (متفق عليه) وقال أيضاً كما روى مسلم: [المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله] (مسلم والترمذي وأحمد).
وهذه الأحاديث مقررة للمعاني السابقة التي جاءت به الآيات.
أولاً: الحقوق اللازمة من كل مسلم لأخيه المسلم:
(1) الحب:
يدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] (الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم). وهذه أدنى درجات المحبة والمقصود أن كل مسلم يجب عليه أن يحب لأخيه من خير الدنيا والآخرة ما يحبه هو لنفسه ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بأن تحب الشخص لأنك لا تحب الخير لمن تكره.
ولا يتصور أن تحب الخير إلا لمن تحب، وهذا الواجب قد تناساه وأهمله اكثر المسلمين في زماننا بل لا نكاد نجد إلا قليلاً ممن يحبون إخوانهم المسلمين حباً دينياً حقيقياً مجرداُ عن الهوى والمصلحة والعصبية، وبالرغم من أن هذه المنزلة -أعني محبة المسلم لأخيه المسلم- من لوازم الموالاة فإنه أيضاً باب عظيم من أبواب الخير في الآخرة والشعور بحلاوة الإيمان في الدنيا كما جاء في الصحيحين في شأن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: [رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه] (متفق عليه) وكذلك جاء في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: [ثلاث من وجدهن وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] (البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم).
وقد يظن ظان أن المحبة عمل قلبي ولا يستطيع الإنسان التحكم فيه فكيف يرغم على محبة المسلمين؟! والجواب أن هذا خطأ لأن القلب تابع للعقيدة والإيمان فمن آمن بالله وأحبه فلابد أن يحب من يحب الله، والمسلم مفروض فيه أن يحب الله ويطيعه ولذلك وجب علينا محبة المسلم لمحبتنا الله ولدينه، بل لا يمكن أن يتصور إيمان أصلاً دون أن يحب المسلمون بعضهم بعضاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم] (مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة).
وهكذا نعلم أنه لا إيمان قبل المحبة، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سبيلها وهي إفشاء السلام لأنه أدنى معروف من الممكن أن يبذله المسلم لأخيه المسلم وهو لا يكلف أكثر من كلمة طيبة تتضمن دعاء وطلباً من الله بالسلامة والعافية من كل شر والرحمة لمن تسلم عليه. ولا شك أن الدعاء والتمني على هذا النحو يرقق القلب ويشعر بمحبة المسلم لأخيه المسلم، فأين المسلمون اليوم من تطبيق هذه الجزئية في هذا الأصل الشرعي "الموالاة"؟
(2) المجاملة:
وهي تضم حقوقاً خمسة واجبة جمعها النبي في حديث واحد كما قال صلى الله عليه وسلم: [حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة] (متفق عليه)، ومعنى تشميت العاطس أن تقول له إذا سمعته يحمد الله بعد عطاسه: "يرحمك الله" فيرد عليك "يهديكم الله ويصلح بالكم"، وأما إجابة الدعوة فالمقصود إجابة دعوة الطعام حتى وإن كره الإنسان الحضور لقوله صلى الله عليه وسلم: [ومن لم يحب الداعي فقد عصا أبا القاسم] (مسلم وأبو داود وابن ماجة)، وفي البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ولو دعيت إلى كراع لأجبت] والكراع هو رجل الماشية، وهذه الحقوق الخمسة الآنفة من باب المجاملات اللازمة الواجبة من كل مسلم على أخيه المسلم.
(3) النصرة:(/2)
وهي تعني أن يقف المسلم في صف إخوانه المسلمين فيكون معهم يداً واحدة على أعدائهم ولا يخلي بتاتاً -ما استطاع إلى ذلك سبيلاً- بين مسلم وعدوه ويدل لهذا المعنى آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} (النساء:75) وقد جعل الله هنا القتال في سبيل تخليص المسلمين المستضعفين قتالاً في سبيله ونصراً له سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] (الشيخان والترمذي وأحمد)، وقد فسر صلى الله عليه وسلم نصر الأخ ظالماً بأن ترده عن الظلم وأما نصره مظلوماً فمعناه رد الظلم عنه، ومثل هذا المعنى أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه] (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم) ومعنى أن يسلمه أي يخلي بينه وبين أعدائه.
ولما كان هذا الحق يتعلق بعلاقات المسلمين والكفار قوةً وضعفاً وفي وقت عهد وهدنة وفي غير ذلك، وفي دار الإسلام ودار الكفر أقول لما كان الأمر كذلك كان للنصرة قواعد وأحكاماً كثيرة ملخصها أنه يجب أن ننصر إخواننا المسلمين المستضعفين فلا يجب عليهم ذلك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على آل ياسر وهو يعذبون فلا يملك إلا أن يقول لهم [صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة] (سيرة ابن هشام 1/319-320)، ولم يستطع أن يرد عن أحد المستضعفين شيئاً طيلة مكوثه صلى الله عليه وسلم بمكة، ولكن بعد أن عزه الله بسيوف الأنصار استطاع أن يمد يد العون للمستضعفين بمكة فكان يرسل إليهم من ينقذهم ويساعدهم على الفرار إلى المدينة، ولكن الله سبحانه وتعالى نهانا أن نساعد المستضعفين من المؤمنين بديار الكفار إذا كان بيننا وبين قومهم عهد كما كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية حيث امتنع عن مساعدة المستضعفين في مكة بعد هذا الصلح ولذلك اضطروا إلى الفرار إلى ساحل البحر كما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} (الأنفال:72) وهكذا نعلم أن هذا النص [ولا يسلمه] الوارد في الحديث وكذلك قوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} (النساء:75) مخصصين بالاستطاعة، وبأن لا يكون المسلمين قد ارتبطوا بعهد وميثاق مع قوم من الكفار فلا يجوز خيانتهم في هذا.
وهذه الحقوق السالفة "الحب والمجاملة والنصرة" هي حقوق عامة من كل مسلم لأخيه المسلم في الشرق أو الغرب لا تمييز فيها بين مسلم وآخر ولكن ثمة حقوق أخرى لبعض المسلمين يوجبها ويلزمها المناسبة والموقع ومن ذلك:
ثانياً: الحقوق الخاصة:
(1) حق النبي صلى الله عليه وسلم:
وهو هادي هذه الأمة وقائدها ورسولها صلى الله عليه وسلم وإليه المرجع في التبليغ والإتباع، وحق كل مسلم في هذه الأمة أن يحبه أكثر من نفسه وماله ووالده وولده، وأن يجعل طاعته كلها له وذلك بعد الله سبحانه وتعالى وأن يذب عنه وعن دينه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد جاءت في هذا آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً} (الفتح:8-9) فجمع الله حقه وحق رسوله في آية واحدة فحق الرسول التعزيز والتوقير والإيمان به وتسبيحه بكرة وأصيلاً، وجعل الله إيذاء الرسول موجباً للعن مهما صغر مادام أن صاحبه يقصد كما قال تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} ( الأحزاب:57) فجمع سبحانه بين نفسه وبين رسوله أيضاً في آية واحدة ليبين أن الأذى الواقع على رسوله يقع على الله أيضاً.
وجعل إساءة الأدب ولو دون قصد بحضرة الرسول محبطة كما قال تعالي: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} (الحجرات:2) فقوله تعالى: {وأنتم لا تشعرون} دليل على أن من لم يقصد هذه الإساءة يحبط عمله، وأما من رفع صوته على النبي وبحضرته يقصد الإساءة إليه فلا شك أنه كافر ملعون كما مر في آية الأحزاب الآنفة، فكيف بعد ذلك الذين يتهمون الرسول بشتى التهم ويعادون سنته ويستهزئون بهديه ومع ذلك يزعمون أنهم من المسلمين؟
(2) حق الربانيين والعلماء:(/3)
ويأتي بعد حق الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق الربانيين من أهل العلم والفضل والذين وفقهم الله لتعليم الناس وتربيتهم وتوجيههم والأخذ بأيديهم إلى الهدى والنور، وهؤلاء حقوقهم في المحبة والطاعة والموالاة والنصرة ورد الجميل بعد حقوق النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة إذ هم السبب المباشر في الهداية والإرشاد وشكرهم واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يشكر الله من لا يشكر الناس] (أبو داود والترمذي وأحمد) ولاشك أن أعظم الناس معروفاً من هداك الله على يديه وأرشدك به ولو إلى قليل من الخير، فكيف إذا كنت ضالاً فهداك الله بواسطته، وكافراً فأسلمت على يديه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه] (أبو داود والنسائي وأحمد) ومعلوم أن مكافأة من هداك إلى الدين مستحيلة لأن الخير الذي ساقه الله لك على يديه لا تستطيع أن ترد مثله إليه فقد هداك الرباني إلى الجنة بتوفيق الله وإعانته فهل تستطيع أن تكافئه بمثل الجنة؟ لا، إلا أن تدعو له بأن يحقق الله له من الخير مثل ما أسدى إليك.
وقد جمع الله ولاية نفسه والرسول والمؤمنين في آية واحدة كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة:55) أي هؤلاء هم من يجب علينا أن نوالهم الله ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو متصفون بالركوع الدائم كما وصف الله ورسوله معه بقوله {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً} (الفتح:29).
(3) حق الوالدين والأرحام:
ثم يأتي بعد حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق المربي والمعلم للخير حق الوالدين والأرحام، وأولى الوالدين الأم ثم الأب كما جاء في الصحيحين "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أمك] قال: ثم من؟ قال: [أبوك]" (متفق عليه)، وقد أمر الله بالبر بهما في آيات كثيرة من كتابه كما قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهم أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً *واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (الإسراء:23-24)، والبر بالوالدين يستمر ويجب حتى مع كفرهما ودعوتهما ابنهما إلى الكفر والشرك والمقصود بالبر هنا المصاحبة بالمعروف كالقول اللين وعدم التعنيف وعدم التأفف وعدم الزجر والإحسان إليهما بالمال والإعانة والخدمة كل ذلك حاشا الطاعة في الكفر والشرك كما قال تعالى في سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير *وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إلي مرجعكم فأنبؤكم بما كنتم تعملون} (لقمان:14-15).
ويأتي بعد الوالدين الأرحام الأقرب فالأقرب كالأخوة والأخوات والأبناء وأبناء الأبناء وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، وهكذا وكل هؤلاء يجب وصلهم حتى لو قطعوا، وقد هدد الله من يقطع أرحامه بالقطع والدخول في النار بل جعل الله قطع الأرحام من الفساد في الأرض كما قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم *أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (محمد:22) وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة قاطع] (الشيخان وأبو داود والترمذي وأحمد) وقال أيضاً: [يقول الله تعالى: "أنا الرحمن خلقت الرحم ووضعت لها إسماً من إسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته"] (أحمد وغيره) وصلة الأرحام واجبة أيضاً مع كفرهم ما داموا غير محاربين لله كما سيأتي تعريف ذلك في باب البراءة، أما إذا كانوا مسالمين غير محاربين للمسلمين فيستحب برهم والإحسان إليهم ولو كانوا كفاراً والنصوص السالفة عامة في كل الأرحام وقد بينا كيف نص الله على الوالدين بالبر والإحسان مع الكفر وهما من جملة الأرحام وكذلك نص على وجوب الإحسان إلى الأقارب مع الكفر كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (البقرة:272) وقد نزلت هذه الآية في بعض الأنصار كان لهم أقارب كفار يحسنون إليهم رجاء إسلامهم، فلما استبطئوا ذلك قطعوا عنهم النفقة، فأنزل الله الآية، والعجيب بعد كل هذه النصوص المحكمة الواضحة أن نجد مسلمين يتشدقون باسم الإسلام ويقطعون أرحامهم بدعوى أنهم على بعض المعاصي، وسيأتي أن موالاة المسلم واجبة مع فعله للمعصية فكيف بالأرحام والأقارب.
(4) حق الجوار والصحبة والشراكة والضيافة:(/4)
ويأتي بعد حقوق الأرحام حقوق الجوار والصحبة والشراكة والضيافة وكل ذلك ثابت أيضاً في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة كما قال تعالى: {واعبدوا لله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} (النساء:36)، وقال صلى الله عليه وسلم [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه] (متفق عليه)، وأما الضيف فقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.. الحديث] (البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجة) وقال أيضاً: [والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن] قالوا: من يا رسول الله؟ قال: [من لا يؤمن جاره بوائقه] (البخاري ومسلم وأحمد).
(5) حق الفقير والمسكين وابن السبيل والسائل:
ثم يأتي بعد ذلك حق الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والسائلين، وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة توصي بهم وتجعل لهم نصيباً في الزكاة وأموال المسلمين العامة بل ويجعل لهم حقوقاُ في مال المسلمين غير الزكاة وهي أشبه من المعلوم بالدين ضرورة ولذلك فلا داعي لسرد النصوص في ذلك.
ثالثاً: نواقض الموالاة:
عرفنا فيما مضى هذا الأصل من أصول الموالاة وعرفنا معناه الشرعي واللغوي، ولمن يجب ومراتب المؤمنين ومنازلهم بحسب الموالاة، والآن نأتي إلى نواقض هذا الأصل، ونستطيع تلخيصها فيما يلي:
(1) إخراج المسلم من الإسلام عن معرفة وبصيرة:
كل من حكم على رجل مسلم بأنه كافر وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مسلم فقد كفر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [أيما رجل قال لأخيه يا كفار فقد باء بها أحدهما] (متفق عليه)، أي إما أن يكون كافراً في الحقيقة وهذا الوصف ينطبق عليه، وإما عاد القول إلى قائله، كما قال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر وليس كما قال إلا حار عليه] (مسلم) أي رجع الوصف عليه، وأما تكفير المسلم خطئاً وظناً فهو معصية وليس بكفر، كمن ظن أن مسلماً فعل مكفراً وليس بمكفر فكفره لذلك ظاناً أنه قد كفر بذلك، فهذا مرتكب للمعصية وخاصة إذا اقترن هذا مع الجهل والتهجم على الفتيا، وعدم التروي دون استفراغ الوسع في معرفة متى يكفر المسلم ومتى لا يكفر، وأما من كفر مسلماً وهو يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يكفر بما رآه عليه أو سمع عنه فقد كفر قطعاً، لأنه يكون قد كفر مسلماً عن علم وبصيرة.
(2) من استحل دم المسلم أو عرضه أو ماله:
وذلك أن عرض المسلم ودمه وماله حرام كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا] (متفق عليه) ومعلوم أن استحلال المعصية كفر، ومعنى الاستحلال أي الظن والاعتقاد فيما حرمه الله أنه حلال، ومعلوم أيضاً أن حرمة دم المسلم وعرضه وماله وانتهاك هذا أشد عند الله من انتهاك حرمة الزنا والخمر والربا كما قال صلى الله عليه وسلم: [الربا إحدى وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم] (ابن ماجة) أي أعظم من الربا.
وقد حكم الله على من استحل الربا بالكفر والخلود في النار، كما قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:275) فقوله تعالى: {أصحاب النار هم فيها خالدون} دليل على كفرهم وقولهم {إنما البيع مثل الربا} أي أنهم استحلوا هذا ورأوا أنه لا فرق بين البيع والربا، ومن المعلوم في الدين ضرورة أن مستحل المعصية كافر، وهذا يعني أن مستحل دم المسلم وعرضه وماله فهو كافر.
(3) موالاة الكافر وإعانته على المسلم:(/5)
كل من والى كافراً وأعانه وظاهره على مسلم فقد كفر ونقض هذا الأصل "الموالاة" وخرج من دين الله سبحانه وتعالى وهذا يصدق أيضاً على من اطلع الكفار على عورات المسلمين في الحرب وأفشى لهم أسرار المسلمين وقد جاء بشأن هذا آيات كثيرة منها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة:51) فقوله تعالى: {فإنه منهم} يدل على أنه قد خرج بذلك من الإيمان إلى الكفر وهو نص صريح، ويخرج من هذا أيضاً من فعل هذا غير مستحل له، في حال ضعف أو خوف أو رغبة كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منه تقاة ويحذركم الله نفسه} الآية (آل عمران:28) فقوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} يدل على أن اتقى شر الكفار وداراهم وردهم عن نفسه في حال ضعف ولا يحب أن ينتصر الكفار ولا أن يظهروا على المسلمين فإنه لا يكفر بذلك بل يكون معذوراً عند الله، والله أعلم بالقلوب، ولذلك عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى سر المسلمين وأخبر قريشاً بأن الرسول قد جمع لهم يريد حربهم وذلك قبل غزوة الفتح، وذلك عندما علم منه الرسول أنه فعل ذلك في حال ضعف وخوف على أولاده بمكة وبما كان لحاطب رضي الله عنه من سابقة في حضوره وغزوة بدر مع المسلمين.
وأما من استحل ورضى بمعاونة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين وهو غني عن ذلك فهو كافر قطعاً ناقض لأصل الموالاة وسيأتي لهذا مزيد إيضاح إن شاء الله عند بيان الأصل الثاني وهو "البراء".
هذه الأمور الثلاثة التي تنقض أصل الموالاة وتخرج المسلم من حظيرة الإسلام إلى حظيرة الكفر وهي كما أسلفنا: تكفير المسلم عن عمد وإصرار ومعرفة، واستحلال دمه أو ماله أو عرضه، وموالاة أعداء الله عليه، واستحلال العرض يدخل فيها استحلال سبه أو شتمه أو غيبته.
رابعاً: قوادح الموالاة:
الأمور السالفة تنقض اصل الموالاة وتخرج المسلم من الإيمان ولكن ثمة أمور أخرى لا تصل إلى هذا الحد ولكنها تقدح هذا الأصل وهي كثيرة جداً سنكتفي ببعضها:
(1) الظلم:
ولا يجوز ظلم المسلم بأي نوع من أنواع الظلم لقوله تعالى في الحديث القدسي: [ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً.. فلا تظالموا] (مسلم وأحمد)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه] (البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم)، وقد جاء في الزجر عن الظلم أحاديث كثيرة منه قوله صلى الله عليه وسلم: [من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب له الله النار]، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: [وإن كان عوداً من أراك] (ابن ماجه وأحمد والدارمي) وهذا بالطبع ما لم يغفر الله له.
(2) السب والشتم والغيبة والنميمة:
من سب مسلماً فقد فسق لقوله صلى الله عليه وسلم: [سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر] (متفق عليه) ومن لعن مسلماً فكأنما قتله لقوله صلى الله عليه وسلم [لعن المسلم كقتله] وقد اشتملت سورة الحجرات على آيات كثيرة محذرة من هذا:منها قوله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات:11) والمعنى أن من فعل ذلك كان فاسقاً بعد أن كان مؤمناً، كما أطلق الله وصف الفسق أيضاً على من سب المحصنة المؤمنة فقال تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} (النور:4) فسمي الذين يفعلون ذلك فساقاً، وأما الغيبة فقد جاء فيها قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} (الحجرات:12) أي لمن تاب من هذه الآثام وقد سبق في الحديث ان الغيبة أشد من الربا والربا اشد من الزنا بالأم.
ولا يجوز لمسلم أن يستحل سب المسلم أو شتمه أو عيبه أو غيبته إلا في حق كأن يكون مظلوماً يرد عن نفسه كما قال تعالى: {لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (النساء:148) أي من اعتدى عليه أولاً فله الحق أن ينتصر من ظالمه بأن يسبه كما سبه، أو يذكر ظلمه للناس ولكنه لا يجوز له أن يعتدي بأكثر مما سب وعيب به، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة:190) وكقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل *إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} (الشورى:41-42) ولا شك أن الصفح والمغفرة لأعظم وآجر عند الله لقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى:43).(/6)
وفي النميمة يقول صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الحنة القتات] (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد) والقتات هو النمام الذي ينقل الحديث ليوقع بين الناس والذي يسمع إنساناً أو يغيبه فيوصل كلام المسبوب له بغية الوقيعة حتى لو كان صادقاً فيما نقل، ولاشك أن تشريع الله لكل هذه الأمور إنما هو للحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية وتنقية صفوفها من الفرقة والخلاف.
(3) البيع على البيع والخطبة على الخطبة والنجش والغش:
حذر الرسول أيضاً من أمور في المعاملات من شأنها إيقاع العداوة بين المسلمين وخدش أخوتهم وقدح اصل الموالاة من ذلك البيع على البيع والخطبة على الخطبة كما قال صلى الله عليه وسلم: [ولا يبع بعضكم على بيع أخيه] (البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم) وقال: [لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه] (البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم) وقال أيضاً: [ولا تناجشوا] (البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم) والنجش هو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها بغية إغلاء سعرها على مسلم وهذا ما يحدث في "المزاد العلني" حيث يعمد البائع إلى الاتفاق مع من يزيدون في السعر حتى يوهم المشتري بحسن السلعة ويشتريها بعد غلو ثمنها.
وأما الغش فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من غش فليس منا] (مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم)، وهذا زجر شديد لمن غش المسلمين في بيع أو نحوه.
(4) الهجران:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهجر المسلم كلام أخيه المسلم أكثر من ثلاث ليال كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام] (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم) وهذا نص عام في كل هجران بأي سبب من أسباب الدنيا.
هذه أهم الأمور التي تخدش الأخوة الإسلامية وتقدح أصل الموالاة ولكن المسلم لا يخرج بها عن الدين إلا إذا استحل شيئاً منها وهناك أمور كثيرة غيرها كالهمز واللمز والهزء والسخرية.
ونحو ذلك مما يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين.
خامساً: المخالفون لأصل الموالاة:
يخالف لأصل الموالاة طوائف من الناس إليك بيان أحوالهم حتى تحذر منهم وتبعد عن سبيلهم:
(1) المنافقون:
وهم أعدى الناس لأصل الموالاة والخارجون عنه وذلك لكفرهم الباطن وامتلاء قلوبهم بالحقد والغل على المسلمين، ورغبتهم الدائمة في اندحارهم وكشر شوكتهم وهؤلاء هم الذين يستهزئون بالمسلمين ويلمزونهم ويسخرون منهم ويفجرون في خصومتهم معهم، ويخلفون وعدهم وينقضون عهدهم مع المسلمين، ويخونوهم ويغشوهم ويكذبون عليهم، ويصابون بالنكد والحسرة وضيق الصدر إذا أصاب المسلمين خير من الله وبركة، ويفرحون ويهللون إذا أصابهم شر ومكروه، والقرآن مليء بوصف أحوال المنافقين وبيان فضائحهم وخاصة سورة التوبة والمنافقون والحشر والأحزاب وأوائل البقرة ودراستنا لهذه السور يطلعنا على حقيقة النفاق الذي يستتر أصحابه بأعمال الإسلام الظاهرة ولكن قلوبهم تكون مع أعداء الله ويسعون جاهدين في تفتيت وحدة المسلمين وبعثرة جهودهم وإطلاع أعداء الله على عوراتهم، وهؤلاء المنافقون هم أخطر على المسلمين من أعدائهم الظاهرين وخاصة إذا كانوا أهل علم بالدين ولسان فصيح كما قال صلى الله عليه وسلم: [أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان] (رواه أحمد) فهؤلاء باستطاعتهم تحريف الكلم عن مواقعه وإيقاع الفتنة في صفوف المسلمين، وقد يكون في المسلمين من يسمع للمنافقين ويعجب بحديثهم كما قال تعالى: {وفيكم سماعون لهم} (التوبة:47) وذلك من حلاوة حديثهم وطلاوته كما قال تعالى أيضاً: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} (المنافقون:4).
وخطورة المنافقين أيضاً أنهم يغلفون أنفسهم بالكذب ويغلظون الإيمان ويلينون كالحرير والمرمر فلا يستطيع أحد أن يكشف أمرهم كما قال تعالى لرسوله {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} (التوبة:101) ومعنى مردوا أي كانوا ناعمين لينين وذلك من رقة حديثهم وحلاوة منطقهم وحلفهم وإشهاد الله على ما في قلوبهم حتى أن الرسول نفسه يخفى عليه أمرهم.
والمنافقون في المجتمع الإسلامي شر لا مفر منه وما على المؤمنين إلا الحذر منهم بما أرشدنا الله إليه من وعظهم في أنفسهم والغلظة عليهم عند معرفتهم، ومع هذا يجب على المسلمين أن يعاملوا بعضهم بما ظهر منهم من إسلام ولم نؤمر أن نشق قلوب الناس لنعرف أمنافقين هم أم لا، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكر علامات تدل عليهم إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأن من ظهرت فيه هذه العلامات كان منافقاً حقيقياً لأن بعضها قد يقع من المسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: [آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان] (البخاري ومسلم والترمذي).(/7)
وقال: [أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خاصم فجر] (أخرجه البخاري والنسائي وأحمد).
ولما كانت هذه الأمور قد تظهر في بعض المسلمين لجهلهم فإن كل مسلم مطلوب منه الحذر على نفسه من النفاق وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه من النفاق وكذلك قال عمر بن الخطاب لحذيفة -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبره بالمنافقين- أما سماني رسول الله من المنافقين؟ فقال: لا، ولن أقول لأحد غيرك.
وهكذا يجب على كل واحد منا ألا يخلف وعداً أو يكذب على مسلم أن يخون أمانة أو يفجر في خصومة أخيه المسلم فتكون فيه شعبة من شعب النفاق أو يجمعها جميعاً فيطمس الله على قلبه فيزيغه عن الإيمان.
{اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا برحمتك يا أرحم الراحمين ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
(2) الخوارج المارقون:
الصنف الثاني من أصناف الناس الخارجين على أصل "الولاء" هم الخوارج المارقون واسم الخوارج يطلق على كل من استحل دماء المسلمين أو أعراضهم أو أموالهم بالمعصية، وخرج على جماعتهم بالسيف، وأصل بلائهم من الجهل بأحكام الإسلام والاندفاع فيما يرونه منكراً إلى حدود العدوان على المسلم وظلمه، وهم الذين أفتوا بوجوب الخروج على الإمام العام بالمعصية، وقتاله بالسيف إذا رأوا منه ما يخالف رأيهم، ورأوا أيضاً وجوب البراءة من المسلم وهجرانه بالمعصية، وعدم جواز موالاة أحد من المسلمين بذلك، وهم في الغالب أهل حماسة وشدة في أخذ الدين ولكن هذه الحماسة والشدة لما كانت في غير موضعها انقلبت عليهم مروقاً وخروجاً عن الدين بالكلية وقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجهم بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم (البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم) وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود)، وأن المسلم الصالح يحقر صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم (البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد) وذلك من كثرة تعبدهم وزهادتهم، وقد ظهرت أول أفكار الخوارج وأقوالهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك عندما كان يوزع غنائم هوازن فأعطى مسلمة الفتح مائة من الإبل لكل واحد منهم ولم يعط المهاجرين الأولين والأنصار شيئاً فرأى ذلك رجل جاهل متشدد مارق فظن أن الرسول إنما حابي أهله وعشيرته بالغنائم وظن أن هذه مداهنة لقريش فقال للرسول: اعدل يا محمد، فوالله هذه قسمة ما أريد به وجه الله، هذا الجاهل الجلف المارق يقول للرسول: اعدل، ولو علم أن الله اختار رسوله لرسالته وأن الله لا يضع الرسالة إلا في موضعها لما ظن بالرسول سوءاً ثم اتهم نية الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يظهر خلاف ما يبطن وأن يفعل شيئاً لا يريد به وجه الله ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ يأمنني الله على خبر السماء ولا تأمنوني؟] فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال: [دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه] ثم قال: [يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد] وقال أيضاً: [إذا أدركتموهم فاقتلوهم فإن لمن قتلهم أجراً كبيراً] (رواه البخاري).(/8)
على منوال هذا الضال المارق خرجت الفتنة على عثمان رضي الله عنه، تعيب عليه أشياء من الصغائر وهو من هو رضي الله عنه سابقةً وفضلاً وإنفاقاً في سبيل الله وسبقاً إلى الإسلام وجهاداً مع رسوله أنكروا عليه أنه لم يول فلانا وولى فلانا، أو أنه ضرب فلانا أو نفى فلانا ومعلوم أن هذا كله في صلاحية الإمام العام، ولكنهم أخذوا هذه الصغائر وطيروها في كل مكان وأغروا الغوغاء والسفهاء من أهل مصر والشام والعراق والذين لا علم لهم بحقيقة الخليفة ومنزلة ذي النورين رضى الله عنه وأرضاه، وبذلك أججوا الفتنة عليه واستحلوا في النهاية دمه، ووقع بذلك على المسلمين اعظم بلاء في تاريخ الخلافة الراشدة، وهؤلاء المتنطعون الجاهلون أنفسهم هم الذين أرغموا علياً على البيعة ثم انتقضوا عليه لأمور جهلوها من الدين وظنوها مخالفة للقرآن فقد أنكروا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه تحريم نساء من حاربوهم في موقعة الجمل، وتحريم استرقاق ذراريهم وأخذ أموالهم حتى قال لهم: كيف أحل لكم نساءهم وهم مسلمون؟ ولو أحللت لكم نساءهم فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ وكذلك أنكروا عليه رفضه لإيقاف القتال عندما رفع جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح حتى قال له زيد بن خالد الطائي وهو أحد رؤوس الخوارج: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف؟" فقال له علي بن أبي طالب: أنا أعلم بما في كتاب الله.. ولكن هذا الجلف الجاهل رد على أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوله "لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان" فاضطر علي رضي الله عنه إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين وما بقي إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة" (انظر البداية والنهاية 7/273).
وبالرغم من أن الخوارج هم الذين حملوا علياً على قبول التحكيم، والتحاكم إلى القرآن فإنهم عادوا وأنكروا عليه وقالوا له: كيف تحكم الرجال في القرآن؟ لا حكم إلا الله.. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. ثم أتى بالقرآن أمامهم وقال: يا قرآن احكم بيننا (انظر البداية والنهاية 7/276) أي ليس للقرآن لسان حتى يحكم وإنما يحكم الرجال بما عرفوا من كلام الله سبحانه وتعالى. وفي النهاية فارقوه وشقوا جيشه، واستحلوا دم عبدالله بن عبدالله بن حرام عندما حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ستكون فتنة النائم فيها خير من القاعد فيها، والقاعد فيها خير من القائم فيها والقائم فيها خير من الساعي فيها] (البخاري ومسلم والترمذي وأحمد). ولذلك قاتلهم علي وانتصر عليهم، ولم ينج منهم إلا تسعة أشخاص فقط وكانوا اثني عشر ألفاً انحاز منهم أربعة آلاف إليه وقاتل الباقي. ولكن هؤلاء الذين نجوا ذهبوا وألبوا عليه وعلى معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم واستحلوا دماءهم جميعا وتمكن مارقهم الأكبر عبد الرحمن بن ملجم من قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو خارج إلى صلاة الفجر في آخر جمعة من شهر رمضان وكان علي في ذلك الوقت خير من يدب على الأرض وإمام المسلمين، فانظر إلى بشاعة هذه الجريمة وانظر إلى ظن قاتله أنه كان يفعل خيرا ويريد رضوان الله ومرضاته كما قال عمران بن حطا شاعر الخوارج في وقته:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
ولكن صدق ابن المبارك الذي رد عليه فقال :
بل ضربة من شقي أوردته لظى وسوف يلقي بها الله غضباناً(/9)
وفي الوقت الذي التأمت في الأمة مرة ثانية على معاوية رضي الله عنه قامت قيامة الخوارج وظلوا يشاغلون أمراء الدولة الإسلامية الأموية ويؤججون النار في جنباتها ويصرفونها عن فتح الأمصار، وكثيرا ما كانت جيوش المسلمين تتحول من بلاد الشرك لإخماد فتنتهم التي كانوا يشعلونها كلما سنحت لهم الظروف واستمر حالهم هذا طيلة الدولة العباسية أيضا فكانوا بذلك أعظم شر وبلاء مني به المسلمون. والأفكار الخارجية لم تمت إلى يومنا هذا بل يتناقلها الجهال من الخوارج المعاصرون ممن يقرءون القرآن ولا يفقهون آياته، ويحفظون الحديث لا يدرون معانيه، وما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر من يزعم نصر الدين وقول كلمة الحق فيترك أهل الأوثان والشرك و الإباحية والكفر ويعمل قلمه ولسانه في المسلمين بل وجدنا منهم من لا هم إلا مشاغله الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالسب والتشهير وتأليف الرسائل في بيان مثالبهم في زعمهم واتهامهم بالمداهنة تارة، والركون إلى الظالمين تارة، وفعل بعض المعاصي تارة، والإفتاء بما يخالف آراءهم تارة ولمثل هذه الأمور التي يرونها مخالفات وما هي بمخالفات يستحلون أعراضهم وينتهكون حرماتهم ويفتشون على أسرارهم ولا يجدون لهم ديناً في الأرض إلا تفريق جماعاتهم وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس بكراهيتهم ومحاولة فض الناس عنهم. وهذا من أكبر الآثام ومن أكبر النواقض لأصل الإيمان الأصيل وهو أصل الولاء، ولو فقه هؤلاء الدين لوجب عليهم محبة إخوانهم في الإسلام والدعاء لهم بظهر الغيب، وشد أزرهم والنصح لهم، وبذل الأمر بالمعروف لهم بالتي هي احسن ولكن الحقد والبغضاء ملأت صدورهم، ونفخ الشيطان في قلوبهم فتراهم يرون أكبر المنكرات فلا يأبهون ويشاهدون أعظم الطواغيت فلا يغضبون ولكنهم يرون الهفوات والصغائر على إخوان العقيدة والدين، و أهل الدعوة والجهاد فتحمر أنوفهم وتزبد أفواههم ويعددون في كل مجلس مخالفتهم.
وأمثال هؤلاء الذين ساروا على درب أسلافهم في المروق من قبل حيث تركوا أهل الأوثان، ونصبوا العداء لأهل الإسلام هم اخطر على المجتمع الإسلامي من المنافق المستتر لأن هؤلاء يظنون أنهم على الحق وانهم يحسنون صنعا، ويتكلمون بالآية والحديث وهم أعظم ستار لأهل النفاق والشر الذين يريدون هدم الإسلام، فالمنافقون يستترون بأمثال هؤلاء الأغرار الذين لا يفقهون حكمة ولا دعوة ويقرأون القرآن دون فهم وتدبر يأخذون منه ما شاءوا دون إن يكون لهم سلف في الترك وإنما بما تمليه عليهم أهواؤهم المريضة، وعصبيتهم البغيضة. وهؤلاء تجدهم يميلون إلى الشدة في كل شيء فالمستحب عندهم واجب، والمباح عندهم إثم ومعصية والرخصة جريمة وتهاون، واللين مداهنة والسكوت عن بعض الحق اتقاء الفتنة عندهم نفاق. وهكذا جعلوا دين الله بلاء على الناس وشرا بل جعلوا دين الله لا يصلح إلا لمن ترك الحياة كلها والمجتمع كله وخرج إلى البراري والقفار يرعى غنيمات وأما الاختلاط بالناس ففتنة عندهم والعمل في الحكومات كفر ومعصية، والتعلم في المدارس جريمة واستعمال النقود إثم لان عليها صورة. والسفر إلى بلاد الكفار جريمة عندهم ما بعدها جريمة. وويل لك ثم ويل إن حملت جواز سفر أو رخصة قيادة لأن ذلك إثم ومعصية إذ كيف تحمل صنما في جيبك؟ والتلفزيون رجس من عمل الشيطان لأن فيه أصنام.. انظر، والصحيفة أشد لعنة من التلفزيون لأن فيها أصناما كذلك وويل لك ثم ويل إن تعلمت الجغرافيا والفيزياء والكيمياء لأنها من علوم الكفار وفي دين هؤلاء يجب عليك أن تنتظر الدجال ولا تأخذ عدة الحرب العصرية لقتال كفار زماننا بمثل سلاحهم، لأن التوصل إلى هذا السلاح لا يمكن إلا بتعلم علوم الكفار، ومادامت علوم الكفار حرام ولا يجوز لنا اقتراف الحرام فإذن لا يجب علينا امتلاك أسلحة العصر بل يجب أن ننتظر حتى تهلك هذه الحضارة ويعود الناس إلى السيف لنحارب الكفار وننتصر على الدجال.. الخ.
كل هذه الأفكار التي هي أشبه بأفكار الحمقى والمجانين تشكل اليوم أسلوبا لفهم الدين طلع به علينا من يزعم نصر الدين وإقامة ملة إبراهيم في الأرض وما درى هؤلاء أن هذه الأفكار هي أمثل طريقة لهدم الدين والقضاء عليه. ومثل هذه الأفكار أيضاً من احتقار العلم ووضعه عند غير أهله أن نناقشها بالدليل والبرهان لأنها لا تستقيم عند بداهة العقول، وإذا كان هناك من يجادل في البديهيات والمسلمات فإن إثبات هذا بالبرهان لا يفيد.
هذه -أخي القارئ- الفئة الثانية من الفئات التي خالفت أصل الولاء وهي تخرج على المسلمين الفينة والفينة بمثل هذه الخزعبلات. فما أشبه حمقى هذه الأيام بالحمقى السابقين الذين قالوا لعلي بن أبي طالب: كيف تحكم الرجال في القرآن؟ لا حكم إلا لله. فوضع علي المصحف أمامهم وقال: احكم بيننا يا قرآن.
الفصل الثاني
البراء(/10)
الأصل الثاني من أصول الأيمان الذي نتعرض له في هذه الدراسة هو "البراء" وهو الموقف الواجب على كل مسلم تجاه الكفار فماذا يعني هذا الأصل؟ وما أدلته من الكتاب والسنة ؟ وما أحكامه وحدوده؟ واليك بحمد الله تفصيلا لكل ذلك:
أولا: أدلة "البراء" من الكتاب والسنة:
قال تعالى في سورة الممتحنة التي نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أرسل إلى قريش يخبرهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارج لغزوهم وذلك في غزوة الفتح كما روي البخاري بإسناده إلى علي بن بي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: [انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع بين الحرمين بقرب حمراء الآسر من المدينة "معجم البلدان ج 2 ص 335") فإن بها ظعينة (امرأة سافرة) معها كتاب فخذوه منها]، فذهبنا تعادي بنا خلينا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قفلنا: أخرجي الكتاب. فقال: ما معي من كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها (ضفيرة من الشعر تلف على الرأس) فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما هذا يا حاطب؟] فقال: لا تعجل علي يا رسول الله. أني كنت امرءا من قريش ولم اكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذا فاتتني من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتداداً عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنه قد صدقكم]. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال صلى الله عليه وسلم: [انه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] (البخاري).
قال عمرو -أي ابن دينار- وهو من رواة الحديث: ونزلت فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (الممتحنة:1) وهكذا قال ابن عباس أيضاً أن آيات الممتحنة قد نزلت في حاطب وفي شأن هذه الواقعة كما روي ذلك الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله {والله بما تعملون بصير} نزلت في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ومن معه من كفار قريش يحذرهم (رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ولم يخرجاه واقره الذهبي).
وفي آيات الممتحنة يحذر سبحانه وتعالى من اتخاذ الكفار أولياء، وإلقاء المودة لهم مع كفرهم، وإخراجهم للرسول والمسلمين من مكة ولم يكن للمسلمين ذنب إلا إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وقد بين سبحانه أن اتخاذ الكفار أولياء وهم بهذه المثابة من الظلم والعدوان ضلال عن سواء السبيل، ثم بين سبحانه الحكمة من هذا النهي فقال: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون} (الممتحنة:2) أي انهم لو ظهروا على المسلمين وتمكنوا منهم فلن يتركوا أو يرحموا أحداً منهم وهم جاهدون مع ذلك في تكفير المسلمين، فكيف يجوز إذن لمسلم موالاتهم ونصرتهم ومحبتهم. ثم اخبر سبحانه أن الأرحام والأولاد لا تنفع يوم القيامة مع الكفر وذلك أن الله يفصل بين المسلمين والكفار يومئذ مهما تقاربت بينهم الأرحام والصلات الدنيوية. ثم ضرب الله سبحانه وتعالى إبراهيم والذين معه مثلاً وأسوة للمسلمين فقال: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} (الممتحنة:4). أي عليكم أيها المؤمنون أن تأتسوا بإبراهيم والذين آمنوا معه في براءتهم من الكفار وإعلانهم العداوة والبغضاء لهم ما داموا على شركهم وكفرهم.
وهذه كلها بحمد الله آيات واضحة بينة في وجوب التبري من الكفار ووجوب إعلان البغضاء والكراهية لهم.(/11)
ولقد حذر سبحانه وتعالى في آيات أخرى بأن تولي المسلم للكافر كفر ومروق من الدين كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وحده} (المائدة:51) وقوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} نص صريح في كفر من اتخذ نصرانياً كان أو يهودياً ولياً له. ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} (التوبة:23) وقال أيضا: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير} (آل عمران:28) وقوله: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} ظاهر في تكفير من فعل ذلك أي انه قد انحلت عقدته مع الله واصبح خارجاً كلياً عن حماية الله وولايته. وهذه الآيات وغيرها كثير في القرآن ظاهر في وجوب البراءة من الكفار وعدم جواز موالاتهم بحال مهما كانوا أقارب أو أرحام أو يرجى منهم نصر وتأييد كما قال تعالى أيضاً: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة:22).
وهذه كلها بحمد الله آيات صريحة واضحة مبينة أنه لا موادة ولا نصرة، ولا موالاة مع من حاد الله ورسوله، ولو كانوا من أخص الأرحام، وأن المؤمنين المخلصين المؤيدين بنصر الله وتوفيقه هم من حققوا هذا الأصل العظيم.
والآن ما مفهوم تولي الكفار الذي نهينا عنه في هذه الآيات؟ وماذا يعني على التحديد البراءة منهم؟
كيف تحقق البراءة من أعداء الله؟!
أولاً: وجوب الالتزام بالإسلام كله:
وذلك أن دين الكفار باطل سواء كان في الأصول والعقائد والفروع من التحليل والتحريم والصبغة والهدي والأخلاق إلا ما وافق الفطرة الصحيحة والشرع الذي شرعه الله لنا ولذلك أمرنا الله أن نقول للكفار إذا دعونا إلى دينهم: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} (سورة الكافرون).
وحذر الله رسوله في آيات كثيرة أن يطيع الكفار ولو في شيء يسير مما يدعونه إليه مخالفاً بذلك أمر الله كما قال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً *ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا *إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} (الإسراء:73-75). وهذا تهديد عظيم للرسول لو ركن إلى الكفار ولو في شيء قليل. وفي هذا المعنى أيضا يقول تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير *ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} (هود:112-113) وقال أيضاً: {وأن احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة:49) وهذه كلها آيات ناهية للرسول أن يطيع المشركين والكفار ولو في شيء قليل مخالفا بذلك ما أنزله الله إليه وقد هدد الله رسوله هنا بكل أنواع التهديد إن هو فعل ذلك ومعلوم أن الرسول لا يفعل ذلك وإنما هذا تهديد لنا بطريق الأحرى والأولى.
ولا شك أن طاعة الكفار في شيء من تشريعهم هو من أكبر أنواع التولي لهم، وبالتالي هو أعظم أسباب الكفر والخروج من الدين والتعرض لسخط رب العالمين.
ثانياً: وجوب إعلان البراءة من الكافرين:
وهذا يستلزمه الأمر الأول فما دام أن للمسلم دينه الخاص المميز فإن لم يلتزم هذا الدين فإنه خارج عنه، وكل خارج عن دين الإسلام الحق بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر ولا شك أن للكافر منهجا وطريقا وعقيدة ما في حياته وكل منهج وعقيدة وطريق غير الإسلام فهو باطل ويجب على المسلم البراءة من الباطل كله والكفر بالطواغيت جميعا كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} (البقرة:256) والطاغوت هو كل من جاوز حده ودعا إلى عبادة نفسه وتهجم على حق الله في العبادة والطاعة وقال تعالى أيضاً: {قل يا أيها الكافرون *لا اعبد ما تعبدون}.. الآيات (الكافرون) فأمرنا أن نعلن البراءة من الكافرين وآلهتهم. وقال إبراهيم لقومه: {قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون *أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} (الشعراء:75-77)، وقال لهم أيضا: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} (الممتحنة:4) وقد جعل الله إبراهيم لنا أسوة في هذا القول.(/12)
ولذلك فإعلان البراءة من الكافرين وكفرهم هو الأمر الثاني واللازم للالتزام بدين الله وحده واتباع صراطه المستقيم، فمن اتبع صراط الله واهتدى بهدي رسوله وجب عليه أن يعلن مفارقه كفر الكافرين ومخالفة هديهم ودينهم كله.
ثالثاً: تحريم إعانة الكافر على المسلم:
الأمر الثالث الذي تقتضيه البراءة من الكافر وعدم موالاتهم هو عدم جواز إعانتهم على المسلم بحال، فإذا كان المسلم دمه وماله وعرضه حرام على أخيه المسلم، وكان سباب المسلم فسوقا، واقتطاع حقه موجبا للنار وسفك دمه ظلما موجبا للخلود فيها أيضا فإن إعانة الكافر على مسلم خروج من الدين مطلقا وكفر أو ردة والآيات التي صدرنا بها هذا البحث هي في هذا الصدد خاصة كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة:51) وكذلك آيات الممتحنة وقد نزلت كما علمنا آنفا في شأن حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كفار قريش.
وبهذا يعلن أن إعانة الكفار على المسلمين لا شك أنه كفر. ولم يسمح الله في هذا الصدد بأي صورة من صورة الإعانة. ولا لأي أحد حتى للمستضعفين في بلاد الكفار أن يقاتلوا مع قومهم ضد المسلمين كما قال تعالى: {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديكم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطانا مبيناً} (النساء:91) والمقصود بالفتنة هنا حرب المسلمين.
رابعاً: تحريم اتخاذهم بطانة وحاشية:
الأمر الرابع: الذي نهانا الله عنه تجاه الكافرين واخبرنا أنه من جملة موالاتهم هو اتخاذهم بطانة أي وزراء وعمالا في الأمور الحساسة من أمور الدولة والحكومة الإسلامية. وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} (آل عمران:118).
ولهذا لم يتخذ الرسول والخلفاء الراشدون غير المسلمين في أعمال الدول الهامة كقيادة الجيوش. والأشراف على بيت المال، والجنود والشرطة وسائر الأمور التي فيها اطلاع على عورات المسلمين ومعرفة بأحوالهم. ولذلك كانت الدولة الإسلامية في عافية وقوة. ولكن بعد أن اتخذ الخلفاء الكفار بطانة لهم ووزراء تغير الأمر وبدأت أحوال المسلمين إلى زوال.
عرفنا أن البراءة من الكافرين تعني أن لا نتنازل لهم عن شيء من الدين، وأن لا نحبهم فنحب ما هم عليه من كفر، وأن لا نساعدهم على مسلم قط، وأن لا نتخذ منهم بطانةً وأعواناً في أماكن يطلعون منها على أسرار المسلمين وينفذون من خلالها إلى إضعافهم وتفشيلهم. والذين يأخذون أصول البراءة على إطلاقها دون تفصيل ومعرفة بالاستثناءات قد يقعون في كثير من الظلم والحرام.
ولذلك سنفصل -بحول الله- فيما يأتي هذه الاستثناءات والأمور التي لا تخالف ولا تناقض أصل البراءة:
استثناءات لا تنقض أصل البراءة:
أولاً: اللين عند عرض الدعوة:
لا تعني البراءة من الكافرين حجب دعوة الإسلام عنهم وتركهم لما هم فيه من ضلال. بل يحتم الإسلام على أهله دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والحرص على هدايتهم والرغبة الأكيدة في تحولهم إلى الإسلام ولما كان هذا لا يأتي إلا بالدخول إلى النفوس من مداخلها واستجلاب رضاها وراحتها فإن الإسلام جعل سبيل الدعوة مع الكفار وغيرهم هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين} (النحل:125).. وذلك أن النفوس الشاردة، والقلوب القاسية لا تعود إلى الإسلام ولا تلين إلا بالملاينة والملاطفة وإظهار العطف والشفقة والحرص.(/13)
ولذلك قال تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه:44) وهكذا صنع موسى مع فرعون لاطفه في أول لقاء له وشرح له دعوته وجادله بالحسنى ووكل أمره لله بعد أن أعلن فرعون عداوته له. وهكذا أيضاً فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين والكافرين والمعاندين ممن عرض عليهم دعوته سواء كانوا من العرب المشركين أو اليهود أو النصارى جادلهم رسول الله بالحسنى ودعاهم باللين والبيان وصبر معهم صبراً طويلاً ولم يثبت قط أنه أهانهم أو اغلظ عليهم عند عرض الدعوة أبداً وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (العنكبوت:46) وقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل:125)، وقوله: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} (المزمل:10) وقوله: {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية:22) وقوله: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} (الشعراء:216) ولم يقل: فاغلظ لهم القول وسبهم واشتمهم.
وهذه الآيات كلها ومثلها بالمئات في القرآن الداعية إلى الحكمة والصفح الجميل عن المكذبين لا تناقض قوله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} (التوبة:73)، وذلك أن الغلظة المأمور بها هنا إنما هي الغلظة في القتال فقط، وهذا مقام يحتاج إلى شدة وغلظة بخلاف مقام الدعوة، ولكل مقام مقال، كما يقولون. وذلك بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} (التوبة:123). فهذه الغلظة هنا تفسر الغلظة في الآية الأخرى وأن ذلك إنما يكون في مقام القتال والمقاتل إن لم يتصف بالشجاعة والقوة والغلظة لمن يقاتلونه لا ينتصر. فلو رحمه أو لاينه أو أشفق عليه فإنه لا يقتله. ومما يوضح ذلك جلياً ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في موقعة بدر، فقد رص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ودعا المؤمنين إلى الشجاعة في القتال وقال: [والله لا يقتل رجل منكم اليوم مقبل غير مدبر إلا دخل الجنة] (رواه أبو إسحاق. انظر البداية والنهاية 3/276-277). وفي هذا غاية التحريض على بذل النفس ولكنه بعد المعركة وهزيمة الكفار وأسر سبعين منهم لاطف الأسرى ولاينهم وداوى جراحاتهم وأمر الصحابة بإكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم [اكرموا الأسرى] (الترمذي وأبو داود)، حتى أن الصحابة كانوا يؤثرونهم بالطعام الجيد على أنفسهم وأنزل القرآن في ملاطفة الأسرى ودعوتهم للإسلام فقال تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما اخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} (الأنفال:70)، وهذا غاية الملاينة والملاطفة في دعوتهم إلى الإسلام وأن الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إن هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله. وبهذا يظهر لنا جليا التفريق بين مقام القتال ومقام الدعوة.
فمقام الدعوة هو مقام اللين والملاطفة وتخير الألفاظ وإحسان القول رغبة في تطميع الكافر في الدين، واستمالة لقلبه إليه.
والجاهلون بهذا لا يميزون بين مقام ومقام ويظنون أن البراءة من الكفار تعني سبهم وشتمهم وإغلاظ القول لهم في مقام الدعوة وهذا غاية الجهل والحماقة.
ثانياً: حل الزواج بالكتابية وأكل ذبيحة الكتابي:
لا شك أن الكتابي يهودياً كان أو نصرانياً هو ممن حكم الله عليهم بالكفر والخلود في النار إذا سمع بالإسلام ولم يدخل فيه كما قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار *لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منه عذاب أليم} ( المائدة:72-73).(/14)
وهذا نص واضح في كفرهم لمقالتهم الشنيعة في الله ولا شك أيضاً أنهم لا يخرجون من مسمى أهل الكتاب بهذه المقالة فقد ناداهم الله مرارا بهذا الاسم مع وجود معتقدهم هذا فيهم كقوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه إن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً} (النساء:171)، فقد ناداهم الله بمسمى أهل الكتاب مع مقالتهم هذه.. وبالرغم من ذلك فقد أباح الله للمسلم أن يأكل مما ذبحه الكتابي وأن يتزوج المرأة الكتابية وهذا مجمع عليه بين المسلمين ويشهد لهذا قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهم محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} (المائدة:5) وأنت ترى هنا أن الله قد جعل طعام أهل الكتاب من الطيبات المباحة والمقصود بطعامهم ذبيحتهم وهذا لا خلاف فيه أيضاً، وكذلك جعل الله المحصنة الكتابية أي العفيفة التي لا ترضى الزنا مباحاً الزواج بها كالعفيفة المسلمة أيضا. وبهذا تعلم أن الأكل من طعام اليهود والنصارى لا ينافي ولا يعارض البراءة منهم، بل هذا مما استثنى، وكذلك الزواج من نسائهم. ومعلوم انه يحصل مع الزواج من نسائهم كثير من المودة والمحبة الزوجية الفطرية التي تقوم بين الأزواج عادة كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الروم:21) ولا شك أن المودة هنا مستثناة من النهي عن المودة للكفار المنصوص عليها في مثل قوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (المجادلة:22).. الآية. فمودة الزوج المسلم لزوجته الكتابية مخرج من ذلك ولا شك لأنه من المباح الذي لا يؤاخذ الله عليه ولا شك إن هذه المودة المباحة هي المودة الفطرية التي ينشئها الله في قلب الزوج لزوجته والتي لا يجوز معها اطلاع هذه الزوجة على عورات المسلمين أو إعانتها أو إعانة قومها على الإسلام و أهله. ومعلوم كذلك إن الزواج بالكتابية يستلزم أيضا السماح لها بالبقاء على دينها إن شاءت وعدم الوقوف في وجه أدائها لشعائر هذا لدين إن أرادت وان لا تجبر على الإسلام ولا تدخل فيه إلا برضاها وهذا من المعلوم من الدين ضرورة لا يماري فيه إلا جاهل.
وكذلك الأمر بالنسبة لأكل طعام أهل الكتاب لا شك انه لا يمنع أن يأكله المسلم هديةً أو بيعاً وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها له اليهودية في خيبر. وأكل منها أصحابه، ومعلوم أن الإهداء والبيع ونحو ذلك قد يحصل به تعارف ونوع صداقة ومودة وكل ذلك لا ينافي ولا يناقض الأصل الذي شرحناه آنفا وهو البراءة من الكفار.
ثالثا: المجاملة والإحسان والدعاء له بالهداية:
.. ومن الأمور التي لا تنقض أصل البراءة من الكفار أيضا مجاملة الكافر المعاهد والذمي والمستأمن والإحسان إليه والأصل في هذا هو قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} (الممتحنة :8) ويدخل في البر بهم عيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم، وقبول هداياهم والإهداء لهم، وتهنئتهم في الأفراح، وتعزيتهم في الأحزان ومساعدة فقرائهم والمحتاجين منهم وزيارتهم في منازلهم، وقبول دعوتهم، والدعاء لهم بالهداية، ونحو ذلك وهذا مما أجمع عليه المسلمون ولا مخالف لذلك ممن لهم رأي يعتد به.
ويدل لذلك ما يأتي:-
(أ) الدعاء بالهداية لهم:
وهذا حتى لو كانوا محاربين أيضا وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لطوائف كثيرة من الكفار ليهديهم الله: كما جاء في مسلم أنه قال: [اللهم اهد أم أبي هريرة] (مسلم وأحمد) وذلك عندما طلب أبو هريرة من الرسول أن يدعو الله لأمه الكافرة كي تسلم، ولذلك جاء في البخاري عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله فقال الطفيل: يا رسول الله، إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل:هلكت دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: [اللهم اهد دوساً وائت بهم] (البخاري ومسلم وأحمد) ودوس قبيلة أبي هريرة. وجاء في الترمذي وأحمد أن رسول الله دعا لثقيف فقال: [اللهم اهد ثقيفاً]، وكانوا قد تحصنوا منه بعد فتح مكة في ديارهم وامتنعوا من المسلمين ولم يستطع المسلمون فتح الطائف، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهديهم، فأسلموا وقدموا المدينة، وفي كل هذا استحباب الدعاء للمعاندين من الكفار لعل الله يهديهم.
(ب) الإهداء لهم وقبول هداياهم:(/15)
وقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إلى عمر بن الخطاب حلة من حرير فقال: يا رسول الله تكرهها وترسلها لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [أني لم أرسلها لك لتلبسها ولكن البسها بعض نسائك] فأهداها عمر بن الخطاب لأخ له مشرك بمكة. وهذا دليل واضح أيضا على أنه يجوز الإهداء للكفار ما لا يحل لبسه للمسلمين كالحرير وكذلك قبل رسول الله هدايا المقوقس (ابن خزيمة وأبو نعيم)، وقبل الشاة المصلية من اليهودية في خيبر (البخاري وغيره عن أنس).
(ج) عيادة مرضاهم:
وقد روي البخاري عن أنس رضي الله عنه أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده: فقعد عند رأسه فقال له: [أسلم] فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: [الحمد الله الذي أنقذه من النار]. وروي البخاري أيضاً تعليقاً جازماً به إلى سعيد بن المسيب عن أبيه انه قال: [لما حُضِر أبو طالب جاءه النبي صلى الله عليه وسلم] وهذا مشهور في قصة عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على أبي طالب في مرض موته وقول عمرو بن هشام له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فمات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب. والشاهد من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد المشركين واليهود.
د- التصدق عليهم والإحسان لهم:
وهذا ثابت في النص القرآني الذي ذكرناه وكذلك في قوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (البقرة:272) وقد قال ابن كثير عن هذه الآية: قال أبو عبدالرحمن النسائي: أنبأنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحيم أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش عن جعفر بن عباس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم" فنزلت هذه الآية {ليس عليك هداهم..} وهذا ما رواه أبو حذيفة، وابن المبارك وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحضرمي عن سفيان وهو الثوري، وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن القاسم عن عطية حدثني أحمد بن عبدالرحمن يعني الأشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث ابن إسحاق عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية {ليس عليك هداهم..} إلى آخرها. فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين.
وكذلك روى البخاري وغيره عن أسماء بنت الصديق أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن أمها قد أتتها وهي راغبة -أي عن دين الإسلام- أفتتصدق عنها؟
فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلها، وهذا بالطبع موافق ومقرر لقوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (لقمان:15).
والخلاصة من كل هذا أن الصدقة والإحسان على الكفار جائزة بل مستحبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [في كل كبد رطبة أجر] (البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد وغيرهم).
*****************
*********(/16)
الولاء والبراء
(الشبكة الإسلامية)
من خصائص المجتمع المسلم أنه مجتمع يقوم على عقيدة الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من حادّ الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين .
وهاتان الخاصيَّتان للمجتمع المسلم هما من أهم الروابط التي تجعل من ذلك المجتمع مجتمعا مترابطاً متماسكاً، تسوده روابط المحبة والنصرة، وتحفظه من التحلل والذوبان في الهويات والمجتمعات الأخرى، بل تجعل منه وحدة واحدة تسعى لتحقيق رسالة الإسلام في الأرض، تلك الرسالة التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
أهمية عقيدة الولاء والبراء :
تنبع أهمية هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة من كونها فريضة ربانية، ومن كونها كذلك سياج الحماية لهوية الأمة الثقافية والسياسية، ولا أدلَّ على أهمية هذه العقيدة من اعتناء القرآن بتقريرها، فمرة يذكرها على اعتبار أنها الرابطة الإيمانية التي تجمع المؤمنين فتحثهم على فعل الصالحات، قال تعالى:} والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم { (التوبة:71 )، ومرة يذكرها محذرا من الانسياق وراء تحالفات تضع المسلم جنبا لجنب مع الكافر في معاداة إخوانه المسلمين، قال تعالى:} لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير { (آل عمران:28)، ومرة يذكر عقيدة الولاء والبراء على أنها الصبغة التي تصبغ المؤمنين ولا يمكن أن يتصفوا بما يناقضها، قال تعالى:} لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون { (المجادلة:22). إلى غير ذلك من الآيات.
وفي بيان أهمية هذه العقيدة يقول العلامة أبو الوفاء بن عقيل :" إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري - عليهما لعائن الله - ينظمون وينثرون كفراً .. وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب "
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:" فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله.. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فكان يقول لبعضهم: ( أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين ) رواه النسائي وأحمد .
ولولاء المؤمن لأخيه صور متعددة نذكر منها:
1. ولاء الود والمحبة: وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه ولا يمكر به. بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم .
2. ولاء النصرة والتأييد: وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم، يدفع عنه الظلم، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا يا رسول الله: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه ) أي تمنعه من الظلم. رواه البخاري ، فبهذا الولاء يورث الله عز وجل المجتمع المسلم حماية ذاتية، تحول دون نشوب العداوات بين أفراده، وتدفعهم جميعا للدفاع عن حرماتهم ، وعوراتهم.
3. النصح لهم والشفقة عليهم: فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم " متفق عليه .(/1)
هذا من جهة علاقة الأمة بعضها ببعض والذي يحددها واجب الولاء . أما من جهة علاقة الأمة أو المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات الكافرة والتي يحددها واجب البراء، فقد أوجب الله عز وجل على الأمة البراء من الكفر وأهله، وذلك صيانة لوحدة الأمة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وجعل سبحانه مطلق موالاة الكفار خروجا عن الملة وإعراضاً عن سبيل المؤمنين، قال تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير }(آل عمران:28) فكأنه بموالاته للكافرين يكون قد قطع كل الأواصر والعلائق بينه وبين الله، فليس من الله في شيء.
وتحريم الإسلام لكل أشكال التبعية للكافرين, لا يعني حرمة الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، كلا ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها، ولكن المقصود والمطلوب أن تبقى للمسلم استقلاليته التامة، فلا يخضع لكافر، ولا يكون ولاؤه إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومن أخطر صور الموالاة التي يحرمها الإسلام ويقضي على صاحبها بالردة والكفر ما يلي:
1- ولاء الود والمحبة للكافرين: فقد نفى الله عز وجل وجود الإيمان عن كل من وادَّ الكافرين ووالاهم، قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون { (المجادلة:22) ، إلا أن هذه المفاصلة والمفارقة لا تمنع من البر بالكافرين والإحسان إليهم - ما لم يكونوا لنا محاربين – قال تعالى:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(الممتحنة:8 ) .
2- ولاء النصرة والتأييد للكافرين على المسلمين: ذلك أن الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع الكافر ضد إخوانه المسلمين، قال تعالى :} يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا { (النساء:144)، وقال أيضاً : } ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون { (المائدة:81 ) يقول ابن تيمية عن هذه الآية : " فذكر جملة شرطية تقتضي أن إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف لو التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } فدلّ ذلك على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلَّ ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه .. ".
وهناك صور للولاء المحرم ولكنها لا تصل بصاحبها إلى حد الكفر، منها:
1- تنصيب الكافرين أولياء أو حكاما أو متسلطين بأي نوع من التسلط على المسلمين، قال تعالى: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }(النساء:141)، ولأن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر وقال : " لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله " ويقول النووي فيما نقله صاحب الكفاية: " لأن الله تعالى قد فسّقهم فمن ائتمنهم فقد خالف الله ورسوله وقد وثق بمن خونه الله تعالى ".
2- اتخاذهم أصدقاء وأصفياء: قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون }(آل عمران:118) قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: " لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين .. فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرفهم ما هم منطوون عليه من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن مخالتهم".
3- البقاء في ديار الكفر دون عذر مع عدم القدرة على إقامة شعائر الإسلام، قال تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } (النساء:97-98).
4- التشبه بهم في هديهم الظاهر ومشاركتهم أعيادهم، قال صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) رواه أبو داود .
أمور لا تقدح في البراء من الكافرين :(/2)
ربما ظن البعض أن معاداة الكافرين تقتضي أن يقطع المسلم كل صلة بهم، وهذا خطأ، فالكافر غير المحارب إن كان يعيش بيننا أو سافرنا نحن لبلاده لغرض مشروع فالاتصال به ومعاملته يوشك أن يكون ضرورة لا بد منها، فالقطيعة المطلقة سبب للحرج العظيم بلا شك، ثم هي قطع لمصلحة دعوتهم وعرض الإسلام عليهم قولا وعملا، لذلك أباح الشرع صنوفا من المعاملات معهم منها:
1. إباحة التعامل معهم بالبيع والشراء، واستثنى العلماء بيع آلة الحرب وما يتقووا به علينا، ولا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانوا يبيعون ويشترون من اليهود، بل ومات عليه السلام ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما روى ذلك أحمد وغيره .
2. إباحة الزواج من أهل الكتاب وأكل ذبائحهم بشروطه، قال تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }(المائدة: 5).
3. اللين في معاملتهم ولا سيما عند عرض الدعوة عليهم، قال تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن }(النحل:125)، وهكذا أمر الله نبيه موسى – عليه السلام - أن يصنع مع فرعون، قال تعالى:{ فقولا له قولا لينا }(طه:44).
4. العدل معهم وعدم ظلمهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، قال تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }( الممتحنة: 8) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما ) رواه البخاري .
5. الإهداء لهم وقبول الهدية منهم: فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدية المقوقس، كما عند الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع، وأهدى عمر - رضي الله عنه –حلته لأخ له مشرك كما في صحيح البخاري .
6. عيادة مرضاهم إذا كان في ذلك مصلحة: فعن أنس رضي الله عنه قال: " كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه. فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده. فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( الحمد لله الذي أنقذه من النار ) رواه البخاري .
7. التصدق عليهم والإحسان إليهم: قال تعالى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا }(لقمان:15)، وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة .. فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي، قال: ( نعم صلي أمك ) رواه البخاري .
8. الدعاء لهم بالهداية إلى الإسلام، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطوائف من المشركين منهم دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اهد دوسا وأت بهم ) رواه البخاري .
من ثمرات إحياء عقيدة الولاء والبراء في الأمة :
1. ظهور العقيدة الصحيحة وبيانها وعدم التباسها بغيرها وتحقيق المفاصلة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، قال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }(الممتحنة:4).
2. حماية المسلمين سياسيا، وذلك أن ما يوجبه الإسلام من مبدأ الولاء والبراء يمنع من الانجرار وراء الأعداء، وما تسلط الكفار على المسلمين وتدخلوا في شؤونهم إلا نتيجة إخلالهم بهذا الأصل العظيم .
3. تحقيق التقوى والبعد عن مساخط الله سبحانه، قال تعالى: { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون }(المائدة :80)، وقال تعالى:{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار }(هود:113) .
إن عقيدة الولاء والبراء هي عقيدة صيانة الأمة وحمايتها من أعدائها، كما أنها سبب للألفة والإخاء بين أفرادها، وهي ليست عقيدة نظرية تدرس وتحفظ في الذهن مجردة عن العمل؛ بل هي عقيدة عمل ومفاصلة، ودعوة ومحبة في الله، وكره من أجله وجهاد في سبيله؛ فهي تقتضي كل هذه الأعمال، وبدونها تصبح عقيدةً نظرية سرعان ما تزول، وتضمحل عند أدنى موقف أو محك .(/3)
الولاية بين الأخذ والترك 17/3/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أزكى صلاة وأتم تسليم، وبعد: فلا شك أن بعض الطيبين يؤثر أن يعيش في هذه الحياة دون أن يثقل كاهله عبء مسؤولية يعرف أنه محاسب عنها، ويعلم أنها ليست مغنماً بل هي وظيفة شاقة وربما كانت مغرماً، فهو ينظر إلى ما عُهِد إليه توليه على أنه تكليف لا تشريف، والنفس في غنية عنه.
ومما يذكر أن الوزارة قد عرضت على والد بعض أهل العلم وكان من العقلاء الفضلاء فرفضها، فسأله ابنه واستعجب أمره فأجابه متمثلاً بيت عبدالرحيم بن علي اللخمي:
وألذ من نيل الوزارة أن ترى
يوماً يُريك مصارع الوزراء!
فعلام يُعَنّي المرءُ نفسه بما لا طائل في الحقيقة من ورائه لا دنيا ولا أخرى؟
وطائفة أخرى من الطيبين ترى أن في الولاية سانحة لنشر الدين وإظهار شعائره، فمن خلالها يكون الأمر بالمعروف، وبها يكون للنهي عن المنكر سلطان، فإن قيل: إن ذلك يكون بغير الولاية وأبواب الدعوة بحمد الله مشرعة، فربما أجيب: بأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكل ذلك يرفع العقوبة عن الأمة، ويفتح أبواب السماء والأرض بالبركات.
فما هو القول الوسط في هذه المسألة؟ أحببت أن أعرض الجواب من خلال سورة يوسف، فالوقفات معها لا تزال مستمرة.
وعلى القول بأن يوسف –عليه السلام- قد طلب الولاية، يتوجه السؤال هل يجوز أن نطلب الولاية؟ وخاصة مع ورود من أحاديث عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ في عدم جواز طلب الولاية، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة وحديث أبي برد عن أبي موسى في قصة الأشعريين، هل نقول كما قال بعض المفسرين والأصوليين: إن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأتِ ما يعارضه؟ أما نقول هنا بورود المعارضة فلا يكون شرعاً لنا.
والجواب: أن طلب الولاية إذا قامت دواعيه فهو مشروع أما إذا كان طلب الولاية لحظ النفس أو لتقديم غير الكفء فلا يجوز، ولذلك فإن على الخليفة وعلى الوالي وعلى المسؤول الأول إذا جاءه من يطلب الولاية وهو يعرف أن في البلد من هو مثله أو أكفأ منه ألا يوليه لأن طلبه للولاية نقص، وهو يريد حظ نفسه أما إذا كان الإنسان يطلب الولاية لمصلحة الأمة، فالذي يترجح أنه يجوز للمسلم أن يطلب الولاية، بل قد يجب عليه ذلك.
والخلاصة أنه يجوز للمسلم أن يطلب الولاية إذا لم تكن لحظ نفسه، وإنما لحظ الأمة ولمصلحة الأمة كما فعل يوسف _عليه السلام_، أما إذا كان لحظ النفس وتحصيل مكسب يراه حلالاً وهناك من يمكن أن يلي هذه الولاية ممن هم مثله أو أفضل منه فنقول له: السلامة لا يعدلها شيء ولا يجوز لك أن تطلب الولاية أخذاً بحديث عبد الرحمن بن سمرة وحديث أبي موسى الأشعري _رضي الله عنهما_، في النهي عن طلب الولاية، وأن من طلبها لا يولى إيّاها.
وعليه فتكون معارضة الآثار الواردة في شرعنا لما أثر عن نبي الله يوسف من أوجه، كنحو وجود الكفء أو الأقدر، أو بسبب ضعف المخاطب عن الولاية، أو لاستشراف نفسه لها، أو نحو ذلك، ولا تكون معارضة لها من أوجه أخرى، وبهذا يرتفع الإشكال.
هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
الولاية على الغير[1/2]
هاني بن عبد الله الجبير 10/8/1427
03/09/2006
تعريف الولاية :
الفصل الأول : من تثبت عليه الولاية :
من عظيم حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بخلقه، أنّه خلق الإنسان أطوارًا وأركبه طباقًا، ونقله من حالٍ إلى حال . فهو يخرج من بطن أمه ضعيفًا، نحيفًا، وهن القوى، ثم يشب قليلاً حتى يكون صغيرًا، ثم حدثًا، ثم مراهقًا، ثم شابًا، كما قال تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوةٍ" [الروم :54] .
وكما ابتدأ ضعيفًا فإن الله يصيّره من بعد قوّته ضعيفًا هرمًا، حتى لا يكاد يدبّر أموره، ولا يلبي شئونه، وكما قال أسامة بن منقذ وقد أعياه حمل القلم بعد ما شاخ:
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلمًا *** من بعد حمل القنا في لبّة الأسد
وكذلك فإن الله يبتلي بعض عباده بأنواع من العاهات، كالجنون ونحوه، مما يفقد الإنسان تمييزه، ولا ريب أن هؤلاء ليسوا بأهلٍ للتصرُّف .
فمن رحمة الله تعالى أن اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجزه عن النظر في مصالحه .
ونتناول في هذه الدراسة الولاية الجبريّة على الغير في الأمور الماليّة وذلك من خلال ما سيأتيك تباعًا من تمهيدٍ وفصولٍ ثلاثة . وفق الله الجميع لهداه .
تعريف الولاية :
أولاً : الولاية في اللغة :
الولاية – بكسر الواو – مصدر وَلِي، ووَلَي(1) – والثانية قليلة الاستعمال(2) – يلي وهي تعني القيام على الغير وتدبيره(3).
وتكون الولاية بمعنى القرابة والنّصرة، والمحبة(4). فتأتي الواو مفتوحة ومكسورة(5).
وكلا المعنيين مراعى في الولاية : لأنّها تحتاج من الوليّ إلى التدبير والعمل .. كما تحتاج إلى نصرة المولى عليه، والنّسب دَعَامَة قويّة من دعائم تحقيق هذه النصرة(6).
وإن كان الأوّل هو المقصود بهذا البحث .
ثانيًا : الولاية في الاصطلاح :
هي حَقُّ تنفيذ القول على الغير، شاء الغير أو أبى(7). فيكون الوليّ من له حق القول على الغير .
وقد انتقد الشيخ مصطفى الزرقا هذا التعريف، إذ قال: (وهذا التعريف غير سديد ؛ لأنه يعرف الولاية ببيان حكمها . لا بشرح حقيقتها) أ.هـ(8).
واختار أن يكون التعريف هو : قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شئونه الشخصية والمالية(9).
والحقيقة أن التعريف ببيان الحكم أو اللوازم الخارجية - وهو الذي يسمّيه علماء المنطق بالحد الرسمي(10)- نوع معتبر من أنواع المعرفات، فلا ضير في استعماله .
الفصل الأول : من تثبت عليه الولاية :
تثبت الولاية على الصغير، والمجنون – ومن في حكمه – والمملوك، والسفيه، فهؤلاء تثبت عليهم الولاية . ونفاذ تصرّفاتهم خاضع لعدة اعتبارات . وهناك من لا يولي عليه لكنه يُمنع من التصرف بنوع، أو أنواع من التصرفات كالمريض مرض الموت، والمفلس، وغيرهما، وهذا القسم الأخير غير داخل في بحثنا إذ أنّه لا يولي عليهم .
وسنستعرض الآن هذه الأصناف الأربعة :
أولاً : الصغير ..
الصغير في اللغة : ضد الكبير(11).
وهو في عرف الفقهاء : من لم يبلغ من ذكرٍ وأنثى(12).
والصغير تثبت عليه الولاية باتفاق أهل العلم(13)؛ لقوله تعالى : "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء:6] .
فلمّا بين أنه لا يجوز دفع المال قبل بلوغ النكاح وإيناس الرشد دلّ ذلك على ثبوت الولاية على غير البالغ(14).
ثانيًا : المجنون ...
المجنون في اللغة من أصابه الجنون .
والجنون استتار العقل . واختلاطه، وفساده(15).
وهو في عرف الفقهاء : زوال العقل وفساده(16).
وقد اتفق الفقهاء على إثبات الولاية على المجنون(17).
وفي حكم المجنون المعتوه، ومن أصابه الخرف لكبر سنه .
فإنّ العته نوع من الجنون ؛ إذ هو زوال العقل(18).
إلاّ أنّ الحنفية فرّقوا بينهما فجعلوا العته نوعًا مختلفًا ؛ فهو عندهم من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون(19).
إلاّ أنه على هذا الاعتبار أيضًا فإنّ المعتوه تثبت عليه الولاية ؛ إذ أن الحنفية يلحقونه بالصبي المميّز(20).
ثالثًا المملوك ...
المملوك تثبت عليه الولاية باتفاق(21)؛ وذلك لعجزه ونقصان رتبته حكمًا؛ قال تعالى: "ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء" [ النحل : 75 ] .
رابعًا السَّفِيْه ...
يقال سَفِه فلان سَفَاهةً فهو سَفِيه(22).
والسَّفَه نقص في العقل، وهو ضد الحلم(23).
وفي الاصطلاح : خفّةٌ تبعث على العمل في المال بخلاف مقتضى العقل والشرع(24).
وقد اختلف الفقهاء في السَّفيه هل يحجر عليه، على قولين :
القول الأول : لا يحجر على الحر البالغ . وإن كان سفيهًا . وإنّما يوقف تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه ماله . وإن كان مبذرًا .
وبه قال أبو حنيفة(25) .
القول الثاني : يحجر على السّفيه مطلقًا . وبه قاله أبو يوسف ومحمد بن الحسن(26)، وهو مذهب المالكية(27) والشافعية(28) والحنابلة(29).
الأدلة :(/1)
استدل أصحاب القول الأول بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- عمومات الأدلة في البيع، والهبة، والإقرار، من نحو قوله تعالى : "وأحل الله البيع" [القرة:282] . فقد شرع الله هذه التصرفات شرعًا عامًا والحجر على السفيه يناقض هذه الأدلة(30).
يمكن أن يناقش : بأن عمومات النصوص خص منها المجنون والصغير بالاتفاق، فليكن السفيه مخصوصًا كذلك بالأدلة الدالة على الحجر عليه .
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً ذكر للنبي أنه يخدع في البيع فقال إذا بايعت فقل : "لا خلابة"(31).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يبايع وكان في عقدته(32) ضعف، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال يا رسول الله إنّي لا أصبر عن البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن كنت غير تارك للبيع فقل هاء وهاء ولا خلابة"(33) (34).
ففي الحديثين دليل على أنّه لا يحجر على الكبير ولو تبين سفهه(35).
نوقش : بأن عدم الحجر عليه لا يدل على منع الحجر على السفيه، لأنه لو كان الحجر عليه لا يصح لأنكر عليهم طلبهم الحجر عليه(36).
3- أن في الحجر عليه سلبٌ لولايته، وسلبها إهدار لآدميته وإلحاق له بالبهائم وهو أشد ضررًا من التبذير، فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى . فلا يحجر عليه ولو كان مبذرًا منعًا للضرر الأعلى(37).
يمكن أن يناقش : بأن الحجر عليه لحظ نفسه حفظًا لأمواله، وإلحاقه بالبهائم منتقضٌ بالعبد، والصغير، والمجنون، فإنهم يحجر عليه مع آدميتهم .
4- أن منع المال منه يُرادُ منه التأديب، ومنع المال منه بعد بلوغ خمسٍ وعشرين لا فائدة منه إذ لا يتأدب بعد هذا السن غالبًا، إذ قد يصير جَدًّا في مثل هذا السن(38).
نوقش : أنّ ما ذكر من كونه جدًّا مُتَصَوَّرٌ فيمن له دون هذا السن، فإن المرأة تكون جَدّةً لإحدى وعشرين سنَة(39) فظهر بهذا عدم صحة تعليق الحكم بهذا الوصف وهو بلوغ خمس وعشرين سنة .
5- أن السَّفيه حرٌ بالغ عاقل مُكَلَّف، فلا يحجر عليه كالرشيد(40).
نوقش : بأن القياس منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة، فإنه بالغ حر عاقل مكلف ويمنع من ماله لسفهه اتفاقًا . وما أوجب الحجر قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها(41).
واستدل أصحاب القول الثاني بعدّة أدلة منها ما يلي :
1- قوله تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء : 60].
فقد علّق الدفع على شرطين، والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما فلا يدفع المال إلا للرشيد البالغ(42).
2- قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا" [النساء:5].
فقد بين أنّ السفيه لا يجوز دفع ماله إليه(43)، فدلّ على أن سبب الحجر هو السَّفَه(44).
نوقش:
1- بأن المراد بالسفهاء النساء والأولاد الصغار(45).
2- كما نوقش بأن المراد لا تؤتوهم مال أنفسكم؛ لأنّ الله سبحانه أضاف المال إلى المعطي(46).
وأجيب: بأن القول بأنّ السفهاء النساء غير صحيح؛ فإنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات(47).
كما أجيب بأنّ إضافة المال للمخاطبين، لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها، فنسبت إليهم مع كونها للسفهاء(48).
3- قوله تعالى : "فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُمِلَّ هو فليملل وليه بالعدل" [البقرة:282] .
فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، وكان معنى الضعيف راجعًا إلى الصغير ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفه اسم ذمٍّ ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه(49).
4- روى عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع بيعًا، فقال علي رضي الله عنه: لآتينَّ عثمان ليحجُر عليك . فأتى عبد الله بن جعفر الزُّبيرَ، فقال: قد ابتعت بيعًا، وإنّ عليًا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليَّ . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فقال عثمان : كيف أحجُر على رجلٍ شريكه الزبير(50) .
وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم يخالفها أحدٌ في عصرهم، فتكون إجماعًا(51).
5- أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير، وعدم الرشد، الذي يوجد فيهم، -غالبًا- فوجب أن يكون الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرًا(52).
الترجيح :
بعد تأمُّلِ ما سبق يظهر لي رجحان القول الثاني لشهرة الحجر على السَّفيه عند الصحابة كما في حديث لا خلابة، وقصة عبد الله بن جعفر، مع ما ورد على أدلة القول الأوّل من مناقشات، والله أعلم .
|1|2|
________________________________________
(1) شذا العرف في فن الصرف ص (69)، وفيه أيضًا أن الولاية من الحرف ؛ لذا كان قياس مصدره فعالة بكسر الفاء .
(2) المصباح المنير ص (258) (ولي) .
(3) لسان العرب (15/4070)، معجم مقاييس اللغة (6/141) (ولي) .
(4) المرجعان السابقان .
(5) المصباح المنير ص (258) (ولي ).
(6) الولاية على النفس للدكتور حسن علي الشاذلي ص (4) .(/2)
(7) التعريفات للجرجاني ؛ القاموس الفقهي لغة واصطلاحا لسعدي أبو جيب ص (390) ؛ معجم الفقهاء ص (510) .
(8) المدخل الفقهي العام (2/845) .
(9) المدخل الفقهي العام (2/843) .
(10) شرح الأخضري على السلم، ص (28) ؛ معايير الفكر د. محمد الفرفور ص (54) ؛ ضوابط المعرفة للميداني ص (58) .
(11) لسان العرب لابن منظور (4/458) ؛ القاموس المحيط ص (545)، (الصغر) .
(12) العناية شرح الهداية (8/201) . بداية المجتهد (2/211) ؛ مغني المحتاج (2/166) ؛ كشاف القناع (3/442) .
(13) المراجع السابقة وانظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/29) .
(14) النظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/28) .
(15) القاموس المحيط ص (1532) (جنه)، المصباح المنير ص (43) (جنن) ؛ تهذيب الأسماء واللغات (3/52) .
(16) التعريفات للجرجاني ص (82) ؛ القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب ص (69) .
(17) تكملة فتح القدير شرح الهداية (8/186) ؛ التاج والإكليل (5/57) ؛ مغني المحتاج (2/165) ؛ كشاف القناع (3/446) ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/29) .
(18) تهذيب الأسماء واللغات (3/190) الدر النقي (3/619) .
(19) حاشية ابن عابدين (6/144) .
(20) المبسوط (25/21) ؛ الكفاية شرح الهداية (8/187) .
(21) العناية شرح الهداية (8/186) ؛ قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص (350)؛ مغني المحتاج (2/165) ؛ معونة أولي النهى (4/567 ).
(22) المصباح المنير ص (106) (سفه) .
(23) معجم مقاييس اللغة (3/79)، (سفه) ؛ القاموس المحيط (1609) (سفه) .
(24) التعريفات للجرجاني ص (125) ؛ القاموس الفقهي ص (174) .
(25) الهداية (8/191) ؛ بدائع الصنائع (6/172) .
(26) الهداية (8/191) ؛ بدائع الصنائع (6/172) .
(27) المدونة (5/220) ؛ التاج والإكليل (5/85) .
(28) روضة الطالبين (3/465) ؛ مغني المحتاج (2/170) .
(29) المغني لابن قدامة (6/609) ؛ كشاف القناع (3/452) .
(30) بدائع الصنائع (6/174) .
(31) صحيح البخاري كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع رقم (2117)، فتح الباري (4/395)، صحيح مسلم كتاب البيوع باب من يخدع في البيع رقم (1533) (3/1165) .
(32) أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه . لسان العرب (3/299) (عقد) .
(33) بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة . فتح الباري (4/396) .
(34) سنن أبي داود كتاب البيوع باب في الرجل يقول لا خلابة رقم (3496)، عون المعبود (9/278) ؛ سنن الترمذي أبواب البيوع باب ما جاء في من يخدع في البيع رقم (1268) ؛ تحفة الأحوذي (4/455)، سنن النسائي الصغرى، كتاب البيوع باب الخديعة في البيع رقم (4485) (7/252)، سنن ابن ماجة كتاب الأحكام باب الحجر على من يفسد ماله رقم (2354) (2/788) . من طريق سعيد عن قتادة عنه به . وقد صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (411) (1/134) .
(35) فتح الباري (4/396) .
(36) المرجع السابق .
(37) الهداية (8/193) .
(38) الهداية (8/194 )
(39) المغني لابن قدامة (6/596) .
(40) الهداية (8/193) .
(41) المغني لابن قدامة (6/596) .
(42) المرجع السابق .
(43) الجامع لأحكام القرآن (5/27) .
(44) بداية المجتهد (2/210) .
(45) بدائع الصنائع (6/174) .
(46) المرجع السابق .
(47) الجامع لأحكام القرآن (5/28) .
(48) الجامع لأحكام القرآن (5/29) .
(49) المغني لابن قدامة (6/596) .
(50) أخرجه الشافعي في مسنده رقم (286)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/61) .
(51) المغني لابن قدامة (6/610) .
(52) بداية المجتهد (2/210) .
الولاية على الغير[2/2]
هاني بن عبد الله الجبير 6/7/1427
31/07/2006
- الفصل الثاني: الأحق بالولاية
- الفصل الثالث: انتهاء الولاية
الفصل الثاني: الأحق بالولاية
يُقَسِّم فقهاء المذهب الحنفي الولاية إلى قسمين: ولاية على النفس، وولاية على المال(1) والولاية على النفس هي: الإشراف على شئون القاصر الشخصية من صيانة، وحفظ، وتأديب، وتعليم، وتزويج، وتطبيب(2).
والولاية على المال هي الإشراف على شئون القاصر المالية من حفظ المال، وإبرام العقود، وسائر التصرفات المتعلِّقَة بالمال(3).
أما الجمهور فإنَّ الوليّ على النفس عندهم هو الولي على المال. ويظهر ذلك من خلال تأمل ما يلي:
1- أنني لم أجد منهم من قَسَّم الولاية إلى قسمين كما فعل فقهاء الحنفية .
2- أنّ الولي على المال عندهم(4) هو الذي يملك حق الإجبار على التزويج، كلّ على حسب ما اختاره من ترتيب الأولياء. وهذا يعني أن الوليَّ على النفس هو الولي على المال.
3- أنّ المالكية قسَّموا الحجر إلى قسمين: حجرٌ بالنسبة للنفس، وحجر بالنسبة للمال.
وعنوا بالحجر على النفس تدبير نفس الصبيّ وصيانته، وجعلوا الوليّ فيهما واحدًا(5).(/3)
4- وأن الحنابلة جعلوا الولي على المال في باب الحجر، هو: الولي على النفس، الذي من حقّه الإذن في الإجراء الطبي للقاصر، فقد قال ابن قدامة(6) -رحمه الله-: (وإن قطع طرفًا من إنسان فيه أكلة، أو سلعة، بإذنه، وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه،.. إن كان من قُطِعَت منه صبيًّا أو مجنونًا. وقطعها أجنبيٌّ، فعليه القصاص؛ لأنّه لا ولاية له عليه، وإن قطعها وليّه، وهو الأب، أو وصيُّه، أو الحاكم, أو أمينه المتولي عليه، فلا ضمان عليه ..)أ.هـ(7).
وقد قال قبل ذلك في باب الحجر: (ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر، إلا الأب أو وصيّه بعده ، أو الحاكم عند عدمهما) (8) أ.هـ
فبناء على ما سبق فقد اختلف الفقهاء في الأحقِّ بالولاية على أربعة أقوال :
القول الأول: أن الولاية تثبت للأب، ثم لوصيّه، ثم الحاكم، وهو مذهب المالكية(9)، والحنابلة(10).
القول الثاني: أنها بعد الأب للجد -أب الأب- ثم وصيّ من تأخر موته منهما، ثم الحاكم، وهو مذهب الشافعي(11)، ورواية عن الإمام أحمد(12).
القول الثالث: أنّ الولاية –على النفس– تكون للأقرب فالأقرب من العصبات بالنفس على ترتيبهم في الإرث، والولاية على المال تكون للأب، ثم وصيّه ثم الجد –أب الأب– ثم وصيه، ثم القاضي. وهو مذهب الحنفية(13).
القول الرابع : أنّ الولاية تثبت للأم بعد الأب والجد ، ثمّ تكون للأقرب من العصبات بالنفس ، وهو قول أبي سعيد الإصطخري(14) (15) من الشافعية ، ورواية عن أحمد(16)، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(17) (18).
الأدلة :
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها:
1- أنّ الولد موهوب لأبيه؛ قال تعالى: "ووهبنا له يحيى" [الأنبياء : 90] .
وقال زكريا: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة" [آل عمران: 38]، ولا
شك أن الموهوب وليّ على الهبة(19).
2- أنّ الأب أكمل نظرًا. وأشد شفقة من غيره. وهذا يستلزم توليته على ولده(20).
3- وأمّا تقديم الوصيّ بعد الأب: فلأنه نائب الأب ، فأشبه وكيله في الحياة(21).
4- وأمّا الحاكم؛ فلأنه ولي من لا ولي له(22)؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "السلطان وليُّ من لا ولي له"(23).
واستدل الفريق الثاني بما استدل به الفريق الأول.
1- كما استدل على ولاية الجد بأنّه أبٌ في الحقيقة وإن علا؛ لأن له إيلادًا(24)؛ قال تعالى: ل"ملّة أبيكم إبراهيم" [الحج : 78]. وإذا ثبتت الولاية للأب فليكن الجد كذلك لاشتراكهما في الأبوّة.
ونوقش:
بأن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب، فهو كالأخ، والأخ وسائر العصبات لا ولاية لهم(25).
2- واستدلوا بأن الجد أشفق من غيره فوجب تقديمه(26).
ونوقش:
بأنّ الأب لا يوصي لغير الجد، إلاّ لسبب اطَّلع عليه(27).
واستدل الفريق الثالث بعدة أدلة منها ما يلي:
1- أن الولاية مبناها على الشفقة، والعصبة أشفق من غيرهم(28).
ويمكن أن يناقش:
بأن الأم أكثر شفقةً فتقديمها في الولاية أحق.
2- وأن الأب لا يوصي لغير الجد -مع وجوده – إلا لسبب اطلع عليه(29).
ويمكن أن يناقش:
بأن الولاية مبناها على الشفقة، وشفقة الجد على أولاد ابنه أكبر من شفقة الوصيّ غالبًا.
واستدل الفريق الرابع بعدة أدلة منها:
استدلوا بأن الأم أحد الأبوين فتثبت لها الولاية كالأب(30).
ولكمال شفقتها فهي أولى من الوصي الأجنبي(31).
واستدلوا لولاية العصبة بحجر الابن على أبيه عند خرفه(32).
الترجيح :
الراجح من الأقوال السابقة هو القول الرابع؛ وذلك لقوة أدلته، ولمطابقته للحاجة والواقع؛ إذ أقارب القاصر أشفق عليه، وأعلم بحاجته من الوصي الأجنبي والحاكم، ثم إنه لا يحتاج إلى الرفع إلى الحاكم إذا لم يوجد أحدٌ من عصباته، وأما الأقوال الأخرى فإنّه لا يقام وليّ لمن فقد أباه، أو أباه وجده، إلا من قبل الحاكم وفي هذا من المشقة ما فيه.
وجميع ما سبق في الصغير، ومن بلغ مجنونًا أو سفيهًا، أما من جُنّ بعد بلوغه أو خَرِف(33)، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين :
القول الأول: أنّه لا يحجر عليه إلاّ الحاكم، ولا تكون ولايته إلاّ للحاكم، وهو مذهب الشافعية(34). والحنابلة(35).
القول الثاني: أن ولايته تعود لمن كان وليًّا عليه في صغره، وهو مذهب المالكية(36)، وقول أبي يحيى البلخي من الشافعية(37)، وهو قولٌ للحنابلة(38).
الأدلة:
استدل الفريق الأول بعدّة أدلة منها ما يلي:
1- أنّ ولاية أوليائه انتهت ببلوغه(39).
2- ولأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم(40).
واستدل الفريق الثاني بأن أولياءه أشفق(41).
الترجيح :
عند التأمل في القولين السابقين وما في الأوّل من احتياط، وما في الثاني من رعاية لمصلحة القاصر، يظهر لي أن الأولى جعل الحجر بيد الحاكم، وعليه أن يفوّضه لمن يختاره من أقارب القاصر لكونهم أشفق . وقد أشار إلى ذلك الشافعي(42) رحمه الله تعالى .
مسألة:
لا خلاف بين أهل العلم أنّ الوليّ على العبد سيّده(43).
الفصل الثالث: انتهاء الولاية(/4)
لا خلاف بين أهل العلم أن الولاية على المجنون تنتهي بإفاقته عند الشافعية، والحنفية، واشترط المالكية، والحنابلة الرشد مع الإفاقة(44).
وأما الصغير فقد اختلف الفقهاء بم تنتهي الولاية عليه، على قولين:
القول الأول: تنتهي الولاية عليه ببلوغه . وهو قول أبي حنيفة.
القول الثاني: تنتهي بالبلوغ رشيدًا وهو قول الجمهور.
وقد سبق بيان ذلك مستوفى(45).
كما اختلف الفقهاء هل يحتاج إنهاء الولاية عليه إلى حكم حاكم بذلك، أم لا، على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنها تنتهي بفك القاضي الحجر عنه، وهو قولٌ للشافعية(46).
القول الثاني: تنتهي بنفس بلوغه رشيدًا، وهو قول محمّد بن الحسن(47)، ومذهب الشافعية(48) والحنابلة(49).
القول الثالث: التفصيل فإن كان ذا أبٍ فتنتهي الولاية عليه ببلوغه رشيدًا ، وإن كان وليُّه الوصيّ فلا بُدّ مع ذلك من فكَّ الولي للحجر عنه، وكل ذلك دون إذن قاض(50) وهو مذهب المالكية .
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بأنّ الرُّشد يحتاج إلى نظرٍ واجتهاد(51).
واستدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة منها ما يلي:
1- قوله تعالى: "فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم" [النساء:6].
فلم تشترط الآية فكّ قاضٍ أو وصيٍّ، أو غيرهما، فالقول به زيادة على النص(52).
2- أنه حجرٌ ثبت بغير حاكم لم يتوقف زواله على إزالة الحاكم. كحجر المجنون(53).
واستدل أصحاب القول الثالث بما يلي:
أنّ الأب لمَّا أدخل ولده في ولاية الوصي، صار بمنزلة ما لو حجر عليه، وهو إذا حجر عليه صار لا ينطلق إلا بإطلاقه(54).
الترجيح:
الظاهر من الأقوال السابقة هو عدم احتياج إنهاء الولاية إلى حكم حاكم ولا فكّ وصيّ؛ فإنّ الله تعالى لم يشترط ذلك، ولأن إقامة الولي عليه كانت بسبب صغره، فتزول بزوال الصّغر.
سواء في ذلك ولاية الأب، أو الوصي، والله أعلم .
وأما السفيه فإن من رأى الحجر عليه، أنهى الولاية عليه برشده ، إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا هل يحتاج ذلك لحكم حاكم، أم لا؟ على أقوال:
القول الأول: أنّ الولاية عليه تنتهي بظهور الرشد دون حكم، وهو قول محمد بن الحسن(55).
القول الثاني: أنه لا بد مع رشده من حكم حاكم بفك الحجر عنه. وهو قول أبي يوسف(56)، ومذهب الشافعية(57) والمالكية(58).
القول الثالث: التفصيل، فإن كان الحجر عليه بعد بلوغه فلا ينفك عنه إلا بحكم القاضي، وإن استصحب السفه بعد بلوغه فإنه ينفك عنه الحجر برشده . وهو مذهب الحنابلة(59).
وعند تأمل هذه الأقوال وما وجهت به نجد أن تعليلاتهم تدور حول سبب الحجر عليه، فإن كان السفة؛ فإن رشده يرفعه ، وإن كان حكم القاضي فالحكم لا يرتفع إلا بحكم .
والذي يظهر لي رجحان القول الثالث إذ من بلغ غير رشيد فهو مشمول بالآية "فإن آنستم منهم رشدًا" [النساء:6]. فيكفي رشده لإطلاقه وتسليم ماله له. وأمّا من حجر عليه الحاكم، فإن الحكم لا يرتفع إلا بحكم، وفي هذا جمع بين الأقوال كما ترى والله أعلم .
... وبعد فهذه الجولة السريعة هي ما تيسر إعداده في هذا الموضوع – على أنه ستتبعه دراسة في آثار الولاية وما تقتضيه – أسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه ، والحمد لله رب العالمين .
|1|2|
________________________________________
(1) العناية للبابرتي (3/185)، الدر المختار (2/295)، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص (186).
(2) النسب وآثاره لمحمد يوسف موسى ص (78)، شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد زيد الأبياني (1/59)، المدخل الفقهي العام (2/818)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/746 ، 747) .
(3) المراجع السابقة .
(4) الشرح الصغير للدردير (3/389)؛ الحواشي على مختصر خليل (5/297)؛ المهذب (1/328)؛ مغني المحتاج (2/173)؛ المغني لابن قدامة (6/612)؛ كشاف القناع (3/434) .
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/293) .
(6) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الدمشقي، ولد سنة (541هـ) أخذ عن عبد القادر الجيلاني وأبي الفتح بن المنى وغيرهم ، شيخ الحنابلة في وقته، فقيه أصوليّ سلفي –له المغني والكافي والمقنع ولمعة الاعتقاد وروضة الناظر وغيرها، أخذ عنه ابن أبي عمر المقدسي والمنذي وغيرهم توفي سنة (620هـ)؛ ذيل طبقات الحنابلة (2/133)؛ رفع النقاب عن تراجم الأصحاب ص (235).
(7) المغني لابن قدامة (12/528).
(8) المغني لابن قدامة (6/612).
(9) الخرشي على مختصر خليل (5/297) ، التاج والإكليل (5/69) .
(10) المغني (6/612)؛ كشاف القناع (3/446).
(11) المهذب (1/328)؛ روضة الطالبين (3/475)؛ مغني المحتاج (2/173) .
(12) الإنصاف (5/324) ؛ معونة أولي النهى (4/568).
(13) المبسوط (4/219) ؛ فتح القدير لابن الهمام (3/175)؛ العناية للبابرتي (6/258) .(/5)
(14) هو الحسن بن أحمد بن يزيد ولد سنة (244هـ) أخذ عن سعدان بن نصر وعيسى بن جعفر الورّاق ، وعنه أخذ أبو الحسن الدارقطني وأبو حفص بن شاهين . كان زاهدًا متقلّلاً ولي القضاء . توفي سنة (328هـ) . تهذيب الأسماء واللغات (2/519) .
(15) المهذب (1/328) ؛ روضة الطالبين (3/475) .
(16) الإنصاف (5/324) ؛ معونة أولي النهى (4/568) .
(17) الإنصاف (5/324) ؛ الاختيارات الفقهية ص (137) .
(18) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرّاني ، تقي الدين أبو العباس ، ولد سنة (661هـ) أخذ عن ابن عبد الدائم وابن الصيرفي وخلق كثير ، صنّف تصانيف كثيرة ، أخذ عنه ابن القيم والمزي وغيرهم فقيه مفسر أصولي محدث سلفي توفي سنة (728هـ) مقلعة دمشق معتقلاً بها. ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/403).
(19) المغني (9/356) .
(20) المرجع السابق ؛ كشاف القناع (3/446) .
(21) الكافي لابن قدامة (2/107)؛ كشاف القناع (3/447).
(22) المبدع شرح المقنع (4/336).
(23) سنن أبي داود كتاب النكاح باب في الولي (2/229) برقم (2083)؛ سنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (3/407) برقم (1107)؛ سنن ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بوليّ (1/605) برقم (1879)؛ ومسند أحمد (6/166) برقم (25313) ؛ المستدرك للحاكم كتاب النكاح (2/168)؛ سنن الدارقطني كتاب النكاح (3/221)؛ مسند الطيالسي برقم (1463) ؛ كلهم عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عنها به . وكلهم ثقات من رجال الشيخين إلا سليمان بن موسى فإنه صدوق فيه لين كما في التقريب ص (255)، وقد تابعه الحجاج بن أرطأة عن الزهري به كما في سنن ابن ماجه كتاب النكاح باب لا نكاح إلا بولي (1/605) برقم (1880) ؛ ومسند أحمد (6/260) برقم (26225) ، والحجاج صدوق كثير الخطأ كما في التقريب ص (152) . وللحديث شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع الزوائد (4/285) . وقد صحح الحديث الألباني في إرواء الغليل (6/244) .
(24) المغني (9/67) .
(25) المبدع (4/336) ؛ كشاف القناع (3/447) .
(26) مغني المحتاج (2/173) ؛ نهاية المحتاج (4/362) .
(27) شرح العناية على الهداية (7/258) .
(28) فتح القدير لابن الهمام (3/174) .
(29) العناية على الهداية (7/258) .
(30) المهذب (1/328) .
(31) مغني المحتاج (2/174) .
(32) الأنصاف (5/324) .
(33) قال في المصباح المنير (خَرِف الرجل فسد عقله لكبره) أ.هـ . ص (64) (خرف) . وانظر: لسان العرب (9/62)؛ القاموي المحيط ص (1038) (خرف) .
(34) المهذب (1/332)؛ روضة الطالبين (3/469) .
(35) المغني (6/612)؛ كشاف القناع (3/452) .
(36) حاشية الدسوقي (3/263).
(37) روضة الطالبين (3/469).
(38) معونة أولي النهى (4/577).
(39) مغني المحتاج (2/170).
(40) كشاف القناع (3/452)؛ شرح منتهى الإرادات (2/294).
(41) مغني المحتاج (2/170).
(42) المرجع السابق .
(43) العناية شرح الهداية (8/186)؛ قوانين الأحكام الشرعية لابن جزيّ ص (350)؛ مغني المحتاج (2/165)؛ معونة أولي النهى (4/567) .
(44) بدائع الصنائع (1/178) ؛ التاج والإكليل (5/57)؛ مغني المحتاج (2/166)؛ كشاف القناع (3/443) .
(45) في الفصل الأول .
(46) مغني المحتاج (2/170) .
(47) بدائع الصنائع (6/178) .
(48) مغني المحتاج (2/170) .
(49) كشاف القناع (3/443) .
(50) التاج والإكليل (5/64) .
(51) مغني المحتاج (2/170) .
(52) المغني لابن قدامة (6/594) .
(53) المرجع السابق .
(54) حاشية الدسوقي (3/296) .
(55) بدائع الصنائع (6/178) .
(56) بدائع الصنائع (6/178) .
(57) مغني المحتاج (2/170) .
(58) التاج والإكليل (5/74) .
(59) كشاف القناع (3/452) .(/6)
اليأس لا يصنع شيئاً
المحتويات
عوامل اليأس:
العامل الأول: انتشار الفساد وغربة الدين
العامل الثاني: اتجاه التغيير وحركته
العامل الثالث: المتغيرات الجديدة
العامل الرابع: مواقع قوى التغيير
العامل الخامس: إخفاقات الصحوة وأمراضها
العامل السادس: طريقة التفكير ولغة الحديث
آثار اليأس
أولاً: أن اليأس لا يمكن أن يصنع شيئاً
ثانياً: اليأس يقضي على أي اتجاه نحو الإصلاح والتغيير
ثالثاً: اليائس يثبط من حوله ولا يقف ضرره على نفسه
رابعاً: اليأس يولد نفسية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً يؤثرعلى تفكير صاحبه
خامساً: اليائس يفهم الأحداث المبشرة والخيرة فهماً يتفق مع نفسيته
سادساً: اليائس في تقويمه ينظر إلى السلبيات والأخطاء ويضخمها
كيف نتخلص من اليأس?
أولاً: أن ندرك أن اليأس مذموم شرعا وعقلا
ثانياً: الاعتدال في النقد
ثالثاً: النظر في السنن الربانية
رابعاً: النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام
خامساً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج
سادساً: الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً
سابعاً: قراءة التاريخ
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد.
تسيطر على حياة كثير من المسلمين اليوم سحابة قاتمة من اليأس، ويشعر طائفة منهم أن الواقع الذي يعيشونه لا مناص لهم منه ولا خلاص. كثير من المسلمين يشعر أن واقعه لا يمكن أن يتفق مع ما يقتنع به، ويتطلع للتغيير، لكنه ما يلبث أن يصل به الأمر إلى اليأس من تغيير هذا الواقع الذي يعيشه.
والأمر يتجاوز ذلك إلى واقع الأمة وواقع المجتمع، فلست اليوم بحاجة إلى أن تقنع أحداً من المسلمين بسوء واقع الأمة وتردي حالها، لكن هذا قد أدى بطائفة من المصلحين، بل طائفة من الغيورين الصادقين إلى أن سيطر عليهم اليأس، وأدركهم القنوط وشعروا أن الأمر قد خرج من طوقهم وإرادتهم.
عوامل اليأس:
إن هذا اليأس الذي سيطر على كثير من المسلمين أدت إليه عوامل عدة، منها:
العامل الأول: انتشار الفساد وغربة الدين
من يتأمل واقع مجتمعات المسلمين اليوم يجد أن مظاهر الفساد قد انتشرت في حياتهم؛ فالمنكرات الظاهرة أصبحت معلماً بارزاً وظاهراً في بلاد المسلمي،ن بل أصبح إنكارها تدخلاً في شؤون الآخرين، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً في مجالات وجوانب كثيرة من حياة المسلمين، وبدأ الناس يعيدون قراءتهم للأحكام والنصوص الشرعية لأجل أن يُشعروا أو يُقنعوا أنفسهم بأن هذا الواقع الذي يعيشونه واقع شرعي.
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الدين بقوله "بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" فانتشار هذا الفساد واستمرار المنكرات وظهورها في مجتمعات المسلمين وحياتهم أدى بفئة كبيرة من المسلمين إلى اليأس من تغير الأحوال، وإلى الشعور بأن هذا الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع المسلمين وحياتهم
العامل الثاني: اتجاه التغيير وحركته
لئن كان واقع المسلمين اليوم يعاني من الفساد، فالمستقبل لدى الكثيرين لايبعث على التفاؤل؛ فالاتجاه يسير إلى مزيدٍ من الانفتاح على الفساد، ويسير إلى مزيد من الغربة.
العامل الثالث: المتغيرات الجديدة
المتغيرات الجديدة تنذر بمستقبل لا يعلم حاله إلا الله عز وجل؛ ففي ظل عصر العولمة وعصر الانفتاح على العالم الآخر ستزول خصوصية المجتمع، وتتضاءل إمكانات المجتمعات المحافظة في السيطرة على أبنائها.
إن مجتمعاتنا اليوم تعيش انفتاحاً على المجتمعات الأخرى، من خلال السفر والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى، أو من خلال وسائل الاتصال والمواصلات، لكن هذا الانفتاح وهذا الاتصال سيصبح حسب التوقعات لا شيء بالنسبة لما نحن فيه، سيصبح الإنسان وهو في غرفته في قرية منعزلة ليس بينه وبين أن ينفتح على العالم بكل ما فيه، وأن يتعامل مع أي ثقافة وأي ملة، ويخاطب أي إنسان، وأن يلج أي باب من أبواب الشهوات أو الشبهات، ليس بينه وبين ذلك إلا مجرد ضغطة زر في الحاسب الآلي، ومع اتجاه العولمة والانفتاح ستذوب الفوارق، وستصبح سيطرة المجتمعات ومحافظتها أقل مما هي عليه من ذي قبل، بل ستصبح سيطرتها محدودة في ظل هذا السيل الجارف من الغزو العالمي.
وهذه المخاطر تتمثل في جميع أبعاد العولمة وأذرعتها، فالبعد الثقافي لاتخفى خطورته، و لايقل عنه البعد الاجتماعي الذي ينادي أول مبادئه بالتحرر الاجتماعي، والتخلي عن القيم والأخلاق والروابط الاجتماعية، والأسرة في ثقافة العولمة يمكن أن تكون من ذكر وأنثى، أو تكون من ذكرين أو أنثيين، فأي إنسان حر في أن يختار نوع العلاقة ونوع الأسرة التي ينشئها.(/1)
والجانب الاقتصادي سيؤذن بمزيد من الانفتاح على الشركات الأجنبية والعالمية، مما يؤذن بمزيد احتكاك للمسلمين بالآخرين، ولن تكون هناك قيود على حركة الأفراد و السلع، وما يصاحب النشاط الاقتصادي من حركة الإعلان والدعاية التي لا تخلو من قيم ومعان تعكس ثقافة المجتمعات التي نشأت فيها وتمثل قيمها.
آثار الوضع الاقتصادي الجديد على واقع دول العالم الإسلامي وهي تعيش في منظومة دول العالم الثالث آثار مؤلمة، فمن أقرب نتائجها ضعف الفرص التنافسية للمجتمعات والأفراد في ظل هذا الغزو الاقتصادي، وهذه الآثار ستولد متغيرات اجتماعية ثقافية، ومن أخطرها زوال القيود على حركة الثقافة والمطبوعات وما يتعلق بها، كل هذه الأمور تؤذن بتحول وتغير جديد.
ولئن عاشت بلاد الخليج تحولاً مع اكتشاف النفط فإنها تعيش تحولاً لا يقارن مع عصر العولمة، العصر الجديد.
إذا هذا مما يزيد اليأس عند طائفة من الناس، فالواقع فيه فساد، والاتجاه يسير نحو الفساد والمتغيرات المتوقعة في المستقبل تؤذن بفساد أوسع و أكبر.
العامل الرابع: مواقع قوى التغيير
رغم تباين قوى التغيير وتفاوتها فإننا نستطيع أن نصنفها في تيارين: القوى التي تريد أن تعيد المجتمعات إلى أصالتها ومنهجها الشرعي، والقوى التي تريد أن تقود المجتمعات نحو الفساد.
وحينما تقارن بين اتجاه وقوى الإصلاح واتجاه وقوى الفساد وماذا يملك هؤلاء من الإمكانات والوسائل وماذا يملك أولئك؟ وما الفرص المتاحة لهؤلاء والفرص المتاحة لأولئك؟ فالأمر ليس فيه مجال للمقارنة، وليس فيه مجال أن توازن بين هذا وذاك، ولا أن تقول إن هذا التيار أقوى أو ذاك، فتيار الإصلاح لا يساوي شيئاً بالنسبة لهذا التيار الجارف.
إذا فرؤية مواقع قوى التغيير تزيد هؤلاء يأساً وتشعر أنه مع هذه المتغيرات، فالقوى التي تدفع المجتمع للفساد هي قوة أكبر وأكثر ضغطاً، بينما القوى التي تشده إلى الأصالة وتريد أن تعود به إلى الأصالة قوى ضعيفة هزيلة.
العامل الخامس: إخفاقات الصحوة وأمراضها
قامت الصحوة في وقت لم يكن يتوقع الأعداء أن تقوم فيه ، قامت هذه الصحوة وقدمت خيراً للأمة، وأعادت للأمة الاعتزاز بالإسلام، و أيقظت الشعور بأن الإسلام يمكن أن يحكم حياة الناس في هذا العالم المعاصر، وأحيت العلم الشرعي، وأحيت مظاهر التدين، حتى أصبحت ظاهرة لا ينكرها أحد وقوة اجتماعية لا يستهان بها.
لكن حين يتأمل هؤلاء في واقع الصحوة فإنهم سيجدون تجارب مرت بها الصحوة الإسلامية وأخفقت فيها، سيجدون أمراضاً ومشكلات لم تعد سراً: الخلاف، التفرق، ضعف الوعي، الجيل الذي هو ليس على مستوى الواقع، وليس على مستوى التغيير.
فهذه الأمراض والضعف والإخفاقات تزيد هؤلاء يأساً وإحباطاً.
العامل السادس: طريقة التفكير ولغة الحديث
فطريقة تفكير هؤلاء التي دائماً تنظر إلى الجانب المظلم والجانب السيئ، والحديث الذي يتعلق بواقع الأمة غالباً ما يكون حديثاً ناقداً متشائماً، بل حتى الصور الإيجابية يحولها هؤلاء إلى سلبية.
هذه هي العوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة اليأس وسيطرتها، والأمر يهون حين يكون الشعور باليأس لدى فئة من عامة الناس، لكن تجد أن هذا اليأس يتسرب إلى فئة ينتظر منهم أن يشاركوا في التغيير، فئة ينتظر أن يكون لهم دور في الإصلاح وتجد أن هذه اللغة تسود وتسيطر في كثير من مجالس الصالحين فلا يكادون يتحدثون إلا عن الأمراض والفساد والانحراف والتغيير الهائل.
إن هذه العوامل والمتغيرات صحيحة ولا إشكال فيها لكن النتيجة التي أدت إليها تحتاج أن نناقشها في هذا اللقاء.
آثار اليأس
شجرة اليأس تثمر ثماراً مرة، منها:
أولاً: أن اليأس لا يمكن أن يصنع شيئاً
اليأس لا يدفع للعمل، ولا يحرك ساكناً، ولا يثير همة، بل غاية ما يتركه من أثر على صاحبه أن يبقى ينتظر النهاية الأليمة، لو أن إنساناً في مكان شب فيه حريق وسيطر عليه الشعور بأن ليس هناك مخرج ولا نجاة، فماذا يستطيع أن يصنع؟ إنه لا يصنع شيئاً، لن يفكر، ولن يحتال، بل سيبقى فقط ينتظر الموت والنهاية.
إذن حين يسيطر علينا اليأس، وحين نغرس اليأس في نفوسنا وفي نفوس الآخرين من حيث نشعر أو لا نشعر فإننا لن نصنع شيئاً، إننا قد نتصور أن مزيد التألم على الواقع وأن ارتفاع حدة السخط والتبرم دليل على الغيرة وأن هذا ربما يكون أكثر دافعاً للإصلاح، المؤمن يملك غيرة فيغار لحرمات الله، ويتحرك قلبه إذا رأى المنكرات والفساد، لكن هذا ينبغي أن يقف عند حد معين فإذا تجاوز ذلك وزاد فلا يمكن أن يحرك ساكنا حتى في أبسط المواقف.
إنك حينما نرى شخصاً يقع في منكر وتهم أن تناصحه وأنت يائس تماماً من استجابته فلن تندفع إلى العمل، ولو تجرأت لتناصحه أو تنكر عليه هذا المنكر فغاية ما تقوم به أن تسجل موقفاً، أما أن تعمل وتنتظر التغيير فهذا لا يمكن أن يحصل عند حال اليأس، إذاً فاليأس لا يصنع شيئاً ولا يدفع للعمل.(/2)
ثانياً: اليأس يقضي على أي اتجاه نحو الإصلاح والتغيير
حينما يفكر الإنسان في التغيير سواءً في واقعه هو أو في واقع أسرته أو في واقع أكبر من ذلك واقع المجتمع، والذي نأمل ونتمنى أن يحمل همه المسلمون جميعاً وأن يشعروا أنهم مسؤولون عن تغييره و قادرون عليه، وحين يسيطر اليأس على الإنسان فإنه لا يمكن أن يفكر في التغيير ولا يمكن أن ينطلق نحو التغيير.
ثالثاً: اليائس يثبط من حوله ولا يقف ضرره على نفسه
اليائس دوما يتحدث مع الآخرين بألفاظ مثل: لا أمل، وأنت تتعامل مع واقع محدود، والسيل جارف، والأمر أكبر مما تصور فلا تشغل نفسك بمثل هذه الأمور، انشغل بخاصة نفسك أو انتظر حتى تحدث تغييرات أو أمور أخرى غير محسوبة، واليائس يئد المشاريع والأفكار الطموحة، فحين تنشأ أفكار ومشروعات فيها نوع من الطموح والتميز ويتوقع منها أصحابها أن تنتج وتثمر، هذه المشروعات حين تثار في مجتمع اليائسين فإنها توأد دائماً، فهم ينظرون إلى مواقع الفشل ويتنبؤن بفشل مثل هذه المشروعات وهذه الأعمال قبل نجاحها.
رابعاً: اليأس يولد نفسية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً يؤثرعلى تفكير صاحبه
اليائس يفترض مخاطر لم تقع أصلاً ويتوهم ذلك، وتتحول الأوهام عنده إلى حقائق وتصبح الأحلام واقعاً ملموساً. هذا على مستوى ما لم يقع.
أما على مستوى الأحداث التي تقع فهو يفهمها فهماً آخر، فهماً يتفق مع نفسيته اليائسة، مع نفسيته التي سيطر عليها الوهن، إنه لا ينظر إلى الأحداث كما هي، لا ينظر إليها نظرة موضوعية أو محايدة، إنما ينظر إليها من خلال نفسيته وطريقة تفكيره، ويبالغ في تصور المؤامرات التي قد حيكت فيخرج بنتائج لا تتفق حتى مع مستوى عقله وتفكيره هو.
قبل أيام سمعت حديثاً من شخص مثقف درس في بلاد الغرب يقول لي إن الإنترنت كلها مؤامرة للتجسس على المسلمين وللدخول على خصوصياتهم ، إلى هذا الحد وهذا المستوى من التفكير، مثل هؤلاء لا يمكن أن يعملوا، ولو عملوا عملوا بروح الفشل والهزيمة والشعور بأن كل صيحة يمكن أن تدور عليهم.
خامساً: اليائس يفهم الأحداث المبشرة والخيرة فهماً يتفق مع نفسيته
فهو يشكك في صحة الأخبار السارة أو يهون من شأنها، إنك لو حدثته عن الصحوة وانتشارها فإنك تراه يهون من شأنها ويقول لك إن هذه ظاهرة محدودة وضعيفة وهزيلة، وفيها أمراض وعلل. وحينما تحصل أخبار سارة فهو يبحث لها عن تفسير يتفق مع طريقة تفكيره ويشكك في الدوافع وراء هذه الأحداث التي حصلت.
فتارة يتصور أن هذا استدراج من العدو حينما يعطى مثل هذه الفرص، أو أن هذه مؤامرة يراد من خلالها الانقضاض أو كشف صفوف الأخيار إلى آخره.
سادساً: اليائس في تقويمه ينظر إلى السلبيات والأخطاء ويضخمها
الجهد البشري لا يمكن أن يسلم من خطأ سواءً كان على مستوى الأفراد أنفسهم فـ(كل ابن آدم خطاء )كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرء لا بد أن يذنب ولابد أن يقصر والقصور صفة ملازمة للبشر أيا كان وهذا القصور لابد أن يظهر أثره على مستوى المشروعات والمجتمعات، فهي في النهاية نتاج أعمال بشر، و المجتمعات أيضاً هي في النهاية مجموعة من البشر والأفراد الذين يبقى القصور والضعف أمراً ملازماً لهم، ولهذا فإن أي عمل بشري لا يخلو من قصور ولا يسلم من أخطاء ولو تأملت هذا لرأيته في واقعك، فحينما تقوم بمشروع ثم تنهيه وتعود إليه بعد فترة فستجد أنك وقعت في أخطاء، وحينما تكتب مقالة أو كلمة أو تؤلف كتاباً أو تلقي كلمة وتعود مرة أخرى فتقرأ ما كتبته أو تستمع إلى ما تحدثت فستجد فيه أخطاءً وقصوراً، و لو عدت من جديد لتكتب أو لتنفذ هذا المشروع فإنك ستنفذه بصورة غير تلك التي قمت بها، وهذا من شأن البشر وطبيعتهم.
إذن فأي عمل أو جهد بشري لابد أن يكون فيه قصور وسلبيات, واليائسون دائماًَ ينظرون لهذا الجانب المظلم إلى جانب السلبيات ويضخمونه، ويتغاضون عن الإيجابيات ويهونون و يقللون من شأنها.
إن سيطرة اليأس في النهاية ستخرج لنا أفراداً محبطين وغير عاملين، ولا يمكن أن يصنعوا شيئاً، وحين يسيطر اليأس على مجتمع فإن المجتمع سيستسلم ولن يسعى للتغيير، فما لم يقتنع الأفراد بأنهم يستطيعون أن يغيروا واقعهم، ومالم تقتنع المجتمعات بذلك فإن التغيير الذي نريده وننتظره لا يمكن أن يحصل.
كيف نتخلص من اليأس?
أولاً: أن ندرك أن اليأس مذموم شرعا وعقلا
إن الناس حين يتخلصون من ضغط الواقع ومؤثراته ويفكرون تفكيراً مجرداً فإنهم يرون أن العمل والتفاؤل أمر لا بد منه، وأنه مهما ساء الواقع فالعمل لابد أن يترك أثره.(/3)
واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب, بل حين يصل الإنسان اليائس إلى يأسه من روح الله ورحمته فإن هذا من صفات الكافر كما قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وهذا حكاه الله عز وجل على لسان يعقوب عليه السلام حينما أوصى بنيه أن يبحثوا عن يوسف بعد تلك السنين الطويلة التي ألقوا فيها يوسف في الجب وتخيلوا أنه قد هلك أو ضاع ، ثم افتقد ابنه الآخر قال: ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ).
جميل أن ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع إلى الأمام، جميل أن ندرك سوء واقعنا سواءً أكان واقعنا الشخصي أو واقع مجتمعاتنا, ومن المهم أن ندرك حجم التحديات التي تواجهنا وحجم المخاطر وحجم الانحراف الذي يصيب مجتمعاتنا، لكن ينبغي أن لا يتجاوز هذا الإدراك حده لأنه لا يمكن أن يدفعنا إلى العمل، بل سيدفعنا فيما بعد للقعود والاستسلام.
حين ندرك أن اليأس مذموم ولا يأتي إلا في مقام الذم والعيب، ندرك أن اليأس لا يدفع للعمل بل يدفع للقعود والتواني والكسل، وسيدفعنا هذا إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.
ثانياً: الاعتدال في النقد
إن تفكيرنا في أحيان كثيرة تفكير متطرف، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد المبالغ فيه، حينما تقوِّم سلعة وتسأل وتبحث عن آراء الناس فيها تجد أنهم يتفاوتون؛ فمنهم من يقول أنها سلعة متميزة ولا يُعلى عليها ولا يقاس غيرها بها، وتجد من يذمها ذماً مطلقاً، هذا على المستوى المادي ، فما بالك فيما هو فوق مستوى الماديات، فيما يتعلق بإصدار الأحكام على الظواهر الاجتماعية، وعلى الظواهر التربوية وعلى الأفراد والمجتمعات، في هذه الحالة تجد أن الاعتدال تقل مساحته ويزداد تطرفاً سواء أكان في هذه الزاوية أو تلك، فكلا الطرفين قصدٌ ذميم، التطرف هنا أو هناك أمر مذموم والنقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد ونصحح واقع مجتمعاتنا، فلابد من النقد حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا نحن وإما أن ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أن يكون بموضوعية واتزان فحينما نبالغ في النقد ويتجاوز النقد حده فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس.
جيئ برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد فسبه رجل، فقال صلى الله عليه وسلم :"لا تعينوا الشيطان عليه" العقوبة التي يستحقها أخذها وهي الجلد فحينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليه أكثر.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثَرِّب عليها" أي لا يجمع عليها بين العقوبة الشرعية وعقوبة أخرى.
هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى المجتمعات فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في ذلك فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم". قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم".
ثالثاً: النظر في السنن الربانية
وهذا الأمر أمر مهم، من ذلك أن تنظر أن هذا الدين جاء من عند الله تبارك وتعالى وهو الذي له الخلق وله الأمر وهو الذي خلق الناس وهو أعلم بهم، بل هو تبارك وتعالى أعلم بالناس من أنفسهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وقد شرع الله تبارك وتعالى لهم هذا الدين، ولم يشرع للناس إلا ما يطيقونه, وهذا يقودنا إلى نتيجة بدهية وهي أن كل ما أمرنا الله عز وجل به فهو مما نطيق فعله، وأن كل ما نهانا عنه تبارك وتعالى عنه فهو مما نطيق تركه والتخلي عنه، ولو عشنا فترة وألفنا واقعاً سيئاً في ذوات أنفسنا، كمنكر أو معصية داومنا عليها وتخيلنا أنها أصبحت جزءاً منا فهذا من كيد الشيطان وتلبيسه، و إلا فما دام الله تبارك وتعالى قد نهانا عنها وحرمها علينا وكلفنا تبارك وتعالى بالتخلي عنها فنحن نطيق أن نتجنبها ابتداءً ونطيق أن نتخلى عنها حينما نقع فيها، هذا على مستوى الأفراد.
وعلى مستوى المجتمعات أخبر صلى الله عليه وسلم أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة أما هو صلى الله عليه وسلم فبعث إلى الثقلين الجن والإنس عامة فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات و شريعته خاتمة الشرائع ، ومن منزلة هذه الأمة وكرامتها أن الأمم السابقة كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي كما قال صلى الله عليه وسلم، أما هذه الأمة فليس فيها إلا نبي واحد، لكن فيها طائفة منصورة إلى قيام الساعة.(/4)
وجعل الله هذا الدين رسالة وشريعة لهذه الأمة الخاتمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يعني أن البشرية تستطيع أن تقيم حياتها على أساس هذا الدين في كل الظروف وكل المتغيرات منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ، وتستطيع أن تستوعب كل المتغيرات الجديدة وتقيم حياتها على هذا الدين وإلا لم يكن هذا الدين ديناً خاتماً ولم تكن هذه الرسالة رسالة خاتمة.
وهذا يعني أن المسلمين قادرون على أن يلتزموا بدينهم، وأن يقوموا بهذه الرسالة التي حملهم الله إياها وهم خير أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يقودون البشرية للهداية.
حينما نفكر ونتمعن في هذه القضية البدهية فهذا يقودنا إلى هذه النتيجة: أن هذه الأمة بل إن البشرية كلها يمكن أن تستقيم على هذا الدين في ظل أي متغير وأي عصر وأي ظرف، وأنه لا يمكن أن يتعارض ذلك مع التقدم العلمي والتقني.
رابعاً: النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام
ومنها ما جاء في كتاب الله عز وجل من وعد الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) ، (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) ، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) هذا وعد من الله تبارك وتعالى لابد أن يتحقق ولابد أن يتم، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع كثيرا ماتغيب عنهم هذه الحقائق في وعد الله تبارك وتعالى.
والله عز وجل قد وعد بني إسرائيل وحقق لهم ما وعد يقول عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ثم قال تبارك وتعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) وانظر كيف سارت هذه الأحداث ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) بدأ الأمر من هنا منذ أن ولد هذا الرضيع الذي سيحطم الله على يديه عرش فرعون وسيمكن على يديه بنو إسرائيل، ولم تذكر قصة موسى بهذا التفصيل في هذه المرحلة -مرحلة ما قبل الرسالة- أكثر مما ذكرت في هذه السور التي تتحدث عن قضية التمكين والطغيان، بدأت بطغيان فرعون وعلوه ثم بعد ذلك ختمت بطغيان قارون وعلوه ثم كيف أهلكه الله ومكن لبني إسرائيل.
إذاً الوعد الذي تحقق لبني إسرائيل في ظل ذلك الواقع المظلم البائس لابد أن يتحقق لهذه الأمة، وهذه الأمة أبر وأتقى وخير من نبي إسرائيل، وفي نصوص السنة نجد شواهد كثيرةً منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:(بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منها عمل الآخرة في الدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب). وأيضاً في المسند من حديث الدارمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذلِّ ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) ، وكان تميم يقول: قد عرفت ذلك من أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والخزي.
والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة ليس هذا مكان للإفاضة بالحديث عنها، لكن الشاهد أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس .
خامساً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج
والفرج دائماً يأتي بعد شدة اليأس, وبعد أحلك المواقف والصعوبات.
إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب
تاك على قنوط منك غيثٌ *** يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصولٌ بها الفرج القريب
وقال آخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج
سادساً: الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً(/5)
قد يكون حدثاً لا يرى منه الناس إلا الوجه السيئ فيصبح خيراً والناس لا يعلمون, يقول تعالى: ( فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )، و في قصة الإفك حين قُذفت عائشة رضي الله عنها بالزنا، فهل كان يدور في بالها حين سمعت هذه المقولة أن هذا الحدث سيكون خيراً لها؟ أو هل كان يدور في أحدٍ ممن عاش الحدث ذلك الوقت أن هذا خير لها؟ ثم نزل قول الله تبارك وتعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، فبرأها الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات وهي كانت تقول كان شأني في نفسي أحقر مما أن ينزل الله فيّ قرآناً وكان غاية ما تأمله رضي الله عنها أن يري الله تعالى نبيه رؤيا يراها فيها.
ومثل ذلك ما حصل لمريم حينما حملت بعيسى حتى قالت (ياليتني مت قبل هذا) فكان خيراً لها فحملت بنبيٍّ من أولي العزم من الرسل.
وفي حادثة الهجرة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادية واختبأ وصاحبه في الغار ثم انصرف، وجاء رجل يتحدث وسراقة مع طائفة من قومه فقال رأيت ههنا سواداً وأظنه محمداً وصاحبه, ففطن سراقة حين ذلك وعلم أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه فلان وفلان يريد أن يصرف الناس عن ذلك, وأمر أهله أن يجهزوا له فرسه من خلف الدار وانصرف وركب فرسه ثم لحق النبي صلى الله عليه وسلم حتى اقترب منهما فقال أبو بكر رضي الله عنه هذا سراقة قد أدركنا ، الذي يقرأ الحدث الآن ويعيشه يضطرب فالمتبادر للذهن أنه خطر محقق، ولهذا أصاب أبا بكر رضي الله عنه القلق والخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وحق له ذلك, أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينظر بنور الله تعالى، فخارت قوائم فرس سراقة ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم ييأس وحاول مرة ثانية وثالثة حتى عرف سراقة أنه محفوظ بحفظ الله, فلما انصرف سراقة كان كل من لقيه يقول قد كفيتم ما هاهنا، فانظر كيف تحولت الصورة وانقلبت، ولهذا قال الراوي: كان أول النهار طالباً لهما وفي آخر النهار صاداً عنهما، إن هذا الحدث يبدو في أوله حدثاً سيئاً، لكنه صار سببا في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
إن الأحداث السيئة قد تكون خيراً والمتفائلون هم الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، وليسو هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط . حينما يأتينا إلى قرية فيها فقر مدقع وجهل وتخلف، رجل متفائل ورجل متشائم, فالرجل المتشائم كل ما يراه في هذه القرية يزيده إحباطاً، إنه يشعر أن الأمية منتشرة، ومستوى التعليم فيها لا يشجع، فيها فقر, ليس فيها بنية اقتصادية، ليس فيها طرق، ولا إمكانات، لا بيئة يمكن أن تهيئ للاستثمار أو تحرك النشاط الاقتصادي في البلد, والناس يعانون من البطالة والأمراض وغيرها، هذه نظرته وكل ما يراه فيها يؤيد عنده هذه الحقيقة.
أما المتفائل فيرى أن هذه القرية تعيش وضعاً سيئاً، لكنه يلتمس الجوانب التي يمكن أن تنطلق منها, يقول إن البلد فيها بطالة، ولكن يمكن أن نستفيد منها ويمكن أن نشغل هؤلاء ولو بأجور محدودة, هؤلاء يمكن أن يكونوا نواة لمشروعات تحيي البلد, ويمكن أن يكون فيها بيئة جيدة للتعليم. فالموقف الواحد ينظر إليه هذا الرجل بأنه سلبي وينظر إليه الآخر بأنه إيجابي.
وحينما نعيش روح التفاؤل فإن الأحداث التي تواجهنا ينبغي أن نتعامل معها بتوازن, نعم نحن لا نعيش في أحلام، ولا نتغافل عن المخاطر لكن إذا كنا نريد الإصلاح والتغيير فلنبحث عن الجوانب والثغرات التي يمكن من خلالها أن نصلح ونصل إلى الهدف المنشود.
لو جاء لص يريد أن يسرق بنكاً من البنوك، فهو يبحث عن نقطة الضعف التي يمكن أن يصل منها، إنه حين يأتي هذا المبنى ويجده محصناً، ثم يجد ثغرة محدودة يستطيع أن يتسلل من خلالها فكل نظرته مسلطة على هذه الثغرة، ليحصل من خلالها على ما يريد، ثم يخرج وكل العوامل الأخرى التي هي بالنسبة له تمثل خطراً يتغافل عنها.
لماذا لا نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا بهذه الروح؟ لم لا نبحث عن مواطن الثغرات التي يمكن أن نستثمرها؟ التغير الهائل الذي سيواجهنا اليوم لماذا لا نبحث عن كيفية استثماره في الإصلاح وتغيير واقع المسلمين ؟ صحيح أنك ترى في مجمله شر لا يؤذن بخير وأن الأمر لو كان بأيدينا لما تمنينا أن يحصل, لكن ليست مسؤوليتنا أن نبحث عن جوانب الخطورة، والذي ينبغي أن نفكر فيه أن نبحث عن نقاط نتسلل من خلالها ونستثمر مثل هذه الأحداث لتكون منطلقاً لإصلاح أوضاعنا.(/6)
بل إن الأوضاع السيئة يمكن استثمارها بالإصلاح ،فالأفراد الذين لديهم رغبة في التغيي يستثمرون واقعهم السيئ لينطلقوا من خلاله إلى الإصلاح، وأضرب على ذلك مثالاً: حين جيئ بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في الفتنة ووضعوه في السجن مع اللصوص وقطاع الطرق وأتوا به ليجلد أمسك به رجل وقال: أتعرفني قال لا, فذكر له ما هو عليه من السرقة وقطع الطريق، وقال: أني جُلدت كذا وكذا في السرقة فلم يردني ذلك عن السرقة، وأنت تجلد على الحق فأنت أولى مني أن تثبت، هذا رجل مجرم ولا يزال مصراً على الجريمة، ولكن عنده بذرة خير جاء لينصح الإمام أحمد ويثبته، يبحث عن شيء شاهد من واقعه ينطلق به فلا يجد إلا تاريخ فساد فيستغل تاريخه في الفساد ليكون منطلقاً ليثبت من خلاله الإمام أحمد.
سابعاً: قراءة التاريخ
حين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة والضيق ولنضرب على ذلك نماذج:
1- في قصة موسى مع بني إسرائيل, جاء موسى وقد تسلط فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج مع بني إسرائيل، فخرجوا فلحقهم فرعون وقومه حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). في الماضي كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ومع ذلك يمكن أن يسلم بعضهم ويبقى، أما الآن فبنو إسرائيل محصورون وليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم منتهية فحصل لهم الفرج (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ).
2- في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج عدة، ومنها:
أ - حادثة الهجرة, فقد حاصر المشركون بيت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينم في بيته وخرج وصاحبه إلى الغار واختفيا فيه وخرجا من طريق آخر، وكان المشركون قد استنفروا قواهم ليظفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه حياً أو ميتاً, وبلغ الأمر غاية الشدة فما الذي حصل بعد ذلك؟ استقر المسلمون وأقاموا الدولة, وبنوا المسجد وصلوا مطمئنين.
ب - جاءت غزوة الأحزاب بعد ما أصاب المسلمين ما أصابهم في غزوة أحد يريدون أن يقضوا على هذه الطائفة تماماً، وجيشوا الجيوش وجاءت الآلاف المؤلفة من الأحزاب إلى المدينة وحاصرتها، اليهود من ورائهم والأحزاب من أمامهم، حتى صار الأمر كما قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) حتى بلغ بهم الأمر كما قال حذيفة رضي الله عنه:" ينقل حديث من مسلم رقم 1788" كان أحدهم لا يستطيع أن يذهب ليقضي حاجته لوحده وحوصروا حصاراً صارماً، والموقف ليس حرباً متكافئة الطرفين أو أنه ستغلب مجموعة وتنهزم الأخرى، إنما الموقف في غاية الخطر والخطر الداهم الذي يمكن أن يجتاح المدينة كلها ويبيدها تماماً، حتى نجم النفاق وقالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وبعد ذلك قال صلى الله عليه وسلم "الآن نغزوهم ولايغزوننا".
ج. جاء صلح الحديبية واشترط المشركون شروطا ًوكان الذي سخطه المسلمون هو أن من جاء من المسلمين إليهم يعيدونه إلى المشركين, والمسألة ليست شرطاً فحسب إنما هو موقف يثير العواطف، يجيء أبو جندل يرسف في قيوده، فيقول أبوه هذا أول ما أقاضيك عليه أن تعيده، فيسأله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعه فيقول لا، فيقول أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني. وتزامن هذا الموقف مع الشرط الذي حتم عليهم ترك العمرة هذا العام، والعودة من العام المقبل، حتى فعل عمر رضي الله تعالى عنه ما ندم عليه، وبعد ذلك كله ما الذي حصل؟
كان هذا الصلح خيراً للمسلمين كان فتحاً حتى أنزل الله قوله: (إنا فتحنا لك فتحاً مبينا) والشرط الذي اشترطه المشركون كان فيه الخير، هرب أبو بصير وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورده، وهرب إليه ضعفاء المسلمين وهددوا قريش حتى جاءت قريش ترجوه أن يتنازل ويقبل ضعاف المسلمين.(/7)
ومن نتائجه أنه لما صالح المشركين وأمن شرهم تفرغ المسلمون لليهود في خيبر وقضوا عليهم، وتفرغوا للمناطق الأخرى التي حول المدينة وانتشرت دعوة الإسلام حتى صار عدد الذين دخلوا الإسلام من صلح الحديبية حتى فتح مكة أكثر من الذين دخلوا الإسلام منذ أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلح الحديبية, فانظر كيف كان الصلح ثم حين نقضت قريش هذا الصلح كان سبباً في فتح مكة.
د. مات النبي صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم وارتدت قبائل العرب حتى ما بقي إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولهم من الصادقين، حتى كادت طائفة منهم أن يشعروا باليأس ثم فرج الله تعالى لهم فما أن انتهت خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والتي لم تتجاوز السنتين وبضعة أشهر حتى أخضعت الجزيرة العربية كلها، وعاد المرتدون إلى دولة الإسلام وبدأت الفتوحات في بلاد فارس والروم، وبدأ المسلمون يغزون فارس والروم بعد سنتين وبضعة أشهر.
3- استقرت دولة الإسلام وحدثت أحداث عدة، ومن أبرزها حدثان: غزو الصليبيين لبيت المقدس , وغزو الننار. يقول ابن كثير رحمه الله :"ثم دخلت سنة اثنين وتسعين وأربعمائة وفيها أخذت الفرنجة بيت المقدس، ولما كانت ضحى يوم الجمعة من سبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة حتى أخذت الفرنجة لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل,وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين ثم جاسوا خلال الديار" ثم نقل الحافظ ابن كثير قصيدة لأبي المظفر الأبيوردي يقول فيها:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم *** فلم يبقى منا عرضة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يريقه *** إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً بني الإسلام إن وراءكم *** وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها *** على هفولت أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم *** ظهور المداك أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم *** تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وفيها:ـ
وبين اختلاس الضرب والطعن وقفة *** يطل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يقف عن غمارها *** ليسلم يقرع بعدها سن نادم
سللنا بأيدي المشركين قواضباً *** ستغمد منهم بالكلى والجماجم
يكاد لها المستجير بطيبة ينادي *** بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يسرعون إلى العدى *** رماحهم والدين أوهى الدواعم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى *** ولا يحسبون العار ضربة لازم
أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى *** ويقضى على ذل كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية *** عن الدين ظنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حميَ الوغى *** فهلا أتوه رغبة في المغانم
هذا الشاعر كأنه يحكي واقعنا اليوم.
واستولى الصليبيون على بيت المقدس وبقي في أيديهم تسعون سنة ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة وأعيد البيت الشريف.
- كارثة التتار وانقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله[حينما دخلت سنة ست وخمسون وستمائة فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وانقضت دولة بني العباس منها.
ويقول : وصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة مما لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم في غاية الضعف وبقية الجيش كلهم قد صرفوا من إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم بالأسواق وأبواب المساجد وأنشد الشعراء فيهم قصائد يرثون لهم ويحزنزن على الإسلام وأهله.
ويقول : ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقين والوسخ وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار أما بالكسر وأما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى عالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة" إنا لله وإنا أليه راجعون" وكذلك في المساجد والجوامع والرباع ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا عليهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة ، وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى عين ذلك في كتابه العزيز حيث يقول :{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا}.(/8)
قال وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء وخرب بيت المقدس بعدما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء، واختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس " وإنا لله وإنا إليه راجعون " ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
يقول : وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم "فإنا لله وإنا إليه راجعون"فكان الرجل يستدعى من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه ويذهب به إلى حفيرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه, وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة وقتل الخطباء والمؤذنون والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.
ثم قال نقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً صارت بغداد خاوية على عروشها ليست فيها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببهم الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغيير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الوباء والغلاء والفناء والطعن والطاعون "فإنا لله وإنا إليه راجعون" ولما نوديَ بغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنا والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن فاتهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ أبن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو بغداد, هذه المآسي وقعت في بغداد حتى سيطر على المسلمين اليأس وشعروا أن التتار قوة لا تهزم, ثم استفاقت الأمة بعد ذلك وقاتلوا التتار وهزموهم وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.
إذن هذه النماذج للأمة التي استفاقت بعد الردة, الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين, الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، وهي قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر، وقراءة التاريخ تعطينا الدرس والعبرة لكن اليائسين لا يعتبرون، والنصر لا يكتب لليائس، والتغيير لا يمكن أن يتم على أيدي اليائسين.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نيأس من روحك ورحمتك إنك سميع مجيب.(/9)
اليأس والأمل وأثرهما في بعث الحياة الإسلامية
د. فايز عبد الفتَّاح أحمد أبو عمير*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد.
فإنَّ ما تعيشه الأُمَّة المُسلمة في حاضرها من انحطاطٍ وتردٍّ وهوان، لعلَّه أسوأ ما مرَّ عليها في تاريخها الغابر، إذا لم تعد العُدَّة وتصحو من كبوتها لتتسلَّم زمام قيادة العالم من جديد، هذا العالم الذي يئنَّ الآن من وطأة العلمانية المستعْبِدَة والمستَبدَّة، يتطلع للخلاص، ويتطلع لأنْ يشعر الإنسان بإنسانيته ، وكرامته التي أهدرتها الماديَّة الجاهلية.
إنَّ الأُمَّة الإسلامية هي الأُمَّة الوحيدة القادرة على صنع الحضارة الإنسانية، والفكر الإسلامي هو الفكر الوحيد القادر على بثِّ الرُّوح في ماديَّة الإنسان ليصنع منه إنساناً يسمع ويرى بنور ربِّه، هذا الإنسان الذي بات يصم أذنيه ويغمض عينيه، يَقْتُل ويُشَرِّد مبرِّراً وحشيته تحت مُسمَّيات ما أنزل الله بها مِنْ سلطان.
وإذا سمحت لنفسي أنْ أقول إنَّ المادية العلمانية التي لا روح فيها أخرجت هذه النَّماذج، لا تُلام، لأنَّ أصحاب المبدأ الإسلامي غابوا وتركوا السَّاحة لغيرهم، يسرحون ويمرحون دون وعيٍ أو إدراك حقيقي لما ستؤول إليه حال البشرية إذا ما بقيت سائرة في دروب الضَّلال والتِّيه.
لقد أفلست كل العقائد والمبادئ وكل الطروحات، وها هي تتخبط ولا مخرج، وإنَّ الأعناق تشرئبُّ إلى هذا الدِّين ليخرج النَّاس من ظلمات الجهل والباطل إلى نور الإيمان وصلاح الدنيا والآخرة.
عادت البشرية إلى جاهلية أشد مِنَ الجاهلية الأولى رغم تقدُّمها العلمي وبلوغها شأناً عظيماً في هذا المجال. إلا أنَّ استعباد الإنسان وإهدار إنسانيته عاد بصورة عصرية بشعة ، ولا شكَّ أنَّ المستقبل لهذا الدِّين ليأخذ دوره الطبيعي الريادي في قيادة البشرية.
إنَّ المسؤولية تقع الآن على أعناق المسلمين ليقوموا بهذا الدَّور الجليل والخطير، وإلاَّ فإنَّ الله سيأتي بقوم آخرين يحبهم ويحبونه ولا يكونون أمثالنا، كما في قوله تعالى) وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
ثم لا يكونوا أمثالكم[1]).وقوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) ([2]).
وعليه فإن سنة الاستبدال ستجري علينا(سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) ([3]).
في هذه الورقات طرحت سؤالين ملحين يتصلان بحياتنا المعاصرة وهما:
ـ هل هناك أمل ؟ ! ـ وما العمل ؟ !
وللإجابة على هذين السؤالين أقول والله المستعان:
السؤال الأول: هل هناك أمل ؟ !
لقد أصاب المسلمين اليأس والقنوط للخروج من المأزق الذي وقعوا فيه ولا يستشعرون بارقة أمل لنهاية النَّفق المظلم، لقد طال الليل وازدادت خطوبه، والدول العلمانية الماديَّة تدَّعي الحضارة، وتسعى إلى إسعاد الإنسان، وهي في الحقيقة تُدمِّر الحضارة وتُدمِّر الإنسان، وتريد أنْ تقضي على بارقة النور.
فهل هناك أمل ؟ !
أولاً: تحريم القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية لليأس والقنوط:
لقد تظاهرت نصوص القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهَّرة في النَّهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله واليأس عن الوصول إلى الغاية المنشودة؛ بل جعلت القعود وفتور الهمم وضعفها منافياً للإيمان وللغاية التي خُلِقَ الإنسان من أجلها، قال تعالى ( ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) ([4]).
وقال تعالى ( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) ([5]).
وقال تعالى( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) ([6]).
وقال تعالى ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤساً ([7]).
وقال تعالى (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط) ([8]).
يقول سيد قطب([9]): "إنَّه لا يقنط من رحمة ربِّه إلا الضَّالون، الضَّالون عن طريق الله الذين لا يستروحون روحه، ولا يحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته ، فأمَّا القلب الندي بالإيمان المتَّصل بالرحمن، فلا ييأس ويقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادْلَهَمَّتْ به الخطوب، ومهما غام الجو وتلبَّد، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر فإنَّ رحمة الله قريبٌ من قلوب المؤمنين المهتدين، وقدرته تنشئ الأسباب كما تنشئ النتائج وتغيِّر الواقع كما تغيِّر الموعود".(/1)
ولقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم القنوط بفواحش الأعمال وبالشرك، فعن فُضالة بن عبيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً، وأَمَة أو عبد أَبِقَ فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم. وثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله عز وجل رداءه فإنَّ رداءه الكبرياء وإزاره العزة، ورجل شك في أمر الله، والقنوط من رحمة الله"([10]).
كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من القعود والعجز عن القيام بالأعمال، والتعلل بتعليلات واهية لا تليق بالإنسان الذي أعده مولاه للخلافة في الأرض وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العجز والكسل والقعود باعتبار كونه يحط من إنسانية الإنسان، ويقعده عن القيام بمهام الرسالة التي كُلِّف بحملها.
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر"([11]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان)([12]).
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)([13]).
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إشاعة حالة الإحباط في الأمة، واعتبر ذلك من الأمور المهلكة لصاحبها وللأمة على حدٍ سواء .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم). قال أبو إسحاق: "لا أدري أهلكهم بالنصب أو أهلكُهم بالرفع"([14]).
ثانياً: القرآن الكريم والسنة النبوية يذكران بانتصارات الأمم الضعيفة والمغلوبة:
إنَّ التاريخ يشهد أن كثيراً من الأمم المغلوبة والمقهورة انتفضت واستيقظت من غفوتها وردت الكرة على غالبيتها وأذاقوهم من نفس الكأس التي شربوها، وذلك بعد أن حصل لهم الوعي بواقعهم، وتطلعت نفوسهم إلى مستقبل مشرق وضّاء، فكان لهم ما أرادوا, ولا يعني ظهور قوى غاشمة ومُتجبِّرة نهاية التاريخ كما يدعون، بل هي نهاية تاريخهم بإذن الله.
ولقد ذكرت نصوص الكتاب والسنة أنَّ الأمة إذا عادت إلى إيمانها وأعدت ما استطاعت من عدة، يمكن أن تنهض، وأن تستعيد عافيتها من جديد، انظر إلى قوله تعالى ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) ([15]).
وقوله سبحانه وتعالى ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) ([16]).
وقوله تعالى ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ([17]).وقوله تعالى ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) ([18]). ولا يظن ظانّ أن النصر والرفعة يتمان من غير عدد ولا عدة بل أمر سبحانه بإعداد أكبر قدر مستطاع من القوة وبذل أقصى الوسع في تهيئة أسباب النصر، قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ْ ([19]).
كما ينبغي أن تتوافر لدى الأمة نية النصر والتشوق إلى طلوع فجر جديد والعمل لذلك والتلبس بكل ما هو خليق بأن يحدث عودة الحياة الإسلامية إلى الواقع فلو أن الأمة ملكت كل أنواع السلاح ولديها الرجال والمال، لكن لا نية لديها لبثّ فكرها ونشر مبادئها أو حتى الدِّفاع عن حياضها، فإن تلك الأعداد والعتاد لا تغني عنها شيئاً، بل تكون وبالاً بعرض صور الحلقة الأخيرة للأمم الغاشمة والظالمة، انظر إلى قوله تعالى:( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) ([20]). وقوله تعالى : (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) ([21]). وقوله تعالى ( حتى إذا استئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) ([22]).
وقال سبحانه ( ولقد مكناهم في إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ([23]).وقال تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ([24]).(/2)
فهذه نصوص قاطعة تدل على أنَّ الأمم المتسلطة والمتجبرة ستكون عاقبتها وخيمة، وأن انهيارها سيكون سريعاً وحتمياً، وما على المسلمين إلا أن يسرعوا في انهيارها والتخلص من ظلمها وجبروتها.
ثالثاً: نصوص الكتاب والسنة تؤكد أنَّ النصر لهذا الدين:
إنَّ الحديث عن هذه النقطة بالذات تحمل المسلمين أشواقاً وآمالاً ستبقى تخيلات وأوهاماً إذا لم يحسنوا فهمها والعمل من أجلها.
بل إنَّ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة تتحدث يقيناً بأنَّ الغلبة ستكون لهذه الأمة مهما طال الليل، ومهما عظمت المؤامرة، ومهما كثر الأعداء، وإنَّ هذه الأمة هي الأمة الوحيدة التي حملت النصوص التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وحملت لها الأنباء ببقائها واستمرارها إلى قيام الساعة، بل حملت لها بشائر النصر على أعدائها وما ذلك على الله بعزيز.
لكن الذي يجب أن يُفهم أن هذه النصوص تحمل أخباراً جاءت بمعرض الطلب، أي أن النصوص حملت لنا خبراً بنصر الأمة على أعدائها، هذا الخبر سيحدث حقيقة متى تلبست الأمة بالعمل له وسعت حثيثاً لإيقاعه، فعندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، لم تفتح أبوابها أمام أول هجمة من قبل المسلمين ولا الثانية ولا الثالثة، ولم يُصب المسلمون بالإحباط والقعود، بل ازدادت المحاولات تلو المحاولات حتى فُتحت.
فالفتح لم يحدث بالتمني ولا بالأحلام، إنَّما كان حقيقة واقعة بعد قيام فعل حقيقي من قبل الأمة، وأن هذه لدعوة رائعة تشرئبُّ لها الأعناق لعودة مظفرة لهذا الدين، وعودة عز الأمة، والنصوص الواردة بهذا الشأن قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)([25]). ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) ([26]).( وكان حقا علينا نصر المؤمنين) ([27]).( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) ([28]).(إلا إن حزب الله هم المفلحون) ([29]).( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون) ([30])، (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين لتعلن علوا كبيرا* فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا* ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا* إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا* عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) ([31]).
وأما الأحاديث الواردة بهذا الشأن فمنها:
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، ولا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"([32]).
وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرين)([33]).
وعن معاوية بن شهاب أخبرني حميد قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنَّما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله)([34]).
وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة)([35]).
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله)([36]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود)([37]).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضَّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)([38]).(/3)
وعن أبي قبيل قال: كُنا ثم عبد الله بن عمرو بن العاص، ثم سأل: أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنطينية أو رومية ؟ فدعا عبد الله بصدوق له خلق. قال فأخرج منه كتاباً، فقال عبد الله: بينما نحن حول الرسول صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مدينة هرقل تُفتح أولاً). يعني قسطنطينية([39]).
وعن ثوبان قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)([40]).
وعن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإني أُعطيت الكترين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي عز وجل أن لا يهلك أمتي بعامة وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة وأن لا يلبسهم شيعاً وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فقال: يا محمد إنِّي إذا قضيت قضاء لا يرد وإني قد أعطيت لأمتك أن لا أهلكهم وعشرون بعامة وأن لا أسلط عليهم عدواً بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً وبعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً)([41]).
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكتب إلي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي، يقول: (ثم لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشرة خليفة كلهم من قريش). وسمعته يقول: (عصيبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض، بيت كسرى أو آل كسرى). وسمعته يقول: (إنَّ بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم). وسمعته يقول: (أنا الفرط على الحوض)([42]).
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثم لا تزال طائفة على أمتي على الدِّين ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين هم ؟ قال: (بيت المقدس وأكناف بيت المقدس)([43]).
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)([44]).
وعن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتاً ولا وبراً إلا أدخله الله هذا الدِّين بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر). وكان تميم الداري يقول: "قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية"([45]).
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي، ينزل الله عز وجل له القطر من السماء، وينبت الله له الأرض من بركتها، تُملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، يعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس)([46]).
ويشهد له ما جاء به ابن حبان والحاكم عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثم يكون اختلاف في موت خليفة، فيخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه على الركن والمقام، فيبعثون إليه جيشاً من الشام، فإذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فإذا بلغ الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصابة أهل العراق فيبايعونه، وينشأ رجل من قريش أخواله من كلب فيبعث إليهم جيشاً فيهزمونهم ويظهرون عليهم، فيقسم بين الناس فيئهم ويلقى الإسلام بجرانه إلى الأرض يمكث سبع سنين)([47]).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "يوشك أهل العراق أن لا يجئ إليهم قَفِيزّ ولا درهم. قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك. ثم قال يوشك أهل الشام أن لا يجئ إليهم دينار ولا مُدْىّ. قلنا من أين ذاك قال: من قبل الروم، ثم سكتَ هُنيهة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يكون في آخر أمتي خليفة يَحثي المال حَثياً لا يعده عدداً). ثم قال: "قلت لأبي نضرة وأبي العلاء : أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا"([48]).
إنَّ الناظر في هذه النصوص الشريفة نظرة ممعنة يدرك عودة مظفرة للإسلام تلوح في الأفق، وأنَّ بشائرها قريبة بإذن الله تعالى ستأتي.
يقول سيد قطب: "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يوم ذلك، وكان واثقاً من أنَّ هذا الحق لابد أن ينتصر على الباطل، وأنَّه لا يمكن أن يوجد (الحق) في صورته هذه، وأن يوجد (الباطل) في صورته هذه ثم لا يكون ما يكون !.(/4)
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد .. كانت قد خبئت بحيث يتحتم أن تجتث .. وكانت البذرة الطيبة في يده هي المُعبأة للغرس والنماء .. هذه ثم لا يكون واثقاً من هذا كله ثقة اليقين.
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته، مع الجاهلية كلها من حولنا .. فلا يجوز ـ من ثم ـ أن ينقصنا اليقين في العاقبة المختومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا، على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تُحيط بنا ؟([49]).
إنَّ المستقبل لهذا الدِّين يعود أيضاً لاعتبارات واقعية في حياة البشر كما أسماها الدكتور عبد الله عزام ـ رحمه الله تعالى ـ([50])، هذه الاعتبارات تتضح من خلال أمرين:
الأول: قدرة المنهج الإسلامي على إيجاد الحلول لمشاكل البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور:
وفي ذلك يقول سيد قطب: "الإسلام منهج حياة، حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها، منهج يشمل التصوُّر الاعتقادي الذي يُفسِّر طبيعة (الوجود) كما يحدد غاية وجوده الإنساني.
ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصوُّر الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنِّظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأُسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يُستمد منها، والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته.
ونحن نعتقد أنَّ المستقبل لهذا الدِّين بهذا الاعتبار، باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقوِّمات كلها مترابطة، غير منفصلة بعضها عن بعض المقومات المنظِّمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبِّية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني"([51]).
الثاني: إفلاس المناهج الوضعية في علاج مشاكل الإنسانية جمعاء وتحويل البشر إلى سلع استهلاكية:
المُلاحظ في عصرنا الحاضر أنَّ الحضارة الغربية رغم ما قدمته في عالم الماديات ما تذهل له العقول، إلاَّ أنَّها عاجزة عن تقديم أي إشباع روحي لفطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها.
يقول محمد قطب: "ولسنا نبني تفاؤلنا ـ بطريقة صبيانية ـ على التقدُّم العلمي الجبَّار الذي سيسود الحياة في المستقبل، وسيصنع الأعاجيب! ولا على دعاوى الإنسان في السيادة على البيئة والتحكُّم في الظروف والتحرُّر من العجز والتحرُّر من القيود .. إلى آخر هذه الدعاوى الفارغة التي يردِّدها كُتَّاب الغرب المفتونون وتلاميذهم في الشرق، الذين يحسبون أنفسهم من (الرُّواد) حين يلوكون هذه الأقاويل .. فقد رأينا من شهادة (أليكس كاريل) أنَّ التقدُّم العلمي ذاته ـ على خطوطه الحالية ـ هو الذي سيسرع بالناس إلى العودة للبربرية والهمجية، وأنَّ تحكُّم الإنسان في البيئة وسيادته عليها ـ بتصوُّراته الحالية ـ هو ذاته الذي يجعله ينشئ حضارة لا تلائمه، وتؤدِّي به إلى الدَّمار، وإنَّما نبني تفاؤلنا على الواقع السيئ الذي تعيشه البشرية اليوم في ظل الحضارة الغربية! والذي يأخذ طريقه إلى الازدياد! فهذا الواقع السيئ هو الذي سيهدي البشرية إلى الصواب!"([52]).
ويقول أبو الحسن الندوي: "وقد حاول رجال الإصلاح والدِّيانة أن ينفخوا في هذه الأمم حياة جديدة، ويبنوا فيها روح الأخلاق والفضيلة والأمانة والاقتصاد، فأخفقوا إخفاقاً تاماً، وعلموا أنَّ خلق أُمَّة بأسرها أهْوَن مِنْ إصلاح هذه الأُمم وتهذيبها، وقد انقطعت مادَّتها، وانقضى أجلها. وهكذا أصبح العالم شرقاً وغرباً في أزمة روحية وخُلُقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلاً سريعاً عاجلاً"([53]).
إذن ما العمل ؟ !
لتعلم الأُمَّة الإسلامية أنَّ المستقبل لها وأنَّ هذا الدِّين ستعود له القيادة الفكرية في العالم، فإذا لم تعِ الأُمة الإسلامية هذا الدَّور العظيم الذي لابد له من حملة، فإنَّ سُنن الله في التغيير ستجري علينا لا محالة.
يقول سبحانه:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ([54]).( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) ([55]).( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ([56]).
فإن كان المستقبل لنا فلماذا لا نسعى إليه حثيثاً بخطى واثقة مطمئنة ؟
ولا يمكن أن تعود الأُمَّة الإسلامية إلى سابق عهدها وإلى مجدها التَّليد إلاَّ بشرطين:
[1] وجوب العمل لقيام دولة الخلافة.
[2] وجود مشروع النَّهضة الإسلامية الحديثة.
[1] وجوب العمل لقيام دولة الخلافة:(/5)
إنَّ العمل من قِبَل المسلمين لقيام دولة الخلافة، ليس في أولوياتهم التي تقض المضاجع، بل إنَّ الوعي على الخطر المُحْدِق بالمسلمين لعدم وجود دولة إسلامية ترعى مصالحهم وشئونهم يكاد يكون معدوماً، ولذلك يجب على المسلمين أن يكون في فكرهم وشعورهم العمل لتحقيق قيام دولة الخلافة والتي هي أولى أولويات المسلمين في عصرنا الحاضر.
إنَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة تظاهرت في بيان فرضية العمل لقيام دولة الخلافة، وتعتبرنا آثمين مُقصِّرين، نستحق الوعيد الشديد في الآخرة والخزي والذلة في الحياة الدُّنيا إذا لم نقم بواجبنا في القيام بالفرض الكفائي الذي أوجبه علينا ربنا.
يقول سبحانه) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ([57])، ويقول سبحانه:(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ([58])، ويقول سبحانه:(وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ([59]).
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والطاعة حقٌ ما لم يُؤمر بالمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)([60]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني، وإنمَّا الإمام جُنَّة يُقَاتَل من ورائه ويُتَّقى به، فإنْ أمر بتقوى الله وعَدَلَ، فإنَّ له بذلك أجراً، وإنْ قال بغيره، فإنَّ عليه منه)([61]).
ولا يُتصوَّر طاعة من غير خلافة ولا خليفة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)([62]).
إذن يجب على المسلمين أن يسعوا لأن تكون هنالك بيعةً في أعناقهم، وإلاَّ ماتوا ميتة الجاهليين.
قال إمام الحرمين: "إنَّ الإمام زمام الأيام وشرف الأنام، والغرض من نصبه انتظام أحكام المسلمين والإسلام"([63]).
قال الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلاف النُّبوة في حراسة الدِّين وحراسة الدُّنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأُمَّة واجب بالإجماع، وإنْ شذَّ عنهم الأصم"([64]).
وقال القلقشندي: "الخلافة هي حظيرة الإسلام ومحيط دائرته، بها يُحفظ الدِّين ويُحمى، وتُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتُقام الحدود"([65]).
قال ابن تيمية([66]): "يجب أن يُعرف أنَّ ولاية أمر النَّاس من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدِّين إلاَّ بها، فإنَّ بني آدم لا تتم مصلحتهم إلاَّ بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا خرج ثلاثة في سفر فليُؤمِّروا أحدهم)([67])، فأوجب تأمير الواحد في الإجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الإجتماع، ولأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة"([68]).
من هنا كان لزاماً على المسلمين في حاضرنا أن يسعوا جاهدين وبكل ما أوتوا من قدرة وطاقة لاستئناف الحياة الإسلامية، لكن ما نراه في الواقع من المسلمين ـ إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبِّي ـ إنَّهم تخلوا عن منهجهم الرباني متأثرين بالضغط الهائل والزحف المخيف للأنظمة الوضعية، ولو حصلت القطيعة بين الحياة والدِّين، وأسلم النَّاس زمام عبوديتهم لغير الله، أصبح كثير ممن يدَّعون حمل الإسلام يعتذرون عن دينهم بمناسبة وغير مناسبة. لكن ديننا ليس كذلك !.
يقول سيد قطب: "ليس من طبيعة (الدِّين) أن ينفصل عن الدُّنيا، وليس من طبيعة المنهج الأهلي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، الأخلاقيات التهذيبية، والشعائر الوجدانية، أو في ركنٍ ضيِّقٍ من أركان الحياة البشرية .. ركن ما يُسمُّونه (الأحوال الشخصية).
ليس من طبيعة (الدِّين) أن يفرد الله ـ سبحانه وتعالى ـ قطاعاً ضيِّقاً في ركنٍ ضئيلٍ ـ أو سلبي ـ في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله !.
ليس من طبيعة (الدِّين) أن يشرع طريقاً للآخرة، لا يمر بالحياة الدنيا ! طريقاً ينتظر النَّاس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض، وعمارتها والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه !
ليس من طبيعة (الدِّين) أن يكون هذا المسخ الشائه الهذيل! ولا هذه الألعوبة المُزوَّقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسيم التقليدية التي لا علاقة لها بنُظُم الحياة العملية !.
ليس من طبيعة (الدِّين) ـ أي دين فضلاً عن دين الله ـ أنْ يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل .. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام النكد) بين الدِّين والحياة؟.(/6)
لقد تم ذلك (الفصام النكد) في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المُدمِّرة في أوروبا .. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصوُّرات الغربية والأنظمة الغربية على البشرية في مشارق الأرض ومغاربها([69]).
إذن يجب على المسلمين أن يعيدوا الإسلام واقعاً في حياتهم، ويحملونه للعالم أجمع، ولا يمكن لأي عمل أنْ يكون ناجحاً إلاَّ أنْ يكون جماعياً، وعلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الدولة، والقدرة الهائلة في الابتكار في الوسائل والأساليب، فهذه شروط أرى أنها الموصلة إلى إخراج المسلمين مما هم فيه، ويمكن أنْ نوجز الحديث عنها كما يلي:
[1] أن يكون جماعياً:
فالعمل الفردي لا يمكن أنْ يكون منتجاً نتائج حاسمة في تاريخ الأمة، ولذلك نجد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم بُعث فيه بدأ في تكوين جماعة على طراز رفيع ومُتميِّز من التنظيم الدقيق، والعمل المتفاني والتهيؤ لقادم الأيام من الصَِّراع والكفاح السياسي.
إنَّ الله تعالى ناصر نبيه(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز)([70])، لكنَّه لم يقعد حتى يأتيه النصر ـ والله قادر على ذلك ـ وإنَّما قام من فوره يؤسِّس للجماعة الأولى ويُعد شخصيات كانت مضرب المثل على مدى الزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأُسوتنا، وفعله تشريع يجب علينا اتِّباعه.
يقول الدكتور هشام الطالب: "هناك من يدَّعي أنَّ غالبية شعوب العالم الإسلامي لا تعرف الجد في العمل وهذا سبب فشلها، ولكن قولنا في المسلمين المخلصين الذين يعملون بكل جد، ما بالنا نرى معظمهم غير منتجين؟ إنَّ مشكلة هؤلاء هي مشكلة توجُّهات وميول، وافتقاد روح الفريق في العمل، وانحراف منهج التفكير، فقد ترى أفراد المجموعة الواحدة يؤدُّون أعمالهم بكل جد، لكن في اتجاهات متعارضة، الأمر الذي يجعل محصِّلة جهودهم النهائية أقرب إلى الصفر، بل تكون محصِّلة سالبة في بعض الأحيان.
إنَّ لكل عمل إسلامي مقداره واتجاهه...، فإذا لم يتوافق عمل فرد ما مع عمل غيره توافقاً وثيقاً وفي إطار خطة واضحة مع وضوح اتجاه العمل، فإنَّ النتيجة ستكون محدودة رغم الجهود الكثيرة التي تبذل في ذلك"([71]).
ويقول سيد قطب: "لا بد لهذه المحاولة الجدية أنْ تتمثَّل في تجمُّع عُضوي حركي أقوى في قواعده النَّظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلاً. ولكن الإسلام لم يكن يملك أنْ يتمثَّل في نظرية مجرَّدة يعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة، ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمُّع الجاهلي القائم فعلاً، فإنَّ وجودهم على هذا النحو مهما كَثُرَ عددهم، لا يمكن أنْ يؤدِّي إلى وجود فعلي للإسلام، ومن ثمَّ لم يكن بداً أنْ تتمثَّل القاعدة النَّظرية للإسلام (أي العقيدة)، في تجمُّع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى"([72]).
[2] أن يكون على منهج وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الدولة والوصول إليها:
يقول أبو الأعلى المودودي: "الإسلام في الحقيقة هو عبارة عن الحركة التي نريد بناء صرح الإنسانية بأسرها على حاكمية الله الواحد الأحد، وهذه الحركة جارية على سنن واحد منذ أقدم عصور التاريخ، وقادتها هم صفوة رجال الإنسانية المُلقَّبون بُرُسل الله، فإنْ أردنا القيام بهذه الحركة والعمل على تيسيرها، فلا بُدَّ لنا من اتِّباع هؤلاء القواد وقَفْوِ آثارهم، لأنَّه ليس ولا يمكن أنْ يكون هذا النوع من الحركة من برنامج عملي غير ذلك"([73]).
وعليه فإنَّ طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى الدولة واجبة الاتِّباع، فهي جزء من الحكم الشرعي لا تنفصل عنه، ولتوضيح ذلك فإنَّ الأحكام الشرعية التي جاءت من عند الله تعالى لا يمكن معرفة كيفية أدائها إلاَّ بعد ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم بأدائها وبيان الكيفية التي تُؤدَّى بها.
وتتلخَّص طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى الدولة في الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: الإعداد؛ أي إعداد شخصيات إسلامية تستوعب الفكرة، قادرة على إيصالها إلى النَّاس، وعندهم القدرة على تحمُّل تَبِعَات الخطوة التالية.
الخطوة الثانية: الصِّراع الفكري، أي نشر الفكرة الإسلامية وبيان فساد معتقدات الغير، ولا شكَّ أنَّ هذا سيُولِّد صراعاً فكرياً بين الفريقين ينتهي بإقناع الطرف الثاني، أو إيقاع الأذى بالطرف الأول، وفي هذه الحالة يجب على المسلمين أن يتحلوا بالصبر والعمل على إيجاد وسائل من شأنها إقناع الخصم ولا شك أن الأذى ستتصاعد وتيرته، وعلى المسلمين أن ينتقلوا إلى الخطوة الثالثة.
الخطوة الثالثة: طلب النُصرة، أي العمل على تلمُّس مراكز القوة والجماعات التي تقوم بدورها في حمل الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى بر الأمان، وإلى الغاية المنشودة في قيام الدولة.
[3] الابتكار والتحديث في الوسائل للوصول إلى أفضل النتائج:(/7)
إنَّ أخطر ما ابْتُلِيَ به المسلمون فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات هو أمران:
الأول: عدم التفريق بين الوسائل والأساليب والأحكام الشرعية والخلط الشديد بينهما.
فالوسائل والأساليب ترجع إلى إبداعات العقل فيما يتعلق بأمور في الدُّنيا ويمكن الاستفادة من أي وسيلة أو أسلوب استخدم في العالم، فالحكمة ضالة المؤمن، أمَّا الأحكام الشرعية فهي وحيٌّ من الله تعالى ولا يجوز أنْ نأخذ أي أحكام أو قوانين أو معالجات لأي مسألة في واقعنا من غير الوحي.
فمثلاً، اعتبر كثير من الناس أنَّ طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصول إلى الدولة من الوسائل والأساليب.
إنَّ التطوُّر الهائل في العلوم التجريبية وتَسارُع وتيرة التقدُّم العلمي يُقدِّمان لحملة الإسلام أكبر قدر ممكن من التخاطب، والاتصال الحي والفعال بالأمة، كما أنَّ الدِّراسات حول التنمية البشرية والإفادة من القدرات العقلية والبدنية للإنسان توفر مادة أخرى في سبيل الإفادة من تطوير وابتكار وسائل وأساليب من شأنها أنْ تسرع في النهضة المنشودة.
يقول فتحي يكن: "والحقيقة التي لا جدال فيها أنَّ المناهج والأساليب المعتمدة لدى الحركة الإسلامية دون مستوى القدرة على تكوين شخصية إسلامية هذه ملامحها ومواصفاتها"([74]).
ويقول الدكتور هشام الطالب: "إنَّ الغرب لديه بضاعة رديئة يتولى عرضها باعة مهرة، ولدينا بضاعة ممتازة يتولى عرضها باعة خائبون"([75]).
ثانياً: مشروع النَّهضة الإسلامية الحديثة:
ُقصد بالنَّهضة نقل الأُمَّة الإسلامية من حالة الانحطاط والتخلُّف والتشرذُم، إلى حالة الارتقاء والارتفاع والوحدة، أي بعبارة أُخرى نقل الأُمَّة من حالة التخلُّف عن الإسلام إلى حملِهِ والموت في سبيله، لأنَّه لا نهضة حقيقية بغير الإسلام.
إنَّ جهود العاملين للإسلام ينبغي أنْ تتركَّز للعمل المستقبلي لتغيير الحالة التي يعيشها المسلمون، والنُّهوض بهم نهضة صحيحة منتجة، لينطبق عليهم قوله تعالى:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ([76]).
يقول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان: "إنَّ إمكانية التغيير في كيان الأُمَّة، تكمن في العمل المستقبلي، وإعداد النَّاشئة نفسياً وفكرياً على أُسس سليمة، تُعدُّها لأداء دورها الحضاري بعد أنْ يكتمل تكوينها، فإذا أدَّى جيل اليوم دوره في الإعداد لتكوين جيل المستقبل، فقد نجح في أداء دوره، أمَّا إذا ظنَّ في نفسه القدرة على الأداء الصحيح، فإنَّه بهذا يخطئ الهدف ويستنزف الطاقة المحُددة المتوفِّرة للجيل، بسبب أخطاء تكوينه النفسي والتي يبدو أنَّه ليس بالإمكان تغييرها في هذه المرحلة إلاَّ في حدود ضيِّقة لا تؤهل لإخراج الأُمَّة من أزمتها.
إنَّ أهمية دور الجيل هي بالدرجة الأولى في العمل والإعداد المستقبلي وتهيئة المنطلقات السليمة والوسائل المناسبة لإعداد أبناء الأجيال المُقبلة"([77]).
وعليه فإنَّ مشروع النَّهضة الإسلامية الحديثة للأُمَّة لا بُدَّ أنْ يقوم على الركائز الآتية:
[1] لا بُدَّ أنْ يقوم على فكرة (العقيدة الإسلامية)، وتنبثق عن الفكرة أنظمة وقوانين وأحكام شرعية، وهنا ينبغي أنْ تُقدَّم العقيدة صافية نقية لا غبش فيها ولا تعقيد، يفهمها الصغير والكبير والعالِم والعامِّي، وأنْ تُقدَّم بأسلوبها القرآني، وببساطة عرضها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبفهم المسلمين الأوائل.
يقول فتحي يكن: "ومن شرائط هذه الفكرة أنَّ الفهم للإسلام، والدَّعوة إليه، والحاجة فيه، مبنيَّة على عمق التصوُّر، وكُليِّة النَّظر، ووضوح الرؤية، ومن شرائطها كذلك أنْ تكون المواجهة مع الجاهلية قائمة على دراسة مُسْبَقة، ومركَّزة لأفكار هذه الجاهلية ومبادئها ووسائلها واستراتيجيتها"([78]).
[2] نشر الفكر الذي يقوم عليه المشروع عن طريق الاتصال الحي بالأشخاص المؤثِّرين مما يُحْدِثُ رأياً عامَّاً وعارماً في الأُمَّة، يكون ناتجاً عن وعيٍ عام.
يقول مصطفى مشهور: "فهذا التغيير وهذه النوعيات من رجال العقيدة ومن البيوت المسلمة المؤسسة على التقوى والرأي العام الإسلامي، كل ذلك يمثِّل القاعدة الصلبة والأساس المتين ليقوم عليه الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية إنْ شاء الله"([79]).
[3] تبنِّي مشروع النَّهضة من قِبَل الأُمَّة التي تُدافع عن المشروع، ويكون ذلك بإحداث وعي، وحينئذٍ تتحوَّل الفكرة إلى مطلب لجماهير الأُمَّة، وساعتئذٍ يحدث الجّو الإيماني، أي بفكر ينبثق عنه عمل مربوط بغاية.(/8)
يقول أبو الأعلى المودودي: "فهناك تنجذب إلى هذه الدَّعوة أفئدة الذين يوجد فيهم شيء من الخير والصلاح، وأمَّا أصحاب الطباع الفاسدة والذين في قلوبهم مرض ممن يتبعون الأهواء والشهوات فسوف تختفي أصواتهم ويضمحل نفوذهم شيئاً فشيئاً بإزاء تيار الحركة الجارف وسيرها الحثيث، وهكذا يحدث انقلاب عظيم في أفكار العامة وتتعطش الحياة الاجتماعية إلى هذا النِّظام المخصوص من الحكم وهنا لا يستطيع أنْ يحيا في هذا المجتمع الثائر نظام آخر غير النِّظام الذي أُعِدَّتْ له المُعِدَّات، وتهيَّأت له العوامل.
ولا يخفى على من له إلمام بتاريخ الانقلابات والتطوُّرات في الأمم قديماً وحديثاً أنَّ كل أنواع الانقلابات يستدعي حركة وزعامة وعمالاً وشعوراً اجتماعياً وبيئة خلقية تلائمه، كذلك شأن الانقلاب الإسلامي فإنَّه لا تثمر شجرته ولا تُؤْتِي أكلها إلاَّ إذا قامت حركة شعبية على أساس النَّظريات والأحكام القرآنية ودعامة سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسننه الظاهرة تقوم هذه الحركة الشعبية وتستنهض وتقوى حتى تغير بجهادها المستمر العنيف أُسس الجاهلية الفكرية والخلقية والنفسية والثقافية السَّائدة في الحياة الاجتماعية وتأتي بنياها من القواعد".
أهم النتائج
[1] أنَّ حالة الانحطاط التي يعيشها المسلمون ـ والتي لا يختلف فيها اثنان ـ سبَّبتْ حالة من الإحباط لدى جمهور المسلمين بل وصلت إلى بعض العاملين في الحقل الإسلامي.
[2] إنَّ اليأس والقنوط الناتجان عن حالة الإحباط لا مكان لهما في ديننا الإسلامي.
[3] تحدَّثت نصوص الكتاب والسنة عن مستقبل مشرق وضَّاء للمسلمين، شريطة أخذهم بأسباب النصر التي ذكرناها.
[4] إنَّ النصوص الواردة بالبشارة بالنصر والتأييد لهذا الدِّين، هي أخبار جاءت بمعرض الطلب، يجب على المسلمين أن يتلبسوا بالعمل لها إذا أرادوا النَّهضة.
[5] إنَّ النَّهضة الحقيقية لا يمكن أنْ تحدث إلاَّ بمشروع حقيقي غاية في الدِّقة والتخطيط السليم والإبداع في الوسائل والأساليب، بعيد عن الارتجال والتأثُّر برِدَّات الفعل المعاكس التي يحدثها أعداء الأمة للحَيْد عن الطريق الصحيح.
[6] إنَّ الوعاء الذي يحفظ كيان الأمة ويحفظ لها دينها هو الدولة، فيجب على المسلمين أنْ يسعوا جادِّين إلى إقامتها على منهاج النبوة.
أهم التوصيات
[1] نوصي بالعمل على ربط المناهج التعليمية في مدارسنا وجامعتنا بالفكر الإسلامي، وتنقية وتصفية كل ما هو دخيل والحيلولة دون الغريب من الأفكار الهدَّامة.
[2] نوصي العاملين في الحقل الإسلامي بضرورة نبذ الخلافات وتجميع الصفوف، فالغاية واحدة وينبغي أن لا تكون الطرق متفرقة.
ثبت المصادر والمراجع
[1] الإيجي القاضي عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، عالم دار الكتب، بيروت.
[2] البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله، (265)هـ، الجامع الصحيح، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، ط3، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1407هـ ـ 1987م.
[3] البزَّار، أبو بكر أحمد بن عمرو (292)هـ، البحر الزاخر، تحقيق:
د. محفوظ عبد الرحمن زين الله، ط/1، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة، 1409هـ.
[4] البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي أبو موسى أبو بكر (458)هـ، السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ ـ 1994م.
[5] الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى (279)هـ، الجامع الصحيح، تحقيق: أحمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[6] ابن تيمية، أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم (728)هـ، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق: بشير محمد عيون، 1985م، مكتبة دار البيان، دمشق.
[7] الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي (478)هـ، غيَّاث الأمم، تحقيق: فؤاد عبد المنعم زميله، 1402هـ، دار الدَّعوة للطباعة والنَّشر، الإسكندرية.
[8] الحاكم، النيسابوري، محمد بن عبد الله أبو عبد الله (405)هـ، المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط/1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[9] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن على حجر أبو الفضل (852)هـ، فتح الباري بشرح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدِّين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
[10] الخطيب البغدادي، أحمد بن علي أبو بكر، (436)هـ، تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت.
[11] الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد (255)هـ، السنن، تحقيق: فوَّاز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي، ط/1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ.
[12] أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث، السنن، تحقيق: محمد محي الدِّين عبد الحميد، دار الفكر.
[13] أبو داؤد الطيالسي، سليمان بن داود، (204)هـ، المسند، دار المعرفة، بيروت.(/9)
[14] الدَّاني، أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ (241)هـ، المسند، السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، تحقيق: د. ضياء الدِّين بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، ط/1، الرياض، 1416هـ.
[15] أبو سليمان، د. عبد الحميد أحمد، أزمة العقل المسلم، ط/3، الدَّار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، 1994م.
[16] الشيباني، أحمد بن محمد بن حنبل (241)هـ، المسند، دار صادر، بيروت.
[17] ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد الكوفي، (235)هـ، الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، ط/1، مكتبة الرشد، الرياض، 1409هـ.
[18] الطالب، د. هشام يحيى، دليل التدريب القيادي، ط/2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لندن، 1995م.
[19] الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (360)هـ، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ. المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، ط/2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1404 هـ ـ 1983م.
[20] عزَّام، د. عبد الله، الإسلام ومستقبل البشرية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982م.
[21] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد (505)هـ، الاقتصاد في الاعتقاد، دار مكتبة الهلال، بيروت.
[22] قطب، سيد (1966م)، معالم في الطريق، ط/8، دار الشروق، بيروت، 1980م. المستقبل لهذا الدين، ط/7، دار الشروق، بيروت، 1981م. في ظلال القرآن، ط/9، دار الشروق، بيروت، 1980م.
[23] قطب، محمد، التطوُّر والثبات في حياة البشرية، ط/6، دار الشروق، بيروت، 1986م.
[24] القلشقندي، أحمد بن عبد الله، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، تحقيق: عبد الستاَّر فرَّاج، 1964م، وزارة الإرشاد، الكويت، سلسلة التراث العربي.
[25] ابن ماجة، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني (275)هـ، السنن، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
[26] الماوردي، أبو الحسن بن علي، (450)هـ، الأحكام السلطانية، تحقيق: د. خالد الجميلي، 1989م، دار الحرية، بغداد.
[27] المروزي، نعيم بن حماد أبو عبد الله (288)هـ، بعد الفتن، تحقيق: سمير أمين الزهيري، ط/1، مكتبة القاهرة، 1412هـ.
[28] مشهور مصطفى، تساؤلات على الطريق، ط/1، 1983م.
[29] المودودي أبو الأعلى، منهاج الانقلاب الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981م.
[30] الندوي، أبو الحسن علي الحسيني، ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ط/7، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982م.
[31] النسائي، أحمد بن شعيب وعبد الرحمن (303)هـ، المجتبى من السنن، تحقيق: عبد الفتَّاح أبو غدة، ط/2، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1406هـ، ـ 1986م.
[32] النيسابوري، مسلم بن الحجاج، أبو الحسين القشيري (261)هـ، الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[33] الهيثمي، علي بن أبي بكر (807)هـ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت.
[34] أبو يعلى، أحمد بن علي بن المثنى (307)هـ، المسند، تحقيق: حسين سليم أسد، ط/1، دار المأمون للتراث، دمشق 1984م.
[35] أبو يعلى محمد بن الحسين الفرَّاء (458)هـ، الأحكام السلطانية، تحقيق: محمود حسن، 1994م، دار الفكر، بيروت.
[36] يكن، فتحي، نحو حركة إسلامية عالمية واحدة، ط/8، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983م.
------------------------------------------
([1]) سورة محمد، الآية (38).
([2]) سورة المائدة، الآية (54).
([3]) سورة الأحزاب، الآية (62).
([4]) سورة يوسف، الآية (87).
([5]) سورة الحجر، الآية (56).
([6]) سورة الروم، الآية (36).
([7]) سورة الإسراء، الآية (83).
([8]) سورة فصلت، الآية (49).
([9]) سيد قطب، في ظلال القرآن، ط/9، 1980م، دار الشروق، بيروت، (4/ 2148).
([10]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند، دار صادر بيروت، ومحمد بن حبان، الصحيح (موارد الظمآن، نور الدين الهيثمي، تحقيق محمد عبد الرازق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت)، رقم (50).
([11]) أخرجه البخاري محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، ط/3، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1687م، رقم: (2823)، قال ابن حجر: "والفرق بين العجز والكسل، الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة". فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، (6/ 36).
([12]) أخرجه مسلم بن الحجاج النيسابوري، الجامع الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (4/2052)، ومحمد بن يزيد بن ماجه، السنن، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، رقم: (4168) وأحمد بن حنبل، المسند (2/ 270، 366).
([13]) أخرجه الترمذي محمد بن عيسى، الجامع الصحيح، تحقيق أحمد شاكر وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، رقم: (3459)، وابن ماجه، السنن، رقم: (4260)، واحمد بن حنبل، المسند (4/124).(/10)
([14]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح، (4/ 2024)، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، رقم: (4983)، وأحمد بن حنبل، المسند (2/242، 272، 465).
([15]) سورة آل عمران، الآية (123).
([16]) سورة الأنفال، الآية (26).
([17]) سورة البقرة، الآية (249).
([18]) سورة القصص، الآية (5).
([19]) سورة الأنفال، الآية (60).
([20]) سورة آل عمران، الآية (169).
([21]) سورة إبراهيم
([22]) سورة يوسف، الآية (110).
([23]) سورة الأحقاف الآيتان (26ـ 28).
([24]) سورة الأنعام، الآية (6).
([25]) سورة النور، الآية (55).
([26]) سورة الحج الآية ، (40)
([27]) سورة الروم الآية(47)
([28]) سورة الروم، الآية (47).
([29]) سورة المجادلة، الآية (22).
([30]) سورة الصافات، الآيات (171ـ173).
([31]) سورة الإسراء، الآيات (4ـ 8).
([32]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح (3/1523).
([33]) أخرجه البخاري ، الجامع الصحيح رقم: (6681)، مسلم، الجامع الصحيح، (3/ 1523).
([34]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، (6682).
([35]) أخرجه ابن حبان، الجامع الصحيح، رقم: (1851).
([36]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، رقم: (2925)، ومسلم، الجامع الصحيح، (4/ 2238).
([37]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، رقم: (2926)، ومسلم، الجامع الصحيح، (4/ 2239)، وأحمد بن حنبل، المسند، (2/ 417).
([38]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند، (4/ 273)، والطيالسي، سليمان بن داود، المسند، دار المعرفة، بيروت، ص58، والطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق حمدي السلفي، ط/2، 1983م، مكتبة العلوم والحكم، الموصل ، (1/ 157)، والبزَّار أبو بكر بن أحمد بن عمرو، البحر الزاخر،= =تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، 1409هـ، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة، (7/223–224). قال: الهيثمي رجاله ثقات ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، (5/ 189): .
([39]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند (2/ 267)، الداني أبو عمرو عثمان بن سعيد، السنن الواردة في الفتن الكبرى، تحقيق: ضياء المباركفوري، 1416هـ، دار العاصمة، الرياض، (6/ 1127)، ونعيم بن حماد، الفتن، تحقيق سمير أمين الزهيري، 1412هـ، مكتبة التوحيد، القاهرة، (2/ 479)، وابن أبي شيبة أبو بكر عبد الله بن محمد، الكتاب المُصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق كمال الحوت، 1409هـ، ومكتبة الرشد، الرياض، (4/ 219)، والدارمي عبد الله بن عبد الرحمن، السنن، تحقيق فواز زمرلي، 1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، (4/ 553، 598)، وصححه على شرط الشيخين.
([40]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح، (4/ 2215)، أبو داود، السنن، رقم (4252)، الترمذي، الجامع الصحيح رقم (2176)، وأحمد بن حنبل، المسند، (5/284– 287)، وابن أبي شيبة، المصنف (6/ 311) والبيهقي أحمد بن الحسين بن علي، السنن الكبرى، تحقيق: عبد القادر عطا، 1994م، مكتبة دار الباز، مكة المكرَّمة (9/181).
([41]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند (4/ 123).
([42]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح (3/ 1453)، وأحمد بن حنبل، المسند (5/ 89)، وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى، المسند، تحقيق حسين أسد، 1984م، دار المأمون، دمشق، (14/ 456)، والطبراني، المعجم الكبير، (2/ 198).
([43]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند، (5/ 269).
([44]) أبو يعلى، المسند، (11/302)، قال الهيكلي: في مجمع الزوائد (10/60): رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
([45]) أخرجه أحمد بن حنبل، المسند (4/ 103)، والطبراني، المعجم الكبير (2/470)، والحاكم، المستدرك، (4/430)، والبيهقي، السنن الكبرى، (9/181).
([46]) أخرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن الحسيني، (1415هـ، دار الحرمين، القاهرة، (1/20)، قال الهيثمي: في مجمع الزوائد
(7/17): قلت رواه الترمذى وابن ماجه باختصار، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفهم.
([47]) أخرجه أبن حبان، الصحيح، موارد رقم (1881)، والحاكم، المستدرك، (4/478). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/315): رجاله رجال الصحيح.
([48]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح، (4/2234).
([49]) سيد قطب، المستقبل لهذا الدِّين، ط/7، 1981م، دار الشروق، بيروت، ص 94.
([50]) انظر: د. عبد الله علي الزين، الإسلام ومستقبل البشرية، 1982م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 67.
([51]) سيد قطب، المستقبل لهذا الدِّين، ص 5.
([52]) محمد قطب، التطوُّر والثبات في حياة البشرية، ط/6، 1986م، دار الشروق، بيروت، ص 262.
([53]) أبو الحسن الندوي، ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ط/7، 1982م، دار الكتاب العربي، بيروت،
ص 262.
([54]) سورة الرعد، الآية (11).
([55]) سورة الأنفال، الآية (53).
([56]) سورة محمد، الآية (38).
([57]) سورة النساء، الآية (59).(/11)
([58]) سورة النساء، الآية (105).
([59]) سورة المائدة، الآيات (44، 45، 47).
([60]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، رقم (2796).
([61]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، رقم (2797)، ومسلم، الجامع الصحيح، 3 /1466، والنسائي، أحمد بن شعيب، المجتبى من السنن، تحقيق: عبد الفتَّاح أبو غدة، ط/2، 1986م، مكتبة المطبوعات الإسلامية، دمشق، (7/154) وابن ماجة، السنن رقم (4).
([62]) أخرجه مسلم، الجامع الصحيح، 3/ 1374.
([63]) إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، غيَّاث الأمم، تحقيق: فؤاد عبد المنعم وزمليه، 1402هـ، دار الدَّعوة للطباعة والنشر، الإسكندرية، ص 225.
([64]) أبو الحسن بن علي الماوردي، الأحكام السلطانية، تحقيق: د. خالد الجميلي، 1989م، دار الحرية، بغداد،
ص 15، وانظر: أبا يعلى محمد بن الحسين، الفرَّاء، الأحكام السلطانية، تحقيق: محمود حسن، 1994م، دار الفكر، بيروت، ص 23.
([65]) القلقشندي، أحمد بن عبد الله، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، تحقيق: عبد الستَّار فرَّاج، 1964م، وزارة الإرشاد، الكويت، سلسلة التراث العربي، 1/2.
([66]) أبو العبَّاس أحمد بن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق: بشير محمد عيون، 1985م، مكتبة دار البيان، ص 176، وانظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، 2/133، والغزالي، أبا حامد بن محمد، الاقتصاد في الاعتقاد، دار مكتبة الهلال، بيروت، 254، والعقائد النَّسفية بشرح الإمام= =التفتازاني، ص 121، والقاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت، ص 396.
([67]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم، حديث رقم (2608).
([68]) سيد قطب، المستقبل لهذا الدِّين، ص 24ـ25.
([69]) د. هشام الطالب، دليل التدريب القيادي، ط/1995م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لندن، ص 38.
([70]) سورة المجادلة، الآية (21).
([71]) سيد قطب، معالم في الطريق، ط/8، دار الشروق، بيروت، ص 54ـ56.
([72]) أبو الأعلى المودودي، منهاج الانقلاب الإسلامي، 1981م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 28.
([73]) فتحي يكن، نحو حركة إسلامية علمية، ط/8، 1983م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 31.
([74]) د. هشام الطيب، دليل التدريب القيادي، ص 38.
([75]) د. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل السليم، ط/3، 1994م، الدَّار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، ص 22.
([76]) سورة آل عمران، الآية (110).
([77]) فتحي يكن، نحو حركة إسلامية عالمية واحدة، ص 44.
([78]) مصطفى مشهور، تساؤلات على الطريق، ط/1، 1983، ص 49.
([79]) أبو الأعلى المودودي، منهاج الانقلاب الإسلامي، ص 18ـ19.
* أستاذ الحديث المشارك بكلية الشريعة ـ جامعة جرش الأهلية ـ الأردن(/12)
اليأس والأمل
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: حياة الإنسان مليئة بالأكدار والمشاكل التي تنغص الحياة وتجعلها جحيماً بعدما كانت نعيماً.. والناس تجاه تلك المشاكل العامة: إما مؤمل بالخير والفرج وإما يائس من حصول الخير.. ولكل حكمه في شريعة الله.. وعندما نتدبر كتاب ربنا نجد أنه يدعو دائماً إلى التفاؤل، وحسن الظن، وانتظار الفرج.. أمل مع صبر, دون جزع ولا فزع.. وهذا الدين العظيم دائماً ما يدعو العبد إلى أن يكون مستبشراً بالخير، مطمئناً بما قدره الله عليه، منتظراً الفرج من مقدر الأمور وقاضيها -عز وجل-.. وقد نهى الله عن اليأس والقنوط مهما كانت الظروف والمصائب.
فإذا ما عمل العبد معصية أو معاصي كثيرة فلا ييأس من مغفرتها ومحوها وفتح صفحة جديدة بيضاء.. واليأس من رحمة الله ومغفرة الله جريمة في حق العبد؛ لأن الله –تعالى- رحيم بعباده، يرحم من استغفره وتاب وأقلع عن السيئات... وهو يحب العبد الذي يعود إليه ويندم على ما قصر وفرط في جنب الله، ولهذا يقول الله:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر .
إن كثيراً من الناس عندما يعملون الجرائم العظام، والموبقات والمهلكات من السيئات، يدب إلى قلوبهم اليأس ويرون أن تلك الأمور تهلكهم، ولا يرون للتوبة باباً ولا منفذاً، ويقول الواحد منهم: كم عملت! وكم عصيت! وكم أسأت!.. لا يغفر الله لي!! لا يمكن أن تمحى تلك الذنوب بسهولة!! وهذا جرم في حق النفس وفي جنب الله. لأن الله يقبل توبة عبده إذا تاب، فلا يحل لمن وقع في الخطيئة أن يوسوس له الشيطان، ويبعده عن الرحمن.. وليتب إلى الله قبل فوات الأوان...
عباد الله: هذا يعقوب -عليه السلام- يربي أبناءه – وهو النبي الكريم ابن الكريم- ويقول لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (87) سورة يوسف إن اليأس من رحمة الله كفر بالله؛ لأن في ذلك عدم تعظيم لله, وعدم معرفة سعة رحمة الله، أو إنكار لها واتكال على الأمور الظاهرة المحضة، دون لجوء إلى القادر الذي لا نراه ولكننا نرى آثاره الهائلة الكبيرة!
عباد الله: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلن إعلاناً عاماً للبشرية كلها ويقول: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) رواه مسلم.
ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم، وحب للقوة والشجاعة، وترك للفتور والخور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، في مجابهة الأمور، في المخالطة والعزلة، في كل شؤونه، يعد مؤمناً ذكياً قوياً يستطيع – بعون الله- أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات.. لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان -مع أن فيهم خيراً- من تبرير الفشل والكسل والعجز بمسوغات إنما هي خروج عن حقيقة الأمور.. إن المؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دوماً لا يخاف دون الله أحداً.. ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة.. لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل..
الله أكبر! ما أعظمها من كلمات لو تدبرهن عاقل.. إنه تفويض للأمور وإرجاع لها إلى باريها..
يا معشر الدعاة.. يا معشر المربين.. ويا معشر العاملين في ساحة الإسلام: الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ليس إلا سحابة سوداء سوف تنجلي عن قريب.. واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور وخور وترك مسايرة الركب والسبق به، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب.. فصححوا المفاهيم وأمِّلوا الأمة بالخير... أخي المسلم: لا تيأس فالنصر قادم أما تؤمن بقول الله –تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((.. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).. رواه البخاري ومسلم.(/1)
أيها المسلمون: ليس اليأس ولا التطير ولا التشاؤم من طبع المؤمن؛ لأن المؤمن يحسن الظن بالله -عز وجل- ويتوكل عليه، ويؤمن بقضائه وقدره، وقد ورد في الصحيح: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب) ثم بينهم فقال: ( هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) متفق عليه. والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتفاءل ولا يتطير ويعجبه الاسم الحسن) كما روى ذلك الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ييأس من شيء، بل كان دائم التفاؤل والاستبشار بتوفيق الله -عز وجل-.. حين يتعامل المؤمن مع الأحداث الهائلة التي تحصل له بمثل هذه الروح الزكية القوية، فإن الشدائد تتصاغر في حسه مهما عظمت، ويتولد في نفسه نوع من اللقاح الذي يعينه على مواجهة الشدائد والصعاب، ويوجهه للتعامل معها بواقعية بحيث يضع الأمور في نصابها، من دون تهويل ولا مبالغة.
أيها المسلمون: من العلل والأمراض النفسية المتفشية في كثير من الناس اليأس والجزع والحزن عند المصيبة، والفرح والبطر عند إقبال الدنيا! ويعود السبب إلى أن معظم البشر لا يضعون الأمور في نصابها، بل يميلون إلى التهويل والمبالغة في التعامل مع المشكلات، وقد صور القرن الكريم هذه الحالة في عدد من الآيات، منها قوله –تعالى-:{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا } (83) سورة الإسراء. وقوله -تعالى-: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} (49) سورة فصلت. وقوله –تعالى-:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} ( 9-10) سورة هود.
ومن رحمة الله -تعالى- بعباده المؤمنين أنه منَّ عليهم فشفاهم من هذه العلة، ووهبهم ما يعينهم على وضع الأمور في نصابها وأن تكون نظرتهم للحياة معتدلة من غير إفراط ولا تفريط، وقد صور القرآن الكريم حال المؤمنين هذه في أ عقاب الآيات المتقدمة من سورة هود بقوله –تعالى-:{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (11) سورة هود.
فاليأس لا يجوز في حياة المسلم؛ لأنه من صفات الكفار والذين لا يعرفون حقيقة دين الله –تعالى-.
اللهم إنا نعوذ بك من القنوط من رحمتك, ومن اليأس من الخير والفرج، يا رب العالمين.. هذا واستغفروا الله إن الله كان غفوراً رحيماً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القادر على كل شيء، مفرج الكروب، وغافر الذنوب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي المحبوب، الذي بعث إلى الناس جميعاً، لإخراجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان والعلم والسعادة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: لا نتصور مؤمناً بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووقعت في طريقه العقبات، إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال، قال –تعالى-:{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (56) سورة الحجر
وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل، ونظاماً ربانياً لا يتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. إن الأيام دول بين الناس، وإن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر.. والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة.. ولكنها أدوار وأطوار، تعترض الأمم والشعوب، كما تعترض الآحاد والأفراد..{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (140) سورة آل عمران. وإن حكمة الله في ذلك أن يبلو المؤمنين، ويختبر الصادقين، ويميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، ويؤجر الصادقون الثابتون.. نصراً وتأييداً في الدنيا، ومثوبة ومغفرة في الآخرة..{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} (31) سورة محمد.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) سورة آل عمران
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة.(/2)
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف.
ولم تتخلف هذه القاعدة الربانية -وهي أن النصر لا يأتي إلا إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر – حتى في الأمم السالفة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود، وتحركت بعد خمود، وكم من أمة بطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود..!! وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
قال –تعالى-: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}... إلى قوله-تعالى-:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (6) سورة الإسراء.
وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (4)-(6) سورة القصص.
عباد الله:
إن القرآن ليمد الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوة لا تفيض إلا من رحمة الله وقدرته، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين، وما يعلم جنود ربك إلا هو...
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (173)-(175) سورة آل عمران.
{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة.
وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصابرين أنهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليسر، أو تتحقق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكن الله العليَّ يدني لهم ما بعد، ويهون عليهم ما صعب، ويوافيهم بالنصر من حيث لا يحتسبون..
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} (2)-(3) سورة الحشر.
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (25) سورة الأحزاب.
فيا أيها المؤمنون بهذا الكتاب الكريم:
أيليق بكم أن يقول قائل: ماذا نصنع أمام هذه الطامات ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء؟ أو يجمل بأحدكم أن يتخلف وفي صدره هذ الأمل الواسع، ومن ورائه هذا التأييد الإلهي الشامل!! اللهم.. لا..
فأمِّلوا خيراً، واطلبوا العلو دائماً، وإياكم والارتماء في مستنقع الذل والهزيمة النفسية واليأس في كافة مجالات الحياة..
اللهم إنا نسألك عزاً للإسلام والمسلمين اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين..
والله أعلم.(/3)
اليقين بما وعد الله به من إظهار دينه
- أخرج الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: لما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - واشرأب النفاق بالمدينة، وارتد العرب، وارتدت العجم... وقالوا: قد مات هذا الرجل الذي كانت العرب تنصر به... فجمع أبو بكر - رضي الله عنه - المهاجرين والأنصار... ثم صعد المنبر، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن اللَّه بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والحق قُلٌ شريد، والإسلام غريب طريد، قد رَثَّ حبله وقلّ أهله، فجمعهم اللَّه بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلهم الأمة الباقية الوسطى، واللَّه لا أبرح أقوم بأمر اللَّه، وأجاهد في سبيل اللَّه، حتى ينجز اللَّه لنا ويفي لنا عهده، فيقتل من قُتل منا شهيداً في الجنة، ويبقى من بقي منا خليفة اللَّه في أرضه، ووارث عباده. قضى اللَّه الحق، فإن اللَّه تعالى قال – وليس لقوله خُلْفٌ -: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور/55]. واللَّهِ لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أقبل معهم الشجر المَدَرُ، والجن والإنس، لجاهدتهم حتى تلحق روحي باللَّه!! إن اللَّه لم يفرّق بين الصلاة والزكاة ثم جمعهما. فكبّر عمر، وقال: واللَّهِ قد علمت - واللَّهِ لأبي بكر على قتالهم - أنه الحق. كذا في كنز العمال.
- أخرج ابن جرير الطبري عن القاسم بن محمد، (في تحريض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الجهاد): أين الطرّاد المهاجرون عن موعود اللَّه؟. سيروا في الأرض التي وعدكم اللَّه في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنه قال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه } [الفتح/28]. واللَّه مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولي أهله مواريث الأمم، أين عباد اللَّه الصالحون؟
- أخرج ابن جرير الطبري من طريق سيف عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: خطب سعد - يوم القادسية - فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: إن اللّّه هو الحق، لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف. قال اللَّه جل ثناؤه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء/105] إن هذا ميراثكم وموعود ربكم... وأنتم وجوه العرب، وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعز من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا، وترغبوا في الآخرة، جمع اللَّه لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا، تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم(/1)
اليقين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فحديثنا عن موضوع اليقين، وهذا الحديث يضمُ نقاطاً عدة:
أولًا: بيان معنى اليقين وحقيقته.
ثانيًا: ما الفرق بين العلم واليقين؟ وبين الصدق وبين اليقين؟ وبين الثقة وبين اليقين؟
ثالثاً: بيان منزلة اليقين من الدين.
رابعاً: اليقين في كتاب عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
خامساً: بيان مراتبه .
سادساً: بيان مراتب أهل اليقين .
سابعاً: اختبار اليقين.
ثامناً: بيان الطريق الموصل إليه .
تاسعاً: بيان الثمرات التي يجنيها من تحقق باليقين واتصف به وحصّله .
عاشراً: بيان ما ينافي اليقين ويضاده .
وأخيراً: السلف واليقين .
أولًا: معنى اليقين : اليقين ضد الريب والشك، فهو يتضمن سكون الفهم مع ثبات الحكم [انظر مجموع الفتاوى 5/570، المفردات للراغب [مادة: يقن] – ص552] . بحيث لا يحصل لصاحبه ترددٌ وتشككٌ وريبة وقلقّ في داخله، وإنما يكون ساكناً إلى هذا الاعتقاد، أو إلى مبدئه، أو إلى عقيدته ودينه، والأمور التي تيقنها، ولهذا قال من قال كالجُنيد: 'اليقين هو استقرار العلم الذي لا يحولُ ولا ينقلب ولا يتغير في القلب' [بصائر ذوى التمييز 5/397].فهو شئ ثابت راسخٌ فيه، وهو بهذا الاعتبار يكون بمعنى طمأنينة القلب وثبات واستقرار العلم فيه [انظر مجموع الفتاوى 3/329].
* ثم هذا اليقين ينتظمُ أمرين:
أحدهما: علم القلب .
والثاني: عمل القلب، كما فصل ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيميه –رحمه الله تعالى-[انظر مجموع الفتاوى 3/329].
فالعبد قد يعلم علماً جازماً بأمر من الأمور، ومع هذا يكون في قلبه شئٌ من الحركة والاختلاج، بحيث إن هذا العلم لا يحمله على العمل الذي يقتضيه العلم في الأصل، حيث إن هذا العلم كان الواجب أن يثمر ويؤثر فيه تأثيراً عملياً سواء كان ذلك في قلبه، أو كان ذلك في جوارحه، فقد يوجد العلم في قلب الإنسان إلا أن صاحبه لا يصل به إلى مرتبة العمل بعد العلم . فالعبد -مثلاً- يعلم أن الله رب كل شئ ومليكه، وأنه لا خالق غيره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله تعالى، والتوكل عليه، وقد لا يصحبه العمل بذلك: إما لغفلة القلب عن هذا العلم- والغفلة لاشك أنها من أضداد العلم، وأعنى بالعلم الذي تضاده الغفلة هو: العلم التام الذي يوجب الاستحضار الدائم المستمر- فيستسلم صاحب هذه الغفلة للخواطر إذا غفل عن الحقائق التي علمها واستقرت في قلبه، فإذا وقعت له غفلة؛ فإن الخواطر تجد طريقها إلى قلبه وإلى اعتقاده، وإلى ما يدين الله عز وجل به، وقد يلتفت العبد إليها.
وهكذا إذا قلنا إن العلم هو: طمأنينة القلب، وسكون القلب إلى هذا المعلوم؛ فإن هذا يكون في سائر الأبواب، فعلى سبيل المثال: إذا قلنا: 'اليقين بأمر الآخرة' إذا كان العبد يتيقن البعث والجزاء، والنشور، وما يكون في يوم القيامة، فإن هذا العبد إذا تيقن هذه الحقائق يقيناً تاماً؛ صار قلبه بمنزلة المشاهد لها كأنه يُعاينها.
وهذه حقيقة اليقين التي وصف الله تعالى بها أهل الإيمان في قوله تعالى: { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4] } [سورة البقرة] .
فلا يحصل الإيمان بالآخرة – كما قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله- حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها، طمأنينته إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب، فهذا المؤمن هو المؤمن حقاً باليوم الآخر[الروح /221].
وهو الذي أثنى الله عز وجل عليه، ولهذا قال بعضهم: اليقين مشاهدة الإيمان بالغيب، فكما أن العين تشاهد الحقائق الماثلة أمامها في العالم المشهود عالم الشهادة؛ فإن اليقين هو مشاهدة الغيب بالقلب، فإذا وصل القلب إلى هذه المرتبة، وإلى هذا المستوى؛ فإنه يكون قد تيقن، وارتقى العبد بإيمانه، وصار بمنزلة عالية قد توصله عند الله عز وجل إلى أعلى المنازل.
ثانياً: ما الفرق بين العلم وبين اليقين؟ [انظر: بصائر ذوى التمييز [5/397]
لعله يتبين لكم مما سبق شئ من ذلك: فالعلم قد لا يحمل صاحبه على العمل والامتثال، وقد لا يصير العبد بهذا العلم بمنزلة المشاهِد للحقائق الغيبية، فقد يعلم باليوم الآخر، ولكن هذا العلم قد يضعف في قلبه، وقد تعتريه في بعض الأحيان بعض الشكوك، وبعض الشبهات، فتؤثر عليه. وأما إذا كان اليقين مستقراً في القلب، فلا طريق للشُبه، ولا طريق للأمور المشككة، وإنما هو اعتقاد جازم راسخ، لا يقبل التشكيك بحال من الأحوال، ولهذا يقولون:'العلم يعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه'.(/1)
ونحن نعلم في الجملة: أن العلم يتفاوت كما أن الإيمان يتفاوت، فعلمك بخبر المُخْبِر أن فلاناً قد قدم من سفره إذا كان هذا المُخْبِر ثقة، فإن هذا يورث علماً في القلب، فإذا جاءك آخر ممن تثق به وأخبرك أن فلاناً قد قدم من السفر، فإن هذا العلم قد ازداد مع أن العلم حصل من أول مرة، ثم إذا صادفت العشرات وأخبروك أن فلاناً قد قدم من السفر، فإن ذلك يصير راسخاً قد لا يقبل التشكيك بحال من الأحوال. أما خبر المُخبر الأول -مع أنه ثقة- فإنه قد يقبل التشكيك، فلو جاءك إنسان آخر وقال: أنا أعلم أنه لم يأتِ، وأن الخبر الذي وصلك بمجيئه لا حقيقة له؛ فإن هذا يزعزع هذا المعلوم، أما إذا وصل هذا العلم في قلبك إلى مرتبة اليقين فإنه لا يقبل التشكيك...فهذا فرق بين العلم واليقين.
ومُحَصِّلَتُه: أن العلم على درجات، فمن أعلى درجات العلم، ومن أكملها، وأرفعها، وأقواها، وأثبتها درجة اليقين، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، أعني: أن العلم يتفاوت كما أن الإيمان يتفاوت.
* الفرق بين التصديق، وبين اليقين: إن التصديق في حقيقته يُبنى على معلوم الإنسان، سواء كان هذا المعلوم لديه من قبيل الحق أو كان من قبيل الباطل، إلا أن الفرق بينهما: أن التصديق أمر اختياري، وأما اليقين: فهو أمر ضروري، بمعنى أن اليقين شئ يوجد في نفس الإنسان إذا وُجد مُوجِبُه من غير اختيار الإنسان، كالشِبَع إذا أكل الإنسان وجد الشِبَع، ولو أن الإنسان يريد أن يأكل كثيراً ولا يشبع؛ لجودة الطعام، أو لحاجته إليه، أو لأنه يستخسر إلقاءه وإهداره، فهو يريد أن يأكل ولا يشبع من هذا الطعام؛ فإنه لا يستطيع ذلك. وهكذا لو أنه شرب فإنه بهذا الشرب يرتوي ولابد إذا وصل إلى حدٍ معين، وهذا الرِّى الذي يقع للإنسان هو أمر غير اختياري، فالشرب اختياري، ولكن الرِّى ليس اختيارياً.
وهكذا اليقين إذا حصلت موجباته؛ فإنه يوجد في القلب، ويرسخ فيه، ويثبت من غير اختيار؛ ولهذا فإن الكفار بل عتاة الكافرين مع تمردهم، وعتوهم على الله عز وجل، وعلى رسله، فإن الله عز وجل يقول: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...[14] } [سورة النمل]. أي : أنهم جحدوا بها ظلماً وعلواً مع وجود اليقين في نفوسهم، ولهذا نقول: إن التصديق أمر اختياري باعتبار أن الإنسان يُقرُّ به ويُظهره ويصدق، فيكون مؤمناً، وقد لا يصدق فيجحد: : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...[14] } [سورة النمل]. فاليقين يكون في القلب، والتصديق يكون أمراً اختيارياً، وهو إظهار مقتضى العلم، فهو يُقر بذلك، ويثبته، ويعترف بهذه الحقائق التي عُرضت أمامه، فيعترف برسالة الرسول صلى الله عليه وسلمأو بوجدانية الله عز وجل وما إلى ذلك.
فمن جئت له بالأدلة المتنوعة المختلفة لتقرره بأمر من الأمور، ولم يكن له حجه إطلاقاً، فبينت له الحق بياناً واضحاً لا لبس فيه؛ فإنه بذلك قد يحصل له اليقين ولكنه قد لا يُصدقك، قد لا يُظهر الاعتراف والإقرار والإذعان، ولهذا فإن أولئك الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلموتنزل القرآن بين أظهرهم، تنزل عليهم، ومع ذلك كثير منهم لم يصدقوا مع استقرار مقتضى هذه الحقائق في نفوسهم، فهي أمور ثابتة لكنهم لم يظهروا مقتضاها، فكانوا بذلك مكذبين.
وبهذا يتبين الفرق بين اليقين وبين التصديق، فقد يكون الإنسان مصدقاً مع حصول اليقين في قلبه، وقد يكون الإنسان متيقناً من أمر من الأمور إلا أنه مكابرٌ جاحدٌ، لا يقرُّ ولا يُذعن بالحقيقة.
ما الفرق بين اليقين وبين الثقة؟[ انظر: مدارج السالكين] :
الثقة في حقيقتها: هي أمن العبد من فَوت المقدور، وانتقاض المسطور، فيظفر بِرَوْح الرضا، أو بعين اليقين، أو يلجأ إلى الصبر كما قال ذلك شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:'وذلك: أن من تحقق بمعرفة الله، وأن ما قضاه الله، فلا مرد له البتة؛ أَمِنَ من فَوْت نصيبه الذي قسمه الله له، وأَمِنَ أيضاً من نقصان ما كتبه الله وسطره في الكتاب المسطور، فيظفر بِرَوْح الرضا، أي: براحته، ولذته، ونعيمه؛ لأن صاحب الرضا في راحة ولذة وسرور'- إلى أن يقول-:'فإن لم يقدر العبد على رَوْح الرضا؛ ظفر بعين اليقين، وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب، فيكون التسليم لأحكامه الشرعية وأحكامه الكونية'.(/2)
وخلاصة ذلك أن يقال: الفرق بين الثقة وبين اليقين: أن اليقين إذا وُجد في القلب؛ وُجدت الثقة فيه، فإذا تيقن العبد أن هذه الشريعة مثلاً من عند الله عز وجل؛ فإنه يطمئن إلى أحكامها، وأنه لاحيف فيها، ولا نقص ولا هضم لحق أحد، إذا علمت المرأة أن هذه الشريعة من عند الله عز وجل؛ فهي تعلم أن إعطائها نصف الميراث أنه حق، وأنه كمال العدل والإنصاف، وأنه لا ظلم فيه ولا غلط ولا شطط؛ فوُجدت الثقة، فيثق العبد بأحكام الله عز وجل الشرعية، وإذا وُجد اليقين في قلب العبد؛ وُجدت الثقة أيضاً في قلبه في أحكام الله عز وجل الكونية والقدرية، فإذا رأى مبتلى فإنه لا يقول: فلان ما يستاهل، فلان ما يستحق هذا البلاء الذي نزل به . لا يقول: لماذا أنا يا رب؟ لماذا تقع المصائب والكوارث والمحن على أهل الإيمان، والكفار ينعمون بهذه النعم التي تُغْدَق عليهم صباح ومساء؟ وإنما يثق بأن الله عز وجل حكمٌ عدلٌ، وأنه تبارك وتعالى يُعطى ويمنع لحكمة بالغة يعلمها جل جلاله، فالثقة توجد إذا وُجِدَ اليقين في القلب، ولذلك لا ثقة من غير يقين.
ثالثاً: منزلة اليقين: جاء عن بعض السلف:'الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله'[ مجموع الفتاوى، ورسالة اليقين لابن أبي الدنيا]. وهذا صحيح؛ لأن الصبر فوقه درجة ومرتبة وهي اليقين، لن الإنسان قد يصبر ولكن قلبه يتحرك بالخواطر والإرادات، وتَرِدُ عليه أنواع الواردات، فهو يموج بصاحبه، إلا أن صاحبه يتحمل، ويصبر ويُثَبِّتُ نفسه مع مقاساته لألم المصيبة، وأما صاحب اليقين، فإنه في مرتبة فوق ذلك –كما سيأتي- فهو يعد البلاء نعمة أصلاً، ويفرح بالبلاء كما يفرح غيره بالعافية، ويركن إلى الله عز وجل، ويطمئن بما قسم الله عز وجل في هذا القضاء، فلا يتبرم ولا يتمنى عطاء غيره، فتطمئن نفسه، ويطمئن قلبه، فكان اليقين بهذا نصف الإيمان، وهو فوق الصبر –كما سيتبين بعد قليل- وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه قال:'الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ' رواه البخاري تعليقا مجزوما به.
بل قال ابن القيم رحمه الله:'اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم'[ مدارج السالكين 2/397] . ولهذا قال أبو بكر الوراق رحمه الله:'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله'.
رابعاً: اليقين في الكتاب والسنة: الله تبارك وتعالى يذكر اليقين في مواضع متعددة:
* فتارة: يذكره من أوصاف أهل الإيمان: فيقول: { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4] } [سورة البقرة].
وتارة: يذكر بعض حِكَمِه في بعض أفعاله، وليصل بعبدٍ من عباده إلى مرتبة اليقين: فيقول: { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ[75] } [سورة الأنعام].
وتارة: يذم من لا يقين عنده: فيقول: { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ[82] } [سورة النمل].
? وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلمعددٌ كثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي يذكر فيها فضل اليقين ومنزلته وشرفه: كما في حديث أبي هريرة قال: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا...الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلملما بحثوا عنه؛ وجدوه في حائط، وكان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أول من وجده فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلمنعله، وقال له: [اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ] رواه مسلم. ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بِلَالٌ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه النسائي وأحمد . فدل ذلك على أن اليقين سبب لدخول الجنة، والأحاديث في هذا كثيرة، وتتبع ذلك أمر يطول.(/3)
خامساً: مراتب اليقين[انظر: كتاب الزهد والورع والعبادة، ص77، التبيان في أقسام القرآن، ص119 – 120، مفتاح دار السعادة 1/149]: كما أن العلم يتفاوت- واليقين هو من جملة مراتب العلم- فكذلك اليقين يتفاوت، فهو على ثلاث مراتب بعضها فوق بعض، فأدنى مراتب اليقين هي مرتبة:'علم اليقين'، والمرتبة التي فوقها هي مرتبة:'عين اليقين'، وأعلى المراتب هي مرتبة:'حق اليقين'، والله عز وجل يقول: { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ[5] } [سورة التكاثر] . فذكر العلم: علم اليقين.
{ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ[6]ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ[7] } [سورة التكاثر] . فذكر في هذه الآيات مرتبتين من مراتبه:
فعلم اليقين: هو التصديق الكامل الجازم، الذي لا تردد فيه، بحيث لا يعرض له شك، ولا شبهة، ولا ريب بحالٍ من الأحوال، فينكشف بذلك المعلوم للقلب، فيصير بمنزلة المُشَاهِد له، فلا يشك فيه كما يشك الرائي بعينه في مرئيه ومُشَاهَدِه، فيكون علم اليقين بالنسبة للقلب كالمرئي بالعين بالنسبة للبصر، وذلك كعلمنا بالجنة: بوجودها ونعيمها كما أخبرنا الله عز وجل، فنعلم أنها دار المتقين، وأنها مقر المؤمنين، فهذه مرتبة علم اليقين، إذا كان ذلك راسخاً في قلب الإنسان وتيقنه.
ثم إذا كان اليوم الآخر، ورأينا الجنة بأعيننا، فإن هذه المرتبة هي مرتبة عين اليقين. والفرق بين هذه المرتبة والتي قبلها هو كالفرق بين العلم وبين المشاهدة، وقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ]رواه أحمد . فموسى صلى الله عليه وسلمأخبره الله عز وجل -وهو أصدق من يقول- أن قومه قد عبدوا العجل فما ألقى الألواح، فلما قدم ورأى قومه يعبدون العجل بعينه؛ ألقى الألواح، وغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ] رواه أحمد.
وهذه المرتبة: مرتبة عين اليقين هي التي سألها إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه قال: { ...رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى...[260] } [سورة البقرة] . فإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان كامل الإيمان، راسخ اليقين، لا تردد عنده، ولا اشتباه ولا ريب، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال إلى مرتبة أعلى منها، أراد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، فيرى ذلك بأم عينه، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المسافة التي بين علم اليقين، وبين عين اليقين سماها:'شكاً' لعله من باب التجوز، فقال صلى الله عليه وسلم: [نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ...] رواه البخاري ومسلم.
وأما المرتبة الثالثة فهي: مرتبة حق اليقين: وهي مباشرة الشيء بالإحساس فعلاً، أن تكون في بحبوحة الشيء، أن تكون ملابساً له، وذلك أن أهل الجنة إذا كانوا في وسط الجنة، فهم في هذا الحال قد بلغوا مرتبة حق اليقين، وهكذا حينما يخبرك مُخبر أن لديه عسلاٌ وتثق بخبره، فإنك تكون في هذه الحال متيقناً لهذا الخبر، فإذا أحضره أمامك فإن ذلك يكون عين اليقين، فهذه أعلى اجتمع فيها العلم والمشاهدة، فإذا ذقته فهذا هو حق اليقين، والمثال الأول الذي ذكرته في الجنة حيث أخبرنا الصادق المصدوق عنها، فهي في قلوبنا نتيقنها ونعلمها ونُقرّ بذلك، فهذا هو علم اليقين، فإذا شاهدنا الجنة قبل دخولها، فهذه مرتبة عين اليقين، فإذا دخلنا فيها فإن ذلك يكون حق اليقين .
وهكذا إذا أخبرك مُخبر أن بهذا الوادي ماء، فهذا إن كان المُخبر ثقة؛ فإنه يحصل لك بمقتضى هذا الخبر علم اليقين، فإذا شاهدت الماء كان ذلك عين اليقين، فإذا بلغت الماء، واغترفت منه، وشربت، أو اغتسلت؛ فإن ذلك يكون حق اليقين- وهذه الأمثلة يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما يذكرها تلميذه ابن القيم- وإذا كان اليقين يتفاوت في نفسه، فإن هذا أيضاً يقتضى أن أهله يتفاوتون فيه.
مراتب الناس في اليقين[انظر: مجموع الفتاوى 7/270، الفوائد ص4]: أهل هذه المرتبة يتفاوتون فيها فمنهم من يكتمل يقينه ويصير المعلوم بالنسبة إلى قلبه كالمشاهد الذي يشاهده بعينه سواء بسواء، وقد يصل العبد إلى منزلة اليقين، ولكنه لا يصل إلى هذه المرتبة، ولذلك فإن الناس يتفاوتون بسبب هذا في عملهم وجدهم، وهمتهم ونشاطهم، وسعيهم للدار الآخرة، والعمل في مرضاة الله تبارك وتعالى، فَعِلْمُ اليقين على مراتب:
تارة: يعلم العبد الحقيقة علماً جازماً لثقته بالمُخبِر.
وتارة: يعلم صدقه، ويتيقن ذلك، وتقوم الدلائل في قلبه حتى يصير ذلك كالمشاهَد بعينه، فهذه مرتبة أعلى. وعين اليقين من أهل العلم من يقول إنه نوعان:(/4)
نوع يحصل لقلب المؤمن في الحياة الدنيا: وهذا إذا ارتقى إيمان العبد ورسخ اليقين في قلبه، واستقر وصار كأن حقائق الآخرة ماثلة بين يديه، وكأنه يشاهد عرش الرحمن، يحف به الملائكة، وصار كأنه يرى الجنة والنار، فهذه بعض أهل العلم يعدونها من عين اليقين بالنسبة للقلب، يقولون: هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة: فيكون ذلك بمشاهدتها بالعين الباصرة.
وهذا التفاوت الذي يتفاوته أهل اليقين كذلك يوجد دونهم ممن ينتسب إلى الإيمان، ويقر التصديق في قلبه دون هؤلاء مراتب ودرجات من المؤمنين، فكثير ممن ينتسب إلى الإيمان، ويصدق الرسول صلى الله عليه وسلمبما جاء به لا يصل به ذلك إلى درجة اليقين الكامل في القلب، وإنما يكون ذلك معلوم له، ولو جاءه مشكك لربما حركه، ولربما دفعه عن الإيمان، وأوقع الشبهات في قلبه، فيتزعزع ويتضعضع إيمانه، ولربما انتكس رأساً على عقب، وهذا حال كثير ممن ينتسب إلى الإيمان، فهم يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم إيماناً مجملاً، فهذا الإيمان يكفيهم وينجيهم عند الله عز وجل، ولكنه لم يصل بهم إلى درجة لا تقبل التشكيك، ولا تقبل المحرك الذي يكون بسبب الشبهات؛ لهذا قال بعضهم:' حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضا، وحظهم من الرضا على قدر رغبتهم في الله'[ مدارج السالكين 2/222].
والناس يتفاوتون في هذا، ومن الناس من إذا تتابعت عليه النعم واسترسل عليه عطاء الله عز وجل مما يحب، فإنه يرضي ويطمئن ويسكن إلى ذلك، وإذا أصابته البلايا والمحن، وفُتن؛ تزعزع وتضعضع، ولربما نكص على عقبيه كما قال الله عز وجل: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ...[11] } [سورة الحج].
سابعاً: اختبار اليقين : كيف يُختبر اليقين؟ ما هو المحك الذي يتبين به رسوخ الإيمان، وثباته في قلب الإنسان؟ هناك مواقف يتبين العبد حاله فيها ومرتبته في هذا الباب، ومن هذه المواقف والمواطن:
* الموقف الأول: موقف التوبة: فالعبد الذي قد كمل اليقين في قلبه؛ لا يتردد إذا وقع منه تقصير، أو ذنب، أو زلة- وكل إنسان مُعرَّض لذلك- فإنه يبادر إلى التوبة من غير تردد، ويرجع إلى الله عز وجل، وينيب إليه؛ لأنه يعلم أن ثمة يوماً سيحاسب فيه على القليل والكثير، والدقيق والجليل، وسيؤاخذ بجرمه، فلا تردد عنده في التوبة.
وأما من ضعف يقينه، فيحتاج إلى تحريك القلب بعرض ألوان من المواعظ والعبر، والأمور المُرقِّقة لقسوة قلبه، والأمور التي تزيل عن هذا القلب الغشاوة والغفلة، فيتحرك قلبه ويلين ويرق للتوبة، فيكون ذلك مُوَطِّئَا لها، ولربما احتاج إلى إقناع، ولربما احتاج إلى مُسَايَسَة ومُداراة وطول صحبة؛ من أجل أن تصلح حاله، ويتوب ولربما وعد بالتوبة ثم بعد ذلك يتراجع ويتردد ويحسب بزعمه الخسائر والأرباح، إذا تاب سيخسر هؤلاء الأصدقاء، سيخسر هذه الوظيفة، سيخسر كذا من أطماعه وشهواته، ثم يبقى متردداً متذبذباً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وما ذلك إلا لضعف يقينه.
ولو اكتمل اليقين عند العبد فإنه لا يبالي بشيء، وإنما همته وطِلْبَتُه هو رضا الله جل جلاله فلا يحتاج إلى إقناع، ولا يحتاج إلى مُسَايَسَة، ولا يحتاج إلى كثير ملاطفة، ولا يحتاج إلى طول صحبة؛ من أجل أن يتأثر، ومن أجل أن ينتقل من بيئة سيئة إلى بيئة أخرى، ولربما جئت بإنسان صاحب معصية، لربما جئت بمغنى من المغنين، لربما جئت بصاحب باطل ممن له في باطلة رزق ومعيشة، وكسب وشهرة، وما إلى ذلك، فحدثته وبينت له الأدلة على حرمة هذا الفعل، ولربما أقر لك بذلك وقال: أنا أُقر بهذا، لكن: من أين لي أن آكل؟ من أين لي أن أستقطب الأضواء؟ من أين لي بالجماهير التي تصفق حينما أظهر على خشبة المسرح؟(/5)
فيحتاج هذا إلى إقناع بتذكيره بما عند الله عز وجل في الدار الآخرة والنعيم، وأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وكأن الله عز وجل هو المحتاج إليه، وكأنه يُدِلُّ على ربه تبارك وتعالى بتوبته واستقامته، وتركه لهذه الذنوب والمعاصي التي فارقها، لماذا نتردد بالتوبة إلى الله عز وجل والأوبة إليه؟ لماذا يعضنا يحتاج إلى كثير من الملاطفة والمُسَايَسَة؟ ولربما احتاج العبد إلى شئ من المال من أجل أن يُتألف على الإيمان، إنما ذلك لقلة يقينه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى أقواماً ويترك آخرين، وحينما يُكلَّم في ذلك ويُذَكَّر بهولاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يجيب عن هذا بأنه يَكِلُ أقواماً إلى إيمانهم، وأنه لربما أعطى الرجل مع أن غيره أحب إليه منه، فمثل هؤلاء لماذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأن يقينهم مزعزع؛ لأنه ضعيف؛ لأن إيمانهم لم يصل إلى مرتبة اليقين الثابت، فأولئك يُتركون ليقينهم، ولإيمانهم الراسخ، فلا خوف عليهم؛ لأنه لا تردد عندهم في هذا الإيمان الذي دخلوا فيه، أما هذا فيحتاج إلى مداراة، ويحتاج إلى الأخذ بخاطره- كما يقال-، يحتاج إلى أن يتنازل الإنسان عن بعض حقه معه من أجل أن لا ينكص على عقبيه، فهذه حقيقة يحتاج الإنسان أن يتأملها مع نفسه هو، وأن يتأملها مع غيره. هذا الموقف الأول الذي يُختبر فيه اليقين .
الموقف الثاني: هو موقف المصيبة: فكثير من الناس يحسن الكلام عن الصبر، وعن الثبات، وعن الإيمان، وعن الجزاء الذي يعطيه الله عز وجل للصابرين في الدار الآخرة، وما أعد لهم من النعيم المقيم، ولكنه إذا وقعت المصيبة؛ اضطرب وتحرك قلبه، فجزع، ولم يثبت ولم يصبر، وإنما كان متسخطاً على ربه تبارك وتعالى معترضاً على أقداره، والله عز وجل يقول: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[155]الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[156] } [سورة البقرة].
فمن كان متحققاً باليقين؛ فإنه عند المصيبة يكون رابط الجأش، ثابتاً، صابراً، حابساً للسانه عن التسخط، ولجوارحه عن فعل ما لا يليق من شق جيبٍ، أو لطم خدٍ، أو نحو ذلك مما يفعله من لا يقين عندهم، فهذه أمور قد لا تتبين في حال الرخاء، وإنما تتبين في حال الشدة والمصائب. ولربما أبتُلي العبد المؤمن، فسخط على ربه أن ابتلاه بهذا البلاء، والله عز وجل ابتلاه ليمحصه ولم يُبتل ليهلك . ابتلاك الله عز وجل ليرفعك من درجة إلى درجة، ومن منزلة إلى منزلة، وتُبّلَّغ بهذا البلاء منازل عند الله عز وجل في الجنة لا تبلغها بعملك، فإذا نزلت بالعبد المصيبة التي تهيئه لذلك المقام في الجنة:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فسرعان ما ينتكس العبد، ويتبرم، ويتسخط على ربه، ويعترض على أقدار الله تبارك وتعالى، فهذه أمور تظهر في حال الشدائد..ولربما دعا إلى الله عز وجل، ولربما جاهد في سبيله، ولربما بذل ماله، ثم يبتلى فيتسخط، ولربما عاهد الشيطان بأن يتوب إليه توبة نصوحاً عن فعل الخير، وعن صحبة الأخيار والصالحين، وأن يقطع ذلك أجمع؛ لئلا يقع به مثل هذا المكروه الذي ناله، فهذا ليس له نصيب من اليقين.
الموقف الثالث: في حال الحاجة: فإذا احتاج العبد وافتقر إلى المخلوقين، إلى مَالِهِم في فقره في دنياه، أو احتاج إليهم في شئ من الأشياء في دنياهم، فإنه بذلك يختبر يقينه، فإذا كان قلبه يتلفت إلى المخلوقين، ويتطلع إليهم، ويتعلق بهم لينال ما عندهم؛ فإن قلبه لم يتحقق باليقين بَعْدُ. وأما إذا كان قلبه متوجهاً إلى الله وحده لا شريك له، لا يلتفت إلى أحد من المخلوقين، ولا يتعلق بهم؛ فإن هذا اليقين هو اليقين الكامل.
الموقف الرابع: في حال الغنى: فمن الناس من لا يصبر إذا أغناه الله عز وجل، فيصل به ذلك إلى الكفر، لربما قال العبد: إنما أوتيته على علم عندي، وينسى أن الله عز وجل هو الذي أعطاه وأولاه، وأن الله عز وجل هو مالك الملك وأن العطاء بيده، وأن الكون ملكه بما فيه، ينسى هذا ويقول: إنما أوتيته على علم، إنما حصلته بجدي واجتهادي وجهدي، وتحصيلي وذكائي وعلمي بوجوه المكاسب، ولربما قال: حصلته وورثته كابراً عن كابر، ولربما قال غير ذلك مما يكون فيه نسيان المنعم، والذهول عن مقام استشعار إنعامه وإفضاله على العبد، فيكون بذلك كافراً لنعمة ربه جل جلاله.(/6)
وعلى كل حال: إذا أردت أن تكون متحققاً باليقين، وأن تعرف ذلك من نفسك؛ فلا تُمْسِ ولا تُصْبِح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، وإذا أردت أن تتحقق باليقين، وأن يكون ذلك وصفاً راسخاً ثابتاً في قلبك؛ فلا يكن أحد من المخلوقين أخوف عندك من الله . وبالتالي فإن صاحب اليقين لا يتعلق بأحد من الخلق لعطاء أعطاه، أو لجمال صورته، أو لغير ذلك، لا يتعلق قلبه به، ويلتفت إليه ليرجو ما عنده، ولا يخاف أحداً من المخلوقين، فيترك ما أمره الله عز وجل به، أو يتردد في التمسك بحبل الله جل جلاله من أجل الخوف من هذا المخلوق، فيكون صاحب اليقين ثابتاً، مرتبطاً بالله عز وجل في كل أحواله، فهو يرجو الله، ويؤمله، ويحبه، وهو أحب شئ إليه، كما أنه يخاف الله عز وجل ولا يرقب أحداً سواه .
ثامناً: الطريق إلى اليقين:كيف نصل بأنفسنا إلى اليقين؟ كيف نتربى على اليقين؟.. كيف نرتقي بإيماننا إلى هذه المرتبة؟
أعظم ذلك: أن نعلم أن التوفيق بيد الله عز وجل، وأن المواهب بيده، فما على العبد إلاّ أن يلتجأ إليه، وأن يصدق في الإقبال عليه، فيسأل ربه قائماً، قاعداً أن يرزقه الإيمان الكامل، واليقين الجازم الراسخ الذي لا يتزعزع. [انظر: مدارج السالكين 2/302] . ومع ذلك أيضاً يبذل الأسباب التي توصله إلى هذه المرتبة، ومن هذه الأسباب:
* الأول: وهو أول درجات اليقين: العلم: فهو يستعمله، فأن تعمل بمقتضى هذا العلم، واليقين يحملك كما قال بعض السلف:'العلم يستعملك –فتعمل بمقتضاه- واليقين يجملك'[مفتاح دار السعادة 1/154]. فيندفع العبد للعمل، ويُقدم، وينفق ماله الذي يكون حبيباً إلى قلبه؛ لأنه يتيقن بالجزاء، ويعلم أن من أعلى المراتب والمنازل عند الله عز وجل مرتبة الشهداء، فيبذل نفسه رخيصة في سبيل الله تبارك وتعالى- والنفس هي أحب الأشياء إلى الإنسان- :
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُقفر والإقدام قَتَّالُ
فالمال حبيب إلى النفوس، والنفوس أيضاً عزيزة على أصحابها، فالعبد يعلم أن بذل المال سبيل إلى التقرب إلى الله عز وجل، وأن الله يُربِّي الصدقة، ويعلم أيضاً: أن الشهيد يُغفر له من أول قطرة من دمه، ويشفع في سبعين من أهله، وما إلى ذلك من فضائله، يعلم هذه الأشياء، فالعلم يستعمله، ولكنه قد لا يُقدم على هذه الأمور التي تحتاج إلى تضحيات كبيرة، لا يقدم عليها؛ لأنه لم يتيقن، ولم يصل إلى مرتبة اليقين.
وأما صاحب اليقين، فإنه يُحْمَلُ على ذلك حملاً، فلا يقف إلى حد العلم فيكون ذلك معلوماً له فحسب، بل إن يقينه يحمله على الامتثال والإقدام والعمل، ولو كان ذلك في سبيل إزهاق نفسه، وإتلاف ماله، وإنفاقه أجمع، فله يقين راسخ أنها مخلوفة، وأنها معوضة، وأنه سيلقى عائدة ذلك في يوم هو أحوج ما يكون إليه، وأن الإنسان ليس له إلا موتة واحدة، فيقول: يا نفس هل لك موتتان؟ ولهذا فإن العلم إذا رسخ؛ أثمر اليقين الذي هو أعظم حياة القلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه[انظر:مفتاح دار السعادة 1/154] .
وهذا العلم الذي يحتاج إليه العبد ليصل إلى مرتبة اليقين يشمل: العلم بالله عز وجل، ويشمل العلم بالله عز وجل: علمه بأنه المألوه المعبود وحده لا شريك له، وأنه لا يستحق العبادة أحد سواه، فلا يلتفت قلبه إلى أحد من الخلق، ولا يتعلق بهم، وهو يعلم أيضاً ربوبية الله عز وجل للكائنات، وأن أَزِمَّة الأمور بيده، وأنه مدبر هذا الكون ومُصَرِّفه، وأن الخلق عبيده يربهم ويتصرف بهم، إذا علم العبد ذلك اطمأن إلى رزقه؛ لأن الأرزاق بيد الله، فهذا من معاني ربوبية الله عز وجل، وإذا علم العبد ذلك اطمأن إلى أجله؛ لأن الآجال بيد الله عز وجل، وإذا علم العبد ربوبية الله عز وجل؛ اطمأن إلى أقداره، وإلى عطاءه ومنعه، فلا يعترض على الله، ولا يقترح، ويتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يسيء الأدب معه.(/7)
والعلم بالله يشمل أيضاً: العلم بأسمائه وصفاته، فيعلم أن الله هو العظيم الأعظم، فلا يعظم أحد في عينه عظمة لا تصلح إلا الله، ويعلم أن الله عز وجل هو الجبار القاهر، القادر القوى المتين، فلا يهاب المخلوقين، وإنما يعظم الخوف من الله عز وجل في نفسه، ويعلم أن الله هو الرقيب، فلا تمتد عينه إلى الحرام، ولا تمتد يده إلى الحرام، ولا تخطو رجله إلى الحرام؛ لأن يقينه راسخ بأن الله هو الرقيب، وأن ما يخفى على المخلوقين لا يخفى على الله جل جلاله؛ فتسكن جوارحه، وتلتزم طاعة ربها ومليكها، فلا يصدر منه شئ ينافي هذا الإيمان، وهذا اليقين الذي وقر في قلبه بمعرفته بأوصاف الله عز وجل الكاملة، وإذا عرف أن ربه قوي؛ عرف أن ربه قادر على أن يمنعه من كل المخاوف، وأن الله قادر على حفظه، فهو يلجأ إلى ركن قوى، فيفوض أموره إليه، فيكون بذلك متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذاته، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على أبيه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذاته، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على أبيه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذكائه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على سوقه ومتجره ومصنعه.
إذا عرف العبد ربه معرفةً صحيحة بأسمائه وصفاته؛ فإن قلبه ينشرح بذلك، ويطمئن إلى ربه أنه كامل من كل وجه، وأن كل افتقار ينبغي أن يوجه من العبد إلى الرب، فيجد من ربه الإغناء والعطاء، والدفع والمنع، ويجد كل مطلوب له، وإذا عرف العبد هذه الحقائق؛ فإنه يرضى بالله عز وجل رباً، ويذوق حلاوة الإيمان بهذا الرضا: [ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا...] رواه مسلم . ويؤمن بقضاء الله وقدره، فتمر به الآلام والمصائب، والأمور المكروهة. وهو ساكن مطمئن لا يتزعزع ولا يصدر منه ما يصدر من السفهاء الذين لم يعرفوا الله عز وجل المعرفة اللائقة به،
وهذا العلم أيضاً كما أنه علم بالرب المعبود أيضاً هو علم بالنفس وبالخلق: فيعلم قدر نفسه وضعفه وعجزه، فلا يركن إلى نفسه، ولا يركن إلى المخلوقين؛ لعلمه أنهم مربوبون، وأن الله عز وجل يصرّفهم ويدبّرهم، وأنه بيده ملكوت كل شئ، فالمخلوق ضعيف عاجز لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يملك لغيره؟! ومن ثم فلا يمتد طمعه إلى أحد من هؤلاء الضعفاء العاجزين، وإنما يكون ملتفتاً إلى الله عز وجل، ولهذا قال بعض أهل العلم:'إذا أردت اليقين فكن أفقر الخلق إلى الله' مع أن الله أغنى ما يكون عنك .
* الثاني: مما يقوى اليقين في نفس الإنسان: دفع الواردات والخواطر والأمور المنافية له: ولهذا كان جهاد الشيطان على مرتبتين اثنتين: جهاده فيما يُلقيه من الشبهات والوساوس والخواطر المزعزعة لليقين، فهذا لا يسلم منه إلا إذا دفعه العبد، وجاهد هذا الشيطان بدفع هذه الخواطر والوساوس والشُبه، فلا يقرأ في كتب الشُبه، ولا يناقش أهل الشُبه، ولا يسمع منهم، ولا يجعل قلبه عرضة لكل آسرٍ وكاسرٍ وقاطع طريق، فلا يدخل في المنتديات في شبكة الإنترنت التي تُلقى الشُبه من قِبَل زنادقة، ومن قِبَل ضُلال ممن ينتسبون إلى الإسلام، أو ينتسبون إلى غيره، فلا يجعل قلبه عرضة لسهام هؤلاء، فقد يدخل فيه شئ ولا يخرج منه؛ ولذلك فإن من الأمور المهمة التي تُعين العبد على الوصول لمرتبة اليقين هو أن يدفع الخواطر والوساوس، وأسباب الشكوك والشبهات، فإذا دفع العبد الشُبه عن قلبه، والشكوك والوساوس؛ فإن ذلك يورثه يقيناً، كما أنه إذا جاهد الشيطان في باب الشهوات؛ فإن ذلك يُورثه صبراً كما قال شمس الدين ابن القيم –رحمه الله-[ زاد المعاد 3/10] . ولهذا كانت الإمامة في الدين تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
* الأمر الثالث: من الأمور الموصلة لليقين: العزم الجازم الذي لا تردد فيه في العمل بمرضاة الله عز وجل: فيُقدم العبد على ذلك من غير نظرٍ في الحسابات، فالذي يجلس قبل أن يتوب، وقبل أن يُصحح العمل، أو قبل أن يتصدق، أو قبل أن يصوم يوماً في سبيل الله عز وجل يحسب الأرباح والخسائر؛ قد لا يعمل، وقد لا يتوب، وقد تفوته فرصة الحياة، وهو لم يتقرب إلى الله عز وجل كثيراً، وإنما العبد بحاجة إلى الإقدام والجزم، ولهذا قال بعض أهل العلم:' الاهتمام بالعمل يورث الفكرة، والفكرة تورث العبرة، والعبرة تورث الحزم، والحزم يورث العزم، والعزم يورث اليقين، واليقين يورث الغنى –فلا يلتفت ولا يفتقر إلى أحد سوى الله عز وجل- والغنى يورث الحب، والحب يورث اللقاء'.
* وأمر رابع: من الأمور التي يُحصل بها اليقين: مفارقة الشهوات والحظوظ النفسانية: فإذا كان العبد منغمساً في شهواته، فأني له باليقين؟ وقد قال ابن القيم –رحمه الله- في هذا المعنى: أصل التقوى مباينة النهي، وهو مباينة النفس، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.(/8)
* والأمر الأخير: مما يورث اليقين في قلوبنا، ويكون سباً إلى تحصيله: التفكر في الأدلة التي توصل إلى اليقين: فكلما تواردت البراهين المسموعة، والمعقولة، والمشاهدة على قلب الإنسان؛ كلما كان ذلك زيادة في يقينه وإيمانه، وهذا شئٌ مشاهد، فكثير من الأشياء التي في حياتنا والتي نعايشها، وكثير من الأمور التي شاهدناها، أو التي لم نشاهدها: كيف تيقناها؟ كيف حصل فيها هذا اليقين؟ والله عز وجل قد أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، فكيف حصّلنا اليقين فيها؟
حصّلنا هذا اليقين: إما بالمشاهدة بعد أن كان ذلك معلوماً، أو بالمشاهدة ابتداءً، أو أننا حصلنا اليقين بتوارد الأدلة، فنعلم أن هذا الأمر حق لا يقبل الجدل، وأنه شئٌ ثابتٌ راسخ لا يقبل التشكيك. مع أن هذا الأمر قد يكون في نفسه باطلاً، وقد يكون لا حقيقة له، ومع ذلك تجد الإنسان متيقناً له، وعلى سبيل المثال ما ذكرته في أول مجلس من هذه الدورة أين عقل الإنسان؟! كثير من الناس عنده يقين أن عقله في دماغه مع أن الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن العقل في القلب، فكيف وُجد هذا اليقين عند كثير من الناس؟ كيف وُجد عندهم هذا اليقين في قضية غير حقيقية، وليست بصحيحة أصلاً؟ بتوارد ما توهموه أنه أدلة، حتى صار ذلك عندهم لا يقبل التشكيك، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يستغرب كل الاستغراب، ويستنكر سماع ما يخالف هذه الحقيقة التي رسخت في نفسه.
النقطة التاسعة ثمرات اليقين: والأمور التي يؤثرها في سلوك الإنسان، وفي قلبه، وفي سائر تصرفاته وأعماله:
* أولاً: أن اليقين إذا وصل إلى قلب الإنسان؛ امتلأ قلبه نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه أضداد ذلك من الشكوك والريب والشبهات التي تقلقه: فيكون القلب مستريحاً مطمئناً، فيرتفع عنه السخط والهم والغم الذي يجلبه الشك والريب، فيمتلأ قلبه محبة لله، وخوفاً منه، ورضاً به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات، والحامل لها، كما قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 1/398]. بخلاف الريب والشك والتردد، فإنه يورث قلقاً في القلب، وضجراً وألماً، والشاك المرتاب يحصل له من ألم القلب ما الله به عليم، حتى يحصل له العلم واليقين، ولهذا كان الشك يوجب له حرارة، وأما اليقين فيوجد له برداً في قلبه ولهذا يقال:' ثَلَجَ صدرُه..وحصل له برد اليقين' [انظر: بإغاثة اللهفان 1/19-20]. فتزول عنه هذه الأمور التي تعصر القلب، وتؤلمه، وتعصف به، يقول ابن القيم [الوابل الصيب ص 69-70] رحمه الله تعالى، واصفاً مثالاً واقعياً شاهده على سكون صاحب اليقين، وعلى طمأنينته، وعلى رضاه الكامل، وعلى انشراح صدره وسروره وتنعمه -وهذا المثال هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- يقول ابن القيم: سمعته قدس الله روحه يقول:'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة'. يقول ابن القيم: وقال لي مرة:'ما يصنع أعدائي بي؟! إن جنتي وبستاني في صدري أنَّى رحتُ، فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خَلْوَة، وقتلى شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة'. وكان يقول في محبسه في القلعة:'لو بَذَلْتُ ملئ هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: 'ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا'. -نعمة السجن- التي أورثته خلوة بربه، فحصل له من الأمور التي تورثه اليقين ما الله به عليم. وكان يقول في سجوده وهو محبوس:'اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك'. كان يردد ذلك.
وقال لابن القيم مرة:'المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه'. هذه حقيقة الأسر، فإذا كان الإنسان مأسور البدن إلا أن قلبه طليق مرتبط بالله عز وجل، فأي أسر مع هذا الاستشعار؟! قلبه مرتبط بيد الله، فهو يعلم أن هؤلاء الذين أسروه أمرهم بيد الله، وأنهم خلق ضعفاء، وإنما ابتلاه الله عز وجل بهم؛ لينقله إلى مراتب في الجنة لا يبلغها بعمله، ولهذا يتمنى أهل البلاء في الدار الآخرة أن لو قرّضوا بالمقاريض؛ لما يرون من الجزاء على هذا البلاء، فهو يشاهد هذه الحقائق... نعم قد أسره عدوه، ولكنه يعلم أن حركات هذا العدو وسكناته، وأن هذه القيود التي توضع في يده ورجليه أن الله عز وجل قد قدر ذلك، وأنه لا يَدَ لَهُ هو في دفعه ورفعه عن نفسه، فهو يتقلب في مرضاة الله عز وجل، ويسكن عند ذلك، ويعلم أن الله عز وجل ما فعل به ذلك ليهلكه، وإنما فعل به ذلك ليرفعه، وليعلى درجته، وأن هذا من جهاده ومن تمام عمله، وأن أجره يجرى عليه بلا توقف، فإذا استشعر العبد هذه الأمور لربما تمنى دوامها مع دفع بعض الأمور العارضة التي قد لا يرتضيها إذا كان الذي أسره أحد من الكافرين لئلا يكون للكافر عليه سبيل.(/9)
يقول ابن القيم رحمه الله يصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لما دخل إلى القلعة –سجن القلعة- وصار داخل سورها نظر إليه- ماذا قال؟ هل جزع؟ هل قال: أنا مستعد للمساومة؟ أنا مستعد لتراجع عن هذه العقيدة التي أعلنتها أمام الناس ودعوت الناس إليها؟ أبداً- نظر إلى السور، وقال: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] } [سورة الحديد]. لاحظ هذا الاستشعار حينما أُدخل في سجن القلعة، فنظر إلى سورها لم يَخَفْ، وما قال: يا لهف نفسي ما الذي فعلته بنفسي؟ وماذا فعل بي أعدائي؟ما جزع، وإنما قال لما نظر إلى السور: : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] } [سورة الحديد]. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله، واصفاً له:' وعَلِمَ الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه'. يقول:'وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوةً، ويقيناً، وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها، ونسميها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وإذا وصل العبد إلى مرتبة اليقين اندفعت عنه الشكوك والريب، ولهذا قال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله- وهو واعظ دمشق-:'يسير اليقين يُخرج كل شك من القلب' [نزهة الفضلاء [955]].
كما أنه يجعل صاحبه يُفرّق بين الحق، وبين ما يُلبسه الشيطان على الجُهال من العُبّاد وغيرهم: ولهذا كان بعض المُتقدمين يُصلى ويختم كل ليلة في مسجده، وكان على مرتبة عظيمة من العبادة: من صلاة، وتهجد، وصيام، وقراءة القرآن، فرأى ليلة نوراً قد خرج من حائط المسجد وقال:تَمَلاَّ من وجهي فأنا ربك .- ومعلوم أن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا- فماذا فعل هذا الرجل- وهو أحمد بن تزار القيرواني؟- فبصق في وجهه وقال: اذهب يا ملعون. فانطفأ النور الذي في الحائط. فهذا الشيطان تمثل، وأراد أن يخدعه، وأن يضله، فجاءه بهذه الصورة، فلما كان هذا راسخ الإيمان، ثابت اليقين لم يلتفت إلى هذا العارض، وما صرفه عن طاعة الله عز وجل، وما عرف عن ربه تبارك وتعالى.
* الأمر الثاني مما يورثه اليقين: هو الهدى والفلاح في الدنيا والآخرة[زاد المعاد 4/215]: ومعلوم أن الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، ولهذا قال الله عز وجل عن المؤمنين: { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4]أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[5] } [سورة البقرة]. وقد جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه-مرفوعا- فيما أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والبخاري في الأدب المفرد- قال: [سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَ الْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَافِيَةِ].
يقول ابن القيم رحمه الله في 'زاد المعاد': لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه'[ انظر: مدارج السالكين 2/397] .(/10)
ويقول شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مبيناً لطيفة تتعلق بآية من كتاب الله عز وجل، فالله عز وجل يقول: { الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ[22]عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ[23]تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ[24]يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ[25]خِتَامُهُ مِسْكٌ [26] } [سورة المطففين]. أي أن آخره يكون بطعم المسك، وقال: { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ[27]عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[28] } [سورة المطففين]. فالتسنيم هي عين يشرب بها المقربون من عباد الله عز وجل في الجنة، وأولئك الأبرار يشربون من شرابٍ من خمرٍ ممزوجة مخلوطة بالتسنيم، وليست تسنيماً صافياً خالصاً، يقول شيخ الإسلام:'وذكر سبحانه أن شراب الأبرار يُمزج من شراب عباده المقربين؛ لأنهم مزجوا أعمالهم..، ويشربه المقربون صِرْفاً خالصاً كما أخلصوا أعمالهم، وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته؛ لما حصل لقلوبهم، ووصل إليها في الدنيا، مع ما في ذلك من مقابلته للسعير- ويشير إلى قوله تبارك وتعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا[5] } [سورة الإنسان]. فالجزاء من جنس العمل، فلما حصل لهم برد اليقين حصل لهم أيضاً برد هذا الشراب من الكافور في الجنة' [دقائق التفسير 3/22].
* الثالث: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك الإنسان: أنه يورثه الزهد في الدنيا وقصر الأمل: فلا تتعلق نفسه بها، ولا يتشبث بُحطامها، وإنما يكون زاهداً فيها؛ لأنه يعلم أنها ليست موطناً له، ولأنه يعلم أنها دار ابتلاء، وأنه فيها كالمسافر يحتاج إلى مثل زاد الراكب، ثم بعد ذلك يجتاز ويعبر إلى دار المقام، فهو بحاجة إلى أن يشمر إليها، وأن يعمل لها، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: [نَعَمْ] قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
فما الذي جعل هذا الإنسان يعد هذه اللحظات- التي لربما لا تتجاوز الدقائق القليلة يعدها- حياة طويلة؟! وما الذي جعل الإنسان الآخر لربما عاش مائة سنة ومع ذلك هو متمسك بالدنيا، وبالحياة بيديه ورجليه؟ ما الذي يجعل هذا بهذه المثابة، والآخر بتلك المثابة؟! يقول بلال بن سعد رحمه الله:'عباد الرحمن اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار، ولأيام طوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزن ونصب لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين، فلا يغتر؛ لأن المصير حتماً سيقع إما إلى الجنة وإما إلى النار'. وكان يقول:'كأنّا قومُُ لا يعقلون، وكأنّا قوم لاُ يوقنون'.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الذي يجعل الإنسان يتشبث بهذه الحياة الدنيا هو ما غُرس في قلبه من محبتها، وما زُيِّن في نفسه من شأنها، وكذلك ما يتعلق بها من محبة الإنسان للثناء والحمد . يقول:'ما تأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء، وثناء الناس عليه، ونفرته من ذمهم، فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها'[ مدارج السالكين 2/302] .
وهذا يعنى: أنه يُشمر في أمر الآخرة، ولهذا فإنه لا ينتهي بهذه الدنيا، ويتكاثر فيها مع من يتكاثر، ويتكالب على حطامها إلا من كانت الغفلة غالبة على قلبه، وكان اليقين مُترحِّلاً عنه، ولهذا يقول الله عز وجل: { ...كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[136] } [سورة الأعراف] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا] رواه البخاري ومسلم. وما وجد هذا التكاثر والإلهاء عما هو أولى بالخلق منه من العمل للآخرة، والسعي لتحصيل دار الكرامة إلا لاختلال اليقين في النفوس [مجموع الفتاوى 16/517 – 518].(/11)
وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يُشك ولا يُمارى في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وبشاشته؛ لما ألهاه عن موجبه، وترتب أثره عليه، فإن مجرد العلم بقبح الشيء، وسوء عواقبه قد لا يكفى في تركه، فإذا صار له علم اليقين؛ كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد، فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شيء، وفي هذا المعنى قال حسان رضى الله عنه فيمن قُتل من أهل بدر من المشركين:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهُمُ لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
هكذا قال ابن القيم رحمه الله في كتاب 'عدة الصابرين'[ عدة الصابرين ص 156 – 157] .
وهذا المثال يبين أثر اليقين في سلوك العبد، حيث يزهده فيما في أيدي الخلق: دخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الكعبة، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم، فقال له:'سلنى حاجة –فرصة ثمينة الخليفة يعرض عليه أن يسأله ما شاء، اطلب، فماذا قال؟- قال:'إني لأستحي من الله أن أسال في بيته غيره'. فلما خرجوا قال له:' فالآن سلني حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم حوائج الآخرة؟– طبعاً حوائج الآخرة لا سبيل إليها، لا سبيل إلى تحصيلها من قِبَل المخلوقين، هم لا يستطيعون أن يعطوك شيئاً من أمور الآخرة- قال:' بل من حوائج الدنيا' قال:' والله ما سألت الدنيا من يملكها –يعنى الله، يقول: أنا ما دعوت قط ربي أن يعطيني شيئاً من حُطام الدنيا- ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسأل من لا يملكها!'.
لاحظتم.. اليقين كيف يؤثر؟ هذه فرصة ثمينة لا تعوض عند كثير من الناس، يعرض عليه الخليفة، أو الملك أن يطلب ما شاء، فهذا يأبى أن يسأل حاجة من هذا المخلوق، ولذلك قيل:'أنفع اليقين ما عَظَّم الحق في عينك -
أن تُعظّم الله عز وجل، وتُعظّم أمر الله جل جلاله- وصغّر ما دونه عندك- فمن الخلق؟ وما غنى الخلق؟ ماذا عندهم إزاء غنى الله عز وجل؟ - وثبّت الرجاء والخوف في قلبك' .
* أمر رابع مما يثمره اليقين: الانتفاع بالآيات والبراهين[انظر: مدراج السالكين 2/397]: فالله عز وجل يقول: { وَفِي الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ[20] } [سورةالذريات] نحن نشاهد الإنسان الذي عنده يقين راسخ إذا مر بآية من الآيات الكونية، أو مر بآية من الآيات الأرضية، إذا شاهد مكاناً للمعذبين؛ فإنه يرق قلبه، وتتمالكه مشاعر كثيرة لا يستطيع أن يُعبر عنها، ولربما دمعت عينه وبكى، وأما الآخر: فهو ينظر إلى هذه الأشياء، وقد علق كاميرا في عنقه، يضحك ملء فيه، ولا يُحرك ذلك في قلبه ساكناً، فالآيات إنما تُؤثر وتُحرك نفوس أصحاب اليقين، أما أهل الغفلة، فإنهم لا ينتفعون بها؛ ولهذا يقول الله عز وجل: { وَكَأَيِّنْ مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[105] } [سورة يوسف] .
الخامس: مما يؤثره اليقين: الصبر: ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، ويغتذي به وهو اليقين [الاستقامة 2/261]. والعبد إذا كان فارغ القلب؛ لم يصبر، وإنما إذا كان له شئ يتنعم به، ويتلذذ به، ويركن إليه؛ فإنه يركن، ويصبر، ويسكن، فلا يصدر منه شئ يخالف مقتضى الصبر.
وعلى حسب يقين العبد بالمشروع؛ يكون صبره على المقدور، كما قال الله عز وجل: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[60] } [سورةالروم] فأمره أن يصبر، وأن لا يتشبه بالذين لا يقين عندهم لعدم الصبر، فإنهم كما قال ابن القيم رحمه الله:'لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم، وخفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين والحق؛ لصبروا، وما خفوا ولا استخفوا، فمن قل يقينه؛ قل صبره ومن قل صبره؛ خف واستخف، فالموقن الصابر رزين لأنه ذو لب، وعقل، ومن لا يقين له، ولا صبر عنده؛ خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف'[ التبيان في أقسام القرآن ص 55]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَتَهَافَتُونَ تَهَافُتَ الْفَرَاشِ]رواه البخاري ومسلم –بنحوه- . شبههم بالفراش لخفتها، وسرعة حركتها وانتشارها، وهي صغيرة النفس، جاهلة بمصالحها، تتهافت في النار؛ لأنها تنجذب إلى النور، وإلى الضياء، ويكون سبباً لإحراقها، يقول ابن القيم رحمه الله:'ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. وقال الله عن فرعون بأنه: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ...[54] } [سورة الزخرف]. والخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت'[ الفوائد 211 – 212] .(/12)
ويقول في موضع آخر:'لذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوى اليقين، وباشر القلب؛ آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب'[ الفوائد ص201] . ولهذا قال بعض الزهاد العبّاد من المتقدمين:'تَرِدُ عليّ الأثقال –يعنى من المصائب والآلام- التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض وأقول –مُثَبِّتاً لنفسه- { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[5]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[6] } [سورة الشرح] . ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني'[ نزهة الفضلاء [1575]] .
والعبد يجب عليه أن يروّض نفسه على الحد الأدنى وهو الصبر؛ لأنه ليس دون الصبر إلا الجزع والسخط، فيذهب الأجر، ولا يُسترد المفقود، ما ذهب لا يرجع، ما فات فإنه لا يمكن أن يعود، وبالتالي ليس على العبد إلا أن يصبر؛ ليؤجر على هذه المصيبة. وأما إذا تسخط، فإنه يأثم، ويفوته الأجر، والنهاية أنه يسلو سلو البهائم من غير احتساب ولا صبر، ولهذا قال بعض خلفاء بني العباس –وهي كلمة حق- يقول:'أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدبر' يعني: ما قدره الله كائن لا محالة، ولا سبيل إلى دفعه، فعليك أن تستقبله بالرضى والتسليم.. يقول:'وإذا أدبر أن يُقبل'.
فإذا مات لك حبيب، فلا يمكن أن يرجع من جديد إلى هذه الحياة الدنيا، فليس عليك إلا الصبر. وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول:'اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مُصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يُصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به'.
إذا وُجد عند العبد اليقين أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلم وحكمة، وأن الإنسان كُتب له رزقه وهو في بطن أمه، فالرزق لا يجلبه حرص حريص؛ فإنه لا يتهافت على الدنيا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ...]رواه ابن ماجة. فما قُسم لك من هذا الرزق؛ سيأتي إليك، ولو اجتمع من بأقطارها على أن يمنعوا منك شيئاً من هذا الرزق الذي كتبه الله عز وجل لك، لا يمكن أن يمنعوه، فلماذا التهافت على الدنيا؟ ولماذا الحرص الذي يُخرج الإنسان عن الاقتصاد في الطلب، وعن التزام أخذ الحلال دون غيره مما حرم الله تبارك وتعالى؟!
* السادس: مما يورثه اليقين- وهو مرتبه فوق الصبر-: الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم: فاليقين هو أفضل مواهب الله عز وجل على العبد، ولا يمكن أن تثبت قدم الرضا إلا على قاعدة اليقين ودرجته، فمن لا يقين عنده لا يمكن أن يصبر، فضلاً أن يرتقى إلى درجة الرضا بما قدر الله عز وجل عليه من الآلام والمصائب والمحن والبلايا، وما قدر الله عليه من الفقر والمرض، وما أشبه ذلك، الله يقول: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...[11] } [سورة التغابن]. يقول ابن مسعود:'هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى ويُسلّم'. ولهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا باليقين .[ مفتاح دار السعادة 1/154] .وهذا الرضا يكون بقضاء الله عز وجل.
وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن على رضى الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضى الله عنه كان يقول:'الفقر أحب إلىّ من الغنى، والسقم –يعنى المرض- أحب إلىّ من الصحة' فلما بلغ ذلك الحسن بن على رضى الله عنه قال:'رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنَّ شيئاً'. وهو حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء، فلا يتمنى أن هذا الأمر من الأمور التي يحُبها من عاجل الدنيا ونعيمها وقع له، ولا يتمنى أيضاً أن هذه المصيبة والألم لم يقع له، وإنما هو راضٍ بما قسم الله عز وجل له، ولهذا يقول: سفيان الثوري رحمه الله - وقد قال له الربيع بن خُثيم:' لو تداويت' أصابه مرض فقال له: لو تداويت، مع أن العلاج والتداوي مباح- فقال:' ذكرت عاداً، وثموداً، وأصحاب الرس، وقروناً بين ذلك كثيراً، كان فيهم أوجاع، وكانت لهم أطباء، فما بقى لا المداوي ولا المداوي' . كلهم قد أفناهم الله عز وجل، فيرضى العبد بما قضى الله عز وجل عليه من ذلك كله.
وهذا سعيد بن جُبير رحمه الله، إمام من أئمة التابعين لدغته عقرب، فأصرت أمه عليه أن يسترقي، ومعلومٌ أن من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عقاب، الذين لا يسترقون: لا يطلبون الرقية، فلما أصرت أمه، أراد أن يُطيّب خاطرها، فأعطى الراقي يده الأخرى التي لم تُصب بلدغة هذا العقرب، وترك اليد الأخرى، فعل ذلك؛ إرضاءً لأمه، وجبراً لخاطرها، وتطييباً لنفسها، ولم يفعل الأمر الذي كان يتنافى عنده مع كمال التوكل .(/13)
وهذا يونس بن عُبيد كتب إلى ميمون بن مهران، عالم، عابد، بعد طاعون كان ببلادهم يسأله عن أهله، فكتب إليه ميمون بن مهران يقول:' بلغني كتابك، وإنه مات من أهلي، وخاصتي سبعة عشر إنساناً بهذا الطاعون، وأني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يُسرني أنه لم يكن'. يقول: أنا راضٍ بما قسم الله عز وجل، وهكذا يرضى العبد الموقن بما قسم الله عز وجل له من الرزق، ولهذا يقول أبو حازم رحمه الله:' وجدت الدنيا شيئين: فشيء هو لى، وشيء لغيري، فلو طلبته بحيلة السموات والأرض؛ لم أصل إليه'. يعنى: الذي كُتب لغيري من الرزق لو طلبته بحيلة السموات والأرض لم أصل إليه، فيُمنع رزق غيري مني كما يُمنع رزقي من غيري . يقول: ما كتب لي لابد أن يأتي، ولو اجتمع من بأقطارها ليمنعوه. وما كان مكتوباً لغيري لا يمكن أن يصل إليّ.
فلا حاجة للعبد أن يتسخط، ويتذمر على بيعةٍ باعها، فندم عليها، فيأكله الندم طوال حياته، ولربما حدّث أبناءه وأحفاده بهذه الأرض التي باعها قبل خمسين سنة ببيعةٍ زهيدة، هي لم تُكتب لك، فلا حاجة للتحسر، هي مكتوبة لفلان فلا يمكن أن تصل إليك، هذا فضلاً عن الحرام، فالإنسان قد يخرج من العمل في ساعات العمل، وقد يغيب ويسجل له مدير المدرسة، أو المديرة تسجل لهذه المعلمة أنها حضرت هذه الأيام وتُعطى من الراتب، هذا المال الذي وصل إليها سيصل، فإن صبرت؛ سيصلها عن طريق الحلال، فإن لم تصبر؛ فإنها تأخذه عن طريق الحرام، وما لم يُكتب، فإنه لا يصل بحالٍ من الأحوال، فعلى العبد أن يتقى ربه ويُجمل في الطلب.
* السابع: من ثمرات اليقين: أن البلاء يصير عند من استكمل اليقين نعمة، والمحنة منحة:قال سفيان بن عيينة:'من لم يَعُدّ البلاء نعمة فليس بفقيه'[مفتاح دار السعادة 1/154] .
* الثامن: مما يثمره اليقين: التوكل على الله عز وجل: ولهذا قرن الله بينه وبين الهدى، فقال: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا...[12] } [سورة إبراهيم] . وقال: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ[79] } [سورة النمل] . والحق هنا هو اليقين- كما قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 2/398].
* التاسع من ثمراته: أنه يحمل صاحبه على مباشرة الأهوال، وركوب الأخطار: وهو يأمر بالإقدام دائماً، فإن لم يقارنه العلم؛ فربما حمل على المعاطب، والعلم من غير اليقين قد يحمل صاحبه على التأخر والنظر في حسابات كثيرة من نواحٍ متعددة، فتفوت صاحبه الفرص.[بصائر ذوي التمييز 5/400]. فإذا قارنه اليقين؛ فذاك الكمال، وقد قال الجنيد: 'قد مشى رجال باليقين على الماء' . ولما أراد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أن يعبر دجلة إلى المدائن، وقطع الفُرْسُ عليه الجسر، وحازوا السفن؛ نظر سعد في جيشه، فلما اطمأن إلى حالهم، اقتحم الماء، فخاض الناس معه، وعبروا النهر فما غرق منهم أحد، ولا ذهب لهم متاع، فعامت بهم الخيل وسعد يقول:' حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصُرَّنَ الله وليَّه، وليُظْهِرَنَّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه؛ إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات'[تاريخ الطبري2/462]. ولما نزل خالد بن الوليد رضى الله عنه الحيرة، فقيل له: احذر السم لا تسقك الأعاجم، فقال:' ائتوني به، فأُتي به، فالتهمه، واستفه، وقال: بسم الله، فما ضره'. قال الذهبي رحمه الله:' هذه والله الكرامة وهذه الشجاعة' [سير أعلام النبلاء1/376].
فانظر إلى هذه الأمور: لو أن العبد أقدم عليها من غير حاجة، ومن غير بصر ونظر في حاله، وتوكله على الله عز وجل، وصلاح أموره، وعلاقته مع ربه؛ فإن ذلك قد يورثه الهلكة، ولو أن عبداً قَلَّ يقينه، وإيمانه، وكثرت ذنوبه، فأراد أن يُغِير على عدوه، فاقتحم الماء، ماذا تكون النتيجة المتوقعة؟ النتيجة هي: الغرق والموت والهلاك، ولكن سعدًا رضي الله عنه زمَّ هذا اليقين بالعلم، فأمر بالنظر في أحوال الجيش، فلما وجدهم على حال من التقى، وخاف أن يفوت المسلمين ذلك المقصود الكبير- وهو تلك الغنائم الهائلة العظيمة في المدائن وهي عاصمة فارس- ولم يجد شيئاً يركبه إليهم، فخشي إذا تأخر أن يذهب عنه ذلك؛ أجمع، فركب الماء، وسلمه الله عز وجل.(/14)
وانظر إلى حال علاء الدين خوارزم شاه- وهو من قادة المسلمين الكبار- كان عالماً بالفقه والأصول، محباً للعلماء، من أهل العبادة والزهد، وكان يحب أهل الدين، يقول عنه الذهبي:' أباد ملوكًا، واستولى على عدة أقاليم، وخضعت له الرقاب'. ووصفه ابن الأثير في 'الكامل' بقوله:' كان صبورا على التعب وإدمان السير، غير متنعم ولا متلذذ'. وقال عنه: إنه كان يبقى أربعة أيام على ظهر فرسٍ لا ينزل، إنما ينتقل من فرس إلى فرس- الفرس يتعب! وهو لا ينزل أربعة أيام، فإذا تعب فرس انتقل منه مباشرة إلى ظهر الفرس الآخر- وكان يطوى البلاد، ويهجم على المدينة بنفر يسير، ثم يُصَبِّحهم من عسكره عشرة آلاف، هؤلاء العشرة آلاف هم الذين سبقوا الجيش ممن يكونون من أهل النشاط والجَلَد والصبر.. يهجم على المدينة في المساء، ثم يُصَبِّحهم من جيشه عشرة آلاف، ويمُسِّيه عشرون ألفا، هؤلاء هم الذين سبقوا، ثم يأتي بقية الجيش بعد ذلك. يقول: وإنما أخذ البلاد بالرعب، والهيبة، وكان عدد جيشه سبعمائة ألف. ما الذي جعله يفعل ذلك جميعاً؟ ما الذي جعله يركب الأهوال والأخطار، ويلقى هؤلاء الكفار في وقت قصير لا يتوقعونه، وليس معه من الجيش إلا اليسير؟!
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناظرته المشهورة للبطائحية، وهم طائفة من الصوفية كانوا يطلون أجسامهم بطلاء معين، ثم يدخلون في النار ولا يحترفون، فأضلوا طائفة من المسلمين، ولبَّسوا عليهم حيث زعموا أن هذا من الكرامات، وأن هذا يدل على أن ما هم عليه من الباطل هو الحق، وأن الله يؤيدهم على ذلك بهذه الكرامات، فماذا صنع شيخ الإسلام رحمه الله؟! استخار ربه، واستعانه، واستنصره، واستهداه يقول:' فسلكت سبيل عباد الله في هذه المسالك حتى أُلقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأنها تحرق أشباه الصابئة'. ولما حضر شيخ الإسلام معهم أمام السلطان، وجلس شيوخهم بين يديه، قال للسلطان:' هؤلاء يزعمون أن لهم أحوالا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة- يعني: العلماء والفقهاء- لا يقدرون على ذلك، ويقولون: لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشَرع، وليس لهم أن يعترضوا علينا، بل ينبغي أن يُسَلِّمُوا لنا ما نحن فيه، سواء وافق الشرع أو خالفه'. يقول شيخ الإسلام للسلطان:' وأنا استخرت الله سبحانه أن أدخل النار إذا دخلوها، ومن احترق منا ومنهم؛ فعليه لعنة الله، وكان مغلوباً'. فاستعظم الأمير هجوم شيخ الإسلام على النار، وقبوله الدخول فيها، فقال له: أتفعل ذلك؟ يقول، فقلت:' نعم قد استخرت الله في ذلك، وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين له باطناً وظاهراً، لحجة أو حاجة'. شيخ الإسلام يقول: نحن لا نرى أن المؤمن يقتحم على مثل هذه الأمور التي تهلك عادة من غير مبرر شرعي. إنما يقتحم فيها في أحد حالين: إما لإقامة الحجة أنه على الحق، وإما لحاجة كما فعل سعد بن أبي وقّاص رضى الله عنه حينما ركب على الماء، يقول شيخ الإسلام:' إن هؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم، وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه؛ وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونقوم بنصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا، وجسومنا، وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات'.
فانظر إلى شيخ الإسلام رحمه الله: جاء إلى السلطان، وتحداهم أن يدخل معهم في النار، فلما رأوا جزمه على ذلك أبوا، واقتنعوا، وقال كبيرهم: بل نطلب المصالحة، فطلب منهم شيخ الإسلام أن يتركوا هذه الأفعال التي تخالف الشريعة، والتي تُلَبِّس على عوام المسلمين؛ فأقروا بذلك عند الأمير، وهذا مقام لا يفعله أحد من الناس إلا من اكتمل يقينه، وكان هذا اليقين مزموماً بالعلم.
* وأمر عاشر مما يثمره اليقين: أن اليقين إذا تزوج بالصبر فإنه يولد بينهما الإمامة في الدين: والله عز وجلّ يقول: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24] } [سورة السجدة]. فالصبر هو لقاح اليقين .[مدارج السالكين 2/196 ، الفوائد ص 199].(/15)
والأمر الحادي عشر مما يورثه اليقين: هو أنه يحمل صاحبه على الجد في طاعة الله عز وجلّ والتشمير والمسارعة والمسابقة في الخيرات: ولذلك فإن أصحابه يمتطون العزائم، ويهجرون اللذات، وكما قيل:' وما ليل المحب بنائم' . فعلموا طول الطريق، وقلة المقام في منزل التزود؛ فسارعوا في الجهاز، وجدّ بهم السير إلى منزل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز- كما يقول ابن القيم رحمه الله [مفتاح دار السعادة 1/149] - . وهذا كله من ثمرات اليقين فإن القلب إذا استيقن ما أمامه من كرامة الله، وما أعدّ لأوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلم أنه إذا زال الحجاب، رأى ذلك عياناً؛ زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون؛ ولذلك ما الذي يجعل هذا الإنسان يقدم نفائس الأموال التي تعب في جمعها وتحصيلها، ويجعل الآخر إذا أراد أن يتصدق بصدقة- ولو قلّت- يفكر ويحسب الحسابات؟ ما الذي يجعل هذه المرأة إذا أرادت أن تتصدق تُقَلِّب هذه الثياب والملابس والأثاث، فترفع هذا بحجة أنه يمكن الاستفادة منه، وترفع الآخر بحجة أنه جيد مستحسن، وترفع الثالث باعتبار أنه لم يَبْلَ بعد، وترفع الرابع باعتبار أنه جديد لم يستعمل إلا قليلاً، ما الذي يجعلها كذلك؟! ويجعل الآخر يبحث عن الأشياء الجيدة، فيتصدق بها؟ والله عز وجل يقول: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...[92] } [سورة آل عمران]. الذي يجعل الناس يتفاوتون هذا التفاوت هو اليقين.
الآن انظر إلى ما يُدعى إليه الناس في هذه الدنيا من ألوان التجارات، فربما استشرفتهم الأرباح العالية التي يُدعون إليها، وكم تبلغ هذه الأرباح؟ هي في جميع الأحوال لا تكاد تبلغ الضعف، وإنما هي تتراوح بين نِسَب قد لا تصل إلى خمسين بالمائة، فما الذي يجعل هؤلاء الناس يبيعون بيوتهم، ويجعل بعض الناس يُصَفُّون مؤسساتهم، وما الذي يجعل بعضهم يقترضون، ويشترون سيارات بالأقساط، ثم يبيعونها بخسارة من أجل أن يساهموا في الشركة الفلانية؟! الذي يجعلهم يفعلون ذلك- لا أقول هو اليقين بهذا الطمع القليل- إنما هو ظنٌ غالب عندهم أنهم يربحون، مع أنه يحتمل أن رءوس الأموال تذهب برمتها، ولا يبقى لهم لا ربح، ولا رأس مال، وإنما تكون لهم الخيبة والخسارة محققة!!
ومع ذلك رأيناهم يبيعون سياراتهم، ويبيعون أثاثهم، ويبيعون ممتلكاتهم! ورأينا من يقترض من أجل أن يساهم هنا أو هناك، ما الذي جعلهم يفعلون ذلك؟ هو ظن غالب، وما الذي يجعل العبد يحسب ألف حساب إذا أراد أن يتصدق؟ ما الذي يجعل كثيراً من النساء يسألن أهل العلم ذلك السؤال الذي يتكرر دائماً: هل يجب عليّ أن أُزكى الذهب المستعمل وأنا أتصدق أثناء السنة، أم ذلك يجزئ عنه؟
هل يجب عليّ أن أُخرج زكاة مالي، أو أنه يكفي أن أُسقط الديون المتعثرة المتعذر تحصيلها على فلان وفلان؟ هو يريد أن يخرج الزكاة بواسطة أشياء وديون معجوز عنها، فجعل حق الله عز وجل هو الآخِر، وهو الأقل في اهتماماته، ما الذي يجعل هذا الإنسان يبخل على الله عز وجل بركعة يضحي بها بلذة نومه؟ بل ما الذي يجعل هذا الموظف، أو هذا الطالب يوقت الساعة قبل وقت الدوام، ثم بعد ذلك ينام عن الصلاة، ويفرط فيها؟ وإذا احتُج عليه بهذا قال: ليس مع النوم تفريط! ما الذي يجعل المعلمة تنام ملء جفنيها، ولكنها لا يمكن أن تتأخر عن مدرستها حتى لا توقع تحت الخط الأحمر؟!
السبب هو ضعف اليقين، لو أن أحداً من هؤلاء الموظفين، أو هؤلاء المعلمات يذهب دائماً الساعة التاسعة إلى عمله، وعمله يبدأ في الساعة السابعة ماذا يقال عنه؟ يقال: إنه إنسان لا يبالى، مستهتر، فما الذي يجعل بعض المسلمين لا يحضر مع المصلين في صلاة الفجر، ولا يعرف المسجد في صلاة الفجر إلا في رمضان؟
أقول: ما الذي يجعل الناس يتأخرون عن طاعة الله عز وجلّ، ولا يتأخرون عن الدنيا؟ لماذا يتردد الإنسان عن الصيام تقرباً لله عز وجلّ وتطوعاً- وهو من أَجَلّ القربات- ثم إذا كان ذلك بنصيحة من الطبيب، وأن عافيته تتوقف على ذلك؛ فإنه يترك هذا الطعام والشراب، ويترك أنواع الطيبات، ويبقى في حال يرثى له بها عدوه، حيث منع نفسه أشياء كثيرة جدًّا، وصار لا يأكل إلا بعض الأمور التي يصعب تحصيلها، ما الذي يجعله يفعل ذلك؟ هو صحة متوقعة، وعافية مرجوة ليست متيقنة، فما الذي يمنع العبد من المسارعة في أمور أخبر الله عز وجلّ عنها، وخبره صدق وحق: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[87] } .[سورة النساء] . { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[122] } [سورة النساء].(/16)
فلذلك يقول بلال بن سعد رحمه الله:' عباد الرحمن: أمَّا ما وكَّلَكُم الله به فتضيعونه، وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أَذَوُواْ عقول في طلب الدنيا، وبُلْهٍ عما خُلقتُم له؟! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدونه من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله مما تنتهكون من معاصى الله عز وجلّ'[صفة الصفوة 4/219 ، الحلية5/231]. ويقول الحسن البصرى:'ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه من شك لا يقين فيه من أمرنا هذا'. يعني: أننا نوقن بالموت، وبالجزاء والحساب، ولا نعمل لذلك، ولا نستعد له، نوقن بالنار، ولا نرى حَذِراً خائفا منها، وإنما نهجم على معاصى الله عز وجلّ ومساخطه. ويقول سفيان الثورى رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: وهو أثر اليقين في قلب العبد بالتشمير في طاعة الله جلّ جلاله-:' لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي؛ لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار'[الحلية 7/17].
* الثاني عشر: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك العبد: أنه يجعل صاحبه ثابتاً على الحق الذي اتبعه وعرفه: ولهذا فإن أهل الحق هم أكثر الناس ثباتاً، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في جملة الخصائص السلوكية لأهل السنة والجماعة:وتجد أن أصحاب الرأى من المتكلمين، وأصحاب العقائد الفاسدة، والجدل الباطل؛ هم أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، ومن مذهب إلى مذهب، وتجد الواحد منهم يحكم بكفر القول، أو بكفر قائله، وتجده بعد مدة يقرر هذا القول في بعض كتبه، يقول قولاً، ثم يقول نقيضه تماماً بعد مدة وجيزة أو طويلة، بخلاف حال المؤمن الثابت، الذي رزقه الله عز وجلّ اليقين؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قال: لا، قال: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.
يقول شيخ الإسلام:'وأما أهل السنة، فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم؛ رجع قط عن قوله، أو اعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتُحنواْ بأنواع المحن، وفُتنواْ بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود، ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء'[مجموع الفتاوى 4/50].
* الثالث عشر: من الأمور التي يورثها اليقين: الثبات أمام الأعداء حتى النصر أو الشهادة: وأخبار أهل اليقين في هذه الأمة كثيرة جدًّا، وهكذا أهل اليقين الذين كانواْ من قبلنا، وتعرفون جميعاً خبر الغلام مع الملك وثباته العظيم الذي ثبته، وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حينما ثبت أمامهم، وقد توعدوه بالإحراق، بل وأوقدواْ ناراً عظيمة أمامه وطالبوه أن يرجع عن دينه، فلما أبى؛ ألقوه فيها، وهو لم يتردد إطلاقاً، ولا طرفة عين، وهكذا موسى صلى الله عليه وسلم، ثبت أمام فرعون ثباتاً عظيماً مع أنه معروف بطغيانه واستعباده للناس، وكان يقول لهم: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[24] } [سورة النازعات]. وكان موسى صلى الله عليه وسلم، يقول له: { وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[102] } [سورة الإسراء]. فلما أمره الله عز وجلّ بالانطلاق في بني إسرائيل، ولم يجد إلا البحر أمامه، وتردد من تردد ممن كان معه، وقالوا: { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61] } [سورة الشعراء]. قال بكل ثبات: { قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62] } [سورة الشعراء] . فأمره الله عز وجلّ بأن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفلق، فكان كل فوق كالطود العظيم.
ومن أخبار القادة المسلمين الذين كانوا يتحلون باليقين، وكان لهم عجائب، وغرائب بسبب ذلك: القائد المجاهد، الزاهد، أبو عبد الله مردنيش، قَاتَل الكفار من الرومان، واستطاع أن يُحرز غنائم هائلة، ثم بعد ذلك كان مع طائفة من أصحابه لا يزيدون عن ثلاثمائة، وهو قائد كبير، فأحاط به من الرومان أكثر من ألف، فلما نظر إليهم قال لأصحابه: ما ترون؟ قالواْ نترك الغنيمة، وننطلق فينشغلواْ بها عنا، فقال: ولكن القائل يقول: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...[65] } [سورة الأنفال] . ألم يقل القائل ذلك؟؟-وظنوا أنه لم يعرف من قال ذلك- فقال بعضهم: هذا قاله الله عز وجلّ! فقال: إذا كان الله قال ذلك، فكيف تقعدون عن لقائهم؟! فثبتواْ أمامهم، فهو يعرف القائل، ولكنه كان يريد أن يختبرهم، وقاتلوهم حتى هزموهم، وفروا من مواجهتهم .[نزهة الفضلاء 1545].(/17)
وانظر خبر شيخ الإسلام رحمه الله وهو خبر مشهور مع التتار: فإن التتار لما زحفوا من المشرق، أغاروا على بخارى، وسمرقند، وخراسان ثم قتلواْ في بغداد أكثر من مليوني إنسان من المسلمين، وما تركوا إلا أهل الذمة من اليهود والنصارى، وقتلوا في خراسان، وسمرقند، وبخارى، وغيرها من تلك الأمصار خلقاً عظيماً، بل ربما حصدوا جيشاً بكامله، وضعواْ لهم كميناً وعددهم يقارب السبعين ألفاً؛ فحصدوهم في مكان واحد، وكانواْ يدخلون البلد يُخرجون النساء على حِدَة، والأطفال على حِدة، والرجال على حِدَة، ثم بعد ذلك يقتلونهم واحداً بعد الآخر، ولما قدمواْ بغداد فعلوا فيها الأفاعيل مما يندي له الجبين، فلما زحفوا إلى الشام، أصاب الناس رعبٌ شديدٌ منهم حتى إنهم كانوا في بغداد يدخل الرجل منهم في سرداب، ويكون فيه زهاء مائة نفس، فيقتلهم واحداً بعد الآخر لا يمد إنسان منهم يده إليه! بل وربما جاء فارس منهم ووجد عشرات المسلمين وليس معه سيف ولا سلاح، فقال لهم: مكانكم حتى يذهب، ويأتي بالسيف، ولم يتحرك أحد منهم من مكانه! بل وربما وضع رأس رجل على حجر وليس معه شئ يقتله به، ثم ينطلق ويأتي بسكين وهذا الرجل لم يحرك رأسه من الحجر لشدة الخوف والهلع الذي أصاب الناس.
فلما زحف على أرض الشام، وقبل أن يصلها؛ فرّ منها الفقراء، وتهيأ التجار للفرار إلى أرض مصر، فكاتب شيخ الإسلام السلاطين في مصر، وحثهم على الجهاد، وحرّض أهل الشام، وحثهم على البقاء، وصَفَّ الصفوف، وعبأ الجيش أمام هؤلاء التتر، والناس أصابهم رعب شديد منهم، ولمّا رأى شيخ الإسلام حال الناس، وثقتهم بالله عز وجلّ؛ أقسم لهم أيماناً أنهم سينتصرون في هذه المعركة، فكان الرجل يقول له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون. وكان ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله أنهم انتصروا في هذه المعركة، فكان ذلك سبباً لانكسار التتر، فَهُزِمُوا بعدها في وقائع، ودخل طوائف الإسلام، فصاروا يجاهدون في سبيل الله عز وجلّ، وذهب شيخ الإسلام إلى كبيرهم، وأغلظ له القول، وتهدده، وتوعده، وزجره، ورماه بالكفر، وأنه على دين جده من الوثنين والكفار، ونهاه عن أموال المسلمين، وعن دمائهم، وتكلم له بكلام غريب، حتى إن الوفد من الفقهاء والقضاة الذين ذهبوا مع شيخ الإسلام كانوا يُشمِّرون ثيابهم لا يصيبهم دم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما كانواْ يشكون أن رأسه سيطير أمامهم؛ لأن هؤلاء التتر كان فيهم من البطش، والكبرياء، والصلف شئ لا يقادر قدره، فلما انصرفوا من عنده؛ قالوا لشيخ الإسلام: ماذا صنعت؟ كدت تذهب بنفوسنا معك، ثم قالوا والله لا نصحبك بعد اليوم، فذهبوا من طريق آخر، وذهب من طريق، فتعرض لهم بعض قطاع الطرق؛ فسرقوا كل ما معهم من متاع، وقد لبسوا أحسن الثياب، فسُرِقت، وسُرِقت دوابهم، حتى جُرِّدُواْ من ملابسهم، ورجعوا إلى البلد بهذه الحال.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فتبعه الأمراء من التتر، وكثير من الجنود، وما دخل البلد إلا ومعه موكب حافل من القادة والجند، يطلبون منه الدعاء، ويتبركون بدعائه رحمه الله، فانظر كيف صنع اليقين لشيخ الإسلام رحمه الله.
* الرابع عشر: مما يورث اليقين: أن صاحبه لا يعرف اليأس مهما طال ليل الظالمين ومهما امتد الظلام: فإن بعد الليل انفلاق الفجر ولا محالة، فالليل مهما طالت ساعاته ومهما اشتدت ظلمته فإنه يزول وينفلق عن بياض الصبح، فأهل اليقين لا يعرفون اليأس، وبالتالي فمهما وقع على الأمة من مصائب، وبلايا، ومحن ونكبات، وتسلط الأعداء؛ فإن أهل اليقين تختلف مواقفهم عن غيرهم من الناس، فمنَ ضَعُف يقينهم؛ يرضون بالأمر الواقع، ويدعون إلى التسليم، والاعتراف بالأمر الواقع بزعمهم، والانخدال للعدو، والاستسلام له.
وأما أهل اليقين: فيصبرون، ويثبتون، ويفعلون ما في وسعهم، وطاقتهم، والله عز وجلّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ثم بعد ذلك إذ أقدرهم الله عز وجلّ، ومكنهم من رقاب عدوهم؛ استعملوا معه ألوان العزائم التي أمرهم الله عز وجلّ بها، وشرعها لهم، فلسان حال الواحد منهم، وقد أخذ العدو بلده يقول:
يا درُ مجدُك لن يضيع فأّمّا خيرا ولا تَستَرسِلي بُكاء
فالحاقدون سَيُغْلَبُون وإن همُ حشدوا جُيوشَ البغي والإفناء
أم ألَّبوا قوماً على قوم ولم يَدَعُوا سبيل المين والإلهاء
فلتصبري الثبر الجميل فـ إنه تاج اليقين وحلية العظماء
فيصبرون، ويثبتون على مبادئهم، ولا يعرفون شيئاً اسمه الأمر الواقع، أو التسليم بالأمر الواقع، وهؤلاء هم الذين يغير الله على أيديهم وإن طال الزمان.
* الخامس عشر: مما يورثه اليقين: أن أعمال أهله الصالحة تكون راجحة في الموازين عند الله تبارك وتعالى: ولهذا جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال:' ولمثقال ذرة بر من صاحب تقوى، ويقين؛ أفضل، وأرجح، وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين'.(/18)
فصاحب اليقين إذا صلى ركعتين لله عز وجلّ؛ فهي تساوى الكثير مما يركعه غيره ممن قّلَّ يقينه، وإذا تصدق صاحب اليقين بريال واحد؛ فإنه يساوي الآلاف، أو يزيد عليها، من التي يتصدق بها ذلك الإنسان المهزوز، الذي قل يقينه واحتسابه.
والمقصود: أن اليقين يورث صاحبه أموراً جليلة عظيمة، ويؤثر في سلوكه فوائد جمة: فهو يزيد العبد المسلم قربة من الله عز وجلّ، وحبًّا، ورضاً بما قدره وقضاه، وهو لُبُّ الدين، ومقصده الأعظم، ويزيد صاحبه استكانة وخضوعاً لربه وخالقه جل جلاله، كما أنه يكسبه رفعة، وعزة، ويبعده عن مواطن الذل والضعة، وهو أيضا:ً باليقين يتبع النور، والحق المبين، ويسلك طريق السلامة المحققة، فلا يحيد عنها بضعف يقينه؛ رغبة أو رهبة، كما أنه يحمل صاحبه دائماً على الإخلاص والصدق، وتحري ذلك في كل أعماله، كما أنه أيضاً: يضبط العلاقة بين العبد وبين الرب، ويجعل العبد يلتزم الإخلاص، والصدق، والمراقبة، وفعل ما يليق، وترك ما لا يليق في تعامله مع ربه؛ لأنه يعلم أن ذلك يوصله إلى دار الأمان، ولا سبيل إلى الوصول إلا بسلوك هذه الطريق.. هذا ما يتعلق بالأمور التي يورثها اليقين.
عاشراً: الأمور التي تنافي اليقين: وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه، ولهذا قال بعض السلف:' حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ، وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شئ مما يكرهه الله جل جلاله' [روضة المحبين ص439].
وهكذا الشكوك، والريب، والأمور التي تجلب ذلك: بسماع الشبه، وسماع كلام المخذلين، والمثبطين الذين يثبطون عزائم المؤمنين، ويوهنونهم، ويحثونهم على القعود عن التزام صراط الله عز وجلّ المستقيم، فهؤلاء الذين قَلَّ يقينهم إذا استمع العبد منهم؛ فربما سببوا له شيئاً من ضعف اليقين، حين ذلك يورثه قلقاً، وانزعاجاً، واضطراباً، وهذا يخالف اليقين؛ لأن اليقين طمأنينة، وثبات واستقرار، كما قال ابن القيم رحمه الله:' الشك مبدأ الريب كما أن العلم مبدأ اليقين'[بدائع الفوائد 4/913].
الحادي عشر: أخبار السلف رضى الله عنهم في هذا الباب: وهي كثيرة، وقد ذكرت طائفة منها عند الكلام على بعض جزئيات هذا الموضوع، وأذكر شيئاً يسيراً ومن ذلك:
ما قاله عامر بن عبد القيس رحمه الله مبيناً الدرجة التي وصل إليها في هذا الباب يقول:' لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً'. عنى بلغ في اليقين غايته يقول: لو رأيت الجنة والنار ما ازددت يقيناً.
ويقول الآخر:' رأيت الجنة والنار حقيقة'. فقيل له: كيف رأيتها حقيقة؟ قال:' رأيتها بعينى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينه آثر عندي من رؤيتي لها بعيني؛ فإن بصري قد يطغى ويزيع بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم' . فهذا يعتبر ما أخبر عنه الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، آكد في نفسه، وأعظم ثقة من الأشياء التي شاهدها بأم عينه.
ومما يذكر في هذا الباب من أخبارهم: أن عالماً من العلماء المتقدمين ألف كتاباً في التفسير، فلم يجد سعة، ومالاً من أجل أن يستنسخ الكتاب، كانت هذه الكتب تستنسخ عند الورّاقين، ولربما كلفهم ذلك مبالغ إذا كان الكتاب كبيراً لا يستطيعون دفعها، فركب هذا العالم سفينة، وسار على النهر ليذهب إلى رجل من أهل الغنى والثراء؛ ليعرض عليه هذا الكتاب من أجل أن يتبرع لنسخه، فبينما هو بالسفينة إذ مرّ برجل يمشى على قدميه يريد الركوب، فطلب من صاحب السفينة أن يحمل هذا الرجل ويحسن إليه، فتوقفت فحملوا بها هذا الرجل فسأل الرجل العالم: من أنت؟ فأخبره باسمه، فقال: أنت العالم المفسر؟ قال: نعم، قال: وأين تريد؟ قال: أريد أن أذهب إلى فلان علّه أن يتبرع بنسخ هذا الكتاب، فقال هذا الرجل للعالم: وكيف فسرت قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5] } [سورة الفاتحة] ؟ فأخبره عمَّا قال وتفطن لمقصده! ثم قال لصاحب السفينة: ارجع بي إلى حيث حملتني، ورجع إلى بيته، وبقى فيه.
فلم يمتد نظره إلى المخلوق، فيتعلق قلبه به، ولو في هذا الأمر الذي يعم نفعه، وهو نسخ هذا الكتاب، وبعد مدة ليست بالبعيدة، وإذا برجل يطرق الباب، ومعه رسول فعرّفه بنفسه، وقال: إنه مرسل من قبل فلان الرجل الذي كان يريد أن يذهب إليه، وقال: إنه قد بلغه أنك قد كتبت كتاباً في التفسير، فهو يريد أن يطلع عليه، فبعث إليه بجزءٍ من أجزاء هذا الكتاب، فلما نظر إليه أمر أن يوزن له بالذهب، فَوُزِن فبعث به إلى هذا العالم. فانظر كيف يؤثر اليقين، وكيف كانت حالهم معه!(/19)
وهذا الإمام البخاري لما ابتُلى، وأوذي إيذاءً كثيراً -في القصة المعروفة- ماذا كان يُردد، ويقول؟ كان يردد ليلاً ونهاراً يقول: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160] } [سورة آل عمران].[نزهة الفضلاء 1019]. فلم يذهب إلى أحد المخلوقين، فيشكو له فلاناً، أو فلاناً، ويطلب النصرة منه، وإنما كان يردد هذه الآية، وكان إذا قيل له: يقولون عنك كذا، وكذا؛ لا يزيد أن يقرأ آية من القرآن: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173] } [سورة آل عمران]. يقولون: إنهم يكيدون لك كذا وكذا، فيقرأ: { ...وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ...[43] } [سورة فاطر]. في جميع جواباته على ما ينقل إليه من أقوال، وأفعال خصومه.
* اجتمع حذيفة المرعشي، وسليمان الخوّاص، ويوسف بن أسباط، وهم من الزهاد، فتذاكروا الفقر والغنى، وسليمان الخواص ساكت، فقال بعضهم: الغني من كان له بين يكنه . ما هو معنى الغني؟ ما ميزان الغني عندهم؟ الغني من كان له بين يكنه، وثوب يستره، وسداد عيش يكّفه عن فضول الدنيا، وقال الآخر: الغني من لم يحتج إلى الناس وسليمان ساكت، فقيل له: ما تقول أنت أبا أيوب؟ فبكى ثم قال: رأيت جوامع الغنى في التوكل، ورأيت جوامع الشر من القنوط، والغنيّ حق الغنى من أسكن الله قلبه من غناه يقيناً، ومن معرفته توكلاً، ومن عطاياه وقسمه رضاً، فذاك الغني حق الغنى، وإن أمسى طاوياً، وأصبح معوزاً، فبكى القوم جميعاً من كلامه.
* وهذه المرأة الصحابية من بنى عبد الدار من الأنصار رضى الله عنهم لما أُخبرت باستشهاد زوجها، وأخيها، وأبيها، ولم يبق لديها أحد، قالت: ماذا صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هو بخير، فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل . يعني: أنها سهلة يسيرة، فقدت زوجها، وأباها، وأخاها، وتقول ذلك في حرارة المصيبة.
* وأيضاً: من عجائب أخبارهم ما جاء عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله عز وجلّ من الجزاء والعوض.
* وهذه الخنساء، ومعروف خبرها: لما مات أخوها صخر، فكانت تبكى وترثيه، وتقول: ومن بكى حولاً كاملاً فقد اعتذر. وكانت تقول:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وقالت فيه شعرها المشهور المعروف، فلما دخلت في الإسلام، وقُتل أبناؤها الأربعة في وقعة واحدة، ماذا قالت؟ قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. فانظر كيف قلب اليقين حالها، فغيرها هذا التغيير!!
* وكذلك أم حارثة التي قُتل ابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: [ وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ] رواه البخاري . فسكتت، وما بكت، وما جزعت، وما تحرك لها ساكن. فما الذي يجعل الإنسان يفعل هذه الأمور، ويصبر هذا الصبر الذي كان عليه السلف الصالح رضى الله عنهم؟ هو قوة اليقين بالله .
ونحن حينما نطرح هذه الأشياء لا نطرح الأشياء الغريبة جدًّا التي تنبو عن السمع، فلا يصدقها أحد ممن قلَّ يقينه، فهذه أمور لا أُحدثكم بها، وكما قيل: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلى كان لبعضهم فتنة، وإنما أُحدث بأمور معقولة عند أهل اليقين، ونحن نشاهد في عصرنا هذا من أخبار أقوام قد كمل يقينهم، نشاهد عندهم أشياء عجيبة، وبعضهم يكون من العوام، ونشاهد أشياء عند بعض أهل العلم تدل على قلة اليقين، وقلة التوكل على الله عز وجلّ، والخوف على الأجل والرزق، وما أشبه ذلك، فإن لم نستطع أن نصل إلى المراتب العليا في هذا الباب؛ فلا أقل من أن هذه الموضوعات تحرك لنا شيئاً في النفوس.(/20)
موضوع الإخلاص، واليقين، والتوكل- وما سيأتي من الكلام عن الرضا، والصبر، وأشباه ذلك- أن نحرك القلوب وأن نعمل على رفعها. في كثير من الأحيان يتوهم الإنسان أنه قد بلغ الغاية والكمال، والناس لربما توهموا فيه خيراً كثيراً، وظنوا أنه من عباد الله المتقين الصالحين، ولربما كان لديه ضعف في الأعمال القلبية، فيحتاج الإنسان إلى أن يعرف حقيقة حاله قبل أن يُقبل على الله عز وجلّ، ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم، هذا ما يتعلق بموضوع اليقين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
من سلسلة:'أعمال القلوب' للشيخ/ خالد بن عثمان السبت(/21)
اليمين الدستوري
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/ نواقض الإيمان/الحكم بغير ما أنزل الله
التاريخ ... 11/6/1424هـ
السؤال
يا شيخ بارك الله فيك نحن طلبة علم ونسألك ما حكم رجل يجلس أمام حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، ويضع هذا الرجل المصحف بين يديه، والدستور (الذي يحكم بغير الشرع) أمامه ثم يقول العبارة التالية:
(أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن والأمير، وأن أحترم الدستور وقوانين الدولة وأذود عن حريات الشعب ومصالحه وأمواله، وأؤدي أعمالي بالأمانة والصدق ...)؟
وقد قال هذا القسم مختاراً من غير إكراه ولا جهل معتبر ولا تأويل سائغ، ويقول هذا القسم أمام الملأ : والسؤال هنا هل هذا المقسم مؤمن بالطاغوت كافراً بالله أم كافر بالطاغوت مؤمناً بالله، ظاهر؟ إذ لا شأن لنا بما يعتقده في قلبه، وما حكم من يرضى بهذا القسم ولم يقسم؟ وجزاك الله خيراً ونسأل الله أن ينفع بكم الأمة.
الجواب
إذا أريد الحكم الشرعي على حاكم معين لا يحكم بشرع الله فيجب أن يعلم حالة ذلك الحاكم من حيث الإيمان بشرع الله أو ضده، ولهذا لا تخلو حال الحاكم بغير ما أنزل الله من ثلاث حالات:
الأول: أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم حكم الله في هذه المسألة المعينة، ويرى أن حكم الله لا يصلح لهذا الزمان فهذا كافر كفراً أكبر ينقله عن ملة الإسلام.
الثانية: إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل وهو يعلم حكم، الله ويرى أن حكمه سبحانه وحكم غيره من القوانين البشرية سواء، وله أو لغيره أن يختار أي الحكمين فهو كافر كالذي قبله سواء بسواء.
الثالثة: إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل، وهو يعتقد أن حكم الله هو أصلح للعباد في دينهم ودنياهم، وإنما حكم بالقانون الوضعي لجهله بحكمه، أو لتأوله بأنه لا يخالف الشرع لشهوة شخصية ففعله هذا كبيرة من كبائر الذنوب، وهو معصية تقرب من الشرك ولكن لا يكفر بها، وهي عند أهل العلم، : كفر دون كفر، وهذا النوع الثالث عليه أكثر حكام المسلمين اليوم، ومعلوم في القواعد الشرعية المقررة: أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون بمجرد المخالفة ولكن بتحقق القصد إليها، فالمتأول في حقيقة الأمر مخطئ غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق وموافق لشرع الله قال تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ" [الأحزاب: من الآية5]، وهذا عام في كل خطأ وقد ثبت في صحيح مسلم أنه لما نزل قوله تعالى: "رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة: من الآية286]، قال الله: قد فعلت
وأيضاً إن هذا النوع من الحكام يغلب عليهم الجهل بالإسلام وأحكامه، وتعلق بقلوبهم الشبهة تلو الشبهة، فتراه إن دافع عن فعله المنكر دافع بشبهة أو شهوة، وحاله غير مكذّب لقول الله وليس مستحلاً لمخالفة أمره سبحانه فهذا وأمثاله إن أطلق عليه وصف الكفر مراعاة لظاهر النص في القرآن "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة: 44]، فلا تجرى عليه أحكام الكفار في الدنيا من عدم التوارث أو الصلاة عليه أو الدفن في مقابر المسلمين أو الدعاء له بعد الوفاة ونحوه، ولهذا لابد من التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، فالإمام أحمد وغيره من علماء السلف رحمهم الله لم يكفروا كل من دعا إلى القول بخلق القرآن، مع إطلاقهم أن القول بخلق القرآن كفر، ولهذا قال علماء السلف: إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، وقال ابن تيمية في رده على البكري ص: 260 (كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم : أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له)أ.هـ،(/1)
وبناء على هذا نقول شبهات هؤلاء الحكام في هذا العصر هي شبهات أولئك الأمراء والقضاة في السابق، والحجة الشرعية لا تقوم على المخالف عامة في الاعتقاد أو غيره، بمجرد بلوغه الدليل بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة جيداً بمعرفة لوازمها إثباتاً ونفياً، وأظهر دليل على هذا حكم الله في المنافقين بأن يعاملوا معاملة المسلمين في الدنيا، وإن كانوا في الآخرة من أهل الجحيم؛ كما أخبر الله "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا" [النساء:145]، ولقد حدثنا الله عن المنافقين الذين صرح الله بكفرهم في كتابه وقد عاملهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – معاملة المسلمين لقيامهم بشعائر الإسلام في الظاهر وإن أسروا خلافها؛ قال الله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ" [التوبة: 65-66]، فحكام المسلمين اليوم الذين يؤدون شعائر الإسلام الظاهرة، وفي نفس الوقت يحكمون القوانين الوضعية حكمهم حكم المنافقين في الدنيا، وهذا موافق لمذهب السلف بعدم تكفير المسلم المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
وسؤال السائل عن حكم المقسم بهذا القسم المنصوص في السؤال هل هذا المقسم مؤمن بالطاغوت كافر بالله أو هو كافر بالله مؤمن بالطاغوت؟ مبني على حكم ذلك الأمير الذي يحكم بالقانون الوضعي المخالف لشرع الله هل هو كافر كفراً أكبر أو كفرا أصغر أي كفر دون كفر كما يقول ابن عباس – رضي الله عنهما - ، ولهذا أطلت في الأول (الحاكم) لأنه أساس الثاني (مؤدي القسم)، والراضي بهذا الحكم الوضعي يأخذ حكم الحاكم، والمقسم تبعاً لذلك حسب التفصيل السابق، والناظر لصيغة السؤال يظهر منه أن السائل مستشرف ومتشوق للحكم بالكفر على هذا القسم ولكل من يقسم به، والأولى على هذا أن جملة في آخر السؤال هي: "ولا شأن لنا بما يعتقده قلبه" ثم ألفاظ القسم أكثرها صحيح لا شيء فيه مثل أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للوطن والأمير .. وأذود عن الشعب وأمواله وأؤدي أعمالي بالأمانة والصدق)، ولم يبق من ألفاظه المحتملة غير احترام الدستور وقوانين الدولة وحريات الشعب) فالدستور وقوانينه وحماية الحريات للشعب يحتمل أن تكون موافقة للشرع ويحتمل أن تكون مخالفة له، فإن كانت موافقة فالحمد لله وإن كانت غير موافقة فينظر هل قبول الحاكم (الأمير) لها وإلزام الناس بها عن معرفة لمخالفتها لشرع الله أم الأخذ بها وتبنيها نتيجة تأويل لديه أو شهوة عنده؟ إن كان الأمر هكذا فيقال أيضاً إن هذا الحكم ليس كفراً، ولا الحاكم به أو المقسم عليه طاغوتاً وإنما هو مخطئ متأول لم تبلغه الحجة عن فهم وبصيرة.
وأخيراً أحذركم من التسرع في إصدار الأحكام على الناس حكاماً أو محكومين تمسكاً بظواهر النصوص دون فقه وتدبر، فإن هذا فتنة للمتكلم والسامع "والفتنة أكبر من القتل" [البقرة: 217]كما قال الله سبحانه، وأوصيكم ونفسي بالتزام طريقة السلف في الحكم على المخالف، وكما في حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنه - في البخاري (4269)، ومسلم (96) لما أهوى بالسيف إلى مشرك ليقتله تلفظ المشرك بقول: "لا إله إلا الله" فقتله أسامة – رضي الله عنه - متأولاً بأنه لم يقل كلمة التوحيد إلا تعوذاً من السيف فقال له الرسول – صلى الله عليه وسلم - معاتباً: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فكيف يا أسامة بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجك عند الله"؟ ومثل هذا يقال بتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو يشهد كلمة التوحيد ويؤدي شعائر الإسلام الظاهرة فكيف بمن يكفره وهو يعلم أنه متأول أو جاهل بالحكم ولم يقم أحد بمناقشته وإقامة الحجة عليه؟! فكيف إذا جاءت كلمة التوحيد وشعائر الإسلام الظاهرة كلها تحاج لصاحبها عند الله يوم القيامة؟! وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
(( قلت : في هذا الجواب مغالطات كثيرة منها :
الإخلاص للوطن والأمير ولم يكن القسم أن يكون مخلصا لطاعة الله تعالى ولكل ما يؤدي لها ، فهذا فيه نوع من شرك العبادة ، وهو أمر محدث باطل فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ » أخرجه البخاري(/2)
والقسم كذلك على الدستور باطل وهو قسم بالطاغوت لأنه يعلم أن هذا الدستور ليس مستمدا من شرع الله تعالى ، والحاكم في هذه الحال لا يعفى من المسئولية بتاتا ، فهو ليس جاهلا ، فهو يحكم بالطاغوت حتما والحكم به كفر قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) [النساء/60-64] }
وليست المسألة حكمه في قضية فردية خاصة ، بل هذا حكم عام ، فالذي يبيح الربا ويعاقب عليه مثلا هو كافر مرتد بلا شك
ولا يعذر واحد من هؤلاء الحكام اليوم بالجهل بتاتا ، لأن وسائل العلم متوفرة لهم أكثر من عامة الناس ،ومن ثم نقول إن هذا القسم باطل باطل ، ولا يعول عليه ، بل الذي يقسم به يخشى عليه الكفر الأكبر والردة ))
وقياسه على الحكام السابقين فيه مغالطة مكشوفة ، فالحكام السابقون لم يسن أحدهم قانونا يخالف الإسلام ، ويأتي به من هنا وهناك ، ولما أتى التتار والمغول بقانون يشبه هذه القوانين الوضعية اليوم فقد حكم العلماء بكفرهم وردتهم ، مع أنهم كذلك كانوا يدعون الإسلام
--------------
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 1 / ص 4636)
رقم الفتوى 9430 من قال إن تحكيم القوانين الوضعية كفر .. ليس من الخوارج
تاريخ الفتوى : 12 جمادي الأولى 1422
السؤال
1- هناك بعض الشباب من المنتسبين إلى الدعوة السلفية يتهمون بعض إخوانهم بأنهم خوارج والسبب أنهم يقولون إن تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر مخرج من الملة وذ لك استنادا لفتوى صادرة عن اللجنة فما رد سماحتكم .
2- هل المجرح يعدل نفسه وهل هي قاعدة أم لا؟
3- هناك داعية بالجزائر -algerian- حذر من بعض الشباب بحكم أنهم خوارج والسبب هو دائما اعتبار تحكيم القوانين الوضعية كفرا مخرجا من الملة
وهؤلاء الشباب الذين يعتبرون إخوانهم أنهم خوارج يتهمون أعضاء اللجنة بأنهم تكفيريون خاصة بكر أبو زيد والشيخ ابن جبرين. والسلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن فرقة الخوارج إحدى الفرق الضالة المارقة عن الدين، والتي تتبنى جملة من الأصول الكلية المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، كتكفير مرتكب الكبيرة، والطعن في عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتكفيرهم، وإنكار رؤية الله تعالى في الآخرة، وإنكار حد الرجم، وغير ذلك من الضلالات والجهالات.
وكان أول خروجهم أنهم خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقاتلهم وأراح المسلمين من شر أكثرهم.
وكل من دان بمعتقد الخوارج في التكفير بالكبيرة، أو الخروج على الإمام العدل، فهو خارجي.
ولا يدخل في هذا من اعتبر تحكيم القوانين الوضعية كفراً أكبر يخرج عن الملة، فإن هذا القول مأخوذ عن جماعة من علماء الإسلام ممن عاصر هذه القوانين، وعرف ما فيها من الجرأة على الله وعلى كتابه ودينه، وما اشتملت عليه من تغيير الشرع، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وكان أول ما ابتليت به الأمة من هذه القوانين ما وضعه جينكزخان من الياسق، وهو كتاب مجموع من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، فصار في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الكتاب والسنة، واستمر التتار على الحكم به حتى بعد إسلامهم، وقد أفتى العلماء بأن التحاكم إلى الياسق كفر، ومنهم من حكى الإجماع على ذلك، كالإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه : البداية والنهاية.
وهكذا الحال بالنسبة للقوانين الوضعية المعاصرة، أفتى جماعة من علماء العصر بأن تحكيمها في الدماء والأموال كفر أكبر، ومن هؤلاء العلامة المحدث أحمد محمد شاكر، والعلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، إلى غير هؤلاء من المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح، والاستقامة على منهج أهل السنة والجماعة، كالشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ صالح الفوزان.
وعليه، فكيف يوصف هؤلاء ومن وافقهم بأنهم من الخوارج؟!
ولا شك أن جماعة من علماء العصر لا يرون أن مجرد تحكيم القوانين - دون استحلال لذلك، أو تفضيل لها على أحكام الشريعة - من الكفر الأكبر، فغاية الأمر أن يقال: إنها مسألة خلافية بين علماء العصر، لا أن يوصف أحد الفريقين بأنه يتبع مذهب الخوارج البدعي الباطل.(/3)
وأما اتهام المشايخ أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، بأنهم خوارج فهذا منكر عظيم، وجناية بالغة على العلم وأهله، فإن هؤلاء هم بقية السلف في هذا العصر، وعليهم وعلى أمثالهم المعول في بيان معتقد السلف ونصرته، وهم أحق الناس بالرجوع إليهم في هذه المسائل الكبيرة الخطيرة، ومن وقع في هؤلاء العلماء بالسلب، فإنه يخشى عليه، ويحذر من سوء عاقبته.
ولهذا، فلا بد من مناصحة هؤلاء الشباب وتحذيرهم من الوقوع في أهل العلم، وتوجيههم إلى أخذ العلم من هؤلاء العلماء الأثبات. ومن اشتهر عنه الطعن في هؤلاء العلماء، والحط عليهم، فلا تنبغي مجالسته ولا أخذ شيء عنه، بل يحذر منه وينفر حتى يعود إلى رشده، ويسلك جادة أمره، فيحفظ لهؤلاء العلماء مكانتهم، ويجزم بأنهم على المعتقد السلفي النقي، الذي هو وسط بين مذهب الخوارج، ومذهب المرجئة.
ونسأل الله أن يرد هؤلاء الشباب إلى الحق رداً جميلاً.
وأما تعديل الإنسان لنفسه ، فلا يقبل منه ، والمتقرر عند أهل العلم أن التعديل يثبت بالاستفاضة أو بتنصيص عدلين عليها ، وصصح جماعة أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد ( انظر تدريب الراوي للسيوطي).
وكيف يقدم العاقل على تزكية نفسه ، وقد قال الله تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ).
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
العقيدة وأثرها في بناء الجيل - (ج 1 / ص 69)
الفصل السادس
رفض الشريعة خروج من الملة
عبودية الإنسان لخالقه
{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
بينت آنفا خطورة قضية التحاكم في حياة البشرية، وتنسمنا بعض النفحات من الشذى الطيب ونحن نتفيا ظلال هذه الآية، وبينت قول ابن حزم بأن هذه الآية على عمومها، وبأنها نص لا يحتمل تأويلا ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا ، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
كذلك فإني رددت على قول بعض العلماء بأن المعني: لا يستكملون الإيمان، وجماع الأمر في هذه القضية: إنه ليس لأحد مع الله ورسوله قول، وكل كتب الأصول تفتتح أولى صفحاتها بإجماع الأصوليين والأئمة القائل: (أجمع المسلمون على أن الله هو الحاكم وحده"، وهذا الذي صرح به القرآن بأكثر من آية قطعية الدلالة، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فقد وردت هذه الآية بهذا اللفظ الذي يحصر ويقصر الحكم بيد الواحد القهار مرتين في سورة يوسف.
ويقول الشافعي : (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلملم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس) (1) .
_________
(1) مفتاح الجنة، الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص (42).
ولقد عاش ابن كثير -المفسر المؤرخ المحدث- أول محنة لمحاولة تنحية كتاب الله عن توجيه الأمة المسلمة لاستبداله بقانون جنكيز خان الذي أسماه ؛ الياس أو الياسق" -أي السياسات الملكية-، فأطلق كلمته صريحة مدوية قائلا: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا، وقدمها عليه؟! لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين) (1) .
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم كيف كانت عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، فقد « دخل عدي عليه صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية:
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } (التوبة: 31)
فقال: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى : إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم » (2) .
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (31 / 811-911) وكذلك انظر عمدة التفسير لأحمد شاكر (4 / 371).
(2) رواه الترمذي، انظر تفسير ابن كثير (2 / 171).
وعلى هذا فالتحاكم إلى كلام البشر عن رضى وطواعية هو خلع لربقة الإسلام من الأعناق، فكل من رضي بترك كلام الله وبتحكيم كلام غيره، أو تقديم كلام أي بشر على القرآن والسنة فلا حظ له في دين الإسلام، وهذا هو الكفر بعينه لا غبش فيه ولا لبس ولا خفاء.
فالله هو الحاكم، كتابه هو المهيمن، والناس ليس لهم أية وظيفة مع القرآن والسنة سوى التطبيق والتنفيذ، كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (1) . فالله هو الحاكم بكتابه في اختلافات الناس كما جاء في تفسير الجلالين، وأن سبب نزول الآية يؤيد ما نراه من أن من لم يحكم بدين الله أو لم يتحاكم إلى شريعة الله فليس مؤمنا ، ومن لم يرض بحكم الله ورسوله فليس بمسلم وإن كان يقيم الشعائر التعبدية.
_________
(1) انظر فتح الباري 9 / 323 وكذلك مفاتح الغيب للرازي (3 / 352).(/4)
يروي البخاري بإسناده عن عروة قال: « خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شريج (1) . من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجهه ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (2) . ثم أرسل الماء إلى جارك واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه (3) . الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }» .
وإذا كان الرجل من الأنصار فهو يقيم الشعائر ولو ظاهرا ، ومع ذلك فالآية نفت عنه الإيمان.
وفيما يلى نورد أقوال بعض المفسرين حول هذه القاعدة العظيمة -التحاكم إلى الله ورسوله-.
قال القاضي: (4) . يجب أن يكون التحاكم إلى الطاغوت كالكفر، وعدم الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر، ويدل عليه من وجوه:
_________
(1) مسيل الماء من الحرة إلى السهل. النهاية (2 / 654).
(2) قال السهيلي الجدر الحاجز يحبس الماء وجمعه جدور. المصباح المنير (721) وقال ابن الأثير في النهاية: هو هاهنا المسناة وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار وقيل هو الجدار. النهاية (1 / 642).
(3) أحفظه: أغضبه.
(4) القاضي هو أبو يعلى الحنبلي.
الأول: أنه تعالى قال: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ، فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله كما أن الكفر بالطاغوت إيمان الله.
الثاني: قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .. إلى قوله: { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث: قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم (1) .
وقال القاسمي : وقال بعض المفسرين: في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه والرضا بما شرعه، وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام".
_________
(1) انظر تفسير القاسمي (5 / 5531) وكذلك مفاتيح الغيب للرازي (3 / 352).
قال الحاكم : (وتدل على أنه من لم يرض بحكمه كفر، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر (1) .
لا قصاص فيه ولادية).
وها هنا فرع، وهو أن يقال: إذا تحاكم رجلان في أمر، فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة فإنه يكفر، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة (2) .
وعلى هذا فكل من رضي بالقوانين الأرضية وبالشرائع القانونية التي شرعوها بغير إذن من الله، بل هي مصادمة للنصوص القرآنية والنبوية، أقول: كل من رضي بها أو تحاكم إليها غير مكروه، أو تدخل في تقنينها أو إقرارها أو تنفيذها راضيا فهو ممن ينسحب عليهم حكم الآية، ويخرج بهذا العمل من دائرة الإيمان، سيما وأن البخاري يروي أنها نزلت في رجل من الأنصار، وهو قطعا يقيم الشعائر ويعلن إسلامه، ومع ذلك فقد كان القسم رهيبا وجازما في أن هذا الذي لا يتحاكم إلى شرع الله ورسوله ليس مؤمنا (3) .
_________
(1) تفسير القاسمي (5 / 5531).
(2) انظر تفسير القاسمي (5 / 5531).
(3) قد يقول قائل: لماذا لم يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري؟ فالجواب: إما أن يكون منافقا فيقبل ظاهره، أو جاهلا فيعذر بجهله.
ويقول سيد قطب عند هذه الآية: (وأخيرا يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم، إذ يقسم الله سبحانه بذاته العلية أنه لا يؤمن مؤمن حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلمفي أمره كله، ثم يمضي راضيا حكمه مسلما بقضائه، ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .(/5)
ومرة أخرى تجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه وتعالى بنفسه ويقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس، وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئا ، ولا يفقه من التعبير القرآني قليلا ولا كثيرا ، فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام، جاءت في صورة قسم مؤكد، مطلقة من كل قيد، وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيم شخصه، إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه، وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مكان بعد وفاته، وذلك قول أشد المرتدين ارتدادا على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وهو الذي قاتلهم علهيم قتال المرتدين، بل قاتلهم على ما دونه بكثير، وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله في حكم الزكاة، وعدم قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بعد الوفاة.
العقيدة وأثرها في بناء الجيل - (ج 1 / ص 82)
وبإمكاننا أن نقول: كل من رفض التحاكم إلى شريعة الله، أو فضل أي تشريع على تشريع الله، أو أشرك مع شرع الله شرائع أخرى من وضع البشر وأهوائهم، وكل من رضي أن يستبدل بشرع الله قانونا آخر فقد خرج من حوزة هذا الدين، وألقى ربقة الإسلام من عنقه، ورضي لنفسه أن يخرج من هذه الملة كافرا .
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-: (إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك .. إن هؤلاء لا يقرءون القرآن .. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين .. فليقرءوا القرآن كما أنزله الله وليأخذوا قول الله بجد: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } (1) .
وأجمل ما ننهي به هذا الفصل بكلمة للأستاذ أحمد شاكر إذ يقول عند آية: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } . ما يلي:
_________
(1) في ظلال القرآن ج- (8) ص (65).
(أفيجوز لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد -أعني التشريع الجديد-؟ أويجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا الدين واعتقاده والعمل به عالما أو جاهلا ؟ أويجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا الياسق العصري؟ إن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلانا أصليا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.
ان الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام -كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه وكل امرئ حسيب نفسه) (1) .
_________
(1) عمدة التفسير لأحمد شاكر (4 / 47).
العقيدة وأثرها في بناء الجيل - (ج 1 / ص 96)
3- لقد كان ابن عباس يعيش قضية الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويكفرون خيرة الصحابة، ولذلك لا بد من هذا القول الذي يرد على الخوارج بنظرتهم المتطرفة.
وعليه فلم يكن كلام الصحابة والتابعين في الأمر الذي يحياه المسلمون اليوم، من تغيير جذري في تشريعهم الإسلامي وإحلال آراء وأهواء الكفار مقامه دينا جديدا ، يحكم في الأعراض والأموال والدماء.
وأول صورة واضحة شخصت في المجتمع الإسلامي لإحلال قانون مقام دين الله كانت أثناء الغزو التتري، عندما أراد هولاكو أن يطبق الياسا (الياسق) مكان القرآن والسنة، وكان ابن كثير آنذاك يعيش المشكلة، عندها أفتى بها بقول فصل، فعند آية:
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة:50)
يقول ابن كثير (1) . (ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من أحكام شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير).
التأويل الثالث: الكفر بالجحود والاستحلال.
يرى هذا الفريق من العلماء الذين قالوا: إن في الآية إضمارا ، ويكون المعني: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.. قاله ابن عباس ومجاهد .
_________
(1) تفسير ابن كثير (2 / 76).
وقال ابن مسعود والحسن : (هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلا له) (1) .(/6)
قال ابن العربي (2) . (إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين).
وهذا الفريق يريد أن يقول: ما لم يصرح الذي يعطل شرع الله بكفره، ويقول أنه ترك الشرع جحودا وإنكارا فلا يكفر.
الرد:
1 - إن دعوى الإضمار تحتاج إلى دليل، فلا يجوز الانتقال من الظاهر إلى المؤول، ولا من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة ترجح هذا الانتقال، فالأصل أن يؤخذ النص على ظاهره حتى يأتي الدليل الذي ينقله.
2- أما ضرورة التصريح باللسان فليس ضروريا لتكفير صاحب العمل إذا كان العمل لا يحتمل إلا الكفر. فقد اتفق العلماء على تكفير من سجد إلى صنم دون سؤاله عما في قلبه، وكذلك اتقفوا على تكفير من ألقى المصحف في مكان قذر، فإحلال أديان البشر جملة وتفصيلا مقام دين الله عمل لا يحتمل إلا الكفر، ولا يحتاج :إلى سؤال صاحبه عما إذا كان يستحله أو لا يستحله.
_________
(1) 1 ،2 انظر تفسير القرطبي (ج- 6 / 091).
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2 / 526).
يقول الأستاذ حسن البنا في الأصول العشرين (1) . (لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض-برأي أو معصية- إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر) (2) .
فإقامة قانون نابليون -أو غيره- مقام دين الله، وجعله حكما فصلا في السياسة والاجتماع والأعراض والأموال والدماء عمل لا يحتمل تأويلا غير الكفر. ليست القضية اعترافا بشرع الله ثم بعد ذلك قد يخالف قاض في التطبيق لهوى أو رشوة أو قرابة، وإنما القضية إقصاء لدين الله نهائيا من واقع الحياة، والاعتراف بشرع جديد وفرضه بالحديد والنار على رقاب المسلمين بوجوب طاعته والإذعان له.
_________
(1) مجموعة الرسائل / رسالة التعاليم ص (11).
(2) مجموعة الرسائل الأستاذ البنا ص (11).
العقيدة وأثرها في بناء الجيل - (ج 1 / ص 106)
وبعد هذا نخلص إلى القول:
إن كل من رضي بالقوانين والأحكام التي تصطدم مع شريعة الله (لحظة واحدة) فإنه يخرج من الإسلام في هذه اللحظة، سواء كان هذا الراضي بالأديان الجديدة حاكما ، أو مقننا (مشرعا)، أو مستشارا ، أو قاضيا ، أو من عامة الناس.
أما غير هؤلاء الراضين فحكم الذين يعملون بهذه الأحكام الأرضية أو يتحاكمون إليها فنرجو الله أن يلهمنا بقول الحق والصواب، والذي استقرت عليه نفسي واطمأن إليه قلبي أن الناس أمام هذه الأديان الجديدة فئات:
1- الحاكم الذي يأمر باستبدال دين الله وإحلال قوانين الكفر مكانه يخرج من الملة بهذا العمل، لأنه يفضل ويؤثر ويقدم كلام البشر على كلام الله، ويرى أن قانون الكفر هذا أفضل للمجتمع من قانون الله، وهؤلاء يقول الله فيهم:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } (المائدة: 60)
فإيمانهم زعم وكذب وليس حقيقة، لأن حقيقة الإيمان تتنافى مع التحاكم إلى الطاغوت (أي كل قانون غير قانون الله)، الذي يجب الكفر به ونبذه ومحاربته.
2- المشرع (المقنن) المقنن الذي يصوغ قانونا يخالف دين الله إنما هو يصوغ دينا جديدا ، وبهذا يخرج من الإسلام بهذا العمل، بل يشارك الله في ألوهيته عندما يصوغ دينا وقانونا دستورا للناس بغير ما أنزل الله.
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى: 21)
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } (التوبة: 31)
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ربوبية الرهبان والأحبار بأنها تحريم الحلال وتحليل الحرام .. ففي حديث عدي بن حاتم ... « إنا لسنا نعبدهم، قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم » (1) .
3- المجلس التشريعي: الذي يشرع بغير ما أنزل الله قانونا يصادم الله في أمره يخرج من الإسلام . فلا يجوز لمسلم في المجلس أن يوافق على جزئية تخالف أمر الله، وإلا فإنه يخرج من الإسلام.
_________
(1) رواه أحمد والترمذي وحسنه، انظر كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ حسن ص (983)، وانظر عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (11 / 932).(/7)
4- القضاة: الذين ينفذون غير شرع الله هؤلاء لا يخرجون من الإسلام -والله أعلم-، ولكن عملهم حرام وباطل، وأجرتهم حرام وباطلة، لأنه راتب على عمل محرم، كمن يعمل مديرا لبنك ربوي، أو مسؤولا عن خمارة أو نادي قمار، أما إذا رضوا عن غير شرع الله فإنهم يكفرون، لأن الراضي بغير شرع الله يخرج من الملة مهما كان (1) .
5- المحامي: اختلف العلماء والمطلعون في العصر الحديث في حكم المحامى الذي يترافع أمام محاكم غير شرعية، قالت غالبيتهم: إن عمل المحامي جائز شرعا بشروط:
أ. أن يدرس القضية جيدا ويعتقد أنه يخلص حقا لموكله.
ب. أن لا يشترك في قضية حكمها في القانون يصادم الشرع، كالزنا والسرقة والربا والقتل.
ج- . أن ينسحب من القضية لمجرد ما تبين له أن موكله ليس صادقا .
وقال بعضهم: إن عمل المحامي حرام لأنه يترافع أمام الطاغوت، ويوقر الحكم بأحكام الكفر، ويبجل القضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وقد تدخل المبالغات والزيادات والتهويلات في مرافعاته، وهذا الذي تميل إليه النفس.
_________
(1) يقول أحمد شاكر: (إن ولاية القضاء في ظل هذا الياسق العصري -القانون- باطلة بطلانا أصليا لا تلحقها الإجازة ولا التصحيح ) عمدة التفسير (4 / 471).
6- عامة الناس الذين يتحاكمون: لو كان للناس خيار أن يتحاكموا إلى محكمة تحكم بالإسلام وأخرى تحكم بالكفر، فإن الفرد يأخذ حكم محكمته التي يتحاكم إليها، كما فعل الناس أيام هولاكو، عندما نصب قاضيين ومحكمتين في كل مكان ( محكمة الياسا: القانون التتري) (ومحكمة القرآن)، فكل من تحاكم إلى الياسا كانوا يكفرونه ويخرجونه من الملة.
قال ابن كثير (1) . (.. فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها على شرع الله، لا شك أن هذا يكفر بإجماع المسلمين). ولكن أحكام الطاغوت الآن مفروضة على الناس جميعا ، وتفصل في شؤون حياتهم كلها، ولا بد للناس كي يخلصوا حقوقهم من أن تهضم أن يرفعوا إلى الطاغوت قضاياهم، فالناس لهم حكم المضطر الذي يرفع عنه الإثم-والله أعلم-، وإن كان الأولى والأفضل أن يتركوا حقوقهم حتى لا يتحاكموا إلى الطاغوت، وهذا الذي مال إليه المودودي والبنا . -أعاذنا الله وعافانا من التحاكم إلى الطاغوت-، وفيأنا الله ظلال شريعته.
_________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (31 / 811-911).
ونختم كلامنا في هذا الموضوع بكلمة نفيسة لابن تيمية حول حكم الذي يتحاكمون إلى قوانين البادية والعشائر والطاغوت، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكم بخلاف ما أنزل الله فهم كفار) (1) .
وأجمل ما ننهي به هذا البحث كلمة رائعة لرجل خبر القانون الوضعي وعاشه وهو الشهيد عبد القادر عودة -رحمه الله-.
_________
(1) الإيمان للدكتور محمد نعيم نقلا عن كتاب منهاج السنة النبوية لابن تيمية. ومجموعة التوحيد ص (391).
والمسلم لا يعتبر مسلما حتى يحكم الإسلام في شؤونه وما يشجر بينه وبين غيره، طبقا لقوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
ومن لم يحكم بما أنزل الله، أو تحاكم إلى غير شريعته، فهو كافر ليس في قلبه ذرة من الإسلام وإن تسمى باسم مسلم، وانتسب إلى أبوين مسلمين، وادعى لنفسه الإسلام، ذلك حكم الله جل شأنه: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .
وإذا كان هذا حكم الإسلام الذي عطلته ولا تزال تعطله الحكومات في البلاد الإسلامية، فإن كل ذي عقل يستطيع أن يدرك بسهولة مدى حظ هذه الحكومات من الإسلام، وأن يقول غير متحرج أن هذه الحكومات تدعو المسلمين إلى الكفر وتحملهم عليه (1) .
_________
(1) الإسلام وأوضاعنا القانونية صفحة (17).
أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ج 1 / ص 45)
السؤال الثامن عشر :
ما حكم تنحية الشريعة الإسلامية واستبدالها بقوانين وضعية كالقانون الفرنسي والبريطاني وغيرها مع جعله قانونًا ينص فيه على أن قضايا النكاح والميراث بالشريعة الإسلامية ؟
الجواب :(/8)
هذه مسألة فيها كلام لأهل العلم وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن من بدَّل الشريعة بغيرها من القوانين فإن هذا من أنواع الكفر ومثَّل لذلك بالمغول الذين دخلوا بلاد الإسلام وجعلوا قانونًا مكونًا من عدة مصادر يسمى (الياسق) وذكر كفرهم وذكر هذا أيضًا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - فقد قال في أول رسالته (تحكيم القوانين) : (إن من الكفر المبين استبدال الشرع المبين بالقانون اللعين) فإذا بدَّل الشريعة من أولها إلى آخرها كان هذا كفرًا من أنواع الكفر والردة، وقال آخرون من أهل العلم : إنه لا بد أن يعتقد استحلاله ولا بد أن تقام عليه الحجة وذهب إلى هذا سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وقال : إنه لا بد أن تقوم عليه الحجة لأنه قد يكون جاهلًا بهذا الأمر وليس عنده علم ؛ فلا بد أن يبين له حتى تقوم عليه الحجة فإذا قامت عليه الحجة فإنه يحكم بكفره ، والمقصود أن هذه المسألة مسألة خطيرة وهذا إذا لم يكن لمن وضع القانون أعمال كفرية أخرى أما إذا كان تلبَّس بأنواع من الكفر الأخرى فهذا لا إشكال فيه ، لكن هذا مفروض في شخص لم يتلبَّس بشيء من أنواع الكفر ؛ فهل يكون هذا كفرًا أكبر بمجرد تبديله الدين كما ذكر هذا الحافظ ابن كثير والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمهما الله - وغيرهما من أهل العلم ، أو أنه لا بد من إقامة الحجة وبيان أن هذا الأمر كفر فإذا قامت عليه الحجة حكم بكفره .
الولاء والبراء - (ج 1 / ص 65)
ويوضح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الحالات التي إن فعلها الحاكم دخلت في الكفر المخرج من الملة وهي:
(1) إذا جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله. وهو معنى ما روى عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، وجحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم، إن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً فإنه كافر كفراً ينقل عن الملة (1) .
(2) إن لم يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم الله ورسوله حق، ولكنه اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس وما استجد لهم من حوادث نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال فهذا أيضاً لا ريب في كفره لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي زبالة الأذهان وحثالة الأفكار على حكم الحكيم الخبير. فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
(3) أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا
ص84
كالنوعين السابقين كافر كفراً ينقل عن الملة لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق
(4) من اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهو كالذي قبله.
(5) من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي، كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟! وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟! (2).
(6) ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم) يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به رغبة وإعراضاً عن حكم الله.
__________
(1) 111) تحكيم القوانين (ص5) .
(2) 112) المصدر السابق (ص7) .
(أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة: والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر وقوله أيضاً: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) فذلك مثل، أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً)(1).
وإن الذي جعلنا نسهب في ذكر شؤون الحاكمية وتفصيل أحوالها هو خطورتها وعظمها. فإن موالاة الحاكم بغير ما أنزل الله وإقرار تشريعه للناس من عند نفسه وتحليله وتحريمه ما لم يأذن به الله، مناقضة بأن الله هو الإله الذي تألهه القلوب بالحب والتعظيم والطاعة والانقياد، ومناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله فهو المطاع فيما أمر ونهى عنه وزجر ولو فهم الناس هذا لما بقي لطاغية في
ص85
الأرض حق الوجود والتشريع. وإقرار الكفر وتنحيه شرع الله المحكم.
الثاني: من الأمور التي يجب أن نتدبرها بروية - من نواقض الإسلام - مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:
{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { [سورة المائدة:51].(/9)
وهذا من أعظم النواقض التي وقع فيها سواد الناس اليوم في الأرض، وهم بعد ذلك يحسبون على الإسلام ويتسمون بأسماء إسلامية. فلقد صرنا في عصر يستحي فيه أن يقال للكافر: يا كافر!! بل زاد الأمر عتواً بنظرة الإعجاب والإكبار والتعظيم والمهابة لأعداء الله، وأصبحوا موضع القدوة والأسوة لضعاف الإيمان، ينظرون إلى أعداء الله نظرة انبهار ملؤها التمني أن يكونوا مثلهم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه.
__________
(1) 113) المصدر السابق (ص 8) .
مظاهرة أخذت صوراً شتى فمن الميل القلبي إلى انتحال مذاهبهم الإلحادية إلى مجاراتهم في تشريعاتهم، إلى كشف عورات المسلمين لهم، إلى كل صغير وكبير في حياتهم. وسيأتي تفصيل الحديث في هذا الأمر - إن شاء الله - في فصل صور الموالاة.
----------------
ومما قاله ابن كثير عن (الياسق) في تاريخه (البداية والنهاية), قال:[ ثم ذكر الجويني نتفا من (الياسا), من ذلك: أنه منه زنى قتل, محصنا كان أو غير محصن, وكذلك من لاط. قتل ومن تعمد الكذب قتل, ومن تجسس قتل , ومن بال في الماء الواقف قتل , ومن انغمس فيه قتل (...) وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء, وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه. من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ] اهـ.
قلت:
و(الياسا): هو دستور ومجموعة قوانين, وضعها جنكيز خان, (الملك التتري) لما اجتاح المشرق, ورأى تعدد الأديان والفلسفات, فوضع بمشاورة المشرعين عنده هذا الدستور, مما استحسنوه بعقولهم ومن وحي تجاربهم, وخلطوها بأحكام من الإسلام و النصرانية وأديانهم الوثنية.
وهو نفس الفعل الذي يقوم به اليوم حكام المسلمين بمساعدة مشرعيهم وبرلماناتهم, حيث بنوها أساسا على القوانين الفرنسية والإنجليزية, ذات الأصل الروماني, وخلطوا فيها شيئا من الشريعة الإسلامية, وما أملته عليهم أهواؤهم ! ثم كتبوا في أعلاها كما في بعض البلاد الإسلامية:(الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع والتقنيين!!) وفي بعض البلاد بخلوا حتى بهذه العبارة الشركية الكاذبة.
فإذا كان ابن كثير قد نقل إجماع المسلمين على كفر من حكم بالياسا أو سواه من جهالات البشر, فكيف بمن حكم بهذه الشرائع الوضعية في المسلمين وأجبرهم عليها بقوة وقهر السلاح!!
ويكفي لكل من أراد أن يطلع على حجم الكفر والفسق والظلم, وتبديل الشرائع, واتخاذ آيات الله هزوا, أن يطلع على نسخة من دستور بلاده, والقوانين المعمول بها في المحاكم, والمراسيم التشريعية التي تصدر عن حكومة بلاده كل يوم. وهذه هي الحالة في باكستان وكافة بلاد المسلمين. تماما كما أخبر صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الأمام أحمد:( لينقضن عرى الإسلام عروة فكلما انتقضت عروة عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ). فلا شك أن من حكّم هذه القوانين كافر يجب قتاله بإجماع المسلمين.
وفي قوله تعالى:? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ? (النساء:60) يقول ابن كثير رحمه الله :
[ هذا إنكار من الله عز وجل, على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين. وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ] ثم قال:[ فانها-أي الآية - ذامة لكل من عدلوا عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد هنا بالطاغوت. ولهذا قال (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت)] أي كما قال في نفس سورة النساء بعد بضع آيات في قوله تعالى [ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ]: [ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. كما ورد في الحديث:( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)]اهـ.
وفي قوله تعالى من سورة الأحزاب الآية 36 : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ? .(/10)
قال ابن كثير رحمه الله: [ فهذه الآية عامة في جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول (.....) ولهذا شَدد في خلاف ذلك فقال:[ ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ] وكقوله تعالى [ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] اهـ.
•…قال الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى: ? فلا وربك لا يؤمنون...? الآية السابقة: ( وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم, فهو خارج من ملة الإسلام, سواء رده من جهة الشك فيه, أو من جهة ترك القبول و الانقياد و الامتناع عن التسليم. وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة) أحكام القرآن ج2 ـ ص212.
•…وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ? إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ? النور 51 قال:[ فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن. وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا. فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض, وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص ونحوه ] اهـ. (الصارم المسلول, ص 38).
•…كذلك نقل شيخ الإسلام اتفاق الفقهاء فقال: (والإنسان متى حلل الحرام ـ المجمع عليه ـ أو حرم الحلال المجمع عليه ـ أو بدل الشرع ـ المجمع عليه ـ كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء) الفتاوى ج3 ص267.
•…وقال رحمه الله في الفتاوى ج35 ص406: (ومن حكم بما يخالف شرع الله ورسوله وهو يعلم ذلك فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله).
•…ويقول أيضا في منهاج السنة ج3 ص22: ( فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلا من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر).
•…وفي الفتاوى الكبرى ج4 ص515: (ومعلوم بالإضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر).
•…ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله : عند قوله تعالى: ? فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? (النساء: من الآية59) قال: [ وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس, من الدين كله، إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لا إلى أحد غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فمن أحال الرد إلى غيرهما, فقد ضاد أمر الله , ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله, فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله, ولهذا قال تعالى: ? إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر? وهذا مما ذكر آنفا, أنه شرط ينفي المشروط بانتفائه, فدل على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بيانا وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمة للمستمسكين بها, المتمثلين ما أمرت به] (الرسالة التبوكية).
•…وفي نفس هذه الآية قال ابن كثير رحمه الله:[ فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولم يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر] اهـ (تفسير ابن كثير).
•…ويقول ابن القيم رحمه الله: ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه.والطاغوت كل ما يتجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع, فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله). إعلام الموقعين ج1 ص5.
•…وقال رحمه الله في مدارج السالكين 1ص 337 : ( إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه حكم الله فهذا كفر أكبر).
•…يقول القاضي أبو يعلي في أصول الدين ص 271: ( ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح, أو من رسوله أو أجمع المسلمون على تحريمه, فهو كافر,كمن أباح شرب الخمر ومنع الصلاة والصيام والزكاة. وكذلك من اعتقد تحريم شئ حلله الله أباحه بالنص الصريح أو أباحه الله عز وجل. والوجه فيه أن في ذلك تكذيب لله تعالى ولرسوله في خبره, وتكذيب للمسلمين في خبرهم. ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ).(/11)
•…قال الإمام القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: ? وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ? (التوبة:12) قال: ( استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل من طعن في الدين إذ هو كافر, والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به, أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه ) ج8 ص82.
فانظروا اليوم في خطابات وتصريحات هؤلاء الرؤساء وأعوانهم, وما فيها من طعن بالدين واستخفاف بشعائره.
•…وقال رحمه الله : ( إن حكم بما عنده على من أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ) ج6 ص191.
•…وقال:( إن طلب غير حكم الله من حيث لم يرض به فهو كافر ) تفسير القرطبي.
ونكتفي بهذه الآثار. والشواهد كثيرة جدا, من أقوال الأئمة والعلماء ونصوص الكتاب والسنة.
وقد تكلم في هذه المسألة جمع من علماء المسلمين المعاصرين الذين عاشوا واقع كفر حكامنا في هذا العصر, وبينوا أن ما يصدر عنهم من تشريع وتبديل لشرع الله وحكم بغير ما أنزل الله هو كفر أكبر. وننقل ههنا طائفة من أقوالهم:
•…قال الشيخ محمود الآلوسي في تفسيره : ( لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع, ويقول هو أوفق بالحكمة, وأصلح للأمة, ويتميز غيظاً ويتعصب غضبا إذا قيل له في أمر الشرع فيه كذا . كما شهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها, ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصا للحق ) [ روح المعاني ج28ص 20].
•…وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله :( ومن لم يحكم بما أنزل الله معارضة للرسل وإبطالا لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كله مخرج من الملة ) أضواء البيان ج2ص104.
•…وقال في تعليقه على حديث عدي بن حاتم وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألم يحرموا عليكم ما أحل الله ويحلوا لكم ما حرم الله فتبعتموهم ؟ قال بلى, قال فتلك عبادتهم ). قال رحمه الله : (وهذا التفسير النبوي:أن كل من يتبع مشرعا بما أحل وحرم مخالفا لتشريع الله أنه عابد له, متخذه ربا,مشرك به كافر بالله. هو تفسير صحيح لا شك في صحته, واعلموا أيها الأخوان أن الإشراك بالله في حكمه, والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد ولا فرق بينهما البتة, فالذي يتبع نظاما غير نظام الله, وتشريعا غير تشريع الله, وقانونا مخالفا لشرع الله, من صنع البشر. معرضا عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن, لا فرق بينهم البتة بوجه من الوجوه فهما واحد كلاهما مشرك بالله هذا أشرك في عبادته وهذا أشرك في حكمه) أضواء البيان.
•…ويقول في نفس التفسير: (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله, أنه لا يشك في كفرهم إلا من طمس الله على بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم).
•…ويقول رحمه الله ( وأما النظام الوضعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض. كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف, و أنهما يلزم إستواؤهما فى الميراث,ودعوى أن تعدد الزوجات ظلم وأن الطلاق ظلم للمرأة , وأن الرجم والقطع ونحوهما,أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك, فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأنسابهم وعقودهم وأديانهم, كفر بخالق السموات والأرض ) أضواء البيان ج4ص84 .
•…قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله , وهو إمام محدث معاصر توفى سنة 1958, وكان قد عمل في مجال القضاء الشرعي في مصر ثم اعتزله, قال في تعليقه وتحقيقه لمسند الإمام أحمد عند الحديث رقم 7747: ( ومن حكم بغير ما أنزل الله عامدا عارفا فهو كافر. ومن رضي عن ذلك وأقره فهو كافر, سواء أحكم بما يسميه شريعة أهل الكتاب أم بما يسميه تشريعا وضعيا. فكله كفر وخروج من الملة, أعاذنا الله من ذلك).(/12)
•…ومما جاء عنه رحمه الله: ( أفيجوز مع هذا في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة, بل بتشريع تدخله الأراء والأهواء الباطلة.يغيرونه ويبلونه كما يشاؤون . ولا يبالي واضعه أوافق شرع الإسلام أم خالفه, إن المسلمين لم يبتلوا بهذا قط إلا في عهد التتار) إلى أن قال (ما أظن رجلا يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلا(...) ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول , بأن ولاية القضاء في هذه الحالة باطلة بطلانا أصليا لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد ينتسب لأهل الإسلام كائنا من كان في العمل بها أو إقرارها) عمدة التفاسير ج4ص171.
ومن الأدلة الناصعة في القرآن والسنة, على كفر من أعطى نفسه حق التشريع من التحليل والتحريم, وتبديل الشرائع والعدوان على حاكمية الله, وجعل نفسه بذلك ربا يعبد, ما أخبر به سبحانه عن كفر اليهود والنصارى, في قوله: ? اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? (التوبة:31) .
فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن طريق عدي ابن حاتم رضي الله عنه, كما نقل ذلك ابن كثير في تفسيره, أن عديا لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليسلم وكان نصرانيا, وجده يقرأ هذه الآية.فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يعبدوهم. فقال صلى الله عليه وسلم:( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم ).(/13)
اليمين واليسار وحديث الهجرة إلى الحبشة
الحلقة (18) الجمعة 5 ربيع الأول 1396 هـ 5 آذار 1970
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كان يمكن أن أؤجل هذا اللقاء لولا أن أخانا أبا محمود حفظه الله أنجز ما كان فيه من حديث عن الهجرة، ولولا الأصداء التي أثارتها آخر خطبة كانت لنا في هذا المكان لدى فريقين متباينين من الناس، كان هدفي من آخر حديث -وكان حديثاً على هامش الهجرة- أن أبين أن حادث الهجرة كان حادثاً طبيعياً جاء في سياقه الزمني، وفي مكانه من مراحل الدعوة دون اعتساف وبغير استعجال لخطوات الطريق فمن أجل ذلك كان مبارك الثمرات وكانت الهجرة نصراً مؤزراً للإسلام وفاتحة عهد جديد في تاريخ الإنسانية.
ولكن شعاب الكلام تأخذ الإنسان في مجاريها التي لا بد له من أن يتبعها -شاء أم أبى- ومن ذلك حديثنا عن تعليل الصبر الطويل الذي صبره ومحمد صلى الله عليه وآله وصبره المؤمنون معه في مكة المكرمة قبل الهجرة ولقد كان مما قلنا: إن هذا الصبر عنوان سلوك في الإسلام، هو سلوك عدم العنف في مواجهة المخالفين، وأحسب أنني طرقت هذه الفكرة قبل اليوم، طرقتها فيما أذكر حين كنت أخطب في -الجامع الوسط- قبل أن يكمل بناء هذا المسجد، وحينما كنت أتحدث عن المقدمات التي رأيتها ضرورية لتشكل مدخلاً لدراسة السيرة على ضوء مناهج علمية بعيدة عن التزمت وضيق الأفق كما هي بعيدة عن الغوغائية والارتجال فقد آن للمسلمين أن يعملوا عقولهم في كل شيء، وفي ضوء العقل عليهم أن يقرروا، وفي ضوء العقل عليهم أن ينفذوا، لهذا لم أجد سبباً يدعوني إلى إطالة الحديث حول هذه القضية، في خطبتنا الأخيرة ولكن الشيء المؤسف أنني فوجئت بتيارين أو بردود فعل إزاء الكلام الذي تحدثت به.
والشيء الذي أزعجني حقاً هو أن بعض الإخوة فهم من كلامي الذي يقرر رفض العنف والغلظة أن هذا أمر مرحلي هذا من بداية الكلام غلط فالواقع أن عدم العنف، في غير مدعاة إليه ولا ضرورة ملجئة؛ مسألة مبدئية في الإسلام، فالإسلام لا يريد أن يفني الناس لا يريد أن يقتل الناس لا يريد أن يميت الناس، الإسلام يريد أن يحيي الناس ولذلك فطالما وجد أي أمل في أن يستقيم الإنسان -أياً كان اتجاهه- فهو محل الرعاية الاهتمام والاحترام أما ما يدور اليوم في الساحة العالمية من ارتخاص لقيمة الإنسان وعدم اهتمام به فشيء غريب عن الإسلام إذاً فرفض العنف ليس مسألة مرحلية في الإسلام لكنه قضية مبدأ. هذه واحدة وهي واحدة ليست في الحساب الذي هو في الحساب أولاً الاستغراب الذي قابل به الكثير من الإخوة الذين يشاركوننا آراءنا واتجاهات؛ دعوتنا هذه إلى الحب والتسامح واللين والطيبة والمرحمة في مواجهة المخالفين هذا شيء في الواقع عجبت له، عجبت له لأن الله يقتص علينا في القرآن من وصف نبيه محمد صلوات الله عليه فيقول جل من قائل:
)فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر(.
الوصف الجوهري والرئيس لرسول الله صلى الله عليه وآله اللين، كرم الطباع، المرحمة، الشفقة، الطيبة التي لا تعرف حداً، كيف يغيب هذا عن بال الإخوة ومع ذلك فلقد وقفت أفكر طويلاً ثم عذرت الإخوة، عذرتهم لأننا نعيش في جو يشكل قوة ضاغطة على تفكير الإنسان وعلى سلوك الإنسان في الساحة المحلية وفي الساحة العربية.. في الساحة المحلية حيث انتزعت ودفعت إلى الخلف بعيداً كل معاني الإنسانية، وبقيت الناس تعيش على قوانين الغابة وأعراف الوحوش، بقيت الناس لا تسمع إلا أحاديث الدماء وإلا أحاديث القتل وإلا أحاديث الخطف وإلا أحاديث العنف الذي لا يريد أن ينتهي إلا أن يدمر هذه الحياة الدنيا كيف يمكن أن نطلب من المسلم أن يبقى بعيداً عن هذه التأثيرات لا بد له من أن يتأثر بها من هنا كان إخوتنا يستغربون دعوتنا إلى شيء يخالف المألوف في هذه الأيام فرأيت أن من واجبي أن أعالج المسألة علاجاً صحيحاً ونهائياً أن أقول في المسألة قولاً يقطع كل قول وقولاً موسعاً لا أحتاج بعد إلى أن أعيد الموضوع أبداً.(/1)
رأيت أن الله تعالى قال لنبيه في القرآن (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) ورأيته قال له (فاصفح الصفح الجميل)، وقال له: (واصبر صبراً جميلاً) فرأيت أن من الواجب قبل كل شيء أن نعرف ماذا تعني هذه الأوصاف التي وصف بها الصبر، ووصف بها الصفح ووصف بها الهجر، ماذا تعني بانطباعاتها الأولى في نفس الإنسان العربي الذي خوطب بالقرآن يوم كانت فطرته سليمة لم تمس ولم تلوث بهذه العجمة المستحكمة على العقول والأفئدة والقلوب، ما تعني دلالة اللغة حين يوصف الصبر بأنه جميل، وحين يوصف الهجر بأنه جميل، وحين يوصف الصفح بأنه جميل، ورأيت أن الواجب يستدعي أيضاً أن أعالج المسألة في ضوء آخر ما انتهى إليه الفكر الفلسفي المعاصر في موضوع الجمال وتأثيرات الجمال في المسالك البشرية وفي الاتجاهات العقلية للناس بل رأيت أن أعتمد حتى مناهج البراجماتية الذرائعية الوصولية؛ لأبين أن العنف لا يجدي حتى عند أنصار (الغاية تبرر الوسيلة) أينما كانت ورأيت أن أستخدم قوانين علم الاجتماع في أعلى أطواره وأحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني حتى الآن لأبين أن العنف طريق يوصل إلى تدمير المجتمعات الإنسانية ولا يوصل إلى إسعادها ولا إلى راحتها بتاتاً هذا من جهة.
من جهة ثانية ثمة فريق من الناس لا يشاركوننا آراءنا؛ تكلمت أنا أن العنف شيء مرفوض وأنه عدوى من عدوى الماركسية وقلت ما قلت وقال من قبل بعض الإخوة أنني أظلم اليسار العربي. واليسار العربي له سامعون عندي الآن يا إخوتي من أول الطريق يحسن بنا أن نتفاهم من بداية الأمر يجب أن يكون كل شيء واضحاً أنا لا أثق باليسار مفهوم لا أثق السيار رضي اليسار أم غضب هذا شيء لا يعنيني كما أنني من جهة أخرى لا أثق باليمين رضي اليمين أم غضب، أثق بشيء واحد بهذا الإسلام القضية عندي متعلقة بالإسلام فإذا مست اليسار فليغضب وإذا مست اليمين فليغضب أما اليمين فهم طلاب مصالح وطلاب مكاسب ونحن طلاب استقامة للحياة وطلاب آخرة فلا مجال للقاء بيننا على الإطلاق أفهم -لست غبياً- أفهم أن اليسار يتهمنا باليمينية هذا خطأ هذا خطأ، اليمين، ليس أرحم بنا من اليسار يجب أن يكون هذا مفهوماً، وقلت من بداية الطريق يجب أن نتفاهم لكن لماذا لا أثق باليسار. اليسار عندي يساران يسار متأثر بالماركسية فهذا عندي ليس محل نظر ولا محل وقوف لا يمكن أن أسمع الله تعالى يقول: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) ويأتي ماركس فيقول: (الله غير موجود فمن أصدق) أصدق الله أم أصدق ماركس؟ أسمع الله يقول: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا(. فيقول ماركس: (كذبت بل لتتصارعوا) فمن أصدق الله أم ماركس أسمع وأسمع وأجد مناقضة لا يمكن أن تحل بتاتاً بين المسلمين وبين اليساريين الماركسيين فكيف نتفق إلا إذا تخلينا عن الإسلام أما بالنسبة لنا فأحب للإخوة الماركسيين أن يعلموا بكل صراحة أننا لن نكون معهم ولن نهادنهم وسوف ندمرهم في الساحة التي نستطيع فيها؛ ذلك بأنه لا يمكن أن يتعايش الكفر والإيمان على صعيد واحد بتاتاً، أما اليسار الذي يدعو إلى العدل إلى العدل الاجتماعي فأحب أن أهمس في آذانهم كلمة بسيطة لولا انقلاب الزمان ولولا فوضى المفاهيم ولولا تزوير التاريخ وتزوير الواقع لكان اليسار العربي غير الماركسي آخر من يدخل معنا سوق المزايدة في العدل الاجتماعي، صح النوم بعد ألف أربعمائة عام من قيام محمد صلى الله عليه وسلم بكفالة العدل وكفالة القوت وكفالة الكرامة الإنسانية يأتي من يزايد علينا في قضايا العدل الاجتماعي هذا غريب بل هذه وقاحة، إذا كان اليسار العربي يؤمن القوت وأقيد – غير الماركسي- يؤمن القوت لقاء الحرية فالعدل الإسلامي يكفل لك المعيشة الكريمة دون أن يطلب منك أي شيء، ذلك بأنه يعلم أن معيشتك حق ومعنى كونها حقاً أنها لا تقتضي جزاءً ولا تطلب ثمناً.(/2)
في اليسار العربي غير الماركسي أنت مطالب بأن تصوت ومهازل التصويت التي تكون نتائجها دائماً تسعة وتسعين وخمسة وتسعين بالمائة مهازل لا تدخل في عقل. الإسلام لا يطلب هذا يعطيك قوتك ويعطيك بيتك ويعطيك كفالة معيشتك ولا يضغط على حريتك حتى حينما تكون مخالفاً له في الدين؛ اليهود النصارى المجوس عاشوا في المجتمع المسلم موفوري الكرامة موفوري القوت موفوري الحرية دون أن يضغط عليهم النظام الإسلامي بداعي أنه أمن لهم حاجاتهم الأساسية أبداً.. مرة أخرى صح النوم بعد ألف وأربعمائة عام يزايد علينا اليسار الغبي بهذا الشكل لا من أول الطريق يجب أن نتفاهم نحن المسلمين ندعو إلى طراز من الحياة لا يكون فيه الناس إمعات ولا تافهين ولا مستغفلين وإنما يكونون رجالاً يمشون على الأرض خطواتهم تدق ظهر الأرض قائلة: أنا هنا، لا يمشون مشي العبيد يمشون مشي الرجال الأحرار مشي الرجال الذين وجدوا ليخطوا للتاريخ اتجاهاً هم أرادوه لأن الله تبارك وتعالى أراده؛ أرادته الإرادة العامة التي صنعها الفرد العاقل المفكر المدرك المريد لم يردها زعيم ولم يردها متسلق ولم يردها متسلط وإنما أرادها الإنسان الذي شحنه الإسلام بمعنى الكرامة الإنسانية ومعنى العزة الإنسانية حتى جعلته يشعر أنه كون صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر كله -فهمتم يا إخواننا جميعاً- تفصيلات هذه الأمور ليست الآن تفصيلات هذه الأمور تأتي؛ عندي الآن مهمة أريد أن أنجزها تتعلق بموضوع الهجرة.. في الأسابيع القادمة إن شاء الله سوف أتدخل في تفصيلات مستفيضة بكل هذه الأشياء لأنني كما قلت أريد أن أنتهي بالمرة من كل هذه الأمور بعض الناس الذين كتبوا في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي من مسلمين ومن مستشرقين غير مسلمين يربطون بين حادث الهجرة إلى المدينة وبين حادث الهجرة إلى الحبشة، بعض المسلمين ومن خيار الذين كتبوا في القضايا الإسلامية ذهبوا إلى أن الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة كانتا تهدفان إلى تأمين موطئ قدم للإسلام أي إذا أمكن فلتستقر الدعوة في الحبشة ولتنطلق من الحبشة وهذا فهم مؤسف، المستشرقون بعامة يقولون إن حادث الهجرة إلى الحبشة كان حادثاً فاصلاً في تاريخ الدعوة الإسلامية لأن المسلمين اتصلوا أول اتصال لهم بالنصرانية في الحبشة فأفادوا منها وتأثروا بالنصرانية هل الأمر كذلك يجب علينا أن ندرس الأمور تاريخياً وبدقة وأن نعطي للحادث التاريخي حجمه فقط لا ننفخ فيه ولا نخلق من الحبة قبة.(/3)
سأبدأ بآخر الاحتمالين؛ بكلام المستشرقين هل صحيح أن الهجرة إلى الحبشة كانت من دواعي تأثر الإسلام بالنصرانية؟ بعبارة أدق هل كانت الحبشة النصرانية قادرة في تلك المرحلة على أن تعطي شيئاً للإسلام أو لغير الإسلام؟ بعبارة أدق: هل كانت النصرانية عموماً في الحبشة وغيرها قادرة على أن تعطي الإنسانية شيئاً؟ لا؛ كان عمر رضي الله عنه يُقَالُ له القبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية في الجاهلية والقبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية فيقول رضوان الله عليه بسخرية ذات معنى عميق يقول؛ إن العرب ما عرفوا من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير؛ وعمر رضي الله عنه كان يتحدث عن العرب ولا يجهل أن النصرانية عموماً بين العرب وغير العرب ما عرفت في تلك الأيام إلا شرب الخمر وأكل الخنزير والاعتداء على المحرمات، هذا واقع يشهد به تاريخ الحبشة في ذلك الزمان، كيف كانت الهجرة متى كانت هجرة الحبشة الأولى كانت في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة، بينها وبين الهجرة العامة ثماني سنوات هاجر أحد عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً وأربع نسوة فقط من المسلمين ووصلوا هناك، وظلوا شهرين عادوا بعدها فوجدوا أن الأمر قد شَرِيَ بين المشركين وبين رسول الله فانقلب من انقلب منهم من الطريق، راجعاً إلى الحبشة وهاجرت أرتال أخرى حتى بلغ الذين هاجروا في الهجرة الثانية أكثر من ثمانين رجلاً مع نسائهم ومع أولادهم ظلوا هناك، منهم من عاد بعدُ ومنهم من بقي إلى السنة السادسة أو السابعة للهجرة حتى عادوا في سفينتين من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكان يومها عليه الصلاة والسلام قد أتم فتح خيبر، عرفتم التاريخ السنة الخامسة من الهجرة، في السنة الخامسة من الهجرة ماذا كانت الحبشة بل قبل أن نجيب على هذا، نسأل لماذا هاجر هؤلاء الناس هل نستطيع أن نجد بين أيدينا وثيقة أدق وأصدق من تعليل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا.. حين اشتد البلاء في مكة على المسلمين ونال الأحرار والعبيد ونال الصغار والكبار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفف الضغط على المسلمين فأشار عليهم مجرد استشارة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم شرح لهم الأوضاع وما يلقون وما هو قائم وقال لهم: لو ذهبتم إلى أرض الحبشة.. لم يكن هنالك أمر كان هناك رأي لو ذهبتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً فما أنتم فيه، حتى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم، فيه إذا فالأمر مؤقت مجرد رغبة في تخفيف الضغط عن المسلمين لا أكثر ولا أقل لكن ما الذي ضخم المسألة في نفوس الذين كتبوا حول هذا الموضوع؟ ما رافق هذا الحادث وما تلاه.. في الحقيقة أن الفوج الأول الذي هاجر لم تسكت عليه قبائل مكة المشركة أرسلت وفودها إلى ملك الحبشة النجاشي تطلب إليه رد المهاجرين، وذهب الوفد وقام بسفارته بعد أن رشى البطارقة ورشى الرهبان فطلبوا منه أن يعيد إليهم هؤلاء الفارين، فأهلهم أعرف بهم وأعلم بهم عيناً لكن الملك الذي لم يُخَيِّبْ فِراسةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك العادل قال:
لا.. حتى أستدعيهم فأسمع منهم فاستدعاهم.
فكان حوار بينه وبين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه شرح له جعفر مبادئ الإسلام وما دعاهم إليه محمد عليه السلام، وشرح له عدوان قريش وشراسة المشركين وقال له:
من أجل هذا اخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قال له: اذهبوا.
رفض أن يسلمهم للسفراء المكيين لكن الوفد عاد في اليوم الثاني ليكيد مكيدة بغيضة؛ قال له أي للنجاشي:
إن المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً يقولون إنه ابن زنى فاستدعاهم مرة أخرى وسألهم ووقع على المسلمين فعلاً في تلك الأوقات بعد مضي ستة قرون على وفاة المسيح عليه السلام ورفعه وتطهيره من الذين كفروا..
قال جعفر: والله لا نقول إلا ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم.
سألهم عما يعتقدون في المسيح فقرؤوا عليه صدر سورة مريم وفيها:
)قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.(
قال النجاشي:
والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
وانصرف الوفد خائباً فاشلاً.(/4)
هنا نقطة مع الأسف تعلقت ببعض الأذهان ونسج حولها المستشرقون كلاماً مستطيلاً ومستعرضاً ووقع فيها من قبل علماء كبار من علماء المسلمين وأدخلوها هي قصة الغرانيق ملخص هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أنزلت سورة النجم تلاها على المشركين وبينما كان يتلو (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر ولهم الأنثى). ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيما ذكر، ذكر أصنام المشركين لما قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى قرأ بعدها (تلك الغرانقة العلا.. وإن شفاعتهن لترتجى) وسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسجد المشركون من أهل مكة جميعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم بخير، سمع المسلمون هذا الخبر، فظنوا أن الأمور عادت إلى طبيعتها من الوئام والسلام بينهم وبين المشركين فعاد من عاد ووجدوا الأمور خلاف ذلك مع الأسف قلت لكم هذه الحادثة مثبته في تفاسير محترمة في الطبري مثلاً وتفاسير أخرى كثيرة لكنها تقول إن الشيطان ألقاها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ويدللون بذلك على أن الله قال (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً).
وهذا عجيب.. بين هذه السورة وسورة الإسراء مراحل تتقطع دونها أعناق المطي كما يقولون هذه في وقت وهذه في وقت آخر، المسألة في تقديري ليست كما دخلت في أذهان بعض علماء المسلمين القدامى، ولا كما دخلت في أذهان المروجين لها من المستشرقين عن غرض مقصود لإيجاد الصلة أو الاستعداد للمساومة والتنازل من النبي صلى الله عليه وسلم لصالح الشرك والمشركين، لا.. المسالة خدعة من خدع السفارة القرشية لا شك أن السفارة التي ذهبت إلى النجاشي فعادت فاشلة أطلقت هذه الشائعة؛ حينما أطلقتها بلغت المسلمين هناك وظنوا أن الأمر حقيقة فعادوا فقبضوا على من قبضوا منهم.. يبقى علينا أن نسأل لماذا هذا الاهتمام من المشركين في إعادة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة لماذا؟ هل يعتبر حادثاً خارقاً للعادة أن تخرج من مكة أرتال وأعداد من الناس فلا تعود إليها بالمرة؟ لا، لكن بعض الناس ظن أن الأمر يتعلق بتمهيد لانتقال الدعوة إلى الحبشة وهذا كما قلنا خطأ والأمر الذي ينظر فيه أو الزاوية التي نظر المشركون منها إلى المسألة تتصل بالآتي؛ الرسول عليه الصلاة والسلام متى ولد؟ عام 570 للميلاد ماذا يصادف هذا العام يصادف عام الفيل ماذا يعني عام الفيل يعني هجوم أبرهة الحبشي على مكة لكي يهدم البيت الحرام ما هي معيشة القرشيين في مكة هي ما يدره عليهم مركز البيت في العرب لأن القرشيين كانوا يقيمون الأسواق والاحتفالات والمنتديات طيلة الأشهر الحرم الأربعة فيرتزقون بذلك ويعيشون من هذه الخيرات فتدمير البيت بالنسبة للعرب الجاهليين كارثة؛ لأنها تقضي على المورد الوحيد الذي يعيشون منه، تقضي على المبرر الوحيد الذي يجعلهم مرتبطين بهذا الوادي غير ذي الزرع، فالقرشيون المشركون معظمهم كان معاصراً لعام الفيل، وحديث الفيل وإنجاء الله تعالى للبيت ولمكة ما يزال حياً في الأذهان والله تبارك وتعالى استثار في المكيين هذه الذكرى إذ أنزل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم:
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول).
القرشيون ما نسوا بعدُ أن الحبشة فعلاً تشكل عليهم تهديداً يتصل بوجودهم بالذات فأرادوا باهتمامهم هذا أن يحولوا دون أن تنعقد روابط ربما تحرض حكام الحبشة على الهجوم مرة أخرى على مكة وتحطيم البيت وفي ذلك إنهاء لقريش وإنهاء لمكانة قريش هذا واحد. الشيء الثاني سؤال لا بد أن يخطر في البال النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الناس كما قلنا في السنة الخامسة من البعثة كان الذي نزل من القرآن قليلاً وكان الإسلام بعدُ غضاً طرياً في النفوس ألم يخطر في بال النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المسلمين الذين أرسلناهم إلى بلد نصراني يغاير دينه ديننا، وديننا لَمَّا يكتمل بعد إنزالاً ولما تترسخ بعدُ قواعده وهذه النفوس لم تنصهر بعد إلى الدرجة التي تعطيها المناعة الكافية التي تحول دون التأثيرات الضارة أليس في إرسالنا إياهم إلى الحبشة النصرانية مغامرة؟(/5)